الفصل السابع

الرعاية مُقارَبة طويلة المَدى

كان المُختبَر الذي أمضيتُ فيه خمس سنوات من عمري إبَّان دراستي في الكلية واقعًا في مبنًى جديد للكيمياء الحيوية، كان بناءً أحاديًّا ضخمًا من آجر داكن اللون في حرم جامعة بنسلفانيا ستيت. وهذا البناء الذي شُيِّد وفقًا لأحدث المعايير المستوفية بالمراد، بدا لي كابيًا وباردًا لم يَتسامح المِلاط١ مَع زلَّات قدمي، على الرغم من أنني تَفهَّمتُ الفائدة العملية لأرضيات جَرداء من المِلاط لا يُغطِّيها إلا مانع للتَّسرُّب مَجلُوٌّ لِيَحُول دون التآكل بفعل المواد الكيميائية القوية. كان الزجاج الكاشف يأتينا بخفايا تجارِب المختبَرات في الطوابق التي تَعلونا. كنا نتأمَّل أنشطة زملائنا مثلمَا نتأمَّل اللون الأصفر الفاقع تحت الأنابيب، الذي يُلطِّخ سطوح المناضد في مختبَرنا. تَدلَّت من سقوف ملاط جرداء مصابيح الفلوريسنت، لتُلقِي بضوء شاحب على مناضد المُختبَر المعدنية الكابية المغطاة بأدوات الكيمياء من قوارير الكواشف، والكئوس، والدوارق، والقِنِّينات، وأنابيب الاختبار، وأجهزة مَعملية من الكروم والصُّلب. وكانت نافذة يَتيمة في ركن من أركان المختبَر تأتينا بِلمَحات عابرة عن العالَم الخارجي، ونحن نُباشر تجاربنا. أما مَكتَب المُشرِف عليَّ فكان باهِت الملامح لا يُعبِّر عن الشخصية. اصطفَّت كُتُب وأكوام من مَقالات الجرائد على قِمَطْره وعلى الأرفف. كانت حوائطه جرداء، لا تعكس شيئًا من ذائقته الفَرْدية أو حياته.

في هذه الأجواء المحيطة بي تَعلَّمت أن حياة المرء الشخصية لا مكان لها في العالَم الأصغر للعلم. وأحس خيالي بلافتة فوق باب المُختبَر تعلن «لا تُدخِل هنا إلا أشياء العلم» أفْصَحت قواعد غير منطوقة عن أن تعليق صور أو لوحات على كُتل الحوائط الرمادية مُنافٍ لقواعد المهنة:

بدَت هذه القواعد أكثر صراحة في خِبرة مرَّت بها إحدى صديقاتي. ففي يوم من أيام الربيع وضَعتْ وردة في أسطوانة مُدرَجة على منضدتها في المُختبَر. ولما رأى المشرِف هذا اعتبره إساءة بَالغة وقام بتعنيفها على ذلك الاستخدام غير الملائم للأواني الزُّجاجية. ببساطة لا ينبغي وضْع الزهور في الأسطوانات المُدرجة. فليس هذا هو الغرض من أواني المُختبَر الزجاجية. صُعِقتْ صديقتي بِرَد فِعْله. حين نَبَذ المُشرِف الوردة، وهي رَمْز كوني للجمال، والحب، والأنوثة الخالدة، كان ينبذ أيضًا الأُنْثَوية في العلم. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، عُنِيَت صديقتي بِفَصل أشياء العلم عن الأشياء الشخصية.

وفي اعتراضي الخاص على هذا، كَسوتُ الجدران المعدنية للمقصورة المحيطة بقِمَطْري بمطبوعات من فن سولاميت فولفينج S. Wülfing السماوي المُرهَف. وعلَّقتُ على لوحة النَّشرات الخاصة بي صورًا ورسومًا ساخرة من قَبيل الصورة التي رسَمها جاهان ويلسون G. Wilson لرَجُلين مُرتبِكَين يرتديان مِعطَف المختبَرات الأبيض ويفتحان باب وُلوج خاص في المُختبَر لِيجِدَا نفسيهما يقفان على حافة الكون، تحيط بهما النجوم والكواكب. يُعلِّق أحد الرَّجلين على هذا قائلًا للآخَر: «يبدو وكأن مشروع بودِكر Bodecker قد خرج تمامًا من أيدينا». بَدتْ لي هذه تذكرة حسنة. وفي الركن الركين من رفِّ الكُتب الخاص دسَستُ نبتة مُورِقة مُتسلِّقة تُدعَى عشبة ضارة٢Weed لأرعاها. وعلى مدار الأعوام التي قضيتُها في المختبَر، واصلَتِ العشبة تَسلُّقَها شيئًا فشيئًا حتى تجاوزَت حدود جِدار مقصورتي والتفَّتْ حول دارئات زجاجات الفوسفات. وجدتُ هذه البيئة المريحة المحيطة بي تجعلني رَخِيَّة البال، وكانت الفنون وصور الأصدقاء والطبيعة تَصل بيني وبين جوانب أخرى من الحياة لها أهميتها.

أتساءل الآن، وأنا واعية بالنفوذ الذُّكُوري على بيئة المختبَر، ما إذا كانت النساء الأخريات يُشاركنَنِي الحاجة لإضفاء الطابع الشخصي على الأجواء المحيطة، الحاجة إلى جلب الدفء والجمال إلى داخل المختبَر، إلى خَلق بيئة الرعاية. يعكس المُختبَر، بوصفه بيت العلم، عديدًا من قيم العلم؛ ولعل العلم، بدوره، يتأثر كذلك بتلك الأجواء المحيطة. وبهذا المغزى، يمكن أن ننظر للبنية الفيزيقية للمختبَر بوصفها عالَمًا مصغرًا لنضال الجانب النِّسْوي كي يتلاءم مع العلم، أو بوصفها، في أحيان أخرى، رَحابة العلم للاحتفاء بالأُنْثَوية. لماذا نثبط الأجواء المُحيطة الباعثة على الراحة التي تجعل الشَّخْص رَخِيَّ البال وبالتالي تقلل الإجهاد؟ تُبيِّن دراسات لا حصر لها أن الناس أكثر إنتاجية وإبداعية على مَدى فترات أطول من الزمن حين يكونون مُرتاحِي البال.

وعلى الرغم من أن «تزيين المُختبَر» قد يبدو مسألة تافهة؛ فإن بيئة المُختبَر التي هي من الناحية التقليدية بيئة لا شخصية إنما تعكس الانقسام الشديد في العلم ذاته، حيث المُختبَر على وجه الحصر مكان لجمْع المُعْطَيات العلمية. أي شيء آخر يُعدُّ غير ملائم يُشتِّت الانتباه وفي غير محله. لاحظَت الأنثروبولوجية شارون تراويك في دراستها للفيزيائيين المتخصصين في الطاقة العالية:

يُشِيح الفيزيائيون عن أي تَزْيين يحمل الطابع الشخصي أو إعادة ترتيب للأثاث قد تُضفي تغييرًا على فضاء عملهم. هذا التجانس الكبير فيما يُرَى، بِمَعِيَّة هيئة للمَبنَى وَظيفية من المعدن الرصاصي والزجاج، يَخلُق انطباعًا هائلًا بالإنكار الرواقي٣ للفَرْدَانية وانشغالًا مُسبقًا مَهيبًا بالمهمة العاجلة قيد التنفيذ.٤

أي شيء شَخصي يُعتبَر منافيًا لقواعد المهنة. يهتف الصوت الذُّكُوري في رأسي، «تعليق الأشياء على الحائط، عَبَث ومضيعة للوقت». ليس للفن أو الأسرة أو المجتمع أو الهوايات أو المسائل السياسية مكان في المُختبَر، إنها دخيلة على مسار العلم. «فالعلم مشاغل جادة». وكذلك نجد فَتْح الباب لما هو شخصي يجعلنا نشعر بأنَّنا عُرضة للطعن، ما دام التَّحكُّم في حياتنا العاطفية أصعب من التَّحكُّم في المُناقشة المنطقية للمُعْطَيات والنظريات. لقد دَبَّرتُ حيلة لكي أرى كيف شَيَّد الآخَرون بيئة عملهم، فقمتُ بزيارة عدد من العلماء في مختبَراتهم بجامعة واشنطن في سياتل.

ولأني وصلتُ إلى مبنى عِلم الحيوان مبكرًا، رحتُ أتجوَّل حول القاعات وأنا أنتظر مجيء الموعد المُحدَّد للقائي مع إيمي باكن، وهي مُتخصِّصة في بيولوجيا الخلية. تُشكِّل النساء قطاعًا من هيئة التدريس في هذا القسم، وحوالي خمسين في المائة من طلبة الدراسات العليا فيه من النساء، وقد لاحظتُ في قاعاته أن لوحات النشرات تعكس تكاملًا بين العِلم والمجتمَع: في غمرة إشعارات عن حلقات دراسية، كان ثَمَّة بيان عن فريق خَلاص لمساعَدة المُشرَّدين مُجنَّد لتبني أُسرة، والتماسات لمبادَرات من أَجْل الاختيار المُسبق، وإقامة مراسم الموت الكريمة، وبيان تَطوُّعي عن برنامج لنصح وإرشاد طالب دراسات عليا.

دخلَت باكن إلى القاعة لتُرحِّب بي، وهي تعرض علي الاختيار بين احتساء شاي يتم إعداده في غلَّاية من الخزف أو قهوة مُعدَّة من بُن طازج. وإذ هي تَلتقط قدحًا لي، اختلستُ نظرة في أرجاء مكتبها. كل شيء حولي كان يُومض بمعالِم من حياة باكن الزَّاخرة الثَّرية: صورة لابنتها، وبطاقات مُعايدة من الأصدقاء، وبيان بموعد مَحدَّد لحفلة موسيقية يتلو بيانًا بموعد محدَّد لمُلتقًى حول بيولوجيا الخلية. وفي خِضَم الكُتب المتخصصة والمجلات ودفاتر المُعْطَيات كان ثَمَّة أشياء تُذكِّر بجمال الطبيعة؛ قواقع بحرية، ودولارات رملية٥ وأوراق لنباتات خريفية. ساعة على هيئة ضفدع عكَستْ بشكل ظريف عَمَل باكن في بيض الضفادع. أما خزانة الملفات الخاصة بها فكان جانِبُها يؤطر مُلصقًا يحمل اقتباسًا عن أَينشتَيِن الشاب وهو قولته: «الخيال أهم من المَعارف.»

تبادَلْنا حديثًا حول عملها، تناثَرت في ثناياه تأمُّلات في ارتقائها السيكولوجي الشخصي، وكيف نَمَّى علاقاتها وعلمها، وبعد هذا أخذتَني باكن إلى داخل مختبَرها. وعلى الفور لاحظتُ أن هذا المُختبَر قد رُتِّب وفقًا للوظيفة الخاصة بطائفتها، أماكن لوضع المَجاهر، والرحلان الكهربائي، والنظائر المرقومة، وما إليه. شعرتُ بأن المُختبَر مُتَّقِد بالحياة ومُنتِج. كانت الحوائط بين رُفوف الكُتب والمَراجع مُرقَّطة بمُلصقات، وبطاقات تُصوِّر الحياة في البَراري. وعنكبوت أرجواني من البلاستيك يلتصق متلاعبًا على وصفة صُندوق لمُفاعلات الكشف بواسطة جهاز قياس الرقم الهيدروجيني. تَداخلَت النباتات على أعتاب النوافذ مع أشجار الطُّرقات خارج المُختبَر.

