الفصل السادس

التَّعدُّدية نَسائج من التفاعل

في علم الأساطير، يرمز حجاب الرَّبَّة المصرية إيزيس المتعدِّد الألوان إلى الرُّوح الخلَّاقة وقد تَدثَّرَت بأشكال من النَّسجيات تحوي تنوُّعًا هائلًا، إنه شكل الطبيعة الدائمة التَّغيُّر. في هذا الفصل سوف نَتفحَّص انحياز العلم نحو التَّراتُب الهَرَمي (الهيراركي hierarchy)، والبساطة والتقدُّم الخَطِّي، والتفكير في حدود إما / أو، وكيف أثَّرَت هذه التوجُّهات على تصوراتنا للطبيعة. وفي تَطْوافنا حول مناقَشات التنظيم الاجتماعي للعلم وظهور النظريات العلمية، سوف نستكشف قيمة التَّعدُّدية والاختلاف، والتعقيد، والاعتياد المتبادَل، والعمليات الدائرية التي تَنشأ عن مبدأ الترابطية الأُنْثَوي.

انحياز للتَّراتُب الهَرمي

تبعًا للتقاليد، نجد الثقافة الغربية تُدخِل القوى الدائرية في ذات الهُوِيَّة مع الأُنْثَوية، بينما تَعزُو التَّقدم الخَطِّي إلى الذُّكورِيَّة. وبالمِثل، تَنحو تنظيمات النساء نحو البنيات الدائرية (كأطواق الحياكة)، بينما تَنحو تنظيمات الرِّجال نحو التَّراتُب الهَرمي، البِنيَات التي تُشبه السُّلَّم. وفي الواقع، بات التَّراتُب الهَرَمي يُعرَّف بالأسلوب التنظيمي الذُّكُوري حتى إن كتاب «كشَّاف المترادِفات» يورد «البطاركة» و«الرجال في القمة» كمُرادِفَين للتَّراتُب الهَرمي.١ وفي دراسة لأساليب الرجال والنساء في الحوار، أَوردَت العالِمة اللُّغوية ديبورا تانن التَّوثيقات التي تُبيِّن كيف ينحو الرجال لاستخدام لغة تَصون استقلالهم ومَنزلتهم الناجزة، بينما تستغل النساء الحوار من أجْل إقامة عالَم من التواصل يُنجِز فيه الأفراد شِبَاكًا مُعقَّدة من العلاقات ويُحاولون الوصول إلى اتفاق.٢ دائمًا يدفعنا التفكير التَّراتُبي الهَرمي إلى تصنيف شيء أو شخص على أنه فوق سواه. وإذ يفعل هذا، يَختزل القيمة المَنوطة بالتَّعدُّدية.
العِلم الغربي، من حيث هو مؤسَّسة شَكَّلها الرجال، يعكس هذا الانحياز نحو التَّراتُب الهَرَمي، كمبدأ تنظيمي للبِنيات الاجتماعية للعلم وبالمِثل تمامًا كافتراضات أوَّلِيَّة حول كيفية انتظام الطبيعة. وفي التَّراتُب الهَرَمي للعلماء، يَحتَل الفيزيائيون قمة النُّخبة، يتبعهم الكيميائيون وعلماء البيولوجيا، ويَقبَع في المؤخِّرة علماء النَّفْس مع علماء العلوم الاجتماعية. وحتى بين الفيزيائِيِّين، يتملك أهل الفيزياء النَّظرية أُبَّهَة أعلى من أُبَّهة أهل الفيزياء التجريبية الذين تَتَّسِخ أيديهم. ويَتبوَّأ علماء البيولوجيا الجزيئية مقامًا أعلى من علماء وظائف الأعضاء. يحتل البحث «البحت» أو «بحث العلوم الأساسية» منزلة أعلى من منزلة البحث «التطبيقي». وكما قال أحد طلبة الدراسات العليا: «لن يستقيم طريقك في العلم ما لم تَقُم ببحث في العلوم البحتة، فلا تتعامل مع بقية المجتمع.»٣ أما العلماء الهواة فلا يَرِد مُجرد ذِكرُهم في التَّراتُب الهَرَمي للعلم.

تفيد بنيات التَّراتُب الهَرَمي في المواقف التي تتطلب استجابة عاجلة، كما في المناورات العسكرية. إنها تستطيع إصدار الأمر سريعًا والخروج بنتائج فعالة. القائد ينظم الناس ويُحدِّد المهام. تَظل مثل هذه البنية محمودة ما دام الأتباع يتشاركون أو يُطيعون من دون خيار. الحاكم من هذه النوعية، مثل المَلك الفيلسوف عند أفلاطون، يخدم الصالح العام ويقود الآخَرِين إلى الهدف النافع للجميع ولكن طالما لا يَسعُ المكان على قمة الهرم إلا القلة من النُّخبة، فإن بِنيات التَّراتُب الهَرَمي عادة ما تُؤجِّج المنافسة، وصراع القوى (في الفصل الثامن سوف نناقش دور التنافُس والتعاون في العلم مناقشة مُعمَّقة) وتكون هذه البنيات محكومة بالخوف والوعيد.

في التَّراتُب الهَرَمي للعلم، تكون المناصب العليا خاصة ومميَّزة؛ أما الدنيا فهي غُفْل يحتلها أي شخص، ويمكن تغييره أو أن يحل محله سواه. وكثيرًا ما سمعتُ عن فَنِّيين يُشار إليهم بأنهم «يَدان تعمل». وفي منشآت البحث العلمي التي رصدتُها، يملك رئيس المختبَر مكتبًا خاصًّا، بينما يتشارك عادة طلبة الدراسات العليا وما بعد الدكتوراه «الأتباع» في مكتب أو مَأوًى. قد يكون أو لا يكون للفَنيِّين قَماطِر، مما يعني مكانًا يُفكِّرون ويقرءُون ويكتبون فيه. وعلى الرغم من أن الفنيين قد يقومون بمعظم العمل التجريبي الفعلي، لا يُدرَجون عادة كمؤلِّفين في الأوراق البحثية، بل يُزجَى إليهم الشُّكر على «معاونتهم الفنية» فقط في الهامش. نادرًا ما يَلقى العمل البدني حقه من التقدير كما العمل الذهني، بصرف النَّظر عن المهارة في أدائه. حين تكون المناصب المتاحة لما بعد الدكتوراه شحيحة، يُنصَح العلماء الشُّبَّان المتهالكون على وظيفة بألَّا يَقبلوا وظيفة للعمل كفَنِّيين؛ قبول مثل هذه الوظيفة يعني انتقاصًا من «المبادرة لأن يكون عالِمًا جيدًّا» ويُقوِّض فُرص الحصول على وظيفة أكاديمية.٤
ينعكس التَّراتُب الهَرَمي في تأليف الأوراق البحثية أكثر ما ينعكس في الإسهام الفِعلي في العمل. وبينما تُدرَج أسماء طلبة الدراسات العليا وما بعد الدكتوراه على المطبوعات، فإنها قد تُوضَع في مكان يفيد بأنهم أتباع خانِعون على الرغم من حقيقة مفادها أن رئيس المُختبَر لم يُسهِم في البحث أو أسهم إسهامًا محدودًا. مصداقية العمل، في ناظِرَي المجتمَع العلمي، تستند على رئيس المُختبَر. وحين يكون العمل جديرًا بالتكريم أو الجوائز، يذهب التكريم إلى رئيس المختبَر. مثلًا، كان جوسلين بيل J. Bell كطالب دراسات عُليا في مُختبَر أنطوني هويش A. Hewish هو أول مَن اكتشف البلزارات،٥ ومع هذا مَنحت لجنة نوبل الجائزة لهويش، وليس لبيل.٦
تصف الأنثروبولوجية شارون تراويك في كتابها «زمن الإشعاع وزمن الحياة: عالَم فيزيائِيِّي الطاقة العالية» التَّراتُبات الهَرَمية في المجتمَعات العلمية لفيزيائِيِّي الطاقة العالية في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان. تُقرِّر أن الفيزيائِيِّين في «مُعَجِّل ستانفورد الخطي» يرون أنفسهم كنخبة، والكفاءة العلمية فحسب هي التي تُحدِّد الانضمام إلى تلك النُّخبة. ينظرون إلى تراتبهم الهَرَمي بوصفه نظام حُكْم الكفاءة، إنه التَّصفيف الطبيعي للمواهِب البشرية الضرورية لإنتاج فيزياء جيدة.٧ إن المنزلة في التَّراتُب الهَرَمي تُعَيِّن استخدام موارد المختبَر (مثل الوقت النفيس مع أعقد الكواشف ومُعجِّلات الجُسَيمات)، وهذا بدوره يحدد من يستطيع أن يُجري التجربة «المهمة» ولأن القائد عليه أن يُثبِت نفسه لكي يحتل منصبه الرفيع، فإنه يَعتبِر نفسه مُخوَّلًا باتخاذ القرارات. إنه يضع الأفكار التي يُنفِّذها المَرءوسون ويَخوضون فيها بَتوجيهاته. تهبط القرارات بشأن الأغراض العلمية من القمة إلى أسفل، حيث يُعْلِم القائد المجموعة كيف سيتم تنفيذها. فقط يكتشف المرءوسون ماذا سيحدُث في إثر قرارات القائد. كل شخص في التَّراتُب الهَرَمي يُنمِّط سلوكه تبعًا لمن يعلونه، مُراقبًا ومُنصتًا لأولئك أصحاب المنزلة الأعلى. وليس مِن الملائم إبداء أي تَعليق سلبي على هؤلاء الذين يشغلون المناصب الأعلى.٨
كل شخص يَلوح، في مواجَهات التَّراتُب الهَرَمي، إما أن يَصعد إلى أعلى أو يهبط إلى القاع. وكما قال أحد الفيزيائيين، «كل شخص يبحث عن طريق ما لكي نبدو في صورة أفضل، ولكي يبدو الآخر مُزريًا في صورة أسوأ.»٩ درست تراويك النمط المُفضَّل بين الفيزيائيين في «مُعجِّل ستانفورد الخَطِّي»، وكان نمط الواثق العدواني المُتغطرِس، بل الذي يمحو الآخَرِين. وليس من المُحتمَل أن ينجح فيزيائيون «على قدر عالٍ من الكياسة» لاحظَت تراويك أن خطابات التوصية كثيرًا ما تقول على الرغم من أن المُرشَّح [أو المُرشَّحة] هادئ الطبع ووديع الخلق، فإنه فيزيائي ممتاز.١٠ يُعتبر غياب التَّبجُّح ضعفًا لا بُدَّ أن يُعوِّضه المرشَّح. وعلى الرغم من أن كل قائد لمجموعة يعترف اعترافًا خصوصيًّا بأن باحِثي ما بعد الدكتوراه غالبًا ما يعملون على اجتذابه بعيدًا عن المشاكل الكبرى، فإن جميعهم طلبوا من تراويك ألا تُخبِر أي شخص آخر بهذا.
هذه البنية المُتراتِبة هرمِيًّا تعزل الناس عن التفاعل الاجتماعي مع بعضهم البعض. لاحَظَت تراويك أن الفَنِّيين والإداريِّين والفيزيائِيِّين في «مُعجِّل ستانفورد الخَطِّي» يُفضِّلون ألا يَحدُث مُعاشَرة بين التصنيفات الوظيفية. ونادرًا ما شاهدتُ التَّجريبيِّين في مكاتب النَّظريِّين. أخبَرها لفيف من النَّظريِّين أن العالِم التجريبي ربما أحس بأنه شخص أخْرَق لو انْحَشر بين النَّظريِّين. أما تنظيم النساء في «مُعجِّل ستانفورد الخَطِّي» فكان أحد الجماعات القليلة في المختبَر التي تضم مستويات الأوضاع الوظيفية، من الفيزيائيات إلى موظَّفَات الأرشيف.١١

كثيرًا ما يفرض العلم بِنْية تراتبية هَرَمية على الطبيعة، واصفًا العالَم بأنه يُطيِّع قوانين الطبيعة، الرَّجل على القمة والفيروسات في قاع المُخطَّط التنظيمي. إنَّنا نَتحدَّث عن «مَملكَتَي» النبات والحيوان، عن كائنات عضوية «أعلى» أو «أدنى» في مجال النظرية، تخضع الفروض المختلفة للتجريب والاختبار حتى تظهر النظرية الواحدة الصحيحة، وهذه تُبيِّن أن كل الفروض الأخرى نُفايات، ضلالات نضحك عليها وسرعان ما نَنساها.

ولكي نجعل الأشياء تصطف في تَراتُب هَرَمي، لا بُدَّ أولًا أن نختزل الخصائص المتعدِّدة الأوجه المعقَّدة إلى شيء موحَّد يمكن أن يُقاس ويُوازَن. وفي هذا الصَّدد تَخدم الموضوعية التَّراتُب الهَرَمي عن طريق رَدِّ المُعقَّد والذاتي إلى عدَد مُفرد، كمية مَحدودة يمكن صَفُّها. مثلًا، ضَيَّق عددٌ من علماء النَّفس كفاءةَ عَقْل الشخص حتى باتت عددًا مُفردًا، هو نسبة الذكاء IQ. وهذا يُلقي في الظِّلال المُعتمة بكيفيات عديدة يَتَّسم بها أداء العقل لوظائفه، كيفيات لم يُمسِك بها اختبار نِسبة الذكاء، من قَبيل الدَّهاء والمُرونة، والدِّقة، والحِنكة، والحركية، والإرادة، والحدس، والإقبال، والالتزام، والإصرار، والحذق، والمهارة، والحماس، والإبداعية، والفِطنة، وما إليه. وإذ يَفترِض الاختبار أن الذكاء مُفرَد قابلٌ للقياس وشيء فِطري، فإنه لا يأخذ في الحُسبان كذلك تأثير التَّغذية والإرهاق، والإجهاد، والنُّضج النفسي عَلى أداء الوظائف العقلية.

