الخاتمة

بالغ الامتنان والتقدير

اتباعًا للتقليد الذي أرساه جون ليديارد وقت استقلال أمريكا، غادر ناثانيال فيك كليةَ دارتموث متجهًا إلى الشرق الأوسط. كان فيك يشبه ليديارد في مظهره، فكان طويلًا عريض المنكبين وأشقر، وكان له كذلك نصيب من ثقته بنفسه وقوَّته ومزاجه الهادئ. وعلى عكس ليديارد، فإن فيك لم يهرُب من دارتموث، بل كان في الواقع قد تخرَّج بمرتبة الشرف. ولم يغادر في قارب صغير مبحرًا في نهر كونكتكت، ولكن في حافلة متجهة إلى كوانتيكو بفرجينيا. وكان أيضًا ينضم إلى مشاة البحرية في جيش الولايات المتحدة، ولكن ليست مشاة البحرية الملكية مثل ليديارد. وبعد ٢٢٥ عامًا تقريبًا من وصول ليديارد إلى مصر، اتجه ناثانيال فيك إلى العراق.

يسترجع فيك انطباعاته الأولى عن المنطقة، التي شبَّهها «بقاعة من المرايا»، قائلًا: «كنت تائهًا تمامًا وأشعر بالضياع.» وبصفته قائدَ فصيلة عمليات خاصة، عبَر الكابتن فيك إلى الحدود الكويتية وهو يقود سيارة هامفي عليها مدفع رشاش من عيار خمسين، في ٢٠ مارس ٢٠٠٣، في طليعة الفرقة الأولى البحرية، لاستطلاع الدفاعات العراقية. وتساءل: «كيف يمكنك أن تدرك أين أنت عندما لا تستطيع قراءةَ حتى لافتات الشوارع؟» وكان هذا الشاب البالغ ستة وعشرين عامًا والقادم من بالتيمور يشاهد كبارَ السن في القرية وهم يضربون الأرض بأرجلهم ويبصقون، فقط ليخبره مترجمٌ محليٌّ أن الأهالي ممتنون للأمريكيِّين وسعداء بتحريرهم من صدَّام حسين.

وفي الواقع، كان الكثير من العراقيِّين ممتنين بالفعل لأمريكا في عام ٢٠٠٣ واحتفلوا بتقدم الأمريكيِّين. وقال أحد رجال فيك: «أعتقد أن هذا هو نفس الشعور الذي ساد في فرنسا عام ١٩٤٤». حتى إن أحد رعاة الأغنام عرض على رجال مشاة البحرية معزاةً هديةً. ولكن عندما بلغوا الناصرية توقف هذا التَّرحاب، حيث واجه الأمريكيون مقاومةً عنيفة، وكذلك في المدن خارج بغداد، فقد دخلوا كلًّا منها بقوة السلاح. وفيما بعد، وبعد سقوط العاصمة، أصبح فيك ورجاله أهدافًا لقذائف صاروخية وعبوات يدوية متفجِّرة، وهي العلامات التي تميز هجمات المتمردين العراقيِّين. ويتذكر فيك بحزن: «وأصبح لقب حاج، وهو لقب يدل على الاحترام يُطلَق على الرجال العرب، المصطلح السيئ الذي نستخدمه للإشارة إلى كل العراقيين. كان هذا هو اللقب المكافئ ﻟ «آسيوي وغد» في جيلنا.» ونظرًا لازدياد ارتباكهم حول الدور العسكري في هذا الصراع، وانقسام الجبهة الداخلية حول شرعية الحرب وترنُّح العراق بين الديمقراطية والفوضى، ركَّز ناثانيال فيك وزملاؤه الذين يصل عددهم إلى ١٣٠٠٠٠ جندي على البقاء على قيد الحياة، وعلى توفير حياة أفضل للعراقيِّين كلما سنحت الفرصة.

