الفصل الخامس

الذاتية أن نكتشف أنفُسنا من خلال التجربة

ميكانيكا الإدراك

سُلِّطت حياتي بأسْرِها على اكتشاف سُبُل جديدة لرؤية الواقع. كان لديَّ دائمًا حِسٌّ بأن ثَمَّة المزيد لأراه فقط إذا استطعتُ إماطة لثام وَهْم، أو النَّظر بطريقة جديدة. وفي مراتِع الطفولة، كان الكِتاب الفُكاهي الوحيد الذي اشتريتُه: هو «ملابس الإمبراطور الجديدة»،١ حيث لَم يَلحَظ عُري الإمبراطور إلا طفل. في الصَّف السابع من دِراستي الثانوية كان مشروعي للتَّخصُّص العلمي يستخدم عدسات لتغيير بؤرة الضوء، وهذه إحدى سبل تبديل إدراكنا. وحين قيادة السيارة أُمارس مع نفسي لعبة حيث أحاول أن أنظر نظرة جديدة إلى المشهد الذي أراه كل يوم عَسايَ أن أرى شيئًا ما جديدًا، أو أن أراه بصورة جليلة.
تُناقش ديباك شُبرا دراسات مدهشة عن ميكانيكا الإدراك تُبيِّن كيف أنَّنا بفروضنا نُقيِّد حدود نظرتنا إلى العالَم: في الهند يُدرِّبون الأفيال الوَليدة عن طريق ربطها إلى غُصن أخضر بحبل رهيف لبضعة أسابيع. هذا الفيل الذي تَدرَّب على الغصن، إذا تم ربْطُه حين البلوغ إلى شَجرة ضخمة بسلسلة حديدية سوف يفصم السلسلة (أو الشجرة) ويَنطلِق في سبيله. ولكن حين ربطه بحبل رهيف إلى غصن أخضر، لا يحاول مُجرَّد الهروب. فقد تَعلَّم أن هذه هي حُدود دنياه. وباستثناء قلة من الرُّوَّاد، تُبقِي مُعظَم الحيوانات أسيرة النماذج التي تأسَّست في مراحل مبكرة من الحياة.٢ وفي المُختبَر، ربَّى الباحثون الَّذين يَدرُسون الإدراك، مجموعة من الهُرَيْرات في بيئة ليس فيها إلا شَرائط أُفقية. وحين البلوغ، لم تَستطع هذه القطط رُؤْية أي شيء، سوى العالَم الأفقي، لقد كانت عمياء فعلًا عن الأشياء العمودية التي تحيط بها، وبالفِعل اصطدَمت بقوائم مِنضدة؛ لأنها افتقدت روابط عصبية وظيفية هي ضرورية لرؤية مُثيرات الحِس البصري العمودية.٣ تُبيِّن أمثال هذه الدراسات أن الخِبرة البصرية يمكن أن تُشكِّل المخ، وتُقيِّد القدرة على الإدراك.
وليس البشر استثناءً من مِثل هذه النواتج للتَّكيُّف مع البيئة. لم يَستطِع أهل فيوجو الذين زارهم داروين أن «يروا» السفينة في المَرسى أمامهم، على الرغم من استثارتهم بِمَرأى القوارب الصَّغيرة التي عَبَر بها الفريق الهابط من السفينة بيجل إلى الشاطئ.٤ الكُمْه الذين يُولَدون مَكفوفِين ويَسترِدُّون بَصرَهم بَعد عملية جراحية لا يَعرِفون كيف يُفسِّرون ما يرونه. في البداية، لا يَستطيعون تَمييز المُثلَّث عن الدائرة، أو المِلعَقة عن الشوكة، أو القِطَّة عن الدَّجَاجة.٥ وفقط بَعْد قدْر معقول من الوقت والمُمارَسة والمِران، يستطيع أولئك الناس الخروج بِحِس بصري عن العالَم. ونحن جميعًا، في واقع الأمر، نتعلم كيف نرى. ومن أجْل الخُروج بمعنًى من خبرة ما لا بُدَّ أن يُؤَوِّل وعْيُنا الدفعات الكهربية المنقولة من حواسِّنا إلى أدمغَتِنا. إنَّ جانبًا مِن تَكيُّفِنا العادي هو اتفاق مع الآخَرِين بشأن ما نراه ونَسمعه، وهذا يُشكِّل واقعنا المُتَّفَق عليه. حين يرى أحدُنا مَشاهد أو يسمع أصواتًا لا يستطيع الآخَرُون أن يُقرُّوا بها، نَحكُم بأنها جنون. الواقع الموضوعي شيء نعتقد أنَّنا جميعًا نَتشارَك فيه.
وبالمِثل، لا يستطيع طلبة البيولوجيا «رؤية» الكروموسومات حين ينظرون إلى الخلية لأول مرة تحت المجهر. يتضمن مِران العالَم أن يتعلَّم ما هي النتيجة «الواقعية» مُقابِل النتيجة المُصطنَعة. وتمامًا كما يتعلم الطبائعيون naturalist كيف يُميِّزون أشكالًا في الطمي بوصْفِها آثار سَيْر حيوان، يتعلم الفيزيائيون بالمِثْل أن يُعيِّنوا مَغزى مَسارات الجُسَيمات. وعلى الرغم من القول المأثور «ما في الأعيان هو ما في الأذهان»، يكشف أي كتاب في الأوهام البصرية كيف أن حواسَّنا عُرضة للخداع الناشئ عن عوائدنا في التفكير.

مثل هذه الدراسات المُثيرة للقلق تؤكِّد أن جهازنا الحسي وروابطنا العصبية الداخلية تتطور كنتيجة لخبراتنا الحسية الأولية، وكيف أنَّنا نَتعلَّم أن نُؤَوِّلها. ثم إن جهازنا العصبي لا يستقبل إلا ما تَمَّت برمجتنا على رؤيته، يستقبل فقط تلك المُثيرات التي تعزز ما نعتقد أنه موجود. وبطريقة أوتوماتيكية نحجب تقريبًا كل المُثيرات المحيطة بنا إلا النَّذْر اليسير. وهذا ما يسميه علماء وظائف الأعضاء الإحالة المعرفية السابقة على النُّضْج. هذا الواقع المَعرفي نتيجة لحدود في المفاهيم كنا قد شيَّدناها في وعينا، وبعدها يعمل جهازنا العصبي على تعزيز تلك الحدود.

على أن المُستقبلات الحسية البشرية تكاد تُدرَك بطريقة واحدة مُعيَّنة. فحين ننظر إلى زهرة، نرى ألوانًا تتراوح بين الأحمر والأرجواني. لكن المستقبِلات في عيون النَّحلة لا تستطيع رؤية الأحمر، وتستطيع رؤية الأطوال المَوجِيَّة فوق البنفسجية. حين تنظر النَّحلة إلى زهرة بعيونها المُكوَّنة من عدسات قرنية ترى شكلًا يختلف عن الشكل الهندسي البسيط الذي نراه نحن. أما الخفاش فيدرك الزَّهرة من حيث هي صدًى لموجات فوق صوتية. يشعر بها الثعبان من حيث هي أشعة تحت الحمراء. تَتحرَّك مُقْلتَا عَيني الحرباء على مِحورَين، ولستُ أستطيع أن أتخيل كيف لها أن تُوحِّد ما تراه. ليس هناك طريقة واحدة هي الصحيحة للنظر إلى العالَم «الواقعي»، بل بالأحرى عدد كبير من العدَسات نستطيع أن نُدرِك الواقع من خلالها، كلها تَتعايَش معًا في الوقت ذاته، بعضها أكثر فائدة من البعض الآخَر في تحقيق أغراضنا. ونحن نقوم بتقليص ذلك المَجال من الإمكانيات اللامحدودة إلى واقع إدراكي معيَّن، وكنتيجة حرفية لمعرفتنا، التي هي نتيجة لإحالة معرفية سابقة على النُّضج.

وحتى بين البشر، تتفاوت حِدَّة أعضائنا الحسية، بالإضافة إلى مَرَد واسع لتأويل المُثيرات. وبشكل أو بآخر، يخلق التوزيع الأوركسترالي مستوًى لمجال العزف، ولكن، في واقع الأمر، ليست كل الآلات مُتصلة أو مستوية بصورة ملائمة. ومُجرَّد استعمال الآلات يستلزم مهارة، ومن المطلوب إعداد نماذج للفحص بعناية.

يخضع البشر أيضًا لضغط مُماثل في عملية إدراك الواقع. في إحدى الدراسات، طُولب من طلاب في جامعة هارفارد أنْ يَصِلوا خطًّا بآخَر متساوٍ معه في الطول من ضمن مجموعة تضم ثلاثة خطوط أخرى. حين العمل على انفراد، يُخطِئ الطلاب فقط بمعدَّل واحد في المائة من المَرَّات. ولكن في حضور طُلَّاب آخَرِين تَدرَّبوا على اختيار خط أطول يخطئ الطلاب في اختيار التوصيل الملائم بمعدَّل خمس وثلاثين في المائة من المرات. وحتى حين يختلف طول الخَطَّين المفترَض تساويهما اختلافًا يبلغ سبع بوصات، يَظَل البعض مُستسلِمِين لخطأ الأغلبية.٦ فهل العلماء كائنات فائِقة لا يمكن تضليلها بمثل هذه السهولة؟

مثال الموضوعية

من الفروض الأساسية للعلم أن هناك كَونًا موضوعيًّا، منفصلًا ومستقلًّا عن الملاحَظ، ويمكن استكشافه عن طريق البحث العلمي. ونُعِتَت العلوم الطبيعية بأنها التَّحقُّق الأكمل للموضوعية، على الرغم من أن الموضوعية لها أصولها في فلسفة الأخلاق وعلم الجمال. يُجاهِد العلم ليكون آية من آيات العقلانية، ولا يُضمِّخُه انحياز ذاتي أو شَخصي أو سياسي. إن الموضوعية العلمية تدرب العقل على رؤية العالَم بطريقة تحليلية مُجرَّدة. مثلًا، تُناضِل عالِمة البيولوجيا إنجريث ديرب-أولسن بثبات لكي تَكُون موضوعية حتى إنها تظل مُهيَّأة لاستقبال مُعجِزات الطبيعة:

أحسَب أن كل شيء أفعلُه له نَكهتُه الذاتية، وعَليَّ أن أُحارِب هذا طوال الوقت؛ لأنني أريد حقًّا أن أعرف ما هي البَزَّاقة العريانة، وكيف تفعل ما تفعله. ولا أريد أن أبدُوَ مُتلوِّنة بقولي! «أنا لستُ مُهتمَّة بهذا الجانب مِما تفعله البَزَّاقة؛ لأنه ليس الجانب الذي أعمل فيه. أريد أن أحتفظ بعقلي مُتفتِّحًا، والآن أعمل مُعظَم الوقت في مُخاط البَزَّاقة، وهو شيء بالِغ الصعوبة، ومَجال بالِغ الإثارة؛ ولأني لا أعلم شيئًا البتة عنه، عليَّ إعداد التجارب.» أسأل زملائي: «هل هذا ما تعتقدون فيه؟ ماذا تَرون؟» لأنني مُنحازة. أحسب أنني أعرف ما يحدث، وحقًّا عليَّ أن أحارب نفسي لكي أحتاط من انحِيَازاتي، وتلك على وجه التحديد هي الصعوبة في هذا المجال. أجدني هنالك طوال الوقت وعليَّ أن أنتزع نفسي.٧
الاهتمام بالعلم هو أن ترى ما هو واقع هنالك — الواقع الموضوعي — بدلًا من أن ترى ما تَتوقَّع أو تأمل أن تجده. وبسبب من تُمرُّس العلم على الاختبارات الصارمة للنظريات الجديدة، نَنتظر منه أن يُضفِي التعميم والمصداقية على تعريفات جديدة للواقع. تَستطيع التجارب أن تُثبِت نظرية أو تَدحَضها. ويَصِف فيلسوف العلم في جامعة هارفارد إزرايل شيفلر I. Scheffler العلم بأنه «مشروع نَسقي عام، محكوم بالمنطق وبالواقعة التجريبية، وهدفُه صياغة الحقيقة بشأن العالَم التجريبي. الحقيقة التي نبحث أساسًا عنها عمومية، تَعبِّر عنها قوانين الطبيعة، التي تُخبرنا ما هو الوضع في كل زمان ومكان.»٨ الوقفة الموضوعية تَستبعد المؤثِّرات التي تَنال منها، وذلك لكي تظفر بالحقيقة. وتجد عالِمة الجو كريستينا كَتزاروس الموضوعية جانبًا من العلم يحمل الثواب والجزاء.
أحيانًا تشهد الاجتماعات حُججًا مُتَّقدة حول كيفية تأويل البيانات. حينما يكون لديك وقائع قليلة للغاية، يمكن أن يَنشأ عن التأويل الكامل لها ثلاثة أو أربعة تأويلات — أمامها عوائق من الخطأ واللايقين في القياسات. وقد تظفر بمَن يُناصِر هذا التأويل أو ذاك لبعض الوقت، وليس هذا قائمًا على أساس الواقع لأنه ليس ثَمَّة وقائع كافية. وأخيرًا قد تجتمع وقائع أكثر وتتضح الإجابة، ويتَّفِق الجميع. لديك في خاتمة المَطاف نتيجة جديدة. وهذا هو الشيء المُدهِش بشأن العلم، والذي لا تجده إلا في العلم. وإذ لا يعود ثَمَّة أي شَك فتلك غاية. وعادة يوجد الكثير من الضغط العاطفي قبل أن تَتخلَّص من فكرة ما سابقة. قد يكون ثمة نَفر لهم أطوار غريبة ليُحارِبوا هذا، ولكن إذا كانت البيِّنة قوية يَقبَلها الجميع في النهاية. وأحسب أن هذا أمْر مُدهِش. واحد من أجْمَل جَمالات العلم أن هناك بعض الإجابات الموضوعية.٩

يُشدِّد العلم على البحث «الموضوعي» الذي هو نَزيه غير مُنحاز ومُتجرِّد وخِلْو من الأنا، وذلك من أجْل إتاحة التشارك في المَعرفة العامَّة ومن أجْل تشييد بِنية راسخة للواقع. يَتبنَّى العلماء مِثال الموضوعية؛ سعيًا للتحصين ضد المَصالح الذاتية والتفكير التَّوَّاق والرَّأي الشخصي. إن يقين الحُجَج العلمية وتجريبية البراهين يَكفُلان للعلماء في أنظار العالَمِين تَجرُّدًا مُعيَّنًا يُحسَدون عليه. وبالثقة في الدليل الموضوعي، يستطيع الباحثون أن يَنعَموا بهدوء البال في مُواجَهة اللامبالاة أو الاستخفاف العام.

