كلمة ختامية للطبعة الجديدة

يقول القديس أوجسطينوس إن الحاضر ما هو إلا حدُّ سكين بين الماضي والمستقبل. وقليلة هي المناطق التي يكون فيها حدُّ السكين هذا أكثرَ حدةً من الشرق الأوسط. ففي حين تتكشَّف الأحداث في أماكنَ كثيرة من أمريكا الجنوبية وأفريقيا وشرق آسيا ببطءٍ وفي بعض الأحيان بصورة غير محسوسة، فإن الأزمات في الشرق الأوسط متفشِّية وفي بعض الأحيان تكون شديدةً ومتواصلة. ومِن ثَم فإن اختتام هذا الكتاب بإضفاء طابع «الحاضر» على الشرق الأوسط أمرٌ صعب وإشكالي، بل ويمكن القول إنه من المستحيل. ففي السنوات القليلة التي تلت نشْرَ هذا الكتاب عام ٢٠٠٧ على سبيل المثال، انتشرت في الشرق الأوسط من الحروب والاضطرابات والنزاعات والتطورات ما يكفي لملء عدة مجلَّدات من الكتب.

ففي يوم ١٢ من شهر يوليو لعام ٢٠٠٦، نشِب اضطرابٌ نموذجي عن الشرق الأوسط حين نصَب مسلَّحون تابعون لحزب الله كمينًا لدورية حدودية إسرائيلية فقتلوا عشرة جنود. وردَّت إسرائيل بحملة قصف أوقعت إصابات واسعة النطاق بين المدنيِّين، ثم أطلق حزب الله آلاف الصواريخ على إسرائيل. وكان القادة الأمريكيون كثيرًا ما يواجهون خياراتٍ صعبة في الشرق الأوسط — بين العثمانيِّين والمتمردين اليونانيِّين في عشرينيات القرن التاسع عشر، وفي شمال أفريقيا في بواكير أربعينيات القرن العشرين بين بريطانيا وفرنسا الفيشية. والآن كان يتعيَّن على إدارة بوش الاختيارُ بين حليفين — هما إسرائيل ولبنان — وبين دعمها لإرساء الديمقراطية في الشرق الأوسط والكفاح في مواجهة الإرهاب. في نهاية المطاف، تعيَّن على الأمم المتحدة — مدفوعةً بمدى الدمار الحاصل — فرضُ وقف لإطلاق النار وإنشاء قوة دولية للإشراف عليه. ورغم ما عاناه حزب الله من ردعٍ وما تكبَّده من دماء، فقد كانت مناطقُ كثيرة من الشرق الأوسط تنظر إليه وإلى داعميه من السوريِّين والإيرانيِّين على أنهم منتصرون، وإلى إسرائيل المدعومة من أمريكا على أنها مذلولة.

وكانت غزَّة أيضًا مسرحًا لعنفٍ دائم وموضعًا لخيارات صعبة بالنسبة إلى الولايات المتحدة. فبعد أن انتصرت حماس في الانتخابات الفلسطينية في عام ٢٠٠٦، قامت في عام ٢٠٠٧ بالإطاحة بالسلطة التي تسيطر عليها حركة فتح في القطاع. وقد تعرَّض المئات من مسئولي حركة فتح للضرب والقتل والإلقاء من فوق المباني الشاهقة. كما أطلقت حماس أيضًا آلاف الصواريخ وقذائف الهاون على إسرائيل واختطفت جنديًّا إسرائيليًّا اسمه جلعاد شاليط. بدورها ضربت إسرائيل حصارًا على غزة من البر والبحر. وتفاقم التوتر حتى شهر ديسمبر من عام ٢٠٠٨، حين رفضت حماس تمديدَ وقف إطلاق النار، فاقتحمت القوات الإسرائيلية القطاعَ للمرة الثالثة منذ عام ١٩٤٨. استعرَ القتال أسابيعَ في مناطقَ ذات كثافة سكانية عالية، وزاد الاستياء الدولي ثانية. وتعيَّن على صانعي السياسات الأمريكيِّين أن يختاروا بين الوقوف في ظهر حليفتهم إسرائيل أو التماشي مع الرأي العام العالمي المنزعج. وانتهت العملية في يوم ١٨ من شهر يناير بردع حماس، مثل حزب الله من قَبلها، وتثبيط شنِّها المزيدَ من الهجمات، لكن أيضًا بتأجُّج الغضب العربي تجاه إسرائيل، وكذلك أمريكا بحكم الضرورة.