بحماية أنفسهم من تهديدات الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه محاولة مساعدة الشعوب المحلية، كانت القوات الأمريكية في العراق، عمليًّا، تعيد أحداثَ التدخل الأمريكي في الماضي في المنطقة. كانت الولايات المتحدة بالكاد قد حققت استقلالها عندما بدأت دول البربر في مهاجمة تجارتها وتهديد بقائها. ولكي تصمد، كان على الدولة الناشئة أن تتحد تحت حكومة مركزية قوية، وأن تكوِّن أسطولًا بحريًّا هائلًا، وأن تشنَّ حملة خطيرة تبعُد عن شواطئها بآلاف الأميال. واستمرت السفن الحربية الأمريكية تجوب مياه الشرق الأوسط بعد انتهاء حروب البربر، لتمكِّن التجار من تبادل خمور نيو إنجلاند وبضائعها المصنعة مقابل الأفيون والسجاد والتين. ووصلت الأناجيل أيضًا إلى الشرق الأوسط مع طابور طويل من المبشِّرين. ومع أن هدفهم الأساسي كان تحويل الشعوب المحلية إلى المسيحية وإعادة فلسطين إلى اليهود، فقد بنى هؤلاء المبشِّرون المدارس وطبعوا الكتب بهدف نشر التعليم على النمط الغربي بين تلاميذهم. وفيما بعدُ أسَّست تلك البعثات التبشيرية أول جامعات بالمنطقة، وقدمت مفاهيم الديمقراطية والقومية على النمط الأمريكي.

وبالإضافة إلى السعي وراء الأمن القومي والفرص الاقتصادية والمثوبة الروحية، أبحر الأمريكيون إلى الشرق الأوسط بحثًا عن المغامرة. فمنذ الأيام الأولى للجمهورية، كان ساكنو المستعمرات السابقة قد بدءوا في استكشاف هذا العالم الخيالي، وأغرتهم على ذلك إشاعات عن الشهوات فيه فانجذبوا إلى مخاطره الغامضة. تلك الطليعة الرائدة القليلة وأولئك المغامرون سرعان ما أفسحوا الطريق لأفواجٍ من السائحين ولصوص الآثار. وقامت جماعات أخرى، بدافع مزيج من التهور والتديُّن، بتأسيس مستعمرات في الأرض المقدسة، وأبحروا في نهر الأردن، وكانوا روادًا في علم الآثار الدينية القديمة التي وردت في الإنجيل. وعندما عادوا إلى بلادهم، كتب الأمريكيون قصائد شعر وكتب رحلات عن تجاربهم، وأسسوا جماعةً أخوية لمرتدي الطربوش، وحركة لحماية البيئة، وسلاح الهجَّانة بالجيش. وبعد أقلَّ من قرن من وصول أول مواطن أمريكي بعد استقلال الولايات المتحدة إلى مياه نهر النيل، كان الأمريكيون قد اقتحموا فعليًّا كل شبر في المنطقة، وملئوها ببعثاتهم الدبلوماسية.

ولكن في ذلك الوقت، وعندما بدأت الروابط بين أمريكا والشرق الأوسط تترسخ، بدأ الاتحاد في التفكك. وقد كان للحرب الأهلية التي أنقذت الجمهورية في النهاية أثر بعيد المدى على سياسات الشرق الأوسط. فعاد الأعداء السابقون من الشمال والجنوب للاتحاد مرة أخرى ليجعلوا الجيش المصري باعثًا على التحديث وليكون طليعة حركة وطنية. وفي تلك الأثناء كانت تقلبات سوق القطن نتيجةً للحرب قد تسبَّبت في تحولات جذرية في الاقتصاد المصري، مما أدى إلى الاحتلال البريطاني للبلاد، وأسرع بغزو أوروبا للمنطقة. وكان التحوُّل الصناعي الذي حفزته الحرب قد مكَّن الولايات المتحدة من الحصول على مكانة قوة عالمية في الشرق الأوسط. أما مواطنوها، فمع أنهم كانوا قد فقدوا براءتهم بسبب أهوال الحرب، فقد ظلت بداخلهم رغبتهم الجامحة في تسلُّق الأهرامات والخوض في البحر الميت. ولكن في حين كانت بلادهم تتمتَّع بميلاد جديد للحرية، كانت الأرض بين المحيط الأطلنطي وقناة السويس ترزح تحت الحكم الأجنبي. وظهر تمثال الحرية، الذي لم يتمكَّن المصريون المفلسون من توفير نفقات بنائه، في ميناء نيويورك، بوابة الحرية التي لم يكن في مقدور جميع شعوب الشرق الأوسط إلا أن تتوق إليها.

