الفصل الحادي عشر

الهجوم الأمريكي

كانت جولة في الشرق الأوسط تُعدُّ فيما مضى رحلةَ مخاطرة، ولكن بحلول فترةِ ما بعد الحرب الأهلية أصبحت تلك الرحلة نزهةً مقبولة. فقد شهدت العقود بعد عام ١٨٦٠ تزايدًا يصل إلى عشرة أضعاف عدد الأمريكيِّين المبحرين إلى الخارج، لم يكونوا من المبشِّرين وحسب، بل كانوا أعدادًا متنامية، من السياح كذلك. وصدر أكثرُ من ألفي كتاب عن السفر في الولايات المتحدة في تلك الفترة، وكانت كل رحلات السفن البخارية محجوزة مقدمًا لفترات طويلة. وكان معظم هؤلاء المسافرين متجهًا نحو أوروبا، ولكنَّ جزءًا كبيرًا منهم كان يقوم باستكشاف الشرق الأوسط أيضًا. وقد شهد أحدُ زوار سوريا، وهو الدكتور جيكوب فريز أن «عدد المسافرين الأمريكيِّين يفوق بكثير الأعدادَ القادمة … من أي بلد آخر»، وهي حقيقةٌ أكَّدها الفنان فريدريك تشرش، مؤسِّس مدرسة هدسون ريفر. فعندما وصل إلى دمشق عام ١٨٦٨، اكتشف تشرش أن الأمريكيِّين كانوا قد استولَوا على كل حجرات فنادق المدينة. فقال: «القلة الإنجليزية هنا تقف وأيديها في جيوبها، وتصرخ: يا لهم من أمريكيِّين غريبي الأطوار!» وفي مصر أيضًا كان عدد السياح الأمريكيِّين قد ارتفع من ستين سائحًا في السنة، وهو معدَّل ما قبل الحرب الأهلية، إلى نحو خمسمائة. ويقال إنه في بدايات السبعينيات من القرن التاسع عشر كان المرشدون البدو عند الأهرامات يتحدَّثون الإنجليزية بلكنةٍ أمريكية، ويسمُّون حميرَهم «يانكي دودل» (وهي أغنية أمريكية شهيرة).

وبسبب التخفيض الكبير في الأسعار وتقليل وقت السفر من نيويورك إلى مصر إلى سبعة عشر يومًا «فقط»، تشجَّع الأمريكيون على الإبحار شرقًا. ومع ذلك، فإن ظهور هذا «العصر البدوي»، كما أسمَته مجلة «بوتنام»، لم يكن وحدَه السبب في هذا النزوح الأمريكي غير المسبوق. فقد استمرَّ الأمريكيون في الانجذاب إلى الشرق الأوسط من خلال «المسك العربي، والألوان البهيجة، أي هذه الخيالات الكاملة»، حسب كلمات مؤلِّف كتب الرحلات تشارلز دادلي وارنر. وكان عدم الاستقرار والرغبة القديمة في الخروج إلى ما وراء وبعد الحدود يدفع الأمريكيِّين أيضًا إلى الشرق، خاصةً بعد تلاشي الحدود الغربية. أما الأهم فكان الرغبة في الخروج إلى العالم، بعد أربع سنوات من سفك الدماء ورغبتهم في رؤية ومعايشة جَمال الحياة. لذلك قال نوبار باشا، وزير الخارجية لهنري فيلد، وهو مراسلٌ من ماساتشوستس عام ١٨٧٨: «آه منكم أيها الأمريكيون! أنتم البدو الرُّحل الحقيقيون!»