انتقل هذا التفضيل للتَّراتُب الهَرَمي إلى صميم الطريقة التي نميل إليها في إدراك الطبيعة. قامت واحدة من النِّسْوِيَّات؛ هي إيفيلين فوكس كيلر بتحليل نُزوعِنا نحو العلم بتفضيل الأساليب البلاغية والنظريات التي تَفرض أشكال الضَّبط المتراتبة هرمِيًّا. مثلًا، تعبيرات من قبيل «قوانين الطبيعة» تدل على أن القوانين مفروضة من أعلى. وكثيرًا ما يَتحدَّث العلماء عن ظواهر «تطيع» هذه القوانين؛ قوانين الحركة عند نيوتن، قانون الجاذبية، قوانين الدِّيناميكا الحرارية الثلاثة، قانون الغاز المثالي، قوانين التحليل الكهربي لفاراداي، قانون الضغوط الجزئية لدالتون، قانون المقاوَمة الكهربية لأوم، قانون الانتشار لفيك، قانون أينشتين الكهروكيميائي، وما إليه. تَقترح كيلر مفهوم النظام، كبديل للقوانين التي يَجِب أن تخضع لها المادَّة إلى الأبد:

مفهوم النظام أَرحَب من القانون وخِلْو من الإجبار، ومن التَّراتُبيَّة الهَرَمية، ومن التَّضمُّنات التي تدور حول مركز، ومن الممكن أن يُوسِّع تصوُّرنا للعلم. إن النظام مَقُولة تشمل أنماط المُنظَّمات التي يمكن أن تكون تلقائية أو تنشأ عن ذاتها أو مفروضة من الخارج؛ إنه مَقُولة أَرحَب من القانون، وعلى وجه الدِّقَّة تتجاوز الحد الذي يَتضمَّن فيه القانون قسرًا خارجيًّا. والعكس بالعكس لا تشمل أنواع النظام التي تنشأ أو يمكن أن تنشأ عن القانون إلا على فئة فرعية من مَقُولة أوسع من الاطرادات، والإيقاعات، والنماذج القابلة للملاحَظة أو الفَهم.١٢
تناقش كيلر كيف أن هذه العقول المُصاغة على التَّراتُب الهَرَمي تُبدِع نظريات تَتميَّز بأنها تراتُبات هَرمية موحَّدة الاتجاه إلى الأبد، وتجعل التَّحكُّم والضَّبط في جِسم سيادي حاكم؛ مثل «ضابطة النبض pacemaker» أو «حاكم الجُزيء master molecule». على مدار عقود من الزمان، وصفت «الدُّوجما»١٣ المركزية» في البيولوجيا الجُزَيئِيَّة الدنا بأنه الحاكم التنفيذي لتنظيم الخَليَّة، تملؤه المعلومات التي تنتقل في اتجاه واحد: الدنا، الرنا، البروتين.١٤ وتبعًا لهذه الدُّوجما: لا يمكن أن تُؤثِّر الأحداث الواقعة خارج الخلية في الجينات. ولكن بحث بربارة ماك كِلينتوك بيَّن أن وظيفة الجِين تختلف باختلاف وضْعِه في الكروموسوم، وتَستلزم قَبول مؤثِّرات البيئة، أو كوكب الأرض. أَجَل يوجد التَّراتُب الهَرَمي في الطبيعة — للدواجن نظام رُتَبِها، وفي مُستعمَرات النَّمل ثَمَّة المَلكة والذُّكور والشَّغِّيلة — ولكنه مع هذا ليس بالضرورة «طبيعيًّا» أكثر من أشكال النُّظُم الأخرى.

تَحرُّكات في العلم نحو التعقيد والتَّعدُّدية

لقد انبثَقَت البِنْية التَّراتُبيَّة الهَرَمية عن الثُّنائية الغربية، عن تفكير إما /أو، وهي قائمة على المَنطق الخَطِّي – التصنيف المُطلَق للأشياء جميعًا. ينظر إلى النور والظلام على أنَّهما يَتصارعان؛ لأن تفكيرنا صار يقبل الفكرة القائلة إنهما لا يمكن أن يتواجدَا معًا. ولكن الكائن البشري لا هو أبَله تمامًا ولا هو عاقِل من رأسه إلى إخمص قَدمَيه، ليس كل ما فيه رقيق أنيق، ولا هو عَفِن فاسد جملةً وتفصيلًا. وليس الضوء جُسَيمات خالصة ولا هو مُجرَّد مَوجَات. وسرعان ما تختفي الفواصل القاطعة بين البشر والحيوانات ما دُمنا نجد أن الحيوانات أيضًا لها القُدْرة على استخدام اللغة وصُنْع الأدوات. وبينما يكون الشخص في الثقافة الغربية، إما مَسيحيًّا وإما مسلمًا، وإما يهوديًّا، قد لا يرى الشخص الصيني صراعًا بين تطبيق المبادئ والشعائر الكونفوشية والبوذية والطَّاوِيَّة على مُختلَف مناحي الحياة.

والحق، أن هذا النزوع نحو تفكير إما / أو، صِدْق / كَذِب، قد قيَّد حدود التكنولوجيات التي يختار علماء الغرب تطويرها. مثلًا، تَغاضَى علماء الولايات المتحدة الأمريكية كثيرًا عن تطبيق المَنْطِق الغائم fuzzy logic في التكنولوجيا. وعلى الرغم من أن مصطلح «المَنْطِق الغائم» كثيرًا ما يُستَخدَم للحط من شأن عمليات تفكير المرأة، فإنه يُطبَّق الآن في فرع من فروع الرياضيات التي نَشأت إبَّان الربع قَرْن المُنصَرم. إن المنطق الغائم، بِجذوره الضَّاربة في الإبهام المتأصِّل في ميكانيكا الكوانتم، إنما يساير الغموض واللايقين المُتأصِّلَين في عمليات التفكير الإنساني. إنه يَتمثَّل الظواهر بوصْفِها أحداثًا متصلة بدلًا من أن تكون خيارات كل شيء أو لا شيء، وبدلًا من حل المشاكل من خِلال سلسلة قرارات نعم — أو — لا (يمثلهما الواحد، والصِّفر في أجهزة الكمبيوتر)، نجد أن استخدام الكمبيوتر للمنطق الغائم يُعيِّن أرقامًا تَقع في حيِّز ما بين الصفر والواحد. وإذ يقوم المَنطق الغائم على قرارات التعميم بدلًا من القياسات الدقيقة، يُحوِّل الأوصاف المُحمَّلة بالقيم؛ مثل: بطيء، ومتوسط، وسريع، إلى إشارات شفرية. وهذا يجعل الآلات تسير بسلاسة وكفاءة أعلى. نَواظم التغذية الاسترجاعية العادية؛ مثل مُنظِّمات الحرارة، تجعل مكيِّفات الهواء تعمل أو لا تعمل. أما مَكيِّف الهواء المَحكوم بالمَنطِق الغائم، فَيتباطأ تدريجيًّا كلما بَردَت الغرفة وصولًا إلى درجة الحرارة المرغوبة، ويَنتُج عن هذا وَفْر في الطاقة يصل إلى عشرين في المائة.
وعلى الرغم من أن المنطق الغائم تطوَّر في الولايات المتحدة الأمريكية،١٥ لم يستخدمه في التطبيقات العملية إلا وكالة ناسا للفضاء، واثنان من الشركات الأمريكية. وعلى العكس من هذا، تَبنَّتْه بحماس فائق أكثر من خمسين شركة في اليابان. ويُعْزى تَدنِّي قبول المَنْطِق الغائم إلى انحياز علماء الغرب إلى الدِّقَّة، ومَنطق ثنائية إما / أو.١٦ استخدمه اليابانيون من أَجْل تشفير الماكينات بِمُرونة التفاعل مع البيئة، بدلًا من إنتاج ماكينات فقط تَتبَع برمجة أربابها. إنهم يَستخدمون الدوائر الإلكترونية المُصمَّمة بالمَنْطِق الغائم لاتخاذ القرارات الذاتية حول الوضوح، واللَّمَعان، واللون في التليفزيون، لتعزيز الصور في مُسجِّلات الفيديو وآلات التصوير، لاختيار مسحوق التنظيف المثالي، والوقت الملائم لدورة الغسيل في الغسَّالات القائمة على قياس آلي لوزن المَلابس واتساخها، ولتعيين التَّغيُّرات في درجة حرارة الماء وضَبْط التَّدفُّق فلا يُسبِّب انهمار الماء الساخن حروقًا. طُبِّقَت الدوائر الغائمة أيضًا على المصاعد، والفرامل غير القابلة للإيقاف، وعلى عربات مترو الأنفاق فتزيد سرعة المَركَبة أو يتم إيقافها على السواء. في عربات المترو المحكومة بالمَنْطِق الغائم، لا يعود الراكبون في حاجة للإمساك بإسار كي لا يقعوا أثناء تَحرُّك المَركَبة أو وقوفها. أَجَل تَمخَّض عن الانحياز الغربي إلى الدِّقَّة والبساطة عِلم متين وتكنولوجيات وطيدة، ومع هذا تُبيِّن قصة المَنْطِق الغائم أنهما ليس دائمًا أنفعَ وأنجَع الطُّرُق للنَّظر إلى العالَم. وبدلًا من قسر كل موقف على أن يتلاءم مع المنطق البسيط، منطق كل شيء — أو — لا شيء، يعطي المَنْطِق الغائم قيمة للثالث المرفوع. واستخدمه اليابانيون كطريقة رياضية للتعامل مع مَطلب السياق الأُنْثَوي عن طريق تقديم أسلوب لتكييف الماكينات مع الظروف الفَرْدية. مثل هذه الماكينات بها مُرونة التعامل مع الأسئلة التي تبدأ الردود النمطية عليها بالآتي «حسنًا، هذا يعتمد على الموقف».

إن التَّعدُّدية جامعة ورحيبة الآفاق، تَهبُنا سبلًا مختلفة للرؤية والشعور والتفكير والتقويم. وعلى مستوى أساسي، تُبصِّرُنا ثنائية الموجة/الجُسيم بأن الضوء جُسَيْمات وموجات معًا. إنها طريقة «كلاهما/أو» في النَّظر العالم، ومثل هذه الطريقة لا تَعني خلْق رُكام حيث «أي شيء يصلح». إنها، في الواقع تَتطلَّب مزيدًا من التحديد والتمييز لكي نعرف متى نُطبِّق النموذج أو المَنظور الملائم. من المطلوب مزيد — وليس أقل — من الوعي لكي نُميِّز كل نظرة عن طريق السياق والموقف. وفي هذا الصدد، نجد مهارات المَنطق والتحليل الذُّكورِيَّة تخدم قدرة الأُنْثَوية على الارتباط بتعقيدات الموقف الشخصي. صبوة الأُنْثَوية إلى السياق والوصال تَخدِم النزوع الذُّكُوري إلى التصنيف. وحين يَعملان معًا، يَهبُنا هذا رؤيةً للعالَم أكثر ثراءً وانضباطًا.

تعكس ميكانيكا الكوانتم تحولًا عن قوانين التَّراتُب الهَرَمي المفروضة على البِنْية السُّكونية، وتَصِف أنساقًا أكثر تعقيدًا وتفاعلية. تَصف الاحتماليات والعلاقات في الطبيعة، بدلًا من كُتل بناء الطبيعة البسيطة. وفي مُقابِل قوانين الكون الميكانيكية، تَتحدَّث نظرية الكوانتم عن مبادئ وتأثيرات: مبدأ اللايقين لهيزنبرج، مبدأ الاستثناء لباولي، مبدأ بور في التتام، التأثير الكهروضوئي.

تلاشى التَّصوُّر الكلاسيكي للموضوعات البسيطة الجامدة الساكنة، تحت وطأة ذلك الجانب من نظرية الكوانتم المعروف بثنائية الموجة/الجسيم. انْحلَّت كُتَل البناء الأساسية للمادة إلى نماذج شِبه مَوجِيَّة من الاحتماليات والتواصلات. عَبَّر نيلز بور، وهو من رُوَّاد ميكانيكا الكوانتم، عن ترابطية الأُنْثَوية حين قال: «الجُسَيمات المادية المنعزلة هي تجريدات، لا يمكن تعريف ومُلاحَظة خصائصها إلا عن طريق تفاعلها مع الأنساق الأخرى بعبارة أخرى، لا يوجد شيء من قَبيل الجُسَيم المُنعزِل؛ لا يمكن فهم الجُسَيمات إلا بوصْفِها تواصلات، فئات من الروابط تُشكِّل نسيجًا معقَّدًا نُسمِّيه المادة.» وتمامًا كما تُمثِّل الأُنْثَوية مبدأ الرابطة، تصف نظرية الكوانتم بالمِثل الطبيعة الأساسية للمادة بوصفها تواصلًا ورابطة، وليست تَراتُبًا هَرميًّا من الأشياء. ولما كانت كل أجزاء النسق مترابطة معًا بواسطة نسائج من الجذب والتواصلات اللامَوضِعية، فإن كل جزء يتأثر بالتغيُّر في جزء آخر من أجزاء النسق.

تكشف ثنائية المَوجة / الجُسَيم عن أنَّنا يجب أن نُلاحِظ الموضوعات في أوضاع عديدة مُختلفة لكي نَستَكْنِه إمكانيتها الحقيقية، وهذا طَرَح الأساس النظري لقيمة الاختلاف من دون تَراتُب هَرَمي. ولا تُعَد إحدى سُبل رؤية الواقع (من حيث هو موجة أو من حيث هو جُسَيم) أصوب من الأخرى، إنها رُؤًى مُتَتامَّة. لا تعتمد إلا على ظُروف الموقف وكيف نختار أسلوب النظر إليه وأسلوب قياسه. وعن رابطة التَّتَام هذه يقول فولفجانج باولي: «إنها تَرتَكِن على الاختيار الحر من قِبَل المُجرِّب (أو المُلاحِظ) في قراره … أيَّة استبصارات سيربح منها وأيُّها لن يناله من ورائها إلا الخسران؟ أما حين نصوغ هذا في لغة عادية شائعة، فنقول يختار ما إذا كان سيقيس «أ» ويطيح ﺑ «ب»، أم سيقيس «ب» ويطيح ﺑ «أ». وعلى أيَّة حال، ليس في مقدوره قرار بأن يظفر فقط بالاستبصارات ولا يفقد أيها.»١٧ وأيضًا يعني هذا أن المُلاحِظ والمُلاحَظ بينهما تَواصُل لا فِكاك منه.

وأيضًا تصف نظرية الشَّواش (أو «التعقيد» كما يُفضِّل إلى بريجوجين أن يسميها) رؤية تَعدُّدِيَّة للعالَم، لتحل محل قوانين الطبيعة الحتمية غير القابلة للارتداد. وسلاسل التحكم، القوانين التي تربط الكون من الناحية التَّصوُّرية، تجعلها نظرية الشَّواش فَضفاضة، وذلك عن طريق تبيان أن التَّنبُّؤ الدقيق مُستحيل في الأنساق المُعقَّدة. يُتيح لنا علم التعقيد أن ننظر إلى الطبيعة بوصفها وَلُودًا وثَرَّة المنابع، وافرة ومتواصِلة. وفي هذه الرؤية الجديدة لا تعود المادَّة سلبية، بل إنها قادرة على النشاط التلقائي، وعلى أن تُنظِّم ذاتها بذاتها. وما دامت الأُنْثَوية قد ارتبطَت تَقليديًّا بالمادة وبالطبيعة، فإن دراسة التعقيد تَهبُنا سبيلًا مُستجدًّا لتصور وتقييم الأُنْثَوية. إن ما يبدو من خلال عدسات التَّراتُب الهَرَمي سلبيًّا وشَواشِيًّا، نستطيع الآن أن ننظر إليه بوصفه خلَّاقًا ومُبدعًا.