كانت أمريكا قبل الحرب الأهلية قد واجهت معضلاتٍ في الشرق الأوسط، على سبيل المثال ما إذا كانت ستساند نضال اليونانيِّين المشروع ضد الاحتلال العثماني، أو السعي وراء مصالح اقتصادية مع الباب العالي، وزادت هذه المآزق في العصر الاستعماري. فهل يجب على الولايات المتحدة أن تقف إلى جانب ضحايا الاستعمار الذي حاربته هي من قبل، أم تنضم إلى حاملي شعلة الحضارة المنيرة ضد الإسلام الذي يُزعم أنه جامد؟ وقد تعاطف معظم الأمريكيِّين مع مستعمري المنطقة واستحسنوا أداء رؤسائهم الذين أقاموا علاقاتهم الدبلوماسية بالسفن الحربية. ولكن أقلية منهم فقط ندَّدت باستخدام القوة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط وعملت على استقلال شعوب المنطقة. وسعى آخرون لسيادة شعوب معينة في بلدان محددة، سواء كان اليهود في فلسطين أو العرب في سوريا وبلاد بين النهرين. ولكنَّ الأمريكيِّين كانوا بصفة عامة راضين بترك هذه الأمور لكنيستهم أو صحفهم، في حين كانوا يُظهِرون الانبهار بمواكب الفرس والمعارض المصرية «الأصيلة». ولكن سرعان ما انهار الانبهار بأحلام اليقظة أمام واقعِ الشرق الأوسط الكئيب. فقد مهَّدت جثث مئات الآلاف من الأرمن الطريقَ لمذابحَ أبشعَ في المنطقة، ومعضلات أمريكية أكثر حدة.

وعندما اشترك الأمريكيون في الحرب العالمية الأولى، تعيَّن عليهم أن يقرِّروا هل يبدءون الحرب ضد الأتراك أم يظلون محايدين في الصراع القاتل من أجل الشرق الأوسط. ولم يَعُد الأمر مسألةَ أخلاق في مقابل المصالح، بل مسألة أيهما أكثر أخلاقية: هزيمة إمبراطورية تمارس الإبادةَ الجماعية أم حماية المؤسسات التي كوَّنتها الجمعيات الخيرية الأمريكية طوال ما يقرُب من مائة عام. وفي النهاية أثبت التأثير المتراكم للمبشِّرين الأمريكيِّين ومؤيديهم على مدار ذلك القرن أنه أمرٌ حاسم. فلم ترسل الولايات المتحدة قط جيشًا إلى الشرق الأوسط، متنازلة عن ميزة كبيرة لفرنسا وبريطانيا، اللتين أرسلتا جيوشهما. ونتيجة لذلك فشل القادة الأمريكيون في أي محاولة لضمان حق تقرير المصير لشعوب الشرق الأوسط، إذا كان ذلك ممكنًا بالفعل، وبدلًا من ذلك دعموا نظام الانتداب الذي كان في حقيقته يجعل الحكم الأوروبي دائمًا. ومع أن عددًا كبيرًا من الأمريكيِّين حقَّق أحلامه بوضع أسس وطن لليهود في فلسطين، فلم تتحقَّق رغبة الكثيرين في منح الحقوق الوطنية للعرب.