ورغم ما شهدته غزة ولبنان من عنف، فلا توجد منطقة في الشرق الأوسط شهدت من سفك الدماء — ومن تركيز انتباه أمريكا عليها — مثل ما شهد العراق. فبحلول عام ٢٠٠٦، كان العراق يشهد مقتلَ مائة عراقي بالمتوسط بمعدَّل يومي، كما تخطَّى عدد قتلى الولايات المتحدة حاجزَ الثلاثة آلاف. فأصبحت مشاهد الأسواق المقصوفة والنسوة اللائي يولولن على أشلاء أطفالهن مألوفة ومعتادة، تمامًا كما أصبح من المألوف رؤيةُ التوابيت الملفوفة بالأعلام على مدرَّجات الطائرات. بل إن شنق صدَّام حسين في نهاية عام ٢٠٠٦ أتى بنتائجَ عكسية، وهو الحدث الذي كان المقصد منه استرضاء الشعب العراقي؛ إذ قال الجلَّادون للطاغية السابق أنْ «اذهب إلى الجحيم» وهو يهوي على المشنقة.

•••

وسرعان ما أصبحت الحرب في العراق واحدةً من أكثر القضايا إثارةً للخلاف في السياسات الأمريكية منذ حرب فيتنام؛ إذ أعادت إلى الأذهان الجدالات اللاذعة حول ما إن كان يتعيَّن على الولايات المتحدة إعلانُ الحرب على تركيا في الحرب العالمية الأولى أم لا. يصرِّح عضو الكونجرس الديموقراطي جيمس كليبيرن. قائلًا: «إن النصر الذي نسعى إليه … هو استعادةُ دور أمريكا بوصفها داعيةً للسلام، لا محرِّضةً على الحرب»، ويعبِّر السيناتور الجمهوري تشاك هيجل عن أسفه لما أسماه «اللهو بحياة الأمريكيِّين.» وقد حذَّرت لجنة دراسة العراق الثنائية الحزب التي ترأسها وزير الخارجية السابق جيمس بيكر وعضو الكونجرس السابق لي هاملتون، حذَّرت من اندلاع حرب أهلية في العراق لن تكون لها نهاية ومن امتداد إرهاب القاعدة وانتشاره إذا ما أخفقت الولايات المتحدة في حمل القادة العراقيِّين على أن يرتقَوا إلى التزاماتهم الديموقراطية والدفاعية.

في تلك الأثناء، استمر مسئولون آخرون في الدفاع عن سياسات الولايات المتحدة في العراق، لكن لم يكن أيٌّ منهم أكثر إصرارًا على ذلك من الرئيس جورج دبليو بوش. إذ قال: «يمكن للبعض أن يقولوا إن انسحابنا من فيتنام لم يكن له كلفة على صعيد المصداقية الأمريكية، لكنَّ الإرهابيِّين يرون هذا الأمر بصورة مختلفة. لا بد أن ندحرهم في الخارج لكيلا نُضطر إلى مواجهتهم في الولايات المتحدة الأمريكية.»1 وفي حين كان بوش يسلِّم بتوصيات لجنة دراسة العراق ويقرُّ بها، أمر بإرسال عشرين ألف جندي إضافي إلى العراق — ما كان يُعرف باسم الموجة. وهناك، وعن طريق المزجِ بين تكتيكات القتال داخل المدن واتباع الدبلوماسية العشائرية الحساسة، استعاد الجنود السيطرةَ على بعض أكثر قطاعات الدولة التي انتشر فيها المتمرِّدون.