وكان بإمكان الأمريكيِّين أن يُشبِعوا رغبتهم في التجوال عن طريق السياحة في الشرق الأوسط، ولكن ليس من دون التعرُّض للمخاطرة المصاحِبة لذلك، إن لم تنعكس تلك المخاطرة على حياتهم أيضًا. وظلَّ السياح هدفًا جذابًا لقُطَّاع الطرق؛ لذلك كان يفضَّل أن يستأجر الأمريكيون حراسًا، وأن يحملوا معهم دومًا خناجرَ وأسلحة بيضاء أخرى. وقد حاول أحدُ النيويوركيين، واسمه كلاين، تجاهُل هذه التحذيرات، والإبحار عبر نهر الأردن وحدَه. لكن ذلك اضطرَّه إلى دفعِ إتاوة قدرها ٧٠٠٠ دولار لبدوي مسلَّح، وهو مبلغ كان يُعدُّ ثروةً عام ١٨٧٨. كان السفر في تلك المناطق يمثل خطرًا على النساء بصورة خاصة إذا كن غير مرتديات للحجاب أو النقاب ووحدهن، وكثيرًا ما كن يشعرن أنهن مهدَّدات جنسيًّا من البيئة المحيطة بهن. فالممثلة الذائعة الصيت روز إيتينج، التي جالت في الشرق الأوسط في أواخر الستينيات من القرن التاسع عشر، اعترضت بشدة على ضرورة تغطية شعرها عند الخروج أو اصطحاب مُرافق من الرجال، وهي ممارسات وجدتها السيدات الأمريكيات اللاتي اعتدن الخروج والدخول كما يشأن — منغِّصة للغاية. وكانت الأمراض المنتشرة أكثرَ خطرًا من السرقة أو التحرش الجنسي للمسافرين الأمريكيِّين؛ فقد ظلَّ مرض الدوسنتاريا هو القاتل الرئيسي؛ إذ كان السببَ في وفاة مارثا وهيلين ووسلي ابنتي رئيس جامعة ييل، حين كانتا تعبُران لبنان عام ١٨٧٠. وكان طقس الشرق الأوسط «غيرَ مناسب للأجانب، وقاتلًا للسياح في كثير من الأحيان»، حسب أقوال القنصل الأمريكي في دمشق أغسطس جونسون، الذي شهد بأنه «يمكن رؤية قبور الرحَّالة والمستكشفين الجدد ممتدةً من مدينة تل القاضي إلى مدينة بئر سبع، ومن القدس إلى دمشق». واشتكى القنصل الأمريكي في الإسكندرية من ضياع معظم وقته في إعادة شحن جثث الأمريكيِّين الذين لاقَوا حتفَهم في رحلاتهم إلى مصر.1

ولكنَّ الأمريكيِّين استمروا في التجوال عبْر الشرق الأوسط بكثير من اللَّهفة وعدم الاكتراث، غيرَ آبهين لتلك المخاطر. وقد بدا لإليزا بوش من لندن، أن الأمريكيِّين الذين قابلتهم في مصر في السبعينيات من القرن التاسع عشر «ليس لديهم أفكارٌ أكثر من التحرك بأقصى سرعة من مكان إلى مكان». في حين اندهش الإنجليزي جون ماكجريجور من أن «أبناء عمومتنا يقومون بمشاهدة الآثار والمرور عليها بسرعة فائقة». وحتى الضباط الأمريكيون العاملون في مصر اندهشوا من العدد الكبير من الزوار الأمريكيِّين للبلاد من ناحية، ومن الجولات السياحية الفائقة السطحية من ناحيةٍ أخرى. وقال أحدهم: «عادةً ما يأتون في أفواج وجماعات، فيُحشرون في الفنادق كالسردين، ثم يُقادون في جولات عبْر البلاد كقطعان الخِراف.»

ويبدو أن المرات القليلة التي تمهَّل الأمريكيون فيها أثناء رحلتهم في الشرق الأوسط كانت بهدف سرقة آثاره أو تدميرها. فقد ترك الأمريكيون آثارَهم على الأهرامات والمعابد والقبور والمسلات، في شكل رسوم للعَلم الأمريكي أو إزالة لقطعِ أحجار مكتوبة بالهيروغليفية. وتخصَّص الزوار الأمريكيون في الرسم على الآثار، ولكنَّ إحداها كانت هي الأشهر والأكثر انتشارًا، وهو توقيع «باول تاكر، نيويورك، ١٨٧٠»، الذي وُجد على العديد من الآثار القديمة. وما لم يستطِع الأمريكيون سرقتَه أو تشويهه، كانوا نهمين لشرائه. وعن ذلك قال ضابطٌ اتحادي سابق: «كثيرًا ما يفكرون من خلال حافظات نقودهم، ويعجبون بالأشياء من خلال شيكاتهم، ويقدِّرون الأمور بتثاؤبهم». وهناك مغتربٌ أمريكي آخر في مصر، وهو تاجرٌ من نيوجيرسي كان يطلِق على نفسه اسم «سميث الأثري»، استغلَّ هذا الشَّغف الشديد بالآثار، وحقَّق ثروة من بيع القطع الفنية الحقيقية والمزيفة للأمريكيِّين.