لاحظَت الأنثروبولوجية شارون تراويك في دراستها لفِيزيائِيِّي الطاقة العالية أن الْتِجاءَهم إلى العقلانية والموضوعية والعلم يكشف عن شذوذ اجتماعي ينمو معهم، وأَنَا تُشْبِه أَنَا الطفل. في الأعمِّ الأغلب يؤكد الفيزيائيون الشُّبَّان جهلهم بالدوافع البشرية، وبأي شيء «ذاتي»، كما لو كان ذلك يُؤكِّد تفانِيَهم في عملهم. أما تَنامي الفِطْنة بدوافعهم الخاصة وبأفعالهم، فكان يُنظَر إليه على أنَّه تبديد لوقت ولانتباهٍ من الأفضل إنفاقُها في العلم. وحتى الكشف عن الاهتمام بالتَّوافُق مع الآخَرِين كان يُنظَر إليه بوصْفِه «لا يُداني العلماء إلى حد ما».١٠

عَمَّ الاعتقاد بأن دافِع «المعرفة من أَجْل المعرفة» إنما لتحصين العلماء من التشرب بالدوافع الشخصية والمالية لإيجاد نتيجة مُعيَّنة. من الناحية التاريخية، خدَمَت الموضوعية أيضًا في فَصْل العلماء عن هيمنة الكنيسة وعن جَذْب القوى السياسية. أَتت المِصداقية من غياب المَصْلحة في الكذب. ومن أَجْل تأكيد الموضوعية والتعويض عن راسب الخطأ من قبل الأفراد تلجأ المُمارَسة العلمية إلى فَرْض وصاية الضوابط التجريبية والاختبارات المُعمَّاة وعشوائية مَواد التَّجريب وتَعزِيز النتائج بواسطة الباحِثِين الآخَرِين والتحكيم الدقيق.

ومهما يَكُن الأمر، فإنه على مستوى المؤسَّسات تَفرِض على البحث تلك النظرة الشامِلة المُتَّفق عليها وذلك عن طريق نِظام التحكيم العلمي الدقيق. هذه القاعدة الأصولية تَفرِض حدودها على عُلماء عديدين وتصيبهم بالإحباط، كشأن عالِمة الكيمياء الحَيويَّة باتريشيا توماس P. Thomas التي سَحبَتْهم نظرتُها إلى ما وراء الآراء المُتعارَف عليها:
لكي تظفر بالتمويل، عليك أن تفترض افتراضًا ما يَتَّفق مع صميم هيكل المَعارف المطروحة. بَيْد أن الدليل المطروح دائري، ولا تُحل أسئلة من قَبيل «ما هو سبب السرطان؟» وعليك أن تأخذ بناصية مُنعطَف حادٍّ في المُعْطَيات، الشيء الذي لا نعرف مغزاه، وتَقوم باستكشاف أغواره، تسأل «عن أي شيء أتى هذا؟» أمثال هؤلاء لا نعطيهم أموالًا. لقد تَقدَّمتُ لمِنحَتَين، إحداهما كانت شيئًا يمكن تمامًا إنجازه، ولكنه في أساسه غير مُهم إلى حدٍّ ما ولا يَتَّجِه مباشرة إلى صميم طبيعة المرض. المنحة الثانية استغرقَت المزيد من المُقارَبة البحثية، وأَعلنتُ «لديَّ هذه الملاحَظة المهمة. ولستُ أدري ما إذا كانت سَتفصِل في الأمر، ولكن حِينئذٍ لن يعرف أحد ما الذي سَيحل هذه المشكلة. هذه المُقارَبة المختلفة يمكن أن تُعطينا طريقة جديدة تمامًا للنظر إلى المرض.» قال المُحكِّمون: «هذا مُثير حقًّا، لكنكِ لا تستطيعين تِبيان أنه سَيُفضي إلى شيء ما.» على هذا النحو جرى تمويل البحث القابِل للإنجاز وغير المُهم، في حين هَبطوا بالمُقارَبة الاستكشافية إلى أدنى الدَّرَجات.١١

إن التحكيم الدقيق، بوصفه حارِسَ بوابة المعرفة العلمية، يتقدم بنظام مُرتَّب لتقويم العمل العِلمي ومَنْح التمويل للبحث، والتصديق على صَواب الإجراءات وإرساء سلامة النتائج والحكم بسلامة المَخطوطات ومَنْحه درجة الشرف. التَّحكيم الدقيق يجعل الدَّعاوى أكثر مصداقية بالنِّسبَة لغير العلماء، وذلك عن طريق دَمْغها بالموافَقة على أنها معرفة جديدة. بَيْد أنَّ نظام التَّحكيم الدقيق أيضًا مَوبُوء بمُحاباة الأصدقاء، ومُحاباة النُّخبة، وبصراع المصالح، وهو يَكبِت الابتكار. وفي مسح للمتقدِّمِين عام ١٩٨٢م لمنحة المعهد القومي للسرطان، تَمسَّك ستون في المائة من العلماء بأن المُحكِّمين عازِفون عن دعْم البحث الذي لا يتبع الأصوليات التَّقليدية، وينطوي على مُخاطرة كبيرة. ثَمانية عشر في المائة فقط لم يُوافقوا على هذا الإقرار. سُجِّلت الاستجابات في تعليقات من قَبيل:

أي شيء جديد يجب أن يُولِّي الأدبار.

لا ينبغي أن يقول المرء أي شيء جديد في طلب التَّقدُّم لمنحة.

المُقترَحات التي تظفر بالتمويل هي بشكل عام المُقترَحات الأكثر إثارة للمَلل، والأكثر ارتباطًا بوقائع الحياة الدنيا.

يبدو أن المُحكِّمين يُحبِّذون الخُطَّة أو المُداهَمة المُحدَّدة، والتي يسمونها «مُتمركِزة».١٢

في هذا النطاق يستطيع العامة أن يمارسوا تأثيرًا على اتِّجاه البحث وذلك عن طريق دعم الاستكشاف في المُقارَبات المُستجَدَّة، من قَبيل نواتج الإجهاد والتلوث الكهرومغناطيسي على الصحة. ومؤخَّرًا دفعَت ضغوط عامة الناس مَكتب متابعة التكنولوجيا في الكونجرس إلى البحث عن أشكال بَديلة لعلاج السَّرطان في الولايات المتحدة الأمريكية. وأثار هذا مِن الجدل السياسي ما لم يُثِره أي من المشاريع التي اضطلع بها المكتب.

وعلى الرغم من الموضوعية كمثال أعلى، يتأثَّر العلم تأثُّرًا وبيلًا بمن يدفع له الأموال، في الطليعة الحكومة والصناعة.١٣ إن مَن يدفع هو مَن يُملِي في العادة المجالات التي تُدْرَس والأسئلة التي تُطْرَح وقرار النشر أو الإمساك عنه. للصناعات أسرارُها التجارية، والمعارف القابلة للتطبيق التجاري تَحميها الأنشطة الاقتصادية والجامعات عن طريق براءات الاختراع، أما الحكومة فتجعل المعلومات الحسَّاسة في الدفاع عن الأمن القومي ذات سِرِّية بَالِغة. بَيْد أنَّ هذا ليس بالأمر الجديد. وعلى مدار التاريخ، كثيرًا ما خَدم العلمُ بناةَ الإمبراطوريات؛ الإمبراطوريات المالية، والإمبراطوريات السياسية.
بسبب من السُّلْطة الجبارة للعلم، يَستغل الكثيرون الدَّليل العلمي كبُرهان يُدعِّمون به الجانب الذي يتَّخِذونه في مسألة ما. مثلًا، حين سَكبَت شركة إكسون فالدز الزيت في أَلاسكا قامت إكسون وولاية ألاسكا والحكومة الفيدرالية بتمويل البحث الذي يُقِّدر حجم الدمار البيئي. وهذا جيري جالت J. Galt وهو مُتخصِّص في فيزياء علوم البحار في الرابطة القومية لعلوم البحار والعلوم الجوية، وكان عضوًا في فريق الاستجابة الطارئة لسَكْب الزَّيت، وقد لاحظ أن «سَكْب الزَّيت الغزير سرعان ما تَبِعَه سَكْب مُحامٍ كبير ثُم سَكْب نفقات باهظةٍ [لتقدير حجم الدَّمار البيئي]».١٤ في الإعداد لرفْع الدَّعْوى أمام القضاء قام كل طرف بتمويل بَحْث يُدعِّم الجانب الذي يَتخذه في القضية، ليأتي بالوثائق على ضخامة أو ضآلة الدَّمار الذي حدَث. ولكن البحث يَظلُّ سِرِّيًّا حتى يتم الفَصْل في القضية، وعادةً ما يَستغرق هذا عِدَّة سنوات. لا أحد من الجانبين يَبغِي نَشْر معلومات تُضعِف من قضيته. وفي إحدى الدَّعاوى القضائية اشترط الحُكْم أن تَظل كل الأبحاث غير منشورة، مِمَّا يَكبَح ردَّ الفعل على سَكْب الزيت في المستقبَل. وفي مُحاوَلة جيري جالت لجمع المعلومات حتى يستطيع أن يصل إلى الخيارات السليمة في الاستجابة لما يَستجِد من مواقف طارئة (بدلًا من أن تكون الاستجابة لها ارتكاب مزيد من الدَّمار)، أَحسَّ جالت بالإحباط بسبب «دكاترة السكب» الذين يأخذون الوقائع ويَلوُون عُنقها، مُستغلِّين المعلومات العلمية بطريقة مُنحازة. في مثل هذه القضايا، تَعترض المصالح الذاتية سَبيل العِلم الجَيِّد.