إن مُختبَرًا على شاكلة مُختبَر باكن يُهيِّئ المجال لنمط مختلف من التفاعلات بين البشر، مثلما يعكس هذا النمط عَملتْ باكن على تنمية علاقات شخصية مع الناس الذين يعملون في مُختبَرها، علاقات تحتوي الشخص ككل، وليس فقط المخ واليدين اللتين تباشران التجارب. وبصوتها ذي النبرة الناعمة لاحظت:

أبدو وكأنني أجتذبُ الناس الذين يحبون طهي الطعام، ونُقيم حفلات عشاء تقريبًا مرة كل شهر، ونطهو أطعمة من مُختلف البلدان، سيكون لدينا عشاء إيطالي، أو عشاء يوناني، أو عشاء ياباني، وبهذا يُوجد نمط أُسَري المَنزع من أجواء الحنو، تسود الناس في المُختبَر. ويقيني أني أُقْدم على هذا الإيقاع؛ لأنني أستمتع به، ولكن أبدو أيضًا وكأنني أجتذب الناس الذين يُحبون المُشارَكة في هذه النوعية من الأشياء. الناس الذين كانوا يعملون في مُختبَري بَقوا على اتِّصال سنواتٍ وسنوات بعد أن تَركوا المُختبَر.٦
يبدو أن العِلم يَبخَس قيمة الأشياء التي تجعل رحلتنا في الحياة أمتع؛ البيئة المحيطة الباعثة على الراحة، الدردشة التي يستريح لها المرء، مُساعَدة زميل، إذا كانت سَتنتزِعنا من العمل. يرفع العلم الحديث من قيمة الكفاءة والتَّنامي السريع في المُعْطَيات، والأسبقية، والمراجَعة النَّقدية للأفكار والنَّظرِيَّات والنتائج السريعة … والتقدُّم فماذا يمكن أن تكون علاقة الرعاية nurturing بالعلم؟ قد تبدو للوهلة الأولى غير ملائمة، في عالَم آخر منفصل عن العلم. وذلك هو موضوعي على وجه التحديد.

يستطيع موقف الرعاية أن يوازن من جَهامة التركيز على الفاعلية التي تُجرِّد الحياة من عُذوبَتها. هذا العالَم اللاهث الذي نَحيا فيه جَعل الصدارة للفاعلية حتى باتَت بعض المُختبَرات مَصانع للبيانات، كما أن الضغوط من أَجْل الإنتاج دفَعت بعض الناس إلى طريق الخِداع. وفضلًا عن حالات قليلة من الغش لدينا الوثائق عليها، تَكاثرَت الخدع الماكرة كشكل من أشكال المقاوَمة السلبية. في واحد من المُختبَرات، على سبيل المثال، كان الكثيرون يَصِلون في الصباح بشكل روتيني، ويقومون بتشغيل جهاز الفرز بالطرد المركزي وهو خالٍ (لكي يوهموا المُشرفِين عليهم بأنهم كانوا يعملون)، ثم يَذهبون لاحتساء القهوة.

لسوء الحظ، نادرًا ما جرى اعتبار الدَّوْر المعاوِن الذي تلعبه الرعاية في الحياة من الأهمية بمكان بحيث يَكتُب عنه المُؤرِّخون أو يدرسه العلماء. لقد بَخس المجتمع من قيمة الرعاية، وبالمثل تمامًا انصرف عنها العلم — حتى على مستوى الخلايا — بوصْفِها غير ذات أهمية. مثلًا، أهملت إلى حد كبير وظيفة الخلايا الدبقية glial cells، إذ ساد الاعتقاد بأن هذه الخلايا «المساعِدة» من أَجْل تغذية خلايا العَصَب وتنظيفها فيما بعد، أنه «الدور التَّافِه للسيدة» كما تُسميه عالِمة العقاقير والدوائيات النفسية كانديس بيرت.٧ وعلى الرغم من أن عدد الخلايا الدبقية عَشرة أضعاف عدد العصبونات (خلايا العصب) في المخ، فقد جرَى تجاهُلها من أَجْل دراسة خلايا العَصب الأكثر فاعلية وإثارة.
إن استخفاف علماء الجهاز العصبي بدراسة الخلايا التي تَلعب دور الرعاية فحسب قد حال دون اكتشافات مفادها أن الخلايا الدبقية تُسهِم في الاتصال بين المُخ وبين بقية الجسم. تتحرك الخلايا الدبقية جِيئة وذهابًا بين المخ والجسم (حيث تغدو بَالِعات كبيرة macrophage وَحيدة الخلية، نوع من خلايا الدم البيضاء في جهاز المناعة)، وبهذا تُقوِّض الخلايا الدبقية أسطورة تخوم الدم — المخ — وهذه الأسطورة انعكاس فسيولوجي للاعتقاد الغربي في انفصال العقل والجسم. ومن الشائق حقًّا، أن عدد الخلايا الدبقية لكل عصبون يتزايد كلما ارتقت الثدييات في سُلَّم تَطوُّر الأنواع بدءًا من الفئران ووصولًا إلى الإنسان.٨ ربما أَنعشتْ دراسة آسرة لمخ أَينشتَيِن الاهتمام بالخلايا الدبقية. قامت ماريان ديموند M. Diamond، وهي عالِمة في تشريح الأعصاب بجامعة كاليفورنيا في بركلي، بفحص مخ أينشتين، الذي كان قد حُفِظ من أَجْل الدراسة. وبالمُقارَنة بينه وبين أحد عشر مُخًّا لذكور من عامَّة البشر، وَجدَت أن مخ أَينشتَيِن به أكبر عدد من الخلايا الدبقية لكل عصبون. وكان الاختلاف لافتًا بوجه خاصٍّ في المناطق المرتبطة بالقوى الإدراكية للتصور والتفكير المُعقَّد.٩

كثيرًا ما جرى إهمال عملية الرعاية؛ لأنها ليستْ درامية. ومع هذا، فهي ليست سلبية. إنها إيجابية بصورة بالِغة، بيد أنها ذات إيقاع مختلف، إيقاع دائري ورَتيب، تُواظِب على مُهمَّتها ساعةً بعد ساعة، ويومًا بعد يوم، وعامًا إثْر عام. وفي تواصلها غالبًا ما تغدو غير مرئية. لا تخلق الرعاية مردودًا فوريًّا؛ إنها عملية لا تنتهي أبدًا. تتطلب الصبر والعمل الحاني، الارتباط بموضوع الحُنُو، الانشغال الحميم بعملية التعلُّم، الإرشاد الدمث، التغذية والحماية. وتقليديًّا تضطلع النساء في حضارتنا بوظيفة الرعاية؛ حيث يَعتبِرنَها في المقام الأول مسئولية العناية بالأطفال وتعليمهم، وتمريض المرضى. بيد أنها وظيفة يمارسها الرجال أيضًا حين يقومون بمهمة نصح وإرشاد الطلاب.

رعاية الطلاب

إن عملية تغذية عقول ونفوس الطلاب جانِب آخَر حيوي من جوانب الرعاية في العلم. والمُعلِّمون، مِن حيث هم رعاة، مُرشِدون كأحرى من أن يكونوا مراكز سُلطة. إنهم يُوفِّرون فضاء آمنًا من أَجْل ارتقاء وتَميُّز الفرد الفريد المعهود به إليهم. يَمنحون الطالب الأدوات الضرورية للإسهام في المجتمَع العلمي. قامَت عالِمة الحيوان إنجريث ديرب-أولسن بتدريب الطلاب في قاعة الدرس وفي المختبَر لما يَنُوف على أربعين عامًا، وهي تُعْنى عناية بَالِغة بدرسها:

أشعر أن الحديث مع الطلاب جدير تمامًا بأن أُنفِق عليه وقتي! تَميل العالِمات اللائي أعرفهن إلى المزيد من الانفتاح والوُد القلبي تجاه الطلاب، إلى المزيد من الالتزام بالجيل الصاعد. نَشعر أحيانًا أن الالتزام بالطلاب أهم من الالتزام بالأبحاث الخاصة بنا. إن الوارد على الحد الفاصل للعلم في المستقبل، كما يتجسد في هؤلاء العلماء الشُّبَّان، له الأهمية نفسها لما نَفعله نحن على الحد الفاصل للعلم في يومنا هذا. وليس ذلك نوعًا من الكَرم والأريحية من جانِبِي. إني أراه التزامًا طويلَ الأمد تقصر حياتي عن أن تكون أحد عناصره مُقارَنة بمستقبَل العلم. ولكني أعلم جيدًا أن عددًا من زملائي لا يشعرون بهذا الأسلوب.١٠

يلتحم طلبة الكلية بالجانب البارد من العلم حين تواجههم عقلية «أن تنجز — أو — أن تفنى» التي تسيطر على العديد من مقرَّرات العلم الدراسية. وغالبًا ما يتم تصميم المقرَّرات التمهيدية في العلوم بوصفها طقوسًا افتتاحية لاستبعاد غير الجديرين. وكما يحدث في الجيش، الموضوع هو فَصْل الرجال عن الصِّبْية. ويُعد الاستمرار في المُقرَّر الدراسي إنجازًا بُطولِيًّا. وبدلًا من تشجيع الطلاب عن طريق جعل العلم مثيرًا وجذَّابًا، يُعلن أساتذة العلم للطلبة المُستجدين، «أتيتم إلى هنا لكي نُغَربِلكم.»

وقد التحمتُ ببيئة مُماثلة لهذا الأسلوب، أسلوب إن لم تَسبح ستَغرق، وذلك حين كنتُ أُعد بحثي للتَّخرُّج. نادرًا ما استلَّ المُشرِف عليَّ وقتًا من كتابة تقرير المِنحة الدراسية لكي يُعلِّمَني الأساليب الفَنِّية للمُختبَر، ولعله لم يفعل هذا أبدًا. انتظَر مني أن أتعلمها بمجرد قراءة الإجراءات في مَقال منشور بمجلة علمية. وليس هذا أمرًا يسيرًا بالنسبة لطالبة مُستَجدة في الميدان، ما دام المؤلِّفون عادة ما يُضمِرون بضعة افتراضات، ويستخدمون رطانة لا يعرفها المبتدئ، ويَتركون التفاصيل الدقيقة للأساليب الفَنِّية من دون شرح. إن هذا يُماثِل تَرْك شخص مُبلبلًا في المطبخ ومعه كِتاب طهي أعَدَّه خَبير في صنوف الأطعمة، ولكن بغير أن يكون لدى هذا الشخص أدنى فكرة عن كيفية إعداد البيض في المقلاة بقليل من الدهون، أو طَيِّه، أو فَصْل صفار البيض عن بياضه.

من الناحية الأخرى، تأتي الرعاية من موضع الحب. وفي الأعم الأغلب نُفكِّر فيها في حدود العناية بالصِّغار وبالمَرضى. ليست الرعاية مسألة بطولية أو درامية أو مثيرة، بل هي عملية وَديعة متنامية، مثلما تَنْحتُ الريح صخرة، تنبني الرعاية، من حيث هي علاقة ثقة وارتباط، بواسطة الآمال والتوقعات. إنها جانِب حميم من الحياة يَتألَّف من أفعال صغيرة لتركيز الانتباه. الرعاية تَتطلَّب التلقِّي. وكما يعتمد الشكل النهائي لصخرة نَحتَتْها ريح على طبيعة الصخرة، بالمثل تمامًا تعتمد شاكِلة العالَم على الطبيعة الفَريدة للفَرْد. إن الرعاية تُنمِّي وتكشف الإمكانية المتلألئة الكامنة في لُب كيان الطالب، تجلو هذه الإمكانية حتى تَسطعَ ببريق خاص بها.

