تمهيد جديد

دخلت الطابق السابع من وزارة الخارجية الأمريكية، ذلك المبنى القائم منذ أوائل ستينيات القرن العشرين، وقد أُعيدت زخرفته على الطراز المعماري الشائع في أواخر القرن الثامن عشر. فبالإضافة إلى تزويد المبنى بأثاث ينتمي إلى تلك الفترة، عُلقت على جدرانه صور لوزراء خارجية الولايات المتحدة. سرتُ في هذا الرواق الشهير كي أتسلم موافقة التعيين، وهي وثيقة تشهد بصلاحيتي لأداء دور السفير فوق العادة والمفوض في الولايات المتحدة الأمريكية.

الدولة التي كنت سأمثلها هي إسرائيل. وهي تقع في قلب منطقة الشرق الأوسط، وتعترف باللغة العربية واللغة العبرية بوصفهما لغتيها الرسميتين، وبرغم أن جذور أغلب مواطنيها متأصلة منذ زمن طويل في المنطقة، لم تكن إسرائيل قَط دولةً يهودية بين الدول الإسلامية، وهو ما يُعَد مثار جدل واندهاش. فلا يمر فصل من فصول السنة دون أزمة، وتُشَن باستمرارٍ معارضة لإسرائيل؛ حقها في الدفاع عن نفسها أو حتى في الوجود. حذَّرني رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مثلما حذَّرني وزيرا الدفاع والخارجية؛ إذ قال: «سوف تكون مهمتك صعبة.» لكنني لم أتردد. فهذا المنصب كان حلم حياتي.

تربيت في الولايات المتحدة وأنا فخور بهُويَّتي الأمريكية؛ فقد نشأت في ظل المحرقة وصعود نجم أول دولة يهودية في ألفَي سنة. وبعلمي بالالتزامات والفرص التي تفرضها تلك المرحلة التاريخية، صممت يومًا ما أن أعيش في إسرائيل. وفي فترة المراهقة، كنت أقطع العشب وأزيل الجليد كي أكسب مالًا كافيًا للسفر إلى إسرائيل والعمل في مزرعة جماعية مجانًا، أو كما يُطلَق عليها «كيبوتس». ثم، بينما كنت أحضر مؤتمرًا شبابيًّا يهوديًّا في واشنطن، رأيت السفير الإسرائيلي بالولايات المتحدة. دخل إلى القاعة بمظهر خجول وفي الوقت نفسه فخم، في حين وقف الطلاب على كراسيهم وصفَّقوا تحيةً له. كان اسمه إسحاق رابين، وهناك قلت لنفسي: «هذا ما أطمح إليه.»

كان الطريق إلى تحقيق حلمي طويلًا وشاقًّا. فسعيًا مني للدمج بين الدراسة العملية والخدمة العامة، درست تاريخ الشرق الأوسط مع التركيز على البعد الدبلوماسي. وكانت نشأة الروابط بين إسرائيل والولايات المتحدة أيضًا مثار اهتمام خاص لديَّ، وبشكلٍ أوسع نطاقًا، تطور العلاقات مع الغرب. وهذه الدراسة أمدَّتني بالعمق والسياق اللازمَين لتصوري للقضايا المعاصرة، لا سيما في الفترة الأخيرة، في الوقت نفسه الذي خدمتُ فيه بصفة حكومية وعسكرية في مناصب مختلفة في إسرائيل. وعلى النقيض، عند العودة إلى الحياة الأكاديمية، جعلتني الخبرة المهنية منفتحًا على ثقل عملية صنع القرار وتعقيداتها، وألهمتني الحذر من استخلاص استنتاجات سهلة.

وبعد أن كتبت عن السنوات الأولى من الصراع العربي الإسرائيلي، شرعت في مشروعي الأكثر طموحًا: أول تاريخ شامل للانخراط الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط. فلطالما أدركت الحاجة إلى مثل هذا الكتاب، منذ أن كنت طالب دراسات عليا عندما علمت أن الأمريكان ظلوا منخرطين في منطقة الشرق الأوسط على مدار قرنين من الزمان وليس فقط في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ثم حلَّت فظائع الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١. وفجأة، تعيَّن على الأمريكان اتخاذ قرارات مصيرية في منطقة الشرق الأوسط، لكن كانت تنقصهم الخلفية التاريخية لتأطير تلك القرارات. سعيت لتقديم السياق الضروري عبر هذا الكتاب.

