الفصل التاسع

الحدس طريق آخَر للمعرفة

إن الحدس — أي البصيرة أو المعرفة المُجتَناة من دون تفكير عقلاني مُثبَت — قد يبدو غامضًا ولا عقلانيًّا، لذلك ارتبط في ثقافتنا بالأُنْثَوية. ينكر بعض العلماء أن ثَمَّة شيئًا من قَبيل الحدس، قائلِين إنه مُجرَّد عدد كبير من الخطوات العقلانية الصغيرة التي تَحدث بصورة أسرع من أن نُلاحظها. ويستنكر رَجل المَنطق ضبابية الحدس، ويسميه تفكيرًا ضبابيًّا آخَرُون، من أمثال ماريو بنج في تحليله الفلسفي المعروف باسم «الحدس والعلم»،١ يَطرحون الحدس بوصفه رُؤى عَيِيَّة عاجزة عن الإفصاح وهواجس لا صلة لها البتة بالعقلانية.
تصف عالِمة النَّفْس فرنسيس فوجهان، في كتابها «إيقاظ الحدس»،٢ أربعة مستويات للوعي الحدسي: الفيزيقي، والعقلي، والعاطفي، والروحي. وبينما يَتضمَّن العلم في بعض الأحيان المُستويَين الفيزيقي والعقلي كما يَتمثَّلان في علماء؛ من أمثال: ألبرت أينشتين، وريتشارد فينمان، فنادرًا ما يُعْنى العلم بالمستوَيين العاطفي والروحي. أما الذي وُسِم على سبيل الازدراء أنه الحدس الأُنْثَوي فهو الحدس على المستوى العاطفي. هذا المستوى من الحدس يمكن أيضًا أن يساعد في الإرهاص بمشاكل العلم التي تَدور بين الأشخاص، وفي إعادة طرح حلول لها. إن الفتيات في ثقافتنا لا يُدرَّبْن على كَبْت المشاعر بقدر ما يُدرَّب البنون، لهذا تتعلم المرأة الاستدلال على المعنى من مجال الإشارات المُتبادَلة بين الأشخاص والذي غالبًا ما يتجاهَله الرجال. وتُشير دراسات تتناول حساسية البَشر للتواصل غير المنطوق إلى أن النساء يَمِلنَ إلى الاعتناء أكثر بالتلميحات البصرية من قبيل تعبير؛ الوجه، وإيماءة الجسد، ونبرة الصوت، والطريقة التي ينظر بها الناس إلى بعضهم البعض.٣ بَيْد أنَّ الحدس أكثر من ملاحَظة نافذة. إنه وعي كُلَّاني يتضمن حساسية مُنبثَّة في كِلا العالَمَين الداخلي والخارجي، ويعلو في بعض الأحيان على المُدخَلات الآتية عن طريق الحواس.

بعض النساء، مثل إنجريث ديرب-أولسن، يُمعِنَّ في إحباط مفهوم «الحدس الأُنْثَوي» لأنه يُستخْدَم كثيرًا للحط من قيمة تفكير المرأة. كان أبواها ذوي مَنزع عقلي (كلاهما حاصل على درجة الدكتوراه) وقامَا بتعليمها في المنزل برفقة أشقائها وشقيقاتها الستة، لم يُخبِرْها أحد البتة أن البنات لا يَستطعن التفكير أو ممارَسة الرياضيات. ديرب-أولسن الآن في السبعينيات من عمرها، وقد ترعرعت في جِيل مُعظَم النساء فيه كُنَّ ينبذن الدراسة العلمية، وكُنَّ خاضعات دومًا لثقل قول الناس «النساء لا يستطعن الفهم. النساء لا يعرفن الرياضيات. أنتِ حلوة جدًّا، ولكننا في النهاية لا نتوقع منك الفهم». قالت:

كان لديَّ دائمًا مشاكل مع «الحدس الأُنْثَوي» وحين كنتُ في كلية الدراسات العليا، وجدتُ نفسي في هذا الموقف المُحرِج. لم أجد مشكلة في تناوُل الرياضيات البسيطة المستخدَمة في علم وظائف الأعضاء، ولاقى مُعظم زملائي الذكور صعوبة؛ لأنهم لا يعرفون حساب التكامل، أو المعادَلات التَّفاضُلية. لقد أحببتُ الرياضيات فعلًا، وبالتالي كثيرًا ما وجدتُ نفسي في موضع حيث أستطيع بمُنتهى السهولة أن أشرح بعض الأمور الرياضية لزملاء أكبر مني. في إحدى المناسَبات، حين سألني ذلك الشخص كيفَ استطعتَ استنتاج هذا الشيء؟ قلتُ بدهشة، «كيف يُمكن ألا يفهم أي شخص شيئًا بسيطًا كهذا؟» وفيما بعدُ لاقيتُ لومًا شخصيًّا من زميل أكبر مني. قال إنه كان من الأفضل أن أقول: «حسنًا، إنه حدس أُنْثَوي.» حَسبتُ أن هذا كان من قبيل الاستهزاء. ولكن حين جاءت المَرَّة التالية، قلتُ هذا القول، وتقبَّلَه كل شخص تمام التَّقبُّل كما لو كان شدَّ ما هو طبيعي في هذا العالم. ومن ثَم خامرني الإحساس بأن الناس يقولون «حدس المرأة»؛ لأنه تعبير أكثر تهذيبًا من القول إن «أي شخص له نصف مُخ يمكن أن يفهم.» ولم تكن هذه مسألة حدس، بالنسبة لي. لقد خضتُ عملية عقلية مماثلة لما يفعله الذكور.٤

في حالات عديدة مشابهة، يُستخْدَم مصطلَح «الحدس الأُنْثَوي» على سبيل انتحال الأعذار لقدرة المرأة على التفكير. وعلى أساس النموذج النَّمطي الشائع للمرأة المحكومة بالغريزة والعاطفة، يسري هذا التفسير: النساء لا يستطعن التفكير، وبالتالي يجب عليهن استخدام الحدس للوصول إلى الإجابة الصحيحة. في الثقافة الغربية ذات المنزع التكنولوجي، حيثُ رفع قيمة العقلانية والموضوعية، يَشيع افتراض مفاده أن المعرفة الحدسية أكثر بدائية — وبالتالي أقل قيمة — من ضروب المعرفة المُسمَّاة موضوعية.

يشدد العلم الحديث على أهمية المُعْطَيات التجريبية والواقع الموضوعي (الإحساس) من ناحية، وعلى المنهج النَّسقي اللاشخصي (التفكير) من الناحية الأخرى، وبالتالي جرى الحط من شأن الشعور والحدس؛ إذ يسود المَيل إلى تُصورهما كأطروحة مناقِضة لمفهوم العلم، كسمات للتفكير مُبهَمة فطرية ذاتية. في وقت مبكِّر من القرن العشرين، كتب التجريبيون المَناطقة عن العلم بوصفه نمطًا فائقًا من المعرفة؛ لأنه قابِل للتحقُّق التجريبي، باستخدام المنهج الاستقرائي، يطرح العلماء فروضًا وبعد ذلك يرفضونها أو يثبتونها عن طريق الاختبار التجريبي. على أن بناء العلم هكذا يتجاهل الحدس، أو الخيال، أو تَلقِّي أفكار مُستجدة.

على أية حال، يلقى الحدس تقديرًا من بعض العلماء من حيث إنه يمكن أن يكون أداة مرموقة. وكما قال واحد من علماء رحلة أبوللو إلى القمر: «أتمنَّى لو كان لديَّ المزيد من حدس زوجتي والأقل من تَوجُّهي أنا للتعقل في مقاربتي».٥ إلا أن ارتباط الحدس بالنساء يحمل معه، في حالات عديدة، وصمةً. مثلًا، أَحسَّ واحد من علماء المناعة أن حدسه كان أساس نجاحه؛ لأنه يمنحه أفكارًا جيدة، ويشد أزره لمواصلة بوادر يُعرِض عنها الآخَرُون، ويساعده لحل مُشْكلات سقيمة البنية يَشيح عنها الآخَرون. ولكنه يَتردَّد في الحديث عن الحدس؛ لأنه يُعادِل بينه وبين الجانب الأُنْثَوي من شخصيته. قال: «لا أستطيع التَّحدُّث إلى زملائي عن هذا؛ سوف يَعتقدون أو يقولون إنني كنتُ نِسْويًّا جدًّا أو لا عِلميًّا للغاية، أو لا عقلانيًّا جدًّا» كان خائفًا من أن يضحك عليه الآخَرون إذا أقر بأنه يستخدم الحدس لإجراء البحث. ولن يكون هذا في صالِح سُمعَته. وبينما يعترف بأن زملاءه لن يُصدِّقوا على هذا أو يحترموه، اعتقد أن ألمع عالِم بيولوجي عرَفه كان واحدًا من أولئك القادِرين على «التواصل مع حدسهم».
تعتقد سارة صولا S. Solla، وهي فيزيائية نظرية في مُختبَرات بِل، أن جزءًا مكمِّلًا لنُضج العالِم في أن يجد الباب المؤدِّي إلى حدسه. إنها عضو في مجموعة عمل نظامية مُشترَكة تدرُس الشبكات العصبية — منظومات المحاكاة والنمذجة الآلية لسلوك المخ — وفي هذا تُعالِج صولا التمثيلات٦  analogies كجزء من العملية الحدسية لديها. قالت:
كل ما اعتدتُ أن أسميه ومضات الحدس له علاقة بتعقُّل شيء ما أعالجه بالفعل أو أفكر فيه، وبالتمثيلات إنها شيء يُذكِّرك بشيء آخر وتقول «لقد فكَّرتُ في تلك المشكلة بطريقة مُعيَّنة ربما تثمر المُقارَبة نفسها في هذه المشكلة».٧

تنشأ التمثيلات عن الخبرة الفردية. قد يعمل شخصان متزامِلان في المشروع المطروح بشكل متآلف للغاية، وفي غضون هذا تختلف الصور والتمثيلات المُكملة لعمليات التفكير لديهما اختلافًا جذريًّا. تجد صولا ملهاة مُسلِّية في أنها يمكن أن تتوافق تمامًا مع متزامل معها «ولكن لأسباب خاطئة كلية بمعنى ما، ويكون الوصول المحصلة بعمليات عقلية مختلفة تمامًا» إن عملية الحدس ذاتية تأتي من الداخل.

