الفصل الثالث عشر

ملحق أُنْثَوية العلم

عمل جليلٌ جاء على فترة من جلائل الأعمال
يُعَد «المَذهب النِّسْوي» feminism واحدًا من أهم التيارات الفلسفية المُعاصرة وأكثرها تَشعُّبًا وأغزرها إنتاجًا. ولقد كان من دواعي الأسف والقُنوط أن تخلو المكتبة العربية من أي كِتاب عُمدة يُقدِّم للقارئ العربي أطروحات هذا التيار الهادر بطريقة وافية وفَهْم سديد إلى أن وافتْنا سلسلة «عالم المعرفة» الغَرَّاء عدد أغسطس ٢٠٠٤م بالكتاب القَيِّم «أُنْثَوية العلم»، تأليف عالِمة الكيمياء الأمريكية د. ليندا شبرد، وترجمة د. يمنى الخولي التي تعود بِنا عَودًا حميدًا إلى زمن العمالقة وأيام الكبار الذين كانوا يُحبُّون عملهم ويواكبون زمنهم ويضعوننا في جَلَبَة العصر، وكنا معهم على صلة وثيقة بتيارات الفكر وحِسِّ رهيف بنبض الزَّمَن.

يسلط الكتاب الضَّوء على سلبيات المُمارسة العلمية الجارية، ويُميط اللثام عن الجانب المحجوب من المُمارسة العلمية، ومن الممارسة الحياتية بعامة، الجانب الأُنْثَوي القابِع في الظِّل، والجَدير إذا مَكَّنَّا له أن يعيد الحياة إلى تكاملها والأمور إلى نِصابها إنه «الواقع الآخَر» المَنفي في الداخل، في غيابة «اللاوعي» والذي يهيب بنا أن نَعترف به ونسترده، وأن نرفعه ليرفعنا، وننقذه لينقذنا.

تضطلع الفلسفة النِّسْوية بمراجعة جذرية للإبستمولوجيا والعلم. وتضيف بُعدًا جديدًا إلى فهمنا للإنسان ومَلكاته الإدراكية وقِيمه الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. ترفض الفلسفة النِّسْوية ذلك التَّماهي العتيد والسائد منذ القِدم، بين الخبرة الإنسانية والخبرة الذُّكورِيَّة. «ليس الرجل هو الإنسان، وليست الذُّكورِيَّة هي الإنسانية. وليست المرأة جنسًا آخر أو نوعية أدْنَى من البَّشر. إن الذكورة والأنوثة هما الجانبان الجوهريان للوجود البشري، لكل منهما خصائِصه وسِماته ودوره. وتتكامل جميعها في سائر جوانب الحضارة الإنسانية وعلى رأسها العلم.»١ «وحين نكشف النقاب عن الجانب الأُنْثَوي المفتقَد والمحجوب من العلم يغدو العلم أكثر حيوية وفاعلية، ويؤدي إلى حصائل أكثر سخاء وتوازنًا، وأقل أضرارًا جانبية من قبيل تدمير البيئة وتصنيع أسلحة الدمار الشامل واتخاذه أداة لقهر الثقافات والشعوب الأخرى.»٢
ترفض الفلسفةُ النِّسْوية كل أشكال الثنائية الأنطولوجية، وترى أن الميتافيزيقا التقليدية قد أخطأتْ خطأً كبيرًا حين فَصلَت الذات عن الآخَر، وفصلت العَقل عن الجسد. وتَبيَّن كيف يمكن للمرء أن يَنفُذ إلى ذوات الآخَرِين ودواخلهم من خلال «المُواجَدة» (التَّمثُّل الوجداني) empathy، وكيف يمكن للعقل والجسد أن يُشكِّل كل منهما الآخَر.

لقد طال الأمد على الثقافة الغربية وهي تربط العقلانية بالذُّكورِيَّة، والانفعالية بالأُنْثَوية، فتَخلص إلى أن النساء أقل إنسانية من الرجال. لهذا يُحاجُّ الفلاسفة النِّسْويُّون بأن العقل والانفعال ليسَا نقيضين، وأنها يَعملان بتآزُر متبادَل ويُعدَّان مصدرين متكافئين للمعرفة.

ويرى الفلاسفة النِّسْويُّون أن فلسفة العلم التقليدية تبالغ في ادعاء الموضوعية. ذلك أن فلاسفة العلم التقليديين كثيرًا ما يَربطون نجاح العلم بقُدرة العلماء على السيطرة على الطبيعة وإذلالها، بينما يَربطه النِّسْويون بقُدرة العلماء على الاستماع إلى صوت الطبيعة والإصغاء إلى ما تَبوح به طوعًا ومن غير إكراه. ومن شأن العلم الذي يستند إلى شهادة الوقائع العيانِيَّة ويُصغي إلى ما تقوله الطبيعة أن يستخلص نظرية مجرَّدة أكثر اقترابًا من الواقع، وأن يكون أكثر موضوعية من العلم الذي لا يُصغِي.

وفي مجال الأخلاق يرى الفلاسفة النِّسْويون أن قائمة الفضائل في علم الأخلاق التقليدي هي قائمة ذكورية، وأن النِّساء يُقارِبن العقل العملي من منظور مُختلِف. تقوم الفلسفة الخلقية والاجتماعية والسياسية التقليدية على القواعد والمبادئ (المَنفعة، الواجب، …)، فتُحِيل السلوك إلى معايير عامَّة مُطلَقة غير شخصية، وتنظر إلى الأخلاق من منظور العدالة والحيدة والنَّزاهة المُجرَّدة. أما الأخلاق النِّسْوية فهي تنظر من منظور «الرعاية» care وتؤكد على الحدَب والتَّضامن والارتباط بأشخاص بعينهم. ترتكز الأخلاق النِّسْوية على المسئوليات والعلاقات أكثر مما ترتكز على الحقوق والقواعد، وتُولي اهتمامًا بالملامح الفريدة للمَوقف الأخلاقي المُعيَّن أكثر من اهتمامها بمُتضمَّناته العمومية الكلية.٣
وتضطلع الفلسفة النِّسْوية بنقد جذري للحضارة الغربية وكشف جَريء لمَواطن القصور في الفكر الغربي. لقد كان تاريخ الحضارة الغربية تاريخًا «أبويًّا» patriarchal قائمًا على «مركزية العقل الذُّكُوري» المتشبع بقيم؛ التنافس، والتفرُّد، والانفصال، والسيطرة، والقهر، والتفكير النظري «الخَطِّي» linear التَّجزيئي الاختزالي (الرَّدِّي). إن المنظور الذُّكُوري يُعاني من قُصور معرفي وضِيق متأصِّل كفيل بأن يعطل التَّقدُّم الحقيقي للفلسفة والعلم، وجدير بأن يقود البشرية إلى مَزيد من الصراع، والبؤس، واستنفاد ثروات الأرض، وتخريب البيئة. ولقد اقترف كل ذلك بالفعل في التاريخ المنظور، وتم قَهْر المرأة وقَهْر الطبيعة، وقَهْر شعوب العالم الثَّالث. وألَحَّت الحاجة إلى ظهور فلسفة جديدة تَفضَح كل هذا الزيف، وتُقوِّم كل ذا الزيغ، وتضيف البُعد الناقص للحضارة الغربية، البُعد الأُنْثَوي.