وبسبب فزع الأمريكيِّين من ويلات الحرب العالمية الأولى ومساوئ تسويةِ ما بعد الحرب، أحجم الأمريكيون عن أي تدخُّل آخر في شئون العالم، خاصة في الشرق الأوسط. فبالنسبة إلى الغالبية العظمى من الأمريكيِّين كانت المنطقة تتقلص باستمرار لتكون فقط الصور الرومانسية التي ترسمها هوليوود أو الأغاني المتنوِّعة الفاسقة التي حلَّت محل الكتب لتكون المصدر الرئيسي للخرافات عن الشرق الأوسط. ومع ذلك ظلت قطاعات بارزة من المجتمع الأمريكي ترتبط بعلاقات قوية بالمنطقة. فقد احتشد البعض لدعم المشروع الصهيوني في فلسطين، ولزحزحة الحكومة الأمريكية عن موقفها الحيادي في الصراع الدائر في تلك المنطقة. وأسَّست مجموعات أصغر، ولكن أكثر تأثيرًا، من المبشِّرين والمغامرين ورجال الأعمال علاقاتٍ تاريخية مع القبيلة السعودية في شبه الجزيرة العربية، واحتكروا ثروتها الثمينة الوحيدة الموجودة تحت الأرض.

وبحلول عام ١٩٣٩، أصبح النفط العربي مكوِّنًا مهمًّا للاقتصاد الأمريكي، ولكن الولايات المتحدة كانت لا تزال تمتنع عن أي تدخل دبلوماسي، فضلًا عن تدخل عسكري، في المنطقة. واستمرت هذه السياسة حتى بعد نشوب الحرب العالمية الثانية والهجوم الياباني على بيرل هاربر. ولم تحرِّك أمريكا ساكنًا حتى الغزو الألماني لكثير من دول حوض البحر المتوسط وتقدُّم دول المحور نحو قناة السويس. وقد هزمت القوات الأمريكية، بعد هبوطها «على شواطئ طرابلس» مرة أخرى، العدوَّ وانتشرت في أرض المعركة حتى وصلت إلى إيران شرقًا. وعلى عكس تقهقرها إلى حالة من العزلة بعد الحرب العالمية الأولى، خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية لتكون القوة المهيمنة على الشرق الأوسط، والداعية إلى تنميته وتطويره، والمدافعة عن حريته.

ومع القوة جاءت أيضًا المسئولية. فبعد أن فشلت الولايات المتحدة في إنقاذ يهود أوروبا من النازية، تحمَّلت عبء مئات الآلاف من الناجين من الهولوكوست، الذين أصروا على إعادة الاستيطان في فلسطين. ولكن تلبية ذلك المطلب أدَّى إلى دخول أمريكا في صراع مع الانتداب البريطاني على فلسطين، الذي عارض أي هجرات إضافية إلى البلاد وتحويلها إلى دولة يهودية. ومع أن الحكومة الأمريكية كانت بحاجة إلى مساعدة بريطانيا في الدفاع عن الشرق الأوسط ضد التهديد السوفييتي، فقد كان الشعب الأمريكي يَدين بالتزام قديم أيضًا تجاه الصهيونية. وفي النهاية أخذت أمريكا صفَّ اليهود، وفي مايو ١٩٤٨ أصبحت أول دولة تعترف بدولة إسرائيل، وبذلك أسرعت عملية تقهقر بريطانيا من المنطقة، وأثارت غضب كثير من العرب الذين كانوا يكنُّون العداء والكراهية للصهيونية أكثرَ مما كانوا يخشون الشيوعية السوفييتية، مع أنهم يشعرون بالامتنان لهذه النكسة التي مُني بها الاستعمار. وأدى نشوب الحرب الباردة، وتصاعُد الصراع العربي الإسرائيلي، وزيادة اعتماد أمريكا على النفط العربي إلى ظهور المشكلات المعقَّدة. هل بإمكان الولايات المتحدة الحفاظ على دعمها لإسرائيل وتحالفها مع بريطانيا وفرنسا، مع الحفاظ في الوقت نفسه على صداقتها مع العرب؟ وكيف يمكنها أن تجمع صفوف الشرق الأوسط الصعب المراس في مواجهة السوفييت؟