بينما ينكر بعض العلماء أنهم يستخدمون الحدس، فإنه ليس مُلقِيًّا في أعماق ظلال العِلم المُعتِمة كشأن الشعور. يعتمد علماء الرياضيات على البديهيات التي هي «مُبرهَنة بذاتها» أو «واضحة حدسيًّا». بعض مَيادين العلم، كتلك التي تَتناول الجوانب النظرية للفَلك أو الجيولوجيا، تَجتذب ذوي الأنماط الحدسية أكثر من سواهم. التجارب عسيرة في هذه الميادين، إن لم تكن مستحيلة. مثلًا، يعتقد واحد وخمسون في المائة من الرجال الذين يَدرسُون صخور القمر التي جلبَتْها رحلات أبوللو أن العقلانية والحدس يجب أن يسيرَا متآزِرَين، أن يُدعِّم كِلاهما الآخَر. قال واحد منهم: «إن قدرًا كبيرًا من الحدس يَنبث في أعطاف العالَم الكفء، ثَمَّة تفكير تحت الوعي. الرجال العقلانيون من رأسهم إلى إخمص قدميهم لا يخرج منهم عالِم كفء».٨ وجد أولئك الرجال في العقلانية والمَنطق والمنهج النَّسقي، من دون الهواجس والحدوس؛ خَواء وتقييدًا. وبالمثل، يعتقدون أنه من دون شكل ما من أشكال العقلانية يَظل الحدس الأهوج ببساطة مفتقِرًا إلى التَّعقُّل، والهدف، والنظام.

الحدس من حيث هو نمط سيكولوجي

كما أوضحنا في الفصل الثالث، الإحساس والحدس ضَربان للإدراك. يُشير الحدس إلى ضرب لإدراك الأشياء بوصْفِها احتمالات. بينما يُدرِك الإحساس الأشياء بما هي عليه، في انعزال، وبالتفصيل، نجد الحدس يدرك الأشياء بما يمكن أن تكون عليه وككلٍّ، كما يذهب الجشتلط. الحدسي يرفع الإدراك اللاواعي إلى مستوى المعادَلات التفاضلية، عن طريق إدراك حسَّاس ومُرهَف. ومثلما نُدرِّب عيوننا على رؤية الظلال الدقيقة للألوان، نستطيع كذلك أن نُدرِّب حدسنا على تَبيُّن وتأويل مختلف أنواع المثيرات الواعية البليدة. يصف يونج الحدس كالآتي:

إنه الوظيفة التي تَتوسَّط المُدرَكات بطريقة لا واعية … في الحدس يَعرِض المحتوى ذاته ككل ومكتملًا، من دون أن نكون قادرِين على تفسير ذلك المحتوى أو اكتشاف كيفية مَجيئه إلى الوجود. إن الحدس نوع من التقدير الغريزي، بِغضِّ النَّظر عمَّا هو المحتوى. إنه، كالإحساس، وظيفة لا عقلانية للإدراك، مَحتوياته لها خاصية أن تكون «مُعطاة»، في مُقابِل خاصية محتويات التفكير والشعور التي تكون مستدلًّا عليها أو «مستنتَجة». تمتلك المعرفة الحدسية يقينًا غريزيًّا وإقناعًا، مما مكن سبينوزا (وبرجسون) من الاستمساك بالعلم الحدسي بوصفه أرقى أشكال المعرفة. الحدس يَتقاسم هذه الصفة مع الإحساس، الذي يرتكن يقينه على أساس فَيزيقي. أما الحدس فيرتكن يقينه بالمِثْل على حالة مُتعيَّنة ﻟ «يقظة» النَّفْس تكون الذات لا واعية بأصلها.٩

نمط الإحساس، في العلم، هو النمط التجريبي المُسترشِد بالوقائع، ويُعْنى بألَّا يتجاوز تقديره الاستقرائي إيَّاها. وفي حدِّه الأقصى، يمكن أن يصبح مَن يضطلع بالإحساس مربوطًا بالوقائع، يظلُّ دائمًا يجمع الوقائع فقط بدلًا من أن يُغامِر بتعميم يتجاوز حدود الوقائع الصلدة. وإذ يواصل عمله بِهمَّة وكد، يمكنه أن يقضي سنوات يَتحقَّق من فروض تافهة أو يُجرِي أبحاثًا لا معنى لها. وعلى العكس من هذا، نجد فضيلة أصحاب نمط الحدس في أنهم يُمعِنون النَّظَر في الوقائع ثم يتجاوزونها بالفعل في تقديراتهم الاستقرائية، مُستبصِرين احتمالات المستقبَل. تقفز وظيفة الحدس إلى المقدِّمة لتتساءل «ما الذي سأفعله بهذا؟ إلى أين سأذهب الآن؟ ماذا يَعنِي هذا؟» مَن يضطلع بالإحساس يُدرِك التفاصيل، بينما يبحث الحدسي عن النماذج. من دون الحدس، يجمع الباحثون المُعْطَيات بمنتهى الكفاءة من أَجْل ملء الفراغات أو المزيد من الدِّقَّة وصولًا إلى كَسْر عَشري أعلى، ولكن نادرًا ما يُنتِجون أي شيء جديد. سرعان ما يصوغ الحدسي رُؤًى شاملة وكاسحة للمشاكل، ويُولِّد عددًا كبيرًا من الفروض الشَّيِّقة. ولكن في الحد الأقصى، قد تكون الفروض خيالية وغير قائمة على مُعْطَيات إطلاقًا. يمكن أن يَنتُج هذا عن سوء فَهْم وتصادمات بين النمطين، كما حدث مع رئيسي في العمل.

وبوصفي من نمط الإحساس الانطوائي، فإني حسَّاسة وعَملية: أقدامي ثابتة في العالَم الواقعي وفي الحاضر. وقمتُ خلال تدريبي العلمي بتطوير وظيفة التفكير لدَيَّ. وفي وقت لاحق قُمتُ من خلال عملي في علم النَّفْس بتطوير وظيفة الشُّعور لديَّ. ولكن ظَل الحدس في الأعم الأغلب قابعًا في منطقة الظِّلال المُعتِمة فيَّ. وتبعًا لنظرية يونج، نَجد الوظيفة الرابعة (وهي الوظيفة المقابِلة للوظيفة الأَوَّلِية في الزوجين التفكير/الشعور، الحدس/الإحساس)، هي آخر وظيفة يجري تطويرها، وتظل دائمًا الوظيفة الأضعف. بالنسبة لي، يبدو الحدس سحريًّا. كنت أراوده بصورة غير مباشرة من خلال وظيفتَي التفكير والشعور في. وجدتُني مُنجذِبة إلى الأنماط الحدسية، مُنبهِرة بخيالهم ورُؤاهم وقدرتهم على التأليف، وحدس المعنى من وقائع وأفكار تجريبية ونظرية واسعة الاختلاف. وإني لأغبط موهبة الحدسي في إدراك المعنى والدلالة الدَّاخليَّين، رؤية ما هو مُختفٍ في الزوايا وتحت السطح. ومع هذا واجهتني، في أحد مواقف العمل، أكبر صعوبة وهي تَتعلَّق شخص من نمط التفكير الحدسي الانبساطي بهرني بسيل مُنهمِر من الأفكار، ووقت لا يَتَّسع، وموارد لا تكفي لتنفيذها.

كان رئيسي مغامرًا انبساطيًّا، وهو الذي افتتح شركة التكنولوجيا الحيوية التي عملتُ فيها خمسة أعوام، وكان يَستخدم الحدس كوظيفة أساسية عنده والتفكير كوظيفة مساعدة. إنه بوب نوينسكي B. Nowinski شارح بارع للعلم، يأسر خيال المستمع ببديهته السريعة والتمثيلات الحاضرة لديه. وبِتمكُّنه من التفكير المترامي النطاق ومُصطلحات المفاهيم، سرعان ما يَتفهَّم الأفكار الجديدة، ويتبيَّن كل السُّبل الممكنة لتطبيقها، جاعلًا حماسه ينتقل إلى الآخَرِين. وكان من نظام العمل المعتاد أن يَثِب فجأة إلى اجتماعاتنا العلمية، مستوعبًا المُعْطَيات، وطارحًا تجارب واتجاهات جديدة، ثم يَقفل فجأة خارجًا من الحجرة، تاركًا إيَّانا لنَتَمازح، «مَن كان هذا الرجل المُقَنَّع؟» لقد أَعجِبتُ برؤاه وعبقريته. ولكن حين وصل الأمر إلى العمل الشاقِّ لتنفيذ هذه الأفكار وتحويلها إلى واقع عيني ملموس، لم يستطع أن يفهم لماذا استغرقَتْ هذا الوقت الطويل. كان قليل الاحترام للوظائف الدنيا في الشركة، وصَوَّب انتباهه إلى جماعات البحث التي تأتيه بمُعْطَيات جديدة تتأبَّى وتَتدلَّل. أحسَّ بأنه مشدود لكل ما يجلب منتَجًا جديدًا للسوق. حين عرضتُ عليه تحليلات وشروح مُفصَّلة لسائر المهام والجداول المطلوبة لإنجاز أحد المشاريع، نظر إليها بدهشة وقال: «أنا لا يمكن أن أفعل هذا أبدًا! وسرعان ما انتقل ذهنه من مشروع إلى المشروع الذي يليه، مُتبيِّنًا كل المنتَجات المحتمَلة التي يمكن أن نبدعها. أصابه الملل والإحباط من الإيقاع البطيء لعمل المُختبَر. كان يندفع قُدمًا إلى الكد والكدح في مَسار جديد، قابعًا على الدوام تحت رحمة أفكار جديدة. وحين طوَّرْنا نحن العلماء في الشركة أحد المنتَجات، كان قد تَعهَّد لنا فعلًا بثلاثة خطوط إنتاج إضافية (هذا ما وثَّقه كتاب روبرت تايتلمان «أحلام الجين»).١٠