لم يتفوَّق على قلة الاحترام التي أظهرها الأمريكيون لماضي الشرق الأوسط سوى احتقارهم لمجتمعه الحالي. ومثل زوارِ ما قبل الحرب الأهلية للمنطقة، استمر السياح الأمريكيون في فترةِ ما بعد الحرب في انتهاكِ ما اعتبروه حياةَ القسوة والحرمان في الشرق الأوسط. فالإساءة الواضحة في معاملة النساء، التي حكم عليها تشارلز دادلي وارنر بأنها «الحُكم النهائي ضد دِين الرسول محمد»، كانت أمرًا لا يزال له تأثيرٌ منفِّر بصورة خاصة. وحتى أثناء العبور السريع عبر المنطقة، ظلَّ إحساس الأمريكيِّين بتفوقهم الثقافي بالنسبة إلى الشعوب المحلية ثابتًا لا يتزعزع، وكذلك توقُّعاتهم بضرورة تلقي الاحترام اللازم تبعًا لذلك. فعندما اعترض حارسٌ مسلم الطريقَ إلى مقبرة داود في القدس مثلًا، ثار الدكتور فريز، الذي عُرف بهدوء طبعه فيما مضى، وصاح: «يا للاحتقار الذي يظهره هؤلاء الفلاحون البؤساء لبلد الحضارة في هذا الزمان»، ودعا أمريكا المسيحية إلى الأخذ بالثأر، «إما بالطرق الدبلوماسية أو بالسيف».

وكان الأمريكيون قد أظهروا بالفعل وجهَهم القبيح في الشرق الأوسط، ولكن لم يكن كلهم من الحمقى أو المدمِّرين أو الرافضين لثقافات الشرق الأوسط. فقد قال رالف والدو إيمرسون في مايو عام ١٨٧٢ وهو يبحر عبر النيل: «يمثِّل هذا الشعب نموذجًا لدرسٍ مستمر في التميز والتأنق في الشكل والحركة. فشراع البحر المتوسط هو ظلُّ الأهرامات، والأهرامات هي أبسط أشكال الجبال.» وبعدها بعدة سنوات قام فريدريك دوجلاس بنفس الرحلة، وتخيَّل أن خلفاء بناة الأهرام يمكنهم المساعدة في «مقاومة الأفكار الأمريكية المسبقة ضد الأجناس البشرية الداكنة البشرة»، وكيف أن العرب الأشداء المستقلين «الإخوة غير الأشقاء للزنوج» سيمثلون نموذجًا «لتنشئة شعوبٍ ملوَّنة حسب تقديرهم وحكمهم الشخصي».2

غابت مثل هذه الملحوظات عن الشرق الأوسط تمامًا من أدبِ رحلاتٍ ما قبل الحرب الأهلية، وهي تشهد بذلك على تسامُح واتساع أُفق هؤلاء المفكِّرين. لكنها تشير أيضًا إلى إحساسٍ عميق بالإهانة والذل بسبب عذاب الحرب الأهلية. وجاء هذا التواضع، بجانب الفضول والحيوية والإقبال على الحياة، من عددٍ كبير من الأمريكيِّين الزائرين للشرق الأوسط بعد معركة أبوماتوكس. وكانت صفوفهم تتضمَّن محامين وكتابًا وأغنياء مدلَّلين، ولكن جاء معهم أيضًا لأول مرة عمال ومعلِّمون وموظفون، فكانت هذه هي ديمقراطية السفريات الأمريكية. ورافقهم أيضًا بعض أشهر الشخصيات، وهم قادة الحرب الأهلية وأبطالها.