ولتجنُّب هذه المشكلات، اتبعت أمريكا مؤقتًا منهجًا قويًّا في المنطقة. فقد مدَّت سياسة أحد رؤسائها، التي كانت الأولى ضمن عدة سياسات متعلقة بأمن الشرق الأوسط، مساعدات عسكرية حيوية إلى تركيا واليونان، وصدَّت خطوات أمريكية حاسمة في الأمم المتحدة السوفييت عن شمال أفريقيا وعن النصف الشمالي. وفي حين وقفت واشنطن بجانب حلفائها الأوروبيِّين ضد الشيوعية، فقد تحالفت مع الوطنيِّين المحليِّين ضد الاستعمار. وكانت ليبيا وسوريا وإيران من بين الدول التي يعود الفضل في استقلالها بصورة رئيسية أو جزئية إلى الولايات المتحدة. ولكن المتطلَّبات المتناقضة للحرب الباردة ومناهضة الاستعمار سرعان ما أثبتت أنها غير متوافقة. فقد تحالفت الولايات المتحدة مع بريطانيا في طرد زعيم إيراني شعبي عام ١٩٥٣، ولكن بعدها بثلاث سنوات انضمت إلى السوفييت في منع بريطانيا وفرنسا وإسرائيل من الإطاحة بحاكم مصري كانت أمريكا تسعى سرًّا للإطاحة به. وضغط القادة الأمريكيون على إسرائيل للتخلي عن برنامجها النووي، لكنهم فيما بعد ساندوها باعتبارها حصنًا منيعًا في مواجهة العدوان السوفييتي. وقد جعل هذا القرار الولايات المتحدة هدفًا لحظرٍ نفطي، وهدفًا للفلسطينيِّين الذين ازداد اتجاههم نحو الإرهاب، بعد أن أصيبوا بالإحباط نتيجةً لفشل المجهودات التقليدية في هزيمة إسرائيل. وبسبب حماستها لوقف هذه العداءات، عرضت أمريكا وساطتها، مطالبةً إسرائيل بإلحاحٍ بالتخلي عن أراضٍ محتلة في مقابل وعود عربية بالسلام.

وبعد ثلاثين عامًا من هيمنة الولايات المتحدة على الشرق الأوسط، كان بإمكان الأمريكيِّين الإشارةُ إلى بعض الإنجازات التي تدعو إلى الفخر، وأيضًا إلى بعض الإخفاقات المؤلمة. فقد كوَّنوا تحالفًا وثيقًا مع إسرائيل، وتفاوضوا على اتفاقية سلام بين القاهرة والقدس. ووضعوا حدًّا للتأثير السوفييتي على العالم العربي، وتزعَّموا المناداة بحقوق الإنسان. ومع ذلك، فقد ظلَّت الولايات المتحدة في عيون كثير من شعوب المنطقة مناصرة لحكومات استبدادية قمعية، وراعية لاستيطان الإسرائيليِّين في الضفة الغربية وغزة، ومروِّجة للتبذير القائم على الثروات التي يدرُّها النفط في دول الخليج العربي. وأدَّت السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط إلى حصولها على عددٍ من جوائز نوبل، وأيضًا إلى قائمة متزايدة من الهجمات الإرهابية. وبالفعل، أصبح الهجوم وليس الشكر هو ما يتلقَّاه الأمريكيون عادةً عندما انتقلت فترة التوتر بين الغرب والشرق إلى عصرٍ من الصِّدامات المكثفة بين الغرب والإسلام المتطرف.