يُقدِّم مُقرَّر علم الحيوان الذي تدرس إيمي باكن نموذجًا لرعاية الطلاب يَستثير عقولهم بينما يُنتَظر منهم أداء عالي المستوى. إن مُقرَّرها يتحدَّى طلابها، وفي الوقت نفسه تَشُد أَزْرهم من خلاله. ويأتي مردود جهودها حين يخبرها طلابها، «هذا أصعب مُقرَّر درستُه طُرًّا، ولكني تَعلَّمتُ منه الكثير. شكرًا لك.»

وأيضًا تَكد باكن من أَجْل توفير مناخ الرعاية في مُختبَرها. يقول طلابها من باحثي ما بعد الدكتوراه إنها تفعل هذا بطريقة تمنحهم الفرصة لكي يَتطوَّروا ويعملوا من أَجْل أنفسهم، ولكي يَستقِلُّوا. تعتقد باكن أن الشخص إذا أحب ما يفعله، فسوف يمتلك الدافع الذاتي. إنها لا تعمل على دَفعِهم بأن تَقف أعلاهم لتُفَرقِع بالسَّوط في الهواء وتنظر في الساعة، ولكن بدلًا من هذا تُبدي اهتمامًا بمشاريع طلَّابها، وتُقدِّم الإرشاد الدَّمِث. وإني لأغبط الاهتمام الذي تمنحه باكن لطلابها فردًا فردًا تقول:

حين يلتحق بالمُختبَر طَلبة جُدد، أطلب منهم أن يَجلسوا جانبًا وقتًا مُحددًا كل أسبوع لأنِّي أريد أن أعرض عليهم بنفسي كيف يقومون بالعمل ويُعالجون الأشياء. أريد أن أكون هناك لكي أُجيب بنفسي على الأسئلة حين يَبدءون العمل، وعندما يتملكون ناصية هذه الأمور يستطيعون حينئذٍ أن يَدخلوا المُختبَر وقتما يشاءون. أقول لهم إنهم يستطيعون طَلب المعونة من آخَرِين في المُختبَر، ولكني أجعلهم يُدركون بمنتهى الوضوح أني أريد أن أُعلِّمهم أنَا كيف يقومون بالعمل ويُعالجون الأشياء.١١

وعندما تُبيِّن باكن لطالبها الأسلوب الفني المَعملي، تُوضِّح أن ثَمَّة عدة أساليب مختلفة لمعالَجة الأشياء، وأن الناس المختلفِين في مُختبَرها قد يَعرضون عليه أسلوبًا يختلف بعض الشيء لأداء هذا العمل. وهي تُخبر طالِبَها بالأسباب التي تَجعلها تُعالج الشيء بأساليب معيَّنة وتسألهم أن يَتعلَّموا هذه الأساليب قبل أن يتلاعبوا بالأساليب الفنية المعملية. وقد لاحظَتْ:

إنهم يَتلقَّون اهتمامًا شخصيًّا، وأحسب أن هذه واقعة مُحبَّبة لديهم. إذ قاموا بترتيب تجربة، يأتون ويَتحدَّثون معي بشأنها. وحينما نَخوض غمار التجربة، يعرفون أنَّنِي أحاول أن أساعدهم لتعيين الشيء المغلوط. وحين نَكتشِف ما هو، وعادة ما يكون خطأً بشريًّا، أحكي لهم حكاية عَنِّي حين ارتكبتُ هذا الخطأ عينه، وبالتالي يخرجون بفكرة مفادها أن كل شخص يمكن أن يرتكب أخطاء وهو يُباشر عمله.١٢

بهذه الطريقة تُشجِّع باكن طلابها بدلًا من أن تكسر شوكتهم؛ لأنهم ارتكبوا خطأ غبيًّا. لقد عانت، في مرحلة مبكِّرة من حياتها، من جرَّاء نقد انطوى على أنها كانت غبِيَّة؛ لأنها فعلتْ شيئًا غبيًّا. تستبقي خِبرَتها في ذهنها وهي تُدرِّب الآخَرين، وتَعتني بكيفية ما يشعرون به. إنها تُجاهد لانتزاع سُمِّ العقرب من النَّقد، وتُعيِّن الأخطاء من دون هجوم شخصي على الطالب. وتعلم أنها تُزيح كثيرًا من التَّوتر النفسي حين تقول: «آه، لقد أصبح العامود يدور وهو جافٌّ» بدلًا من أن تقول: «لقد تركتَ العامود يدور وهو جافٌّ».

إن الحلقات الدراسية في الإدارة تأخذ بأسباب هذه الأساليب الفنية لإعمال التغذية الاسترجاعية في الناس (نقد المَسلك وليس نقد الشَّخص)، وعلى الرغم من هذا، قِلَّة من العلماء هم الذين يَتلقَّون تدريبًا في الإدارة، أو ينشغلون كثيرًا بسيكولوجية العلاقات. ويبدو أن النَّقد الصارم هو القاعدة. ثَمَّة فَنِّي مَعمَل مُستجد في مُختبَر باكن ارتكب بضعة زَلَّات خطيرة ولا يَزال يُساوِره الشك حول كيفية رَد الفعل إزاء أسلوبها. وحين سألتْ عمَّا إذا كان قد تَقدَّم في عمله، بدا للوهلة الأولى مرعوبًا، يتوقع أن تُطبِق على عنقه. ولم تفعل ذلك، حينئذٍ لم يَدرِ تمامًا ماذا يفعل حيال هذا الموقف. أَجَل كانت باكن على وَعْي بأخطائه، إلا أنها كانت أيضًا ترقب إلى أي حد يتعلَّم.

وهاك طالبة دراسات عليا، يتعاقَب تَردُّدها على مُختبَر باكن وتَستدعِي التقابُل بين مُختبَرين عملت فيهما، أحدهما تَسوده الرعاية والآخَر ليس هكذا:

في أحد هذين المُختبَرين كانت رئيستي في العمل على وعي بكل ما كنتُ أقوم به، وكيف ينتقل من خطوة إلى ما يليها. كان شيئًا عظيمًا، حين تَهلَّل وجهي، وعرفتُ على الفور ما قد اكتشفته؛ لأنها كانت على وعي بما كنتُ أقوم به. كان موقفها هو موقِف الدَّعم والتشجيع إلى أبعد حَدٍّ. لقد تعلَّمتُ قدرًا هائلًا من المادة العلمية بوجودي في مُختبَرها.

كان الأستاذ في المعمل الآخَر مُثقلًا بالعديد من المسئوليات الإدارية والتعليمية، وبالتالي لم يكن يهتم كثيرًا بما كنت أقوم به. لم تكن هذه خِبرة تعليمية كبيرة. لم أعرف ما إذا كنتُ أتعلَّم. قرأتُ أبحاثًا، ونظرتُ إلى الخلايا، ورأيتُ أشياء مختلفة، ولكن لا أزال حتى يومنا هذا لا أعرف أبدًا هل ما كنتُ أرصده باهتمام بالِغ هو بالفعل شيء يَستحق أن تلتفت إليه. إن المبتدئ في العلم سوف يراقبُ شيئًا ما يستطيع الشخص الذي راقبه لفترة طويلة أن يقول لك «عنه لقد راقبتُه من قَبل، وهذا في واقع الأمر لا يهم كثيرًا، إنه غير ذي دلالة كبيرة» لم أكتسب ذلك النوع من التغذية الاسترجاعية، ما دامَت الأشياء التي كنتُ أنفق عليها وقتي وجهدي قد تكون وقد لا تكون حقيقية.

وأيضًا نجد باكن واعية بطلَّابها وزملائها من حيث هم بَشر بالمعنى المتكامل، وليس بوصفهم علماء فحسب. تَتضافر في حواراتها المجالات الشخصية والمجالات العلمية. إنها تعمل على انسجام أمزجة طُلابها. وإذا لاحظَت واحدًا منهم يتثاقل أو يَتغيَّب عن المُختبَر، تسأل، «لا أراك كثيرًا في المُختبَر، فهل أنتَ عاجز حقًّا عن مواصَلة مَسار العمل، وإلا فماذا يحدث؟ هل يَنتابك الإجهاد؟ هل تشعر بزيادة كَمِّ العمل الإضافي؟» وغالبًا ما تُمهِّد لسؤالها بالآتي، «خذ بالَك، أنا لا أحاول اقتحام حياتك الشخصية، ولكن التجارب لا تَسير جيِّدًا، وأنا أريد أن أعرف ما إذا كان هذا بسبب خطأ ما فيما يتعلق بالمنهج، أم أنك لا تملك وقتًا لمتابعتها الآن، أو ما إذا كنتُ أستطيع أن أساعدك بطريقة ما؟» وقد وجدَت أن الطلاب يُقدِّرون انشغالها بهم وينفتحون عليها ويخبرونها بما يحدث في حياتهم.

وخلال العشرين عامًا التي قَضيتُها في رحاب العلم لم أشعر أبدًا بارتياح في تبادُل الحديث مع أساتذتي ورؤسائي حول مشاكلي الشخصية، كنتُ أشير إليها باقتضاب في الحدود المتاحة لامرأة. كان هذا يُعتبَر منافيًا لقواعد المهنة. لا أحد يريد أن يسمع أعذارًا، لا يهم ما كان يحدث في حياتي، بدءًا من ضغوط الامتحانات ووصولًا إلى فُقدان أو مَوت أحد أفراد أُسرَتي. ينبغي ألَّا يتدخل شيء في مسار العمل. ببساطة يجب إهمال أو تَجاوُز المشاكل الشخصية. لا يهم إلا النتائج. ولكن ما يحدث على الإجمال هو أن العلم يتباطأ في مَساره حتى يتم الاهتمام بالبُعد الشخصي وحل المشاكل.

ولأنه يمكن التواصل مع باكن من حيث هي كائن إنساني، نجد الطلاب في فصولها الدراسية تدفعهم غريزتهم إلى البحث عنها حين يقعون في مَتاعب. وتتذكر باكن:

خرجتُ من مُختبَري ذات يوم لأجد طالبة تَحوم حول بابي. إنها مُلتحِقة بأحد فصولي الدراسية، ولم أكن قد رأيتُها منذ بضعة أشهر، بدَا أنها تتألَّم بشكل ما، فسألتُ، «هل تبحثين عَنِّي، يا كاتي؟» قالت، «حسنًا، أنا لا أعرف. فقط كنتُ أتجوَّل حول المكان ووجدتُ نفسي ها هنا». ومن ثم دعوتُها إلى مكتبي لتبادُل الحديث. وسألَتْ عمَّا إذا كنتُ أعرف أي شيء عن الورم القتاميني.١٣ قلتُ: «أَجَل، أعرف بالتأكيد. فأنا أُصِبتُ به»، ثم راحت تَحكي لي كيف أنها خضعَتْ توًّا لتشخيص يفيد بأنها مُصابة بالورم القتاميني وأنها تَهاب المصيبة. تَحدَّثْنا كثيرًا لنَستكشِف ما قاله طبيبها، وما الذي يَعوزها أن تفعله لتحصل على رأي ثانٍ. هذا النوع من الأشياء يحدث لي كثيرًا.١٤

الخوف من الورم القتاميني أَعجَز كاتي. وقف خوفُها عائقًا في سبيل أي عمل مُنتِج، حتى كان حوارها مع باكن. لقد عُنِيَت باكن بمشاعر كاتي وشاركتها خبرتها، وبهذه الطريقة ساعدَتْها على تَدجين مخاوفها، حتى استطاعَت كاتي أن تواصل طريقها في الحياة.