كانت أمريكا قد أضعفت شوكةَ التمرد في العراق، لكن وعلى طريقة السدود الهولندية الأسطورية، طرأت صدوعٌ جديدة في أماكن أخرى. إذ برزت القاعدة نشيطةً وعادت إليها الروحُ في لبنان واليمن وأفغانستان، وحاول الإرهابيون استهدافَ فورت ديكس بنيو جيرسي، ومطار كينيدي في نيويورك. وقطعت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس رحلاتٍ مكُّوكية يتجاوز عددها خمسًا وعشرين رحلة إلى الشرق الأوسط لتساعد في إنشاء دولة فلسطينية؛ إذ بذل رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت ما اعتقدت الوزيرة أنه عرضًا سخيًّا، لكن السلطة الفلسطينية برئاسة الرئيس محمود عبَّاس رفضَته. وقد رحَّب القائد الإيراني محمود أحمدي نجاد بشعور رايس بالخيبة؛ إذ أعلن أنه يكرِّس نفسه لخلق عالَم «من دون أمريكا والصهيونية»، عالَم تحلُّ فيه «كلمة القرآن» محلَّ الليبرالية والديموقراطية. وفي الوقت نفسه، كان البرنامج النووي الإيراني يحرِز تقدُّمًا دون ضابط ولا رادع. كما سجَّلت تركيا — التي أصبحت تحت حكومةٍ ذات توجُّه إسلامي — أعلى مستويات مشاعر معاداة أمريكا في المنطقة. وقد أبرز الخبير في الشئون التركية جوشوا ووكر أن هذه الروح العدائية «لا يمكن محوها ببساطة برئيس جديد يجري تنصيبه في يناير من عام ٢٠٠٩، أو من خلال مبعوثٍ خاص للعالم الإسلامي.»

وفي ذلك الشهر كان الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما — وهو الرئيس الرابع والأربعون لأمريكا — يحلف اليمين. وباعتماده على منصة التغيير، تعهَّد أوباما بجعل إصلاح علاقات أمريكا بالشرق الأوسط حجرَ الزاوية في سياساته الخارجية. وبعد أن تعهَّد بسحب القوات الأمريكية من العراق بسرعة، أعلن أوباما يقول «حان وقت إنهاء هذه الحرب» والتركيزُ على أفغانستان. وبالمثل، وعد بإغلاق منشأة قاعدة خليج جوانتانامو البحرية، حيثما يُحتجز الكثيرون من أبناء الشرق الأوسط الذين لهم صلاتٌ بالقاعدة أو طالبان، وأن تجري محاكمتهم أمام محاكمَ مدنية — في مقابل محاكمَ عسكرية. كما شدَّد على عزمه السعيَّ نحو التوصل إلى اتفاقٍ بين فلسطين وإسرائيل، وُصف بأنَّ الافتقار إليه يمثِّل «جُرحًا لا يندمل»، ولهذا الغرض عيَّن وسيطًا خاصًّا. وحيث كان أوباما ملتزمًا بالدفاع عن المواطنين الأمريكيِّين من الهجمات التي تنطلق من الشرق الأوسط، فقد عبَّر عن إصراره على إشراك النظامين السوري والإيراني؛ سعيًا منه لإقناعهم بالعدول عن دعم الإرهاب وتطوير أسلحة دمار شامل.

وقد أبدى أوباما استعداده في خطابِ تنصيبه فقال: «[نحن] نبحث عن سبيلٍ للمضي قُدمًا؛ بناءً على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.» وبإبرازه إلى أنه وجد الإسلام «في ثلاث قارات» وأن اسمه الأول والأوسط عربيان، شدَّد أوباما على أن أمريكا ليست في خلاف مع الإسلام أو مع المسلمين، وأنها تسعى إلى تسوية الخلافات مع خصومها في الشرق الأوسط. وأورد يقول: «سنمدُّ يدنا إن كنتم على استعدادٍ لأن تبسطوا قبضتَكم.»