لقد حدث صراع مماثل بين عالِمة الفيزياء الحيوية سينثيا هَجِرتي والمُشرِف عليها. أدارتْ هَجِرتي بحثها بطريقة حدسية. في وقت واحد جَرَّبت العديد من المُقارَبات المختلفة حتى استشعرَت السبيل الذي يُؤدِّي إلى العمل بأفضل صورة. وحينئذٍ حوَّلَت كل الجهود في المُختبَر إلى ذاك السبيل. ولسوء الحظ، لم يَتفهَّم المشرف عليها مُقارَبتها الحدسية. وإذ راودها «شعور باطني» بالمُقارَبة التي تَسير بشكل جيد، فإنها لم تستطع أن تفصح عن أسبابها. وفي محاولة من مُشرِفها لتفهُّم العمل وتوجيهه، طلب منها أن تُدوِّن كل أسبابها ومُبرِّرات خياراتها:

لقد وصل إلى طريق مسدودٍ تمامًا حين أخبرْتُه بأسبابي للحكم بأن هذا المشروع جيد. كان يريد كل تلك الأسباب الخطية المَنطقية التي تُبرِّر لماذا نقوم بهذا المشروع أو ذاك؟ لم أُرِد أن أُضيِّع وقتي في إجراء هذا. وأخيرًا امتنعتُ عن إخباره ريثما يتوافر لي قَدْر كبير من المُعْطَيات. كنتُ أخوض في المشروع بقصارى ما أستطيع قبل أن أخبره بما كنتُ أفعله. وعادة ما كنتُ أستشعر ما يَنبغي أن يُفْعَل. ولهذا السبب أنَجَزْنا الكثير الجمَّ!١١
ويكتب مُحلِّل يتبع يونج، وهو جوزيف هويلرايت J. Wheelwright عن الصراع بين مناهجه الحدسية الانبساطية لتشخيص المرضى، وبين مناهج طبيب من أصحاب نمط الإحساس. فقد طلب منه الطبيب البارع في التشخيص لورد هوردر Lord Horder، إبَّان تناوُبهما العمل في التدريب الطبي، أن يفحص مريضًا. وعلى الرغم من أن كليهما وصَل إلى النتيجة نفسها، اعتبر هوردر مناهج هويلرايت الحدسية غير مقبولة. ويحكي هويلرايت:

أنعمتُ النَّظر، وكان ثَمَّة ذلك الرجل راقدًا في الفِراش من دون أية أعراض ظاهرة. فعلتُ ما بدا لي أنه أفضل ما يمكن أن أفعله، نظرت من النافذة لبعض الوقت. لكن لم أصل إلى أي شيء، وبالتالي حاولتُ الوصول إلى شيء بأقصى ما أستطيع، وهكذا وصلتُ. أتاني كل شيء واضحًا؛ ولم يكن في ذهني أي شك. استدرت وأنا أبتسم ابتسامة عريضة، وقلت بصوت مُفعم بالثقة: «سيدي لورد هوردر، هذا الرجل يعاني من الدرن الرئوي».

ما رأيت قط رجلًا احتقن وجْهُه بمثل هذه السرعة. وأعرب عن غضبه مني قائلًا: «كأمر واقع، هذا الرجل يعاني من الدرن الرئوي، بَيْد أنَّ هذا غير ملائم إطلاقًا! كيف عرفتَ ذلك أصلًا؟ الرَّبُّ فقط هو الذي يعرف هكذا. ألا تعلم أن هناك منهجًا للتشخيص طوَّره الأطباء؟ إنه منهاج يَسْري لأنه إذا كان لدى رجل ما قدر من الجِعة في برميل كبير وهو لا يعلم ارتفاع مستوى السائل، فإنه بالتالي يشرع في الطَّرْق على البرميل الكبير. ونحن نُسمِّي هذا نَقرًا. وكان يمكنك أن تُجرِّبه على ذلك الرجل، أتعلم، نحن نفعله على القَفَص الصدري؟» ثم أردف قائلًا: «إني أرى شيئًا ما معلَّقًا من جيبك، وأحسَب أن اسمه سمَّاعة الطبيب. كنتَ تستطيع أن تضعه على صدره، وإذا كنتَ عاقلًا ومتعقلًا لكان عليك أن تَتحسَّس درجة حرارته قبلًا بباطن كَفِّك. وكان ينبغي أن تقول: يا عزيزي، قل ورائي تسعة وتسعين، هل فعلتَ أيًّا مِن هذه الأشياء؟ كلَّا! هل نطقتَ كلمة واحدة؟ وتعلم أنه كان ينبغي عليك أن تفعل، فنحن نفعل ذلك كثيرًا جدًّا لا بُدَّ أنك قلتَ: ما الذي أتى بك إلى هنا أيها الرجل الفاضل؟»١٢

البعض يرون الحدس مُناوئًا للعقل، أو كنوع من الدَّجَل. الحدس بالقطع له جانبه المُظلم، مثله مثل أية خاصية تَتطرَّف حتى حدها الأقصى. ولا شيء يشل الحركة أكثر من أن يكون ثَمَّة عدد لا مُتناهٍ من الاحتمالات. وحينما لا يتوازن الحدس بالوظائف الثلاثة الأخرى، يمكنه أن يكون هائمًا وغير عملي ولا واقعي، تمامًا كما نَجد الحِسِّيِّين في الحد الأقصى يمكن أن يَبذُلوا الجهد الهائل من أَجْل مردود هزيل، عاجِزِين عن أن يروا إلى أين يمضي بهم كل هذا العمل الشاق. إن الرُّؤية المَحدودة للحِسِّيين المُتطرِّفين يمكن أن تصل إلى الانحصار في بؤرة من مشاكل تَحدَّدتْ بحدود ضيقة ونتائج ضئيلة ما دامت التساؤلات حول المعنى الأرحب قد فاتَتْهم. ولأن مارشا لاندولت تعترف بحدود نمطها، فإنها تتزامل مع «رجل فكرة». ويُشكِّلان معًا فريقًا فعالًا. قالت:

لم أرَ نفسي أبدًا كعالِمة مُبدِعة إبداعًا مَهولًا، ثَمَّة بالقطع أشياء أفعلها بشكل طيب للغاية. فأنا مُدرِّسة جيِّدة، وإدارية جيدة، ومُثيرة للهمم جيِّدة. وأعتقد أن أحد الأسباب التي تجعلني أنا وزميلي نعمل معًا بهذا الشكل المحمود في أنه رجل فكرة مدهش. أنا الشخص الذي يجعل المجموعة المُتناسبة من الناس تعمل معًا، أظفر بالرُّعاة في قلب العمل، أتَتبَّع الميزانية والعملية التي تسير بين لحظة وأخرى. سابقًا حين كان الناس يقولون: «يا للعجب، نكره أن نراكِ غارقة تمامًا في خِضَم الإدارة»، وقلتُ: «انتبِهوا، إني أمارس العلم بطريقة تشبه كثيرًا عَزفي على البيانو، حين يعزف فلادمير هوروفيتس V. Horowitz على البيانو يكون هذا شيئًا سحريًّا. حين أعزف أنا على البيانو، يكون هذا شيئًا منضبطًا. وثَمَّة بَوْن شاسع بين السِّحر والانضباط. لم أكن أبدًا باحثة من نمط ساحر. أنا أعمل على نحو واعٍ ومُنضبِط. وبعد أن تفعل هذا على مدى عشرين عامًا تفقد الاهتمام والتشويق.١٣

أجل، يَثِب بنا الحدس إلى قلب المستقبل، يرى أشياء رائعة، ويَهبُنا أفكارًا آسرة، بيد أنه لا يجعلنا نصيب الهدف بطريقة سحرية. إن الأفكار اللامعة، والنظريات التي تتأبَّى وتَتدلَّل، والهواجس الغامضة، لا بُدَّ من تحليلها وترتيب الأولويات فيها باستخدام التفكير والشعور. ثم يستلزم الأمر عملًا شاقًّا في العالَم المادي، لكي نجلب الحُلْم إلى أرض الواقع، ونُصدِّق على الهاجس أو النظرية. الوظائف الأربع؛ داخل الفرد، أو داخل المُختبَر، أو داخل الشركة، أو داخل النظام العلمي، جميعها مطلوبة من أَجْل إتمام المشروع. ومن خلال معرفتنا بالنمط السيكولوجي الخاص بنا، بمواهبنا وقصوراتنا، نستطيع عن وعي أكثر اختيار المُتزامِلِين الذين يُتمِّمون قُوانا، بدلًا من أن يكونوا تكرارًا كَمِّيًّا لها. أما احترام كل نمط على حدة والتعاطف معه فيؤدي إلى أنجح علاقات وينتج العلم الأفضل.

استمالة الحدس

حين نريد إنجاز المزيد من العلم، نُنجِز المزيد من التجارب، نعمل بشكل أسرع أو ساعات عمل أطول لنستخرج مُعْطَيات أكثر. ولكن من الأرجح أن يعطينا هذا مزيدًا من الأنواع ذاتها من المعرفة. نادرًا ما يَنتُج عن هذا اقتحامات من تلك التي تتأتَّى عن طريق «وثبة الحدس». يختلف الحدس عن العمل الأكثر جدية أو التنظيم الأفضل، في أنه لا يمكن دفعه أو التحكم فيه، لا بد من استمالته. حين نفعل ذلك، يَهبُنا المزيد من الخيارات، وبالتالي المزيد من الحرية. ولسوء الحظ، نجد الضغوط السياسية والإدارية والاقتصادية للعلم الحديث تجعل من الصعب الترحيب بحالة العَقْل المُسترخي المُتخفِّف، التي تعزز العملية الحدسية. يَغبِط الفيزيائي النظري إبرهارد ريدل الزمان الذي كان يستطيع فيه أن يَتمكَّن من جَعْل عقله يطفو في حالة من اللازمانية، من دون انقطاعات تجعله يرتج مصطدمًا بالواقع:

يَسوءني أن أكون مدفوعًا في داخل قالب يجعلني مشغولًا مشغولًا مشغولًا طوال الوقت من دون وقت «للهو» أشعر أني أنجز الأكثر في أبحاثي حين تتواصل عَبْر أوقات لا يقاطعني فيها شيء. أشعر بالاكتئاب حين يصيبني الدور، ويَغدُو لزامًا عليَّ الذهاب إلى اجتماع. حينئذٍ يبدوا الاجتماع عُدوًّا. هذا عبء ثقيل عليَّ. إني أتخوف من سياسات مجتمع البحث العلمي الذي يتنافس على التمويل. إنهم يَبلُغون حدَّ التطاعن بالنِّصال حين يَشح التمويل».١٤

إن الحدس شأنه شأن سائر الخصائص المميزة للذكورية أو الأُنْثَوية، هو إمكانية إنسانية يستطيع أي شخص أن يطورها. أجل لا يعتبر الشعور في ثقافتنا رجوليًّا إلى حد كبير، إلا أنَّ الحدس أكثر قبولًا إلى حدٍّ ما. وكما كان الحال مع علماء رحلة أبوللو إلى القمر، يقبل باحثون كثيرون الحدس بوصفه مُتممًا لوظيفة التفكير لديهم. ربما كان التفكير والإحساس هما الوظيفة الأولية، وأُولى الوظائف المساعدة بالنسبة لغالبية العلماء، وعلى الرغم من ذلك نجد الجانب النظري من العلم يجتذب أيضًا نمط التفكير الحدسي.