مثل هذا الانشغال بالحياة الشخصية للطلاب والزملاء غير شائع في العلم، إلا أن النُّصح والإرشاد يحدث أيضًا عن طريق التقديم إلى شبكة عَمل خِرِّيجي المدارس الثانوية، والتوصيات بمراجَعة الأبحاث، والإحالة إلى مُختبَرات أخرى، ولكن هذا يتطلب في بعض الأحيان أن «يؤمن» شخص ما بنا، أن يعترف بمواهبنا ويُشجِّعنا على تجاوُز الرؤية الخاصة بنا.

تشعر عالِمة الفيزياء الحيوية سينثيا هَجِرتي أنها محظوظة جدًّا؛ إذ وجدَت اثنين على الأقل من الأساتذة المُرشدِين رائعِين ليَرعَيَا انبهارها بالبيولوجيا. لا أحد البتة من عائلة هَجِرتي التحق بالجامعة، ولذلك لم يكن لها مثل هذه التَّطلُّعات حتى تَبيَّنت مُدرِّسة البيولوجيا في مدرستها الثانوية اهتمامَها بهذا العِلم. أَمدَّت هَجِرتي بالتشجيع والاعتراف الذي لا تستطيع عائلتها أن توفِّره. ركَّزَت اهتمامها على تَسكُّع هَجِرتي واقترحَت عليها أن تدخل مَعرض العلوم الإقليمي، وهذا شيء لم يَخطر على بال هَجِرتي أن تفعله. وما أدهش هَجِرتي كثيرًا أنها ظَفِرت بمنحة دراسية لمدة عام في الكلية من أَجْل مشروعها. وعلى مدار الأعوام، أصبحَت مُعلِّمتها صديقَتها الحميمة وظلَّتَا تُحافظان على اللِّقاء عدة مَرَّات كل عام. وثَمَّة أيضًا أحد أساتذتها الذين دَرَّسوا لها البيولوجيا في الكلية شجَّع عمَلها وزَيَّن لها أن تواصله. وفيما بعدُ سهَّل لها الالتحاق بالدراسات العليا ولا يزال هو الآخَر صديقًا لها. ومن دون هذا الاهتمام الشخصي والرعاية، ما كانت هَجِرتي لِتذوق أبدًا رَوعة الكشف العلمي.

رعاية الأفكار

إن الأفكار التي تَتجاوز النموذج الإرشادي العلمي [البراديم] الجاري عادة ما يقابلها المجتمَع العلمي النَّقدي والشَّكَّاك بالسُّخرية أو الرفض الناعم. الأمثلة على هذا كثيرة، من قَبيل عمل بربارة ماك كِلينتوك في جينات النبات المُتحرِّكة، وفرض السببية التكوينية لروبرت شيلدريك (الذي ناقشناه في الفصل الرابع). العديد من الباحثين الأقل شجاعة يَهجرون عملهم حين لا يلقى تأييدًا، ويَئدون حياة الفكرة. وعندما يجلب المفهوم سخرية الزملاء، مثلًا وصَف المحرِّر كِتاب شيلدريك بأنه «أكثر ما رآه خلال سنوات عديدة استحقاقًا للحرق»، يميل علماء آخَرون إلى تَجنُّب هذا أصلًا بدلًا من أن يُخاطروا بسمعتهم ويَشيع عنهم أنهم يرتبطون «بعلم زائف».

يلعب النقد دورًا له قيمته في العلم وبصرف النظر عن الخوف من النقد ومن أن نبدو حمقى، يدفع النقد الناس إلى التفكير بعناية في أفكارهم وعرض دَليل مُقنِع لتأييدها. تُمثِّل التعليقات النقدية للزملاء تعويضًا عن النقاط التي يَعمَى عنها الفرد أو مَواطن تفكيره المنطلق. النَّقد يُعيِّن ثَغرات في البيانات ويدفع العلماء إلى شَحن نظريَّاتهم. ولكنَّ كثيرًا جدًّا ما يَقتحِم النقدُ مَسار النظرية في وقت مُبكِّر، لقد أصبح ردَّ فعل أوتوماتيكيًّا، بدلًا من أن يكون ردَّ فعل متكيِّفًا مع مستوى تطوُّر الفكرة. ونتيجة لهذا، تموت أفكار كثيرة وهي في مَهدِها. هكذا وصَف أحد علماء البيولوجيا النَّقد في المُختبَر. «هناك قدْر ضخْم من الحديث في مُعظم المُختبَرات. على أساس أنك إذا لم تستطع أن تُقنِع زملاءك فلن تستطيع أن تُقنِع العالَم الخارجي، القاعدة في مُختبَرنا هي أنك يجب أن تكون ناقدًا لأفكار زملائك إلى درجة الحِدَّة والشراسة. هذه هي طريقة اختبارها».١٥
المَوقف النقدي السائد يعكس الهيمنة المُسبقة في العلم لأسلوب المحاورة الذُّكُوري كما وصَفَته ديبورا تانن. برفقة علماء لغة آخَرِين أوردَت التوثيقات الشاهدة على أن النساء يَسألْن أسئلة أقلَّ وأقصر. إنهن يَمِلْن أكثر إلى طرح اقتراحات وأسئلة من أَجْل توضيح أو استدرار مَزيد من المَعلومات (وهكذا يَعترِفن بجهلهن). من الناحية الأخرى، يستخدم الرجال الأسئلة من أَجْل استعراض المَعرفة، والمُناوشة حول الوضع والمَنزلة. إنهم يَميلون إلى استهلال أسئلتهم بتقريرات، وطَرْح أسئلة مُتعدِّدة، ومُتابعة إجابات المُتحدِّث بأسئلة إضافية أو تعليقات.١٦
وعلى سبيل التمثيل لهذا الأسلوب الذُّكُوري، يَكتب روبرت جالو R. Gallo في المعاهد القومية للصحة عن عِشقه «الخشونة وتصيُّد السَّقطات في المُساجَلة»، ويقول إن لقاءاته الأسبوعية مع أعضاء هيئة التدريس يمكن أن تكون «مُتعِبة جدًّا». يصف جالو، في كتابه عن اكتشاف فيروس الإيدز، المُساءلة «القاسية» للعلماء الذين يجب أن يَكونُوا متأهِّبين للدفاع عن البحث الذي يُقدِّمونه في المُلتقيات العلمية. ويقتبس قول زميله جينوفيفا فرانشيني G. Franchini:
إذا تحدَّثتَ مع أي من هؤلاء الشُّبَّان من باحثي ما بعد الدكتوراه عن مُلتقَى كولد سبرينج هاربور، تَجدُهم جميعًا مُتخوِّفين. وبالفعل، جاء أنطوني جسيان A. Gessian وهو عضو هيئة التدريس في ليون بفرنسا وممَّن يُعدِّون أبحاثًا بعد الدكتوراه، وحكى لي حكاية عن انتظاره لدوره في إلقاء الكلمة، حين بُهت ذلك الشخص الذي كان يَتحدَّث. إنك تَتطلَّع للذهاب هنالك، لكنَّك لست متأهبًا لذلك. مَن يقوم باستجوابك يستطيع أن يُلقي عليك أي سؤال يشاء. وهذا هو ما يحدث دائمًا. يمكن أن تسير المساءلة بطريقة قاذعة. بَيْد أنَّ هذا هو أفضل مُلتقى في البيولوجيا بالنسبة للعلماء الشُّبَّان، وخصوصًا في علم الفيروسات البشرية.١٧

وبينما يمثل البرهان الدقيق مُرتكزًا في العلم، تحتاج بذور الأفكار والنظريات الجديدة إلى بيئة آمنة وواقية يمكنها أن تَنضُج فيها قبل أن تواجَه ضوء النقد الكاشف. غالبًا ما شعر مُناصِرو الأفكار الهَشَّة غير مكتملة التكوين أنهم عُرضة للطعن. ويَتردَّدون في جعْل أنفسهم مُعرَّضين للسخرية لطرحهم تصورًا أبْلَه. ومن الناحية الأخرى، نجد أن ما يُعِين الأفكار على أن تُزهر وتَتفتَّح أكمامها هو عَرْض ما يخطر في البال بين الزملاء الذين يَشدُّون الأَزْر بغير الحساب العسير. يَستطيع العلماء مُساعدة زملائهم على التَّلقُّح بأفكار جديدة، وذلك عن طريق المُوازَنة بين النَّزعة الشَّكِّية، والنَّزْعة النَّقدية، وبين المُعتقَد التجريبي، وموقِف الرعاية. ثم يتطلَّب الأمر وقتًا وجهدًا ومالًا من أجل الحصول على مُعْطَيات لتغذية وتدعيم أفكار جديدة. ومن المؤسف حقًّا، أن الحصول على تمويل لِمَد نطاق معارفنا عن أشياء نعرفها بالفعل أسهل من الحصول على تمويل من أَجْل اقتحام آفاق جديدة.

تبحث سينثيا هَجِرتي بحثًا ناشطًا عن زملاء تَتداول معهم الأفكار، عن ناس يهتمون بعملها لينصتوا إليها ويَلمع ذِهنهم فجأة بخواطر. خبراتها السابقة بالمُعلِّمَين اللَّذَين شجَّعاها وشَدَّا أَزْرَها في المدرسة الثانوية وفي الكُلِّية، قد عَلَّمتْها القيمة العُظمى للتَّواصل مع الآخَرين من أَجْل رعاية الأفكار. تقول هَجِرتي:

في وقت مُبكِّر اكشفتُ الناس الذين يَنفرون مني، حتى إنهم لا يستمعون إليَّ بعد ذلك أبدًا. لكني رُحت أبحث حتَّى وجدتُ شخصًا يمكن أن يجلس ويعمل معي ويُنصِت إليَّ. لقد طرحتُ أفكاري ومُعْطَياتي، وأتَتنِي آراء الناس فيها وكانوا يسألون، «حسنًا، هل بحثتِ في هذا أو في ذاك؟» واستمتعتُ بذلك؛ لقد كان هذا جانبًا من أسلوب ممارَستي لعلمي، يُفسِّر لماذا كُنَّا بكل هذه الحَصافة في الإنتاج والنَّشر، ننشر حوالي خمسة أبحاث في العام. وعلى مدار الأعوام وجدتُ، — خصوصًا بالذَّهاب إلى المُلتقَيات — الناس الذين أتصاحَب معهم، ناس استمتعتُ حقًّا برفقتهم، والناس الذين عرفوا عملهم حق المعرفة. لذلك كان يمكن أن أتَّصل تلفونيًّا بشخص في نصف القُطر الآخَر وأقول: «لقد تَوصَّلتُ إلى هذه الفكرة وتلك الجُزئِيَّة من المُعْطَيات، وفكَّرتُ في أن أفعل كذا وكذا. ما رأيُك في هذا؟» لتأتيني إجاباتهم؛ لذلك بحثتُ بحثًا ناشطًا عن الناس الذين أُمارس هذا التواصل معهم، أما الآخَرون فأتحدَّث معهم عن أحوال لطقس.١٨

والزملاء من سائر أنحاء القُطر، بِدورهم، يَتَّصلون بها تلفونيًّا ليتَحدَّثوا عن أفكارهم أو عن صُعوبات حين تُصادفهم مُعْطَيات مُثيرة للحَيرة.