وبدءًا من عام ١٩٧٩، ومنذ الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران، كان الأمريكيون موضعَ هجوم بصورة متكررة من الشرق الأوسط. فكانوا يتعرضون لاختطاف طائراتهم وتفجيرها، وأُطلِقت النيران عليهم في المطارات وفي البحار، وتمزَّقت أجسادهم في تفجير ملاهٍ أوروبية، ودُفنوا تحت الأنقاض في بيروت. وردَّت أمريكا على هذه الهجمات، فأرسلت قواتها إلى ليبيا ولبنان، ولكن بلا أي تأثير سوى زيادة جرأة الإرهابيِّين. وبسبب الارتباك الذي أصابها نتيجةً للتحوُّل من الحرب الباردة إلى الحرب المقدسة، ساندت الولايات المتحدة ديكتاتورية عراقية ضد نظام حكم ديني في إيران، وسلَّحت طهران سرًّا ضد بغداد. وساندت الإسلاميِّين المعارضين لأمريكا في صراعهم ضد السوفييت في أفغانستان وتعاونوا مع السعوديِّين الذين كانوا ينشرون التطرف الإسلامي. وساندت أمريكا في البداية غزوَ إسرائيل للبنان ثم عارضته، وندَّدت في البداية بقصف إسرائيل للمفاعل النووي العراقي ثم استطيبته، وتعاونت مع إسرائيل في مخطَّط سري لمبادلة السلاح بالرهائن، فقط لتحكم على أمريكي بعد ذلك بالسجن مدى الحياة بتهمة التجسس لمصلحة إسرائيل. وفي حين كانت الحكومة تتَّبع هذه السياسات المتقلبة، كانت نظرة العامة للشرق الأوسط تتأرجح ما بين أرض الأحلام الشرقية وبين عالَم سفلي من المختطفين والسفاحين. وظهر جدال بين الباحثين حول ما إذا كان الشرق الأوسط يمثل تهديدًا قاتلًا على الأمريكيِّين مرة أخرى، أم إن الولايات المتحدة هي السبب وراء كل المشكلات التي يعانيها الشرق الأوسط.

وبدا أن هذه الأسئلة تتلقى إجابات، وإن كانت غير وافية، بحرب أمريكا ضد طاغية لا يعرف الرحمة في العراق، وحملتها لتحرير الكويت. وفرحًا بهذا النصر، وعدت الولايات المتحدة بوضع نظام عالمي جديد يمنح الشرق الأوسط الأمن والسلام. ولكن في الحقيقة لم تحصل المنطقة لا على سلام ولا على أمان. فمع أن واضعي السياسات الأمريكيِّين عملوا بجدٍّ للتوصل إلى اتفاقيات بين الفلسطينيِّين والإسرائيليِّين، ولمواجهة الإسلاميِّين دون اللجوء إلى العنف، فقد انهارت الاتفاقيات وأدَّت إلى حمَّامات للدماء، وحصد الإرهاب مرة أخرى حياةَ المئات. وبعد أن عارض الأمريكيون مواجهةَ الخطر في منابعه وبسبب ثقتهم الزائدة بجيشهم واستمرار أوهامهم عن خرافات الشرق الأوسط، لم يكن الأمريكيون مستعدين لأكبر هجمات الجهاديِّين. ولكن بانهيار برجَي مركز التجارة العالمي، جاء انهيار الأوهام الرومانسية وانهيار تمالك الأمريكيِّين لأنفسهم أيضًا.