على أن فِيزيائِيِّي الطاقة العالية، العلماء الذين يَتربَّعون على قمة التَّراتُب الهَرَمي، قد تَمركَزوا على مدار عدة عقود مُنصرِمة حول نهايات الجُسيمات الأوَّلِيَّة والكوزمولوجيا، مُعتقدِين أن المشكلة الحقيقية للعلم تَظل حدود كَونِنا فَحسب. تَنبَّأ ستيفن هوكنج S. Hawking١٨ في محاضرته النظرية؟! «هل النهاية في مرأى الفيزياء؟» بأن الفيزيائيين قد يتملكون مع خواتيم القرن العشرين «نظرية عن التفاعلات الفيزيائية كاملة ومُتَّسقة وموحَّدة سَوَّفَ كل الملاحظات الممكنة.»١٩ وبالمثل، نجد ليون ليدرمان L. Lederman، مدير مُختبَر مُعجِّل فيرمي القومي، يعكس بحث الفيزيائي عن البساطة والأناقة حين قال: «آمل أن أُفسِّر الكون بأَسْره بمعادَلة مفرَدة بسيطة تستطيع أن تضعها في جيب قميصك.»٢٠

وفي مُقابِل هذا البحث الدَّءوب عن النهائي والبسيط، تتعامل نظرية التَّعقيد مع ظواهر الحياة اليومية، مع العالَم الدنيوي الذي ارتبط تقليديًّا بالأُنْثَوية؛ عالَم السُّحب والشلالات، الزُّهور والجبال، ماء يغلي ودخان يتصاعد من المِدفأة. وبدلًا من فَرْض بنية تراتبية هرمية على المادة، أو اختزال الكون في معادَلة منفرِدة، يستكشف بريجوجين كيف تنظم الأنساق ذاتها تلقائيًّا. وفي غياب ضوابط النبض وحواكم الجزيء، يدرس إليا بريجوجين نَشأة النظام عن الشَّواش في الأنساق كما تختلف باختلاف تيارات الحمل الحراري (كتلك التي تكون في الغلاف الجوي وفي المحيطات)، يدرس الحفز الذاتي الكيميائي، والتَّسارع الذاتي للتفاعل طارد الحرارة، دورة الحياة للمتمورة [= الأميبا]، والأنساق الاجتماعية. وبدلًا من البحث عن قائد ليخلق النظام، تستغل كل واحدة من تلك المنظومات لَولَبيَّات التغذية الاسترجاعية ليُعزِّز التَّحرُّك صَوْب مُستوًى جديد من التنظيم. وبدلًا من أن ننتظر من الفيزياء تفسير البنية الأساسية للمادة، واختزال الكون إلى معادَلة بسيطة، يَستنزِل إليا بريجوجين من الأنساق البيولوجية الباعَث والإلهام لتَفهُّم المُعقَّد.

وكبديل لفرض النظام من أعلى، يناقش بريجوجين كيف تنبثق الكيفيات التي لم تكن في «البرنامج الأصلي». مثلًا، أدنى مِن العَتبة الحَرِجة٢١ من الطاقة المُزوَّدة بها منظومة ما، تحتفظ مفرَدات المنظومة بحركتها العشوائية مستقِلَّة عن بعضها البعض. وبينما تستجيب بعض المفرَدات لِطَلقة الطاقة المنبعثة إلى النَّسق، فإن حركتها خافتة، وتعود المنظومةُ إلى حركة التوازن العشوائية. ولكن حين يكون ثَمَّة طاقة كافية أو ضَغط لعبور العَتبة الحرجة، تَشرَع المنظومة في أداء حركة ضخمة. إنها تُنظِّم نفسها بنفسها لتُشكِّل مستوًى جديدًا من التعقيد. المفرَدات الأكثر حساسية لتدفُّق الطاقة تستجيب لها ثم تشرع في جذْب المفرَدات الأخرى. وتبدأ جميعها في السَّير معًا بشكل مُستحدَث ومُتساوِق. ويكتب جريجور نيكولِس، وإليا بريجوجين في كتابهما «استكشاف التعقيد» عن الموائع المُتساوِقة في فُيوض الانتقال الحراري (كما يحدث من سَرَيان الحرارة في طَنجَرة مليئة بالماء):
فيما وراء هذه العتبة، يحدث كل شيء كما لو أن كل جِرْم عنصري كان يُراقِب سلوك جيرانه، وكان يأخذه في اعتباره لكي يؤدي الدور الخاص به بصورة ملائمة، ولكي يُسهِم في النموذج الإجمالي. وهذا يُوعِز بوجود التَّضايُف؛ أي العلاقات الإحصائية القابلة لأن تحدُث مجددًا بين الأجزاء المتباعدة من المنظومة.٢٢
وفي ورشة عمل عن الحياة المُستنبَتة أُقِيمتْ مُؤخرًا، اجتمع ما ينوف على ثلاثمائة بيولوجي، وفيزيائي، وعالم كمبيوتر لكي يُناقِشوا العنصر المفقود في النظريات التطورية؛ أي التنظيم الذاتي التلقائي. وباستخدام النَّمذجَة الرياضية والمحاكاة الحاسوبية، بيَّن الباحثون مَيْل المنظومات الدينامية المُعقَّدة للتلبس بحالة منظمة من دون أي ضغط للانتقاء من أي نوع كان. وباستخدام هذه النماذج، أقاموا الحُجَّة على أن التطور لا يعود فقط إلى الطفرات العشوائية المَتبوعة بانتقاء طبيعي، بل بالأحرى يتضمن التطور ترابطًا بين الانتقاء الطبيعي والنظام التلقائي. ومن الشائق حقًّا، أن النماذج التي تُعزِّز ذاتها بذاتها (المعروفة بوصفها «جواذب») لا تتشكل إلا إذا كانت المنظومة ذات تنوع كافٍ.٢٣

في مُقابِل لغة التَّراتُب الهَرَمي، التي تَتحدَّث عن الهَيمَنة والتَّحكُّم، تتحدَّث لغة الشَّواش عن التنظيم الذي تَخلقه «الجواذب»؛ مما يطرح نموذجًا لبِنيات التنظيم مختلفًا اختلافًا جذريًّا، سبيلًا لرؤية التنظيم الذاتي كبديل للبِنية التَّراتُبيَّة الهَرَمية. وكذلك يفيد هذا كنموذج للتنظيم الاجتماعي، فضلًا عن طرح عدَسات جديدة ننظر من خلالها للطبيعة.

وأيضًا يقدم علم الشَّواش نموذجًا لعالَم مبني على المُماثَلة الذاتية، والتماثل عَبْر مقياس نسبي، حيث المقياس النِّسبي هو خاصية الحجم، من الكبير إلى الصغير. وفي مُقابِل حماقة هندسة إقليدس في وصْف البِنْية المعمارية للطبيعة، تَصِف هندسة الفراكتال البِنْيات المُميِّزة للطبيعة فقط عن طريق شظايا ضئيلة من المعلومات تُعيِّن ملامح عملية تَفرُّع متكررة. اللوغاريتم المنفرِد (فئة من الإجراءات الرياضية) يَصِف بِنْية تَشكَّلت عن طريق عملية تكراراية من التَّشظِّي، كإعادة اختزان واسترداد صورة في ماكينة نَسْخ. مثلًا، يمكن وصْف نُدفَة الثلج (من حيث هي مُشيَّدة من تكرارات مُنحنى كوخ Koch الثلاثي) بالمعادَلة ، حيث عدد أجزاء الشيء الناشئ هو ٤، ونسبة التَّماثل هي ١ / ٣ ، لتعطينا بعد الفراكتال ١٫٦٢. وتَتطلَّب مثل هذه البنية آلافًا من الأرقام لوصفها بالطريقة التقليدية.

تُوجَد البنيات المُتفرِّعة كالأشجار والأوعية الدموية في سائر أرجاء الطبيعة. تُشكِّل الأوعية الدموية مُتَّصلًا ممتَدًّا من الشريان الأورطي إلى الشُّعَيرات الدموية. إنها تَتفرَّع وتَتفرَّع مُجدَّدًا، حتى تغدو ضيقة لدرجة تدفع خلايا الدَّم إلى الانزلاق في صَفٍّ من الخلايا المُنفرِدة يَسلُك المتفرِّع من المدى الأكبر إلى المدى الأصغر سُلوكًا مُتسقًا. لا توجد أقاليم للتَّراتُب الهَرَمي في هذه المنظومات. وليس الأكبر هو الأفضل؛ كل مَدًى جزءٌ من الكل له الأهمية نفسها.

ومؤخَّرًا تَمثَّلت نسائج التفاعلات في الطبيعة في فرض جايا٢٤ كما طرحه جيمس لافولك J. Lovelock، ولين مارجولِس L. Margulis. يَتقدَّم هذا الفَرْض، الذي سُمِّي باسم إحدى ربَّات الأرض، بنموذج لديناميكيات كوكب الأرض وديناميكيات الخلية. إنه يصف كوكَبنا من حيث هو كُل متكامِل مُتناظِم، منظومة تَحكُم ذاتها بذاتها، وفيه تَشتبِك كل مناشط المجال الحيوي مع العمليات المُعقَّدة للجيولوجيا، وعِلم المناخ، والفيزياء الجوية.

تفكير كلاهما / و٢٥

إذ يَفرِض علينا التَّراتُب الهَرَمي أن نختار بين شيء وآخَر، فإنه يُضيِّق التَّعدُّدية. يضيع معه ثراء الاختلاف، من خلال تشديده على تعيين المراتب الأعلى والأدنى. ويَختزِل حجاب إيزيس الرائع المُتعدِّد الألوان إلى الأبيض والأسود. وحين نَعرف قيمة التَّعدُّدية، تتكامل المنظورات المختلفة، ويُكَوثِر بعضُها البعض، كل منها يَتقدَّم بوجه من وجوه الحقيقة، جانِب من جوانب الواقع، خِبْرة بالعالَم على قَدَم المساواة من الصحة. كل منها يُضيف لونًا آخَر لِطَيف الحياة. وكما قال يونج: «تَتطلَّب الحقيقة النهائية، إن كانت توجد أصلًا، كونشرتو من الأصوات العديدة.»٢٦

نتعلم من براعة وتعقيد الطبيعة الرائعين أن «الحقيقة» لها وجوه عديدة، تعتمد على منظور المُلاحظ. كل حقيقة جديدة، حتى في العلم، جزئية غير مكتملة وبالمِثل لها حدود ثقافية. وفي مُقابِل المُقارَبة الذُّكورِيَّة المباشِرة الخطية، تدور عملية التَّطواف الأُنْثَوية حول مشكلة ما، تَنظر إليها من كل الجوانب، وتُشاهد كل روابطها. وإذ تَهَبنا الأُنْثَوية تقديرًا للتعقيد حتى في أبسط ذَرَّة، فإنها تستطيع أن تستبدل بغطرسة العلم مَغزًى للخشية والتواضع.

يَحثُّنا قبول التَّعدُّدية على طرح السؤال، كيف يمكن أن يُصدَّق كِلا هذان الوجهان أو المنظوران كِلاهُما؟ وما دامت النظريات مَحضَ نماذج، مُجرَّد تمثيلات مَجازية للطبيعة، فما هو الجانب من الواقع الذي أمسكَت به النظرية «أ» بينما غاب عن النظرية «ب»؟ وإذا انتصر عقلاء آخَرون للنظرية «ب»، فقد يدهشنا ما يمكن أن نَتعلَّمه منهم، بدلًا من نَبذِهم بوصفهم بُلَهاء يَتعلَّقون بنظرية سَخيفة. الاعتراف بقيمة المنظور الآخَر ليس يَتطلَّب الالتزام به، بل بالأحرى اتجاهًا نحو تَرْكه يحيا، ورُؤية ما يَتمخَّض عن نمائه.

يستلزم تفكير «كلاهما / و» «عقلًا معقدًا قادرًا على احتواء كل الاحتمالات. هذا النوع من الرُّؤية يصعب عليه من الناحية السيكولوجية أن يتواصل في ثقافة «إما/أو» ما دام لا بد له أن ينتمي كليًّا إلى أحد المعسكرين، مُحاطًا بالمُناصِرين والمُصدِّقين على تفكير واحد لا سواه. ولكن يجد علماء كُثُر أنَّ خبرتهم تَفرِض عليهم قبول التعقيد. مثلًا، بلغ الأمر بسيلفيا بولاك، وهي عالِمة في بيولوجيا الخلية، إلى قبول الطبيعة بوصفها مُعقَّدة وضبابية — لا تشبه أبدًا ساعة أو ماكينة — بل إنها زاخرة بالاحتماليات. تغضبها المُقارَبة الاختزالية التَّبسيطية: «أنتم تَعرِفون أن الأشياء في العالَم الحقيقي متفاعلة. وأنزعج كثيرًا من هؤلاء الذين يُفرِطون في تبسيط مُعْطَياتهم، ويدفعون بها في نموذج خَطِّي، خصوصًا إذا كانت شيئًا أعرف عنه وأعرف أنه ليس خطيًّا. إنني أحب الأشياء البسيطة اللطيفة، لكن أحسب أن أشياء كثيرة ليست بسيطة.»٢٧

إن بُناة السُّفن مُهندسون مُتخصِّصون مسئولون عن تأمين القوة، والاتزان، والراحة، والأداء الجَيِّد في السُّفن التي يقومون بتصميمها. وقد عَبَّر واحد من بُناة السُّفن عن ابتهاجه بالتَّصدِّي للتوازن بين عناصر متعدِّدة — كلها مهمة — لها تأثيرها على التصميم. جانِب كبير من المهمة يتَمثَّل في أن تكون دبلوماسيًّا فقد يكون من الصعوبة بمكان أن توضِّح مفهومًا لزملاء يميلون إلى العمل وفقًا لتفاصيل كثيرة. وشَدَّ ما كان يَتحايل على هذا الشخص في عمله إنَّما هو تعقيد القوارب:

القوارب مُسَلِّية! مُعقَّدة حتى إنها تُشوِّقُني دائمًا؛ لأن كل قارب فرد فريد. إنها مَنحوتات رائعة حقًّا. ندرس تحليل كيفية أدائها. وبعد ذلك ثَمَّة كثير من التعقيد في تصميم الماكينة حتى نجعلها تسير. يجب أن تكون بيئة تحوي في ذاتها كل شيء. يُشبه هذا بناء ناطحة السحاب، تطفو وتُرفرِف — منتصبة، إن شئت — ثم نجعلها تشق عُباب المحيط.٢٨

كل شيء في السفينة يَتناوب مع الآخَر. أنت تريد أن تجعلها أقوى لتواجه عاصفة، وهذا يَجعلها أثقل وزنًا، بما يمكن أن يَزيد أو يُقلِّل من المَتانة، اعتمادًا على الموضع الذي تكون فيه أقوى. كل رطل تُضِيفه فيها يزيد من نفقات بنائها الداخلي، ليس فحسب بل كذلك يَلزَمه مُحرِّكات أكبر، ووقود أكثر لدفعها للسَّيْر طُوال عُمْرها الافتراضي. لقد تَفكَّرتَ في أنك تريد أن تَجعل السفينة مُتَّزِنة قدر المستطاع، أهذا صواب؟ إنه خطأ؛ لأن الاتزان يعني أنه إذا دَفعَتْها مَوجة دفعًا تَنزع السفينة إلى أن تعود إلى ما كانت عليه. وإذا كان الاتزان بها مُفرِطًا وعادَتْ إلى ما كانت عليه بُسرْعة شديدة، فإن الناس داخلها لن يستطيعوا القيام بعمل على ظَهْرِها. لا بُدَّ من المُوازَنة بين هذه الأشياء جميعها. وليست هناك إجابة واحدة مُكتمِلة. إنه شَكْل من أشكال الفن إلى حد كبير.