موكب فخم متلألئ

قال ويليام هنري سيوارد ذات مرة: «تُعدُّ الولايات المتحدة هي فلسطين التي يأتي … منها الخلاص السياسي لكل الجماهير المقهورة.» والآن، في عمر السبعين، كان وزير الخارجية السابق يستعد لرحلة إلى الأرض المقدَّسة الحقيقية، مما جعله أشهرَ أمريكي يزور الشرق الأوسط حتى ذلك الحين. وكانت هذه رحلته الثانية إلى المنطقة. أما الأولى فكانت قبل الحرب الأهلية، وفيها حصل عضو مجلس النواب سيوارد على ثلاثة جياد من بغداد، بالإضافة إلى صندوق «آثار» ورمح بدوي. وفي العَقد التالي كان سيوارد قد حقَّق شهرةً واسعة بوصفه معارضًا شرسًا للرِّق، وأيضًا باعتباره رجلَ الدولة الذي ساعد على إقناع فرنسا وإنجلترا بعدم الاعتراف بالانفصاليين، وأيضًا باعتباره المفاوض في عملية شراء ألاسكا. وقد نجا سيوارد من حادث مروِّع بعربة جياد عام ١٨٦٥، لكنه أصيب إصابةً خطيرة بعدها في محاولة لاغتياله كجزء من مؤامرة بوث، تركته طريح الفراش سنة كاملة. وقد توفيت زوجته وابنته في تلك الفترة، ولكن سيوارد تعافى من وعكته وعاد مرةً أخرى إلى عمله حتى عام ١٨٦٩. وكان لأي رجل أقلَّ منه قوةً أن يستقيل في تلك الفترة، ولكن مع قِصَر قامة سيوارد وعدم نمو ذقنه فإنه لم يكن ضعيفًا على الإطلاق. فلم يكد يغادر الحكومة حتى استقل سفينةً متجهًا إلى مصر.

كان استقباله في بلاد النيل حافلًا؛ فقد رافقه عددٌ كبير من ضباط سلاح الفرسان ذوي القبعات والريش إلى الأهرامات، ونقلته مركباتٌ ملكية بين شاطئي النهر لزيارة الآثار، وكذلك لمشاهدة قناة السويس المحفورة حديثًا. ومع أن هذا الاستقبال الحافل أرضى غرور سيوارد، فإنه ظلَّ على انتقاده للعديد من جوانب المجتمع المصري. فرؤية الزوجات المتعدِّدات والعبيد الأفارقة ذكَّره بالمورمون والانفصاليِّين (وكان يكرههما معًا). ومع ذلك فقد أشاد سيوارد بمحاولاتِ الخديوي لإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية. وفي خطبة موجَّهة لمجموعة من شباب الضباط، أكَّد سيوارد على الحاجة إلى تعليمٍ عالمي في مصر، وعلى ضرورة تكوين كوادرَ محلية قادرة على تولِّي المناصب الحكومية التي كان يحتكرها الأجانب حتى ذلك الحين. وعندها فقط كان يمكن تحرير مصر من «عبوديتها المزدوجة»؛ الأولى من تبعيتها للدولة العثمانية، والثانية من ضَعفها … أمام دول أوروبا المسيحية.

غادر سيوارد مصر، وأبحر نحو الشمال الشرقي، حتى أبصر عَلمًا أمريكيًّا يرفرف فوق القنصلية الأمريكية في يافا. وحمَله عمال شحن عرب أقوياء من زورقه إلى الشاطئ، حيث استقبله إعلانٌ إمبراطوري باعتباره «الرئيس السابق لوزراء حكومة جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية الشمالية». وفي رفقة فرسان عثمانيين، تقدَّم سيوارد نحو القدس، حيث قام بجولة بين القاعات المعتِمة والمتربة للقبر المقدَّس، وزار الجدار الغربي ورأى جماعات اليهود المصلين به، وزار أيضًا جبل الزيتون البراق. وقد انتشى من هذه المناظر. أما أكثرُ ما أصابه بالإلهام فكان معبدًا يهوديًّا في القدس بُني بتبرعات من يهود أمريكيِّين. وعند حضوره قدَّاس يوم السبت هناك، شاهد وهو مشدوه «حاخامًا يهوديًّا يرتدي ثوبًا طويلًا مزدانًا بالنقوش» يتلو صلواته بالعبرية أولًا «رئيس الولايات المتحدة ثم لتخليص الاتحاد من المتمردين الانفصاليين». ومع أنه كان بإمكان الزائر أن يقول إن هذا الدعاء قد استُجيب جزئيًّا بالفعل، فإنه جلس مكانه، لا يحرِّك ساكنًا، وهو يشهد المصلين من حوله يدعون «للسيد سيوارد بالصحة … وبعودة آمنة إلى وطنه».