ولم يتلكأ أوباما في تنفيذِ ما تعهَّد به. إذ نصَّ أوَّل قرار تنفيذي اتخذه على إغلاقِ جوانتانامو ونقلِ سجنائه إلى سجون مدنية. وفي ذلك اليوم نفسه، عيَّن الرئيس جورج ميتشل وهو زعيم الأغلبية السابق في مجلس الشيوخ ووسيط مخضرم مبعوثًا خاصًّا لعملية السلام في الشرق الأوسط. وفي أول لقاء تلفزيوني له مع شبكة العربية ومقرُّها دبي، أكَّد أوباما يقول: «الأمريكيون ليسوا أعداءكم»، وفي أولى باكورة رحلاته خارج البلاد قال للتجمُّع الوطني التركي إن «الكثير من الأمريكيِّين»، ومن بينهم هو نفسه، «لديهم مسلمون في عائلاتهم أو عاشوا من قبلُ في دولٍ أغلبيتُها من المسلمين». وفي قرارٍ آخرَ غير مسبوق، عيَّن أوباما فرح بانديث، وهي أمريكيةٌ مسلمة، أوَّل ممثل خاص للأمة للمجتمعات الإسلامية.

ظهر تواصل الرئيس مع العالم الإسلامي بأكبر شكل له في القاهرة؛ حيث ألقى في يوم ٤ من شهر يونيو لعام ٢٠٠٩ خطابًا مهمًّا بعنوان «بداية جديدة». شدَّد الخطاب على التشابه بين المبادئ الإسلامية والأمريكية والروابط التاريخية بينهما — بما في ذلك اتفاقياتُ الحِقبة البربرية وقرآن توماس جيفرسون. وفي حين أعاد أوباما تأكيدَ دعم أمريكا لإسرائيل، والتذكيرَ بمعاناة اليهود أثناء الهولوكوست، فإنه طالب بوقف إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وبإيجاد حل لمعاناة الفلسطينيِّين من خلال إنشاء دولة لهم. وكان أوباما صريحًا في شجبه ﻟ «المتطرفين الدمويِّين» الذين نفَّذوا أحداث الحادي عشر من سبتمبر وهجمات أخرى ضد المدنيِّين الأمريكيِّين، لكنه لم يكن أقلَّ صراحةً في التفريق بين القلة المسلحة والأغلبية الساحقة المعتدِلة. إذ صرَّح يقول: «إن الإيمان الراسخ لأكثر من مليون شخص لهو أكبرُ من الكراهية الضيقة الأفق الكامنة لدى البعض». وأكمل يقول: «إن الإسلام … يُعدُّ جزءًا مهمًّا من عملية تعزيز السلام.» قبل ذلك بقرن من الزمن، كان ثيودور روزفلت قد أثار غضبَ الجماهير المصرية بخطابه المناهض للقومية، لكن الرئيس الأمريكي الجديد أثار في نفوس مستمعيه الدفء، بل وربما مشاعر الفرح حتى.

لعِب الإيمان — الذي يمثِّل إجلالًا صريحًا للإسلام بصفة خاصة — دورًا بارزًا في رؤية أوباما لتجديد العلاقات بين أمريكا والشرق الأوسط. إلا أن أحداثًا لاحقة في المنطقة اضطرت الرئيس للجوء إلى أشكال تقليدية أكثرَ من القوة — أشكال دبلوماسية واقتصادية وعسكرية.