ربما دخل الحدس في ذات الهُوِيَّة مع الأُنْثَوية؛ لأنه يتطلب من العقل حالة التَّلقِّي. وأولئك الذين درسوا العملية الحدسية لاحَظوا أربعة أطوار للوصول إلى العملية الحدسية: (١) ضَرْب التأهُّب أو «الإدخال»، حيث يُوجِّه الشخص سؤالًا إلى اللاوعي ويُزوِّده بالمعلومات. هذه مرحلة من مراحل التفكير الواعي المُكثَّف، والقراءة والبحث. (٢) الاختمار أو ضَرْب «التشغيل»، حيث تَمور المعلومات المتراكمة في اللاوعي. تَوقَّفتْ كل المُدخلات، وحان وقت الاسترخاء، أحلام اليقظة أو التأمُّل أو النوم. (٣) الإضاءة أو ضَرْب «المُخرَجات»، حيث تُنتِج عملية غامضة حلًّا للمشكلة في وَمضَة، يبدو آتيًا من حيث لا أين. (٤) ضَرْب التحقق، وهي المرحلة التي تتمايز فيها الخيالات عن الإلهام، ونُفرِّق فيها بين الأوهام وبين الاستبصارات.١٥
يعتمد بول هاملتون P. Hamilton، وهو مُحلِّل نُظم في شركة بوينج لخدمات الحاسب الآلي، على حدسه في حل المشكلات. أجْل، يعلم أنه لا يستطيع أن يدفع حدسه دفعًا، لكن تعلَّم أن يفتح له الباب على مصراعيه. ينعتُ منهجه بأنه ينزلق برشاقة على سطح عقله. يحتفظ بعقله الواعي ساكنًا ومتمركزًا حول السؤال، كما يحدث في حالة تأمُّل المستوى التحتي. على الرغم من وعيه بالأفكار العشوائية، كأن يندهش حين تستوي رابطة عنقه تمامًا، فإنه يبقى حاضرًا منتبهًا لبزوغ إجابة. وبينما لا يستطيع أن يتحكم في هذا، يستطيع أن يستقبل مجيئه، مثلما تحتشد عطسة. التفكير التحليلي يوقفه. وحينًا تلمع أمامه الومضة، يقفل حينئذٍ راجعًا ويُشيِّد تسلسلًا منطقيًّا كي يشرح للزملاء «تفكيره الاستدلالي». يجد مُتطلَّبات الواقع الخارجي تستثير نشاط الخيالات الإبداعية. بعد الانبِثاقَة الأولية للاستضاءة يأتي التفاعل الدينامي بين الحدس والتحليل، إنه يثق في حدسه ويعتمد عليه؛ لأنه يرعاه ويتمرس دائمًا على استخدامه.

وتعزو إحدى المهندِسات نجاحها إلى حدسها. وهي تلاحظ أن:

هناك نمطان من المهندسين: ثَمَّة النمط الذي تُفكِّر فيه عادة، المهندس البارع جدًّا في التفاصيل، إنه نمط الإحساس الذي يجلس مُركِّزًا في الوقت المَعنِي على وظيفة واحدة، يُنجزها خطوة خطوة. أنا أختلف كُلِّية عن هذا. ولستُ في واقع الأمر الشخص الذي يُعنَى جيدًا بالتفاصيل. أستطيع أن أُركِّز قصارى ما يحتاجه الأمر من تركيز، لكن كفاءتي الحقيقية في تناوُل دستة من المشاريع المختلفة في وقت واحد من دون أن أتبلبل. ما أفعله هو إنعام النظر في الأمر، لأراه بُرمَّته، وأعود به إلى الأتون في عقلي من أجْل فرزه وترشيحه، وحينئذٍ غالبًا ما تبرز الإجابة الوحيدة المُطابِقة (أو طريق الحصول على الإجابة)، تبرُز في حلم منتصف الليل، أو بأي شكل كان. أفعل هذا دائمًا، وتلك على وجه الاستحقاق الخاصَّة النادرة التي تأتيك حين تكون حدسيًّا. ويقيني أن هذا هو السبب الذي يجعلني أرتقي أكثر من أي فرد آخر في المجموعة. ليسَت المسألة ما تُفكِّر فيه بشكل عام من حيث هو قُدرة هندسية، بل ما هو بالِغ الأهمية في واقع الأمر، إنه على الأرجح الجانب الإبداعي من الهندسة. كثيرون من الناس يعتقدون أن المهندسين مُجرَّد سخرة عقلية، يَشقُّون خُطاهم عَبْر الحسابات الدقيقة من صفحة إلى صفحة. هذا أحد نمطي المهندس. النمط الآخر هو النمط الإبداعي الأقرب شبهًا بالعلماء، النمط المُفعَم بالبصائر.

تميل ومْضَة الحدس إلى أن تبزغ خلال أوقات الاسترخاء؛ أثناء الاستحمام، أو أثناء الحلم أو حين السَّير في نُزهة على الأقدام، أو حين يرنو البصر إلى النجوم عَبْر النافذة. إنها تَفلت من سيطرة مقولات العقل الصارمة التي تنحو نحو الإنجاز. وكذلك نجد الصدمة والقَلق والإجهاد تُثبِّط من هذه العملية. إن العقل الحدسي المُستكشِف المتخفِّف المسترخِي يختنق في أجواء التَّوتُّر والقلق التي تخلقها الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالعلم العامة؛ إذ تبدو بالغة الخطورة والإلحاح. العقلانيون لديهم في الأعم الأغلب أفكار جيدة، لكنهم يحسبونها حينئذٍ لغوًا، وينهمكون في مخطَّطاتهم العقلانية. تَسُود أجواء العلم التنافسية في يومنا هذا، حتى شعرَت عالِمة المناعة جولي دينز J. Deans بضغوط مستمرة لكي تُنتِج. إنها تفتقد أيَّامها كطالبة دراسات عُليا، حيث كان الوقت يَتَّسع للمزيد من التفكير والتأمل. «مع المؤتمرات وكتابة الأبحاث والعمل المستمر على طاولة المُختبَر، لا يوجد وقت كافٍ لكي تكون مبدعًا. لم تَتبَدَّ أمامي أبدًا فسحة من الوقت لكي أتوقف وأندهش. وما دمتُ أجدني دائمًا أكثر وأكثر انشغالًا، يبدو من الأصعب أن أنَسلَّ وأُغامر. إني في حاجة إلى المزيد من الوقت لكي أُفكِّر وأدع الأفكار تمور.»١٦

كما يخبرنا القول المأثور «ما في الأعيان هو ما في الأذهان»، ومن ثم نَميل إلى الثقة في المعلومات التي نتلقاها عن طريق حواسِّنا أكثر من أن نثق فيما هو آتٍ عن طريق الحدس. على أية حال، يمكن في واقع الأمر أن يخدعنا هذان الضَّربان من الإدراك كلاهما. لا الإحساس ولا الحدس وظيفة عقلية أو تقويمية. الإحساس يعطينا معلومات عن العالَم. ويكشف الحدس عن إمكانيات ويُزوِّدنا ببصيرة تنفذ إلى طبائع الأشياء. لكن لا واحد منهما يمكن أن يحل محل التقويم العقلي أو الاعتبار الأخلاقي للمعلومات التي نتلقَّاها. وتمامًا كما أن التفكير والشعور وظيفتان من وظائف الإدراك تحتاجان إلى تغذية استرجاعية، يحتاج الإحساس والحدس بالمثل إلى تقويمهما بواسطة الوظيفتين العقليتين للتفكير والشعور. لا بُدَّ من تمييز الإدراك الصادق عن خداع الذات وعن التفكير المنطلق. شدَّد يونج على أنَّنا لا يجب أن نقبل بسلبية ما يكشف عنه حدسنا بوصفه حقيقة مُطلَقة، بل يجب بالأحرى أن نتفاعل معه في حوار روحي، فنثير التساؤلات ونُبدِي اعتراضات.