وهم التضاد بين التفكير والشُّعور

لطالما حَسِب العلماء أن المَثل الأعلى للممارَسة العلمية هو التفكير المنطقي البارد، والاختيار اللاشخصي، وتنحية الشعور والعواطف التي تَحيد بالبحث عن مساره القويم، وتنال من نزاهته وموضوعيته. وهو خطأ فادح من الوجهة السيكوفسيولوجية والإبستمولوجية معًا. يقول رولو ماي في «شجاعة الإبداع»: «لقد كنا نَنحُو إلى أن نَضع العقل في مُقابِل الانفعالات، وافترَضْنا نتيجة لتضخم زائد في هذه القسمة الثنائية dichotomy أننا نتمكَّن مِن ملاحظة الشيء بدقة أكبر لو استبعَدْنا انفعالاتنا، أَعْني أنَّنا سنكون أقل تَحيُّزًا لو أن عواطفنا لم تَتدخَّل على الإطلاق في الموضوع الذي نَتناوله». وأنَا أعتقد أن هذا خطأ فادح؛ إذ تُوجد الآن بيانات في استجابات «رورشاخ» تشير إلى أن الناس يستطيعون أن يُلاحظوا بمزيد من الدِّقة إذا كانوا مدفوعين بانفعالاتهم. أَعْني أن العقل يعمل بطريقة أفضل في حضور العواطف. فالإنسان يرى ببصر أكثر حِدَّة ودقة حين تشترك العواطف. والحق أنَّنا لا نستطيع أن نرى شيئًا رؤية حقيقية إلا إذا كنا مرتبطين به ارتباطًا عاطفيًّا. فربما كان العقل يؤدِّي عمله على أحسن وجه في حالة «الوجد» ecstasy.٤
أما من الناحية الإبستمولوجية فإن وظيفة الشعور لها دور جوهري في استشعار قيمة البحث وتوجيه مساره، وتركيز الفكر ومَنعه من التشتت في تُرَّهات غير ذات صلة. ذلك أن تقدُّم العلم واتجاهه يعتمد على الأسئلة التي نطرحها وبمقدور وظيفة الشعور أن ترشدنا إلى الأسئلة المهمة وأن تساعدنا على تفهُّم جوهر الطبيعة بدلًا من تجميع طائفة من الوقائع الجيدة التنظيم. بوسع الشعور أن يأتي العلمَ بطراز من البحث مدفوع بحب الطبيعة، بدلًا من الرغبة في التحكُّم، الانبهار بجمال الطبيعة، الانتشاء بتعلُّم أشياء جديدة، الحُبور برؤية نموذج جَدِّي ينبثق ويبزغ، الوَجْد في الاكتشاف، التَّلذُّذ بالبحث عن الحقيقة، الابتهاج بالعلاقات مع الزملاء. هذه المشاعر يمكن أن تلهم بالتحليل المنطقي للمشكلات المهمة وأن تعمل على إنمائه. من شأن التَّوحُّد مع موضوع الدراسة، والشعور بالقربى، والتَّواصل أن يُفضِي إلى معرفة أعمق. ومن شأن الشعور بالتواصل مع الطبيعة أن يخلق نزوعًا لحبها واحترامها، والحَدَب عليها ورعايتها، فيغدو البحث حوارًا مع الطبيعة بدلًا من «وضعها على المخلعة» واستنطاقها بالقوة والإكراه.٥

الإصغاء والتَّلقِّي بدلًا من الإكراه وفرْض النظام

لقد دَرَجْنا، منذ بيكون وديكارت على أقل تقدير، على تصوُّر الممارسة العلمية كعملية استجواب للطبيعة، وفرْض النظام عليها واستلال قوانينها المُسيِّرة من أَجْل قهرها وتسخيرها لمصلحتنا في نهاية المطاف. ذلك توجُّه ذكوري عدواني لا يفضي فحسب إلى تدميرنا وتدمير بيئتنا، بل إلى رعونة معرفية، وتهافُت إبستمولوجي إن صحَّ التعبير!

يفيد مبدأ «التَّلقي» الأُنْثَوي أن تصغي إلى الطبيعة بانفتاح وصَبر وسماحة وأن تكفَّ حينًا عن وضْع السيطرة والتَّسلُّط على الأشياء والتلاعب بها لكي تلاحظها فحسب وتتركها تَحدُث. وأن تتحمَّل الغموض، وتدعَ شيئًا مطويًّا في حينه. عليك في بعض الأحيان ألا تفعل بل تَنفعل، ألا تتكلم بل تُصغي، ألا «تُفسِّر» بل «تفهم»، ألا تقحِم بل تفتح كيانك لعملية تجلي الحقيقة كيفما كانت. إنه صدًى للمبدأ الفينومينولوجي «أن تترك الأشياء تظهر على ما هي عليه دون أن تُقحِم عليها مقولاتك الخاصة».

هذا التَّلقِّي الأُنْثَوي يُهيئ الباحث لاتخاذ موقف فينومينولوجي مُبرَّأ من الفروض المسبقة، ويُمكِّنه من استقبال الحقيقة كما هي، ومنحها فرصة للتَّكشُّف والبروز من التَّحجُّب، ويُفرِغ عليه صبرًا على الأسئلة التي تستغرق وقتًا طويلًا كي تتبلور، وعلى الإجابات التي تستغرق وقتًا طويلًا كي تكشف عن نفسها. كأنما هو يُنصت ويرنو إلى زهرة الحقيقة وهي تَتفتَّح أمامه تلقائيًّا، وتمنحه سِرَّها طواعية.٦
بوسع الإصغاء والتَّلقِّي أيضًا أن يُحرِّر العالَم من ربقة «النموذج الإرشادي» paradigm السائد، ويهيب به أن يَلتفت إلى الظواهر المُهمَّشة والملاحَظات الموءودة التي لا تكاد تُرى أصلًا؛ لأنها خارج قبضة النموذج السائد؛ وأن يمنحه شجاعة الترحيب بهذه الأشياء الجديدة التي كانت هنالك طوال الوقت، وشجاعة اعتراف بالخطأ والتَّخلي عن الأفكار المسبقة والنظريات الأثيرة. إن تقدُّم العلم يتطلَّب تفنيد النظريات (كما ألحَّ بوبر بصفة خاصة). وإن التنازل عن النظريات الأثيرة والنماذج السائدة يتطلَّب هذه المَلكة الأُنْثَوية — التلقي.٧

قد يستهلك التَّلقي وقتًا أطول ممَّا يستهلكه الإكراه والتَّكالُب. غير أنه قد يوفِّر على الإنسانية قرونًا من الخضوع للنظريات الفاسدة وتدليل النماذج البائدة والمراهنة على الباطل.

وهم الموضوعية

ثَمة وَهْم ذكوري سائد مُفاده أن المعرفة يمكن أن تكون موضوعية خالية من أحكام القيمة، وأنها يمكن أن تُفسِّر ماجريات العالَم الإمبيريقي ويمكن التحقُّق منها على أساس الملاحظة الدقيقة للأحداث الإمبيريقية. غير أن هذا التصور للعلم هو تصوُّر مغلوط ما دام أحد لا يرى العالَم رؤيةً موضوعية. ذلك أن الواقع المتاح لنا في حقيقة الأمر ليس هو ما يقبع أمامنا، بل ما يقبع داخل رءوسنا.

إن جهازنا الحسي وروابطنا العصبية الداخلية تتكون كنتيجة لخبراتنا الحسية الأولية، وكيف تَعلَّمْنا أن نُؤَوِّلها. ثم إن جهازنا العصبي لا يستقبل إلا ما تم برمجتنا على رؤيته. يستقبل فقط تلك المُثيرات التي تُعزِّز ما نعتقد أنه موجود وبطريقة أوتوماتيكية نحجب تقريبًا كل المثيرات المحيطة إلا النَّزر اليسير. هذا الواقع المعرفي هو نِتاج لحدود في المفاهيم كنا قد شَيَّدناها في وعْيِنا. وبعدَها يعمل جهازنا العصبي على تعزيز تلك الحدود.٨

يقوم العلم، على أية حال، على افتراض أن هناك كَونًا موضوعيًّا قابعًا هنا بمعزل عن المُلاحظ، واستقلال عن الذات العارفة، ويمكن استكشافه عن طريق البحث العلمي.