المعرفة البِنائِيَّة

إن الباحث «شديد التَّجرُّد»، فهل يَفقد بهذا شيئًا ما؟ وفي مُقابِل الباحث الذي ينفصل عن التجربة بقناع من النزاهة، تَصِف بِلِنكي وزميلاتُها البِنائِيِّين بأنهم عارِفون عاطِفيُّون، «عارفون يَدخلون في وحدة مع ما يُعْرَف».١٥ وتصف عالِمة الاجتماع بربارة دي بويس «التحصيل العلمي العاطفي» بأنه «صنع — العلم الذي يَضرِب بجذوره في قِيمنا، وقِيمُنا تَبُث في أعطافه الحيوية والنشاط وتُعبِّر عنه.»١٦ وبدلًا من مُحاصَرة الوعي بالذَّات حتى يُمكِن تَنحية الذات بعيدًا عن العلم، يَستغل البِنائِيُّون الذات كأداة للفهم. يغدو كلٌّ من التفكير والشعور، الموضوع والذات، حَليفَين في تعقُّب المعرفة، ولأن عالِمة البيولوجيا التطوُّرية سيلفيا بولاك S. Pollack كَلَّتْ ومَلَّت من السعي إلى التمويل، فقد قامت بالتسجيل في برنامج لدرجة الماجستير في علم النَّفْس استعدادًا لتغيير مِهنتها. وعلى الرغم من أنها استَمتَعَت بالعلم، تقول: «إنها بيئة لمُمارسة العلم بطريقة تُنهك القوى.» وفي الآن نفسه، واصلَتْ عَملَها في المختبَر. وكمُحصِّلة للفصول الدراسية، وَجدَت نفسَها تَترعْرَع وتَتغيَّر. إن المَعارف والاستبصارات السيكولوجية بِنفسِيَّة بولاك قد تفاعَلت مع عِلمِها وآثَرتْ عمَلَها. سَمحتْ لنفسها بأن تَستأنِس مرة أخرى بعِلمها. وفي مُقرَّر دراسي يَتناول الإبداعية وعنوانه «مقارَبات للمعرفة»، نُوقِش المنظور الذي يرى المعرفة إبداعًا، تَفكَّرتْ بولاك في الأمر، وقالت:
طوال حياتي بأسْرِها، أو على الأقل على مَدى الخَمسين عامًا الأخيرة، آمنتُ بأن المعرفة تُكشَف، وأنها فقط قابعة هنالك، وما عليك هو أن تَظل تنظر إليها ولَسوف تراها. تَبدَّلت وجهة نظري في هذا تَبدُّلًا جذريًّا، ما دمتُ أعتقد أن هنالك أكثر من واقِع واحد، وأنَّنا ننظر فقط إلى ما نُريد أن نراه. وأحسَب أن هذا يَصدُق في العلم مِثلمَا يَصدُق في الفنون، أو في أيِّ مَجال آخر. وغير هذا الطريقة التي أُمارِس بها العلم. كنتُ قد اعتدتُ أن أمكث سَلبية تمامًا في هذه الممارَسة بمعنى أن أُحدِّد ما يهم، وأُمارس التجارب، وأنظر إلى المُعْطَيات. والآن أشعر بمزيد من التَّفاعل مع علمي.١٧

بدلًا من أن تقبع بولاك في انتظار أن تَتكشَّف القصةُ كاملة في المُعْطَيات، شَعَرت بمزيد من الحُرِّيَّة إذ تتخَلَّق القصة على يديها من شظايا كائنة، قصة «من صُنع يديها» بينما تَظلُّ مُتساوِقة ومُتلائمة مع كل الأجزاء الأخرى من المعرفة المُتعلِّقة بالمنظومة، وهي تعرف تمامًا أنه ما زال من الممكن صُنْع عدد كبير من التأويلات الأخرى. هذه المُقارَبة مَنحَتْها تفويضًا شخصيًّا بوصفها صانعة للمعرفة، وليست مُجرَّد مُستقبِلة لها.

وفي مُقابِل اتخاذ وقْفَة نَقدية شَكِّية عدوانية في معركة الأفكار، تميل بِلِنكي وزميلاتُها البِنائِيَّات أكثر نحو أن يَستبدِلن بالشَّك الاعتقاد بوصْفِه أفضَل سبيل لأن يصل الشعور إلى فكرة جديدة.١٨ وبطريقة مماثلة، تستخدم مارلين فيرجسون مصطَلح «المعتَقد التجريبي» ليصف موقف التَّفتُّح للإنصات إلى مَفاهيم جديدة.١٩ فَن الإنصات، أن نَكون مُتفتِّحين، أن نسمح لشيء ما أن يَلِج من دون أن نَعترِض تَوًّا سبيله بتفكيرنا وبتأويلاتنا، هذا الفن يَتطلَّب تعليقًا مُؤقَّتًا للشَّك والإنكار. وكلما كُنَّا أكثر وَعيًا بتفكيرِنا الخاص؛ استطعْنَا أن نُنصِت إلى أنفسنا بحميمية وأصالة أكثر، وكلما استطعنا أن نكون أكثر تَفتُّحًا للطبيعة، ولمنظورات جديدة للواقع.

يُزوِّدُنا المُعتقَد التجريبي بأداة لتحدِّي الإحالات المعرفية السابقة على النُّضج. إنه لا يُحيل المُنصِت إلى المُعتقَد، ولكن بدلًا من الدفاع ضد فكرة جديدة أو إرغامها غلى التلاؤم مع إطار المفاهيم القديم، يُجرِّب المُنصِت المُعتقَد، وبطريقة من طُرق انعكاسِ الذَّات يسأل: لو أن هذا كان صحيحًا، فماذا إذن؟ عَلامَ يدلُّ ضِمنًا؟ ما هي مُحصِّلات هذه الفكرة؟ لماذا أجِد هذا المفهوم مُقَلقلًا هكذا؟ ماذا يعني بالنِّسبة للطريقة التي أنظر بها إلى العالَم؟ مَن يمارس الاعتقاد التجريبي يَختبر الفكرة بأن يَحتويها، ويَنظر إلى ما تُبشِّر به في مُواجهة المُعتقدات السابقة أو بالتكامل معها.

مع العارف الإجرائي (أي الذي يَستخدم التحليل النَّسَقي القائم على العقل وعلى الإجراءات)، ينشأ نوع ما من السُّلْطة أساسًا من خلال التَّوحُّد مع قوة الجماعة وأسلوبها للمعرفة المُتعارَف عليه، من قبيل المنهج العلمي. وعلى الرغم من أن هذا يُعلِي من شأن قوة العقل، وقوة التفكير الموضوعي، فإنه يأتي أحيانًا على حِساب الأصالة الشخصية، والصوت الفردي، والوعي بالذات. ينبثق سبيل مُستجَد للتفكير عن عملية التأمُّل المُكثَّف في الذات وتحليل الذات، كَتلك التي تَصفها بولاك. وبدلًا من التَّوحُّد مع كينونة العالم، يَتدبَّر الباحثون البِنائيون في السياقات التي تَضع لهم حدودًا وتعريفات تَحصُرهم وتُقيِّدهم، ويُقحِمون خِبرتهم الجُوَّانية في عَملهم. إنهم يَجدِلون خيوط التفكير العقلي والتفكير العاطفي معًا، تَتكامل مَعهم المعرفة التي يَشعرون حَدسِيًّا بأهميتها لهم بصفتهم الشخصية والمعرفة التي يَكتسبونها من الآخَرين. تقول بِلِنكي وزميلاتها: لاحَظْنا في الذَّاتِيِّين عاطفة لمعرفة النَّفْس، أما بين العارفين الإجرائيين فقد لاحَظْنا اعتمالًا بسلطان العقل، لكن وجَدْنا أن تَفتُّح العقل والقلب لاحتواء العالَم سَجيَّة لا تُميِّز إلا النساء اللائي يَتَّخذْن موقف المعرفة البِنائية.٢٠

يدرك البنائيون أن إجابات الأسئلة سوف تختلف، اعتمادًا على السياق الذي تُطرَح فيه الأسئلة، وإطار مرجعيات الباحث وتَغدُو أهمية فَحْص الفروض الأساسية والظروف التي تَترعْرَع فيها المشكلة على قَدَم المساواة مع أهمية جَمْع المُعْطَيات. وليس من الخير العميم أن نجمع كمِّيَّات كبيرة من المُعْطَيات إذا كان السؤال المطروح خاطئًا، أو إذا كان السؤال خارج السياق. يَتفهَّم البِنائيون أن النظريات نماذج مُبسَّطة للواقِع، وليسَت الحقيقة المُطلقَة.

تَعلَّمتُ في تدريبي العِلمي كيف أنتَقِي المناهج التجريبية، وكيف أُصمِّم الضوابط التَّجريبية التي تُقلِّل الحيود في نتائجي إلى حَدِّه الأدنى. ولكن لم يناقش أحد البتة كيف تأثَّر عِلمي بمعتقَداتي وفروضي اللاواعية بشأن العالَم. والحق أن مُعتقداتنا بشأن طبيعة الواقع تُحدِّد أين نَبحث عن الإجابات مثلما تُحدِّد كيفية تَأويلنا للمُعْطَيات. مثلًا، يَعتقد علماء الجهاز العصبي أن المكان الذي تَسكنه الذاكرة لا يُمكن أن يُوجَد إلا في المخ. وهذا يعكس مُعتقَد المادية الغربية في أنه لا شيء يُوجد سوى تلك الأشياء التي يُمكن قياسها بحواسِّنا الخمسة، أو بواسطة الآلات التي هي امتداد لتلك الحواس. ويُؤَوَّل دَمار جزء من المخ على أنه دَمار في وحدة المَخزون.

ومن الناحية الأخرى، نجد العالِم الهندوسي الذي يُؤمِن باستنساخ الأرواح سوف يتناوَل المُشكِلة بنظرة للعالِم تختلف تمامًا، وسوف يبحث في مكان آخَر ليجد الحَيِّز الذي تُختَزن فيه الذاكرة. وما دام بعض الناس يتحدَّثون عن إعادة تَذكُّر حَيَوات ماضية، كان على النظرية الهندوسية أن تُفسِّر كيف تُسْتبقَى تلك الذِّكريات بعد موت الجسد. قد يطرَح هذا العالِم تنظيرًا مفاده أن الذاكرة مخزونة في قاعدة كهرومغناطيسية تَعود لِترتَبط بالجسد، وأن المُخ هو الوحدة المُستقبِلة للمعلومات المَخزونة في تلك القاعدة. في هذه النظرة إلى العالَم، يمكن أن يقوم المخ بوظيفته كما يَستقبل جهاز التلفزيون إشارة. وفي هذه الحالة، سيكون دمار مناطق مُحدَّدة من المُستقْبِل له التأثير نفسه الذي لدمار وحدة المخزون ذاتها.

وقد يَنظر آخَرون إلى الجسد بوصفه حيِّزًا تُختَزن فيه الذاكرة. إن المُعالِجين النَّفْسيين والمُعالِجين بالتَّدلِيك على وَعْي بالذِّكريات التي تَبدو مَخزونة في عَضلات الجِسم وأربطته. مثلًا، حين يَنطلِق عن إحدى المُتردِّدات للعلاج فُحْش في القول المكبوت، فهذا يَقدح الزِّناد لكي تَتذكَّر أنها تَعرَّضت لاعتداء جنسي في الطُّفولة، شيء كانت قد نَسِيَتْه منذ ثلاثين عامًا. يعتمد راقصو الباليه على ذَاكرة الجسد لِيَسترجِعوا الخُطوات من رقصة تَعلَّموها من سِنين خَلتْ. هناك أرقام هواتف غابَت عن ذهني، لكن يُمكن أن تَستعيدها أصابعي على جِهاز هاتف يعمل بلمس الأزرار.

وبسبب من إحالتنا المعرفية السَّابقة على النُّضج، الإحالة إلى مُقارَبة مَذهَب المادِّية الغربي، لا يُوضَع مُجرَّد تخطيط لتَجارب للبحث عن ذاكرة في قاعدة كهرومغناطيسية؛ لأنها خارج نَظرتِنا الجَمعية للعالَم. لن تظفر مثل هذه النظرية بدعْم مِنحة دراسية؛ لأنها تبدو مُفرِطة الشُّذوذ وسِحرِيَّة عجيبة، وغَير مُستصوَبة. يُوصَم مثل هذا العمل بأنه عِلم زائفٌ، ويُخاطر علماء الأعصاب بِسُمعتهم في مُتابَعة خط للبحث على هذا النحو.

ثمن الموضوعية المدفوع مُبكِّرًا

حتى أواسط القرن التاسع عشر كانت مُعظم تقارير الملاحَظة والتجربة تُروَى باسم الفَرد الفَريد الرائد، والمكافأة من نصيب السِّمات الشخصية كالمهارة في المُعامَلة اليدوية لآلات صَعبة المِراس، أو الحُكم ذي النَّكهة الخاصة. وبينما كان يُراعَى كثيرًا ثِقَل المَنزلة الاجتماعية للمُلاحِظ، بَرزَت كفاءة وإخلاص المُلاحِظ في تشكيل الحُكم على جَدَارة المعلومات. كان الباحثون يَفخَرون بمؤهِّلاتهم صَعبة المَنال، ويُنبهون إلى الفوارق الدقيقة في مُؤهِّلات الآخَرين. وعلى الرغم من أن الأكاديميات العلمية كانت تَنشُر المتابعات، كان التواصل العِلمي الحقيقي يَحدُث من خلال المراسَلات المستفيضة بين الأنداد التي قد تَستمِر طوال العمر. وعلى الرغم من أنهم قد لا يلتقون أبدًا ظَلَّت رسائلهم في مبادَلات حميمة، مع التجليات الشخصية المجدولة في كشوفهم العلمية.

وخلال العقود الوسيطة من القرن التاسع عشر تنامت مَحكَّات العمالة العلمية والمنظَّمة العلمية وازدادت تعقيدًا. الأكفأ من الأنظمة البريدية، والسكك الحديدية، والتجهيزات المعملية الجديدة، والمناهج الجديدة لتحليل المُعْطَيات، والوحدات القياسية، والتعريفات المُوحَّدة المتجانِسة، كلها عاونَت في تبادُل المعلومات. التَّوحيد والتَّجانُس المتزايد يَسَّر سُبل الاتصال العلمي عَبْر حدود القوميات، وحدود التدريب والمهارة. حلَّت الاتصالات الرسمية غير الشخصية مَحل الذكريات العلمية والمراسَلات الشخصية. على أن مُتطلَّبات الاتصالات مدت الجسور بين مسافات أبعد، ومزيد من الباحثين قَوَّضوا دعائم الثقة والمهارة كلتيهما.