بينما يَميل الزُّملاء إلى جَعْل هيكل السفينة أقرب إلى الكمال، أو تصميم أفضل صَارٍ ممكِن، يرى هذا الشخص كيف يَرتبط كل جزء بكل شيء آخَر، ويهدف إلى بناء أفضل سفينة مُمكِنة.

تعلَّمتُ، خلال تَدرُّبي في العلم، أن هناك إجابة واحدة هي الصحيحة، تأويل واحد للمُعْطَيات هو الصائب. ألْقَى أساتذتي مُحاضَراتهم بِصوت ينقل سُلطة المعرفة. عرضوا النظريات المعمول بها بوصفها حقائق راسخة، بوصفها «الطريقة التي تُوجَد عليها الأشياء». معلومات لنتمكن منها لا لنُفسِّرَها. وبالمِثل، قَرَّرت تراويك في دراستها عن تدريب الفيزيائيين أنه لم يكن ثَمَّة أيُّ نِقاش حول تأويلات بَديلة للوقائع. تَعلَّم الطلاب أن يَحلُّوا المشاكل وفقًا للنماذج المُصطَلح عليها. أَعرَب أحد التَّجريبيين في «مُعجِّل ستانفورد الخَطِّي» عن اعتقاده بأن «باحث ما بعد الدكتوراه الناجح يجب أن يكون غَير ناضج إلى حدٍ ما: الشخص الناضج يُواجه صعوبة كبرى في قبول التدريب من دون أن يتساءل، وفي تَحجيم شُكوكه في المَجال المفروض.»٢٩ (هذا العالِم نفسه أحسَّ بأن الخبرة الاجتماعية للنساء والأقَلِّيَّات قد عَلمَتْهم التشكك في السُّلطة، وأن هذا يعوق سُبُلهم في العمل). أَجَل مثل هذه المُقارَبة للمعرفة قد تُبسِّط عملية التعليم، ولكن تُعْمِي عيوننا عن تعددية التأويلات.
لاحظت ماريون نامنويرث M. Namenwirth المتخصصة في عِلم الحيوان التَّطوُّري أن النساء حين يُحاضِرن عن بحوثهن، يُشِرن إلى حدود المُعْطَيات، ويُقْررن بالأخطاء المُحتمَلة في تصميم التجارب. ومن الناحية الأخرى يَتوحَّد العلماء مع النموذج النمطي للسُّلطة الذُّكورية «يعكسون صورة السُّلْطة اللاشخصية والثقة المُطلَقة في دقة وموضوعية وأهمية ملاحظاتهم. ولن يستسيغوا الشك ولا التَّردُّد في أي شكل كانَا.»٣٠ لاحظت نامنوِيرث أن مثل هذا المَسلك السُّلطوي مُضاد لطبيعة العلم الفرضية، غير المكتملة، التَّحققية دائمة النَّماء والتطوُّر. يَحجب هذا القناع من الثقة الحُدود المَفطورة في أية فئة من المُعْطَيات، حيث تَكون التجهيزات المَعملية والمناهج التحليلية دائمًا تقريبية، وتَكثُر التأويلات البديلة. ولسوء الحظ، حين تنفصل النساء عن الأسلوب الذُّكُوري للعَرْض ويَتكبَّدْن مَشقَّة ألا يُبالِغْن في عرض اكتشافاتهن، يَبدون وكأنهن يَنتقِصْن من قِيَم أنفسهن.

عَبَّرت باحثة دراسات عليا في عِلم الحيوان عن الإحباط من هذا الأسلوب السُّلطوي في تدريس العلم. وعندما حَضرتْ دروسًا في كلية للبنات حيث النساء أكثر من نصف أعضاء هيئة التدريس، وجدَتْ نفسها أكثر تَفتُّحًا للتَّعلُّم حين تَحدَّثَت أستاذاتها بلغة الإمكانات أو الاحتمالات، فئات من المُعْطَيات تُشير إلى طريق أو آخر. هذا الأسلوب للعرض استحثَّها لكي تُفكِّر بشأن ما كانت تَسمعه. وقالت عن أستاذة لها:

كانت طَيِّبة حقًّا. تحدَّثَت عن فئات من المُعْطَيات من حيث تومئ إلى أشياء، ولم تَتحدَّث عنها بوصْفِها تُمثِّل أو لا تُمثِّل برهانًا نهائيًّا. تحدثَت عن كثير من جُزئِيَّات المُعْطَيات تجتمع معًا لتصنع شيئًا ما أكثر احتمالا من شيء آخر. وبين الحين والآخر، قد تقول بأسلوب واضح شافٍ إن هذا يثبت ذاك. وحين تُحدِّثنا عن الانقسام الفتيلي [عملية انقسام الخلية]، قالت إنهم يُعطونَكُنَّ انطباعًا بأن كل شيء في الانقسام الفَتيلي خاضع بصرامة لنظام موحَّد، لَكنَّكُنَّ راقَبتُنَّ إياه وهو ليس خاضعًا لمثل هذا النظام. إنه نوع من العشوائية يَتَّجِه إلى الانتظام.

وبدلًا من التسليم الأعمى بهيكل من المعارف، طلبَت هذه الأستاذة من طالباتها أن يَستعْمِلْن قُدراتهِنَّ على الملاحَظة، وأن يُقوِّمْنَ المُعْطَيات بأنفسهن، وأن يَرَين الاحتمالات المتعددة، ويُجَرِّبْن أفكارًا جديدة، وبالتالي يُطوِّرْن قدرتهُنَّ على التفكير والتمييز، يُحلِّلنَ ويَتَّصلْنَ. وهكذا على وجه التحديد تُعزِّز التَّعدُّدية من تَطوُّر الوعي. إنها أيضًا تستعيد مَغزى الدَّهشة إزاء العالَم. وبينما يستحث التَّراتُب الهَرَمي قِلَّة على القمة لكي تَتطوَّر قدرتُها على التخطيط والتقويم، فإنه يهبط بالأتباع إلى منزلة الأطفال الذين يُطيعون الأوامر. التَّراتُب الهَرَمي يُقوِّض الارتباط بين الناس عن طريق تقسيمهم إلى مُستويات مُتفاوِتة تكف عن التفاعل معًا كأنداد. وكشأن الفيزيائيين الذين أبْقَوا سرًّا أن باحِثِي ما بعد الدكتوراه العاملِين معهم كثيرًا ما يُبعدونهم عن المشاكل والمتاعب، لا يَستطيع القادة أن يكونوا حيث يراهم الآخَرُون قابِلِين للطعن والجرح. لا بُدَّ أن يَتبوَّءُوا وضْع السيطرة. ويَنال من قدرهم أن يَتواصَلوا مع الأتباع كأنهم أنداد.

دراسات الطفولة التي تَعرَّضَت لأساليب مختلفة للقيادة وَجدَت أن أولئك الواقعين تحت قيادة سُلطوية يُصبِحون أكثر عدوانية ولا مبالاة. وفي المقابِل، نَجِد الأطفال في المواقف الديمقراطية، حيث يشاركون في تحديد الأهداف المنشودة، يَعمَلون في أجواء التواصل اليَّسير والمَعونة المُتبادَلة. وتبعًا لهذا، يُنتِجون عملًا أفضل، خَيَّم عليهم مَزيدٌ من روح الصداقة والأقل من النزوع إلى الهيمنة، وصدرَت عنهم حالات أقل من السلوك العدواني.٣١

بدائل لِبِنيات التَّراتُب الهَرَمي

في هَرَم التَّراتُب لا بُدَّ أن يَنزاح شخص كي يُفسِح المكان لشخص آخَر تَوَّاق للصعود إلى القمة. أما في البِنية الدائرية، فيتقابَل الناس في مَرمَى البصر، والكل يقيم في المستوى نفسه. يمكن أن تتسع الدائرة لتضم آخَرِين من دون إزاحة أحد. بَيْد أنَّ الدائرة لها مستوًى واحد فقط، وبالتالي تستطيع تعزيز التَّماثُل والتكرار، وينقصها إظهار تَقدُّم الأفراد. قد ينظر إلى التَّفرُّد أو التَّفوُّق على أنهما يُهدِّدان انسجام الجماعة. ومن الناحية الأخرى، تضم الدوامة كلًّا من التَّعدُّدية والتقدُّم. أي مستوى يمكن أن يتسع ليضم شخصًا آخر بينما يَتنامى كل فرد. قد يكون رئيس المختبَر في مُستوًى آخر، لكن في الدَّوامة يتصل كل مُستوًى بسائر المستويات الأخرى. لا حاجة لإزاحة أحد.

يَتأتَّى الارتقاء السيكولوجي من اتخاذ القرارات، مُقارَعة خيارات الأخلاق والفضيلة، ومُعايَشة تجارب حياتنا. في التَّراتُبات الهَرَمية، تُخْلَع هذه الأشياء جميعها على السُّلطة العليا. الناس يَسعَون لأن يسير العمل، واتباعهم للأوامر ينزع عنهم المسئولية الفردية، يطيعون الأوامر خوفًا من الجزاء، ويُنحُّون المُعضلات الأخلاقية جانبًا. وبالتالي، ينفصل الذين يُصدرون الأوامر عن مُحصِّلات الفعل. وبما أنهم يعملون من بُرج المُجرَّدات العاجي، يسهل عليهم أن يَترفَّعوا عن التعامل مع الواقع. وفضلًا عن هذا، يتم باسم الكفاءة والنظام قمع المُعيَّن والمُتغيِّر، الطُّرَفاء والمُفكِّرين المُتحرِّرين. وحين يحدث شيء ما خطأ، يستطيع أولئك الذين يَعتَلُون القمة أن يَدَّعوا الجهل بالأمر، ويَنْحُوا باللائمة على أولئك الذين قاموا به فعلًا. وبدلًا من تقاسُم القوة، تستأثر بها الصفوة وتستخدمها من أَجْل التحكم. أصوات التَّعدُّدية محكوم عليها بالصَّمْت ومُلقًى بها في الظلال المُعتِمة. تُزاح الوقائع الغريبة وتَخفى تحت البساط. وكما قال أحد الحاصلين على جائزة نوبل: «لا تدع واقعة تعترض سبيل نظرية جيدة.»

وَجدَت الأنثروبولوجية شارون تراويك أن معظم الفيزيائيين اليابانيين كانوا أكثر ديمقراطية، وأقل تَراتبًا هَرميًّا، في تَعارُض مع البنية التنظيمية ﻟ «مُعجِّل ستانفورد الخطي». إنهم يتخذون القرارات عن طريق الإجماع. يشعر كل فرد في المُختبَر أنه يعلم جيدًا المسائل الجارية ويفكر فيها بعمق. وقبل اتخاذ قرار يَمَس المختبَر بأسْره، يُشارك كل شخص مشارَكة فعالة في مناقَشة الأمر، ويتشاور قائد الجماعة مع كل منهم على أكمل وجه. ومن الناحية الأخرى، يشكو الفيزيائيون في «مُعَجِّل ستانفورد الخَطِّي» «إنهم يخبروننا بما يحدث فقط بعد اتخاذ القرار».٣٢ ومن الجدير بالذِّكْر أن بِنية التَّراتُب الهَرَمي تَلتَمس مُداخَلات الأتباع وتأخذها في الاعتبار بصورة رُوتينِيَّة. مثل هذه البِنية قد شكَّلها طاقم نُجوم المغامَرة في العرض التلفزيوني The Star Trek: The Next Generation حيث يسهم كل عضو من أعضاء الجماعة بموهبة أو قدرة أو خِبرة مُعيَّنة. وحين افتقاد أي عضو من أعضاء الطاقم، يَعتلُّ أداء السفينة لعَملِها لكنها لا تتوقف بسبب إمكانيات الأعضاء الباقين ومُرونتهم.

وبدلًا من القوة المَفروضة من أعلى التي نَجدُها في مُعظم بِنيات التَّراتُب الهَرَمي، تدعم البِنيات الدائرية القوة من حيث هي مسئولية؛ القوة على أداء كذا، قوة الاهتمام بكذا، وبَث القوة في أعطاف الآخَرِين. وصَف لي أحدهم القوة بأنها «أن يَستمِعوا لي»، ما يعني الاحترام. يشرع الناس الذين لا يستمع إليهم أحد في الشعور بأنهم مُعمًّى عليهم بلا حول ولا حيلة ويائسون. وعن غَياهِب الظلال المُعتمة، ينشأ الشخصي والمُعيَّن خلال عملية المناقشة، إذ يُسهِم كل شخص بنصيب في الحقيقة. وبدلًا من التَّسوية بحلول وسط، يمكن أن نجد في تشكيل حلول للمشاكل سُبلًا إبداعية. حين تَغوص الجماعة في مُستنقَع تفكير «إما / أو»، وتنغلق في سِجال حول ما إذا كان حل هو الأفضل أم الآخَر، يمكن أن يساعد هذا على العود خطوة إلى الوراء لإعادة تقويم الافتراضات والمقاصد، وبالتالي خلق خيارات جديدة. وفي الأعم الأغلب يستطيع مدى الاحتمالات. أن يحرك الجماعة قُدمًا وفتح المجال للعملية الإبداعية.

أحد التحديات في مثل هذه المُقارَبة يكمن في تَعلُّم أن نمارس مهامَّنا بوصْفِنا أفرادًا عاقِلِين في جماعة، وأن نَتسامح مع التَّفرُّد بين أعضاء الجماعة، وأن نُوازن بين الاحتياجات الفردية لكل عضو وبين الصالح العام. وحين نَستحضر في الوعي سائر إمكانيات كل عضو، تَنبثق داخل أعطاف الجماعة مستويات مُستجَدَّة لأداء المهام.

