الفصل الحادي عشر

المسئولية الاجتماعية للعلم

لاحَظ أحد العلماء المشتركين في مشروع أبوللو لغَزْو القمر أن «الإسهامات العلمية الحقيقية عادة ما يأتِي بها عقل فَرد مُتفرِّد، فرد يَجرفه كثيرًا مَنزع غير مُبالٍ لا يَعنِيه أن يذهب الجميع إلى الجحيم.١ هذا النمط من الأشخاص يَبتهِج بحل المَشاكل المُتحدِّية لكن يفوته أن يأخذ في الاعتبار عواقب الحل. هذا الانفصال بين التفكير والشعور، في تَطرُّفه، هو الذي أباح لعلماء النازية أن يجعلوا اليهود موضوعات للتجريب من أَجْل دراسة حدود الألم البشري. يُساهِم مِثل هذا التوجُّه في اغتراب البشر عن الطبيعة، واغتراب العلم عن المجتمع.

وفي مُقابِل تأكيد الذُّكورِيَّة على الانفصال والاستقلال، تَجدِل ترابطيةُ الأُنْثَويةِ الفردَ والجماعة معًا، الموقف والبيئة معًا، البحث وعواقبه معًا. وكما تباحثْنَا في الفصل الثالث، أظهرت دراسة كارول جيليان لارتقاء النساء الأخلاقي أن أخلاقيات العناية والمسئولية لدى النساء تبدو طبيعية أكثر من أخلاقيَّات التَّراتُب الهرمى المحكومة بالقواعد.

حين سأل إيان ميتروف علماء أبوللو عن دَور الأخلاقيات في العلم، وجَد أن من أجابوا قد انحصرَت تصوُّراتهم عن الأخلاقيات، إن أفسحوا لها المجال أصلًا، في حدود سرقة الأفكار والمُعْطَيات فقط لا غير. وقال عالِم جيولوجي: «المشاكل التي تَتعلَّق بالأخلاقيات نادرة للغاية، في مُعظَم تجاربي. لا أستطيع أن أتصوَّر حالة معيَّنة كانت المشاكل العلمية فيها لها أية علاقة بالأخلاقيات؛ لأن هذا العلم يتعامَل في الأعم الأغلب مع الجانب غير الحي من العالم النابض.»٢ وقال عالِم آخَر: «هذه [الأخلاقيات] تتعلَّق بالناس ولا ترتبط بالعلم إلا بأَوْهى الروابط. القِلَّة هي التي تَشتبِك بمفاهيم الأحكام الخُلقية النظرية أو العملية، أو تأخذ في اعتبارها المسائل التي يَتضمَّنها برنامج غزو القمر».

ثمة جانب في مبدأ الترابطية الأُنْثَوي وهو أن نُفكِّر تفكيرًا سياقيًّا، كل جزئية من جزئيات معرفة جديدة عن العالم نفكر في كيفية ترابطها بالكل، أن ننظر إلى العلم في سياق البقية الباقية من العالَم، هذا بدلًا من أن نَنغلِق داخل بُرج عاجِي من التجريد. وسوف نستكشف في هذا الفصل عددًا من التساؤلات. الإجابة عن سؤال ما، إلى أي مدًى نَفرِض على العالَم عبء المسئولية إزاء الاستخدام الاجتماعي للمعرفة؟ ماذا يمكن أن يحدث إذا رفض العلماء الاشتراك في مشروع قد يكون من الناحية الاجتماعية مشروعًا تدميريًّا من قبيل التسليح النووي أو البيولوجي؟ حب الطبيعة واحترامها، هل يدفعان الباحثين إلى التَّقصِّي عن سُبل أكثر إنسانية لمواصلة بحوثهم؟ متى يُصبح ثمن التجربة، ثمن هذه الجزئية الجديدة من البيانات، ثمنًا باهظًا؟

إبَّان تدريبي العلمي، لم أدرس أبدًا مقرَّرًا يتناول الأخلاقيات البيولوجية أو المسئوليات الاجتماعية للعلم. لم يُعطَ شيء من هذا القبيل. بل إني لا أتذكَّر مُجرَّد مناقشة لهذه المسائل لا في قاعات الدَّرس ولا بشكل غير رسمي. وتَقبَّلتُ الافتراض القائل إن كل المعارف ذات قيمة متساوية، وأن المعرفة في حد ذاتها لا هي خير ولا هي شر، إنها مجرَّد معلومات محايدة. وموكول إلى المجتمع أمر ما إذا كنا سنطبِّق هذه المعارف في أغراض بنَّاءة أو هدَّامة.

إلا أنني بدأتُ أطرح السؤال عن ثمن تلك المعارف، وذلك إبَّان شَغْلي وظيفة صَيفِيَّة.

كواحدة من الفَنِّيين في مُختبَر دوائيات. فحصتُ في عملي التفاعل بين عقاقير شَتى. كان عليَّ أن أقتل كل يوم خنزيرًا هنديًّا لكي أحصل على بوصة واحدة من أمعائه الدقيقة لأفحص العقاقير فيها. استبقيتُ خنزيري المفضَّل، «باتشيزا» المُبرْقَش بالأبيض والأسود، حتى آخَر يوم. وشعرتُ بالغثيان حين قَتلتُه. وحين جاء الوقتُ لأقوم بالبحث الخاص بي أنا، عرفتُ أنَّني لا أستطيع القيام بعمل ينطوي على مِثل هذا التَّبديد الكبير للحياة. تحاشيتُه حيثما أمكنَني هذا، استخدمتُ موادَّ مأخوذة من المَجازر، أو تعاونتُ مع باحِثين آخَرين ممن كانوا يُضحُّون بالحيوانات من أجل التجارب الخاصة بهم. وما زلتُ مُنزعجة بشأن الحيوانات التي قُتلَت قتلًا أهْوَج، أحيانًا بمُبرِّر واهٍ للغاية.

أعرف باحثِين آخَرين يَهبُّون للإطاحة بأي اقتراح يمكن أن يحد حريتهم في متابَعة مشكلة علمية أو نَشْر إحدى النتائج. وفي أعقاب النَّشر، يُعِدُّون العُدَّة لاقتناص النُّتْفة التالية من الأحبولة. ناموس النزاهة يَحصُرهم داخل النطاق الخاص بخبرتهم، ويقوم بتجزئة المسئولية إزاء المَعارف. تقول شريعة العلم إن «العلماء ذَوي النزاهة ينشغلون فقط بإنتاج مَعارف جديدة، وليس بعواقب استخدامها». مثلا، روبرت أوبنهايمر، وهو مدير مُختبَر لوس آلاموس العلمي إبان تطوير القنبلة الذَّرِّية، قد وضَع خطًّا فاصلًا بين العلم البَحْت والعلم التطبيقي:

العلماء غير مسئولين عن قوانين الطبيعة، لكن وظيفة العالِم هي أن يكتشف كيف تعمل هذه القوانين. وفي كل حالٍ ليس من وظيفة العالِم أن يُحدِّد ما إذا كانت القنبلة الهيدروجينية ينبغي أن تُستخْدَم. هذه المسئولية تقع على عاتق الشعب الأمريكي ومُمثِّليهم المُختارِين.٣

هذه الطريقة لتقسيم العلم إلى عِلم بَحْت مُقابِل العلم التطبيقي، أو علوم أساسية مُقابِل التكنولوجيا، تُتيح للعلماء التَّنصُّل من المسئولية عن عواقب بحوثهم. والقول إن المعرفة العلمية مُحايِدة يفتح الباب أمام التَّعقُّب المنطلق لما ينصرف إليه العقل.