سقطت كابول في أيدي القوات الأمريكية، وتبِعتها بغداد والفلوجة وتكريت. ولكن يبدو أن حرارة انتصار أمريكا على طالبان الأصولية وحزب البعث العلماني جمعت صفوفَ العناصر الدينية والوطنية في العراق وحوَّلتها إلى تمرُّد عنيف. ولبَّت الولايات المتحدة رغبتها التي راودتها قرونًا طويلة في غرس الديمقراطية على النمط الأمريكي في الشرق الأوسط، ولكن جاء معها التفكُّك السريع. فبعد أن واجهت القوات الأمريكية في البداية هجمات ميليشيا السُّنة والشيعة العاقدين العزمَ على إخراجهم من البلاد، سريعًا ما وجدت نفسها محاصرة بين نيران السُّنة والشيعة الذين يهدُفون إلى تصفية بعضهم بعضًا. وعلى المستوى الدولي، وجدت الولايات المتحدة نفسها منعزلة عن دول غرب أوروبا التي امتنعت عن الانضمام إلى التحالف ضد العراق، تمامًا كما رفضت قبل مائتي عام أن تنضم إلى تحالف ضد البربر. وكذلك انقسم الشعب الأمريكي على نفسه مختلِفًا حول مبرِّرات الحرب وأسلوب إدارتها وتضحياتها عندما ارتفع معدَّل الخسائر بين العسكريِّين والمدنيِّين. وبذلك كان الشرق الأوسط الذي ساعد على توحيد الأمريكيِّين في نهاية القرن الثامن عشر يمزِّقهم في بداية القرن الحادي والعشرين.

•••

قال ناثانيال فيك: «ارتكبنا أخطاءً فادحة. فشلنا في وقف النهب، وفشلنا في تأمين الحدود، وحللنا الجيش العراقي.» وكان كابتن مشاة البحرية المحنَّك قد نشر لتوه كتاب «قاب قوسَين أو أدنى» الذي نال إعجاب الكثيرين، وهو مذكِّرات خبراته العسكرية، وكان يدرُس للحصول على درجات متقدِّمة في مجال إدارة الأعمال ونظم الحكم بجامعة هارفارد. وأضاف: «لقد كنا عميانًا. كنا أقوياء لكننا لم نكن أذكياء.» وقد أطلعني على آرائه حول العراق والشرق الأوسط ودور أمريكا فيه ونحن جالسون في مقهًى بالقرب من حرم جامعة كامبريدج. أما في الخارج، فكان طلبةٌ متأنقون يُهرعون إلى حضور المحاضرات، ويكافحون رياحَ شهر فبراير وهم يتشبَّثون بكُتبهم للحصول على بعض الدفء. لقد كنا بعيدين للغاية عن جسر الناصرية الذي تلهبه أشعةُ الشمس الحارقة، حيث وقع فيك ورجاله تحت وابل من نيران القناصة، وكان عليهم أن يقطعوه عَدْوًا وهم يحنون أجسادهم فوق أسلحتهم. ومع ذلك فالحرب كانت لا تزال قريبة، ليس فقط في ذاكرة فيك، بل أيضًا في المخاوف والآمال اليومية لكل الأمريكيِّين.

قال فيك ولمحةٌ ساخرة تشوب ملاحظته: «لقد ذهبت إلى أربع دول في الشرق الأوسط، ولم أستخدم جواز سفر في أيٍّ منها.» ومع أنه كان قد استبدل الزيَّ العسكري ببِزَّة رجال الأعمال الرمادية منذ زمن طويل؛ ففد عاد جنديًّا مرة أخرى عندما كان يصف المعارك المسلَّحة الضارية التي خاضتها وحدتُه، وخيبةَ الأمل التي أصيب بها بسبب أسلوب إدارة الحرب، والحزنَ الذي شعر به جرَّاء مقتل العديد من رفاقه. ومع ذلك فقد ظل فخورًا بفترة خدمته في العراق، فقال بإصرار: «لقد كنت أومن بهذه الحرب ولا أزال»، ومتفائلًا أيضًا بالشرق الأوسط. وقال فيك إن الولايات المتحدة بإمكانها بالفعل أن تساعد على نشر الديمقراطية في المنطقة، ولكن القرار يرجع في نهاية الأمر إلى الشعوب المحلية. واقترح يقول: «بإمكانهم إما أن يسيروا في طريق العصرية أو أن يسيروا في طريق ذلك الجزء من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. فالاختيار بأيديهم.»