من موقع ما خارج الطبيعة، من نقطة أرشيميدية، إن شئتَ وإن كان هناك مثل هذه النقطة! يَشرع الباحث في تصويب فكرِهِ إلى أجزائها الأصغر والأصغر، ثم يقوم بتوصيف رياضي للمبادئ الكامنة وراء سَيْر الطبيعة، اعتقادًا منه أنه بِردِّ الطبيعة إلى فئة من المعادَلات أو الوحدات البنائية سوف يستطيع أن يفهم الكل بأن يعيد بناء المُعادَلات أو الوحدات البنائية معًا مرة أخرى.٩
ومن أَجْل تأكيد الموضوعية والتعويض عن راسب الخطأ من قِبَل الأفراد تلجأ المُمارَسة العلمية إلى فرض وصاية الضوابط التجريبية والاختبارات المُعمَّاة، وعشوائية مواد التجريب، وتعزيز النتائج بواسطة الباحثين الآخَرِين والتحكيم الدقيق، والصِّياغة الكَمِّية، ومَيكَنة الملاحَظات والمناهج، والاقتصار على ما هو قابِل للتداوُل والاتصال، وعلى الظواهر التي يمكن إخضاعها للضَّابط التجريبي المَتين، وإذ بَدتْ بعض الظواهر شديدة التَّغيُّر والتَّقلُّب بحيث تَعذَّرت مُجابهتُها للصعوبة المطلوبة للانتقال من مُختبَر إلى آخر، فقد حلَّ العلماء مشكلة تِكرار إجراء التجربة بالعزوف عن العوارض الخارقة والتقارير الفَذَّة، والأحداث النادرة.١٠
لقد كان ثَمن الموضوعية باهظًا حقًّا. فإذا كانت الموضوعية قد أسهمَتْ في خلْق واقع مُجْمَع عليه، فقد أتى ذلك على حساب المُختَلِف والعيني. وفي طلبهم المُلِح للوقائع الصُّلبة والمعرفة الموثوق بها يُركِّز العلماء على العالم الخارجي، عالم الوقائع، والملاحَظة الموضوعية، والإجراءات التجريبية المُتجرِّدة. وإذ يفعل العلماء الغربيون ذلك فإنهم يُعرِّفون الواقع بأنه ما يُوجد في العالَم المادي والخارجي، ويعتبرون العالم الداخلي مَحْض هوًى وخيال. وفي مُعظم مَجالات علم النَّفْس مثلًا لا يخضع للمناقشة العلمية إلا السلوك القابل للقياس، ويَستبعد معظم علماء النَّفْس مُحاوَلات دراسة الخبرة الداخلية الذاتية القائمة على ما تُقرِّره الذات. يقول عالِم النَّفْس السلوكي كنيث سبنس: «هل هذا المجال أو ذاك من ظواهر السلوك أكثر حقيقة أو أقرب إلى الحياة الفعلية، وأولى من ثم بالبحث والاستقصاء؟ ذاك سؤال لا يَعِنُّ، أو لا ينبغي أن يَعِنَّ، للسيكولوجي بوصفه عالِمًا». إنما ينبغي أن نَنتَقي للدراسة العلمية «تلك الظواهر التي تُسلم نفسها لدرجات من التَّحكُّم والتحليل تَسمح بصياغة قوانين مُجرَّدة».١١ يستدعي ذلك في الذهن منطق جُحا إذ وقع منه دِرْهم على رصيفٍ فراح يبحث عنه على الرصيف الآخَر؛ لأنه جَلِيٌّ مُضاء بِنور المصابيح!

هكذا يتبين أن مجرَّد خلْق واقع مُجمَع عليه من خلال الموضوعية لا يُعادل بالضرورة «الحقيقة» أو «الواقع». ولئن تَرنَّحت بعض الظواهر لتسقط في ظِلال العلم المُعتِمة فإن افتقارها إلى التوحيد القياسي لا يجعلها أقل واقعية.

ثَمَّة أطروحة للفيلسوف الأمريكي كواين Quine تُسمَّى «حجة التحديد الناقص» underdetermination argument تقول بأن البَيِّنة (الدليل) لا تحدِّد النظرية إلا تحديدًا ناقصًا فحسب. ذلك أن أي طائفة من الملاحَظات لا تُعد دليلًا مُؤيِّدًا لفرضيات معيَّنة إلا بربط هذه الملاحَظات بفروض خلفية مُعيَّنة. غَيِّرِ الفروض الخَلفية تَجدْ أن الملاحَظات ذاتها سوف تُؤيِّد فرضيات أخرى مختلفة تمامًا. (مثال ذلك أن مُلاحظة عدم تَغيُّر مواقع النجوم مع تَغيير موقع الناظر كانت في القرن السابع عشر تُعدُّ دليلًا على ثَبات الأرض لدى أنصار «مركزية الأرض» geocentrism، ودليلًا على البُعد الهائل للنجوم لدى أنصار «مركزية الشمس» heliocentrism). وليس ثَمَّة مبدأ مَنطقي مُحدَّد يمنع العلماء من تُخيُّر فروض خَلْفِية مُتبايِنة لتأويل مُلاحَظاتهم بالاستناد إليها. صَحيح أنه في الممارَسة العلمية الفعلية يهيب العلماء ﺑ «قيم معرفية» cognitive values مُعيَّنة لِسَد الفجوة بين النظرية والدليل؛ قيم معرفية من قَبيل البساطة، والدِّقَّة، والخصوبة، والاتساق الداخلي، والاتساق مع الاعتقادات الأخرى (المحافَظة conservatism)، إلا أن هذه القيم المعرفية قلَّما تختزل مَجال الاختيار بين الخلفيات إلى خلفية واحدة فَرْدة. وما دام مجال الاختيار ذا سعة فليس ما يمنع العلماء من اختيار خلفية الفروض وفقًا لقِيَمهم السياسية والاجتماعية، بل وفقًا لميولهم ومصالحهم. هكذا تنفذ «القيم الاجتماعية» social values في العلم نفوذًا لا مَناص منه. لِيغدو السؤال الحقيقي هو مَتى تكون القيم مصدر ثَراء للبحث؟ ومتى تكون مصدرَ إفقار وإعاقة؟ (وهذا مبحث قائم بذاته في فلسفة العلم النِّسْوية).١٢

والحق أن الدراسات الإمبيريقية لتشغيلات الذِّهن البشري تشير بقوة إلى أننا نحن البشر لا نملك سوى أن نفكر وفقًا لبعض التَّحيُّزات! فَقد بيَّن تشومسكي على سبيل المثال أن لدينا أفكارًا فِطرية لبناءات نَحوية عميقة. كما أن مبدأ التَّحديد الناقص للنظرية من جانب البيانات أو الأدلة يتضَمَّن أنه بدون بعض التَّحيُّزات فلن يتسنَّى لنا أن نجد مَعنًى لعالَمِنا على الإطلاق.

يَضطلع العارف (الذات) بدور نَشط في تشييد «موضوع» معرفته. ذلك أن للعارف «موقعًا» معيَّنًا يفرض عليه أن يرى الأشياء من زاويته. يشيد العارف موضوع المعرفة حين يَتخيَّر المصطلحات التي يجسد بها الموضوع، وحين يُحدِّد السياق الذي يَتمثَّل فيه. الأمر هنا شبيه تمامًا بالرؤية البصرية؛ فإذا كانت كل رؤية لموضوع إنما هي «رؤيتُه بوصفه كذا»، كذلك الحال بالنسبة لكل ضَرب من ضروب العرفان.

هكذا نجد أن الانحياز أَمْر لا مندوحة عنه في العلم، وأن الذات مُقحَمة في العملية العلمية بشكل لا مَردَّ له. ويبقى أن نكون على وعي واضح بافتراضاتنا وانحيازاتنا ومُسلَّماتنا المسبقة حتى يمكننا تقليص أَثَرِها إلى أقصى حد. فقبل أن نستطيع التَّحرُّر يجب أولًا أن نكون قادرين على رؤية السلاسل التي تُقيِّدنا. إنَّ الوعي بانحيازاتنا سوف يرقَى بالعلم ويُضفِي عليه مزيدًا من الثِّقة، والوعي بالتأثيرات الذاتية سوف يجعل العِلم أكثر موضوعية!١٣
على أن الذَّات ليست دائمًا عبئًا على الموضوع كما قد يُوحي تَناولُنا للجانب السلبي من الذاتية. فأحيانًا ما يكون الارتباط السيكولوجي بموضوع البحث حافزًا على الدِّقَّة والمُثابرة، «ويكون المشروع العلمي شَيِّقًا لنا؛ لأنه يهمنا على مُستوًى سيكولوجي عميق. الشخصي والذاتي يُمثِّل قوة دافعة للعلم؛ لأننا نقوم بإسقاط شئوننا الذاتية ونحاول حلها داخل المُختبَر. وهذا يبث النشاط في أعطاف عملنا ويُنير له الطريق. إننا نصبح الوعاء السيميائي الذي تحدث فيه التفاعلات، وإذا نجحنا سوف ينبثق شيء جديد».١٤
وبمجيء نَظرية الكوانتم انقشع وَهْم الموضوعية وزُلزِلَت ثُنائِيَّة الذات/الموضوع. «وبدلًا من كون جامد من الموضوعات يُلاحِظه العالِم المُتجرِّد تكشف نظرية الكوانتم عن شبكة كلية من التواصل المتبادَل». وتبعًا لمبدأ اللايقين لهيزنبرج لم يَعُد من الممكن فَصْل الأشياء عن فِعل القياس، وبالتالي عَمَّن يقوم بالقياس. نحن لا نستطيع قياس وضْع الإلكترون وعزمه في آنٍ معًا. ولا يُوجد شيء من قبيل إلكترون له العزم الدقيق والموضعُ الدقيق كلاهما. وهذا يتضمَّن أنه لا يمكن معرفة كل خصائص النَّسق معرفة منضبطة. إذا قِيسَت خاصية مُعيَّنة بدقة ستغدو خاصية أخرى غير يقينية. يقول مكس بورن: «لا يمكن وصْف أية ظاهرة طبيعية في المجال الذَّرِّي من دون الإشارة إلى المُلاحِظ. ليس فقط إلى سرعته كما في النظرية النِّسبية، بل إلى كل مَناشطه في إجراء المُلاحظة وإعداد الأدوات وما إليه.»١٥
ثمة اعتماد مُتبادَل بين المُلاحِظ والمُلاحَظ. وحتى الشيء البسيط كقياس طول خط الساحل يعتمد على منظور استشرافي للملاحِظ. فكل قياس ينبغي أن يَجري داخل سياق ما، ونقطة استشراف الباحث ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالنتائج المتحصلة.١٦ إن الواقع تَعدُّدي سياقي علائقي. والحقيقة لها وجوة عديدة. «وكل حقيقة جديدة، حتى في العلم، هي جزئية وغير مكتملة مثلما هي مَحدودة بحدود الثقافة. وفي مُقابِل المُقارَبة الذُّكورِيَّة الخَطِّية المباشرة، تتطلع عملية التطواف الأُنْثَوية إلى المشكلة من كافَّة جوانبها ومن مستوَيات عديدة، تدور حولها وترى كل علاقاتها. وإذ تمنحنا الأُنْثَوية تقديرًا للتعقيد حتى في أصغر ذرة فإنها جديرة بأن تستبدل بغطرسة العلم مَغزًى للخشوع والتواضع. وإذ ترى الأُنْثَوية العالَم عمليات دائرية متفاعلة فإنها تَحثُّنا على تأسيس نَسق قيمي مختلف. تحثُّنا على تقدير قيمة المسار ذاته إلى جانب نتيجته النهائية. ومثلما تسترعي الوسيلة في مجال العقل العملي اعتبارًا قائمًا بذاته إلى جانب الغايات، كذلك تغدو كيفية ممارَسة العلم على الدَّرجة نفسها من الأهمية التي نمنحها لما أنجزه العلم، وتكون مثل «إيثاكا» في قصيدة قسطنطين كفافيس:
لقد مَنحَتْك إيثاكا الرِّحْلة الجميلة؛ فما كنتَ تخرج إلى الطريق لولاها.
ولو وجدتَ إيثاكا فقيرة فهي لم تخدعك.
وما دمتَ قد صرتَ على هذا القَدْر من الحكمة، ولك كل هذه الخبرة،
فلا بُدَّ أنك قد فهمتَ ماذا تعني «إيثاكا»، وأي «إيثاكا».١٧