يمكن أن يكون اتخاذ القرار عن طريق الإجماع عملية تَحمِل طابع الصراع والشَّواش والملالة واستهلاك الوقت. ولكن لأنَّها تأخذ في اعتبارها التَّعدُّدية الجَمْعية، تَعدُّدية الأفكار والمشاعر والرؤى والمهارات، فالأرجح أن يَنجُم عنها قرارات تَدوم. كل شخص يَتنامَى وعْيُه إذ هو يُنصِت باحترام إلى منظورات للآخرين، وكل أمامه الفرصة لتطوير التعاطف والتَّراحم مع الآخَرِين، وكل يعمل على تقدير التعقيدات والصعوبات المُحيقة بالقرار الذي تم الوصول إليه. وعلى العكس من هذا، حين يكون القرار مفروضًا على الناس وفقًا لصالح فاعلية قصيرة المدى، فغالبًا ما يُقاومونه أو يُفسدونه بدهاء. لاحَظ عالِم الاجتماع جوليوس أ، روث J. A. Ruth عواقب ما يسميه «الأيدي الأجيرة في البحث»، حيث لا يفوز الفَنِّيون بنصيب من المردود العقلي الذي يعود من البحث، كتأليف الأوراق البحثية المنشورة:
ثَمَّة مَن ينطلقون من فكرة مفادها أن ما يقومون به جانِب مُهِم من العمل يجب أن يَضطلعوا به على النحو الصحيح، وحتى هؤلاء سوف يَستسلمون لعقلية الأيدي الأجيرة حين يُدرِكون أن مقترحاتهم وانتقاداتهم يتم تجاهُلها، وأن المهمة المنوطة بهم لا تُفسِح مجالًا لأي خيال أو إبداع، ولن يَنالوا شرفًا عن المُنتَج النهائي، باختصار جرى استِئجارهم ليقوموا بالعمل القَذِر نيابة عن شخص آخَر، وحين يَغمرُهم الشعور بهذا لن يَعنيَهم بعدُ أن يكونوا على تأنٍ أو انضباط أو دِقة. سوف يَتغاضَون عن زوايا عديدة لتوفير الوقت والجهد. وسوف يُلفِّقون جوانب من تقاريرهم.٣٣
وليم برود W. Broad، ونيكولاس ويد N. Wade في كتابهما «خونة الحقيقة» يعزوان الغِش والخداع في العلم إلى بِنية العلم الهَرَمية ومنظومة المكافأة فيه. في هذه المنظومة، يُحرِز العلماء مَنزلة أعلى عن طريق نَشْر المزيد من الأوراق البحثية، والظَّفَر بالمزيد من أموال مِنَح الأبحاث. وتَدور عجلة الأبحاث المنشورة عن طريق الاحتياز على المزيد من الفَنِّيين وطَلبة الدراسات العليا وباحِثِي ما بعد الدكتوراه ليقفوا على طاولة المختبَر. ولكن في هذه العملية، يُسْتَل الباحثون المُتمرِّسون بعيدًا عن العمل الفعلي في العلم، ويُصبِح رؤساء المختبَرات أقل إدراكًا لتفصيليات البحث. ومن أَجْل الحفاظ على مركزهم في التَّراتُب الهَرَمي، قد يَقبَلون وضْع أسمائهم على أوراق بحثية أجراها مرءوسوهم بدون علم كافٍ بمضمونها. ويمكن أن يصبح المختبَر «طاحونة بحث، ومصنع إنتاج بالجمُلة للمقالات العلمية»،٣٤ بدلًا من أن يكون معبدًا للحقيقة.

وفي مُقابِل بِنية التَّراتُب الهَرَمي، والبِنية الدائرية، وبِنية الدَّوَّامة، يتقدَّم جريجور نيكولِس، وإليا بريجوجين بنموذج جديد قائم على التنظيم الذاتي الناشئ من خلال لولَبِيَّات التغذية الاسترجاعية. إنها العملية التي ينشأ فيها النظام عن الشَّواش، وتَنتظم فيها المنظومات ذاتيًّا وتلقائيًّا حول «جواذب»، وهي عملية مماثلة للعملية السيميائية، كَتَب يونج.

في البداية يبدو الطريق إلى الهدف مُشوَّشًا ومُسهَبًا، وفقط بالتدريج تَتكثَّر المعالم التي تُرشِد إلى السُّبل لا يسير الطريق قُدمًا بل يبدو مُلتَفًّا في دوائر. والمزيد من المعارف الدقيقة تَدخُل به في دوَّامات … الحق أن العملية بأَسْرها تدور حول نقطة مركزية أو تَرتيب ما حول مركز … يَجتذبها لتقترِب منه فيما تتزايد التضخيمات في الوضوح وفي المدى.٣٥
إن الثقة مطلوبة من أَجْل حدوث التنظيم التلقائي. وحين افتقاد الثقة، نَحط في التَّراتُب الهَرَمي، الذي لا يمكن أبدًا أن يَتسامح مع الشَّواش. إن النزوع إلى التَّحكُّم والفاعلية يجعل بالمَدى القصير على المَسار الطبيعي لأنساق التنظيم الذاتي قصير المدى. أما النموذج القائم على التنظيم الذاتي فيتسامح مع اختلاف الآراء والمهارات. يَتجلَّى الأفراد في تسهيل مُختلف مهامِّ المجموعة. تَتعاقَب القيادة اعتمادًا على خِبرات خاصة يَتطلَّبها الموقف المُعيَّن. وأولئك المسلَّحون بمهارات مختلفة لكن مُلتحمَة مع الموقف بدورهم يَعتبرون القوة مسئولية. وبدلًا من استخدام القوة في التَّحكُّم، يأخذونها بوصفها واجبًا يضطلعون به؛ لأنهم قادرون على أدائه، يَنظرون إليها كالتزام بأداء خدمة، وفرصة لرد الدَّيْن إلى الجماعة.٣٦ في داخل هذه البِنية، يَنمِّي كل شخص سُلطته الجُوَّانية الخاصة به واحترامه للآخرين. وما دام ثَمَّة تقاسُم للسُّلطة، يَتصدَّى الأفراد للعمل داخل الجماعة، ويُوازنون بين مُتطلَّباتهم الشخصية ومُتطلَّبات الجماعة.

المختبَرات الجامعة

كنتُ في الصيف الماضي أتَنزَّه مع بيكا ديكشتاين سَيرًا على الأقدام في سهول الخُفَّاف حول فوَّهة بركان مَونت سانت هيلينز الثائر. لم أكن قد رأيتُها منذ ما يَقرُب من ثمانية أعوام. ومنذ خمسة عشر عامًا مَضت كانت كِلتانا قد تَسلَّمت العمل في الشركة نفسها وفي اليوم نفسه عَمِلَت بيكا بشهادة بكالوريوس العلوم، وعملتُ أنا بشهادة الدكتوراه. كنتُ رئيستها في العمل، ومسئولة عن إدارة مجموعة عمل من خمسة أفراد. ويا لدهشتي! إذ أخبرَتْني أثناء زيارتها أنني كنتُ مرشدًا ناصحًا لها. وقالت إنني أوَّل شخص في مجالِ العلم جَعَلها تُفكِّر بجِدِّية، أوَّل شخص «فكر معها» بدلًا من أن يُمْلِي عليها ما تفعله (ظهر اسمها على براءة اختراع مُنتَج عَمِلْنا فيه معًا، كما يحدث دائمًا مع الفَنيِّين الذين شارَكوني في تأليف أوراق بحثية). تَشكَّلَت صداقة دائمة بيننا، على العكس من قواعد التَّراتُب الهَرَمي. وهي الآن أستاذ مساعد في جامعة دريكسل، «تفكر مع» طلابها والفَنِّيين لديها.

وجدَتْ ديبورا تانن، في دراستها اللغوية لأساليب الحوار، أن الرجال يَظفَرون بالمَنصِب في التَّراتُبات الهَرَمية بأن يُمْلوا على الآخَرِين ما يفعلونه ومُقاومة أن يُملِي عليهم أحد ما يفعلونه هم. إن المُسايرة تشير إلى الخضوع لسُلطة القائد. ومن الناحية الأخرى، تجعل النساء من السَّهل على الآخَرِين أن يُعبِّروا عمَّا يُفضِّلونه بغير إقحامهم في مواجَهة، وسبيلهنَّ إلى هذا صياغة المطلوب كاقتراحات كأَحْرَى من أن تكون أوامر. وحِين تجعل من «دَعْنا» و«نحن» قوالب لصياغة المُقترَحات فإن هذا يفيد ضِمنًا أن الجماعة مُجتمَع كل فرد فيه يُسهِم في تحديد الأهداف وصُنع القرارات. وفضلًا عن هذا، لا يطرح الرجال على الإجمال أسباب مَطالبهم، بينما تطرح النساء الأسباب التي تُبيِّن كيف أن المَطلوب يَخدُم الصالح العام.٣٧ لاحظت تانن أن النساء لا يَشعرن بالارتياح لإصدار الأوامر، ويَمِلْن أكثر لطرح الأسئلة. وبالعَوْد إلى خبرتي كمديرة علمية، أتَحقَّق من أنني أُطابق هذا النموذج. وعلى الرغم من أنني لاحظتُ أن رؤسائي والمُديرين العِلمِيِّين الآخَرِين فقط يُمْلون على الفَنيِّين لديهم ما يفعلونه، فإني رُمتُ أن أستلَّ منهم أفكارهم وتأويلاتهم، وأشرع في تفويضهم في اتخاذ قرارات حول كيفية استئناف المَسير.
إن ألبرت أَينشتَيِن مِثال لعالِم من هذا الطراز النازع إلى الديمقراطية في الإدارة. لاحَظ مساعده فالنتين بَرجمان V. Bargmann أنه يتعامل مع الذين حوله بوصفهم على قَدَم المساواة. قال بَرجمان: «من المهم التأكيد جدًّا على أنه لم يعمل على أساس السَّيِّد والأتباع، بل كل ما يَعِنُّ لنا قوله كان يُؤخَذ بمنتهى الجِدِّية، ويُناقَش مناقَشة وافية كما لو كان فكرة من أفكار أينشتين. ما كان يُفضِّل هذا رجعًا لصدًى.»٣٨

لِسُوء الطالع، أصبحَت منظومة المكافأة في العِلم مُتورِّطة في التَّراتُب الهَرَمي حتى يَصعُب تَصوُّر منظومة أخرى يمكنها أن تسير بنجاح. على أية حال، أحْرَز بعض العلماء بدايات محدودة داخل مجال نفوذهم. وربمَّا نَصل من خلال مثل هذه الجهود الفَردية إلى عَتبة حَرِجة [=نقطة تحوُّل]، وتُعيد المنظومة بأَسْرِها ترتيب ذاتها. تُعطينا سينثيا هَجِرتي مثالًا على هذا، إنها عالِمة في بيولوجيا المَصايد مُشْرفة في المختبَر الفيدرالي، عَملَت على تلطيف الأجواء بين البشر في مختبَرها، وبين التَّراتُب الهَرَمي الكائن فوقهم. استمْتعَت بالعمل الحَميم مع خمسة من البشر في مختبَرها لتخطيط البحث وتنفيذه. وحين ازدهر نجاح المختبَر، راحتْ تقضي مزيدًا من الوقت في الإشراف، وحضور المُلتقَيات، وإلقاء المحاضَرات، وكتابة تقارير مِنَج الأبحاث، والتقارير الدَّورِية، وتُنظِّم ندوات دولية. لكنها فضَّلَت أن تقوم بالعمل الفعلي في البحث. لاحظَتْ أن هذا ليس شائعًا بين الباحثين المشرفين، قائلةً: «العلامة على نجاحهم هي أن يقوموا بتنظيم أداء عمل كل شخص آخَر، وهذا أحد الأسباب التي تجعل بعضًا من هذه الأعمال لا تُؤدَّى على الوجه الأكمل؛ إذ إن باحِثِيه ليسوا في خِضَمِّه.»

في معمل هَجِرتي يتكيَّف الناس مع اختلاف أساليب الحياة، واختلاف أنماط العمل وتخطيطاته. إنها تَنتقِي عن وعي الناس الذين يعملون كأعضاء في فريق، لكل فرد مَصلحة شخصية في العمل، والمكافأة الشخصية على العمل تَتجاوز كثيرًا مسألة رواتبهم: ظهَرتْ أسماؤهم على الأبحاث المنشورة، عَرضُوا الأوراق البحثية في الملتقيات العلمية، شارَكوا في عملية اتخاذ القرارات بشأن ما يحدث في المختبَر. في عصر يوم من أيام الأسبوع، كانت هَجِرتي ومجموعتها تَلتقي في جلسات لمناقشة أفكار بارعة خَطرَت لهم. أخذَت هَجِرتي دَورَها في المحافظة على أدوات المختبَر، أو التَّردُّد عليه في الواحدة صباحًا لمتابعة سَير التجربة، شأنها في هذا شأن أي فرد آخر. وعلى الرغم من أن بعض الأوقات كان من الضروري فيها مراعاة الحدود، فقد عملوا مُعظَم الوقت بوصْفِهم «جميعًا باقة واحدة» وكان متوسط ما ينشرونه في هذا المناخ الحر المُتفتِّح خمس أوراق بَحثِيَّة في العام. أَحب الناس العمل في مختبَرها. وقالتْ:

كان المُشرِف عَليَّ إذا هَبط علينا يُلاحِظ أنَّنا كنا سُعداء نتضاحَك، أو أنَّنا لسْنَا هنالك؛ فقد نكون في الخارج نتناول الغَداء في وقت مُمتدٍّ، أو يأتي أحدُنا في العاشرة مساء ليعمل. ولكن المُشرِف لم يُدرِك أنهم في الليلة الماضية ظلُّوا في المُختبَر حتى منتصف الليل لإنجاز شيء ما، وحتى الآن يعمل المختبَر من الساعة السابعة إلى الساعة الرابعة، وقد وقعتُ في مشاكل وأنا أُحاول أن أجعل المُشرِف عَليَّ يَتفهَّم أسلوبَنا في العمل. الناس يَستمتِعون! وأنا كذلك أُنصِت إلى الناس بدلًا من الاكتفاء بأن أُمْلِي عليهم ما يفعلونه. وحين يكون وقت حضور مُلتقًى علمي، فإن الشخص الذي أنجز قدرًا كبيرًا من العمل في المشروع أَجعلُه يذهب. أحيانًا أذهب أنا لأنني أردتُ فعلًا أن أذهب، ولكن إذا كنتُ أستطيع، فإني أرسلهم. أما إذا كانت النقود لا تكفي، فلستُ أنا التي تذهب دائمًا.٣٩

بَحثَت هَجِرتي بجد وفاعلية عن الناس الذين تَخطر لهم أفكار بارعة وتتبادَل معهم الأفكار. لكنها واجهَت صعوبات في تبادُل الحديث مع الناس خارِج سلسلة القيادة. المُشرِف عليها أعطاها مُحاضرة يُشدِّد ويُؤكِّد على تَفهُّم التَّراتُب الهَرَمي والبقاء داخله. بل باتَ المُشرِف منزعجًا خصوصًا حين تَحدَّثت مع المدير حول أفكار للتمويل. قالت هَجِرتي:

أنتَ تَفترِض أن تذهب إلى المُشرِف المباشِر وإذا وجَدَها فكرة جيدة ستنتقل إلى الشخص التالي، ثم مَن يليه. ما كنتُ لأعمل أبدًا مع تلك المنظومة وأنا ساكنة لا أُغيِّر شيئًا. بدت لي بغير مَعنًى. وكانت الفكرة الحمقاء التي أغوتهم هي أن مُختبَرنا مُنتِج جدًّا ويعمل شكل جَيِّد، وببساطة لا يستطيعون أن يُحاربوا هذا.٤٠

وحين كان ثَمَّة اقتطاع من الميزانية الفيدرالية استلزم إجراء تغييرات في فريق العاملين، وجدَتْ هَجِرتي صعوبة بالِغة في أن تدَع بعض الناس يذهبون؛ لأن كل فرد كان يُسهِم في المجموعة إسهامًا فريدًا. وأيضًا أحسَّتْ بشيء من المسئولية إزاءهم.