أعمق إنجاز للمؤرخين هو رؤية أعمالهم وقد أصبحت جزءًا من الجدل الوطني الذي يقرأ عنه الطلاب والصحفيون وصانعو السياسات ويستوعبونه. وقد وجدت نفسي أنا كذلك أعتمد على الأشياء التي يكشف عنها الكتاب في محادثاتي مع الزعماء الأمريكيين والإسرائيليين. ثم، في ربيع ٢٠٠٩، استدعتني الحكومة الإسرائيلية إلى الخدمة بصفة سفير إسرائيل في الولايات المتحدة، وحققت حلم حياتي.

ورغم أن الكتاب لم يكن معي وأنا أدلف إلى رواق وزارة الخارجية، كانت دروسه حاضرة بقوة. فقد كانت صورة إليهو روت معلَّقة على الحائط، وهو، حسبما تذكرت، كوزير للحرب في عام ١٩٠٤، ساعد في تحرير الرهائن الأمريكيين في منطقة الشرق الأوسط، وساعد، بعد عامين لاحقًا، في منع نشوب حرب أوروبية ضد المغرب. وعلى مقربة من روت، كانت صورة ويليام ماكسويل إيفرتس، راعي الإرساليات التبشيرية الأمريكية العاملة في منطقة الشرق الأوسط ووزير الخارجية الذي أزاح الستار في عام ١٨٨٠ عن مسلة مصرية في سنترال بارك في نيويورك. كما كانت صورة ويليام هنري سيوارد، وزير خارجية الرئيس لينكولن، معلقة، وكان سيوارد المروج للجامعات الأمريكية في الشرق الأوسط، كما أنه افتتح أول ملعب للبيسبول في المنطقة. وكان هناك أيضًا روبرت لانسينج، الذي انضم إلى الرئيس وودرو ويلسون في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى، وجورج مارشال، الذي حذَّر هاري ترومان من أنه لن يصوت له في انتخابات عام ١٩٤٨ إذا اعترف الرئيس بإسرائيل. وعلى مسافة غير بعيدة من جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الذي أنقذ الزعيم المصري الشاب جمال عبد الناصر من الهزيمة في أزمة السويس عام ١٩٥٦، عُلقت صورة دين راسك، الذي أشرف على كارثة الزعيم نفسه في حرب الأيام الستة عام ١٩٦٧. هنري كيسنجر، مؤسس الدبلوماسية المكوكية في البحث عن السلام العربي الإسرائيلي، وكوندوليزا رايس، التي تولت هذا المسعى مرة أخرى حتى عندما كانت أمريكا تحارب في العراق؛ مررت بهم جميعًا في طريقي للحصول على الموافقة بتنصيبي سفيرًا. ومن المفارقة أن الصورة الأخيرة كانت لوزير الخارجية الأول، جون جاي، الذي أشرف على بداية أطول صراع أمريكي في الخارج، وتحديدًا في الشرق الأوسط.

واصطفَّ على طول الجدران شهود على أكثر من ٢٠٠ عام من التطلعات الأمريكية في الشرق الأوسط، من مبادرات ومواجهات ومشاورات وأخطاء واختراقات لا حصر لها؛ بعضها مشبع بالمثالية، وبعضها الآخر مدفوع بالمصلحة الذاتية. ولكن معظمها مليئة بالأمل. هنا، باختصار بصري، كانت قصة العلاقة التي لا تزال حيوية بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها. وإدراكًا للمسئوليات الهائلة التي تحملها كل فرد من هؤلاء الأفراد في التعامل مع المنطقة، شعرت على الفور بالفخر والتواضع عند تولي مهامَّ شاقَّة مماثلة. ومع ذلك، شعرت بالارتياح أيضًا عندما علمت أن أجيالًا من الأمريكيين في الشرق الأوسط شنوا الحرب وسعوا إلى السلام، وانخرطوا وانسحبوا، وأظهروا درجات متأرجحة من التسامح، وبطاقةٍ نادرًا ما تضعف، سعوا إلى عرض مبادئهم في المنطقة. إن معرفة مسار ذلك الماضي من شأنه أن يساعدني في استكشاف المستقبل.

بعد عدة أسابيع من حصولي على موافقة وزارة الخارجية، شرعت في الخطوة الأخيرة لأصبح سفيرًا. نقلتني سيارة رسمية، تُرفرف فيها الأعلام الأمريكية والإسرائيلية، إلى البيت الأبيض. لقد جئت لتقديم أوراق اعتمادي للرئيس، في حفل تكريمي. عندما دُعيت إلى غرفة مجلس الوزراء — نفس الغرفة التي كشف فيها الرؤساء أيزنهاور ونيكسون وكارتر عن مبادئهم للدفاع عن الشرق الأوسط — كتبت في سجل الزوار عن إرث أمريكا الذي يمتد لمائتَي عام في المنطقة. تذكرت قبل أن يتم اصطحابي إلى غرفة روزفلت: «لقد فكر الآباء المؤسسون في جعل موسى والخروج الختم الأعظم للجمهورية.». وكانت على رأس رف الموقد صورة لثيودور روزفلت، الذي أبحر عبر نهر النيل عندما كان طفلًا مهووسًا بالعجائب، وأثار بعد ذلك بكثيرٍ أول احتجاج مناهض لأمريكا في الشرق الأوسط. وبعد ذلك، دخلتُ المكتب البيضاوي، حاملًا أوراق اعتمادي.