الرِّعاية – قيمة أُنْثَوية، أخلاقية ومَعرفية معًا

فُطِرَت الأنثى على الرعاية والحدب. وتكاد الرعاية تكون «خاصية جوهرية» essential property للأنثى. وإن البنية البيولوجية التي تُؤهِّل الأنثى للحمل ورعاية الأطفال طويلة المدى تُؤهِّلها بالقَدْر نفسه، وبالعدة نفسها، للمُمارَسة العلمية القويمة والمُقارَبة الطويلة الأمد. «والآن فقط ندرك الثمن المدفوع في الخفاء للمقارَبة الذُّكورِيَّة التنافسية القصيرة المدى في العلم والتكنولوجيا – ثمنًا من قَبيل التَّلوُّث البيئي، والتَّسرُّب الإشعاعي، وإنهاك التربة، وتبديد الموارد الطبيعية.»١٨
وعلى صعيد الممارَسة الفعلية يحتاج العمل العلمي إلى دَماثة أُنْثَوية في المُحاورة، واستدرار المعلومات، وتَمحيص الآراء، والكَف عن الهجوم الشخصي (ad hominem) الجارِح والمُثبِّط، ونقد المسلك بدلًا من نقد صاحبه.
يؤدِّي التنافس الذُّكُوري إلى التَّكالُب على النَّشر المُبتسَر، والبحث القصير الأمد، ورفع الكم على الكيف، والعلم التراكمي العادي normal science المُتمطِّي في حِمَى «الوضع القائم» status quo وأمان «النموذج» paradigm السائد. بينما يتيح الحنو الأُنْثَوي مجالًا لبحث الارتباطات الجديدة، وفُسحة لتبلور الإجابات عن المسائل العسيرة، ومُراغمًا للمقارَبات الطويلة الأمد، وتصبُّرًا على دلال الحقيقة. ويلهم المواهبَ الحَيَّة ما يلزمها من جسارة على البوح والمُجاهَرة بالأفكار المخالِفة. إن الأفكار التي تُجاوز النموذج الإرشادي السائد عادة ما يتلقَّاها المجتمع العلمي بالسُّخرية والنقد؛١٩ الأمر الذي قد يَكبِت أصحابها فينصرفون عنها ولا يصدعون بها، فتخسر الحقيقة بِصَمْتِهم احتمالات خِصبة ومُنطَلَقات نادرة. بديهٌ أن العِلم الثوري revolutionary science لا يُولد ولا يَزدَهِر إلا في كنف أمومي أُنْثَوي.

التعاون والتكافل في مُقابِل التنافس والصراع

وفي مُقابِل مبدأ الصراع والتنافس الذي درَجْنا على اعتباره المبدأ المُسيِّر للطبيعة وللتطور، تَجبَهُنا النِّسْوية بمبدأ التعاون والتعايش بوصفه المبدأ الأعم والأقوى، وترسم صورة للطبيعة من حيث هي تحالُف تعاوني أكثر مما هي ساحة قَنْص قاسية لا مُبالية. إن التعايش التكافلي هو مَدار البحث الأُنْثَوي الفريد. ومن حيث هو علم العلاقة يُعطينا نموذجًا للاعتماد المتبادَل على المستوى البيولوجي.

من شأن التركيز على النموذج التنافسي أن يُغَشِّي أبصارَنا عن رؤية الجانب التعاوني من الطبيعة، ويجعل تفكيرنا أُحادي الجانب في فَهْم الماجَريات، وفي حل المشكلات. والأُنْثَوية هي الجديرة بأن تُبدِّل منظورنا وتُؤدِّي إلى إثارة أسئلة عن الطبيعة جديدة بشكل جذري. وبدلًا من افتراض أن التنافس هو قانون الطبيعة يُقدِّم لنا البحث الأُنْثَوي أمثلة لا حصر لها على دور التعاون في التطور، بل في علاج المشكلات المُستعصية. إن المُعايِش المُتكافِل، على سبيل المثال، هو أنجح «الطفيليات» (لاحظ أن التسمية نفسها مُحمَّلة بحكم قِيمي مُسبَق!) لأنه لا يقتل مُضيفَه فيفْقِد بالتالي مَأوَاه، وربَّما يُقدِّم إليه من المنافع أكثر ممَّا يأخذ منه، وهكذا يُفضِي التعاون إلى «بقاء» الطرفين.٢٠ وثمة أمثلة عديدة على أن التعايش التكافلي يَتفتَّق عن «جدة» novelty بيولوجية وراثية أبعَدُ كثيرًا مما يفعله تَراكُم الطفرات والمُصادفات. فالتكافل ليس مُجرَّد شُذوذ طارئ في الطبيعة، بل هو قوة أساسية للبقاء والتكيُّف. يبين البحث الأُنْثَوي أن التنافس ليس هو القانون السائد في الطبيعة، رغم أنه يلعب دورًا، فثَمَّة إلى جانب ذلك حوار خَفِي بين الكائنات يشمل حتى الخلايا النووية. ثَمَّة «رقصةٌ للتنامي» ينبغي أن نَلتفِت إليها، ونُنصت إلى توافقات نغمها، لكي يتسنى لنا فَهْم أعمق لحكمة الطبيعة التي لا يمكن أن يَختزِلها مبدأ واحد من قَبيل التنافس أو الصراع. هنالك يُمكننا أن نُغيِّر حتى الطريقةَ التي تُعالَج بها الأمراض! من ذلك أن بعض الباحثين استَنُّوا طريقة جديدة في علاج صِنف مُعيَّن من سرطان الدم يَتميَّز بنمو شاذٍّ لبعض كُرات الدم البيضاء غير الناضجة، والتي لا تُتِم دَورَتها الحياتية وبالتالي لا تموت. وبدلًا من التَّوجُّه الذُّكُوري الذي لا يرى إلا «دَحْر العَدُو» فيعمد إلى قَتْل الخلايا السرطانية بالعلاج الكيميائي (الذي لا يندر أن يقتل المريضَ أيضًا بالنَّزف الشديد)، بدلًا من ذلك يحاول هؤلاء الباحثون مساعَدة الخلايا السرطانية على أن تنمو نموًّا طبيعيًّا حتى النُّضج، باستخدام الأحماض الرتينوية التي تساعد الخلايا البيضاء اللوكيمية غير الناضجة على أن تتم نموها، وبالتالي تموت مِيتة طبيعية بعد انقضاء عُمرها المُقدَّر العادي، ويحل مَحلَّها خلايا فَتِيَّة قادرة على النمو السوي. تلك مُداواة أتت من مقاربة أُنْثَوية، من منظور مساعدة خلية السَّرَطان بدلًا من محاربتها!٢١

وعلى صَعيد الممارَسة العلمية يؤدِّي التنافس الذُّكوري المحموم بين الباحِثين إلى الإِحَن والضغائن، وإلى حَجْب البيانات، والاستئثار بالموارد، وابتسار النتائج، ومُسايرة النموذج السائد، والصعود على رقاب الزملاء الواعدين. فينحسر المد العلمي الحقيقي ويكون العلم نفسُه هو أوَّلَ ضحايا المُقارَبة الذُّكورِيَّة التنافسية.