رغم تأييده لمطالبة أوباما بتفعيل حلِّ الدولتين في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يقاوم إصرارَ أوباما على التجميد التام لبناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وقد تسبَّب الإعلان عن التخطيط لإنشاء مئات الوحدات الاستيطانية في حيٍّ يهودي متنازع عليه في القدس — والذي خرج أثناء زيارة جوزيف بايدن نائب الرئيس إلى إسرائيل في شهر مارس من عام ٢٠١٠ — في توتُّر العلاقات بين الدولتين الحليفتين. ورغم أن نتنياهو وافق في نهاية المطاف على وقفٍ غير مسبوق مدَّته عشرة أشهر لبناء المستوطنات الجديدة، فقد استمر الفلسطينيون في رفض المفاوضات المباشرة. في تلك الأثناء دفعت التهديدات المتصاعدة التي تتعرض لها إسرائيل من الدول المعادية لها ووكلائها الإرهابيِّين الإدارةَ الأمريكية إلى زيادة الدعم الأمريكي للدفاعات الإسرائيلية ليصل إلى مستوياتٍ غير مسبوقة. فبالإضافة إلى إجراء المناورات العسكرية المشتركة ومشاركة المعلومات الاستخبارية، طوَّرت المؤسسات الدفاعية الأمريكية والإسرائيلية أكثرَ أنظمة مضادات الصواريخ الباليسيتية تقدُّمًا في العالم — نظام السهم ٣ ومقلاع داود — وقد موَّلته الولايات المتحدة بدرجة كبيرة. وفي حين كانت الإدارة الأمريكية تحثُّ نتنياهو على إعادة فتح المعابر الحدودية إلى غزة، فقد أيَّدت حقَّ إسرائيل في الإبقاء على الحصار البحري على حماس، حتى حين تواجه تحدياتٍ من الأساطيل التي أطلقها حلفاؤها.

وكان للقوة أيضًا مكانةٌ بارزة في تعاملات أمريكا مع إيران. إذ حاول المبعوثون الأمريكيون إشراكَ القادة الإيرانيِّين فقط ليدركوا أن طهران لم تكن راغبة في النظر في إيقاف برنامجها النووي — وعِلاوة على ذلك، أنشأت منشآت تخصيب سرية. وليأسهم من التوصُّل إلى تفاهم مبكِّر، قادت الإدارة الأمريكية جهودًا دولية لفرض عقوبات على إيران. وفي الوقت نفسه، قدَّم أوباما مبيعات أسلحة ضخمة للسعودية ولدول خليجية أخرى لتدعيم دفاعاتها ضد إيران، وسعى لفصل سوريا عن مدار طهران بإرسال مبعوثين رفيعي المستوى — وبإعادة السفير الأمريكي — إلى دمشق. وكان أوباما في بداية الأمر مترددًا في دعم حركة معارضة إيرانية أطلقت شراراتها انتخاباتُ شهر يونيو عام ٢٠٠٩، لكنه بعد عام واحد أثنى على المتظاهرين وأعلن عن رؤيته لليوم «الذي تمثِّل فيه الحكومة الإيرانية … طموحات شعبها لا خوفهم.»

في تلك الأثناء، تصاعد النشاط العسكري الأمريكي في المنطقة. إذ سحب الرئيس — كما وعد — القوات الأمريكية من العراق لكنه عزَّز من وجودهم بدرجة كبيرة في أفغانستان؛ حيث تحتشد طالبان — وهم المتطرفون الذين يؤوون تنظيمَ القاعدة. كما توسَّعت أيضًا الهجمات الصاروخية المحمولة بالمسيَّرات ضد أهداف إرهابية، ليس في باكستان وحدَها ولكن أيضًا في الصومال واليمن. ورغم أنه تعهَّد بالشروع في سحب القوات الأمريكية من أفغانستان في عام ٢٠١١، فقد اعترف أوباما أن «الكفاح ضد المتطرفين الدمويِّين لن ينتهيَ سريعًا، وسيمتد ليتجاوز أفانستان.»4 وقال إن الأمريكيِّين في حاجة «لأن يستعرضوا قوَّتهم» في الشرق الأوسط لفترة قادمة لا يمكن تحديدُ مدَّتها.