إن العلماء، مثل الصناع، يبحثون عن العمالة الرخيصة من أجل رفع إنتاجيتهم. قسموا مشاريع الأبحاث إلى مهام أبسط من أجل تحجيم المؤهلات العلمية المطلوبة في مساعديهم. وتمخض عن هذا «المُلاحِظ القابل للاستبدال، وبالتالي ذو الملامح الباهتة، لا يتميَّز بقومية، أو بحدة الحواس، أو باستعمال جهاز مراوغ، أو بِسمات معينة في أساليب الكتابة، أو بأي مزاج خاص آخر قد يتداخل في الاتصال، يتداخل في مقارَنة وتَراكُم النتائج.»٢١ وبدلًا من الثقة، تَنامى تفضيل وطيد للملاحَظة المُميْكَنة والمناهج المُميْكَنة، مع تركيز يمعن في الاقتصار على ما هو قابل للتداول والاتصال. كانت الصفات الفائقة في المهارة والحكم غالية ونادرة، وغير قابلة للتداول. تَحوَّل الباحثون إلى المناهج الإحصائية لجَعْل نتائجهم قياسية. وبالتالي، غابَت عن تقارير الأبحاث معلومات ذات قيمة أعلى. وإذ بات الأسلوب أكثر صرامة، لم يَعُد الكُتَّاب يذكرون خصائص استثنائية للتجربة: ما إذا كان المحلول بصبغته قد تصادَف أنْ تُرِك في الشمس، هل كانت أداة ما مزجَّجة؟ أيُّ الكُتب قرأها الملاحِظ أو الملاحِظة وأثَّرت على تفكيره أو على تفكيرها؟ كشأن حقيقة مفادها أن دارون ووالاس كليهما قرآ كِتاب مالتوس «مَقال في مبادئ السكان» بينما كانَا يصوغان مفاهيمهما عن التطور القائم على الانتخاب الطبيعي.٢٢

إن اتخاذ تقنيات قياسية، وأدوات قياسية، واتصالات قد شَدَّ أزر العلماء في بحثهم عن الإجماع بشأن الواقع. نشأ الإجماع أيضًا عن اتفاق ضِمْني لقَصر اهتمام العلم على تلك الظواهر التي يمكن إخضاعها للضابط التجريبي المتين. بعص الظواهر بَدَت شديدة التَّغيُّر والتَّقلُّب حتى تَعذَّرت مُجابهتُها للصلابة المطلوبة للانتقال من مُختبَر إلى آخر. حل العلماء مشكلة تكرار إجراء التجربة عن طريق العزوف عن العوارض الخارقة، والتقارير الفذَّة والأحداث النادرة، وما يحدث خارِج العالَم من أسرار مُلغِزة. ومنذ البداية في أواسط القرن السابع عشر، يَتزايد اقتصار العلم على الظواهر التي تَسير بشكل جيد داخل المختبَر، أو البراهين النظرية المنطقية التي تسير بشكل جيد على الورق.

دخل الموضوعي في ذات الهُوِيَّة مع الميكانيكي. حل التَّكميم مَحل الرواية. وحَل المُلاحِظ القابل للاستبدال مَحلَّ شهادة الزميل الثقة. يمكن أن تَتحدَّث الأرقام عن نفسها وتَحمِل في صلب ذاتها عوامل بقائها, بصورة مُستقِلَّة عن الملاحِظ. ويشير مؤرِّخ العلم تيودور بورتر T. Porter إلى الموضوعية التكميمية بوصفها «تكنولوجيا التعامل مع غير الموثوق به»، حيث يأتي التكميم بالسُّلْطة في صورة «سلطان مسلوب منه حرية التصرف (مُقابِل السلطان المُتمتِّع بالشرعية)».٢٣ إن الموضوعية التكميمية، من حيث هي استراتيجية للتغلب على عدم الثقة؛ تُمثِّل مع هذا خسرانًا لمستوى آخر من التواصل والعلاقة. ينزلق إلى الظلال المُعتِمة كثير مما هو شخصي، بما هو ذاتي.

تحمل الموضوعية، من حيث هي بديل للثقة، سيماء المهابة في مجتمع تُعدُّدي. إن التكميم يفرض نظامًا على التفكير الغائم، بَينما يعطي أيضًا ترخيصًا بحذف كثير مما هو عسير أو غامض. يستطيع الإحصائيون أن يَستبعِدوا مُحصِّلات كل شيء عرَضي أو تَصادُفي أو غير قابل للتفسير أو شخصي. وبدلًا من مهارات الباحث المِهنِيَّة الدقيقة، باتت جَودة التجربة تُقاس بمعدَّلات الدلالة الإحصائية. مثلًا، إذا ورد في دراسة سيكولوجية مستوى الدلالة الإحصائي اثنان في المائة (يبين أن نتيجة المُصادَفة قليلة الحدوث فقط مَرَّتين من بين مائة مرة) فإنه يجعل القُراء يَقبلون نتائج البحث. في غياب العلاقات، تحل المقاييس العامة والمعرفة الرسمية محل الحكم الشخصي والحكمة الخاصة. وبينما يعرف العلماء المُحدَثون كثيرين من الباحثين في مجالهم التخصصي الضَّيِّق مَعرفة شخصية، فإن مُعظَم العمل الفعلي يقوم به الآن طلَّاب دراسات عليا وفَنِّيون.

إن الموضوعية، من حيث هي أداة لاجتياز عدم الثقة، قد خَدَمت في خلق واقع مُجمَع عليه، ولكن على حساب المُختلِف والعيني. وفي البحث عن جَعْل المعرفة موثوقًا بها أكثر، يُركِّز العلماء على العالَم الخارجي، عالَم الوقائع والمُلاحظة الموضوعية والإجراءات التجريبية المُتجرِّدة. وإذ يفعل العلماء الغربيون هذا، فإنهم يُعرِّفون الواقع بأنه ما يُوجد في العالَم المادي الخارجي. ويَعتبرون العالَم الداخلي مَحْض هوًى وخيال. إنها فلسفة الوضعية المنطقية، وقد تغلغلَت في أعطاف العلم الحديث كمتاريس ضد الخزعبلات. وفي مُعظَم مجالات علم النَّفْس مثلًا، لا يَخضع للمناقشة العلمية إلا السلوك القابل للقياس. يَستبعد مُعظَم علماء النَّفْس محاولات دراسة الخبرة الداخلية الذاتية القائمة على ما تُقِرُّه الذات. وأحد الاستثناءات معهد العلوم العقلية Institute of Noetic Sciences الذي يتكرس لدراسة الذهن والوعي البشري، مع التشديد على الخبرات الذاتية التي أطاح بها العلم.

ومهما يكن الأمر، فإن خلق واقع مجمع عليه من خلال الموضوعية لا يعادل بالضرورة «الحقيقة» أو «الواقع» ولئن ترنَّحَت بعض الظواهر لتسقط في ظلال العلم المُعتِمة، فإن افتقارها إلى التوحيد القياسي لا يجعلها أقل واقعية. وعلى الرغم من تنحية هذه الظواهر جانبًا لأسباب كانت صحيحة في حينها، فإن العلماء الذين يُحاولون الآن دراستها هم محل ازدراء وسخرية. ولكن بعض المجالات الهامشية، من قَبيل المعادَلات اللاخَطِّيَّة في علم الشَّواش والتغذية الاسترجاعية الحَيوية في العلوم الطبية، تَشق طريقها ببطء عائدة إلى التيار الرئيسي، فقد وجد العلم سبلًا لتفسير، أو معالجة، أو قياس، أو تكميم المختلف والعيني.

حدود الموضوعية

إلى أية درجة تكون الموضوعية ممكنة فعلًا؟ لقد تحدَّى لَفيف من الدارسين صورة العالِم حبيس المختبَر المُتكتِّم. بَيَّن علماء الاجتماع كيف أن العِلم يُبنَى بصورة اجتماعية. وكشفَت النِّسْوِيَّات عن الانحياز الذُّكُوري للعلم. وأظهر مُؤرِّخو العلم كيف أن القيم الفلسفية والدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية يمكن أن تُشكِّل ملامح الحُكم العلمي. يناقش توماس كون باستفاضة القاعدة الاجتماعية والعقلية التي تكتنف العلماء ونظرياتهم، وأوضح كيف تَتبدَّل النماذج الإرشادية خلال الثورات العلمية. ولكن بالنِّسبة لكثيرين من العلماء والدارسين، الموضوعية — يقين المُعْطَيات الصُّلبة — تُرسِي دعائم العلم في الواقع. مثلًا ينزعج فيلسوف العلم إزرايل شيفلر من الهجوم الذي بات مستهدِفًا الموضوعية:

أما إن مثال الموضوعية كان أساسيًّا للعلم، فهذا يتجاوز الشك والتساؤل … البديل الأقصى الذي يحمل تهديدًا هو النظرة القائلة إن النظرية ليست محكومة بالمُعْطَيات، بل إن النظرية تَصطنع المُعْطَيات؛ ولا يمكن تقويم الفروض المتنافسة تقويمًا عقلانيًّا؛ لأنه ليس ثمة ساحة محايدة للالتجاء إلى الملاحَظة ولا مَخزون مِن المعاني مُتَّفق عليه؛ وإن التغير العلمي ليس نتاجًا لتقدير له أدلته وحُكم منطقي، بل نتاج للحدس والتعقب والارتداد؛ وإن الواقع لا يحصر حدود تفكير العالم بل إن الواقع ذاته إسقاط لذلك التفكير.٢٤

إذا لم يكن العلم موضوعيًّا تمامًا، فإنه يَتركنا في وسواس الشعور بعالم مراوغ نِسبي ذاتي. ومن دون أن نُمسِك بجمع اليدين على ما هو واقعي، نَخشَى أن ينزلق العالَم الصلب من بين فروج أصابعنا كحبَّات الرمل.

في العام ١٩٨٩م نشرَت لجنة السلوك العلمي في الأكاديمية القومية للعلم كُتيِّبًا بعنوان «في أن تصبح عالمًا» حيث تعترف اللجنة بأن المعرفة العلمية تنشأ عن عملية إنسانية إلى حد بعيد. تُقر بأن الجانب الأكبر من المعارف التي يستخدمها العلماء في اتخاذ القرارات «ليست نتاجًا للبحث العلمي، بل تتضمن بدلًا من هذا أحكامًا مُحمَّلة بالقيمة، والرَّغَبات الشخصية، بل وحتى شخصية الباحث وأسلوبه.٢٥ بعض القيم المفطورة في العلم تَتضمَّن: البساطة والطلاوة وأن الفروض مُتَّسقة داخليًّا، والقدرة على وضْع تَنبُّؤات دقيقة. تَعترِف اللجنة بأن ارتباطًا قويًّا بفكرة ما قد يكون في الأعم الأغلب جوهريًّا حين مواجَهة كدح الباحث وإحباطاته. في الواقع، ثُلَّة من العلماء الممارِسِين هم الذين يَجدون أنهم وزملاءهم يُطابِقون النموذج النمطي للعالِم الخالِص، والموضوعية، والنزاهة.