الحدس المُجسَّد

يعطينا ألبرت أَينشتَيِن مثالًا للعالِم الحدسي، كان مختومًا كلية بخاتم خياله حتى بات يحوم حول اللاوعي في عالَم الحياة اليومية، عالَم الإحساس. كان من المعتاد أن يَنسى مفاتيحه وقُفَّازاته، وغالبًا ما يفوته ارتداء سترة، أو تمشيط شعره. في يوم من الأيام، بينما كان يَتنزَّه سيرًا على الأقدام في الطُّرقات المحيطة بمنزله في برينستون، نسي أين يقع مكان إقامته. كانت اكتشافات أَينشتَيِن العظمى المُبكِّرة قائمة جميعها على حدس فيزيقي مباشر. وفي عامِه الستين وصل إلى الفكرة التي أحدثت ثورة في الفيزياء. قال: «إنها [بصريات الحركة] أتتني بفعل حدسي. جعلني أبواي أَدرُس الكمان منذ أن كنتُ في السادسة من عمري. ويأتي اكتشافي الجديد نتيجة للمَدارك الموسيقية.»١٧
انفصل أَينشتَيِن عن الوضْعيِّين المَنطقيِّين بفعل تعبيره المتواتر عن اعتماده على الحدس: «ليس ثَمَّة طريق منطقي يُفضي إلى اكتشاف هذه القوانين الأولية. ثَمَّة فقط طريق الحدس».١٨ «الحدس بارتكانه على الفهم المتعاطف، هو فقط الذي يستطيع أن يفضي إلى [هذه القوانين] … التَّوق إلى رؤية الانسجام [الكوني] مَنبع صَبْر ومُثابَرة لا ينفدان … إن حالة العقل التي تُمكِّن رجلًا من القيام بعمل من هذه النوعية مماثِلة لحالة العابد المتديِّن أو العاشق؛ لا ينبثق الجهد اليومي عن نِيَّة مُتعمَّدة أو برنامج مقصود، بل يصدر عن القلب.»١٩ بدلًا من معالَجة موضوعات فيزيائية، «أبْصَر» الرياضيات. استطاع بخفة أن يعيد إنتاج وربط موضوعات خياله بسهولة ويُسر تمامًا كما لو كان يعيد إنتاج، وربط الموضوعات الخارجية المَرئية. كتب يقول: «لا تبدو الموضوعات التي تتعامل معها الهندسة من نمط مختلِف عن نمط موضوعات الإدراك الحسي التي يمكن رؤيتها أو لمسها.»٢٠
وأيضًا يُجسِّد الفيزيائي ريتشارد فينمان R. Feynman حرية العالم الحدسي المتخففة. حاج بأن أَينشتَيِن أخْفَق لأنه «توقَّف عن التفكير في الصِّوَر الفيزيائية العينية وراح يتلاعب بالمعادَلات». وبينما كانت اكتشافات أَينشتَيِن المُبكِّرة جميعًا قائمة على الحدس، كانت نظريَّاته المتأخِّرة عن المجال المُوحَّد، وفقًا لما يقوله فينمان، مُجرَّد فئة من المعادلات من دون معنًى فيزيائي.
لقد حصَل المُنظِّر البارع فينمان على جائزة نوبل في الفيزياء العام ١٩٦٥م لعمله في إعادة تعريف مبادئ أساسية في إلكتروديناميكا الكوانتم. ميَّز صديقه، الفيزيائي فريمان دَيسون F. Dyson، مُقارَبته الحدسية بإفصاحه عن أن تعليقًا قِيل عن نيوتن ينطبق بالمِثْل تمامًا على فينمان. «كانت المَوهِبة الخاصة به في مُواظَبة ذهنه على الاستمساك بمُشكلة عقلية ريْثَما يتراءى له طريق الخروج منها. يلوح لي أنَّ تُفوُّقه راجِع إلى اقتدار حدسه الذي كان أمضى وأطول باعًا من أية موهبة ظَفر بها الرجل على الإطلاق.»٢١
لَعب ديسون دَور الجهة التي تُضخِّم إنجازات فينمان بتطويره لرؤية فينمان الموحدة للتفاعلات بين الإشعاع والإلكترونات والبوزيترونات. وفي مُقارَبة عميقة وأصيلة، اختَطَّ فينمان رسومًا بيانية بسيطة كتمثيل تخطيطي للتفاعلات بين الجُسَيمات. وفَّرَت هذه الرسوم البيانية العبقرية تمثيلًا يسهل تَصوُّره للتعبيرات الرياضية المُعقَّدة. مَبدئيًّا، لا أحد البتة باستثناء فينمان كان يستطيع أن يستخدم نظرياته؛ لأنه كان «يستحضر حدسه دائمًا لوضع قواعد اللعبة التي يخوض فيها.»٢٢ إلا أن نسيج الفيزياء قد تَشبَّع طوال الثلاثين عامًا الماضية بهذه الرسوم البيانية، التي تُسمَّى الآن رسوم فينمان البيانية. يصف ديسون طراز فينيان الحدسي:
كانت فيزياء ديك أصعب من أن يستوعبها الفيزيائيون العادِيُّون، والسبب في ذلك أنه لم يستخدم المعادَلات … فقط يُدوِّن دَيك الحلول الخارجة من رأسه من دون مُجرَّد تدوين المعادَلات. كانت لديه صورة فيزيائية لطريقة حدوث الأشياء، أعطَتْه الصورة الحلول بشكل مباشر مع الحد الأدنى من الحساب ... كان الحساب باستخدام النظرية الأصولية يستغرق مِنِّي بضعة شهور من العمل الشاق وبضع مئات من أوراق المُسوَّدات. كان دَيك يستطيع أن يصل إلى الإجابة نفسها، بإجراء الحسابات على السبورة، في نصف ساعة».٢٣
لقد طوَّر شكلًا خاصَّا من نظرية الكوانتم يفيد في حل بعض المشكلات أكثر ما يفيد الشكل الأصولي التقليدي، وهو بصفة عامة دائم المُناوَشة بأفكار جديدة، ومُعظمُها أفكار تأمُّلية أكثر من أن تكون أفكارًا مُفيدة، ومن الصعوبة بمكان أن تتجاوز أي مِنها رؤًى أحدث تُغطِّي عليها.٢٤
في العام ١٩٨٦م، أصبح فينمان معروفًا لعامَّة الشعب بوصفه عضوًا في اللجنة الرئاسية التي تَشكَّلت لبحث انفجار مَكُّوك الفضاء تشالنجر. وبينما كان أعضاء آخَرون في اللجنة يقرَءُون وثائق، ويَحضرون اجتماعات ويَستمعون لأقوال، كان فينمان يَجوب أنحاء القُطْر فاحصًا كل صنوف الأشياء غير العادية. ومن خلال أحاديث غير رسمية مع الفَنِّيِّين، سرعان ما تَوصَّل إلى استيعاب مُنظومات المَكُّوك. وبدلًا من أن يقوم بفحص نَسَقي لكل أقسام وكالة ناسا، تبادَل الحديث مع جَمهرة العمال، وتناوَل الغداء مع المهندسين. أنْصتَ إلى مشاغل رجال القاع مثلما أنْصتَ إلى الذين يَشغلون المناصب العليا. من خلال سَبْره غير التقليدي، اكتشف أن الفَنِّيين عرفوا المَخاطر والمشاكل التي تَجاهَلها المدراء أو أخْفَوها. وحين أصاب فينمان المَلل بسبب المُوجَزات الرسمية، اصطنع لنفسه ألعابًا، أن يَتخيَّل ما يمكن أن تكتشفه اللجنة إذا ما أخفقَتْ منظومة مختلفة. وتعجَّب مما إذا كانوا سيجدون الشيء نفسه من معايير الأمان المنفلتة ومِن افتقاد التواصل. وبدلًا من الاقتصار على تدوين تقرير فني ليوضع في الملف، أجرى فينمان أيضًا تجربة حاسمة لكن بسيطة، وذلك في اجتماع عام. وضَع قطعة من خاتم الفَلْكَة الحلقية المُحكم بالمكوك في كوب من الماء المُثلَّج وكبَسه بمِلْزَم صغير. حين أزاح المِلْزَم أخْفَق الخاتم في استرداد الشَّكل مُجدَّدًا، مُبيِّنًا أن الفلكات لم تكن مَرِنة بما يكفي للاحتفاظ بِشكْلِها بعد خضوعها لظروف بارِدة في موقع الإطلاق.٢٥
إن حدس فينمان قد طعَّم حياته بِحُرِّية ومَغزًى للمُغامَرة يُحسَد عليهما. كان يُجيد قرْع الطبول وتَلقَّى دروسًا في الفن وهو في الرابعة والأربعين من عمره. استمتع بالتَّرحال إلى أماكن داخل مواقع غَير معروفة، أماكن لم يسمع عنها أحد من قبلُ، ولكن تَحمِل أسماء غرارة، أماكن لم يفكر أي شخص آخَر في زيارتها. مَنحَه حدسه مرونة واتساعًا في محال الخيارات المتاحة. مثلًا، رفَض مالِك نُزُل صغير على الطراز الياباني في إزيوكيتسو استضافة الأجانب؛ لأن الفندق ليس به دورة مياه على الطراز الغربي، وحينئذٍ بدَا فينمان ثابتَ الجأش. قال للشخص الذي يُرتِّب لإقامته: أَخبِرهم بآخِر مرة ذهبتُ فيها إلى نزهة خَلوية مع زوجتي، فقد حمَلْنا معنا جاروفًا صغيرًا وأوراق التواليت، وكُنَّا نحفر لأنفسنا حفرًا صغيرة في الغبراء. سَلْه! «هل سنحملُ معنا جاروفنا؟» رضخ القائم على أمر النُّزل الصغير قائلًا: «نحن موافِقون. تستطيع أن تأتي للإقامة ليلة واحدة. ولستَ في حاجة إلى أن تجلب معك جاروفك». رأى فينمان بحدسه إمكانيات في أماكن قال عنها آخَرون أنها «لا تعني شيئًا». وجَد في إزيوكيتسو حدائق جميلة، وضفدع الشجرة الخضراء الزُّمرُّدي، وضَريحًا مقدَّسًا وشعبًا سخيًّا. كان يلهو مع الأطفال الصغار أبناء القائم على أمر النُّزل واستجابت الأسرة لوُدِّه وحِس المرح لديه. وألغتْ زوجته حجزًا في المُنتجَع السياحي وأقامت لليلة ثانية في النُّزل الصغير.٢٦