كان أوباما قد بدأ يدرك ما عرفه عددٌ من سابقيه بشأن علاقات التيه التي تتَّبعها أمريكا مع الشرق الأوسط. فقد حاول مثل كينيدي أن يتواصل مع الأنظمة المعادية ويشركها معه، فقط لتلقى محاولاته الرفضَ والإعراض. وسعى مثل كينيدي إلى أن ينأى بأمريكا عن سياسات الإدارات السابقة القائمة على القوة، لكنه لم يجد بدائلَ كثيرة لإبعاد التهديدات الآتية من الشرق الأوسط. وانضم أوباما إلى صفوف الرؤساء الكُثر الذين سعَوا جاهدين لإرساء السلام بين العرب وإسرائيل، فقط ليجد موانع تحقيق هذا الهدف.

لكن أبرز التحديات التي تواجهها صناعة السياسات في أمريكا في الشرق الأوسط لم تكن في المستقبل البعيد، بل كانت في الأشهر الأولى من عام ٢٠١١. إذ تسبَّب حرقُ مواطن تونسي لنفسه اعتراضًا على بطالته وعلى الفساد والحكم الدكتاتوري في إشعال فتيل مظاهرات شديدة في أرجاء البلد. وبينما كان نظام الدكتاتور التونسي زين العابدين بن علي يتداعى، انتشرت الثورة لتصل إلى اليمن ثم إلى مصر؛ حيث عمدَت أعدادٌ لا تُحصى من المواطنين إلى ميدان التحرير في القاهرة. وتحت أنظار الجنود المصريين الصامتين وفي ظل أسلحتهم، طالب الشعب باستقالة الرئيس حسني مبارك، الحليفِ الدائم لأمريكا الذي حكم مصر طوال ثلاثين عامًا.

لم يواجه أيُّ رئيس أمريكي معضلةً عويصة يقف فيها الإيمان في مواجهة القوة منذ الوقت الذي تعيَّن على جون كوينسي آدامز فيه أن يختار بين الانحياز إلى كفاح اليونانيِّين للاستقلال ومصالح أمريكا التجارية والعسكرية في تركيا. فهل يجب على الولايات المتحدة الالتزام بمبادئ الديمقراطية بوصفها حقًّا للجميع والتي تأسَّست عليها أم الوقوف في صف نظامٍ ساعد في إرساء الاستقرار في المنطقة رغم ما يتمتَّع به من سُمعة استبدادية؟ هل تستطيع أمريكا أن تنأى بنفسها عن مبارك في حين أنها تدعم حكامًا شرق أوسطيين آخرين كانوا بالكاد أكثر ديمقراطيةً منه، وإن كانت تجمعها بهم علاقات صداقة؟ وماذا لو تبيَّن أن القادة الذين سيُنتخبون في مصر معادون للولايات المتحدة وللسلام مع إسرائيل وللكفاح ضد التطرف الديني — هل ستستطيع واشنطن أن تحترم اختيار الشعب؟

أعلن أوباما يقول وهو يكشف عن قراره: «لقد أعلن شعب مصر كلمته. لقد وصل صوتهم ولن تكون مصر كما كانت من قبل أبدًا.» ومن ثَم دعمت الإدارة الأمريكية حكومةً مؤقتة مكلَّفة بالتحول إلى الديمقراطية. لكن حتى حين بدا أن الأزمة المصرية في طريقها إلى الحل، اندلعت أزمات أخرى — في البحرين، تلك المملكة التي تتمتَّع بأهمية استراتيجية كبيرة والتي تحالفت مع أمريكا فترةً طويلة، وفي ليبيا، التي كانت ترزح تحت طغيان القذافي طوال أربعين عامًا. وهزَّت المظاهرات الأردن والمغرب أيضًا وهدَّدت بأن تجتاح الخليج.