الحدس أداة معرفية لإدراك «الكل»

يرتبط الحدس في ثقافتنا بالأُنْثَوية، من حيث هو استبصار أو معرفة مُجتَناة من دون تفكير عقلاني مثبت؛ أي من حيث هو إدراك غامض ولا عقلاني في ظاهره. وتُشير دراسات عن حساسية البشر للتواصل غير المنطوق إلى أن النساء أكثر التفاتًا إلى التلميحات البصرية من قبيل؛ تَعبير الوجه، وإيماءة الجسد، ونبرة الصوت، ونظرة العين. غير أن الحدس أكثر من مجرد ملاحظة نافذة. إنه وعي كلِّي يتضمن حساسية منبثة في كلا العالَمَين الداخلي والخارجي، وأحيانًا ما يَتجاوز «المُدخَلات» inputs الآتية عن طريق الحواس. تتسم محتويات الحدس بأنها «معطاة» given، في مُقابِل محتويات التفكير والشعور التي تتسم بأنها «مستنتَجة»! أو «مُستدَل عليها» inferred.
حين تقتصر مُمارَسة العلم على النمط الحسي التجريبي المُسترشِد بالوقائع الصلبة يصبح العالَم مرتهَنًا للوقائع لا يبرحها، وقد يجد نفسه بعد سنوات من العمل المُضْنِي سائحًا في ركام من الفُروض التافهة والمُلاحظات الجزئية التي لا تَعني شيئًا. بيْنَا تتحلَّى وظيفة الحدس بالقُدرة على تَجاوُز الوقائع واستبصار احتمالات المُستقبَل، والقفز إلى الأمام لتتساءل: «ما الذي سأفعله بهذا؟ إلى أين سأذهب الآن؟ ماذا يعني هذا؟» مَن يضطلع بالإحساس يُدرِك التفاصيل، بينما يبحث الحدسي عن النماذج.٢٢ وفي مجال الأنظمة غير الخطية بصفة خاصة لا يُسعفنا المنطق في التَّنبُّؤ. غير أنه عن طريق الوعي الحدسي بالنموذج ككل يهبنا الحدس مرونة وقدرة على الاستجابة التلقائية للتغيُّر.
يُظهِرُنا تاريخ الممارَسة العلمية على أن الاقتحامات الكبرى في العِلم تأتي عن طريق الحدس. ثَمَّة دائمًا قَفزة إبداعية تتجاوز المعلومات المتاحة وتضيف إليها شيئًا ما مستجدًّا. وأحيانًا ما تأتي ومْضة الاستضاءة من الأحلام بالمعنى الحرفي … أحيانًا ما يحلم العلماء نظرياتِهم حلمًا! وفي كتابهما «الإبداعية العالية: تحرير اللاوعي من أجْل انطلاق الاستبصارات» يعرض وليزهارمن وهوارد راينجولد عددًا هائلًا من الأحلام العلمية؛ مثل حلم كيكوليه بِبنْيَة حلقة البنزين؛ إذ رأى في منامه أفْعَى تعض ذيلها (وقيل عِدَّة أفاعٍ تَعضُّ كل واحدة ذيل تاليتها)، وحلم نيلز بور بالنِّظام الشمسي كنموذج للذَّرَّات، وحلم دمتري مندليف بالجَدْول الدوري للعناصر.٢٣

الترابطية – رؤية «الكل»٢٤

اقتفى العِلم الغربي الذُّكُوري طريق المنطق الخطي والتحليل والتَّفتيت والتجزئة. ولقد بَرعْنا جميعًا في تقسيم الأشياء إلى مُكوِّناتها الصغرى، بَرعْنا لدرجة أنَّنا نميل إلى نِسيان إعادة الشَّظايا إلى بعضها البعض مرة أخرى. بينما تميل الأُنْثَوية إلى رؤية كل جزء في سياقه، بوصفه جزءًا من صورة أوسع. ويمكن أن يَهبنا حدسُنا رؤية للكل:

تميل الأُنْثَوية إلى اتِّخاذ الموقف الإيكولوجي الذي يُمثِّل نقيضًا للموقف العلمي التقليدي الذي يَقوم على التجزئة، والتحليل، ويَعوق بحكم طبيعته ذاتها فَهْم الأنظمة الإيكولوجية. فالفكر العقلاني التقليدي هو فكر «خَطِّي» linear، بينما ينشأ الوعي الإيكولوجي عن حدس عميق بالأنظمة غير الخطية. إن من رُعب الأمور على أهل ثقافتنا أن يُدركوا حقيقة أنك إذا فعلتَ شيئًا ما صالحًا، فإنَّ المزيد من الفعل نفسه لن يكون بالضرورة أصلح. هذا هو جوهر الفكر الإيكولوجي. فالأنظمة البيئية تحفظ نفسها في توازن دينامي قائم على دورات وإيقاعات. هذه الدورات والإيقاعات هي عمليات غير خَطِّيَّة. ونحن حين نتمادى في مشروعات خَطِّية من قبيل النمو الاقتصادي، والتِّقَني غير المحدود، أو حِين نُراكم نُفايات نووية ذات إشعاع هائل الأمد، فإن فِعْلَنا سيُؤدِّي بالضرورة إلى الإخلال بالتوازن الطبيعي، وإن عواقبه ستكون وبالًا عاجلًا أو آجلًا.٢٥
لن ينشأ الوعي الإيكولوجي إذن ما لم نَقرن معرفتنا العقلية بشيء من حدس الطبيعة غير الخَطِّية لبيئتنا. كانت هذه الحكمة الحدسية صفة مُتأصِّلة في الثقافات التقليدية يوم كان الإنسان على صِلة مُباشرة بالطبيعة من حوله. أما اليوم وقد بلغتِ التقنية مَداها فقد بات الإنسان يَعيش في بيئة مُصطَنعة، وفَقَد الاتصال بأصلِه الإيكولوجي والبيولوجي، وصار يُعانِي من تَفاوُت كبير بين نُموِّه العِلْمي والتِّقني من جهة، ونُموِّه الرُّوحي والخلقي من جهة أخرى. «وكأن السيد قد صار عليلًا هزيلًا لا يَقوَى على قِياد كلبه المُريد الذي يَشُدُّه إلى بقاع خطرة يمكن أن تُودي بحياته».٢٦
تُعدُّ نظرية الأنظمة من تَجلِّيات الوعي البيئي وترجمة نظرية للفكر الإيكولوجي الناشئ. وهي نظرية تنظر إلى العالَم من حيث هو علاقات مُتبادَلة بين جميع الظواهر، واعتماد مُتبادَل بين جميع الأشياء. فالكائنات الحية والمجتمَعات والأنساق البيئية الكُبرى، كل أولئك أنظمة أو أنساق. تنتظم هذه الأنساق في صورة بِنيَات مُتعدِّدة المُستوَيات، يتكون كل مستوًى من أنظمة تَحتِيَّة. كل نظام تَحتِيٍّ هو «كل» بالنَّظر إلى أجزائه وهو «جُزء» بالنَّظر إلى النظام الأعلى الذي يندرج فيه. هكَذا تَجتمِع الذَّرَّات فتُكوِّن جزيئات، وتَتَّحِد الجزيئات فتُكوِّن بِلورات، أو لتكون — في الأحياء — عُضَيَّات (أعضاء الخلية)، والتي تَتَّحِد لتكون الخلايا. ومن اجتماع الخلايا تَتكوَّن الأنسجة والأعضاء التي ترتبط معًا لتكون الأجهزة المُختلِفة، ومِن تضافُر الأجهزة يَتشكَّل في النهاية ذلك الكائن العضوي أو «المُتعَضِّي» organism — الإنسان. ومن أفراد البشر تَتكوَّن الأمم، ويمضي التَّراتُب صُعدًا فتتكوَّن الأنظمة الدولية. وما تَلبَث الأنظمة الأعلى أن تَضُم معًا مكوِّنات حية وغير حية، وتشمل الأنساقَ البيئية، والكواكب، والأنظمة الشمسية، والمجرات … إلخ.٢٧
للأنظمة الأكثر تعقيدًا، والتي تقع على مستوى أعلى في التَّراتُب، خصائص لا يمكن وصفها بالحدود المستخدَمة في وصف مكوِّناتها أو أنظمتها التحتية الواقعة على مستوى أدنى، دون إغفال جوانب مُهمة من تلك الأنظمة. مثل هذه الخصائص الجديدة التي تَبزُغ أو «تنبثق» في التركيبات أو الأنساق الأكثر تعقيدًا تُسمَّى «الخواص الانبثاقية» emergent properties. وبتَعبير أبْسَط: حين تجتمع بعض المكونات لتُكوِّن نظامًا (نسَقًا)، تَبزُغ لهذا النظام الأعقد صفات جديدة لا يمكن التَّنبُّؤ بها بشكل كامل من خلال صِفات مكوِّنَاتها.
هكذا تَلفِتُنا نظرية الأنظمة إلى حقيقة ما تَفتأُ تُواجِهنا على الدوام. وهي أننا لما يَتسنَّى لنا أن نَستنبط خواص مُفردات أكثر تعقيدًا من خواص مُكوِّناتها. خواص الماء على سبيل المثال، كالسيولة أو الميوعة، هي خواص لا تُشبِه من قريب أو بعيد خواص الأوكسجين أو الهيدروجين. وهكذا تَتجلَّى لنا مَزالق النَّزعة الرَّدِّية (الاختزالية) reductionism في أوضح صورة. ذلك أن أنساق الطبيعة تنطوي على «جدة» novelty حقيقية. وأن للمستوى الأعلى من مستوَيات الوجود صفاته الجديدة وقوانِينه الخاصَّة التي يجب أن نَتوجَّه إليها مباشرة، ونُقابلها على أرضها الخاصَّة وندرسها بِحقِّها الشخصي.٢٨