قبل تفجير القنبلة الذرية الأولى، كانت العواقب طويلة المدى، عواقب الإشعاع على البشر وعلى البيئة، غير معروفة. في مَعْمَعان زمن الحرب، نجد الأسئلة العظمى من قَبيل «هل يمكن للتفاعلات النووية أن تُؤرِّج الغلاف الجوي لنموت جميعًا؟» قد نُحِّيَت جانبًا تحت وطأة الاندفاع لخَلْق سلاحٍ باتٍّ. وبعد هيروشيما، ناضَل أوبنهايمر لحل المشاكل الأخلاقية التي نَجمَت عن الكشف العلمي، وأمضى البقية الباقية من حياته يفكر في العلاقة بين العلم والمجتمَع. واعترف «بنوع من التعبير الفَظِّ الذي لا يمحوه أبدًا أي ابتذال أو أية دُعابة أو مبالَغة، نقول إن الفيزيائيين قد عَرَفوا معنى الخطيئة، وهذه مَعرِفة لن يفقدوها أبدًا» وبينما أحَس مُعظَم العلماء في لوس آلاموس أنهم لم يفعلوا أكثر من القيام بوظيفة ضرورية للمساعَدة في كَسْب الحرب، اتَّفق الفيزيائي فريمان ديسون F. Dyson مع أوبنهايمر.
لا تقع خطيئة فيزيائِيِّي لوس آلاموس في أنهم صَنَعوا سلاحًا فتَّاكًا. كان من الممكن أخلاقيًّا تبرير صُنعهم القنبلة بينما تخوض بلادهم حربًا فاصلة مع ألمانيا هتلر. بيد أنهم لم يصنعوا القنبلة فحسب. لقد استمتعوا بصنعها. كانت أروع أوقات حياتهم وهم يصنعونها. وأعتقد أن هذا هو ما كان في ذهن أوبنهايمر حين قال إنهم وَقَعوا في الخطيئة. وكان على صواب … فقد كانت لوس آلاموس بالنِّسْبة لهم ملهاة كبرى.٤
فيما بين عامي ١٩٤٧ و١٩٥٢م عَمِل أوبنهايمر رئيس اللجنة الاستشارية العامة بهيئة الطاقة الذرية، التي عارضَت في العام ١٩٤٩م تطوير القنبلة الهيدروجينية. وفي إحياء الذكرى السَّنَوية العاشرة لوفاة أينشتين، قال أوبنهايمر، «فيما يتصل بخيبة أمل أَينشتَيِن بشأن الأسلحة والحروب، قال في أواخِر حياته إنه إذا قُدِّر له أن يعيش حياته من جديد لكان سيُصبح سَبَّاكًا». لقد صُدم أَينشتَيِن بتطبيقات نظرياته البديعة، فقال لأصدقائه إن العلماء كانوا طيورًا في أقفاص لها نظام يُشجِّعها على وضْع البيض، بينما يصبح تصريف شئون البيض امتيازًا مقصورًا على أهل السُّلْطة.٥ قال، «نحن العلماء الذين يُطلِقون هذه القوة الجبارة، علينا مَسئولية جسيمة في عالَم صراع الحياة والموت هذا.»٦ ولحق بأينشتين فيزيائيون آخرون صَدمَتهم عواقب أعمالهم، وشَكَّلوا اللجنة الطارئة لعلماء الذَّرَّة ليناصروا إيجاد سُبل أخرى لحسم النزاعات بدلًا من أسلحة الحرب.
وثَمَّة مثال دراماتيكي آخَر للأفراد الذين رفضوا الإسهام في الأهداف الحربية؛ ألا وهو إيرين وفردريك جوليو كوري٧ اللذان نالَا معًا جائزة نوبل العام ١٩٣٥م لتخليقهما عناصر مُشعَّة جديدة. وإذ اقترب الخطر النازي من فرنسا العام ١٩٣٩م، توقَّف جوليو وكوري عن النَّشر. وبدلًا من أن يَكشِفَا عن مُخطَّطاتهما لتشييد مفاعل نووي حين كان يمكن أن تُستَخْدم القوى المنطلقة من المُفاعل في تطبيقات عسكرية فورية، وضَعَا مخططاتهما في مَظروف مُغلَق وأوْدَعاه الأكاديمية الفرنسية للعلوم بِشَكل سِرِّي، وتَكرَّسَا إبَّان الاحتلال النازي لحماية العلماء الفَرنْسِيِّين المُعرَّضِين للخطر. ظلَّت مخططاتهما مَخبوءة لمدة عشر سنوات. وفيما بَعدُ أصبحتْ وسيلة من وسائل تَشييد أول مفاعل نووي فرنسي.٨

لقد قام علماء فُرادى بتطوير تلك الأسلحة المُرعِبة مُتَّخذِين في هذا قرارات فردية. وغالبًا ما استدْرَجَهم إلى ذلك مشكلات عقلية وذرائع من قبيل حماية الوطن. العديد منهم دُفِعوا دفعًا إلى العمل في مشروعات أَغْدقَت الميزانية العسكرية في تمويلها، بينما ظلَّت مشروعات أخرى من قبيل تطوير مَصادر الطاقة الخالية من التلوث تَستجدي تمويلًا. أَجْل العلماء بمنأى عن المَدنيين من الرجال والنساء والأطفال الذين يَموتون «كضَرر فرعي» ناتِج عن أبحاثهم، إلا أن العلماء على الرغم من هذا يَقفون كحلقة في السِّلسلة المُؤدِّية إلى ذاك الضرر. يُمكن فَصْم هذه السلسلة حين يُقرِّر العلماء كأفراد عَدَم المُشارَكة. إن العالِمة المتخصِّصة في فيزياء الجوامد سارة صُولا التي تعمل في مُختبَرات بل واحدة من الذين يرفضون:

لا أقوم بعمل عسكري. وأحْسَب أنه لا ينبغي القيام به، وأعتقد أنه لن يُنجَز إذا رفض كل شخص القيام به. الأمر يُشبِه تلك الأمور التي تقصدها حين تقول: «حسنًا، ما هو الفارق؟ إذا لم أفعل أنا هذا سيقوم شخص آخر بأدائه» وهذا صحيح لكن يصح أيضًا أنه إذا رفض كل شخص آخَر القيام به فإنه لن يُنجَز. لذا أعتقد أن المرء ينبغي أن يَثبُت على هذا المبدأ، إنه أمر عسير جدًّا لأنك تستطيع في بعض الأحيان تطوير شيء ما يبدو لك مسالمًا للغاية، ثم يدخل في خاتمة المطاف لتطبيق لم تَتنبَّأ أنتَ به، وهذا يخرج عن سيطرتك. لذا أعتقد أن العلماء يجب أن يَتفهَّموا أن عليهم مسئولية خُلُقية بإزاء هذه الأشياء من حيث هم علماء ومن حيث هم مواطنون، من حيث هم أعضاء في المجتمَع. لا يخرج هذا عن دورك كعالم إلا قليلًا، عن التزامك بالشأن السياسي ومحاولة السيطرة على الأشياء التي ينبغي أن يحاول الناس السيطرة عليها. إنه تساؤل معقَّد وأحسب أن أول ما ينبغي أن يفعله المرء هو أن يكون يقظًا منتبهًا. أن يكون واعيًا بهذه المشكلة ويُصوِّب انتباهه إليها، ويطرح على نفسه الأسئلة بشأن العمل الذي يقوم به في كل خطوة من طريقه. وأحسب أن براعة العامِلِين في مشروع مانهاتن مثلًا لا ينبغي أن تستبد بالمَرء، ليتصور أن كل ما نفعله يمكننا السيطرة عليه. وإذ نسترجع هذا نجده أسلوبًا للتفكير في الأمر ساذجًا إلى درجة لا يُصدِّقها العقل وأحسب أن المرء ينبغي أن يتعلم من هذا وألا يكون من السذاجة بحيث يتصرف بعد أن يكون الوقت قد فات.٩

لقد ناضلتُ، مِثلي مثل صولا وآخَرِين كُثر من أبناء جيلي، ناضلتُ لإصلاح ذات البَيْن، بين حُبِّي للطبيعة وشَغفي بالعالَم ورغبتي في الإسهام، وبين القوة والمسئولية اللتين تجلبهما المعرفة. درجت على الاعتقاد بأن العلم والتكنولوجيا يزوداننا بوسيلة لحل كل مشكلاتنا. وبعد كل شيء، يستطيع العلم الذي وضَع الإنسان على القمر أن يفعل أي شيء، إذا ما أُعْطِي الوقت الكافي والتمويل الكافي. كل ما نحتاج إليه هو المزيد من المعرفة.