كنتُ محزونة حقًّا، حين يكون لديك وفْرة من العَزْم ومن الإنتاجية، وتستطيع أن ترى ما يمكن أن تنجزه كجماعة، ثم يصبح عليك أن تَقتطع برامج أساسية؛ لأن التمويل تَغيَّر. وحين تَتخبَّط المنظومة هكذا لدرجة ألا يكون ثَمَّة أي استقرار للمشاريع طويلة المدى، فهذا تبديد لأموال دافِعي الضرائب، مُوجِع ومُثبِّط حقًّا. كان عسيرًا عليَّ للغاية أن أرى الناس تَتبدَّل مواقعهم أو نَدَعهم يذهبون. إن لديَّ التزامًا إزاءهم، وحِسًّا عميقًا بالجماعة والاتصال، وهُم لم يكونوا مجرَّد حَمَلة جوَّابِين بأنابيب الاختبار؛ بل كانوا بَشرًا مِهَنهم وحَيَواتهم ذات أهمية.٤١

إن البيئات التي تُرحِّب بالتَّعدُّدية وتُطوِّر نسيجًا من التفاعل بدلًا من تَراتُب هَرَمي، إنما تُعزِّز نماء الأساتذة وطلَبة الدراسات العليا على السواء. الأساتذة أيضًا يَتعلمون ويزدَهون عن طريق الإنصات إلى الطلبة واحترام إسهاماتهم، بدلًا من أن يَتربَّعوا ويتصرفوا كأنهم يعرفون كل شيء. ويَتنامَى اعتماد متبادَل، بدلًا من تَدفُّق فَيض المعرفة والخِبرة في اتجاه واحد من الأستاذ إلى التلميذ. وحين يُلاحَق الأساتذة بأعباء تَسجيل المِنَح الدراسية والمهام الإدارية، يَصعُب غالبًا أن يُتابِعوا آخِر التطورات في مَجالات أخرى غير مَجال تخصُّصهم. أما الطلبة الذين لهم اهتمامات مُتشعِّبة وتَلقَّوا تدريبًا حديثًا في أنظمة مختلفة فهم يستطيعون إخصاب البحث بالتَّهجين والتفاعُل. يستطيعون طَرْح رُؤًى مُستجَدَّة؛ لأنهم أقل خضوعًا للدُّوجما وللمقارَبات التقليدية. وكما قالت عالِمة الجو كريستينا كتزاروس:

إنك تتعلم من الطلاب أيضًا. إنهم يعرفون أحدث الأشياء، درَسوا مقرَّرات أخرى، ويَعرفون عن الكمبيوتر أكثر ما أعرف أنا، وأحيانًا تكون لهم مقارَبة مختلفة. جميعهم لهم شخصيات مختلفة، وهكذا يَتعلَّم كِلانا من الآخَر أنَّنا نؤدي العمل بطُرق مختلفة. وعن طريق الاختلاط بين ناسٍ مُختلفِين تَظفر بنواحٍ عديدة من الكل الشامل. من المُفيد جدًّا ألا يكون الجميع على الشاكلة نفسها. ثَمَّة جانِب آخَر جَليل بشأن البحث وهو أنك تَتعلَّم دائمًا. أنت لا تتوقَّف أبدًا عن التعلُّم.٤٢

غالبًا ما تظفر سيجريد ميردال الباحثة في السرطان بأفكار جيِّدة من خلال وصْف السؤال التجريبي لزوجها وأطفالها. ولأنَّهم غير مُثقَلين بتقويمه، فهم يطرحون أسئلة كانت هي قد نَحَّتْها جانبًا. لقد نَحَّت تلك الأسئلة جانبًا لسبب ما، وبينما لم تَعُد تلك الأسباب قائمة، لم تُفكِّر ميردال في إثارة تلك الأسئلة مُجددًا.

بالنِّسبة لميردال، مُشارَكة الآخَرين؛ الطلاب، والأسْرة، والزُّملاء، وفريق المُعاونِين، في التقدير الذي تَلقاه إسهاماتها في البحث، إنما يُؤجِّج الحماس ويُشِيع معنًى للمِلْكية والمسئولية والتفويض. وهذا يبعث الحماس ويَستحثُّ فيضًا من الأريَحِية ويرعى الروحَ في البدن، في مُقابِل البيئة الدفاعية المُفعَمة بالخوف من الاضطهاد وطَمْس الشخصية، تلك البيئة التي تَخلُقها التَّراتُبات الهَرَمية المُتشبِّثة بالقوة والتقدير. ومن ناحية الأنشطة الاقتصادية للعِلْم في التَّراتُبات الهَرَمية، تُبدِّد موارد هائلة؛ إذ يحاوِل الناس حماية مراكزهم عن طريق تعيين المُستحِق لِلوَّم، كَبْش الفداء، وإخفاء حماقاتهم، بدلًا من أن يَعملوا معًا على حل المشاكل الحقيقية.

توسيع نطاق التَّنوُّع بين المُساهِمين في العلم

كان العلم، وُصولًا إلى القرن العشرين، مُتاحًا لأي شخص يتعلم. وكان في حالات كثيرة هواية تُمارَس انطلاقًا من الشَّغَف الشخصي. لا يُستبعَد غير المُحترِفين من المُشارَكة، وأنْجَز الهواة إسهاماتٍ مهمة في العلم، هذا في مُقابِل التَّراتُب الهَرَمي الحديث للعلماء بوصْفِهم الخُبراء. مثلًا، قام موسيقار القرن الثامن عشر وليم هرشل W. Herschel بصقل عدساته وصنع المِقْرَابات [= تلسكوبات] الخاصَّة به. وفي رَصده لسماء الليل، توصَّل إلى شيء أدرَك أنه ليس نجمًا عاديًّا. وثَبت أنه الكوكب أورانوس، أول كوكب تَمَّ اكتشافه منذ عصور ما قبل التاريخ. أنَجزَت شقيقته كارولين هرشل كثيرًا من الحسابات المُتَّصِلة بدراساته، ومن جانِبها عَيَّنَت بمقرابهما ثلاثة سُدُم وثَمانية مُذنَّبات.
وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، تنافسَت الصالونات الباريسية مع الأكاديميات العِلمية في لَفْت انتباه المُتعلِّمين. هذه المُلتقَيات غير الرَّسمية في حُجرات الجُلوس بالمنازل الخاصَّة قد دخَلت في وشائج اجتماعية مع عملية البحث العلمي. استأثرَت النساء بإدارة هذه الصالونات الفرنسية التي أفادَت كقناة كبرى للتواصل، حيث يجتمع عليها النبلاء وغير النبلاء لتبادُل الأفكار. باتَت مناقَشة العلم هي الطراز المُستحدَث [= الموضة]، واللافت أن عدَد الذكور الأعضاء في هذه الصالونات قد تجاوَز عدد أعضاء الأكاديميات العلمية (التي استُبعِدَت منها النساء).٤٣
وفي عهد أحدث، اختار لويس ليكي L. Leakey نادلة سابقة وسكرتيرة لتَرْأسَا دراسة على قِرَدة الشمبانزي، ومُعالِجة للأمراض المِهنية لدراسة غوريلا الجَبل، وطالِبة دراسات عليا في الأنثروبولوجيا لدراسة إنسان الغابة. بعض الناس تَشكَّكوا في سلامة عقله. ولكن ليكي فضَّل شخصًا «له عقل غير مُرتَبك وغُير مُنحاز بفعل نظرية ما، شخصًا يقوم بالدراسة من أجْل الرَّغْبة الحقيقية في المَعرفة وليس لأي سبب آخر؛ وفضلًا عن هذا، شخصًا ذا فَهْم مُتعاطِف مع الحيوان».٤٤ وعلى مدار عقود، كان الصالح العام، والمَعهد الجغرافي القومي كلاهما تَدعيمًا لجان جودال، وبِيريوت جالديكاس في دراستهما للقِردة العليا.

وفي يومنا هذا، نَجد المُعدَّات الباهظة الثمن المطلوبة لإجراء تجارب في مَجالات؛ مثل: البيولوجيا الجزيئية، أو فيزياء جُسَيمات الطاقة العالية قد جعلت ممارَسة العلم بعيدة عن مُتناوَل غير المُحترِفين والهواة. فضلًا عن هذا، أصبح العلم بنفقاته الباهظة مُعقَّدًا وتخصصيًا لدرجة يبدو معها أن مُمارسَته تستلزم جهود التفرغ الكامل. الغالِبيَّة من عامة الناس تُرهبُهم النظريات والخَلفِية المطلوبة لإحراز إسهام ذي مَغزًى في العلم. وبغير سنوات من التعليم وشهادات ملائمة، يَشعرُون بافتقارهم إلى المِصداقية التي تَجعَل العلماء المُحترِفين ينظرون إليهم بعين الاعتبار.

في الأعمِّ الأغلب يَلقى الهواة استخفافًا بوصفهم عديمي المهارة والكفاءة. ولكن بعض الناس قد يُفضِّلون استئجار هاوٍ لأداء وظيفة؛ لأن الهواة يُمارِسون العمل بدافع من الحب، ولن يُلفِّقوا فيه. من الناحية الأخرى، غالبًا ما يرى المِهنِيون المحترفون أنهم عَليمُون ببواطن الأمر، ويفتقدون التَّواضُع. هم واثقون جدًّا من مَعارفهم، وتَنتَفِخ أشداقهم استكبارًا، وفي هذا يَبلُغون المأرب من أقصر الطُّرق.

لسوء الحظ، أُهمِلَت بحوث التكنولوجيا البسيطة، إثْر صعود منزلة العلم الجَسيم. في البيولوجيا، يَستعمِل تَتابُع الجينوم البشري معدات آلية بَالِغة التعقيد، ويَستلُّ تمويلًا وباحِثِين من المجالات الأقدم لبيولوجيا الكائنات الحَيَّة. مثل هذه العلوم الأقدم تَقوم على المُلاحَظة، تَدرُس التنوع والتَّعدُّدية في الطبيعة، ولا تأتي للجامعة بمزيد من الأموال عن طريق براءات الاختراع أو الاستحواذ على مِنَح البحث الكبرى. لقد جَرى تجاوُز مجالات بِرمَّتها، تحت إلحاح الإجابة على أسئلة العلم «الأساسية» جدًّا ويبقَى تَنوُّع ثَريُّ في الطبيعة مستحقًّا للاكتشاف.

أضواء علم التكنولوجيا المتقدِّمة قد أَعمَت الأبصار، لهذا اضمَحلَّ تدريس علوم دنيوية من قَبيل علم التصنيف والتنوع البيولوجي، والجغرافيا الحيوية، والتاريخ الطبيعي، وبيولوجيا الحِفاظ على بقاء الكائنات العُضوية، والإيثولوجيا، وعلم وظائف الأعضاء المُقارَن. وفي الوقت الذي يُستنْزَف فيه التنوع البيولوجي للكائنات الحية، نَجِد قِلَّة من علماء البيولوجيا هم المُدرَّبون على تعريفها. واهتم علماء مثل ديفيد إيرنفِلد D. Ehrenfeld ﺑ «نزع مهارات» علماء البيولوجيا التقليديين، تَجفيف ينابيع المهارة والمَعارف العملية عن التَّنوُّع البيولوجي، وافتقاد المُشارِكين ذوي المَهارة في تطبيق تلك المعارف.٤٥ إن تقنين الدَّمار البيئي الناجم عن سَكب البِترول ومُنشآت القُوَّة النَّووية، وثُقب الأوزون، وارتفاع حرارة الأرض، يَستلزم قَبلًا تَقَهُّم نسيج الحياة الكائن، وهذا يتطلب وقتًا ومهارات في الملاحَظة أكثر مما تفعله المُعدَّات المُتبرِّجة. وهذا واحد من المَجالات التي يمكن أن يلعب فيها الهواة دورًا مُهمًّا.

وعلى الرغم من أن الفتوح المذهلة في العلم تَتطلَّب غالبًا ميزانية مذهلة، فإن ثَمَّة مَجالات عديدة يمكن أن يساهم فيها الهواة. مثلًا الطبائعيون الهواة أمثال «صائدي الطيور» يمكن أن يُساعدوا في تَتبُّع أنماط هِجرة الطيور. وبينما يُركِّز العلماء المحترفون على مشاكل تَستلزم تكنولوجيا معقَّدة، يتَّسع مدى يمكن أن يشغله أصحاب الهوايات، مَدى من ثَروَة التَّنوُّع التي نُحِرت على مَذبَح النظرية.

في مجال الفَلك، حشَد المُحترِفون الاعتمادات المالية المَحدودة المُخصَّصة لهم في منشنآت قَليلة باهظة التكاليف. الحاجة مُلحَّة لمثل هذه التجهيزات الضخمة. ويجب على الباحثين تَعيين لجان لرصودات المِقراب في الوقت المتاح، ثم يَضعون جداول قبلًا ببضعة شهور لاستغلال الأيام القليلة الثمينة من زمن الرصد، ويبتهلون إلى الله من أجْل طقس صحو. وتبعًا لهذا لا يستطيعون أن يَتوجَّهوا إلا لعدد مَحدود من الأسئلة الأكثر أو التي تُعدُّ طرازًا شائعًا [= موضة]، مُستهدفِين الرُّصودات التي سرعان ما تفضي إلى نتائج درامية (وأبحاث منشورة درامية)، ويهيمن على هذا أسئلة الكوزمولوجيا.