يلاحِظ إيان ميتروف في كتابه «الجانب الذاتي من العلم»، أن المعرفة العلمية ذاتها تُنال من خلال عملية مُعارِضة. وكما يَتمثَّل المحامون بحماس مَشبوب جانبهم في القضية، يُناصِر العلماء نَظرِيَّاتهم ويُدافِعون عنها. وكما لاحظ أحد العلماء:

إن الانحياز له دور يَلعبه في العلم ويُؤدِّيه جيِّدًا. بعض من مشاغل (العلم) هي غَربَلة الدليل والوصول إلى الاستنتاج السليم. ولإنجاز هذا، يجب أن يكون لديك مَن يقيمون الحجة لجانِبَي الدليل كليهما. هذا هو السبيل الوحيد لكي نستطيع أن نجعل الموقف يَستقيم، ولستُ أحب أن يكون العلماء من دون انحياز ما دام أن كثيرًا من جوانب الحُجَّة لن تُعْرَض أبدًا. لا بُدَّ أن نكون مُلتزِمين عاطفيًّا بالشيء الذي نفعله بهمة. لا أحد يستطيع أن يفعل أي شيء بهمة منطلقة إذا لم يكن ثَمَّة ارتباط عاطفي به.٢٦
وجد ميتروف في مُقابلاته مع علماء رحلة أبوللو إلى القمر أن غالبيتهم يُعرِّفون العالِم الجيد بأنه المُلتزِم إلى أبعد حد بوجهة من النظر. وجاهَرُوا بالاستجابة إلى الإفراط في الالتزام، والبحث الانتقائي عن المُعْطَيات لتلائم نظرياتهم، وأن يَعرِضوا عَمَلهم في الطليعة بصورة مُثيرة، وفي أبْهَى مَعرض ممكن. وعلى الرغم من أن كل باحث يَختبِر فكرته ويُراجعها على المُعْطَيات، فقد صرَّح أحد العلماء: «إنك لا تكذب الدليل في العلم تكذيبًا واعيًا بل تجعل أولوية أدنى لجزء من المُعْطَيات لم يوافقك. لا أحد من العلماء ذائعي الصيت يَفعل هذا عن وعي، إنك تَفعلُه عن لا وعي.»٢٧ وانتهى ميتروف إلى أن التزام العالِم الفَرد يُؤدِّي إلى تحليلات تفصيلية وشاملة للبدائل المُمكنة وهي تحليلات ضرورية من أَجْل بلوغ مُقتدر للمعرفة العلمية. وبدلًا من إزالة الانحياز والالتزام، يقيم ميتروف الحُجَّة على أن هدَّفَنا ينبغي أن يكون تَفهُّمهما بشكل أفضل حتى نستطيع أن ننظر في تأثيرهما.
وعلى مستوى أكثر دهاء يُناقش عالِم الفيزياء النظرية، بريان مارتن B. Martin الافتراضات الأولية وفُروض القيمة والانحيازات في بَحثين فَنِّيَّين يتناولان تأثير الانتقال الفوق صوتي الذي يُنهِك طبقة الأوزون الإستراتوسفيرية.٢٨ في مثل هذه الدراسات، تصل المَقالتان المنشورتان في مَجلَّتَي «ساينس»، و«نيتشر» إلى نتائج مختلفة اختلافًا جذريًّا. ويشير مارتن إلى المستويات العديدة التي يَتخيَّر منها المؤلِّفان حُججهما ويُوجِّهانها شَطر استنتاج مُعيَّن، بدلًا من طرح عرض متوازن للنتائج. ويُسمَّى هذا «قَسرًا» للحجة والوثائق، وكيف أن هذين الباحِثَين يُدعِّمان استنتاجاتهما بطريقة انتقائية عن طريق اختيار فروض ومناهج فَنِّية معيَّنة، والإشارة إلى دليل مرجعي بانتقاء أدبيات مُعيَّنة، ويَتجاهلان الكشوف المناقضة، ويَدسَّان عبارات كيفية، مُشددَيْن على النتائج الدرامية، ويُشيران إلى الحجج البديلة بطريقة ازدرائية. ومُجرَّد اللغة التي اختارها المؤلِّفان تَكشِف عن انحياز:
بحث يحاول أن يَلفِت الانتباه لأثر يعتقد أنه مهم بحث يحاول تبيان أن الأثر نفسه غير ذي أهمية
الساتر الأوزوني طبقة الأوزون
وطأة ن أس مقدار ن أ
تهديد أ٣ في الإستراتوسفير* يتفاعل معه، وبالتالي يضعفه
يسمح للإشعاع الشديد … بالنفاذ إلى طبقات الغلاف الجوي السفلى الإشعاع يصل إلى سطح الكوكب
الإستراتوسفير هو الطبقة العليا من الغلاف الجوي، المُكوِّن الأساسي لهذه الطبقة هو الأكسجين، وأحد مُكوِّناتها أكسيد النيتروز حيث يَتَّحِد الأكسجين مع النيتروجين. و«أ» رمز الأكسجين و«ن» رمز النيتروجين، و«ن أ» ترمز إلى أكسيد النيتروز. ثمة أول أكسيد النيتروز «ن أ١» حيث ذرة أكسجين واحدة، وثاني أكسيد النيتروز «ن أ٢» حيث ذَرَّتا أكسجين، وثالث أكسيد النيتروز «ن أ٣» حيث ثلاث ذرات أكسجين. والرمز س في «ن أ س» يعني أيًّا من هذه البدائل الثلاثة. أما «أ٣»، فتعني ثلاث ذرات أكسجين مُتَّحدة معًا، وهذا هو جزيء الأُوزُون. (المترجمة)

وفي الاعتراض على دراسة مارتن، شدَّد كِلا المؤلِّفَين على إنكار أنهما قد مارسَا «قسرًا». ونحن كهذين المُؤلِّفين، طالما بَقِينا على غير وعْي بافتراضاتنا وانحيازاتنا، يَبقى مفهوم «الحرية العلمية» وهْمًا خادِعًا. قبل أن نستطيع التَّحرُّر، يجب أولًا أن نكون قادِرِين على رؤية السلاسل التي تُقيِّدنا. يجب أن نَعِي إحالاتِنا المعرفية السابقة على النُّضج في صورة افتراضات، والحدود التي نَقبل بها من دون تساؤل.

قد لا تكون الموضوعية في واقع الأمر مُمكِنة، ومع هذا تَبقى راسخة بثبات كمثال نَزود عنه. هذا المثال من القوة بحيث إن نُقَّاده كأنصار الحركة النِّسْوية يُدافعون عن الوعي بالتأثيرات الذَّاتية لكي يَجعلُوا العلم أكثر موضوعية. بعبارة أخرى، الوعي بانحيازاتنا سوف يَرقى بالعلم، ويُضفي عليه مزيدًا من الثقة.

في مناقَشات الذاتية مُقابِل الموضوعية، يُقِيم الكثيرون الحُجج من أَجْل أحد الطرفين الأقْصَيين. وبينما أوافق على أن المُقارَبة الذاتية تمامًا للعلم ليست مُفيدة؛ لأنها لا تسمح بالتشارك في المَعرفة، فإني مُعنِيَّة باستكشاف «الوسط المُمتنع». ماذا لو نَظرْنا إلى مَجالَي الموضوعي والذاتي من حيث يخترق الواحد منهما الآخَر، أين يتفاعلان ويُبصر الواحد منهما الآخَر؟ ماذا لو أن النظرة الموضوعية للطبيعة استضاءت عن وعْي بما هو شخصي، وأقيم الشخصي على أساس الموضوع؟ ما هي المَنافع التي نجنيها من جرَّاء ارتباط شخصي بالمعرفة؟ من المنظور الأُنْثَوي، كل حقيقة كائنة في سياق. ولكن كشأن الشَّواش، الحَقائق المُختلفة العديدة محصورة داخل حدود. وعلى الرغم من أننا قد لا نعرف الحقيقة أبدًا، فإننا نستطيع استكشاف الوجوه المختلفة للواقع، ونطوف نحو الحقيقة، نُصْلَت إليها كما لو كانت جاذبًا، بطريقة دوران البندول حول نقطة مركزية، مع كل دورة نَجتاز نواحي مختلفة ونَقترِب أكثر من المركز.

نظرية الكوانتم في الفيزياء، ونظرية الشَّواش في الرياضيات تَطرَحان عددًا من القيود النظرية والعملية للموضوعية. وحالَمَا نَعترف بالقيود النظرية والعملية للموضوعية، سنتمكن من استكشاف كيف تستطيع الذاتية أن تقوم بدور في العلم بأسلوب بنائي.

نظرية الكوانتم بوصفها صوتًا أُنْثَويًّا

تمامًا كما بَدَّلت نظرية الشَّواش من حال الرياضيات، تُمثِّل نظرية الكوانتم سبل الأضداد enantiodromia في الفيزياء. إن مجيء نظرية الكوانتم قَلَب أصلب العلوم رأسًا على عَقِب، العلم الذي أوجز القياس الاختزالي للواقع الموضوعي. وبدلًا من كَوْنٍ جامد من الموضوعات يُلاحظه العالِم المتجرِّد، تكشف نظرية الكوانتم عن شبكة كُلَّانيَّة holistic من التواصل المتبادَل. وعلى الرغم من أن الفيزيائيين المُنهمِكين في رفع النقاب عن عالَم الكوانتم قد أدرَكوا فعلًا ما يَعنيه هذا العالَم من الناحية الفلسفية، فإن مُعظم الفيزيائيين الآن يستخدمون المعادَلات من دون أن يَتدبَّروا ما تَتضمَّنه بشأن طبيعة الواقع على المستوى الأكبر. وعلى الرغم من هذا، تُلامس ميكانيكا الكوانتم حياتنا اليومية في صورة القُوَّة النووية، والراديو الترانزيستور، والحواسب الصُّغرى، والساعات الرقمية، والليزر، وأجهزة التليفزيون. ومن دون فَهْم ميكانيكا الكوانتم، ما كان من الممكن التوصُّل إلى تفسير مُعْطَيات حُيود الأشعة السينية التي أدَّت إلى اكتشاف اللَّولَب المُزدوَج للدنا DNA.٢٩
كما هو الحال في نظرية الشَّواش، نشأت عن نظرية الكوانتم الخصائص المُحالة إلى الأُنْثَوية. إن مناقشة نظرية الكوانتم في أعماقها تتجاوز مَجال هذا الكتاب، بينما يمكننا أن نستكشف كيف تَتمثَّل جوانب شَتى من الأُنْثَوية في عالم الكوانتم. يُمثِّل مبدأ اللايقين لهيزنبرج بعضًا من المَعالم الدامغة لنظرية الكوانتم، العلاقة المُعقَّدة بين المُلاحِظ والمُلاحَظ، وثنائية الموجة/الجسيم (التكامل الذي يُناقَش في الفصل السادس). علق هيزنبرج قائلًا: «ترسو أنطولوجيا٣٠ المذهب المادي على وَهْم مفاده أن نوع وُجود العالَم من حولنا، اتجاهه الفِعلي، يمكن تقديره استقرائيًّا من المستوى الذَّرِّي. ومَهما يَكن الأمر، هذا التقدير الاستقرائي مستحيل.»٣١
الطبيعة لا تَتموضَع في مكان معيَّن، وغير قابلة للفَصم والقصم، وجاء الإظهار الأكثر درامية لهذا من تجارب قام بها فريق آلان أسبكت A. Aspect في جامعة باريس الجنوبية العام ١٩٨٢م.٣٢ تُخبرُنا تجربة أسبكت أن الجُسَيمات التي كانت في وقت ما تتفاعل معًا تظل جزءًا من مَنظومة مُنفرِدة وتستجيب معًا في التفاعلات المُقبِلة. أظهر فريق أسبكت أنَّك إذا غيَّرْت حالة جُسيم هو أحد الزوجين من جُسَيمَيْن مُنفصلَين كانَا فيما سبق معًا، فإن الجُسَيم الآخَر يتَغيَّر على التو، حتى ولو كان قد أُبعِد بحيث لا يعود الاتصال بسرعة الضوء يسمح له بأن يعرف. بعبارة أخرى، هناك ترابطية. بخلاف مرور الإشارات الكهرومغناطيسية بين الجُسَيمَين، ثَمَّة تَعارُف بين الجُسَيمَين يَصلهما أو يكون مَعروفًا لكلا الجُسَيمَين، وبالتَّقدير الاستقرائي لدلالة هذا، نَجِده يعني أن ثَمَّة اتصالًا بين كل الجُسَيمات، بين كل أجزاء الكون؛ لأنه يمكن افتراض أن كل أجزاء الكون كانت مترابطة معًا في الانفجار الكبير. وما دام يمكن من الناحية النظرية تَتبُّع آثار كل شيء من حولنا عَودًا به إلى الانفجار الكبير، فإن النوع البشري كله والطبيعة بأسْرها جزء من المنظومة نفسها.
تبعًا لمبدأ اللايقين لهيزنبرج، لم يَعُد من الممكن فَصْل الأشياء عن فِعل القياس، وبالتَّالي عَمَّن يقوم بالقياس. وبَينَا يكون من الممكن قياس وضْع أو عزْم إلكترون (العزم أو كمية التَّحرُّك هو السرعة والاتجاه مَضروبان في كُتلة الإلكترون)، لا نستطيع قياس الوضع والعَزْم كليهما. فِعْل وضع الإلكترون تحت أشعة جاما يقذف به عن مساره. بَيْد أنَّ نظرية الكوانتم تذهب إلى ما هو أعمق من هذا. ليس يقتصر الأمر على أننا لا نستطيع ابتداع مِجَسَّة رشيقة بما يكفي بحيث لا تَقذِف بالإلكترون عن مَساره. يُقر مبدأ اللايقين أنَّنا لا نستطيع أن نَعرِف. وتبعًا للمُعادلات الأساسية في ميكانيكا الكوانتم، لا يُوجد شيء من قبيل إلكترون له العَزم الدقيق، والموضع الدقيق كلاهما. وهذا يتضمن أنه لا يمكن معرفة كل خصائص النَّسَق معرفة مُنضبطة. إذا قِيست خاصية مُعيَّنة بدقة، ستغدو خاصية أخرى غير يقينية. وكَتَب ماكس بورن M. Born، وهو صِنديد آخَر من صناديد الكوانتم، يقول إنه «لا يمكن وصف أية ظاهرة طبيعية في المجال الذري من دون الإشارة إلى المُلاحِظ، ليس فقط إلى سرعته كما في النظرية النسبية، بل إلى كل مَناشطه في إجراء المُلاحَظة، وإعداد الأدوات وما إليه.»٣٣ تثبت نظرية الكوانتم، مِثلما تُثبت نظرية الشَّواش، أن عدم القابلية للتَّنبُّؤ أساسية في الطبيعة (وهذا ما يتم غالبًا إسقاطه على الأُنْثَوية) حتى إننا لا نستطيع الحديث إلا بلغة الاحتمالات.
حالة اللايقين، كما النموذج النمطي للمرأة تُغيِّر رأَيْها باستمرار، تَساوَت مع الضَّعف، وأحيلت إلى الأُنْثَوية. لكن اللايقين، من مَنظور آخر، يهب الحرية. لا يمكن التَّحكُّم في شيء ما لا يقيني. النساء في تربيتهن الأطفال، أو البَشر الذين يحيون حياة تُدانِي الطبيعة، يَعيشون يوميًّا مع اللايقين. والحق، أن أقصى ما نأمل فيه هو أن نُحدِّد بعناية حدود اللايقين ونَعترِف بلا يَقينيَّاتِنا. حينما نعترف عن وعي بلا يَقينيَّاتِنا، بدلًا من التغاضي عنها، نكون أكثر ميلًا للانفتاح على مناهج أخرى للسير. اللايقين يفتح مجال الخيارات، وبدلًا من الارتكان على التخطيط والجهود المُجدوَلة إلى أعلى حدٍّ في ضبْط الانتقال من التجربة «أ» إلى التجربة «ب»، فإن اللايقين يُحرِّرنا لنندمج في تغذية استرجاعية، ونعيد النظر في تَحرُّكنا واتجاهنا أثناء عَملِنا في المُتَّجه العام. وإذ تُبصِّرنا لايقينيَّاتُنا، نستطيع استغلال التغذية الاسترجاعية لنستجيب بمرونة لكل مَوقف على نحو فريد، وبَعريكة لَيِّنة نُعدل عَمليَّتنا أثناء سَيرِنا، نتفاوض مع تَعدُّدية الأشياء المُتغيِّرة، والمُعقَّدة كما يفعل المُستكشِفون في أراضي مَجهولة، ونحن بالفعل هكذا.٣٤