تلك المعرفة تَهبُنا القوة، قوة الربط بين شعوب العالَم من خلال وسائل الاتصال الفوري، قوة تطوير الأسلحة التي تُجبِر أقطارًا مثل اليابان والصين على الانفتاح على الغرب رغمًا عن إرادتها، قوة إعادة زراعة الأرض بالمحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا، قوة جَلْب الموسيقى الشافية إلى قلب المنزل، قوة إبادة مدينة مثل هيروشيما، وتسميم الأرض حول تشيرنوبل، قوة تحرير النَّفْس الإنسانية من كَدَح العمل الشاق الذي يقتل الروح. ما هو الدَّور الذي يفترض أن يقوم به العالِم الفرد في إطلاق وتطويع هذه القوة؟ وهل يستطيع فرد واحد أن يُغيِّر من الأمر شيئًا؟

إن تصريف شئون القوة واحد من أكبر التَّحدِّيات المُثيرة للجدل التي تُواجِه الجنس البشري. المَثل العتيق «القوة مفسدة» مَدعاة للحذر، إلا أنه ربَّما يدفع الناس إلى التَّنكُّر للقوة والتبرُّؤ من مسئولية تصريف شئونها. الكثيرون تَوارَوا خلف راية «العلم البحت» العلم من أَجْل العلم، العلم من أَجْل حب المعرفة، العلم من أَجْل متعة الاكتشاف. إلا أن العلم والتكنولوجيا متداخلان تداخلًا حميمًا. تُؤدِّي أشكال التقدم التكنولوجي؛ مثل: المَجاهر، والمَقارب الإلكترونية، أو الحاسبات الآلية إلى مزيد من التقدُّم في العلم البَحت، وتقوم هي ذاتها على أساس الفيزياء النظرية، وعلوم المادَّة، ونظرية المعلومات.

مثلما بدأتُ أسأل نفسي في حياتي الخاصة ما الذي يكفي؟ ورُحتُ أبحث أمر أهدافي الخاصة، رُحتُ بالمثل تمامًا أبحث أمر الأهداف والافتراضات الكامنة خلْف مهنتي. هل نَصل طُرًّا إلى نقطة المعرفة الكافية؟ القوة الكافية؟ تُساعدُنا الأُنْثَوية على الاضطلاع بأمر هذه التساؤلات اضطلاعًا ينأى عن التجريد ويطرحها في سياق المواقف الفعلية. ويمكن أن يَهبنا الحدس ومِيضًا بالمستقبَل، وتوطئة للعواقب المُحتمَلة لمعرفة جديدة. وحينئذٍ يَعوزنا الارتكان على وظيفة الشعور لدينا لكي نجيب على تلك التساؤلات التي تدور حول القيم والأولوية.

بعض العلماء يَتخذون كذلك خطوات أبعد ويطرحون تساؤلات جَذْرية حول قيمة العلم، وعواقب التَّقدُّم، وكيف يمكن أن يساهم عملهم في المجتمع وفي الاقتصاد العالمي.

اتخاذ مَوقف

أَجَل باغتَت القنبلة الذَّرِّية الفيزيائيين ودفَعتْهم إلى التفكير في دورهم في البحوث الحربية، غير أن وطأة بحوث أخرى في العلوم الأساسية قد لا تكون بمثل هذا الوضوح. يقوم علماء النَّبات بالتجارب لكي يتعلَّموا شيئًا عن طبيعة النباتات؛ لأنهم شغوفون بالعالَم. إنهم يُنتِجون نباتات أفضل ومحاصيل أكبر. تُخبرُنا الحكمة المُتعارَف عليها أن مزيدًا من البحث في بيولوجيا النبات سوف يحل مشكلات التَّلوُّث والغلاف الجوي، ويوفر الطعام لتزايُد السكان في العالَم. على أية حال، ثُلَّة من العلماء هي التي شرعت الآن في مُساءلة هذا الافتراض السائد في العلم القائل إننا كلما عرفنا أكثر، صِرْنا أقدَر على التحكم في بيئتنا.

تعمل مارتي كروش M. Crouch أستاذ البيولوجيا في جامعة إنديانا، وتَصِف نفسها بأنها «وُلِدت عالِمة نبات». هي ابنة رجل يعمل في الزُّهور وحفيدة فلَّاح يزرع تُوت العُلِّيق، ويَصطاد فُطْر عيش الغراب، فَرَعتْ ونَمت عِشقًا مبكرًا للنبات. وإبَّان الصف الدراسي الثاني صادقت امرأة أمريكية من الهنود كانت تَصطَحِبها في جولات بالغابة، وعلَّمَتها تمييز والْتِهام النباتات البَرِّية. وفي فترة مُراهَقتها عَمِلتْ في مركز الطبيعة النباتية وقابلَت لفيفًا من علماء النبات المُدهِشين الذين «يزحفون على أيديهم ورُكَبهم في البراري، ويَنبهرون حين يَجدون نباتَ أوركيد صغيرًا لونُه أحمر قانٍ».١٠ تأدَّى بها عِشقها للطبيعة إلى أن تصبح هي نفسها عالِمة نبات. كان الأمر رائعًا حتى إنها وجَدَت سدًّا لنفقات عشقها.

حَظِيتْ كروش على مدار الأعوام بتقدير كبير لدراساتها لنمو أجِنَّة ولقاح النباتات. وفيما بين العامين ١٩٨٠ و١٩٩٠م كتبَتْ أو شاركتْ في كتابة اثنين وعشرين مقالًا، وتَلقَّت ما يقرب من مليون دولار كمِنحة للأبحاث، وتقلَّدَت منصبًا في جامعة إنديانا. وحين بلغت الثامنة والثلاثين من عمرها في العام ١٩٩٠م، أنهتْ مشروعًا استغرق ثلاث سنوات حول نمو أجنة بذور اللفت. قامت المؤسَّسة القومية للعلوم بتمويله بمنحة قدرها ٣٢٠ ألف دولار.

بعد أن تَقلَّدت كروش منصبها في قسم البيولوجيا، اتَّخذَت خطوة أبعد من مُجرَّد الاضطلاع بالعبء الماثل لإثبات ذاتها في مجالها، بدأتْ تفكر بشأن عَمَلها في علوم النبات الأساسية وموقِعه الملائم في الصورة الأرحب، صورة الزراعة والبيئة. لقد تعجَّبتْ لماذا تُموِّل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية دراستها للنباتات. هل من أجْل إطعام الأطفال الجَوعى؟ لقد جعَلها تَدبُّرها للأمر تَتشكَّك في هذا. قادَها فحصُها للثورة الخضراء إلى استنتاج مفاده أن تنمية النباتات التي تُعطي محاصيل عالية لم يَنجُم عنها تقليص للجوع في العالَم. أَجْل تزايَد الإنتاج الزراعي الكلي، غير أن المستفيدين أساسًا من هذا هم هؤلاء الذين يستطيعون سد النَّفقات العالية للأسمدة، والمبيدات الحشرية، ومبيدات الأعشاب الضارة، والري. إن اتِّساع مساحة الأراضي المنزرعة من أَجْل التصدير قد دفع الفلَّاحين الفقراء إلى الانتقال إلى المدن أو مُحاولة توسيع نطاق الحياة في الأراضي الهامشية التي تُلامِس غالبًا حدود الغابات، أو تتداخل معها فيعملون على إزالة الحياة البَرِّية، وتهجير السكان الأهليين؛ لكي يَكفُلوا البقاء لأنفسهم.

بدلًا من هؤلاء، وجدتْ كروش أن أعلى مكاسب الثورة الخضراء من نصيب شركات النفط، والشركات متعدِّدة الجنسيات التي تُوفِّر الآلات، والبذور، والأسمدة، ومبيدات الحشائش الضارة، ومبيدات الحشرات. يربح أيضًا رجال البنوك الذين يُموِّلون شَقَّ الطُّرق، وإقامة السدود، وعمليات الزراعة؛ ليَتركوا البلدان النامية تنوء من عبء الديون. خلصتْ كروش إلى أن تطبيقات عملها من الأرجح أن تُفيد الشركات مُتعدِّدة الجنسيات أكثر من أن تُفيد الكتل العريضة من الفقراء والجَوعى. وفضلًا عن هذا، يُدعِّم عملها الأنظمة التي تُساهم في تدمير الغابات المطيرة وتَدمير الزراعات البسيطة، وصغار الفلاحين، والعدالة في توزيع المياه.

إن كروش امرأة تنشغل انشغالًا عميقًا بأمر البيئة. أدَّت على مدار سنوات واجبها فواظَبَت على عَملِها، والعَود إلى الدوران في عجلته. بَيْد أنَّ تأمُّلاتها ألْقَت الضوء على صراع جوهري بين مُعتقَداتها وبين حياتها المهنية. ولأنها مُقتنِعة بأن حضارتنا (الغربية) واقعة في سويداء الأزْمَة العالمية، فقد أحسَّتْ بأن عليها إعادة توجيه حياتها بشكل بالِغ التأثير. كان عليها أن تَعتزل العمل بصورته المعتادة.