ولعل أهم ما يمكن أن تسهم به الأُنْثَوية في العلم هو رؤية «الكل»، والنظر إلى العلاقات بين الأشياء، رؤية الأشياء في سياقها، استبصار الروابط التي تربط الأشياء جميعًا معًا، الرجوع خُطوة إلى الوراء من أَجْل رؤية الصورة الكبرى. وإذ نفعل ذلك نجد «الكل» يُسبِغ المعنى على الأجزاء. تُقدِّم الأُنْثَوية بِتوجُّهِها البيئي التَّرابطي الكلي، التِّرياقَ الناجع لأدواء النَّزعة التجزيئية الرَّدِّية، والمنظورَ المُكمِّل المُوازِن للمنظور الذُّكُوري الخَطِّي الضيق.

كانت الرؤية الأُنْثَوية حاضرة دومًا في العلم، ولكنها كانت مُنتبَذة في الظل. ما تزال المشروعات العلمية التي تحظى بالتمويل الأكبر هي المشروعات التي يُسوِّغها الافتراض الرَّدِّي القائل إنه إذا كانت الأجزاء الأساسية مَفهومة فسوف يتم إذن تفسير البقية الباقية من الطبيعة. تشمل هذه المَشروعات تحديد الجُسيمات الأساسية بُمعجِّلات الجُسَيم، واستقصاء الجينوم البَشري.

لقد أدَّى التصور الديكارتي — النيوتني — البِيكوني للطبيعة كآلة ميكانيكية إلى شُعور الإنسان بالانفصال كما لو أن الطبيعة كِيان مُغاير يَتوجَّب على الإنسان أن يُلجِمه ويُسخِّره لمَصلحَتِه. غير أن عِلم البيئة، مِن حيث هو عِلم أنظمة يُجسِّد الرؤية الأُنْثَوية الكلية، يُظهرنا على أن الحياة شَبكة من العلاقات المُتبادَلة بين الكائنات وبيئاتها، ومن ثم تَتأثَّر المنظومة بأَسْرِها حين استئصال نَوع واحد من الأنواع الحية.٢٩ يُظهِرنا علم البيئة على أن التبديد السَّفِيه، والسَّحب المُتلِف من الرَّصيد البيئي لسد الحاجات العاجلة إنما هو فَقْر حقيقي ورخاء وهَمْي لا يحل أزمة، بل يُرجِئها ويُرحِّلها إلى الأجيال المُقبلة. إن اللُّهاث التكنولوجي القصير النظر قد انتهى بِنَا إلى تَلوُّث بيئي وأمطار حِمضية وتَسرُّب إشعاعي، وأصاب أرضنا بالحمَّى. ويوشك أن يَجعلَها كوكبًا غير صالح للسُّكنى. لقد أسْلَمنا، نحن البشر قِيادنا لسلطان ذكوري فاستخَفَّ بنا وأرهَقَنا، ونحن اليوم في أمَسِّ الحاجة إلى مُوازِن أُنْثَوي يُعيد الأمر إلى نِصابه قبل فوات الأوان.

نظرية الشَّواش – علم أُنْثَوي جديد

يُعَد علم «الشَّواش» أو «الفوضى» chaos نصيرًا جديدًا لمفهوم «الكلية» ومناوئًا شديدًا للنَّظرة «الرَّدِّية» والتَّفكير الخَطِّي. يبرهن علم الشَّواش رياضيًّا على التواصل الداخلي بين الأشياء جميعًا، ويثبت أن الكون «لاخَطِّي» عليك أن تدرسه من الزاوية الكلية، وأن سلوك المنظومة المُعقَّد يمكن أن يأتي كمُحصِّلة لتفاعلات بسيطة ولاخطية بين عَدد بسيط من المكوِّنات، ولا يَمكُن استنباطه أو تَوقُّعه من معرفة المُكوِّنات المنفردة. تكشف نظرية الشَّواش كيف أن اللايَقينِيَّات والتَّقلُّبات الصغيرة على مستوى الكوانتم يمكن أن تَتضخَّم بعمليات تِكرارية (كالفائدة المركَّبة على حساب البنك) حتى يصبح لها تأثير جوهري على العالَم الأكبر. يمكن أن يَطفو تَقلُّب الكوانتم ليصل إلى مُستوى واقع الحياة اليومية. بذلك تُؤكِّد النظرية مبدأ اللاحتمية، وتُفرِغ مكانًا للإرادة الحُرَّة داخل النظرية العِلمية للعالم؛ وتُبيِّن الطبيعة التكرارية للمعادَلات اللاخَطِّيَّة التي تُمثِّل التواصل الداخلي بين المنظومات الديناميكية، وتُضخِّم التغيرات الطفيفة في المَنظومات اللاخَطِّيَّة، بحيث إن أقل تَغيير في الأحوال المَبدئية أو الشُّروط الأولية قد يُفضِي إلى تأثيرات دِرامية في منظومات كبيرة من خِلال شبكة مباطنة من العلاقات. تلك التأثيرات التي يُوجِزها ما يُعرف ﺑ «أثر الفَراشة» butterfly effect الذي يَقول بأن «رفرفة فراشة بجناحيها اليوم في طوكيو يمكن أن تَتحوَّل إلى منظومات لعاصفة تَهُب الشَّهر القادم في نيويورك»٣٠

ناربروميثيوس

ليس أخطر على العلم وعلى المجتمع وعلى الطبيعة بأسرها من ذلك المعتقَد الذي يعتنقه كثير من العلماء، والذي يقول بأن «المعرفة محايدة»؛ يمكن استخدامها في الخير أو في الشر، وأن مُهمة العالِم هي إنتاج المَعرفة لا تطبيقها، وواجبه أن ينصرف إلى تقديم مَعارف جديدة ولا شأن له بعواقب استخدامها. بذلك أعفى العلماء أنفسهم من حَمل أمانة القيم، وأشفقوا منها ووضعوها على عاتِق غيرهم من صانعي القرار، وتركوا القرارات الأخلاقية لأولئك الذين يُطبِّقون المعرفة. هكذا حدث الصدع بين وظيفتي «التفكير» و«الشعور» في الممارسة العلمية، وطفق العلماء يبتهجون بِحل المشاكل العاجلة دون أن يَلتفِتوا إلى عواقب الحل.