الإبداع

الخواء أو الشَّواش٢٧ هو نقطة البدء لكل أساطير الخلق تقريبًا. في قصة الخلق الهندوسية، نشأتِ الشمس والقمر والحيوانات عن مَخْض محيط اللبن. في ثقافات عديدة ترمز هذه الأَمْواه إلى الشَّواش وإلى اللاوعي، ذلك الواقع حيث تبقى كل الأشياء في نطاق الإمكانية. وبالمِثْل نجد فكرة بريجوجين عن الخَواء المُبدِع، عن الشَّواش كمصدر تكويني للكون، تُماثل تمامًا رؤية يونج (والسيميائِيِّين) للاوعي. وبينما يُشدِّد المنطق والتحليل على إمكانية التَّنبُّؤ، نجد عملية الحَدْس اللاعقلانية لا يمكن التَّنبُّؤ بها. حين تكون ثَمَّة مشكلة مُثيرة للحيرة، ونناضل لإيجاد حل لها وتتكدَّس رءوسنا بالمعلومات بفعل العمل في المُختبَر، يَحدُث أحيانًا أن يومض الحدس بالحل. تمامًا كما تَنشأ النماذج عن الديناميكا اللاخَطِّية في نظرية الشَّواش، يبدو الحدس ناشئًا بشكل غامض عن اللاوعي ليُزوِّدنا بمعلومات جديدة. في المنظومات اللاخَطِّيَّة، لا يمكن أن يُفيدنا المَنطق في التَّنبُّؤ. على أنه عن طريق الوعي الحدسي بالنموذج ككل، نستطيع اتخاذ القرارات القائمة على استشعار بالكل، بدلًا من الاقتصار على التقدير الاستقرائي من الماضي. يَهبُنا الحدس مُرونة وقُدرة على الاستجابة التلقائية للتغيُّر. وتمامًا كما تتحرك المنظومات المُعقَّدة في اتجاه مستويات متزايدة من التعقيد، وتنشغل المنظومات بتنظيم ذاتي تلقائي، بالمثل تمامًا ينشأ الحدس تلقائيًّا عن الأمْواه العميقة للاوعي ويطرح مَنبعًا للتجدُّد.
بينما يتحدث الفنانون بحرية عن عملية الإبداع، يميل العلماء أكثر إلى وصف عملهم وكأنهم يَكشفون ماهيته. وكما لاحظ البيولوجي بيتر ميدوَر،٢٨ «عادة ما يشعر العلماء بالفخر الشديد أو بالخَجل الشديد من الحديث عن الإبداع والخيال المُبدِع؛ يشعرون أن هذا غير لائق بتصوُّرهم لأنفسهم بوصفهم رجال الوقائع والأحكام الاستقرائية الصارمة».٢٩

أجَل يعرف بعض العلماء أن الاقتحامات العظمى حقًّا تأتي عن طريق الحدس، وعلى الرغم من هذا، نادرًا ما يَدرُسون كيف يعمل الحدس، وليس يُعنَى معظم العلماء بالحدس، أكثر من أنه عملية ميكانيكية للمخ، حيث إنك إذا وضعتَ في المخ معلومات كافية وحفَّزتها بما يكفي، فسوف يتأتى توليف جديد. أجَل، يصدق أن الاستبصارات تنشأ عن إعادة تنظيم المعلومات بطرق مختلقة، بَيْد أنَّ هذا لا يشكل الإبداع. القفزة الإبداعية تتجاوز المعلومات الكائنة وتضيف إليها شيئًا ما مستجدًّا، تبدو وكأنها تجذبه من حيث لا أين. وما زِلنا لا ندري كيف يسير هذا الأمر.

في بعض الأحيان تأتي ومْضة الاستضاءة من الأحلام بالمعنى الحَرْفي. إن ويلز هارمن Willis Harmon، وهوارد راينجولد H. Rheingold في كتابهما، «الإبداعية العالية: تحرير اللاوعي من أَجْل انطلاق الاستبصارات» يُسلِّطان معًا الأضواء على عدد هائل من الحالات، حيث يعزو الفنانون والعلماء الاقتحامات التي أتوا بها إلى صور ذهنية تراءت في أحلامهم.
أكثر مثال يشيع اقتباسه للدلالة على إلهام الحلم للعلم يأتي من كيميائي في القرن الثامن عشر هو فردريش أوجست كيكوليه F. A. Kekulé من شترادونيتز. بينما كان كيكوليه يغفو في مقعده بجوار المدفأة، رأى في نومه أفعى يَتلوَّى ذيلُها. هبَّ مستيقظًا «كما لو كان بفعل ومضة من الاستضاءة» قد تفهم بنية جزيء البنزين الدائرية، وهذه مُشكلة طويلًا ما أفلتَت من الكيميائيين. هذه الرؤية طرحَت نواة اكتشاف نعت بأنه «جزئية من التَّنبُّؤ هي الأكثر توقُّدًا في كل ما يضمُّه مجال الكيمياء العضوية».٣٠ أتته رؤًى أخري إبَّان أحلام اليقظة وهو يَعتلي مَتن الترام في الطرقات. وفي محاضرة ألقاها وقد اقترب من خواتيم حياته العلمية، نصح مُستمِعيه، وهم أعضاء جمعية الكيميائيين، ﺑ «تَعلُّم أن يحلموا».٣١
بَيْد أنَّ خبرة كيكوليه ليست مثالًا منفردًا. حَلم الفيزيائي نيلز بور بالنظام الشمسي كنموذج للذَّرَّات، بما أدَّى إلى «نموذج بور» لبنية الذرَّة ولجائزة نوبل.٣٢ وفي بواكير القرن العشرين نال مراهق غير مُتعلِّم من أسرة فقيرة في الهند كتابًا مدرسيًّا قديمًا في الرياضيات. ويستطرد سرينيفاسا رامانوجان قائلًا: إنه بعد أن قرأ هذا الكتاب سرعان ما ظهرَت الرَّبَّة ناماجيري في أحلامه بالصِّيَغ والمعادَلات. ومن هذه الأحلام، شَيَّد بنيانًا مهيبًا من المَعارف الرياضية وتمكَّن من الحصول على منحة دراسية في كمبردج، على الرغم من جهله بالمواد غير الرياضية. وصل إلى إنجلترا ليجد عمله تخطَّى كثيرًا المعارف الرياضية الراهنة.٣٣

بعد دورة مكثَّفة من العمل والتركيز، تَمثَّل دمتري مندليف في أحد الأحلام الجدول الدَّوري الذي ينظم كل العناصر الكيميائية:

في العام ١٨٦٩م أوى د. إ. مندليف إلى الفِراش منهوك القُوى بعد أن جاهَد ليصل إلى تصوُّر طريق لجدولة العناصر على أساس أوزانها الذَّرِّية. وفيما بعدُ كَتبَ يقول: «رأيت في الحلم جدولًا تَحتلُّ فيه كل العناصر مواقعها بالشَّكْل المطلوب. وفَوْر أن استيقظتُ سجَّلتُ هذا على ورقة. وبعد هذا لم يظهر إلا تصويب واحد ضروري في أحد الأماكن.»٣٤
قام إلياس هُوو E. Howe بعمل مكثَّف على مَدى سنوات عديدة لاختراع ماكينة حياكة الدَّرزة المتشابكة. أخفقَتْ نماذجه المُبكِّرة، لم يُحرِز نجاحًا حتى استيقظ ذات ليلة من كابوس. يُروَى حِلمُه في كتاب عن الاختراعات:

في مَرَّاتِ فشلِ هُوو المُبكِّرة، كان قد جعل الثقب في ساق الإبرة. كان ذهنه مشغولًا بالاختراع ليلًا ونهارًا وحتى أثناء نومه. رأى في حلمه ذات ليلة … أن قبيلة من الهمج أمسكتْ به واقتادوه سجينًا إلى مَلكهم.

زمْجَر المليك قائلًا: «يا إلياس هوو، إني آمرك بإنجاز الماكينة فورًا وإلا حلَّت بك عقوبة الإعدام.»

تَصبَّب جبينه بالعَرق البارد، وارتعشَت يداه رعبًا، واصطكَّتْ رُكبَتاه. لقد حاول المخترِع ولم يفلح في الوصول إلى الشَّكْل المفتقَد في المشكلة التي عمل فيها طويلًا كان ذلك كله حقيقيًّا بالنِّسبة له حتى صرخ بأعلى صوته. وفي الرؤيا شاهَد نفسه مُحاطًا بمحاربِين ذوي بشرة داكنة مصبوغة، وقد شَكَّلوا دائرة مفرغة حوله واقتادوه إلى موقع الإعدام. وفجأة لاحظ أن الرماح التي يحملها حُراسه يوجد بالقرب من رءوسها ثقوب لها شَكْل العين! لقد انفَكَّ أمامه اللغز! كان يحتاج إلى إبرة لها عين بالقُرب من رأسها! استيقظ من حلمه، قفز من فراشه، وعلى الفور صنَع نموذجًا لإبرة مُدبَّبة على شكل العين، وعن طريقها اقتربت تجاربه من حافة النجاح.٣٥
في العام ١٩٣٦م نال أوطو لويفي Otto Loewi جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء والطب؛ لاكتشافه أن الانتقال عَبْر العَصَب حدَث كيميائي وكهربي على السَّواء. خلال حوار في مرحلة مُبكِّرة من حياته العلمية كان قل راوده خاطِر بأن الدفعات العصبية ربما تكون كيميائية مثلما هي كهربية، لكنه لم يستطع التفكير في تجربة للتصديق على هذا الفرض. وبعد هذا بسبعة عشر عامًا بزغ أمامه في صورة حلم إجراء تجريبي لاختبار فكرته. كتب لويفي:
في الليلة السابقة على يوم عيد الفصح من ذلك العام [١٩٢٠م] استيقظتُ من نومي، أضأتُ المصباح، وعلى عجل دوَّنْت باختصار بضعة ملاحظات على قصاصة صغيرة جدًّا من ورق رقيق ثم عدتُ إلى النوم مُجدَّدًا في الساعة السادسة صباحًا خطر على بالي أنني دوَّنْت شيئًا مهمًّا أثناء الليل، لكني كنتُ عاجزًا عن فك شفرة الكتابة رديئة الخط. في الساعة الثالثة صباحًا من الليلة التالية، عاودتني الفكرة. لقد كانت تصميمًا لتجربة تفصل القول فيما إذا كان فرض الانتقال الكيميائي الذي عَبَّرت عنه منذ سبعة عشر عامًا صائبًا أم لا استيقظتُ على الفور، ذهبتُ إلى المُختبَر، وأجريتُ تجربة بسيطة على قلب ضفدعة وفقًا للتصميم الذي خطر لي ليلًا … وأصبحتْ نتائجها أساس نظرية الانتقال الكيميائي للدفعات العصبية.٣٦
قلة من العلماء المُحدَثِين يكشفون علنًا عن مَنابع إلهامهم. ويُعَد جوناز صولك J. Salk استثناءً من هؤلاء، وهو الذي طوَّر لقاح شَلَل الأطفال. أسَّس منذ ثلاثين عامًا مضَتْ معهد صولك للدراسات البيولوجية من أَجْل «خلق بوتقة للإبداع»٣٧ يحتفظ صولك بورقة وقلم بجوار فِراشه، وكثيرًا ما يَهب من نومه في نوبة بادئًا ما يسميه كتابته الليلية. وفيما يشبه حالة من النَّشوة يملأ الصفحة إثر الأخرى بأفكار تبدو بَازِغة من ملكوت آخر. إنه الآن في السادسة والسبعين من عمره، وقد جمع ما يربو على اثني عشر ألف صفحة من هذه التجليات الليلية.٣٨