في العام ١٩٩٠م توقَّفَت كروش عن ممارَسة العلم التجريبي، يَحدوها تعهُّد قاطِع إزاء اعتقاد بأنها تَستطيع المساعَدة في جعل عالَمِنا مكانًا أفضل. قرَّرت أن تفعل هذا على الملأ وتعرض على زملائها أسبابها وحيثياتها في مقال «مُساجَلة حول مسئوليات علماء النبات في عقد البيئة».١١ المنشور في مجلة «الخلية النباتية The Plant Cell» (وهي المجلة التي تَصدُر عن الجمعية الأمريكية لعلماء فيزيولوجيا النبات). البعض كَتبوا لها خطابات مُسهَبة تُعبِّر عن إحباطاتهم الشخصية وإحساسهم بعدم الارتياح. قالت كروش: «لقد هالني حقًّا كيف يتفشَّى الشعور بعدم الارتياح هكذا بين العلماء — خصوصًا الطلاب والذين يقومون بأبحاث ما بعد الدكتوراه، بل أيضًا هيئة التدريس في الكلية — وكيف أنهم في ممارساتهم العلمية لا يناقشون هذا إلا نادرًا، وأنهم توَّاقون إلى الحديث بشأنه.١٢ جماعات غفيرة من طلاب الدراسات العليا، وباحِثي ما بعد الدكتوراه من كليات الزراعة في سائر أنحاء القُطر دَعَوا كروش إلى عقْد حَلقات بحث تُناقِش المسئوليات الاجتماعية لعلماء النبات. كانت حلقات البحث التي عَقدتْها مِنبرًا لعرض مسائل واسعة التَّنوُّع. إن استجابَة زملاء كروش لها قد شَدَّت من أَزرِها:

المئات حضروا حلقة البحث التي عَقدتُها [في بردو] ودارت مناقَشة مُتَّقِدة، وكان الشغف والاهتمام الأكبر بكيفية تغيير مثل هذا النظام الحَصين، تحدَّثْنا عن مزايا العمل داخِل النظام الأكاديمي وخارجه. إن قدْر الاهتمام والشغف فاجأني حقًّا ومسَّ شِغاف قلبي.

الناس غير مرتاحين بشأن جوانب عديدة من العلم. لماذا نحن مدفوعون هكذا؟ (ما الذي يدفعنا إلى كل هذا العمل الشاق، لماذا لا يُتاح لنا الوقت لممارسة أي شيء آخر؟) لماذا تَجاوزْنا القدْر المسموح به من مبيدات الحشائش لإنتاج بشائر محاصيل النباتات المعدَّلة وراثيًّا؟ لماذا يكون المَسار الذي نمضي فيه مدمرًا للبيئة إلى كل هذا الحد (النشاط الإشعاعي، الكيماويات السامَّة، اللدائن التي يصعب التخلُّص منها)؟ نسبة عالية من طلاب الدراسات العليا بكليات الزراعة في الولايات المتحدة الأمريكية أتَوا من مختلف أنحاء العالَم، ومن ثَم أتَوا بمنظور الخبرة المباشرة بالزراعة في العالم الثالث ويقولون: «لا نريد أن نعود بتلك الأساليب الزراعية الصناعية، لكننا لم نتعلَّم أي شيء آخر». هنالك العديد الجم من التساؤلات.١٣
من الناحية الأخرى، يرى بعض زملاء كروش أنها مخبولة ليس إلَّا. ها هو جوز بونر J. Bonner رئيس مساعد لقسم البيولوجيا في جامعة إنديانا، عالِم متخصِّص في الوراثة الجزيئية درس ذبابات الفاكهة والخمائر. وهو يعكس وجهة النظر التقليدية التي تقوم على التقسيم والتجزئة، وذلك في تعليقه: «كل ما نعلمه الآن أنها اتَّخذَت قرارًا بالانكباب على مشكلة مهمة، مشكلة ليس من تقاليد قسمنا أن يحاول الانكباب عليها. وليس من المفترض أن يفعل هذا. إنه قسم البيولوجيا، وليس قسم علم الاجتماع. وليس هذا هو ما تَمرَّسْنا من أجْلِه.»١٤

على الرغم من اعتراف بونر بأهمية المشكلة، فإنَّه أحس بالقيمة العُظمى لعمل كروش التجريبي. ومِثْله مثل معظم العلماء، يعتقد أن المعرفة مُحايِدة، يمكن استخدامها في الخير أو في الشر، وأن قُصارى ما يَستطِيعُه العالِم هو أن يأمل في أن البشر سوف يستخدمون اكتشافاتهم «بلا ضرر ولا ضرار» إنه يَترك القرارات الأخلاقية لأولئك الذين يُطبِّقون المعرفة؟ الصناعة وولاة الأمور ورجال السياسة والجمهور. ببساطة، تطبيق المعرفة ليس وظيفته. إنه لم يتمرس من أجل هذا.

وعلى الرغم من أن كروش تَركتِ التجارب العلمية، فقد احتفظَت بمنصبها في الجامعة. تواصِل التدريس والاطلاع وحضور المؤتَمرات في مجال الإيكولوجيا الزراعية والجوع في العالَم. قد تتقدَّم للحصول على منحة من أَجْل تحليل آثار العلم والتكنولوجيا على المجتمع، وهذا يستدعي العمل مع علماء الاقتصاد، وعلماء الأنثروبولوجيا، وعلماء الاجتماع.

بدَا ما فعلَتْه كروش في نَظَر البعض عملًا بطوليًّا. إلا أنها تقول إن اتخاذ هذا القرار لم يكن صعبًا؛ لأنها لم شعر بذاتها في عملها، وأن البيولوجيا الجزيئية أصبحتْ مُملة ما دامت «خَطِّيَّة هكذا». لم يأتِ تَجلِّي فِعل الوعي لديها كتضحية منها، بل كفُرصة للتقدُّم بإسهام ذي معنًى أكبر. إن كروش، وهي مشارِك مدى الحياة في تحرير الدورية Whole Earth Review (التي كانت في الأصل المجلة الفصلية كو-إيفليوشن كوَرترلي Co-Evolution Quarterly)، وهي تقول:
حين كنتُ في العشرين من عمري وقرأتُ العدد الأول من المجلة الفصلية كو-إيفليوشن كورترلي فكرتُ في أنني «أُحب أن أكون قادرة على ممارَسة هذا النوع من التفكير تمامًا كما أُمارس هذا النوع الذي أنشغل به الآن». وهكذا وجدتُ أن المبهج حقًّا هو فرصة التفاعل مع علماء الاجتماع والاقتصاد وأن يَنحو تفكيري أكثر نحو مستوى المنظومات، وأن أُجرِّب سبلًا مختلفة للتدريس، يُبهجني هذا أكثر ما كان يبهجني العمل في قلب المُختبَر.١٥
كوَّنَت كروش جماعة هي حركة غابة بلومنجتون المَطيرة؛ وذلك لكي تُعلِّم الناس شيئًا عن دورهم إزاء تدمير الغابات المَطيرة، وقيمة هذه الغابات، وتقترح سبلًا للحفاظ عليها. وأيضًا شاركتْ في تحرير Forest-Watch Newsletter، وهي إصدار يهدف إلى إعلام المواطنين بالمسائل الإيكولوجية.