من الناحية الأخرى، يستطيع الهواة المُتفانون أن يَضطلعوا بدور بالِغ الأهمية؛ مثلًا، بينما يَفترض كثيرون أن العلماء يَعرفون كيف تسير مُعظم النجوم، ما زال ثَمَّة الكثير لنتعلمه بشأن كيفية نشأة ونماء النجوم. ولكي نفهم هذه العملية، لا بُدَّ من رصْد كثرة بالغة التنوع من النجوم المُتغيِّرة. وبحث النجوم المتغيِّرة يُناسِب الهواة على وجه الخصوص. إنهم مُتحرِّرون من ضغوط النشر، ومن ثَمَّ يستطيعون مُتابَعة برامج طويلة المدى مُستخدِمِين المِقرابات المتواضِعة الخاصة بهم. مثلًا، شَيَّدت إحدى صديقاتي مَرصدًا دوَّارًا في فِناء منزلها من رسم تخطيطي في مَقال بمجلة «ساينتفك أميريكان». في منزلها، كان فراشها بمثابة واحة في غُرفة مُكتظَّة بأجهزة الكمبيوتر والطابعات. وعلى الإجمال، يستطيع هواة مُتنوِّعون أمثال صديقتي أن يُراقبوا السموات مليًّا مليًّا أكثر مِمَّا يفعل المحترفون. يستطيعون أن يَرصدوا أشياء من قَبيل النجوم المُتغيِّرة رصدًا منتظِمًا على مدى حِقَب طويلة من الوقت.

وضع و. أ. كوبر W. A. Cooper، وإي. ن. وُكر E. N. Walker في كتابهما «التَّوصُّل إلى قياس النجوم»٤٦ مقدمة عن النجوم المُتغيِّرة، تَشرح كيف نَصطَنع قياسات على النجوم بمِقراب مَنزلي، ونُخطط برامج مَدروسة ومَفهومة، برامج لرصد مَوضوعات مُناسِبة رصدًا نظاميًّا. هذان المؤلِّفان يشجعان الهواة على الإسهام في البحوث الاحترافية، ويَحثَّان المُحترِفين على التعاون مع زملاء لهم لا يَتقاضَون أجرًا، وذلك بمساعدتهم عن طريق توجيه وإرشاد جهودهم. هذا الكتاب يخبر الراصد عن أي شيء يبحث، ويعرض صورًا تُبيِّن شاكِلة النجوم من الدَّاخل كما نَتصوَّرها، وعادة ما تَحذِف المجلات الاحترافية مثل هذه النماذج. وإذ يجعل الكِتابُ معلومات كهذه مُتاحة أكثر، ويَجُزُّ المشاكل غير المحلولة في ذلك الميدان، فإنه يجعل القدرة على صُنع إسهامات ذات مَغزًى في مُتناوَل الراصدين الهواة. فضلًا عن هذا، شكَّل علماء الفلك «لجنة التنسيق بين المحترفِين والهواة» من أَجْل استكشاف سُبل التواصل بين المُحترفِين والهواة المُتحمِّسين. يعطينا هذا نموذجًا مدهشًا لتوسيع نطاق عِلم يمكن أن يساهم فيه أناس على هذا القدر من التنوع.
وفي مجال آخر، جنَّدَت منظَّمة غير سياسية هي «إرثواتش Earthwatch»٤٧ أناسًا من العامَّة لمُعاونة بِعثات علمية في أرجاء العالَم.٤٨ تَأسَّستْ إرثواتش العام ١٩٧١م، وَنظَّمَت دراسات بيئية، ودراسات مُتعلِّقة بالحفاظ على بقاء الكائنات الحية وحفائر أركيولوجية، وبرامج ثقافية ومشاريع في مُعظَم الميادين العلمية الكبرى. ومن أجل توفير نَفقات السفر إلى مواقع البحث، استطاع الأعضاء التلاؤم أكثر مع أَحْجِية الطبيعة. تَبحث هذه المنظَّمة غير الهادفة إلى الربح عن الحفاظ على الأنظمة البيئية المُهدَّدة بالخطر، واستكشاف التنوع الثقافي في العالَم، ورفع مستوى الرعاية الصحية والتعاون الدولي. ومنذ العام ١٩٨٤م، تُقدِّم «إرثواتش» تمويلًا لرحلات بيريوت جالديكاس في بورنيو. راقَب المتطوعون قُرود إنسان الغابة الضارية في الأحراش، ورَعَوا الأيتام والأسرى خارِج أوطانهم، ووضعوا فهارس نباتية لبقاع الأرض، وعَملوا في تصنيف الأعشاب.
وثمة سبيل آخر لإسهام عامة الناس في العلم ألا وهو تمويل الأبحاث من خلال عضوية منظمات مثل منظمة «وُرلد وَيْلِدلايف فند World Wildlife Fund»٤٩ التي تدعم البحث المُتَوشِّج في حماية الأنواع الحية المهددة بالفناء ومواطنها الطبيعية.٥٠ تأسست «وُرلد وَيْلِدلايف فند» العام ١٩٦١م، وهي أكبر منظمة دولية للحفاظ على بقاء الكائنات الحية، وباشَرَت ما يزيد على خمسمائة مشروع علمي. تدعم إسهاماتُ أعضائها مشاريعَ من قَبيل الحفاظ على الغوريلا في رواندا، ودراسات لتأثير قَلْع الغابات على الطيور المهاجِرة، وفَحْص مساهَمات النباتات البرية والحيوان الضارية في المجتمَع الصناعي.
تبين هذه الأمثلة كيف أن التعاون بين العلماء الذين يَتقاضَون أجرًا والذين لا يَتقاضَون أجرًا يمكن أن يكون نافعًا للطَّرفَين. ومع شيء من التدريب ومن التوجيه، يستطيع أي فرد أن يَمرَّ بخبرة الاستمتاع ببهجة اكتشاف التَّعدُّدية في الطبيعة. يستطيع المُتطوِّعون الشَّغوفون أن يَجمعوا الوقائع التي تتساقط من الثقوب على مذبح النظرية الفيحاء، وهي وقائع يمكن أن تدفع بالعلم إلى تبديل نموذجه الإرشادي [البارديم]. إن انتشار أجهزة الكمبيوتر الشخصي، في يومنا هذا، يهب الناس القُدرة على إجراء الحسابات المعقَّدة وتحليل المُعْطَيات التي لم تكن مُتاحة منذ عشرين عامًا خَلَت حتى للمحترِفِين. يَتحرَّر الهواة من قيود المُتواضعات والمراجَعة الدقيقة، لديهم كذلك حرية استكشاف حواشي وأهداب العِلم وفقًا لما يدفعهم إليه الشَّغف والإلهام. مثلًا، كانت رَبَّة البيت لويز جِبس L. Gibbs وليس عالِمًا محترفًا، هي التي لفَتت الأنظار إلى مشكلات النُّفايات السامَّة في قناة لاف.٥١ وكما يحدث في الأنساق الدينامية المعقَّدة، يستطيع عامَّة الناس أن ينظِّموا أنفسهم لاستكشاف كَونِنا. وإذ يبحث الناس عن تكريس أوقات فراغهم لأنشطة يتزايد معناها ومَغزاها، يستطيع الكثيرون أن يختاروا مُغامَرة العلم.

التكنولوجيا الملائمة

كثيرًا ما وُجِّه النقد إلى خبراء الغرب بأنهم يفرضون تكنولوجياتهم المعقَّدة على الثقافات «المتخلِّفة». مثلًا، لاحظَت عالِمة الأحياء البحرية ريبكا هوف R. Hoff إبَّان خدمتها فيالق السلام٥٢ بأفريقيا أنهم بدلًا من حفر آبار مملة لكن عامِلة، يُقيمون مشاريع لأنظمة الماء باهظة التكاليف سرعان ما تَتحوَّل إلى مُنشآت تحتاج إلى عناية ونفقات كبيرة وذات مَردود محدود. ولم يسأل أحد نساء القرية (المسئولات عن تزويد أُسرِهن بالماء) ما يَحتجْنَه؟ أو كيف يتلاءم هذا مع حياتهن وثقافتهن؟ وبعد بضعة شهور، لم يَعُد أهل القرية يُديرون الصنبور ويتوقعون أن يتدفق الماء. احتاجوا لشراء مُحرِّك الديزل والبنزين لتسيير المضخة. وحتى مع تَوافُر الوقود، لم يَتدرَّب أحد على صيانة أنظمة الماء، ولا أحد يستطيع إصلاح العطب فيها، ولم يكن لديهم قِطَع غيار للأجزاء التالفة. وبالتالي عادت النساء إلى حمل المياه الموبوءة بالطفيليات على رءوسهن لأميال عديدة. تحتاج هذه القرى إلى تكنولوجيا يستطيعون أن يقوموا عليها بغير مَدد من الخارج. لم تكن الآبار وضاءة ذات بريق، لكنها كانت عملية أكثر. وفي مثال آخر، تَصِف هُوف قارب صيد بناه مشروع المعونة الألمانية في قريتها:
في قرية الصيد التي عشتُ فيها، كانوا يصنعون القوارب التقليدية عن طريق تجويف جذوع الأشجار الضخمة. أما الآخَرون فصنعوا القوارب بألواح مقطوعة من الأخشاب المَحلِّية. ضُمَّت الألواح معًا بمسامير مُجَلفَنة، من دون مشابك تربطها معًا، وقد نُحِّيَت هذه القوارب جانبًا بعد عامين اثنين. ثم جاء مَشروع المعونة الألمانية الذي شَيَّد قاربًا يفوق تَصوُّرهم، قاربًا بمسامير قلاووظ وشَكْل بارع، ولكن ما أمكن الحصول ثَمَّة على لوازم مثل هذا القارب، ولا كان يُوجد نجَّار واحد من أهل القرية يَمتلك المهارة اللازمة لبِناء قوارب أخرى من هذا النوع. وبالتالي أصبح أمامهم هذا القارب الظريف كبُرهان عملي يوضح أنهم لن يستطيعوا بناء آخَر مثله، أو أن هذا القارب المُزعِج لا يفعل أكثر من أن يقوم بالعمل الذي يقومون به هم أنفسهم. وحين رَحل الألمان، ظَل القارب قابعًا هناك. مُجرَّد نُصب تذكاري آخر. إن الاتجاه هو التَّدخُّل في حياتهم بطريقة مَهيبة صارخة؛ لأن هذا هو ما نعرفه، وحكومة القُطر أرادت التكنولوجيا كأُبَّهة.٥٣

وأيضًا تقوم النساء بالكثير من أعمال الزراعة في أفريقيا، ولكن لا يستطيع الذكور العاملون في فيلق السلام تَبادُل الحديث مع النِّساء بسبب المُحرَّمات الثقافية. وبالتالي، تُقدِّم جماعات المعونة الغربية الآلات لمساعدة الرجال، ولكن قليلًا ما يساعدون النساء.

تعكس هذه الأمثلة تشديدًا على ترتيب مواجهة المُشكِلة من دون أخْذ سياق الموقف أو تعقيداته في الاعتبار. في تَكييف التكنولوجيا مع حياة البشر، تكون السياقات الاجتماعية والثقافية أساسية لنجاح المشروع تمامًا كالأفكار التكنولوجية البارعة. ولكي تصل ثمار العلم إلى الناس، يجب أن يتعلم الخبراء كيف يتواصلون ويتفاعلون بكفاءة مع الناس، كيف ينصتون إلى احتياجاتهم، ويعملون داخل نظامهم. سوف يفشل المشروع إذا لم يقتنع البعض في القرية بأن التكنولوجيا الجديدة سوف تعمل من أَجْلهم، أو إذا لم يكن لديهم سبب ملموس يدعوهم للتغيير.

في أغلب الأحوال، تميل منظمَّات من قبيل فيالق السلام إلى استئجار خبراء من حملة الدكتوراه أو مُهندسين، في حين أن شخصًا ما ذا منزلة أدنى لكن حساسية ثقافية أعلى قد يكون أكثر كفاءة. وبدلًا من الإنصات إلى خبرة القرويين المكتسبة عَبْر القرون، والعمل برفقة هؤلاء الناس لمساعدتهم على تطوير التكنولوجيا الملائمة لهم، تتخذ جماعات مَعونة التنمية موقف «نحن مُقْبِلون على أن نُعلِّمكم». وحتى مع أخلص نواياهم لتطوير حياة القرويين، تنصرف المعلومات لقطع طريق واحد، من الخبراء العِلْمِيِّين إلى القرويين البسطاء. وقد حضرت فورستر كاتي جراي F. K. Gray مؤتمرًا حول تربة الغابات يُركِّز على التضافر بين الزراعة والحيوانات والأشجار في بقعة مَحدودة بحيث يستطيع الفلاحون فقط الذين لهم قِطَع أراضٍ صغيرة تنمية مَواردهم إلى الحد الأقصى. قال الخبراء إنهم أرادوا تعليم مناهج أكثر ارتباطًا بالناس، وعلى الرغم من هذا تَمسَّك الخبراء بمنزلتهم المتراتبة هرمِيًّا عَبَّرت جراي عن إحباطها من هذا الاتجاه السائد:
الذي جعل الأمر يتفاقم أنه كان شيئًا عالميًّا ضخمًا، يقوم عليه الأكاديميون والمُخطِّطون وجماعات مَعونة التنمية. وعلى مثل هذا القدر من العجرفة. جانِب كبير من هذه الأغراض جاء من أهل البلدان، فكثير من تلك الثقافات المنتشرة عَبْر العالم تَمتلِكه فعلا، لكن لا شيء يتم الاعتراف بأنه هكذا. كان كل ما في الأمر، «إننا دَرسْنا هذا ونحن مُقبلون على أن نعطيكم تلك الأفكار». كان في المؤتمر الكثيرون من أهل الحقول ولم يَتحدَّثوا إطلاقًا، إنه فصل حقيقي بينهم وبين المُخطِّطين الأكاديميين الذين ألقوا كل الكلمات مُستخدِمين ألفاظًا ضخمة، عليك أن تترجمها في عقلك، ثم كان خارج هذا كل أهل الحقول الذين تَتَّسِخ أيديهم بالعمل الفعلي، ولم تُتَح لهم أي مُداخلة؛ لأنه لم يكن ثَمَّة مكان فعلي لهم في المؤتمر. إنه لَمدعاة للجنون، فالاتجاه العام هو «لقد اكتشفنا هذا النسق المتكامل فعلًا الذي يمكن أن يساعد العالَم الثالث».٥٤

وبدلًا من أن يحضر الخبراء المؤتمر كفرصة لكي يتعلم كل من الآخَر باحترام، ويعترفوا بأنهم يُصدِّقون على خبرة المزارعين، راح الخبراء يُقرِّرون معًا صلاحية المناهج القديمة بأن يُدثِّروها بالرَّطانة العلمية. وكانت نتيجة هذا بخس قيمة الحكمة المُجتناة من خِبرة القرون بواسطة مناهج «غير علمية» للمُلاحظة والتَّعلُّم عن طريق المحاولة والخطأ.