بينما تنطوي نظرية الكوانتم على أن الواقع لا يمكن أبدًا وصْفُه بدقة، بدَت التأثيرات محصورة ابتدائيًّا على مستوى الكوانتم. واصَل الفيزيائيون الاعتماد على الميكانيكا النيوتنية لحساب الأحداث على المستوى الأكبر، من قَبيل حركة كرة البلياردو. الآن تكشف نظرية الشَّواش كيف أن اللايَقينِيَّات والتَّقلبات الصغيرة على مستوى الكوانتم يمكن أن تَتضخم بعمليات تكرارية (كالفاندة المُركَّبة على حساب البنك) حتى يصبح لها تأثير جوهري على العالم الأكبر. يُمكن أن يطفو تَقلُّب الكوانتم ليصل إلى مستوى واقع الحياة اليومية بطريقة يوصِّفها المَثل الشائع «حرصًا على الظُّفر خَسِرْنا الحِذَّاء؛ وحرصًا على الحِذاء خَسِرنا الفَرَس، وحرصًا على الفَرَس خَسِرنا الفارس، وحرصًا على الفارس خَسِرْنا الحرب». في الطقس نُلاحِظ هذا النَّمط من التَّغيُّر بصورة درامية (منذ أن ذهبتُ إلى سياتل وأنا مقتنِعة أنهم يرسلون العامِلين في توقُّعات الطقس إلى شَمال غرب المحيط الهادي لتعلُّم التواضع).

الذاتية في نظرية الشَّواش

يقوم العِلم على المُلاحَظة والقِياس. وبالنِّسبة للعالِم ذي النظرة المادية الخالصة، إذا لم يستطع المرء أن يُعيِّن شيئًا ما بإحدى الحواسِّ الخمس، أو باستخدام الأجهزة التي تَمُد مجال عمل تلك الحواس، فإن هذا الشيء غير موجود. قياس الشيء يُثبِت واقعيَّتَه. العلم «لا يؤمن بالعفاريت» لأن أحدًا البتة لم يستطع أن يقيس عفريتًا. إلا أننا نستطيع الآن أن نقيس أشياء غير مرئية من قَبيل الكهربية، والمغناطيسية، وهي أشياء بَدَت للأعضاء المُؤسِّسين للجمعية المَلكية في لندن واقعة في دائرة السِّحر. وإذ تصبح الأجهزة والأدوات أكثر دهاءً وتعقيدًا، يمكن إجراء قياسات أدق وأدق. ولكن هل تعطينا الدِّقَّة الأعظم توصيفات أصوب للطبيعة؟

تكشف نظرية الشَّواش أيضًا عن الاعتماد المُتبادَل بين المُلاحِظ والملاحَظ. على المستوى الأكبر، يَتحدَّى مُنظِّرُون؛ أمثال مندلبرو موضوعية القياس الكَمِّي، وهو أحد أُسس العلم. كَتب مندلبرو «ليس مفهوم الطول الجغرافي مفهومًا مُسالمًا كما قد يبدو. إنه ليس ٤موضوعيا بالمرة. لا مَندوحة عن أن يَتدخَّل الملاحِظ في تعريفه.»٣٥

وحتى الشيء البسيط كقياس طول خط الساحل يَعتمِد على منظور استشرافي للمُلاحِظ. وخلافًا مع بحث يُجرَى لإثبات تَفوُّق ذكاء الرجل على ذكاء المرأة، ينبغي أن يكون قياس طول خط الساحل عملية أمينة صريحة، خِلْوًا من أي تورُّط عاطفي، أو ضغط سياسي، أو انحيازات لاواعية من قِبَل الباحث. ولكن عن كَثَب أكثر يجد الفحص عددا هائلًا من القرارات لا بُدَّ أن يَتخذها الباحثون قبل أن يَمتطُوا صَهْوة مَشروعهم. لا بُدَّ أن يَفْصل الباحثون في مستوى الضَّبط الضروري وأن يَختاروا أدوات القياس، وكِلا الأمْرَين يعكس المقصد من القياس.

أي غرض سوف تفيد فيه المعلومات؟ هل هي من أَجْل تشييد طريق على طول الساحل يربط المَجاري المائية بالوديان؟ وفي توصيف نزهة سيرًا على الأقدام بطول الشاطئ، يغدو خط الساحل طويلًا بطول ما يرتاده المُتنَزِّه من جلاميد وخلجان وثغور. وتقريبًا يغدو طول خط الساحل لا متناهيًا بالنسبة لنملة في اجتيازها المُضجِر للحصى والصخور على طول الشاطئ. أين تبدأ الأرض؟ وأين ينتهي المحيط؟ أكان مَد البحر عاليًا أم واطئًا ونحن نُجْري القياس. وسوف يغدو خط الساحل أطول كلما كان القياس أدق، حتى إننا نَعْنِي بأن نأخذ في اعتبارنا الشقوق بين حبَّات الرمال، ومن ثَم محيط الجزيئات التي تُشكِّل الرملة. ولكن هل تُعطينا الدِّقة المتزايدة إجابات أصوب، لزامًا علينا أن نجيب بالنفي؛ لأن كل خطوط السواحل حينئذٍ سيكون لها الطول اللامتناهي نفسه، وليس لهذا «مغزى»، ولا هو مفيد. يجب أن تُجرَى كل القياسات داخل سياق. مجددًا، ترتبط نقطة استشراف الباحث ارتباطًا وشيجًا بالنتائج المُتحصِّلة.

اكتشاف أنفسنا من خلال التجريب

إن العلم بِتوجُّهِه نحو الموضوع والمُعْطَيات الموضوعية، إنما يتخذ رؤية انبساطية للعالم ويَنحاز ضد الانطواء، حيث تكون الذات هي العامَل المُحرِّك الأول والموضوع ذا أهمية ثانوية. وبالإعلاء من قيمة قُدرتِنا على الإحاطة الموضوعية بالعالَم، نَقمَع أهمية إسهامات العوامل الذاتية، واصِمين إياها بأنها «محض ذاتية».

ولما كنتُ منطوية على نفسي، فقد دار اهتمامي بالعلم حول ما يخبرني به من سُبل جديدة لرؤية الواقع. وعن طريق مواجهة فروضي عن العالم، أكتشف كيف أصنعُ لنفسي حدودًا. توسيع رُؤاي للعالم أتاح لي أن أوسع نطاق ممكناتي. وهذا يستلزم فعلًا من أفعال الإرادة، إرادة أن «أرى»، أن أتغلَّب على التَّنوِيم المغناطيسي الذي يمارسه التوقع. وأندهش: ماذا لو كان هذا صادقًا؟ وماذا يعني بالنسبة للطريقة التي أرى بها العالَم وأعيش بها حياتي؟ كُلَّما أتعلم أكثر عن العالَم، أتعلَّم أكثر عن نفسي. وكلما أتعلم أكثر عن نفسي، خصوصًا من خلال التحليلات اليُونجِيَّة [نسبة إلى يونج]، أتَعلَّم أن أسترجِع الإسقاطات التي أُقولِب فيها العالَم.

الإسقاط يعني «ترحيل المحتوى الذاتي إلى موضوع»،٣٦ كإسقاط الصورة على الشاشة. ونحن نستخدم هذه الآلية لكي نُخلِّص أنفسَنا من المؤلم، غير المرغوب فيه، غير المُتوافق مع جوانب من نفوسِنا تقبع في الظلال المُعتِمة. كما نُسقط أيضًا جوانب ناصعة لا نَتملكها في نفوسنا. يخدم الإسقاط وظيفة نافعة لتطوير الوعي ومعرفة الذات. وعن طريق إسقاط مَكنونات أنفسنا المسكوت عنها، تغدو رؤيتها أسهل مما لو بقيت في الداخل. بَيْد أنَّ إسقاطنا على موضوع ما ليس يَعني أن العالَم محض وَهْم، غير مرتَبط بالواقع. يصف يونج العلاقة بين العالَمَين الذاتي والموضوعي على النحو التالي:
عوامل شخصية وعَرَضية عديدة تَتدخَّل في صُنع النظريات والمفاهيم العلمية. ثَمَّة أيضًا مُعادِل شخصي وهو سيكولوجي وليس محض سيكوفيزيقي. نحن نرى الألوان ولا نرى أطوال الموجات. هذه الواقعة المعروفة جيدًا يجب أن نفكر فيها جِدِّيًّا من كل صَوْب وحَدَب وبعمق أكثر مما يفعل علم النفس. يبدأ تأثير المُعادِل الشخصي في حينه مع فِعل الملاحَظة. يرى المرء ما يرى فيه نفسه في أفضل حال هكذا يَرى المرء، أولًا وقبل كل شيء، الهَبَاءة في عين أخيه لا شك أن الهَبَاءة موجودة ثَمَّة، بَيْد أنَّ الشُّعاع حط في عين المرء، ويمكن أن يَعترِض الرؤية اعتراضًا لا يُستهان به.٣٧

لكي نستمسك بالإسقاط لا بُدَّ أن يكون ثَمَّة مِشْجَب نعلقه عليه. وهكذا تغدو مَكنونات الإسقاط مُشتبِكة مع الموضوع الخارجي، ومن ثَمَّ يجب أن نَتعلَّم تمييز الموضوع عمَّا نَتعطَّش إليه. التوقُّعات المُحبطة، التَّنافر بين ما نَتخيله حقيقيًّا وبين الواقع، هو ما يومئ إلى حدوث إسقاط. ونستطيع أن نَتبيَّن الإسقاط حين نَحذر الانفعال بمشاعر قوية مُعيَّنة من الانجذاب أو النُّفور، تُحرِّك المشاعر بصورة لا تتناسب مع الموقف. وإلى أن ينسحب الإسقاط، تكون العلاقة مع الموضوع في أحد جوانبها وهمية خادعة، وتميل إلى عَزْل الذَّات عن البيئة. انسحاب أو ذوبان الإسقاطات يَفتح الباب لعلاقة واقعية مع العالم.

إن الجانِب اللاواعي من نُفوسِنا الذي يبحث عن تَجلية يستخدم آلية الإسقاط ليجعلنا نتفاعل معه. حين يقع رجل في حُب امرأة، يُسقِط الجانب الأُنْثَوي من ذاته على تلك المرأة ويَشعر أنه يعرف كل شيء عنها. بعضٌ من تلك الخصائص تكون ماثلة، فعلًا، في المرأة، بما يكفي لتعليق الإسقاط. وينكشف حجاب الفِتنة حين يبدأ الرجل في تَمييز حقيقة المرأة كفَرد عن المخزون الكُلِّي من الخصائص التي أسقطها. حين نأبَه بالأمر، يُفيد الإسقاط كخطوة أولى نحو معرفة الذات. ومن الناحية الأخرى، نجد أن رفْض الاضطلاع بمهمة سَحْب الإسقاطات له عواقب وخيمة. إن الإصرار على الاستمساك بخصائص لا نمتلكها خارج ذواتنا يَنجُم عنه التعصُّب والمَحْرقة والحرب.