وعلى الرغم من أنها أرادت إيقاظ الناس من سُباتهم إزاء الأزمة التي تَعم الكرة الأرضية بأسْرِها، فإنها ليست فَظَّة ولا هي مُعادية للعلم. لا تُدِين الباحِثين، ولا هي تُوعز بأن يهجر الناس جميعًا العِلم التجريبي. تَسوق الحديث عن خِبْرتها الشخصية وتَشرَح كيف توصَّلَت إلى استنتاجاتها، يَحدوها الأمل في أن الآخَرِين سوف يَشرَعون في مُساءلة الوَضْع الراهن. ومن ثَمَّ تأمل في أن الناس سوف يُعيدون تقويم موضوعات بَحثِهم في ضوء العواقب الاجتماعية السلبية المحتمَلة لتلك الأبحاث، وإذ تبدو أكثر جنوحًا مع الخيال وأقل انقيادًا، فإنها تتحدَّى أعضاء هيئة التدريس بالجامعة. وما دام المَنصب الجامعي يؤمِّنهم ماليًّا، فما أنْدَر أن يفقدوه، إلا أنهم مع هذا يكونون الأقل نشاطًا وفاعلية. قالت كروش:

أتحدَّث إليهم عن نظرتي الفوضوية اللاسلطوية ومفادها أن الناس إذا عملوا بصدق من أَجْل التغيير كهدف مشترَك، سيستطيعون إحرازه من مواقع شَتى. أتحدَّث عن العلماء الذين يُحاولون أن تندمج نتائجهم مع البحث الأساسي. أتحدَّث عن جماعة الزراعة في العالَم الجديد، العلماء الذين يعملون في أمريكا الوسطى بشكل مباشر مع الجمعيات التعاونية للمزارعين، ومشاريع الأبحاث المرتبطة باحتياجاتهم. أتحدَّث عن محاولة تدعيم المنظومات التشجيعية من أَجْل التَّسويق المَحلِّي للزراعة الذي يُعزِّز بقاء الزراعة بدلًا من اتخاذ الطريق المعاكس تمامًا. أتحدَّث عن فكرة تغيير أولويات التمويل من أَجْل صالح المنظومات والأبحاث الكُلَّانية.١٦
إنَّ تصرُّف كروش قد أوعز إلى عُلماء آخَرِين بالنَّظر المُتعمِّق في العواقب طويلة المدى لعملهم. أحسَّ البعض أنهم بالاستمرار في بُحوثهم يَكونون أقدر على تغيير الطريقة التي يُؤثِّر بها العلم والتكنولوجيا في العالَم. مثلًا، جي مدفورد J. Medford وهكتور فلورس H. Flores من جامعة بنسلفانيا ستيت، أتت استجابتهما للتحدي الذي أثارَته كروش عن طريق مناصَرة حوار أوسع بين العلماء والمُزارعِين في المناطق النامية من أَجْل تفهُّم أفضل لاحتياجات المزارعين. وأيضًا اقترَحَا أن يبدأ علماء الجامعة في تدريس مقرَّرات في أخلاقيات علوم البيولوجيا وأثَر علم النبات على المجتمع.١٧ أما ستيفن سميث S. Smith من جامعة أريزونا فيَهيب بالبيولوجيين من علماء النبات أن يقبلوا التزاماتهم الاجتماعية، «بكل ما تحمله من ضيق وكدر». وكتب يقول: «الفشل في الاضطلاع بهذا ليس فقط أسلوبًا قاصرًا في ممارَسة العلم، بل أيضًا من الأرجح أن يؤدي إلى المزيد من تَضعضُع ثقة الجماهير فينَا وفيما ننتجه. لقد آن الأوان لعلماء بيولوجيا النبات لكي يُثبتوا أنهم مواطنون مثلما هم علماء.»١٨

تُجسِّد كروش مثالًا على مبدأ الأُنْثَوية في الترابطية، وذلك عن طريق النَّظر إلى عملها في السياق الأرحب، وعن طريق جَمْع أشتات المَعارف من أنظمة شَتى. لم تقم بتجزئة وتقسيم عملها، بل بالأحرى استبصرَت الترابطات بين عملها وبين الإيكولوجيا واقتصاد الكُرة الأرضية. وهي الآن تتعاون مع علماء، وبالمثل مع أناس من خارج مَجال العلم ينزعون إلى التَّغير كهدف مشترَك.

لقد أعملتْ وظيفة الشعور لديها كي تحكم على قيمة حثها في علاقته بمسائل أرحب متعلِّقة بالجوع في العالم، وتدمير الغابات المَطيرة واختفاء ثقافات الأهالي الأصليين. وبينما تكتفي وظيفة التفكير بإسهام أكثر إسهابًا في نظرية مجرَّدة عن كيفية سَير العالَم، نجد كروش قد أعملَت وظيفة الشعور لديها لتقويم كيفية تأثير بحوثها على حَيوات الناس الآخَرين. وحين أعادَت توجيه مَسار حياتها المِهنية جعلَت هذا المسار متحالفًا مع قِيمها ومُعتقداتها الشخصية. لقد وجَّهتْ طعنة نَجلاء لوَهْم الموضوعية العلمية، وهْم المعرفة من أَجْل المعرفة، وعيَّنَت الشركات التجارية المتعدِّدة الجنسيات واسعة الثراء التي تُشكِّل جماعات ضاغطة على التمويل الحكومي لأبحاث علوم النبات الأساسية؛ وذلك لكي تحقق تلك الشركات أرباحًا أعلى.

تُعبِّر كروش عن تَقديرها للتنوُّع حين تقول: «الفهم العلمي يُثري حياتنا لكن قيمة العلم ليست أعلى ولا أدنى من قيمة أشكال المعرفة الأخرى.» تَرى البشر جزءًا من شبكة من التفاعلات، كل فُعل فيها «له ضغطُه على أحد خيوطها، ويُسبب طائفة مُعقَّدة من ردود الفعل. وبدلًا من التَّحكُّم في الطبيعة، تُحبِّذ هي أن ترانَا نَستخدم العلم من أَجْل التأقْلُم مع الكائنات الموجودة بتواضُع واحترام لها. وفي تدريسها العِلْم لغير المُتخصِّصين، اصطنعَت مقرَّرات من قَبيل بيولوجيا الغذاء» «فحوص إيكولوجية للحياة اليومية» لكي تجعل العلم مألوفًا للدارسين. وإذ تجعل كروش المعرفة العلمية مُتاحة سَهلة المنال، فإنها تُعِين على رَدْم الهُوَّة بين العلم والعامة.

إن ما تفعله كروش يَنبثق عن رغبة في رعاية الكوكب الأرضي بدلًا من الهيمنة عليه. فهي تَضطلِع بمقارَبة طويلة المدى لمشروعها في تَغيير حيثِيَّات وأسباب الزراعة؛ لكي تعود إلى نظام لامركزي لا يقوم من أَجْل التصدير، بل من أَجْل إنتاج الغذاء المحلي. ومن خلال مَقالات كروش وحَلقات البحث التي تَعقِدها، فإنها تُلامِس حيوات جَمْهرة من العلماء والطلاب. إنها تتجاوَب معهم بشكل شَخصي، وتشد من أَزْرِهم في مسارهم المِهني؛ لكي يَقوموا بإعادة تحديد دورهم في العلم.

إن كروش مثال للعالِم الذي يطرح تساؤلات جوهرية مختلفة؛ من قبيل «كيف سيبدو عِلم النبات في عالَم يدور حول البيئة؟» وفي بحثها عن ارتقاء وعْي حادٍّ اجتماعي بقَدْر ما هو عِلمي، فإنها تبحث عن تجديد مفاهيمنا للعِلْم. إن قَبول التزامات المسئولية الاجتماعية، والاستمساك بمنظور يَترابط فيه كل شيء، إنما يَتطلَّب إعادة تعريف حدود الحُرِّية العلمية. وبينما تُجسِّد بربارة ماك كلينتوك مثالًا لعلم أكثر إنسانية قائم على التَّلقِّي و«الشعور بالكائن الحي»، تعتقد كروش أنَّنا في حاجة إلى قطع خطوة أبعد.