وإن المرء ليرى مُقارَبة تعاونية أكثر في عمل مؤسَّسة الإغوانة٥٥ الخضراء التي أنشأها البيولوجي دامار فيجنر D. Vegner لتستكشف جدوى تربية الإغوانة في غابات كوستا ريكا. لقد تناقصت كثافة انتشار هذه الزواحف في أمريكا الوسطى بسبب إزالة الأحراش والإفراط في الصيد (ويُعتبر لحم الإغوانة وجْبة شَهِية). وبسبب نجاح المَزرعة الاختبارية التي أقامتها المؤسَّسة، يَجِد المزارعون المَحلِّيون الآن أن تربية حيوانات الإغوانة مربحًا أكثر من إزالة الغابات لتربية الماشية. يمكن أن يُنتِج الفدان من لحم الإغوانة أكثر مما يُنتجه من لحم البقر، ما دامت هذه الزواحف ترعى في مَوطن بيئي ثلاثي الأبعاد؛ أي غابة. وبينا تَبدو هذه المُقارَبة مُستغِلة للحياة البرية المحلية، تستطيع مَزارع الإغوانة الصغيرة أن تُباعد في الحفاظ على بقاء كل من أنواع الحياة المحلية والغابات الاستوائية. وربما كان الطريق الوحيد للحفاظ عليها هو دمجها في الاقتصاد ما دامت الثقافة تَبخس قيمة الكيانات البرية فيها، وتبخس الكيانات البرية ذاتها.

وكما رأينا، «الحقيقة» لها وجوه عديدة، تعتمد على المنظور الاستشرافي للملاحِظ. وكل حقيقة جديدة، حتى في العلم، جُزئية وغير مكتملة مثلما هي مَحدودة بحدود الثقافة. وفي مُقابل المُقارَبة الذُّكورِيَّة الخَطِّية المباشرة، تتطلع عملية التطواف الأُنْثَوية إلى المشكلة من كافَّة جوانبها ومن مستويات عديدة، تدور حولها وترى كل علاقاتها. وإذ تمنحنا الأُنْثَوية تقديرًا للتعقيد حتى في أصغر ذرة فإنها بذلك تَستبدل بغطرسة العلم مَغزًى للخشوع والتواضع.

وإذ ترى الأُنْثَوية عمليات هذا العالَم دائرية ومتفاعلة، بدلًا من أن تراها خطية بسيطة ومتراتبة هرميًّا، فإنها تُشجِّعنا على تطوير نَسق قيمي مختلف، تُشجِّعنا على تقدير قيمة المسار بدلًا من البحث عن النتيجة النهائية فقط. وبهذا المَغزى، فإن كيفية ممارَسة العلم لها الأهمية نفسها لِما أنجزه العلم. تسهم قيم الحب، والاهتمام، والعناية في كفاءة العملية، وتُؤثِّر بدورها في المُنتج الحاصل. والآن دعونا نستكشف كيف يمكن أن تُسهِم الرعاية في العلم.

١  J. I. Rodale, ed., The Synonym Finder (Emmaus, Penn.: Rodale Press, 1978) p. 506.
٢  Deborah Tannen, You Just Don’t Understand: Women and Men in Conversation (New York: William Morrow, 1990).
٣  تعليق ذكَره طالب دراسات عليا في عِلم الأحراج والغابات، إبَّان ملتقى جماعة قراءات وحوارات حول المرأة والعلم والتكنولوجيا بجامعة واشنطن في سياتل، وذلك في خريف العام١٩٩٠م.
٤  Hilary Roberts, “A Qualified Failure,” New Scientist 9 (June 1983), p. 722.
٥  البلزارات pulsars (جمع pulsar) هي مصادر إشعاع مُتغيِّرة قصيرة العمر. (المترجمة)
٦  انظر القصة الكاملة لهذا في:
Broad, Betrayers of the Truth, pp. 143–149.
٧  Traweek, Beamtimes and Lifetimes, p. 91.
٨  أليس هذا قمة ما نسميه بديكتاتورية الحكم وطغيانه.
٩  Ibid., p. 90.
١٠  Ibid., p. 88.
١١  Ibid., pp. 25, 27-28.
١٢  Keller, Reflection on Gender and Science, p. 132.
١٣  الدُّوجما dogma كما ذَكرْنا قبلًا هي العقيدة اليقينية القاطعة المُتصلِّبة.
١٤  من المعروف طبعا أن الدنا DNA هو الحامض النووي الديوكسي ريبوزي الموجود في كروموسومات كل خلية حية، أما الرنا RNA فهي الحامض النووي ريبونيوكلييك. (المترجمة)
١٥  أَجَل نشأ المَنْطِق الغائم وتطوَّر في أمريكا، ولكن على يد عالم إيراني مُسلم يعمل هنالك هو لطفي زاده. (المترجمة)
١٦  J. T. Johnson, “Fuzzy Logic,” Popular Science (July 1990), pp. 87–89. Lotfi A. في جامعة كاليفورنيا بباركلي، قام لطفي زاده بتطوير نظرية المَنْطِق الغائم متوقِّعًا أنها سوف تُطبَّق في الأنظمة التي تفتقر إلى تقنيات التكميم، يلعب فيها حُكْم الإنسان وعواطفه دورًا كبيرًا.
١٧  C. G. Jung, On the Nature of the Psyche, from vol. 8 in The Collected Works of C. G. Jung, translated by R. F. C. Hull (Princeton: Princeton University Press, 1971), pp. 142, 440.
١٨  ستيفن هوكنج (١٩٤٢–…) أعظم علماء الفيزياء النظرية الآن يَترأَّس الجمعية المَلكية للعلوم. وقد أُصِيب منذ عامه العشرين بمرض العصبة الحركية الخطير، أدَّى به إلى ضُمور العضلات، وألزَمه الكرسي المُتحرِّك قبل أن يبلغ عامه الثلاثين. ثم أُصيب بشلَل رباعي وفَقد القُدرة على الحركة، وفي عام ١٩٨٥م أُجْرِيَت له عملية شَق الحنجرة وفَقَد أيضًا القُدرَة على الكلام، أصبح يَتَّصِل بالآخَرِين ويُلقِي محاضراته عن طريق كمبيوتر شَخصي أُعِّد خِصِّيصَى من أجله. ومع هذا خرج هوكنج بفرض عميق عن كتلة الثُّقوب السوداء، يربط فيه بين ميكانيكا الكوانتم، ونظرية النِّسبية، والديناميكا الحرارية. يَنبَهر الوسَط العلمي بفرض هوكنج وصياغاته الرياضية، لكنه لم يَنَل جائزة نوبل؛ لأنها تَشترط إثباتات تَجريبِيَّة للفَرض النظري، وليس يسهل الوصول إلى اختبارات تجريبية بشأن الثقوب السوداء. ويظل فَرْض هوكنج من أعمق إنجازات الفيزياء النظرية في العقدَين الأخِيرَين وأكثرها عبقرية. وعلاوة على هذا، يَسطَع اسمه في ميدان الثقافة العلمية حتى إن كتابه «تاريخ موجَز للزمان» ١٩٨٨م يَعرِض فيه تطوُّر النظريات الكبرى للكون ونشأته، صدرت منه عشرات الطبعات وملايين النُّسخ واحتلَّ قِمَّة مبيعات الثقافة العلمية في القرن العشرين، وتُرجِم إلى أكثر من عشرين لغة، منها العربية. (المترجمة)
١٩  Stephen Hawking, “Is the End in Sight for Theoretical Physics?” in the appendix to Stephen Hawking’s Universe: An Introduction to the Most Remarkable Scientist of Our Time by John Boslough (New York: Avon Books, 1985).
٢٠  Richard Wolkomir, “Quark City,” Omni 6, no. 5 (February 1984), p. 41.
٢١  العتبة الحرجة critical threshold تعبير يُرادُ به نقطة التحوَّل، أو نقطة البداية المُطلَقة لتغيير أو تبديل؛ أي النقطة التي يَعنِي اجتيازُها الدخولَ في نظام جديد أو مختلِف. (المترجمة)
٢٢  Gregoire Nicolis and Ilya Prigogine, Exploring Complexty: An Introduction (New York: W. H. Freeman, 1989), p. 13. حصل بريجوجين على جائزة نوبل في الكيمياء العام ١٩٧٧م، وذلك إسهامه في لاتوازن الديناميكا الحرارية، وخصوصًا نظرية البِنْيَات المُتبدِّدة.
٢٣  From the 1990 workshop, “Artificial Life II,” that took place in Santa Fe, New Mexico, described in “Spontaneous Order, Evolution and Life,” Science 247 (30 Mrach 1990), pp. 1543-1544.
٢٤  فرض جايا Gaia Hypothesis يشير إلى أنظمة شبه مُستقرَّة تعمل دائمًا في نِطاق مجال الأرض بأَسْره لتحفظ درجة مُدهشة من التوازن في الظروف الضرورية للحياة على الرغم من كل التقلبات وعلى مدى مئات الملايين من السنين، فتحفظ مثلًا نسبة الأكسجين في الغلاف الجوي، أو متوسط الضغط الجوي، أو ملوحة ماء البحر. بعض هذه الأنظمة غير معروفة أو مفهومة الآن، لكنها جميعًا عاملة وفاعلة. يعني هذا الفَرْض أن الأرض لا هي كائن عضوي كما تَصوَّر الأقدمون ولا هي آلة ميكانيكية كما تَصوَّر المُحدَثون، إنها نظام مُختلِف عن هذا وذاك. (المترجمة)
٢٥  «كلاهما» هنا ليست مضافًا إليه عاديًّا لكي نَجرَّه بالياء؛ فقد أَردْنَاها بَمثابة اسم عَلم مبني، هكذا ينتقل المعنى الذي أرادته المؤلِّفة. (المترجمة)
٢٦  Carl Jung, in the foreword to Erich Neumann’s Origins and History of Consciousness (Princeton: Princeton University Press, 1954), p. xiv.
٢٧  مُقابَلة شخصية مع سيلفيا بولاك، في ١١ نوفمبر ١٩٨٩م.
٢٨  Traweek, Beamtimes and Lifetimes, pp. 76-77.
٢٩  lbid., pp. 91-92.
٣٠  Marion Namenwirth, “Science Seen Through a Feminist Prism,” in Bleier, Feminist Approaches to Science, p. 23.
٣١  Harry F. Harlow, Learning to Love (New York: Jason Aronson, 1974), pp. 159-160.
٣٢  Traweek, Beamtimes and Lifetimes, pp. 147-148.
٣٣  Julius A. Roth, “Hired Hand Reseach,” The American Sociologist (August 1966), pp. 190–196.
٣٤  Broad, Betrayers of the Truth, p. 150.
٣٥  C. G. Jung, Psychology and Alchemy, vol. 12 in The Collected Works of C. G. Jung, translated by R. F. C. Hull (Princeton: Princeton University Press, 1953), pp. 28, 34.
٣٦  أو كما نقول نحن العرب في قولنا المأثور، الجامع لِما تريده المُؤلِّفة: «تكليف لا تشريف». (المترجمة)
٣٧  Tannen, You Just Don’t Understand, pp. 153–159.
٣٨  From the program “A. Einstein: How I See the World,” a 1991 production from Videfilm Producers International, Ltd., and Lumen Productions in association with public television station WNET.
٣٩  مُقابَلة شخصية مع سيلفيا بولاك، في ١١ نوفمبر ١٩٨٩م.
٤٠  المصدر نفسه.
٤١  المصدر نفسه.
٤٢  مُقابَلة مع كريستينا كتزاروس في ٤ فبراير ١٩٩١م.
٤٣  Shiebinger, The Mind Has No Sex, pp. 30–32.
٤٤  Jane van Lawick Goodall, In the Shadow of Man, p. 6.
٤٥  David Ehrenfeld, “The Next Environmental Crisis,” Conservation Biology 3, no. 1 (March 1989), pp. 1–3.
٤٦  W. A. Cooper and E. N. Walker, Getting the Measure of the Stars (Philadelphia: Adam Hilger, 1989) .
٤٧  إرثواتش Earthwatch = مراقبة كوكب الأرض.
٤٨  Earthwatch. 680 Mt. Auburn street, P. O. Box 403, Watertown, MA 02272.
٤٩  وُرلد وَيْلِدلايف فند World Wildlife Fund = الصندوق النقدي للحياة البَرِّية عَبْر العالَم.
٥٠  World Wildlife Fund, 1250 Twenty-Fourth Street NW, P. O. Box 96220, Washington, DC 20037.
٥١  في عام ١٩٨٧م أعلن الرئيس الأمريكي جيمي كارتر أنهم اكتشفوا إلقاء عشرين ألف طن من المواد الكيماوية السامَّة في قناة لاف Love Canal القريبة من شلالات نياجرا. وترتَّب على هذا مردودات بيئية مُهمَّة حتى إن أكثر من مائة أسرة غادرت مساكنها؛ لأن البيئة لم تَعُد ملائمة للسُّكنى. (المترجمة)
٥٢  فيلق السلام Peace Corps بعثات تعود أصولها إلى العام ١٩٦٠م، حين دعا جون كينيدي طُلَّاب جامعة ميتشجان إلى خِدمة بلادهم وأمنها عن طريق العمل والعطاء في البلدان المُتخلِّفة، مما أَلْهَم بإنشاء وكالة عن الحكومة الفيدرالية مُكرَّسة للسلام العالمي والصداقة. ومنذ ذلك الوقت، ذهب أكثر من ١٧٠٠٠٠ مُتطوِّع إلى العديد من الدول المتخلِّفة في أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية لتقديم خدمات في مجال التعليم، والمَيكَنة، والتكنولوجيا، ومشاريع الحفاظ على البيئة، وما إليه. أهداف فيالق السلام هي مُساعَدة البشر في تلك الأماكن على مواجهة احتياجاتهم، واكتساب المهارات اللازمة لذلك، وبالتالي تَترُك في الناس فكرة إيجابية عن الحضارة الأمريكية والإنسان الأمريكي، وأيضًا يَتفهَّم الأمريكي الحضارات والثقافات الأخرى. (المترجمة)
٥٣  من المناقَشات الأسبوعية لجماعة قراءات وحوارات حول المرأة والعلم والتكنولوجيا بجامعة واشنطن في سياتل، وذلك في خريف العام ١٩٩٠م.
٥٤  المصدر السابق نفسه، وكاتي جراي اسم مستعار.
Howard Youth, “Iguana Farms, Antelope Ranches,” World Watch 4, no. 1 (January/February 1991), pp. 37–39.
٥٥  الإغوانة iguana من آكِلات الأعشاب قي أمريكا الاستوائية. (المترجمة)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