غير أن هذا المعتَقد الوجيه في ظاهره ينطوي على مغالَطات صَميمة. فالعلم، من جهة، نشاط مُؤسَّسي يُموِّله دافِعو الضرائب، وينبغي من ثِمَّ أن يأخذ مصلحتهم الشخصية في الاعتبار. ومن جهة أخرى فإن العلم والتكنولوجيا، النظرية والتطبيق، اللوجوس والبراكسس، مُتداخِلان تداخلًا وثيقًا لا انفصام له؛ فالتطبيقات التكنولوجية ترتكز على العِلم النظري، كما أن العلم النظري نفسه يسترفد التكنولوجيا؛ أي إن أشكال التقدم التكنولوجي؛ مثل: المَجاهر والمَقارِب الإلكترونية، والحاسبات الآلية تُؤدِّي إلى مزيد من التقدُّم في العلم البحت.٣١ ومن جهة ثالثة فإن العلم البَحْت تحدُوه غالبًا غاية تطبيقية معيَّنة، ولا تخلو التطبيقات من قِيَم كامنة لا يمكن تجاهلها. بل إن تطبيقات العلم تُغيِّر الأنماط الاجتماعية والحياة اليومية للناس. وقد كان أَينشتَيِن يَعزو تدهوُر السلوك الأخلاقي للناس، وتحلُّل بنية المجتمَع إلى العقلية العلمية الباردة، ومَيكنة حياة البشر، ونَزْع السِّمة الإنسانية منها. يقول أَينشتَيِن: «هذه الكارثة مُنتَج جانبي لتطوُّر العقلية العلمية والتقنية. إننا مُذنِبون؛ يسير البشر نحو البرودة أسرع مما يسير إليها الكوكب الذي يعيشون عليه». (أَينشتَيِن — كيف أرى العالَم)
لا يمكن أن يَتنصَّل العالَم من أمانة القيم. وليس أخطر مِن توهُّج «التفكير» مع برودة «الشعور». وعلى حُرَّاس بوابة المعرفة أن يكونوا على درجة من النُّضج النفسي والانضباط اللازم للتعامل مع البأس بصورة ملائمة. ذلك أن «نار بروميثيوس» يمكن أن تحرق أيضًا. وأن مُقارَبة العلم بعقل «لاأُبالِيٍّ» أُحادي الجانب يمكن أن تُودي بحياة الجميع. ومثلما كان المعلِّم الصوفي لا يُطلِع التلميذ على المعرفة قبل أن يكون أهلًا لها، ومثلما كان مُحارِبو الكلتك يَتمرَّسون بالشِّعر قبل أن يَتمرَّسوا بحمل السلاح، يمكن أن يبحث العلماء بالمِثْل عن تدريب القلب، مُسترشِدين بالقيم الأُنْثَوية في تناوُل التساؤلات المُعقَّدة التي تُثار على الحدِّ الفاصل بين العلم والمجتمَع.٣٢

كارل يونج — العلم في أزمة منتصف العمر

يقدم علم النَّفْس التحليلي عند كارل جوستاف يونج إطارًا تصوريًّا يُعمِّق فهْمَنا لأُنْثَوية العلم ودَورِها الحيوي في حل أزْمَة العِلم في مرحلة النُّضج الراهنة. لقد باتَ من الواضح والمسلم به أن الإنسان حيوان «ثُنائي الجنس» bisexual بمعنى ما. فقد ثَبت من الوجهة الفسيولوجية أن الذَّكر لديه شيء من هرمون الأُنُوثة، وأن الأنثى لديها شيء من هرمون الذُّكورة. وتَبيَّن من الوجهة السيكولوجية أن الخصائص الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية المُتقابلة موجودة معًا في كِلا الجنسين. ثمة «نموذج أثري» archetype أُنْثَوي لدَى الرَّجُل يُسمِّيه يونج «الأنيما» anima ونموج أثري ذُكوري لدى المرأة يسميه «الأنيموس» animus. يفهم الرجل طبيعة المرأة بفضل «الأنيما» التي تقبع في لاوعيه (وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة). على أن إسقاط النموذج المِثالي على امرأة حقيقية في الحياة قد يُؤدِّي إلى خَيبة أمل لدى الرجل إذا كان التفاوت كبيرًا بين المثال والواقع».٣٣
ويُقسِّم يونج الوظائف النفسية إلى أربعة وظائف أساسية: التفكير، والشعور، والإحساس، والحدس بإزاء أي موضوع راهن يضطلع «الإحساس» بتمييزه والتعرُّف عليه، و«التفكير» بفهم معناه، و«الشعور» بتقدير قيمته، والحدس بالتكهن باحتمالاته: من أين جاء؟ وإلى أين يمضي؟ وعادة ما تَنمو إحدى الوظائف الأربع على حساب الوظائف الأخرى، وتزداد تمايزًا، وتتولَّى الأمر على مستوى الوعي، وتُسمَّى «الوظيفة العليا». أما الوظيفة الأقل نموًّا وتمايزًا فتُكبَت في اللاوعي، وتُعبِّر عن نفسها في الأحلام والخيالات، وتُسمَّى «الوظيفة الدنيا»، وقد تمور وتفور أحيانًا وتثور ثورات بركانية تُؤدِّي إلى استجابات غير مُتوقَّعة، وسلوك غير مفهوم أو غير مُبرَّر.٣٤
يذهب يونج إلى أن غاية الحياة النفسية هي السعي نحو «الكلية» wholeness؛ أي تكامُل العناصر النفسية المتقابلة واندماجها في وحدة كلية هي «الفرد» يتطلب ذلك أن يعقد هذا الفرد ضربًا من الوصل بين الجوانب الشعورية والجوانب اللاشعورية في نفسه. إنها رحلة طويلة شاقَّة. رحلة الكدح إلى وجْه الله، البحث عن الله في داخلنا، الخبرة التامَّة للنموذج الأثري ﻟ «الذات» Self.٣٥
لن يكون تكامُل ولن تَكون وحدة بين الوعي واللاوعي ما بَقِي أحدهما مقموعًا من جانب الآخَر. وإذا لم يكن بُد من الصراع بينها فليكن صراعًا عادلًا يحفظ لكل طرف حقوقه. للوعي أن يَصون نَفْسه ويدافع عن مَنطقه وعقلانِيَّته؛ على أن يَهب اللاوعي أيضًا فُرصة للتعبير عن نَفسه واتِّخاذ سُبله الخاصة. بذلك ينفتح باب الصراع بينهما وباب التعاون في الوقت نفسه. هكذا ينبغي أن تكون الحياة الإنسانية. إنها اللعبة القديمة للمطرقة والسندان، يَتشكَّل بينهما الحديد الصَّبور، ويبلُغ أَشُدَّه ويستوي كُلًّا متماسكًا لا يَنحطم ولا يَتْلَف. ذلك هو «الفرد» وتلك هي عملية «التَّفرُّد» individuation التي تستغرق العمر كله، غير أنها تَشتدُّ وتتأزَّم في منتصف العمر.٣٦
من المُتعيَّن على الإنسان في مُنتصف العمر أن يفهم تلك الجوانب من نفسه التي كبَتَها بلا هوادة في حَومة صراعه من أجْل العيش، وغمرة سعيه إلى النَّجاح أو اللذة. هنالك لا تَعود تَشفيه طموحات الشَّباب، وهنالك تُبهَت مُثلُه وقيمه، وتَفقد بريقها الأول. وتَغدو مُشكلته الكبرى هي أن يَجد معنًى جديدًا للحياة وغاية للعيش. ومن عَجب أن جواب سؤاله يقبع غالبًا في الجانب الأدنى والمُهمَل والضَّامر من شخصيته. تلك رحلة سيكولوجية قد يكون مَسارُها شَديد الزَّلَق والتَّعرُّج. وعلى المُرتَحِل في هذا المسار أن يُواجه حقيقته المَحجوبة عن أنظاره ويُقابل الوجه اللاشعوري من شخصه، والذي قد يكون مخيفًا مرعبًا وسوف يقابل أيضًا النماذج الأثرية من لاشعوره الجمعي ويواجه خطَر الاستسلام لفِتنَتِها الخاصة. فإذا كُتِب به النجاح فسوف يَعثُر في النهاية على «الكنز المفقود». على نموذج «الكلية» wholeness … نَموذج «الذات» self.٣٧
الأمر هنا أشبَه بنهر كان قد بدَّد نفسه في مجارٍ فرعية راكدة ومُستنقَعات سبخة، فإذا به فجأة يَعثُر مرة ثانية على مَجراه الصحيح، أو كأن حجرًا جاثمًا على بذرة نابتة قد رُفِع عنها فتَمكَّن فرعُها من أن يبدأ نُموَّه الطبيعي. لقد تَحرَّرت الشخصية، والْتَأمَت، وتَحوَّلت فإذا هي «فرد» بكل معنى الكلمة.٣٨
هكذا يَتبيَّن هدَف التحليل عند يونج بوضوح وجلاء: تحقيق كلية النفس. تُمثِّل عملية التحليل في التَّعرُّف على جوانب من نفوسنا كنا قد أنكرناها، واستعادة الاتصال والتَّدفُّق بين جوانب من نفوسنا كنا قد جزَّأنَاها إلى قطاعات مُنفصلة مُحْكَمة الحدود. إن الكلية هي تفاعُل دينامي بين المتقابِلات يشبه الخَفقان بين «الين» و«اليانج» في الطَّاويَّة.٣٩