الحدس بوصفه حدًّا للعلم

الحدس لا يمكن التَّنبُّؤ به وهو فردي، يأتي إجمالًا في ومْضة، لهذا لا يمكن لنا تحليله إلى الأجزاء المكوِّنة له لكي نقوم بدراسته. وحتى الآن لا نملك المُفرَدات ولا القدرة لتبَيُّن عمل الحدس في الأنماط الأخرى من الظواهر النفسانية psychic من قبيل الأحلام والتخاطُر والمعرفة المُسبقة والرؤى عن بَعد. تستدعي دراسة مثل هذه الظواهر مُقارَبة للبحث مختلفة. لا بُدَّ من إيجاد مناهج جديدة لمُعالجة إقرارات بخبرات ذاتية، وللتَّغلب على صعوبة تكرار الظواهر النفسانية، وللتعامل مع الخبرة الفردية الفريدة. وبدلًا من بخس فعاليات النَّفس، يوكد يونج:
إن الانحياز إلى افتراض وجود العالَم الفيزيقي فقط يكاد يكون خلفًا مُحالًا. وكأمر واقع، الصورة الوحيدة للوجود، التي نملك معرفة فورية بها هي الصورة النفسانية. وعلى العكس من ذلك قد نقول قولًا حسنًا مفاده أن الوجود الفيزيقي مَحض استدلال، ما دُمنا نعرف المادة فقط على قدر ما ندرك التصوُّرات النفسانية التي تأتينا عَبْر وسيط هو الحواس.٣٩

يمكن أن نجد طريقًا يأتينا بالحدس بين يدي الوعي، وذلك بالبحث في مجالات الوعي الإنساني أو الفعالية النفسانية أو الباراسيكولوجي يُزوِّدنا بطريق يأتي بالحدس بين يدي الوعي. ولسوء الحظ، اختلطَت البحوث في هذه المناطق بظهور الخداع. أسرف الباحثون الدَّجالون في دعاويهم، وأنفَقوا وقتًا في المقابَلات الصحفية أكثر ما أنفقوه في التجارب الحَذِرة. الصحافة والسينما وهي نمط الإحساس ترسم صورة للقدرات النفسانية بوصفها خبلًا أو شذوذًا أو لا إنسانية. يستثمر الفنانون المُخاتَلون المفاهيم الخاطئة الشائعة والتهويلات الذائعة ببغائية، مُستخدمِين قدراتهم النفسانية الحقيقية أو المختلقة كمصدر للربح والقوة والنفوذ. هناك نِحَل عديدة لها قادَة ذَوُو كاريزما يستغلون دعاوى بقدرات فائقة للطبيعة لخداع واستغلال أتباعهم. يُغوُون الناس على وعد بأن يُلقِّنوهم قدرات نفسانية سوف تمنحهم نفوذًا على ناس آخرين. وبسبب من تلك النحل والخدع، يميل العامة إلى ربط الظواهر النفسانية جميعها بالانحراف الاجتماعي والألاعيب الشيطانية والمُشعوِذين. كثيرون اهتمُّوا بتعلُّم شيء عن إمكانياتنا البشرية النفسانية، لكن أشكال الخداع ووسائل الإعلام معًا أثارت الرعب في نفوسهم فجعلتهم يُولُّون الأدبار.

فضلًا عن هذا، نجد الخوف الشخصي الخاص من المجهول هو الدافع الذي يُحرِّك كثيرين من نقَّاد البحث النفساني. الغالبية العظمى منهم مادِّيُّون متطرفون من أصحاب المُعتقَد القائل إن أي شيء لا نفهمه غير ذي وجود حقيقي. أمثال هؤلاء العلماء العقلانيين يُعرِضون عن أي شيء لا يستطيعون قياسه بحواسِّهم الخمس مُعتبِرين إياه خزعبلات. إن قَبول صحة بعض الظواهر النفسانية يَتطلَّب منَّا أن نعيد تعريف فَهْمِنا الراهن للفيزياء ولعلم النَّفْس وأنْ نوسِّع نطاقه. وليس كل شخص مستعدَّا لهذا. هذه المخاوف دفعتْ محاولات إقصاء الاتحاد الباراسيكولوجي من الاتحاد الأمريكي لتقدُّم العلم. (الاتحاد الباراسيكولوجي تأسَّس العام ١٩٥٧م، واعترف به الاتحاد الأمريكي لتقدُّم العلم العام ١٩٦٩م) لقد تواطأ النُّقاد على التحايل لسَحْب الثقة من نتائج البحث التي لا تَتَّفق مع نظرتهم الدنيوية. وها هو عالِم الفيزياء الفلكية دينيس رولينز D. Rawlins، أحد مُؤسِّسي لجنة الفحص العلمي للدعاوى الخارِقة للعادة، وقد كشف عمَّا قامت به هذه اللجنة من أشكال تلاعُب إحصائي مُخادِع بمكتشفات إيجابية لم يتوقَّعْها أحد. وبينما ظل مُتشكِّكًا في «المعتقدات الخفية»، كَتب يقول إنه غَيَّر رأيه بشأن سلامة محاوَلات كشف الزيف، ويُدرك أنهم سيتبعون مقاييس مَتطرِّفة للانتقاص من مصداقية مثل ذلك البحث من «أَجْل الصالح العام».٤٠
لا أحد — على الأقل من بين العلماء — يريد أن يبدو ساذجًا وأحمق. وبالتالي، عمل الربط بين الظواهر النَّفسانية وبين الخِداع والنَّزْعة الحِسِّية على الحيلولة بين الناس وبين أن يأخذوا الخِبْرات والقدرات النَّفسانية مأخذًا جادًّا، وثَبَّط من هِمَّتهم لمعرفة العمل العلمي الحقيقي في هذا الميدان. إن الكُمْه الذين يُولَدون عميانًا ثم يَستردُّون بصرهم بعد عملية جراحية لا بُدَّ أن يَتعلَّموا تفسير المُدرَكات البصرية، وبالمثل تمامًا لا بُدَّ لنا أن نَتعلَّم كيف نفسر مُدرَكات الحدس أو الظواهر النفسانية الأخرى عسيرة المِراس والمُتبدِّلة.٤١

أنا شخصيًّا أعرف كثيرين من الناس لهم قدرات نفسانية، من بينهم عالِم كمبيوتر في مجال الذكاء الاصطناعي ومدير التسويق الدولي في شركة أخشاب. لا أحد منهم عضو في نَخْلة سِرِّية، ولا هم يستخدمون قُدراتهم من أَجْل الربح المادي. إنهم ناس أذكياء واضحون مُتَّزِنون، يَخوضون حياة شخصية ناجحة في سياق الاتجاه الاعتباري السائد في أمريكا. تُشكِّل قدراتهم النفسانية جانبًا مُتمِّمًا لوعيهم. دفعتني معرفة هؤلاء الناس إلى طرح السؤال حول مدى اكتمال فهْمنا الراهن للزمان والمكان.

على مدى ما يربو على عَقد من الزمان دَعمَت حكومة الولايات المتحدة بحوث الفعالية النفسانية في المجالات العسكرية وغير العسكرية على السواء. وفي المعهد الذي عُرِف سابقًا باسم معهد ستانفورد للأبحاث، وأصبح الآن معهدًا ضخمًا لأبحاث التكنولوجيا المتقدمة، نفذ هذا المعهد برنامجًا تكلَّف بضعة ملايين من الدولارات واستكشف سبلًا لزيادة دقة ووثوق نمط من الإدراك يُعرَف باسم «الرؤية عن بُعد» (القدرة على وصْف مواقع أو أحداث أو أشياء لا يمكن إدراكها بالحواس العادية بسبب مِن بُعْدها).

في جَلسة الرؤية عن بُعْد، يجلس «الرائي» في غُرفة مريحة. وثَمَّة شخص ثانٍ، هو مرشِد يقوم بالإرشاد عن طريق الإشارات اللاسلكية والضوئية، يَستخدم مولِّدًا إلكترونيَّا لرقم عشوائي من أَجْل اختيار مظروف يحوي موضعًا محدَّدًا من ضمن سِتِّين احتمالًا للمواقع المستهدَفة. المرشد لا يفتح المظروف ريثما يَستقل السيارة. ويقود السيارة إلى الموضع المُحدَّد، وفي وقت مُتَّفق عليه سلفًا يتفرَّس بإمعان الموضع لمدة خمس عشرة دقيقة. وفي غضون هذا، يحكي الرائي لمن يُجرِي المقابَلة، وهو الآخَرُ لا يعرف الموضع المستهدَف، عن انطباعاته ومُخطَّط تَصوُّراته الذِّهنية. وفي خاتمة سلسلة من محاوَلات الرؤية عن بُعد، يُزُور مُحكِّم مستقِل المواقع ويتخيَّر المَوقع الذي يتناسب مع ذلك الوصف أكثر من سواه. وفي المحاوَلات التي أُجْرِيت في معهد الأبحاث المذكور، نجح ما يقرب من ثُلثي أوصاف الرؤية عن بُعْد في أن تتناسب مع ما يراه المُحكِّم. إن احتمال حدوث هذا بفعل المصادَفة حوالي واحد في المائة.٤٢ لقد أصدرَت مُختبَرات في أنحاء العالَم تقارير إحصائية عن مُعْطَيات ذات مَغزًى لثلاث وعشرين سلسلة من الفحوص تُدعِّم الرؤية عن بُعْد.
اشتملَت المحاوَلات الناجحة على الرؤية من مسافات شاسعة، من ديترويت إلى روما في إيطاليا، وأُجرِيت التجارب في غُرف شَتى مزوَّدة بحماية كهربائية، وعملَت بعض المحاوَلات على حَجْب موجات الإشعاع ذات التردُّد المنخفِض إلى الحدِّ الأدنى، وذلك عن طريق وضْع الرائي في غواصَّة تغطس تحت الماء. ولا شيء من هذه الظروف قَلَّل الفعالية النفسانية.٤٣ وفي شكل مختلِف من أشكال هذه التجربة، يرسم الرائي تخطيطًا لشكل الموقع قبل الاختيار العشوائي للمظروف. وأيضًا أعطَت الرؤية المتلقاة قَبلًا نتائج إيجابية٤٤ لقد استنتج الباحثون في معهد ستانفورد للأبحاث أن الرؤية عن بُعد مهارة يمكن التَّدرُّب عليها، كامنة في كل منا. لقد وجدوا أن حدوث غرائب الفعالية النفسانية أقرب إلى أن يكون مألوفًا، على الرغم من أن تفهُّمنا له حتى الآن واهٍ هزيل.