كان يتحدث، ولوهلة تخيَّلت أنني أستمع بالفعل إلى جون ليديارد. فقد بدت أصوات بليني فيسك، وتشارلز بوميروي ستون، وكلارا بارتون، والعدد الذي لا يُحصى من الأمريكيِّين الذين خدموا في الشرق الأوسط تتردَّد في كلماته. وذكَّرت نفسي بأن تاريخ علاقات الولايات المتحدة بالشرق الأوسط ليس كله مليئًا بالطيبة المفرِطة والإيثار. فشركات النفط الأمريكية ضخَّت مليارات البراميل من النفط العربي ليس لتحسين أحوال الشعوب المحلية، بل من أجل إثراء نفسها. وساندت الإدارات الأمريكية المتتالية الأنظمةَ القمعية التي تدفع بالمصالح الأمريكية إلى الأمام وتآمرت على الإطاحة بزعماء شعبيِّين. ورغم ما به من عيوب، فإن سجل تعاملات الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط حافلٌ بالاحترام والنوايا الطيبة. فلا توجد دولة تنافس جهودَ الولايات المتحدة في إدخال نُظم التعليم الحديث والرعاية الصحية إلى المنطقة، وفي تقديم الإعانات في حالات الطوارئ وفي تشييد البنية التحتية، وفي تحرير الدول المستعمَرة، وفي محاولة تحقيق الأمن والسلام. وإذا وازنَّا بين الجانبين، فسنجد أن الولايات المتحدة تاريخيًّا قدَّمت للمنطقة فوائدَ أكثر من أضرار، وخيرًا أكثر بكثير من شرور.

والتحدي الذي يواجه أمريكا الآن هو أن تستمر على مستوى هذا الميراث وأن تزيده. فتدخُّلها في الشرق الأوسط قد لا يكون محدودًا على شنِّ حرب ضد العراق أو التوسط في الصراع العربي الإسرائيلي. ففي المستقبل القريب، سيتعيَّن على الأمريكيِّين أن يتعاملوا مع تهديدات إيران التوسعية، ومع مخاطر الجماعات المتفرِّقة التابعة لتنظيم القاعدة. وسيتعيَّن عليهم أيضًا الوصولُ إلى أسلوب جديد للتفاهم مع الإسلام، والاستثمار في بدائل عملية للنفط. وفوق كل هذا، سيتعيَّن عليهم البدء بشجاعة في فحص وإعادة النظر في علاقتهم بالشرق الأوسط، وعلاقتهم، من خلال ذلك، بالعالم أجمع.

كان ناثانيال فيك قد شرَع في هذه الرحلة بالفعل. ولكن على عكس جون ليديارد، الذي كان ينظر إلى رحلته إلى الشرق الأوسط نظرةً رومانسية على أنها «طريق إلى المجد»، كان فيك ينظر إلى تجاربه في المنطقة على أنها طريقٌ للوصول إلى تقديرٍ أعمقَ للولايات المتحدة ومواجهة أخطائها، والاعتراف بفضائلها أيضًا. فيقول: «شعرتُ ببالغ الامتنان والتقدير للبلد الذي نشأت فيه.» أما إقناع شعوب الشرق الأوسط بمشاركة هذا التقدير فسيتطلب استعراضًا حازمًا ولكن حكيمًا لقوة أمريكا، وتطبيقًا صارمًا ولكن متسامحًا لإيمانها. وعن طريق استخدام قوَّتها بثقة ودعم مبادئها باستمرار، قد تنجح الولايات المتحدة في تغيير رؤيتها لعلاقات سلمية ومثمرة مع الشرق الأوسط من الخيال إلى الواقع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