ما يَعنيني أن بربارة ماك كلينتوك قد ثَبَّتتْ أقدامها كمثال للشخص الذي يُقارِب العلم بأسلوب فريد، وكانت قادرة على اكتشاف أشياء جديدة ومُثيرة بفعل مقارَبَتها الفريدة. إلا أن ثِمار عملها قد استفاد منها العلماء أنفسهم مثلما يَستفيدون من أيَّة بيانات علمية أخرى. والحق أن بحثها كان حيويًّا ومحوريًّا في تنمية التكنولوجيا الحيوية. وبالتالي، إذا عملنا على تنمية شبكة من العلماء الذين يمارسون العلم بشكل مختلف، لكن لا يُغيِّرون مع هذا أمر الارتباط بالتطبيق من خلال النظام المهيمن، فيبدو أننا لا نعمل إلا على إبقاء الوضع بما هو عليه. لهذا السبب قررتُ ألا أمارس العلم التجريبي أصلًا بدلًا من أن أقتصر على تغيير ما أفعله؛ لأنني أحسستُ بقدرتي على تغيير ما أفعله لكي أكون أكثر اتساقًا مع شُعوري إزاء الطبيعة، لكنَّني وجدتُ أن أي شيء يُسفر في النهاية عمَّا هو واقع فعلًا في حدود الاستخدام المتَّصل بالمجتمع.١٩

خدمة المجتمع

تصف كارول جيليان في كتابها «بصوت مختلف» التنازع بين العناية والمسئولية من حيث هو «تقدُّم العلاقات في اتجاه النُّضج والاعتماد المتبادَل».٢٠ وتشرح جيليان، بوصْفِها امرأة بلغتْ سِنَّ النُّضج، «المُعضِلة الأخلاقية تتحوَّل من السؤال عن كيفية ممارسة المرء لحقوقه من دون افتئات على حُقوق الآخَرين، تتحوَّل إلى السؤال عن كيفية مُمارَسة حياة أخلاقية تشمل التزاماتي إزاء ذاتي وإزاء أسرتي وإزاء الناس بعامة».٢١ ولعل تطبيق هذا على العلم يؤدِّي بنا إلى طرح السؤال، كيف يستطيع العلماء كأفراد أن يَخدموا المجتمع؟ وليس هذا سؤالًا هَيِّنًا. فحوالي نصف الفواتير التي تُعرَض على الكونجرس في الولايات المتحدة تَضم عناصرها مكوِّنات علمية أو تكنولوجية ذات مَغزى. وأحسَب أن العلماء عليهم أن يَلعبوا دورًا أكبر في خَلْق جمهور واعٍ يستطيع أن يَتَّخِذ قرارات مستنيرة في مجتمعنا الذي تتسارَع خُطاه نحو المزيد من التكنولوجيا.٢٢

وما دام الجانب الأكبر من المعرفة العلمية يمكن أن يُستخدَم من أجْل الخير، ويمكن أن يُستخدَم من أجْل الشَّرِّ، فإنَّ تدبُّر العلماء في العواقب السلبية المحتمَلة أمْر حاسِم، لكي يروا العلم في سياقه الأرحب، ولكي يَتحمَّلوا عبء مساعدة المجتمع بشكل مسئول. على سبيل المثال، تَعتقد إيمي باكن أن إرشاد الجمهور إلى الاستخدام الملائم للتكنولوجيا أمْر غاية في الأهمِّيَّة، على الرغم من أنه يستهلك وقتها ويصرفها عن عَملِها في البحث العلمي.

أستشعر تعهدًا قويًّا لتعليم الطلاب وجمهور العامة بحيث يَقرءون في الجرائد والمجلات موادَّ عن العلم، ويُصدرون بشأنه أحكامًا مُتبصِّرة. لقد عاونتُ، خلال السبعينيات، في تنظيم مؤتَمر الدنا المؤلَّف recombinant DNA الذي عُقِد من أجْل العامة. وأنا الآن أُدلي بشهادتي في المحاكم كخبيرة عِلمية في اختبارات بصمة الشَّفْرة الوراثية [الدنا D.N.A] وذلك في قضايا اغتصاب وقَتْل. أعتقد أن ثَمَّة احتياج فِعلي للعلماء ليتكفَّلوا بهذا ويقوموا بتبصير المُحامِين والقضاة، ويساعدوهم في تطوير مَعايِير أرقى لقَبول بصمات الدنا في المحاكم. إن الشَّركتين العاملتين في هذا الآن يُهمِلان في عَملِهما ولا يبدو أن تطوير المعايير يعنيهما كثيرًا. يَحدُوني الأمل في أن مجتمَع المُثقَّفِين القانونيين سوف يمارِس ضغوطًا على هاتين الشركتين من أجل الارتقاء بمستوى العمل فيهما.٢٣

أما مارشا لاندولت، المتخصِّصة في علم الأمراض المُقارن في كلية المَصايد بجامعة واشنطن، فقد مارسَت خدمة المجتمَع طويلًا حتى طلبوا منها أن تعمل في لجان قومية مَعنِيَّة بمسائل معيَّنة من قبيل تربية الأحياء المائية. إنها تَخرج بقدر هائل من المُتعة حين تتحدَّث كعالِمة إلى مستمعِين من مَجالس الساحل، ومجالس التخطيط الإقليمي، ومَجالس الحدِّ من التلوث. ومؤخَّرًا، طَلبوا منها العمل في مجلس استشارة علمي للبحيرات العظمى، مَعنِي بمسائل التلوث.

الشهر الماضي التقيتُ لأوَّل مرة بمجلس البحيرات العظمى. من ناحيتي، أرى هذا المجلس مجموعة مُستجدَّة تمامًا من أشخاص لهم منظومة مختلِفة من الأفكار، ويَنظرون إلى الأشياء من زوايا لم أنْتبِه إليها من قبل، وبالتالي أتعلَّم شيئًا ما، ما يجعل الأمر مبهِجًا. إنه استزادة من نظرة إلى الأشياء تركيبية تأليفية، تحتاج منك إلى عشرين عامًا من تحصيل المعارف تحاول أن تجعلَها تُلقِي بثِقلها على المسألة المطروحة، وقد يتطلَّب منك هذا أن تنظر إلى مسألة واحدة من عشرة جوانب مختلفة لكي تُدرِك أفضل السُّبل المتاحة. مرة أخرى أقول إنه نمط فريد من الجهد الجماعي.٢٤

أجَل، قد يقول البعض: ليستْ هذه ممارسة حقيقية للعلم، بَيْد أنَّ لاندولت تقوم بدور تَشتدُّ الحاجة إليه وهو أنها تُساعد في مد الجسور عَبْر الفجوة الفاصلة بين العلماء والعامَّة. وهي تشعر أن العلماء في حاجة إلى القيام بدور سيادي أكثر في المسائل التِّقنيَّة الاجتماعية. وبينما يركن بعض العلماء إلى الراحة بالمكوث في مُختبَراتهم والأبواب مُوصَدة عليهم، تُفضِّل هي «الوقوف على الحد الخارجي» الفاصل بين العلماء والعوام.

على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية عملتُ في مجال السموم المائية. أُعْنى بما يَحدُث للأسماك من جرَّاء المَناشط البشرية. لكن على الرغم من هذا، أشعُر باغتراب مُتزايد عن معتقَدات المجتمَع البيئي. ومن أوضح الأدلة الشواهد على هذا تربية الأحياء المائية، بعض بدع التَّغذية التي تَتفشَّى في زماننا وفي هذا لا ينال الناس إلا قُصاصة هزيلة من العلم، مُستخدمِين إياها في وقائع حياتهم اليومية، ولا يتصدَّى المجتمَع العلمي لهذا فيقول: «آه، انتظروا بُرهة! هذا الأمر مُحرَّف فعلًا». إنه لَوقت ينفرد فيه العلماء بقَصب السَّبْق، فلا يأتون إلا عملًا صالحًا، لكن ثَمَّة مسئولية مُلقاة على عاتق العلماء وهي أن يَنبَروا قائلين: «ما هي المشكلة؟ لماذا تنشغلون بهذا؟» ويشرحون الأمور للناس الذين دَعموهم بدفع أموال الضرائب ونحن تَلقَّيْنا العلم أو أثبَتْنا نتائجنا العلمية من أَجْل مصلحتهم الشخصية. وإني لأستكين كثيرًا إلى هذا الجانب من العلم. وأعتقد أن ثَمَّة احتياج إلى شيء من التَّوازن.٢٥

بعض العلماء لا تكفيهم «المعرفة المجرَّدة من أجْل المعرفة» كدافع لممارَسة العلم، إلا أنهم ما زالوا يشعرون بأن أحدًا قد يطعن فيهم إن عبَّروا عن رَغبتهم في ممارَسة عمل أكثر ملاءمة لتحسين أوضاع الحياة البشرية وأكثرَ ارتباطًا بهذا. وهذا، بالنسبة للبعض، ينطوي على العمل المُفعَم بالأمل في تقديم حلول للمشاكل البيئية، أو لإبراء المَرض، أو لرفع مستوى المعيشة. منذ أن وعَتْ سيجريد ميردال، وقبل أن تعرف حتى ما الذي تتحدث عنه، أدركتْ أنها بصدد العمل في اكتشاف علاج للسرطان. إنها الآن من كبار العلماء في قسم أبحاث السرطان في بريستول-مايرز سكويب، وتدرس عوامل النمو. كانت رحلتها رحلة طويلة، استلزمَتْ إصرارًا وعزمًا أكيدًا. لقد انقطعَتْ عن الدراسة بَعد حصولها على درجة البكالوريوس في الكيمياء، وذلك لكي يجتاز زوجها اختباراته في كلية الدراسات العليا؛ ولكي تُنجِب ثلاثة أطفال. وحين وجَد زوجها وظيفة، حصلَت على درجة البكالوريوس الثانية في البيولوجيا، وعلى درجة الدكتوراه في البيولوجيا التطورية، ثم أحرزَتْ بعد هذا مؤهلات علمية أعلى بحصولها على مِنحتَين دراسيتين بعد الدكتوراه. وطوال هذا الطريق كانت تَتمرَّس على بيولوجيا الخلايا العادية والمتسرطِنة. والمبدأ الغالب لديها في تخطيط أبحاثها هو أن تكون قادرة على طرْح فائدة عمَلِها ومواءمته للموضوع في جملة واحدة.