هذه البحوث التي أُجرِيت بجدية تتضمن تَفتُّح قناة للإدراك أو للتواصل حيث لا يطرح الزمان والمكان حدودًا. وكشأن تجربة أَسبِكت التي نُوقِشَت في الفصل الخامس، نجد أن قبول الحدس والأشكال الأخرى للفعالية النفسانية يطيح بتصوُّرنا للموضع، وإحدى مقدِّمات نظرية النسبية الخاصة أن البيانات أو القوى (من قبيل الجاذبية الأرضية) لا تنتقل إلا بين جسمين يتحركان بسرعة أقل من سرعة الضوء. وأيضًا أدَّت دراسات الرُّؤية المتلقاة قبلًا إلى مُساءلة معتقداتنا بشأن العِلِّيَّة، العلاقة بين العِلَّة والمعلول؛ ذلك أنه إذا كان لِحدث أن يسبِّب حدثًا آخر، فلا بُدَّ له أن يَحدُث قبل الحدث الذي يَنجُم عنه. كذلك أثار ذلك البحث الدهشة بشأن كيفية ارتباط وعْيِنا بجوانب العالَم الأخرى.

إن قبول الحدس يَهبُنا مَنفذًا أرحب للمعلومات، تَتَّسع معه آفاق وَعْينا المحدود بحواسِّنا الخمسة المعتادة، ويستنهض عَزْمنا لكي نعلو على رؤيتنا الخَطِّيَّة للزمان والمكان. يستطيع الحدس أن يُمثِّل جسرًا لتجاوُز الحدود التي تبدو فاصلة إيَّانَا عن الآخَرين وعن الطبيعة. وأولئك الذين يُطوِّرون إمكانياتهم النفسانية كثيرًا ما يَشعرون بمغزًى قويٍّ للوحدة مع العالَم الطبيعي. إنهم يَشعرون بمغزًى شخصي للتواصل الداخلي الذي كشفتْ عنه الفيزياء على مستوى الكوانتم. على أن مغزى الانسجام مع العالَم لديهم ليس نظريًّا؛ إنه خبرة مُعاشة. عن طريق الحدس يعرفون أن شيئًا ما أكبر، شيئًا ما أعظم بالنسبة لنا لكي نبلغه، شيئًا ما في أعماق نفوسنا، في أعماق بِنية الكون.

وبينما يسفر الارتباط بين التفكير والإحساس عن النَّزعة المادية، فإن الوحدة السيميائية بين الحدس والإحساس تَهَب الشخص القدرة على بلوغ استبصارات حدسية متأنِّية مع إدراكه أو إدراكها للعالَم الخارجي. تغدو الحواسُّ مُندمِجة مع الحدس من دون الحاجة إلى اجتياز العملية التي تتداخل بينهما، عملية التفكير أو عملية الشعور. فعل الإحساس عن طريق الحواس يتبدَّل ويرتفع عن طريق الحدس الذي يتواصل مع الإحساس. وهكذا تغدو الظواهر الفيزيائية منافذ للانفتاح على الحدس. ويَبُث الحدس الحياة والروح في أعطاف العالَم الفيزيقي، حتى يتأتَّى عن كل مرأًى أو مسمَع انطلاقة جبَّارة للمعنى.

حين ننكر حَدْسنا نُنكر مغزَى الترابطية لدينا، الترابطية مع الآخَرِين، ومع الطبيعة ومع نفوسنا الجُوَّانية. وبينما تظل المعرفة العلمية في أغلب الأحيان مجرَّدة ونظرية، نستطيع نحن من خلال الحدس أن نجتاز الخبرة بالطبيعة ككل، ونتعلم أن نحيا معها في انسجام.

١  Mario Bung, Intuition and Science (Westport, Conn.: Greenwood Press, 1962).
٢  Frances E. Vaughan, Awakening Intuition (Garden City, N.Y.: Anchor Press, Doudleday, 1979).
٣  Judith Hall, “Female Intuition Measured at last?” New Society (London, 1977).
٤  مقابلة أجريت مع إنجريث ديرب-أولسن، في ١١ يناير ١٩٩٠م.
٥  Mitroff, The Subjective Side of Science, p. 24.
٦  التمثيل analogy هو إلحاق جزئي بجزئي آخر لحُجة مشتركة بينهما. (المترجمة).
٧  Interview on March 27, 1991, with Sara Solla from the research and communication Division of AT & T Bell Laboratories in Holmdel, N. J.
٨  Mitroff, The Subjective Side of Side, pp. 123-124.
٩  C. G. Jung, Pschological Types, pp. 453, 770.
١٠  Robert Teitelman, Gene dream: Wall Street, Academia and the Rise of Biotechnology (New York: Basic Books, 1989).
١١  Interview on February 13, 1991, with Cynthia Haggerty.
١٢  Joseph B. Wheelwright, Saint George the Dandelion: Forty Years of Practice as a Jungian Analyst (San Francisco: C. G. Jung Institute of San Francisco, 1982), pp. 67-68.
١٣  مُقابَلة مع مارشا لاندولت في ٨ مارس من العام ١٩٩١م.
١٤  مُقابَلة مع إبرهاردك. ريدل، جرت في ٢٢ يناير من العام ١٩٩٦م.
١٥  Willis Harmon and Howard Rheigold, Higher Creativity: Liberating the Unconscious for Breakthrough Insight (Los Angeles: Jeremy P. Tarcher, 1984), pp, 24–28.
١٦  من مناقَشة في اللقاء الأسبوعي لجماعة قراءات وحوارات حول المرأة والعلم والتكنولوجيا، في جامعة واشنطن في سياتل، كانت في شتاء العام ١٩٩١م.
١٧  Shinichi Suzuki, Nutured by love: A New Approach to Education (Jericho, N.Y.: Exposition Press, 1969).
١٨  Quoted bey Gerald Holton, Thematic Origins of Scientific Thought: Kepler to Einstein, Revised ed. (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1973, 1988), p. 305.
١٩  Quoted in Banesh Hoffmann and Helen Dukas, Albert Einstein. Creator and Rebel (New York: New American Liberary, 1973), p. 222.
٢٠  Quoted by Holton, Thematic Origins of Scientific Thought, p. 368.
٢١  Freeman Dyson, Disturbing the Universe (New York: Basic Books. 1979), pp. 56-57.
٢٢  Ibid., p. 62.
٢٣  Ibid., pp. 54-55.
٢٤  Letter on November 19, 1947, by Freeman Dyson in Richard P. Feynman (as told to Ralph Leighton), “What Do You Care What Other People Think?”: Further Adventures of a Curious Character (New York: W. W. Norton & Co., 1988), p. 98.
٢٥  Feynman, “What Do You Care What Other People Think?” pp. 114–273.
٢٦  Ibid., pp. 76–79.
٢٧  الشَّواش أو الفوضى والعَماء هو كايوس chaos في الأساطير الرومانية، يُقابِله هَيُولى hulé في الأساطير الإغريقية.
٢٨  العالِم البيولوجي، بيتر ميدوَر Peter Medawar الحائز على جائزة نوبل، ينتمي لأصول عربية، وبالتحديد إلى عائلة كبيرة في لبنان تُعرَف باسم عائلة المِدوَر، وأصْل اسمه بطرس المِدوَر. هكذا أخبرَني بعض أساتذة جامعة دمشق حين كنتُ ثَمَّة العام ٢٠٠٠م.
٢٩  Peter Medawar, Plato’s Republic: Incorporating the Soluble and Induction and intuition in Scientific Thought (Oxford: Oxford University Press, 1982), p. 108.
٣٠  Koestler, The Act of Creation (New York: Macmillan, 1964), p. 118.
٣١  Ibid.
٣٢  L. Talamonti, Forbidden Universe (Briarcliff Manor, N.Y.: Stein and Day Publishers, 1975), p. 24.
٣٣  James R. Newman, “Srinivasa Ramanujan,” Scientific American 178 (June 1948), pp. 54–57.
٣٤  B. M. Kedrov, “On the Question of Scientific Creativity,” Voprosy Psikologii 3 (1957), pp. 91–113. Quoted by Willis Harmon and Howard Rheigold in Higher Creativity, pp. 30-31.
٣٥  W. B. Kaempffert, A Popular History of American Invention, vol. 2 (New York: Scribner’s, 1924).
٣٦  Otto Loewi, “An Autobiographical Sketch,” Perspectives in Biology and Medicine (Autumn 1960).
٣٧  Ann Gibbons, “The Salk Institute at a Crossroads,” Science 249 (27 July 1990), p. 360.
٣٨  George Johnson, “Jonas Salk: May the ‘Force’ Be with Him,” Seattle Post-Intelligencer (25 November 1990), pp. D1, D4.
٣٩  C. G. Jung, Psychology and Religion, vol. 11 in The Collecled Works of C. G. Jung, translated by R. F. C. Hull (Princeton: Princeton University Press, 1958), pp. 12, 16.
٤٠  Dennis Rawlins describes the debacle in “Starbaby,” Fate 34 (October 1981), pp. 67–98.
٤١  Russell Targ and Keith Harary, The Mind Race: Understanding and Using Psychic Abilities (New York: Villard books, 1984), pp. 14–17.
٤٢  Ibid., p. 5.
٤٣  Ibid., pp. 41–52.
٤٤  Ibid., pp. 56–64.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