تنطوي مُقارَبة الرعاية على استبقاء الانفتاح على احتمالات عَديدة، وطُرق مُختلفة للتنمية. إنها تفتح الباب لعَملِيَّات لا شعورية، لحركة الرُّوح، ولصوت النَّفس وهي تُنادي بدلًا من أن نَحصر أنفسنا في المعلومات الآتية من مصادر عقلية فقط. دخول هذه المنطقة الواقعة على عَتبة الشعور، هو حالة شواشية إلى حدٍّ ما تُتيح لنا مُباحَثة مَعانٍ وارتباطات جديدة. أما البحث عن الوضوح والإدراك الناصع أو الأفكار الثابتة قَبل الأوان فهو أشبه بإجهاض النَّمَاء المحتمَل لنَبتة بازغة عن طريق تقليب التربة في وقت مُبكِّر جدًّا، تَتفاعَل الرعاية مع الطالب، أو مع فكرة، أو مع الطبيعة ذاتها. إنها مَسار – مسار تِكراري وتَستجيب للتغذية الاسترجاعية.

تُقِيم باكن مُلتقَيات مَعملية أسبوعية لكي تعطي الناس في مُختبَرها فُرصة لعَرْض مُعْطَياتهم، وتَلقِّي تغذية استرجاعية من زملائهم، وأفكار تَبرُق في الأذهان بشأن التَّضمُّنات المحتمَلة للنتائج. وبالْتِفافِهم حول الدائرة، يَصِفون تجاربهم ويَطرحون المُعْطَيات التي توصَّلوا إليها. تَطلُب باكن من باحث تفسير النتائج، ثم تطلب من آخَرين في المجموعة أن يُدلوا بتعليقاتهم قبل أن تَتقدَّم بملاحظاتها. تَبتهِج بمراقبتهم وهم يَصِلون تدريجيًّا إلى مَغزَى المُعْطَيات. قالت: «أحيانًا تلمحُ الضوء ينبعث في الأرجاء، وهذا مدهش حقًّا». تَقدَّمت طالبة دراسات عليا تعمل في مُختبَر باكن برؤيتها لعملية استكشاف الأفكار:

إنها حقًّا تسير بشكل جيد مع إيمي ذات مرة شَعرتُ بأن لدي فكرة مهمة جدًّا بشأن النتيجة، سرعان ما الْتَمعتْ عيناها وتَفكَّرت فيها، وقالت: «يمكن أن تكون هكذا». كان لهذا مَغزاه. أما عن بقية الأمر، فهو أنَّنا كنا نمارس العمل بالفعل حين نفكر في المسائل النظرية في العلم، والمُعْطَيات التي كنا نحصل عليها فعلًا، عادة ما نحاول تحديد لماذا جاءت غريبة هكذا وما هي المشاكل.

مُشرِفون آخَرون قد لا ينفتحون هكذا على تَطوُّر طلابهم. وكما لاحَظ طالب دراسات عليا في الميكروبيولوجيا يبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عامًا.

في البداية يكون الأمر عسيرًا عليكَ لأنَّك كطالب دراسات عُليا تتأصَّل فيك الفكرة القائلة إن الأساتذة يَعرِفون أكثر منك. ولكنك لديك أيضًا كطالب دراسات عليا الفُرصة لقراءة الكثير حول موضوع البحث وأن تصبح خبيرًا في هذا الموضوع. وبَعد قدر كافٍ من القراءة ومن التفكير، تُدرِك أن لديك أفكارًا، وتَشرَع في الدفاع عنها. قد يكون هذا عسيرًا في البداية؛ لأن أساتذتك الكبار غير مُعتادِين على رُؤيتك بهذه الصورة وعليك أن تُحارِب فعلًا من أَجْلها.١٩

أولئك الذين يعملون في مُختبَر ستيفن هوكنج في قِسم الرياضيات التطبيقية والفيزياء البَحْتة في جامعة كمبردج يَعتبرون التفاعلات والأفكار التي تَخطر ببالهم مُهمَّة لدرجة أنهم يُحدِّدون لها وقتًا في صميم تنظيمهم لليوم. كلهم يَجتمعون مرَّتَين في اليوم في غُرفة التفاعلات من أَجْل الشاي والنظرية.

المُؤسَّسات

بعد أن قَضتْ عالِمة بيولوجيا الخلية ديانا هورن D. Horn سِتَّ سنوات في كلية الدراسات العليا في جامعة بردو، وأربع سنوات في وظيفة لباحثي ما بعد الدكتوراه في الكلية الطبية بجامعة هارفارد، تَولَّت وظيفة متابَعة في جامعة سذرن كاليفورنيا. وصَلتْ لتجد مُختبَرها مُستودَعًا لكل نُفايات القِسم، وكان عليها أن تُخلِيه من تلك الأشياء التي تَشغلُه دون وجه حق قبل أن تستطيع إفساح مكان لمُعدَّاتها المُختبَرية. واجَهتْها العقبة تلو العقبة من دون أية مَعونة من الإدارة أو من زملائها. وانقَضتْ شهور قبل أن يُلبِّي النظام البيروقراطي طلبَها مُعدَّات. حتى الشيء الأساسي كالماء غَير المُؤَيَّن لإعداد مُستنبَت زَرع نسيج، استغرق الحصول عليه شهورًا من النضال والإصرار. وفضلًا عن تأسيس مُختبَرها، كُلِّفت في الفصل الدراسي الأول بأعباء تدريسية غير عادية. وفوق كل هذا، أحسَّت أنها لا تستطيع أن تقول «لا» لزميل طَلب منها أن تكون محاضِرًا زائرًا في فصْلِه الدراسي. لم تكن في ذلك الوقت تريد أن تَبدو غير مُتعاوِنة، وفيما بعد أدركَتْ أنه اعتاد على أن يَتصيَّد آخَرِين ليُحاضروا في فصوله الدراسية حتى يستطيع هو أن يقضي وقتًا أطول في بُحوثه. كانت وحيدة في مكان جديد من البلاد وليس لها أحدٌ لتلجأ إليه من أجْل التشجيع وشَدِّ الأَزْر.٢٠
كثيرون من العلماء الشُّبان يشعر الواحد منهم أنه وَحيد ومُحاصَر بينما هو يُناضل ليُشيِّد لنفسه بيتًا في عالَم العلم، ومجرَّد تجهيز المُختبَر بمعِدَّات أساسية يتطلب أحيانًا جهودًا بطولية. بعد أن وصلت بيكا ديكشتين إلى قِسم العلم الحيوي والتكنولوجيا الحيوية بجامعة دركسل في سبتمبر العام ١٩٩٠م، أقرَّت أن الأمر اقتضى أكثر من ثمانية أشهر في كِتابة مُذكِّرات ودَعْم لطلب من أَجْل توصيل أسلاك كهربائية للمُختبَر تكفى لتهيئة مُعدَّاتها، واقتضى الأمر خمسة عَشر شهرًا من أجْل توصيل خطوط الغاز في الأسقف المُعلَّقة فوق مناضد المُختبَر. ثم تَحطَّم جهاز تكييف الهواء. وحتى شهر مايو من العام ١٩٩٢م، كانت لا تزال تُناضل من أجل تشغيل جهاز التكييف الجديد قبل أن يَحط الربيع الدافئ، وأيام الصيف ببحثها في منظومة بيولوجية حسَّاسة لدرجة حرارة الجو.٢١

وفي مُقابِل هذا، تتذكر كريستينا كَتزاروس، أستاذ العلوم الجوية في جامعة واشنطن، كيف لاقى اهتمامُها بعلم الأرصاد الجوية رعايةً مبكِّرة في مَسارها المهني، كانت آتية من السويد في بعثة لتبادُل الطلاب، حين مَشت يومًا ما عند مَبنى علم الأرصاد الجوية في سياتل، وفي دفعة واحدة قَرَّرتْ أن تدخل وتكتشف المزيد حول هذا المجال:

كان رئيس القسم رجلًا مُهذَّبًا رقيقًا جدًّا، وأبًا لأربع فتيات، أجْلسَني ودعانِي أن أُجرِّب هذا الميدان، وأرى إن كان يروق لي. جعلني أشعر بالألفة. كان أول صيف لي، وفيه تَلقَّيت بضعة مُقرَّرات دراسية، ودعاني واحد من الأساتذة الكبار في السن إلى الاشتراك في بحث ميداني، يَستدعي البحث تَسلُّق الجبال وإطلاق بالونات ودراسة الريح حول جبل رينير. وقد فَعلْنا هذا. ويا لها من خِبرة رائعة! كان عِلم الأرصاد الجوية تحدِّيًا. ومع ذلك لم يكن سهلًا أبدًا. كان عليَّ أن أعمل وأكِد فيه. وحين تَخرَّجتُ، شَدَّني موقع بحث هناك. أَنهيتُ شهادتي الجامعية وكان أستاذي غائبًا في إجازة السبت المُقدَّس وليس لديه إلا قليل من النقود لإتمام مشروع كان قذ بدأه. تُوفِّي وهو في الخارج ودعاني أستاذ آخَر إلى الانضمام لمَجموعته لفترة من الوقت. وعلى الفَور كتبتُ مشاريع الأبحاث الخاصَّة بي ودَبَّرت نقودي. سار الأمر على هذا النحو لمدة وجيزة، ثم طَلبوا مني أن أدرس فصلًا صيفيًّا، ودخلتُ في أمور أكبر. في تلك السنوات أنجبتُ أطفالًا صغارًا وعَملتُ نِصْفَ الوقت فقط، وبالتالي كنتُ في الخلفية إلى حدٍّ ما. أبقيتُ على هذا الوضع. كنتُ مُمتنَّة لأنهم تركوني أعيش حياتي. وقد سارَت سيرًا حسنًا. لم أعانِ كثيرًا من التوتر في تربيتي لأطفالي، وإني لشديدة الامتنان حقًّا على هذا ربما كنتُ أستطيع أن أطلب المزيد من التحديات، لو أن الوقت اختلف، كان الوقت هو أوائل السبعينيات، وفي أواخر السبعينيات بدأ رَد الظُّلم عن النساء كأقلِّيَّات وسائر ما استجَدَّ في هذا الميدان. شعرتُ بالأسف حيال بعض الشابَّات اللائي تَسلَّطتْ عليهن الأضواء، كان عليهن أن يُنجِزْن، كان عليهن أن يَصنَعنَ مسار الحياة المِهنِية. استطعتُ أن أكون أمًّا وأن أستمتع بهذا. اضطُرَّ زميل لي وكان رجلًا بمعنى الكلمة إلى أن يَتنازل عن بعض من هذا الجانب في حياته. مُعظم الرجال لا يَظفرون بالاقتراب كثيرًا من أطفالهم. وذَات مرة قال لي: «لقد حُزتِ أفضل ما في العالَمَين كَليهما».٢٢