حتى وقت كتابة هذه السطور، يمثِّل الشرق الأوسط مرجلًا للتغيير والاضطراب. ويبدو أن السلام الأمريكي الذي تبِع الحرب العالمية الثانية والذي ركَّز على الاستقرار والوصول غير المقيَّد للنفط يترنَّح ويتداعى. إن الملايين من الناس في الشرق الأوسط يعمدون إلى الشوارع، يهاجمون أمريكا لدعمها الأنظمةَ الديكتاتورية ويبجِّلونها باعتبارها نموذجًا للحرية في آنٍ معًا. وقد سقط لبنان تحت سيطرة إيران وسوريا، وحتى تركيا التي كانت صديقة لأمريكا منذ رفرف العلم الأمريكي ذو النجوم والخطوط أولَ مرة في إسطنبول في عام ١٧٩٣، ولَّت وجهها عن الغرب لتستعيد مكانتها التقليدية بوصفها قوةً شرقَ أوسطية مهيمنة. وفي حين تتكشَّف كل هذه الأحداث التي تغيِّر مجرى التاريخ، تستمر أجهزة الطرد المركزي الإيرانية في الدوران لإنتاج اليورانيوم المخصَّب، بما يمثِّل تحديًا للعقوبات التي تقودها أمريكا عليها. وتقول دول شرق أوسطية أخرى إنهم هم أيضًا سيسعون عما قريب إلى الحصول على قدرات نووية.

وسط كل هذا، سيستمر الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط — على الأصعدة الاستراتيجية والمالية والثقافية والقدَريَّة. قد تعود القوات الأمريكية إلى الوطن من المنطقة، لكن تحدياتها ستتبعهم، سواء في شكل إرهاب «محلي» — الأمريكيِّين الذين ينزعون إلى التطرف بفعل أئمة الشرق الأوسط — أو في شكل خوف من الإسلام تعود جذوره إلى عمر الجمهورية نفسها. لقد يئس الكثير من الأمريكيِّين من إمكانية جعل المنطقة صورةً من بلادهم، في حين ينفر آخرون من انعكاس صورتهم في مرآة الشرق الأوسط. وما زال آخرون يحلُمون بخروج رجالٍ يشبهون جورج واشنطن من الشرق الأوسط يحوِّلون المنطقة إلى عصبة من الأمم المتحدة تحت لواء الديمقراطية والتي تنعم بالحرية والكرامة.

لا شك أن الأنماط التي تميَّز بها انخراط أمريكا في الشرق الأوسط أكثر من قرنين من الزمان ستستمر وتتواصل. ستستمر القوة في كونها عنصرًا مهمًّا في ذلك التفاعل، وسيكون الإيمان — في صورتيه الدينية والديمقراطية العلمانية — هو محرِّك السياسات الأمريكية. إن التصورات عن الشرق الأوسط التي استحثَّتها «ألف ليلة وليلة» في قرائها الاستعماريين لا تزال تأسر لبَّ المعاصرين من مشاهدي «أمير فارس»، وفانتازيا ديزني التي تدور أحداثها في إيران في العصور الوسطى. قد لا يتجاوز الحاضر كونه حدَّ سكين — كما رأى القديس أوجسطينوس — خاصة في منطقة سافعة كهذه. وبينما تذهب هذه الأفكار التي أوردتُها إلى المطبعة، ربما يكون بعضها قد أصبح بائدًا بالفعل. لكن أيًّا يكن ما يحمله المستقبل — من صراعات متواصلة وأزمات ومحنٍ وربما حتى من سلام — يمكن للأمريكيِّين أن يتفكَّروا في ماضي الشرق الأوسط الذي يكون في بعض الأحيان مرشدًا ومشوقًا وحاملًا للعِبر ومشرقًا.

واشنطن العاصمة
فبراير ٢٠١١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