في عامي الأول بكلية الدراسات العليا قرَّرتُ: لقد احتجتُ فعلًا إلى المنهج العلمي كما وصَفه لي أساتذتي واختزال الأشياء إلى فروض قابلة للاختبار. بَيْد أنَّ ثَمَّة مُختبَرًا داخِل رأسي، وعلى جدار هذا المُختبَر، عُلِّقت لافتة ضخمة تقول: «ثم ماذا؟» عليَّ أن أنتبه دائمًا إلى هذه اللافتة وأتيقَّن من أنني سأستطيع الإجابة عن هذا السؤال، ومن الأفضل أن تكون الإجابة بالنِّسبة لواحد من فروع العلم. وإلا فسوف أغرق في أشياء صغيرة يصعُب استيفاؤها إلى حد ما».٢٦

وحتَّى بعد أن أحرزَتْ هدفها وأجْرتْ أبحاثًا في السرطان في بريستول-مايرز سكويب، انقطع بحثُها وتوقَّفتْ عامين حين واجهَت بصفتها الشخصية موضوع دراستها عيِّنه؛ أي السرطان، في شكل اللوكيميا. خضعَتْ لعملية زَرْع النخاع العظمي، وهي تُواجِه احتمال البقاء على قيد الحياة بنسبة خمسين في المائة. وفي فترة النقاهة كان عليها أن تتعلَّم من جديد كيف تفكِّر بالمعنى الحَرْفي لهذه الكلمة. أما وقد عادَت الآن إلى طاولة المُختبَر، فيملَؤُها شعور العِرفان والامتنان؛ لأنها تستطيع أن تُمارِس العمل الذي تعشقه، وتريد أن يرتبط هذا العمل بتحسين أوضاع الحياة البشرية. لقد استحضرتْ تعليقًا ارتجاليًّا قاله المرشد لأبحاثها فيما بعدَ الدكتوراه حين كان يناقش أمْر عمله:

قال المرشِد لأبحاثي: «حسنًا، أنا بالقطع لا أريد أن أَشفِي مرضًا» قال هذا بصوت حادٍّ، مفعم بالازدراء، كما لو كان ينال من كرامته. قاله بطريقة تَوحي بأنَّك تعرف أن هذا على وجه الدِّقة هو القول السديد الذي كان يجب أن يقال في قسم الكيمياء الحيوية، إن أي شخص يريد أن يَشفي مرضًا سيكون عديم الخبرة ومستحقًّا للعن، يَتلبَّسه جِنِّي، ولا يُمارس العلم البحت، ولا يطرح الأسئلة الوجيهة.

وجال في ذهني: «حسنًا، أنا أريد أن أَشْفي مرضًا!» ولا أعتقد أنهم أدرَكوا أبدًا فكرة أن لديك شغفًا علميًّا يُوجِّه أبحاثك، وأحاسيس اتَّقدَت في جوانحك بفعل شيء ما آخَر يدفعك لممارَسة البحث. لم أشأ أن تَشوب سمعتي الرغبة في أن أشفي مرضًا؛ لذا التزمتُ الصمت تمامًا حيال مشاعري.٢٧

أجل أحرز لفيف من الباحثين نجاحًا باهرًا في مسارهم المهني وهم يضطلعون بمشاريع حول السؤال «ثم ماذا؟» على أنهم في هذا فقدوا موارد ذات قيمة عالية للغاية في شَكْل فُقدان للوقت والجهد والحصول على بيانات والمواد اللازمة لإجراء الأبحاث. لكن مَن الذي يحكم؟ من الذي يقرر ما إذا كان المشروع يستحق إهدار الوقت من أجله؟ مرة أخرى، هذه أسئلة عن الاستحقاق — عن القيمة والأولوية — وهي مضمار وظيفة الشعور، التي هي خاصة أُنْثَوية. يترك العلم هذه القرارات للباحثين كأفراد، لِلِجان تحكيم أبحاث الأقران، لوكالات التمويل، ورؤساء تحرير المجلات العلمية، ومُراجعي أوراق الأبحاث، كل حُرَّاس بوابة المعرفة.

حراس بوابة المعرفة

واحدة من أكبر الخطايا التي يمكن أن يرتكبها المُعلِّم الصوفي هي أن يطلع التلميذ على المعرفة قبل أن يكون التلميذ مُستعدًّا لهذا. ثَمَّة قوانين صارمة في التقليد اليهودي ضد الذين يُجاهرون بالأسرار الداخلية لأولئك الذين لم يتأهَّبوا بعدُ لتلقِّيها. ويجب على محاربي الكلتك أن يصبحوا أولًا شعراء قبل أن يستطيعوا الذهاب إلى المعركة. هذه التقاليد تعلمت من الخبرة أن المعارف شديدة البأس إذا تم اكتسابها بسرعة يمكن أن تصبح عبئًا ثقيلًا تَنوء به أنا الفرد. وقد يفتقر الطالب إلى النُّضج السيكولوجي والانضباط اللازم للتعامل مع البأس بصورة ملائمة، فيكون كالطفل الذي يلعب بالنار. يمكن أن تُدير المعرفة والبأس برءوسنا، ليتضخَّم إحساسنَا بجدارة الذات وتأهُّلها، مما يُؤدِّي إلى الغطرسة والصَّلف. ولكي نفيد أنفسنا ونفيد الآخَرِين حقًّا بشكل جيد، يجب أن تتوازن المعرفة مع الحب والأحاسيس، وتَشق طريقها عَبْر شغاف القلب، وتضطلع وظيفة الشعور بتقدير قيمتها.

قَطعًا، أولئك الذين يمتلكون المعرفة والبأس قد مَنعوا الاستخدام غير الملائم لهما من حين لآخر. ولكن فكرة التعليم على مدًى زماني محدَّد لا تخلو هي الأخرى من حكمة بالغة. لقد تهيَّأْنا بحيث نعتقد أن كل شخص ينبغي أن يعرف كل شيء، وأن سهولة الوصول إلى المعلومات هي أفضل ما يَحول دون الاستخدام السيئ للمعرفة. على أية حال، حالما تغدو التكنولوجيا متاحة، يشغلنا التفكير في أننا نعرف كل شيء عنها ونشعر بوجوب استخدامها، خصوصًا إذا استطاع أحد أن يغنم مالًا من وراء هذا. وفي وقت متأخِّر نكتشف مَخاطر هذا السباق المحموم نحو التَّقدُّم، وحينئذٍ يغدو عسيرًا إيقاف زخمه المُندفِع. إننا نحتاج في حضارتنا سريعة الإيقاع إلى وقفة فاصِلة طويلة بها يكفي لنُمارس التَّعقُّل ووزن الأمور لنَتَّخِذ قرارات أخلاقية فردية وجماعية قائمة على أساس السِّياق وعنصر الزمن. وتستطيع الأُنْثَوية، بجذورها الضاربة في الترابط، أن تساعد في التوازن بين «العلم الجيد» وبين العلم المسئول اجتماعيًّا، بين التَّقدُّم قصير المدى وبين الاستدامة طويلة المدى.