حين استمعتُ إلى قصص الأساتذة المساعِدين الشُّبان وهم يحاولون إثبات ذاتهم، هالَني كيف أن الدَّعم والرعاية يمكن أن يَساعدَا كثيرًا في مثل تلك الآونة. النموذج النَّمطي هو أن كل شخص غارِق في البحث الخاص به حتى إن مسألة دَعم الآخَرِين نادرًا ما تَشغلهم. ومع هذا، سوف يعني الكثير لو أن الزُّملاء رحَّبوا فعلًا بالوافد الجديد وساعدوه في إعداد وتجهيز المُختبَر، مثلما نُساعد صديقًا ينتقل إلى مسكن جديد، أو نُسهم بجهد لمساعدة جارٍ يملأ مُخزنَه بالغلال. لعل أحدهم يهتم اهتمامًا شخصيًّا بأن ترسخ أقدام الوافدين الجُدد، بأن يُعلِّمهم أصول العمل، ويساعدهم على الإبحار في غياهب البيروقراطية. ثَمَّة سُبل عديدة لاندماج العلم في العمليات التي طَوَّرتْها النساء من أجْل العمل المتشابك ودعم كل الجهود ورُؤى الآخَر في النظام الجاري، إذا لم يَقم شخص بعمل ما، يُوجَد آخَرون على أتم استعداد لأن يَحلُّوا مَحلَّه. وثمة تناقُض ذاتي حقيقي، وذلك في أن المَعاهد العلمية تجأر من واقعة مفادها تناقُص عدد الناس الذين يَلتحقون لدراسة العلم، وفي الوقت نفسه لا تفعلُ شيئًا لتشجيع الناس على المُكوث في عالَم العلم.

في يومنا هذا، حين يَرتطم علماء شُبَّان بمشكلة الحصول على تمويل، فإن ما يَعوزهم هو اكتساب الثقة بالنَّفْس لكي يَقولوا «هذا ليس عدلًا» بدلًا مِن «أنَا غير جدير». بعض العلماء الشبان يَعوزهم الشعور بأن أحدًا يُؤمِن بهم. وحين يَظفرون بشخص يَتقاسمون معه الإحباطات يمكن أن يُساعد هذا في الحيلولة دون اعتبارها إحباطات شخصية، الحيلولة دون أن يَقْسُوا على أنفسهم ويفكروا «ثَمَّة شيء مَغلوط فيَّ، وقد فَعلوا هذا لأني غير ذي أهمية ولا أستحق دعمًا.» وبدلًا من الشعور بأنهم مُهيَّئون للقتال ومن تبديد الجهد فقط لينقذوا أنفسهم من الغَرق، يمكن أن يكونوا أسعد وأغزر إنتاجًا إذا اهتم زملاؤهم بوجودهم في الميدان وعملوا على تشجيعهم. وبعد ذلك يمكنهم أن يَبذلوا جهودهم في بحوثهم ويُرجئوا شيئًا ما يمنحونه للطلاب ويَستثمرونه في الجانب الشخصي من حياتهم. في بعض مجالات العلم الآن يَتطلَّب الأمر أن يكون المرء أنانيًّا ليبقى. لاحظَت كتزاروس:

إنهم يَفقدون عددًا مَهولًا من خيار الناس الذين لَيس لهم نشاط سياسي، الذين لا يَعرفون إلا الطريق من البيت إلى العمل، والدَّعم النفسي في المنزل فقط، وإلا فَعليك أن تُحارب كل المَعارك مَهما يَكن الأمر؛ لكي تحتفظ بتمويل بَحثك، لكي تُنتِج وتَتملَّك زمام كل شيء. إنها مسألة طلب. لذلك لم يَعُد كثيرون من زملائي يَطلبونها بأي شكل. هم يَفعلون شيئًا مختلفًا. أحد الزُّملاء عَملتُ معه لعدة سنوات توقَّف عن العمل ليقوم برحلة حول القُطر. وحاليًّا، لا نعرف ما الذي يفعله الآن. زميل آخَر لي من مستوى الحاصلين على شهادة الدكتوراه، وهو رجل ذو قُدرات، انتهى به المطاف إلى العمل في مبيعات الحاسب الآلي. وآخَر حصل على الدكتوراه في علوم البحار، يعمل الآن مُحلِّل بيانات في كلية طب. من حيث المبدأ لا شيء خطأ في هذه التغييرات، ولكني أعرف أنهم ليسوا سُعداء بها. هؤلاء الثلاثة جميعًا مُتألِّقون ومُقتدرُون، وكان ينبغي أن تُتاح لهم فرصة أفضل. هناك نَفر أصحاب موهبة هائلة في التحليل المنطقي وكل ما يتصل بهذا، ولكن لا يملكون الجرأة أو الشخصيات الوصولية، لذلك فَقدنَاهم. يبدو أن ثَمَّة شيئًا ما خطأ هنالك. أُؤمِن بأن يَتدخَّل الجانب الأُنْثَوي من هذا المُنطَلق، كياسة أكثر قليلًا، مَزيد من الرعاية لمواهب الذين هم في الطليعة ويَحتاجون فعلًا لشيء من الحرية، لقليل من السلوى والاعتبار.٢٣

إن العالِم الأكاديمي يَقضي ما يناهز خمسة وعشرين عامًا في التعليم (تتضمن أربع سنوات في الكلية الجامعية، ومن أربع إلى ست سنوات في كلية الدراسات العليا، ومن سنة إلى أربع سنوات مُنشغلًا بأبحاث ما بعد الدكتوراه)، وبعد هذا يَظفر العالِم الأكاديمي أخيرًا بالتَّعيِين في الجامعة ويبدأ في تجهيز المُختبَر الخاص به. يَنتقل الأساتذة المُساعدون الشُّبان مرة أخرى إلى مكان جديد، عادة بعد أعوام من الحياة بأسلوب مُتشظٍّ، ويَضطلعون بمسئوليات تدريسية جديدة، يَعملون في لجان القِسم ولجان الجامعة، بينما يَكتبون تقارير المِنَح الدراسية، ويُحاولون اجتذاب طَلبة الدراسات العليا، ويطلبون مُعدَّات وإمدادات وتجهيزات لإعداد المُختبَرات. الضغوط هائلة في هذه الآونة. أداؤهم خِلال العامين الأوَّلَين يُحدِّد وضْعَهم طوال البقية الباقية من مَسارهم المِهَني. إذا لم يحصل الأستاذ المساعد على تمويل لبحوثه لثلاثة أعوام مُتوالية، فليس من المحتمَل أن يبقى في جامعة رائدة. لا يزال الأستاذ المساعد يواجه من جديد موقف أن يَسبَح أو أن يغرق.

تُعاني مؤسَّسات العلم، من قبيل الجامعات ووكالات التمويل، من افتقاد الرعاية. النظام يُكافِئ العلماء على عدد الأبحاث المنشورة، والعروض وبراءات الاختراع، وليس على التدريس أو المساهَمة في الأنشطة التعاونية. تَولِّي المَنصب يَكفُل للأساتذة راتبًا مَدى الحياة ما لم يَرتكبوا انتهاكًا خطيرًا للقواعد. الظَّفَر بالمَنْصب الثابت يَقتضي أن يَنشر الأستاذ عددًا كافيًا من الأبحاث كي يُقنِع لجنة من وُلاة الأمر. أن تنشر أو أن تَهلك. ولا تُعتَبر نوعية التدريس ذات أهمية. مُشكلة الظَّفر بمنصب دائم تَخلق ضغطًا كبيرًا على الأساتذة الشُّبان لدرجة لا تستطيع معها الجامعات أن تقوم بالوظيفة التي بُنِيَت من أَجلِها؛ أي التدريس للطلاب.

يقول عميد سابق للتربية في جامعة سياتل هو جاك جيلْروي J. Gilroy «التشديد على أهمية الأبحاث لا يُوضَع قطعًا في كفَّة المصالح المُثلى للطلاب.»٢٤ وفي عديد من الجامعات الأصغر ينشغل الناس بأبحاثهم بحيث لا يبقى لديهم وقت للتدريس. وفي بعض الجامعات الكبيرة يقوم المُعاوِنون وطلبة الدراسات العليا تدريس أكثر من نصف المُقرَّرات الدراسية. بعضهم مُؤهَّلون لهذا، وثُلة منهم ينقصهم الكثير جدًّا. التدريس الجيد يتطلب الإبداعية والتواصل. وفضلًا عن هذا، يَتزايد عدد طلبة الدراسات العليا الأجانب الذين يَدرسون مُقرَّرات وقد يَصعب على الطلاب فَهْم لغتهم الإنجليزية.
إن مَنْح المناصب والترقيات على أساس عدد الأبحاث المنشورة يَخلق نظامًا قائمًا على كَمِّ الأبحاث لا كيفها، ويُشجِّع نَشْر المطبوعة الصغرى؛ أي ذات الحد الأدنى من النُّسخ ومن إمكانية التوزيع. وقد نَتج عن هذا عدد هائل يتجاوز أربعة وسبعين ألف مجلة في الرياضيات، والعلوم الطبيعية، والعلوم الاجتماعية، وفقط أربعة آلاف وخمسمائة منها دخلَت في فهارس مَجمع المعلومات العلمية. خمس وخمسون في المائة من هذه المجلات المُفهرَسة لم تَحدُث أية اقتباسات منها غلى مدى الأعوام الخمسة التالية على نَشْرِها. وكما لاحَظ آلن برد A. Bard محرِّر مجلة الجمعية الكيميائية الأمريكية، بأكثر من طريقة، لم تَعُد الأبحاث المنشورة تُمثِّل سبيلًا للتواصل مع أقرانك العِلمِيِّين، بل هي سبيل لتعزيز مَنزلتك وتكديس نقاط للترقية والمِنح».٢٥

إن نظام المكافأة القائم على الكُمِّ بدلًا من الكَيف يُثبِّط العزم على الدراسات طويلة المدى والتأليف بين خطوط عديدة من البحث لتكوين صورة أرحب. ينتج عن هذا عرض مَتشَظٍّ للبيانات وبرامج البحث. إنه يدفع بالعَرَبة إلى استهداف السُّرعة والجدارة لكي تكون في المقدِّمة، ولا يهم كيف، مهمَا تطلَّب الأمر. الغاية تُبرِّر الوسيلة. إن التشديد على أهداف يمكن أن ينزع عن المُغامرة طابعها الإنساني. ولا يمكن أن يكون المرء عُرضة للانجراح في نظام على هذه الشاكلة.

ومن أجل الوقوف في وجه مثل هذا الإنتاج المُتوالي للأبحاث، تبدأ بعض المؤسَّسات الآن في تحديد عدد الأبحاث التي سوف تَقبلُها للتقويم. تنشد المؤسِّسة القومية للعلم التشديد على جَودة الأبحاث المنشورة، وذلك بألَّا تسمح للباحثين بأن يتقدَّموا بأكثر من خمسة أبحاث مُرفَقة بطلبات الترشيح للمِنَح، وبعض الجامعات المرموقة مثل كلية طب هارفارد لن تُحَكِّم إلا عددًا يتراوح بين خمسة وعشرة أبحاث من ضمن أهم أبحاث المُرشَّح.