أدرك يونج في دراسته للسيمياء أن السيميائيين كانوا يُسقطون خصائص نفسانية، وعَملِيَّاتهم الجُوَّانية على المواد الفيزيقية والإجراءات داخل المُختبَر. لقد وصَفوا، بُلغة رمزية وخيالية، الظواهر كما لو كانت تَحدثُ خارج نفوسهم في المواد التي يُعالجونَها. وفي الآن نفسه، وجد يونج عبارات عن حقائق رُوحية وفلسفية ضمن توصيفاتهم للإجراءات السيميائية، بما يدل على أن السيميائيين أقَرُّوا بالمستوى السيكولوجي لعملهم.

وبالمثل، يومئ عملُنا — سواء أكان في الفن، أو في الأنشطة الاقتصادية، أو في العلم — إلى مسائل شخصية. وبِوصْفِنا علماء، نُسقط مكنونات نفوسنا الفردية على موضوعات الطبيعة وظواهرها التي ندرسها. أكَّدَت مناقشات الذاتية، حتى الآن، كيف أن الوعي بالآثار المُنحازة للقيم الشخصية والقيم الحضارية يمكن أن يَرتقِي بالعلم. والآن دَعُونا نُقلِّب الأمر على وجهه الآخر ونَتساءل عن الدور الذي يلعبه البحث العلمي في الارتقاء الشخصي للعالَم.

بينما كنتُ أعمل في هذا الفصل، حضَرتُ ورشة للكُتَّاب لكي أواصل الارتقاء بأدائي المهني. وطَلب منا المتحدِّث أن نأخذ إحدى المسائل التي نُعْنى بها كثيرًا ونَنسجها في حكاية شخصية. جلستُ على مقعدي أتأمَّل كيف يعكس بحثي العلمي مسائلي الشخصية، على طريقة إيمان السيميائيين بأن حدوث التفاعلات في الأنبيق، الوعاء السيميائي، يعكس ما يدور داخل نفوسهم. وتبعًا ليونج، يميل اللاوعي إلى أن يَحيَا بذاته مُتخارجًا في أفعال فيزيقية تحمل علاقة رمزية بما تريد النفس أن تجلبه إلى الوعي.

وحين تَفكَّرت في بحثي احتقن وجهي. شعرت أنَّني أنفضح. لقد أدركتُ أن بحثي يُومِئ إلى مسائل سيكولوجية باتَت جوهر تحليلاتي اليُونجِيَّة على مدار السنوات الخمسة الماضية. في الكُلِّية، درستُ تأثير المواد المُخدِّرة على خلايا نَسيج مُستنبَت من قلب نابض، وعلى سبيل المَجاز كانت نفسي تُومِئ إلى مشاعر خَدَّرتُها لكي أبقى على الحياة بَينما تعرضَتْ طفولتي للانتهاك. وفيما بعد أَجريتُ بحثًا في مجال المرض الذي ينتقل عن طريق العلاقات الجنسية، بما يشير إلى شئوني الشخصية المتعلِّقة بانتهاك جنسي إبَّان الطفولة. هل هذا أمْر بعيد الاحتمال؟ ربما. ولكن بينما كنت جالسة على مقعدي أصطنع هذه الترابطات في ورشة العمل، شعرتُ بأنها قريبة جدًّا من الحقيقة التي ينشرح لها الصدر. وفي إنكارٍ دفاعي، اعترضَت العالِمة داخلي بأنني كنتُ أفعل ما هو أكثر من هذا.

أردت أن أكتشف ما إذا كان العلماء الآخَرُون وجَدُوا أنماطًا مماثلة في عملهم. بَيْد أنَّ هذا كشَف عن صعوبة كبرى. مُعظم العلماء مِثلي، ليس لديهم فكرة عن أنهم يكشفون عن أنفسهم في عِلمهم. كثيرون نظروا بازدراء إلى علماء النَّفْس واستَخفُّوا بهم، قائلين «إن علماء النفس في هذا عليهم أن يضطلعوا فقط بمسائلهم». يؤمن العلماء الذين يُمارِسون العلم الصُّلب — العلم «الحقيقي» — أنهم جميعًا «يد واحدة» ويُمارسون عملًا منتجًا وله مَغزاه ويُؤمِن مُعظَم الباحِثين أنهم يُمارسون عملًا موضوعيًّا للتنقيب عن الحقيقة بشأن العالَم، ولسوف يُنكرون أنهم في المُختبَر يعملون في مسائل سيكولوجية. إن عملهم مُختص بكشف الطبيعة كأحرى من أن يكشفهم شخصيًّا، ومَغزى الانفصال عن العمل، التَّجرُّد من الوعي بالذات أو بالآخَرين، يَمنحهم الشعور بالعِزَّة. يرفض مُعظَم العلماء بِعناد الاعتراف بأنهم يُمارِسون أي شيء سوى العمل العلمي الخطير.

وبينما لا أشك في أنهم يُمارِسون علمًا مُهمًّا، تَعجَّبتُ مما إذا كان يمكن أن يوجد أي شيء من قَبيل التجربة الموصومة. وفضلًا عن قناع الإنكار هذا، ببساطة لم يتوافر لمعظم العلماء الوقت أو المَيل للتأمُّل الشخصي أو الاستبطان. إنهم (غير مُدرَّبِين على التفكير بلغة عِلْم النَّفْس وظَلُّوا على غير وَعْي بأمورهم المُعلَّقة ومسائلهم. في ثقافتنا، نظل ننظُر إلى الشخص الخاضع للعلاج على أنه مريض بدلًا من أن ننظر إليه على أنه ينمو ويرتقي. مثل هذه الديناميات تجعل الدراسة العلمية مُستحيلة تقريبًا. على أية حال، وجدتُ فعلًا عالِمات، وعلماء كُثر يشعرون بالارتياح لاستكشاف المسألة. وما داموا قد أشركونا في قصصهم عن ثقة، ولامسوا أخصَّ الجوانب في حياتهم وأكثرها تعرُّضًا للانجراح، فلن أذكر أسماءهم.

ها هي ذي عالِمة متخصصة في بيولوجيا الخلية بدأتْ مهنتها كباحثة بالعمل في تكوين الأبواغ في البكتيريا، تدرس الأسباب التي تجعل البكتيريا تلتزم بالتغيُّر، بأن تَصطنع طبقة من البروتين تُزوِّدها بدفاع ضد ظروف غير مؤاتية. بالتزامن مع هذا (؟)، تركَّزَت إحدى مسائلها حول الموعد الذي تخلف فيه، علاقات ووظائف ومواقف أخرى باتَت لاذعة. إنها تميل إلى التعلُّق بالأشياء طويلًا. تَندَّرْنا بحافظة نقودها العتيقة التي يَتَّصل نِصفاها معًا فقط بخيط منفرد. في فترة لاحقة، أنجزَت مشروعًا حول تأثير عوامل النمو على التصاق الخلايا. وتُحدِّثنا حول مَشروعَي البحثين وكيف يَتبَع كلاهما أطروحة الارتباط نفسها ومتى يكون الالتزام بالتَّغيُّر. وبعد هذه المُناظرة ببضعة أسابيع، تحدثتُ إليها عن مشروعها الجديد. قالت: إنها تخطط لدراسة انتقال مرض السرطان من عضو إلى آخَر، وخصوصًا حركة الخلايا وما الذي يُنشِّط تَحرُّكها، وحين ذكرَتْ كيف أنها تُواصل الأطروحة نفسها التي ناقشناها سابقًا، ضحكتْ وقالت: «هذا حق. بعبارة أخرى، أنا أسترسل وأنطلق قُدمُا. هذا مُسلٍّ! أنتِ تعلمين أنه حق، أليس كذلك؟ أنا لم أفكر في تلك المناظرة التي كانت بيننا!» وفي الوقت نفسه، كانت تَتَّجه إلى تَرْك الشركة التي عَمِلت فيها ما يربو على ثمانية أعوام.

وكانت عالِمة تدرس سرطان الثَّدْي وهي تَخوض مَعركَتها الثانية مع هذا السرطان في جسدها. وحين فازَت بعمل في دراسة في علم الأوبئة على سرطان الثَّدي، قالت مازحة: إنها أرادت أن تُمارِس عملًا في سرطان البروستاتا، «شيء ما لا يمكنها أن تَحظَى به أبدًا».

وانجذبَت عالِمة في المَناعة إلى العلم تعويضًا عن طفولتها المُشوَّشة. بدا العلم في ناظريها الشيء الوحيد الذي له أية صحة واقعية، المكان الوحيد الذي يمكن أن تَجد فيه الحقيقة الواقعية. وفي مُقابِل واقِعها الذي لا يمكن التَّنبُّؤ به، شعرتْ أنها يمكن أن تَجد النظام والصدق في القوانين العلمية. عَمِلت لما يزيد على عقد من الزمان في مَجال المناعة الذاتية، تدرس كيف يُباشر الناس الاستجابة المناعية ضد أنسجتهم هم. ومنذ ثلاث سنوات مَضت ونَيِّف واجهت عن وعي مسائل سيكولوجية عميقة. وحين كُنَّا نتجاذَب أطراف الحديث، كانت تربِط عَملَها في المناعة الذاتية بِمغزًى عميق لرفض الذات أحسَّتْ به لِمَا يقرب من خمسين عامًا من حياتها. قالت:

كانت المسألة الكبرى لي طوال حياتي هي أنني لم أشعر أبدًا بأن لي الحق في الحياة. إنها لَحِقْبة. ويحسن أن يكون هذا رفض-الذات، وإذا طرحته بهذا الأسلوب يُكوِّن مناعة ذاتية. إنه يتلاءم حقًّا هكذا؛ لأن الرفض كان ينبعث من الداخل أكثر من انبعاثه من أي مكان آخر، وكان بي مثل هذا في ذلك الوقت العصيب. كان الذي يُثقِل كاهلي رفض، رفض شخصي، رفض لذاتي. النباتات والحيوانات والبشر من حولي لم يَتساءلوا أبدًا عمَّا إذا كان ينبغي أن يظلوا على قيد الحياة، وأنا طرحتُ هذا التساؤل كل يوم حين كنتُ طفلة. لم أمسك فعليًّا على هذا التساؤل أبدًا، فقط كان ثَمَّة ذلك الشعور الغامر. ولم يَتصوَّر عقلي أبدًا أين يُمكِن أن أُعالجه، ما دام كان عميقًا هكذا، أساسيًّا هكذا، مُبكِّرًا هكذا، وأن أَقْبَل نفسي ولا أرفضها تطلب جهدًا كبيرًا. والآن تَجاوزْت هذا وقرَّرتُ أن لي الحق في أن أعيش، وليس لي أن أكون بهذه القسوة على نفسي. وإذ اجتزتُ كل هذا، كادَت تنتهي حاجتي للعمل في المناعة الذاتية. وأريد الآن أن أمارس عملًا يُدواي.

في مسار إجراء الأبحاث، تَتبدَّى مشاريع مُعيَّنة ولكنها لا تكون «شيِّقة» وبالتالي لا تتم متابعتها، بينما تغدو مشاريع أخرى محورًا لعمل يدوم طوال الحياة، كبحث هذه المرأة في المناعة. إن الارتباط بالشأن السيكولوجي يَهَب العمل العلمي الطاقة النفسية. المشروع شائق لنا لأنَّه يُهمُّنا على مستوى سيكولوجي عميق. الشخصي والذاتي يُمثِّل قوَّة دافعة للعلم؛ لأننا نقوم بإسقاط شئوننا الذاتية ونحاول حلها داخل المُختبَر. وهذا يبث النشاط في أعطاف عَملِنا ويُنير له الطريق. إننا نصبح الوعاء السيميائي الذي تَحدُث فيه التفاعلات، وإذا نَجحْنا سوف ينبثق شيء جديد.

آن دي فور مُتخصِّصة في علم النَّفْس التربوي ومُحلِّلة نفسية تتبع كارل يونج، عَملتْ على عدد من المُتردِّدين عليها الذين هم علماء، وتُعطينا مثالًا هو عالم في الجيوفيزياء، ظل خمسين عامًا حَبيس إتمام أطروحته حول الطبقة المُتجمِّدة على عُمق متفاوِت تحت سطح الأرض في شمال أمريكا حيث لا يذوب الجليد أبدًا على سطح التربة. دارت المُحلِّلة النفسية حول مشاعره المتجمدة والمرأتين المتجمِّدَتين في حياته (أمه وزوجته). وحين رَبطتْ دي فور بين عمله في الأطروحة وبين البشر المُتجمِّدين من حوله، لم يستطع حينئذٍ أن يُواصِل مسار حياته. لم يَعُد لزامًا عليه أن يعمل في الأطروحة بعد الآن وبدلًا من هذا شغل وظيفة بالقِسم الخاص بأنتاركتيكا٣٨ في شركته، ليعيش في التبريد العميق لمدة عام. وفيما بعد طلَّق زوجته وتزوَّج امرأة دافئة.٣٩

في بعض الأحيان يرى الآخرون شئوننا وأمورنا المُعلَّقة أوضح ممَّا نراها نحن أنفسنا. أخبرتني باحثة عن زميلة كانت تعمل في الآثار الضارة لقطع القنوات. تَندَّر عليها رفقاؤها في العمل بأنها امرأة تَخصي. وكانت كزوجة هكذا بالفعل، لامَستْها هذه الدعابة عن كَثَب، وأثارت ثائرتها.