جئت إلى هذا المنصب في منعطف حاسم في تدخل أمريكا في منطقة الشرق الأوسط. فقد انخرطت البلاد في حربين معقدتين في المنطقة، ولا تزال تكافح ضد التهديدات الإرهابية وتسعى جاهدة لتحقيق السلام العربي الإسرائيلي، في حين يطاردها كابوس إيران المسلحة نوويًّا. وكان نفط الشرق الأوسط قضيةً واسعة الانتشار، وكذلك علاقات أمريكا مع العالم الإسلامي الأوسع. أثار الانكماش الاقتصادي المستمر تساؤلات حول تكاليف ومزايا إبراز القوة الأمريكية في جميع أنحاء العالم، وخاصةً في منطقة الشرق الأوسط. وكانت علاقات إسرائيل الطويلة الأمد مع الولايات المتحدة أيضًا في حالة ديناميكية؛ إذ تعمقت في بعض النواحي وتكثفت في جوانب أخرى. وكانت التحديات كثيرة.

إن تقدير هذه التحديات، وتحليل تداعياتها على كلٍّ من إسرائيل والولايات المتحدة، كان يمثل جزءًا رئيسيًّا من وظيفتي بصفتي سفيرًا؛ لأن كل ما تفعله أمريكا في منطقة الشرق الأوسط يؤثر على إسرائيل. وفي تقييمي لتداعيات تواصل الرئيس باراك أوباما مع المسلمين، على سبيل المثال، وزياراته المبكرة لمصر وتركيا، تذكرت الجهود المماثلة التي بذلها فرانكلين ديلانو روزفلت وجون فيتزجيرالد كينيدي وردود الفعل التي أثاراها. وعلى العكس من ذلك، عند دراسة قرار الرئيس بتصعيد العمليات العسكرية ضد تنظيم القاعدة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، أشرت مرةً أخرى إلى قرارات توماس جيفرسون وجيمس ماديسون، اللذين تصدَّيا أيضًا لهجمات ضد الأمريكيين من قِبل لصوص من منطقة الشرق الأوسط. وأثار توريد الأسلحة الأمريكية إلى العديد من دول الشرق الأوسط سابقة المبيعات التي وضعها أندرو جاكسون والمخاطر التي تكبَّدتها تلك المعاملات. وفي مخاطبتي الجماعات المسيحية المؤيدة لإسرائيل، سمعت أصداء جون آدامز، ولينكولن، وويلسون، الذين ألهمتهم عقيدتهم بدعم فكرة الدولة اليهودية في الأرض المقدسة. إن افتتاح فروع للجامعات الأمريكية في الشرق الأوسط أعاد إلى الأذهان افتتاح الجامعة الأمريكية في بيروت وكلية روبرت بالقرب من إسطنبول، قبل أكثر من ١٥٠ عامًا. وبينما أعلن الرئيس أوباما التزامه بتحقيق السلام العربي الإسرائيلي الشامل، وتعيين مبعوث خاص لهذا الغرض، كان بوسعي أن أنظر إلى الوراء إلى الرؤساء والمبعوثين السابقين الذين سعوا إلى تحقيق الهدف الرفيع نفسه، وكان بوسعي أن أقيِّم أيٌّ منهم حقق تقدمًا ولماذا.

سوف تنخرط أمريكا في الشرق الأوسط لسنوات عديدة قادمة، وسواء كانت تحاول فهم الحاضر أو التنبؤ بالمستقبل، فإن الإحساس بالماضي سيكون ضروريًّا. لقد كتبت هذا الكتاب في الأصل لمساعدة الأمريكيين على فهم علاقاتهم بمنطقة ذات أهمية بالغة لرفاهيتهم وأمنهم؛ واليوم، كسفير، أقدِّر فائدته للإسرائيليين وغيرهم من شعوب منطقة الشرق الأوسط أيضًا. إن الأمريكيين، المتسلحين بقوتهم، والمحفزين بإيمانهم، والمدفوعين بخيالاتهم، سوف يظلون بارزين في الشرق الأوسط، كمتعهدين للتغيير والرؤى.

واشنطن العاصمة
ديسمبر ٢٠١٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