والعلم في تطوُّره وارتقائه عَبْر العصور يمر بالمراحل نفسها التي يمر بها الفرد في نُشوئه، وأزَمات نُموِّه. لقد اتخذ العلم طريقًا ذكوريًّا، وانفصل عن الطبيعة ليلاحظها من خارج ويدرسها بطريقة موضوعية تحليلية كَمِّيَّة تعتمد على مَلكة التفكير المتجرِّد من العواطف، ويَرُد أنساقها المُعقَّدة إلى أجزائها المكوِّنة، ويُلجمها بمعادَلاته لكي يأمن بأْسَها، ويختزل تعقيداتها، ويُضفِي النظام على فَوضَاها، ويَفهم الكل بإعادة تركيب وحداته البنائية. وأسكَرَته نجاحاته التطبيقية فظلَّ سادرًا في نهجه التجزيئي الرَّدِّي دون إدراك لحدود هذا النَّهج وقصوره. وجعَل يغزو الطبيعة دون تقدير لعواقب استنزافها وزعزعة توازنها. كابتًا بين ذلك كل مبدأ متناقِض ومُلقِيًا به إلى الظل، هكذا احتجبَت الترابطية والنظرة الكلية، وتنحَّى الشعور والحدس عن المُمارَسة العلمية. وباختصار: تم نفيُ الجانب الأُنْثَوي من العلم إلى غياهب الظلال المُعتِمة.

ربما كانت تلك مرحلة لا بُدَّ منها لتفَتُّق العلم وتُطوُّره. غير أنها أفضَت في النهاية إلى أزمة مُنتصَف العمر التي يعيشها العلم الآن. لقد ثارت الأُنْثَوية المَكبوتة تورة بركانية اخترقَت نِطاق الوعي، وصَمَّت آذان الجميع بأسئلة مُلحَّة: ما معنى كل هذا؟ كيف سيُفيد الجنس البشري أو الكوكب الأرضي من هذا؟ لقد أدَّت تنحية الحدس إلى عجز عَن تشكيل النماذج، وعجز عن رؤية الترابطية الصَّميمة في الطبيعة. وكانت نظرية الأنظمة، ونظرية الكوانتم، وعلم البيئة، وعلم الشَّواش بمثابة لطمات مُوجِعة للمنهج الذُّكُوري الرَّدِّي الخَطِّي.

وبينما تُحاوِل الفيزياء الحديثة تَفهُّم الكل فهمًا رَدِّيًّا عن طريق البدء بأكثر الأجزاء أوليةً، يقترح ديفيد بوم، وهو في طليعة علماء الفيزياء النظرية في العالم «فيزياء ما بعد الفيزياء»، الفيزياء التي تبدأ بالكل. تذهب الفيزياء الكلاسيكية إلى أن الواقع في حقيقته جُسَيْمات ضئيلة، بينما يقترح بوم العكس وهو أن الواقع الأساسي اشتمال وانبساط، وتلك الجُسَيمات تجريدات من هذا.٤٠ يقترح بوم علمًا جيدًا لا يفصل بين المادة والوعي، حتى إن الوقائع والمعنى والقيمة تقوم بتبصير العلم على حد سواء. عندئذٍ سوف يَمتلِك العلم أخلاقيَّاته المُتأصِّلة، ولن ينفصلَ عن الحقيقة، والفَضيلة مثلما ينفصل عنهما في الواقع الراهن، ولن يكون طريقة محايدة أخلاقيًّا لمُعالجة الطبيعة مثلما تقول النظرية السائدة اليوم.
«إذا استطعنا أن نمتلك شعورًا حدسيًّا وخياليًّا بالعالَم ككل بوصفه مشيدًا كنظام مُتضمَّن، وأيضًا نشتمل نحن عليه، سوف نستشعر أننا وهذا العالَم شيء واحد. ولن نعود لنقنع فقط بمعالجته بالوسائل الفَنِّية من أجْل مصالحنا المفترَضة. بل سنشعر بحب حقيقي له. سوف تَتملَّكنا الحاجة للعناية به، كما هو الأمر بإزاء أي شخص قريب منا ونضَمُّه نحن كجزء لا يتجزأ منا.»٤١

لقد بات من المُتعين على العِلم في منتصف عمره أن يَسترِد الأُنْثَوية من منطقة الظِّلال المُعتِمة، ويُسلِّط عليها ضوء الوعي ويَدمِجَها بذاته ويكتمل بها، ويسترشد بخصائصها: الشعور، والتَّلقِّي، والذاتية، والتَّعدُّدية، والرعاية، والتعاون والحدس، والترابطية. «ومثلما ينبغي أن تتكامل الذُّكورِيَّة والأُنْثَوية في الأفراد إبَّان رحلتهم إلى الكُلِّيَّة، بالمِثل تمامًا يجب أن يعانق العلمُ الأُنْثَويةَ لكي يُقدِّم نفعًا أكثر اكتمالًا هذا الكوكب».

د/عادل مصطفى
١  ليندا شبرد، أُنْثَوية العلم، ترجمة د. يمنى طريف الخولي، عالَم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عدد أغسطس ٢٠٠٤م، ص٨.
٢  المصدر السابق، ص٩.
٣  عادل مصطفى، صوت الأعماق، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٤م، ص٣٠٩-٣١٠.
٤  رولو ماي، شجاعة الإبداع، ترجمة فؤاد كامل، دار سعاد الصباح، الكويت، والقاهرة، ١٩٩٢م، ص٥٧.
٥  أُنْثَوية العلم، ص١٠٧.
٦  أُنْثَوية العلم، ص١١٦.
٧  المرجع نفسه، ص١٢٠.
٨  المصدر نفسه، ص١٣٣.
٩  المصدر نفسه، ص٤٨.
١٠  المصدر نفسه، ص١٤٤.
١١  Rollo May & Ervin Yalom, In ‘Current Psychotherapies,’ F. E. Peacock Publishers, 1989, p. 370.
١٢  Longino, Helen, 1990, Science as Social Knowledge, Princeton, N. J.: Princeton University Press.
١٣  أُنْثَوية العلم، ص١٤٩.
١٤  المرجع نفسه، ص١٥٨.
١٥  المرجع نفسه، ص١٥١.
١٦  المرجع نفسه، ص١٥٣.
١٧  ديوان كافافيس، الترجمة الكاملة عن اليونانية للدكتور نعيم عطية، دار سعاد الصباح، الكويت والقاهرة، ١٩٩٣م، ص٣٥.
١٨  أُنْثَوية العلم، ص٢١.
١٩  أُنْثَوية العلم، ص٢٠٧.
٢٠  المرجع نفسه، ص٢٢٧.
٢١  المصدر نفسه، ص٢٣٠-٢٣١.
٢٢  أُنْثَوية العلم، ص٢٥٨.
٢٣  المصدر نفسه، ص٢٧١.
٢٤  المصدر نفسه، ص٢٧٩.
٢٥  صوت الأعماق، ص١٠٣.
٢٦  المرجع السابق، ص١٠٤.
٢٧  المصدر السابق، ص١٠٤-١٠٥.
٢٨  المصدر نفسه، ص١٠٦.
٢٩  أُنْثَوية العلم، ص٢٨٨-٢٨٩.
٣٠  المصدر نفسه، ص٢٩٥–٢٩٩.
٣١  المصدر نفسه، ص٣١٣.
٣٢  المصدر نفسه، ص٣٢٥–٣٢٨.
٣٣  Calvin S. Hall, and Gardner Lindzey (eds.) ‘Theories of Personality,’ Third Edition, John Wiley & Sons, 1978, pp. 122-123.
٣٤  Ibid., p. 125.
٣٥  Frieda Fordham, ‘An Introduction to Jung’s Psychology, Third Edition, Penguine Books, 1966, p. 76.
٣٦  Ibid., p. 77.
٣٧  Ibid., p. 79.
٣٨  Ibid., p. 83.
٣٩  أُنْثَوية العلم، ص٢٨١.
٤٠  أُنْثَوية العلم، ص٣٠٢.
٤١  المصدر نفسه، ص٣٧٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