لا تعطينا الأمثلة السابقة برهانًا حاسًّا على أن الشئون السيكولوجية تدفع البحث العلمي، ومع هذا آمل في أنها قد تَشحذ همم الآخَرين ليشرعوا في الاندهاش كيف أن مسائلهم الشخصية قد تنعكس في العمل الخاص بهم. وقد تتساءلون، إذا كان عليكم أن تنظروا إلى بحثكم نظرة مَجازية، فهل سَترَون أيَّة علاقة بينه وبين الشئون السيكولوجية التي تَشغلكم، أو مجالات في حياتكم تحجبونها؟ أعتقد أيضًا أن هذا ينطبق على المستوى الجَمْعي في اختيار العِلم الذي يجري تمويله. مثلًا، مشروعات العلم الكبرى؛ مثل: الدفاع الحربي، ومشروع الجينوم البشري، وبرنامج الفضاء، ومُعجِّلات الجُسيمات.

ولكن هل تعطينا النظرة إلى العلم بوصفه أداة لمعرفة الذات علمًا أفضل؟ ورأيي المنحاز أجل، العلماء الأكثر وعيًا ينجزون علمًا أفضل، والأمران كِلاهُما يُسهمان في تطوير الوعي. إذا وعَينَا كيف يكون بحثُنا رامزًا لأنفسنا، نستطيع أن نطرح حلولًا في المختبَر كما نعمل على تَكامُلها مع حياتنا. تغدو حياتنا الجُوَّانية وحياتنا الخارجية مُتوشِّجتَين. وخلال مَسار البحث، نجد الارتقاءات السيكولوجية والتَّطوُّرات العلمية يُبصر كلاهما الآخر. حلول المشاكل الفنية يمكن أن تتكشف حتى في أحلامنا. ولكن حينما نحل المسألة الجُوَّانية، تبدو الطاقة وكأنها قد انسحبت من الأوج يغدو العلم مُملًّا، ونبحث عن مشروع يستثيرنا أكثر.

إن معرفة الذات، من حيث هي عملية تكرارية تفاعلية، تَهبُنا استبصارات للعلم، والعلم يُلقي الضوء على المسائل الشخصية. وكلَّما اكتشفْنَا أكثر عن الطبيعة، اكتشفنَا أكثر عن أنفسنا. وإذا نَكون على وعي بالرابطة بين النَّفْس والتجربة، نستطيع أن نطرح على أنفسنا أسئلة مختلفة حين يبدو العمل غير هادف. وحين تُخيِّبُنا تجربة أو مشروع بحث، أو حين يتواصل ظهور المَشاكل، يمكن أن نقطع خطوة إلى الوراء ونَتدبَّر ما إذا كان ثَمَّة شيء ما ذاتي، ربما تشير التجربة إلى الحاجة لتبديل منظورنا في المَجال الشخصي وبالمِثل تمامًا في البحث العلمي، كليهما. نستطيع أن نتساءل، إذا صغتُ هذه المشكلة بصورة مَجازية، ماذا سيحدث هنا، وما هي الديناميات الكامنة في الخَلْف؟

ساعَد العلم في إماطة اللثام عن الوهم الذي جعلَنا نعيش في خوف من قوى الطبيعة ومَنحنَا طرقًا جديدة لرؤية الواقع. وتُعينُنا معرفة سُبل الطبيعة على التعامل بفعالية أكثر مع الواقع وتَهبُنا قُوًى مُستجدة. بينما درس علماء كثير فن الطبيعة ليعرفوا الأكثر عن الرب، نستطيع نحن أيضًا أن نفحص تفاعلنا مع الطبيعة لنتعلَّم المزيد عن أنفسنا،٤٠ ونُسهم في ارتقاء الوعي. يمكن أن تساعدنا هذه المعرفة بالذات في تناوُل قُوانا المكتشفَة حديثًا تناولًا أكثر مسئولية، فنحن أيضًا صانعون إياها.
١    The Emporer’s New Clothes: هي قصة الدنمركي رائد أدب الأطفال هانز كريستيان أندرسون المُتوفَّى ١٨٧٥م، عن إمبراطور خرج عاريًا وسط تصفيق وتَهليل الجميع، حتى تَقدَّم طفل صغير ليسأل لماذا يسير الإمبراطور عاريًا؟ تُجسِّد القصة براءة الأطفال من الزَّيْف والنِّفاق وتَملُّق ذوي السُّلطان، وإدراكهم التلقائي للحقيقة. إنه سَبيل للإدراك. (المترجمة)
٢  Deepak Chopra, M. D., “The Quantum Mechanical Body,” a lecture given at the American Holistic Medical Association Conference on March 30, 1990, in Seattle. Audio tapes of this lecture (HM30) are available through Sounds True Catalog, 1825 Pearl Street, Boulder, CO80302. An endocrinologist and President of the American Association for Ayurvedic Medicine, Chopra was formerly chief of staff of the New England Memorial Hospital.
٣  Colin Blakemore and Grahame F. Cooper, “Development of the Brain Depends on the Visual Environment,” Nature 228 (31 October 1970), pp. 477-478. Also see Helmut V. B. Hirsh and D. N. Spinelli, “Visual Experience Modifies Distribution of Horizontally and Vertically Oriented Receptive Fields in Cals,” Science 168 (15 May 1970), pp. 869–871 . وأوَدُّ أن أشكر دافيدا تِيلر؛ لأنها لفَتت انتباهي لهذه الأبحاث.
٤  M. Polanyi, The Logic of Liberty: Reflections and Rejionders (London: Routledge & Kegan Paul, 1951), p. 19.
٥  M. von Senden, Space and Sight: The Perception of space and shape in the congenitally Blind before and after Operation, translated by Peter Health (Glencoe, Ill.: Free Press, 1960), pp. 141, 144, 170.
٦  Solomon E. Asch, “Opinions and Social Pressure,” Scientific American 1930 no. 5 (November 1955), pp. 31–35.
٧  في مُقابَلة أُجرِيت مع إنجريث ديرب-أولسن في ١١ يناير ١٩٩٠م.
٨  Israel Scheffler, Science and Subjectivity (Indianapolis: Bobbs-Merrill Company, 1967). p. 8.
٩  مُقابَلة شخصية مع كريستينا كتزاروس، في ٤ فبراير ١٩٩١م.
١٠  Sharon Traweek, Beamtimes and Lifetimes: The World of High Energy Physicists (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1988), p. 91.
١١  مُقابَلة شخصية مع باتريشيا توماس، في ٢ يناير ١٩٩١م، وهي أستاذ مُساعد في مؤسَّسة أوكلاهوما للبحوث الطِّبية في مدينة أوكلاهوما.
١٢  Daryl E. Chubin and Edward J. Hackett, Peerless Science: Peer Review and U. S. Science Policy (Albany: State University of New York Press, 1990), pp. 70-69. هذا الكتاب يُقدِّم نقدًا يَغوص في أعماق عملية تَحكيم النُّظراء.
١٣  في العام ١٩٨٥م كان واحد وثلاثون وأربع عشرة في المائة من بين جميع العلماء الحاصلِين على الدكتوراه والمهندسين يعملون في الأنشطة الاقتصادية والصناعة؛ اثنان وخمسون وتِسع من عشرة في المائة يَعملون في المؤسَّسات التعليمية (وفي أبحاث مُموَّلة بشكل عام من جانِب المنح الحكومية أو اتفاقيات الصناعة)؛ تِسع وواحد من عشرة في المائة يَعملون في الدَّولة والحكومات الفيدرالية؛ اثنان وثماني من عشرة في المائة يعملون في المستشفيات والعيادات؛ ثلاث وأربع من عشرة في المائة يعملون في مُنظَّمات لا تهدف إلى الربح انظر:
Table 4–14 compiled by the Natioal Research Council, in Vetter and Babco, Professional Women and Minorities: A Manpower Dtat Resource Service, p. 10.
١٤  From a panel discussion, “Whose Science Is It, Anyway?” sponsored by Puget Sound Science Writers Association on November 13, 1991, at the University of Washington in Seattle.
١٥  Belenky, Women’s Ways of Knowing, p. 141.
١٦  Barbara Du Bois, “Passionate Scholarship: Notes on Value, Knowing and Method in Feminist Social Science,” in G. Bowles and R. Duelli-Klien, eds., Theories of Women’s Studies (Boston: Routledge & Kegan Paul, 1983), pp. 105–116.
١٧  مُقابَلة مع سيلفيا بولاك أُجريت في أول ديسمبر١٩٩١م.
١٨  Belenky, Women’s Ways of Knowing, p. 146.
١٩  Mariln Ferguson is the editor of Brain/Mind Bulletin and Common Sense.
٢٠  Belenky, Women’s Ways of Knowing, p. 141.
٢١  أود أن أشكر لورين داستون عَلى بحثها «الموضوعية والمُلاحِظون القابلون للاستبدال، ١٨٣٠–١٩٠٠م»، الذي ألْقَته في ملتقى جمعية تاريخ العلم في سياتل العام ١٩٩٠م، وبيتر دير على بحثه «من الصدق إلى النزاهة في القرن السابع عشر»، وثيودور بورتر على بحثه «التكميم والمثال التعدادي في العلم» وكلا البحثين أُلقِي في المُلتقى ذاته، وكذلك أَثْرَت هذه الأبحاث تَفهُّمي لتاريخ الموضوعية في العلم.
٢٢  تقتبس روث هبارد عن دارون، ووالاس كليهما في مقالها: “Have Only Men Evolved?” in Sandra Harding and Merrill B. Hintikka, eds., Discovering Reality Perspectives on Epistemology, Metaphysics, Methodology, and Philosophy of Science (Boston: D. Reidel Publishing Company, 1983), p. 51.
٢٣  Theodore Porter, “Quantification and the Accounting Ideal in Science”.
٢٤  تأسَّس معهد العلوم العقلية في العام ١٩٧٣م، وهو مؤسَّسة عامَّة للبحث لا تهدف إلى الربح، ومعهد تعليمي، ومُنظَّمة تضم أعضاء فيها. وكلمة عقلي «نوئيتك» (noetic) مشتقة من الكلمة الإغريقية «نوس» التي تعني العقل أو الذكاء أو طريق المعرفة. إذا أردتَ مزيدًا من المعلومات راسل:
475 Gate Five Record, Suite 300, Sauslito, CA 94964.
٢٥  “On Becoming a Scientists,” Published by the National Academy of Science’s Committee on the Conduct of Science (Washington, D.C.: National Academy Press, 1989), p. 1.
٢٦  Mitroff, The Subjective Side of Science, p. 65.
٢٧  Ibid., p. 66.
٢٨  Brian Martin, The Bias of Science (Canberra: Society for Social Responsibility in Science, 1979).
٢٩  John Gribbin, In Search of Schrödinger’s Cat: Quantum Physics and Reality (Toronto: Bantam Books, 1984), pp. 123–152.
٣٠  الأنطولوجيا هي فلسفة الوجود العام، هي الميتافيزيقا. (المترجمة)
٣١  Werner Heisenberg, Physics and Philosophy (New York: Helper & Row, 1958), p. 145.
٣٢  بالنسبة للقارئ العام يمكنه أن يجد أفضل وصْف لنظرية أسبكت في:
Gribbin, In Search of Schrödinger’s Cat: Quantum Physics and Reality, pp. 227–231.
٣٣  Max Born, Physics in My Generation (London and New York: Pergamon Press, 1956), p. 48.
٣٤  Donald Michael discusses the role of uncertainty in leadership in the videotape “Governance, University and Compassion” from the series Thinking Allowed (Sauslito, Calif.: Institute of Noetic Sciences. 1988).
٣٥  Mandelbror, The Fractal Geometry of Nature, p. 27.
٣٦  Jung, Psychological Types, pp. 457, 783.
٣٧  Ibid., p. 9.9.
٣٨  أنتاركتيكا هي القارة القطبية الجنوبية، وهي قارة جليدية غير مأهولة بالسُّكان اللهم إلا بعض مراكز الأبحاث والعلماء الدارسين كصاحبنا المذكور عاليه. ويَبدو أنه مُتخصِّص في عِلم الجيوثيرميكس Geothermics وهو من أهم علوم الجيوفيزياء إذ يدرس الحرارة الداخلية للكرة الأرضية وتوزيعها بين اليابسة والماء وما إليه. (المترجمة)
٣٩  محاورة مع آن دي فور جرَت في ٢٤ أكتوبر ١٩٩١م.
٤٠  ولا غَرْو، أليس الإنسان خليفة الله على الأرض؟ تريد المؤلِّفة أن تقول إنه في العلم الطبيعي تكشف الطبيعة عن عظمة الله، ويكشف العلم عن استطاعات الإنسان، وتزيد المؤلِّفة دخائله النفسية وتطلُّعاته وإحباطاته. (المترجمة)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