ومجددًا يُناضل العلماء من أَجْل المنزلة، غير مُبالِين كثيرًا بالرعاية، وذلك حين يَئُون أوان عرْض نتائجهم. يجري تنظيم مُعظَم المؤتمرات بسلسلة من الجداول الدقيقة تعطي الفرد من عشر إلى خمس عشرة دقيقة للعَرض، حيث يُقدِّم المرء عمله في قاعة مكتظة بالناس. كل امرئ جالِس مُيَمِّمًا وجهه ومُنصتًا إلى الشَّخص الذي يعتلي المِنصَّة. أما التفاعلات، فإن الجدول يفسح لها مساحة ضئيلة أو لا يفسح وفي العادة، تَمتد الكلمة إلى فترة وجيزة من ثلاث إلى خمس دقائق لطرح الأسئلة. وثَمَّة مُلصقات الإعلان عن جلسات القِسم الدورية (حيث يضع الباحثون مُعْطَياتهم على لوحات النَّشَرات ويناقشون النتائج التي تَوصَّلوا إليها مع العلماء المَعنِيِّين بها الذين استوقَفتْهم المادة المعروضة) أجل هذه المُلصقات مَدعاة لتفاعُل أكثر، إلا أنها لا تُعتبَر وجيهة كإلقاء كلمة في مؤتمر. وعلى الرغم من أن الكلمة قد تُوجِز عملًا أنتجه فريق من الباحثين، فنادرًا ما يُذعِن من يعرضها لزميل من الجالِسِين في القاعة ويجيب عن سؤاله. لا أحدَ يجرؤ على الاعتراف بأنهم لا يَعرفون كل شيء عن الموضوع وحتى مُلتقًى صغير لسِتِّين باحثًا من أعضاء الاتحاد الأمريكي للجيوفيزياء نَجِده يَتبع النموذج الذي أَرسَتْه المُلتَقيات الكبرى لاحَظ واحد من طلبة الدراسات العليا في عِلم البحار:

غالبية الناس من المُستمعِين كانوا معًا في البحر لعدة أسابيع، عملوا سويًّا تحت ظروف صعبة. أفكر في هذا؛ لأنَّنا كُنا جميعًا نعرف بعضنا في أجواء منفتحة وأقلَّ تكلُّفًا بالرسميات، ولكني صُدِمت بأنهم لكي يَلتقوا معًا كان ينبغي عليهم ارتداء الملابس الرسمية ورابطة العنق، ويَتكلَّفون في جلستهم ويطيلون في مناقشة الكلمات كي لا تنتهي إلى شيء، وكأن الواحد منهم يُدْلي بالبيان الخاص به عن طريق نَقد عَمَل الآخَر، ليس من الضروري أن تتخذ المناقشات العلمية شَكْل المواجَهة.

كثيرات من النِّسوة عَلَّقن على الحماسة التي يَنقضُّ بها الباحثون الذُّكور على الناس، بمَن فيهم من غير المُتمرِّسين والباحثين الأصغر الذين لا يُشكِّلون تهديدًا. وبينما يطرح بعض العلماء أسئلتهم من أَجْل استيضاح نُقطة ما، فإن علماء كُثرًا يطرحون أسئلتهم أو يُعيِّنون ثغرات في مُعْطَيات المُتحدِّث لكي يُبيِّنوا مَدى حِدَّة أذهانهم. ولكي يَردَّ المتحدث اعتباره، بعض المُتحدِّثين يُحاولون أن يَجعلوا طارِح السؤال يشعر بأنه يبدو كالأبْلَه، لكي يَردُّوا اعتبارهم. وفي غضون هذا، يَتُوق كثيرون من طلبة الدراسات العليا وباحِثي ما بعد الدكتوراه إلى تكوين مُنتديات في المُلتقَيات العلمية حيث يمكنهم عرض أعمالهم السائرة قُدمًا لكي يَظفروا بالتغذية الاسترجاعية؛ حيث يمكنهم عَرْض المُعْطَيات لِتتلقَّى المقترَحات، والتأويلات التي تخطر بالأذهان، والتفاعل بأسلوب خِلْوٍ من التهديد.

وفي جهد لخَلْق مُنتدًى يُعزِّز التبادُل البَيني المُحْكَم للأفكار المَدروسة، اجتمعَت «مجموعة عمل» مُكوَّنة من سبع عشرة امرأة في سانتا كرز بكاليفورنيا، لمُناقَشة التكامل بين النظرية التطورية ودَور بيولوجيا الأنثى. وقد رَكَّزْن على التفاعل والتركيب، بدلًا من المُقارَبة التقليدية لعرض المُعْطَيات. أَسْمَين مؤتمَرهن الذي دَعَوْن إليه «عالِمات يَفحصْن التطوُّر: بيولوجيا الأنثى وتاريخ الحياة». وتُكرِّسن على مدى عدة أيام من التفاعل المُكثَّف والمُركَّز من أَجْل تقويم النظرية وتكاملها وتطويرها. وكان ثَمَّة تقابُل ملحوظ مع أجواء المُشاكَسة والنزاع المُعتادة في مُعظَم المؤتَمرات. وكما لاحظَت عالِمة الأنثروبولوجيا الطبيعية سيلفانا بورجونيني تارلي S. B. Tarli من جامعة بيزا، «كادَت الأجواء تقترب من الكمال، أجواء ينبغي أن تَسود في كل المؤتمرات، التي هي، قبل كل شيء، مِن أَجْل التواصل. لم تَكُن إحدانا تبحَث عن مَواطن الضَّعف في عمل الأخرى لكي تهاجمها. لقد دخلْنَا في مناقَشات من دون منتصر ومهزوم».٢٦ وكان التأمُّل الذاتي إحدى أطروحات المؤتمر: ناقشَت المشارِكات كيف أَتَينَ لِطَرْح أسئلة علمية مُعيَّنة وكيف أثَّر تاريخ حياتهن الشخصية على منظور بحثهن. وانفرد هذا المؤتَمر بأنه اشتمل على مُنتدًى للعامَّة ومُشارَكة فعالة من الذين يكتبون في العلم، وذلك من أجل تفعيل التواصل بين العلماء وبين العامة. ولسوء الحظ، كانت المقالَة المنشورة في مجلة ساينس لتغطية هذا المؤتَمر مصحوبة برسم كاريكاتوري مُسيء يُصوِّر فتيات صغيرات يَلعبْن بالعلم في كوخ أعلى شجرة ضخمة بالأدغال، ويُخرِجن ألسنتهن للاعبي كُرة القدم في الأراضي الواطئة.٢٧ وعلى الرغم من أن القَدَّ الذي قُدَّ على قَدِّ النساء كان نتيجة جانبية لعملية الانتقاء المبدئية،٢٨ فقد وَصلَت إلى المحرِّر خِطابات عديدة تُدين اللائي نَظَّمن هذا المؤتمر «المُرعِب»، مؤتمر التَّعصُّب لجنس المرأة، و«انطلاق الوقاحة من عقالها».٢٩

المُقارَبة طويلة المَدى

أصبح المنظور التكويني لصيقًا بالأُنْثَوية، بسبب يعود إلى مسئوليات الحَمل وتربية الأطفال طويلة المدى. والآن فقط نُدرِك الثَّمن المدفوع في الخفاء للمقارَبة قصيرة المدى في العلم وتَنمية التكنولوجيا، ثمن من قبيل تأمين التَّخلُّص من الكيماويات السَّامَّة والنُّفايات النووية، وإنهاك التربة، وتبديد الموارد الطبيعية. وما دُمنا نبحث عن أرباح قصيرة المدى، فنادرًا ما نأخذ في الاعتبار صحة وازدهار أجيال المستقبَل. وعلى الرغم من أن مُقارَبة الرعاية في جوهرها عملية مُتأصِّلة، فإنها تَرنو دائمًا إلى نتائج ومُحصِّلات طويلة المدى.

إن العلم الحديث في أمريكا أساسًا مَجال يَسوده نَفاد الصبر. نادرًا ما يَتحلَّى الباحثون بالصبر إزاء الأسئلة التي تستغرق وقتًا طويلًا، وتتطلب الكثير من التفكير والإنصات، وليس فقط أن تُفعَّل وتُنجَز. في اندفاع علماء الوراثة للحصول على إجابات سريعة، تَحوَّلوا من الذَّرَّة إلى ذُبابة الفاكهة، ثم إلى البكتيريا، وأخيرًا إلى الفيروسات كنموذج للتناسل. ومُقارَنة بالدورة السَّنوية للذَّرَّة، تَتميَّز ذبابة الفاكهة بأنها تُعطي جيلًا جديدًا كل أربعة عشر يومًا؛ وتنقسم البكتيريا كل عشرين دقيقة، أما الفيروسات البكتيرية (phages). فإنها تَتضاعَف عدة مرَّات في عشر دقائق. في غضون هذا، نجد المُقارَبة الصبورة للطبائعي التي تَصطنع مُلاحَظات على مدى فترة طويلة من الوقت قد باتَت أندر وأندر. ولا تزال دراسة بربارة ماك كِلينتوك للذَّرَّة في الثمانينيَّات تبدو مُفارَقة تاريخية. وتجد إيمي باكن، بوصْفِها عالِمة في بيولوجيا الخلية، أن العمل مع الخلايا ككل، بدلًا من العمل على الجزيئات في أنبوبة الاختبار، يتطلب مزيدًا من الصبر. «يجد علماء الكيمياء الحيوية الذين عرفتُهم أن العمل في الخلايا بطيء جدًّا. إنهم يريدون الإجابات فورًا. يريدون إجابات كل يوم. وهذا لا يعني أي شيء بالنِّسبة لي. إني أتحلَّى بالصبر لكي أنتظر وأرى».٣٠
بعض الذين يأتون للعمل في مُختبَر باكن يفتقدون الصبر ويريدون إجابات سريعة. لا يرتاحون لإيقاع الخلايا البطيء، ربما يتركون مُختبَرها ويبحثون عن نموذج لمنظومات تَعِد بإجابات سريعة. وفضلًا عن هذا، نجد أن المُزايدة المحمومة على السنوات الثلاثة أو الاثنتين للمِنحة الدراسية تجعل البحث يَتبَوأَر حول المدى القصير. تُحاوِل باكن أن تربط بين المنظورات قصيرة المدى والمنظورات طويلة المدى. تميل إلى الاضطلاع بمشاكل عسيرة يتفاداها الآخَرون، وتُثابر عليها حتى تصل إلى إجابات شَيِّقة. يكشف انتقاؤها للكلمات عن أن مُقارَبتها للتجارب هي مُقاربة الرعاية: «يَجب عليك أن تُؤمِن بما تعمل فيه لتجعله يسير في طريقه. ليسَت المسألة هي محاوَلة فرْض إجابات مُعيَّنة عليه، بل إن الإجابات لن تكشف عن نفسها ما لم تُؤمِن بها وتظل تعمل فيها».٣١

وبينما تعترف باكن بأهمية النَّشر والمشارَكة في نتائج عملها، فإنها تُحب المَسار ذاته أكثر ما تحب النتائج. وحين تقضي وقتًا طويلًا على مكتبها، تشعر بالحزن والاكتئاب. إنها تُفضِّل أن تكون بالأحرى في المُختبَر تمارِس العمل وتَرْقب الخلايا. وعلى الرغم من أن النتائج الإيجابية تأتي الهُوينى، فإن العمل يمنحها إشباعًا طويل المدى. ومثلما تَعشق حل ألغاز الصور المُتشَظِّية، فإنها تحب أن «تأخذ كل الشظايا وتضعها معًا، وترى بماذا تحاول أن تخبرها.»