من المهم كذلك كيفية نقل المعرفة: مَن الذي يُصدِر المعلومات؟ هل قليلًا أم كثيرًا؟ والقيم المصاحِبة لها، المناخ السياسي والاقتصادي الاجتماعي الذي صَدَرت فيه، ومستوى فَهْم «الطالب» أو الجمهور. قد تَتطلَّب بعض التطورات الحديثة في العلم والتكنولوجيا تأجيلًا لتطبيقها ريثما نستطيع نحن، بوصفنا مجتمَعًا، أن نتباحث في شأنها ونأخُذ في اعتبارنا تَضمُّناتها الاجتماعية والأخلاقية. لستُ أُناصر العلم السِّرِّي حيث الضن بالمعلومات إلى الأبد. بل بالأحرى، قد يستطيع حُراس بوابات المعرفة، العلماء، أن يُفكِّروا بشكل أعمق ويضطلعوا بمسئولية أكبر إزاء التضمنات طويلة المدى لعملهم. وكذلك تستطيع الرابطات المهنية أن تُشكِّل جماعات مُماثلة للمكتب القومي لمتابعة التكنولوجيا، الذي يحاول تفهُّم ديناميكيات التكنولوجيا كما تنشأ وتتنامى في سياقات اجتماعية مختلفة.

يبدو العلم مُروِّجًا لأمر تكنولوجي كالقَدَر المحتوم. ونادرًا ما نأخذ في اعتبارنا القيم الكامنة في تكنولوجيا جديدة، أو كيف تُغيِّر تطبيقات العلم من الأنماط الاجتماعية والحياة اليومية للناس. وبسبب من هذا، رأى أَينشتَيِن تحللًا في بنية المجتمع ينشأ عن العقلية العلمية الباردة. قال:

ما هي الحاجة إلى المسئولية؟ وفيما أعتقد ذلك التدهور الخطير في السلوك الأخلاقي للناس في يومنا هذا يشهد على ميكنة حَيواتنا، ونَزْع السِّمة الإنسانية عنها، وهذه الكارثة مُنتَج جانبي لتطوُّر العقلية العلمية والتقنية. إننا مُذنبون. يسير البشر نحو البرودة أسرع مما يسير إليها الكوكب الذي يعيشون فيه.٢٨
وفضلًا عن الأمثلة المأخوذة من البحوث العسكرية والبحوث الزراعية، ثَمَّة عدد لا يحصى من مجالات أخرى تواجهنا فيها خيارات أخلاقية: تكنولوجيا الحاسب الآلي وتأثيرها على خصوصية الفرد؛ من له حق الحصول على التكنولوجيات الطبية الباهظة الثمن من قبيل أجهزة الديلزة٢٩ أو زرع الأعضاء، كيف نتخلَّص من النُّفايات السامة والنُّفايات النووية، استخدام تكنولوجيات منْع الحمل للتحكم في تعداد السكان، وتطبيق تكنولوجيات التحكُّم في العقل. وقريبًا جدًّا ربما تجعلنا المعرفة الجديدة عن الشفرة الوراثية نصطنع جينات «مصمَّمة» لتحسين الصحة، أو لتغيير لون البشرة. وبالتساوق مع المعرفة الجديدة سوف تنشأ فُرص جديدة لاتخاذ قرارات أخلاقية فردية وجماعية حول القوة والبأس العِلميين. مثل هذه القرارات معقَّدة ومن الأفضل أن يتَّخذَها أفراد على مستوى عالٍ من النُّضج النفسي. ولكي ينبثق الحل الخلَّاق، سوف يكون العلماء الذين يضطلعون يهذه المسائل الأخلاقية فسوف يكونون أفرادًا على درجة عالية من رحابة الأفق ليستطيعوا التكفُّل بكِلا الجانبين للمسألة، يواجهون التوتر بين المتقابلات من دون الوقوع في براثن التسطيح لتأتينا الإجابة المبسَّطة القاصرة ﺑ إما/أو. إن المجاهَدة مع الخيارات الأخلاقية للحياة اليومية، الناشئة عن المعالَجة الإنسانية للموضوعات التجريبية لتطبيق المعرفة الجديدة، يمكن أن تستثيرنا وتتحدَّانا لنغدو أكثر وعيًا.

أما أن نواصل مُقارَبة العلم بعقل أُحادي الجانب، لا يبالي بشيء، ولا يعنيه أن يذهب الجميع إلى الجحيم، فإن هذا ينطوي على مَخاطر تداني مَخاطر إفناء الحياة على سطح الأرض. ومثلما كان مُحارِبو الكلتك يتمرَّسون على الشِّعر قبل أن يَتمرَّسوا على حَمْل السلاح، يمكن أن يبحث العلماء بالمثل عن تدريب القلب. والآن دَعونا نُعانِق الإسهامات الإيجابية للأُنْثَوية التي أُلْقِي بها منذ ميلاد العلم في منطقة الظلال المُعتِمة. وكما رأينا، خصائص الشعور والتَّلقِّي والذاتية والتَّعدُّدية والرعاية والتعاون والحدس والترابطية يمكنها أن ترشِدَنا في معالَجة التساؤلات المُعقَّدة التي تُثار على الحد الفاصل بين العلم والمجتمع. إنها تساؤلات كبرى، وتَهيب بنا أن نستغل كل مواردنا الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية.

١  Ian Mitroff, The Subjective Side of Science, p. 114.
٢  Ibid., p. 122.
٣  Wolpert, A Passion for Science, p. 9.
٤  Dyson, Disturbing the Universe, pp. 52-53.
٥  Fuller, Humans in Universe, pp. 44–48.
٦  “A. Einstein: How I see the World”.
٧  إيرين كوري هي ابنة العالِمة الشهيرة، التي حَظِيَت بجائزة نوبل مرَّتَين واحدة في الكيمياء والأخرى في الفيزياء، ماري كوري مِن زوجها العالِم الكبير بيير كوري. لقد أنجَب ماري وبيير كوري ابنتَين، عملَتْ إحداهما بالصحافة والأدب، أما الأخرى فهي إيرين كوري التي امتهنَت العلم وأصبحت عالِمة مُبرَّزة، وتزوَّجَت من زميلها العالِم فردريك جوليو، وكوَّنَا معًا الثنائي العلمي المذكور عاليه إيرين وفردريك جوليو كوري. (المترجمة)
٨  Vare, Mother of Invention, p. 147.
٩  مُقابَلة مع سارة صولا، في ٢٧ مارس ١٩٩١م.
١٠  Martha L. Crouch, “Confessions of a Botanist,” New Internationalist (March 1991), p. 21.
١١  Martha L. Crouch, “Debating the Responsibilities of Plant Scientists in the Decade of the Environment,” The Plant Cell 12 (April 1990), pp. 275–277.
١٢  مُقابَلة مع مارتا كروش، في ١٢ أبريل ١٩٩١م.
١٣  المصدر نفسه.
١٤  Teri Klassen, “Scientist Gives up Research She Says Hurts Environment,” Bloomington (Indiana) Herald-Times (23 April 1990), pp. A1, A7.
١٥  مُقابَلة مع مارتا كروش في ١٢ إبريل ١٩٩١م.
١٦  المصدر نفسه.
١٧  June I. Medford and Hector E. Flores, “Plant Scientists Responsibilities: An Alternative,” The Plant Cell (2 June 1990), pp. 501-502.
١٨  Steven E. Smith, “Plant Biology and Social Responsibility,” The Plant Cell (2 May 1990), pp. 367-368.
١٩  مُقابَلة مع مارتا كروش، في ١٢ أبريل ١٩٩٦م.
٢٠  Gilligan, In a Different Voice, p. 21.
٢١  Ibid., p. 79.
٢٢  National Academy of Sciences Committee on the Conduct of Science, On Being a Scientist (Washington, D.C.: National Academy Press, 1989), p. 20.
٢٣  مُقابَلة مع إيمي باكن، في ١٧ يناير ١٩٩٠م.
٢٤  مُقابَلة مع مارش لاندولت، في ٨ مارس ١٩٩١م.
٢٥  المصدر نفسه.
٢٦  مُقابَلة مع سيجريد ميردال، في ١١ نوفمبر ١٩٨٩م.
٢٧  المصدر نفسه.
٢٨  “A. Einstein, How I see the World”.
٢٩  أجهزة الديلزة dialysis machines هي تلك التي يستخدمها مرضى الفشل الكلوي من أجْل الغسيل والتنقية الدورية الضرورية لهم للبقاء على قيد الحياة. (المترجمة)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