مُعظَم العامِلين في البيولوجيا الميدانية يَقضون شهرين في الميدان لِيجَمعوا المُعْطَيات ثم يعودون إلى المَنازل لتدوين النتائج التي توصَّلوا إليها. أما الدراسات طويلة المدى التي تَستغرق عقودًا من السنين فهي نادرة. ومن قَبْل جان جودال، ذهب هنري نيسن H. Nissen إلى غينيا الفرنسية لدراسة حيوانات الشمبانزي لمدة شهرين ونصف إبَّان الثلاثينيات من القرن العشرين. وفي المقابِل، درسَت جودال أجيالًا من حيوانات الشمبانزي لما يزيد على ثلاثة عقود، مُتتبِّعة حياة كثير من أفراد هذا الحيوان منذ الميلاد وحتى الممات. وقبل أن تكرس ديان فُوسي ثمانية عشر عامًا لدراسة غوريلا الجبل، كانت أطول دراسة لهذا الحيوان قد أجراها جورج شالر G. Schaller على مدى عام في زائير إبَّان الخمسينيات من القرن العشرين. وبينما تواجدَت بيريوت جالديكاس بين قِرَدة إنسان الغابة لما يزيد على ثمانية عشر عامًا، فإن أطول دراسة أسبق قد قام بها جون ماك كينون J. MacKinnon واستغرقَت ثلاث سنوات. وكما لاحظَت جالديكاس، كل رجل كان يستأنف طريقه بدراسة حيوانات أخرى في أمكنة أخرى، بروح المُغامِرين في انتقالهم من غَزْوة إلى خوض الغَزْوة التي تليها، «إنها الطريقة النمطية للذكور في أدائهم للأفعال».٣٢ لقد آمن لويس ليكي بأن النساء أكثر مُثابَرة من الرجال، وأنهن مُهيَّئات تمامًا للدراسات طويلة المدى على وجه الخصوص. كل واحدة من النساء اللاتي انتصر لهن لِيكي قد أسبغَت الرعاية على الحيوانات التي اختارتها، واطمأنَّتْ إليها الحيوانات؛ لأنها لا تُؤذيها وتَظل تَتلقَّى منها وهي تقوم بمراقبتها. وفيما يتجاوز حدود العمل العلمي، تَكرَّست أولئك النِّسوة لمداواة الحيوانات المَرضى والجريحة، عَمِلْن على حماية القِرَدة من أن ينتهك أحد عالَمها، وعلى صَون مَواطنها البيئية، وشَكَّلْن جماعات ضاغطة من أَجْل تحسين ظروف استخدام الحيوانات في البحث العلمي.

وكشأن أية خاصية من خواصِّ الذُّكورِيَّة أو الأُنْثَوية، فإن الرعاية لها — هي الأخرى — جانِبُها المُظلِم. وتمامًا مثلما نَجِد مُقارَبة الكفاءة الذُّكورِيَّة — التطرف الأحادي الجانب في إنجاز العمل ولا يهم كيف — تُجرِّد الحياة من العذوبة، نَجِد المُقارَبة الأُنْثَوية الأحادية الجانب لها مَخاطرها. تَخنق الرعايةُ الزائدة الإبداع والابتكار كشأن إفراط الأمومة في حماية الأطفال، الإسراف فيها يَعوق سبيل العلم. وبسبب من نُدرة الرعاية في العلم، فإن أولئك الذين يَتحلَّون بها يمكن أن يُثقِل كاهِلَهم كثيرًا بحث الطلاب عن الإرشاد الأكاديمي أو مَتاعب الزملاء الذين يحتاجون إلى مَن يبادلهم الحديث، وإلى درجة تعوق إنتاجية مَن يتحلَّى بالرعاية. وإذا لم توضع حدود، يمكن أن ينتهي المَطاف بِقِلَّة من الناس وقد تَكفَّلوا بأداء وظيفة الشعور نيابة عن القسم بأسره. مثلًا، حين يأتي وقتُ احتفالات رسمية للقسم كحفل الكريسماس السنوي، يطلبون مِن باكن تنظيم الاحتفال أكثر كثيرًا من أن يَطلبوه من الأعضاء الذُّكور في هيئه التدريس.

إن العلم عملية تَعلُّم واكتشاف، ونحن مُستضعَفون حين نَتعلَّم. ومن أَجْل إطلاق حرية البحث والاستكشاف يجب أن نَتقبَّل الاستضعاف فِينا وفي الآخَرين. ومن دون التعاطف مع مَواطن الضعف فينا واحترامها، لن نصل إلى مجتمَع التَّعلُّم. الموقف الأكثر نزوعًا إلى الرعاية في العلم يسمح لنا بالكشف عن جهلنا من دون خوف. فَدعُونا نتعلَّم تقدير قيمة القُدرة على أن ندعم الآخَرين مثلما نُقدِّر قيمة التَّقدُّم، والاعتراف بأهمية الأفعال الجماعية الصغيرة مثلما نعترف بأهمية الأعمال البطولية.

فيما هو آت، سوف نستكشف معًا كيف يمكن أن تَتبدَّى رؤية جديدة للطبيعة من خلال النظرة الأُنْثَوية، وكيف أن العلم ينحسر مع المنافَسة التي تَلتهم كل شيء.

١  المِلاط هو الأسمنت cement ولم أرَ داعيًا لتعريب اللفظ كما هو شائع ما دام المُقابِل العربي موجودًا.
٢  أخرجت ليندا شيفرد مُؤلِّفة هذا الكِتاب عَملًا آخَر بعنوان «الأنفاس الحلوة للنباتات The Sweey Breathing of Plants» تَتحدَّث فيه عن علاقتها الحميمة بعالَم النباتات، والتي بدأت حين أهدتْها إحدى صديقاتها نَبْتة في أصيص كهدية عيد ميلادها السادس عشر، فراحَت تُقارِن بين النبتة وبين ما كان يُزيِّن حياتها قَبلًا من دُمًى بلاستيكية وقِطع من السيراميك وما إليه من أشياء تخلو من الحياة. وتروي لنا كيف تَطوَّرت علاقتها بالنبات مع سنين العمر حتى بات من أهم أشيائها. في هذا العمل تَقتبِس لندا شيفرد بيت شعر لرالف والدو إمرسون R. W. Emerson يقول فيه:
ما هي العشبة الضَّارَّة؟
إنها النبتة التي لم نستكشف مزاياها بعدُ. (المترجمة)
٣  نسبة إلى الرِّواقية، وهي من مذاهب الفلسفة الإغريقية في عصرها الهلينستي ودامت عدة قرون. تنادي الرِّواقية بوحدة الوجود وخُضوعه لِحتمية صارمة، فلا يملك الفرد إلا أن يَنساق في قانون الضرورة الشامل. وبالتالي تُلغِي الرِّواقية الفَرْدانية تمامًا. (المترجمة)
٤  Traweek, Beamtimes and Lifetimes, p. 33.
٥  دولار الرمل sand dollar قنفذ بَحري له شكل مستدير ومفلطح بسبب هذه الاستدارة سُمِّي «دولار» وهو رملي لميله للمكوث في الأعماق الرملية. (المترجمة)
٦  مُقابَلة شخصية مع إيمي باكن في ١٧ يناير ١٩٩٠م.
٧  Nancy Griffith-Marriott, “Bodymind: An Interview with Candace Pert on Science, Feminism, Spirituality and AIDS,” Women of Power: 11 (Fall 1988), p. 25.
٨  N. H. Bass, A. Hess, A. Pope, and C. Thalheimer, “Quantitative Cyto-architectonic Distribution of Neurons, Glia and DNA IN Rat Cerebral Cortex,” Journal of Comparative Neurology 143: pp. 481–49025.
٩  Marian C. Diamond, Arnold B. Scheibel, Greer M. Murphy, Jr., and Thomas Harvey, “On the Brain of a Scientist: Alberty Einstein,” Experimental Neurology 88 (1985), pp. 198–204. Also discussed in “Fires of the Mind,” a program in the series: The Infinite Voyage, PTV Publications, P. O. Box 701, Kent. OH 44240.
١٠  في مُقابَلة أُجْرِيت مع إنجريث ديرب-أولسن، في ١١ يناير ١٩٩٠م.
١١  مُقابَلة شخصية مع إيمي باكن في ١٧ يناير ١٩٩٠م.
١٢  المصدر نفسه.
١٣  الورم القتاميني melanoma ورَم يُصيب الجلد ويكسبه قَتامة في اللون منه أنواع حميدة، وأخرى خَبيثة. (المترجمة)
١٤  مُقابَلة شخصية مع إيمي باكن في ١٧ يناير ١٩٩٠م.
١٥  Lewis Wolpert and Alison Richards, A Passion for Science (Oxford: Oxford University Press, 1988), p. 5.
١٦  Tannen, You Just Don’t Understand, pp. 75–77.
١٧  Robert Gallo, Virus Hunting: AIDS, Cancer and the Human Retrovirus: A Story of Scientific Discovery (New York: Basic Books, 1991), p. 165.
١٨  مُقابَلة شخصية مع سينثيا هَجِرتي، في ١٣ فبراير ١٩٩١م.
١٩  من حوار مع إيمي باكن.
٢٠  مُقابَلة شخصية مع ديانا هورن، في ١١ نوفمبر ١٩٨٩م.
٢١  اتصال شخصي مع بيكا ديكشتين، ٥ مايو ١٩٩٢م.
٢٢  مُقابَلة شخصية مع كريستينا كَتزاروس في ٤ فبراير١٩٩١م.
٢٣  المصدر نفسه.
٢٤  Sally Macdonald, “Publish or Perish Throttles Teaching Role, Author Says,” The Seattle Times (8 April 1990), p. B3.
٢٥  David P. Hamilton, “Publishing by—and for?—the Numbers,” Science 250 (7 December 1990), pp. 1331-1332.
٢٦  Jennie Dusheck, “Female Primatologists Confer-Without Men,” Science 249 (28 September 1990), pp. 1494-1495.
٢٧  Ibid.
٢٨  Alison Galloway, “All Women Conference: Did It Discriminate?” Science 249 (7 December 1990), p. 1319. وأيضًا في اتصال شخصي مع أليسون جالوويي. وفي خطاب مُرفَق إلى مجلة «ساينس» أشار مُنظِّمو المؤتَمر إلى أن الإسهامات تُغطِّي مجالات عريضة، تَتضمَّن الفيزيولوجيا البشرية، وعلم الغدد الصماء، والهرمونات التناسلية، وعلم الأعراق البشرية، وعلم النفس، وعلم الحفريات، وعلم الهيئة الوظيفية، والسلوك البيئي، وليس فقط علم الثَّدييات الرئيسية كما يفيد عنوان مَقال دوشيك.
٢٩  Joel N. Shrukin, “Sexism and Hypocrisy,” Science 249 (16 November 1990), p. 887.
٣٠  مُقابَلة شخصية مع إيمي باكن في ١٧ يناير ١٩٩٠م.
٣١  المصدر نفسه.
٣٢  Montgomery, Walking with the Graet Apes: Jane Goodall, Dian Fossey, Birute Galdikas, p. 81.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