عاد سيوارد بالفعل إلى الولايات المتحدة، ولكن قبل ذلك توقَّف في إسطنبول في زيارةٍ لا تُنسى. وفي ٤ يوليو عام ١٨٧٠ ترأس احتفالات يوم الاستقلال في كلية روبرت كوليدج. وخرج رئيس الكلية سيروس هاملين و١٥٠ من طلبة الكلية لتحيته. فكان الطلبة يرتدون لباسًا أبيضَ وقبَّعات من القش، وكانت الفتيات يرتدين فساتين من الكتان وزنانير. وقد أمتعوه بأناشيد «وطني هو وطنك» و«ترنيمة المعركة للجمهورية». وفي قاعة حفلات مغطَّاة بالأعلام التركية والأمريكية، وبعد وجبة شهية أمريكية مكوَّنة من الديك الرومي والفاصوليا المطبوخة والكعك المقلي، ألقى سيوارد كلمة، جاء فيها: «كان الظن أن كل الأفكار العظيمة يجب أن تأتي من الشرق إلى الغرب، ولكننا بدأنا نرى ما يأتي من الغرب إلى الشرق خيرًا.» واستمر في شرحِ أن كلية روبرت تمثِّل كرمَ الأمريكيِّين، حتى في أوقات الحرب، وحثَّهم على حب الغير، خاصة بعد أن توحَّدت دولتهم وتحسَّنت الأحوال. وأضاف: «لا يكفي الحفاظ على وضع بلادنا المستقر؛ إذ يجب تطويرُ روحنا الوطنية والمحافظة عليها أيضًا.»3 وبعد مشاهدةِ مباراة كرة مضرب أمريكية على ملعب يطلُّ على مضيق البوسفور، غادر سيوارد إسطنبول، ليجوب أوروبا في رحلةٍ استمرت ستة أشهر. وأخيرًا عاد متشبعًا بتلك الرحلات المتميزة، إلى موطنه في مدينة أوبرن بنيويورك، حيث توفي في العام التالي.

كانت رحلة سيوارد سابقةً ونموذجًا لغيره من شخصيات الحرب الأهلية الراغبين في القيام برحلات شبه رسمية إلى الشرق الأوسط. وكان أكثر هؤلاء دقةً في الملاحظة هو جورج ماكليلان، قائد جيش منطقة بوتوماك والمرشَّح الرئاسي الذي فشل. وقد وصل إلى الإسكندرية في أواخر أكتوبر عام ١٨٧٤، وشرع فورًا في رحلةٍ مدتها ١٠٠ يوم على النيل، متوقفًا فقط لمشاهدة الآثار وللتعرُّف على كرم الضيافة البدوي. ولكن لم تثِر أيٌّ من التجارب ماكليلان أكثرَ من مقابلةٍ بالمصادفة مع اثنين من الضباط الأمريكيِّين، هما رولي كولستون وإيراسموس سبارو بيردي، اللذان كانا في طريقهما لاستكشاف صحاري دارفور. وعلَّق ماكليلان بكثير من التعاطف معهما أن «أحدهما حارب مع جيش الاتحاد، والآخر في جيش الانفصاليين. والآن يجلس الأمريكيان صديقَين جنبًا إلى جنب على ضفاف النيل».

كان ماكليلان رجلًا دقيقًا، قليلَ الحجم وأنيقًا، وكان منتقدوه يطلقون عليه «نابليون الصغير». وقد أصدر ماكليلان هذا أحكامًا قاسية على مجتمعات الشرق الأوسط. فمع أنه أقرَّ بأن المصريِّين كانوا «أناسًا طيبي القلب، أذكياء ويعملون بهمة ونشاط»، فإن الإسلام حوَّلهم إلى أناسٍ مخادعين ومتعصبين دينيًّا. وأضاف أن معظم المسلمين «ليس لديهم أيُّ شيء غير حياتهم ليفقدوه في هذه الدنيا، ولديهم الكثير ليفوزوا به في الآخرة، عن طريق الصراع مع غير المؤمنين». من ناحيةٍ أخرى لم يكن الغربيون ليفهموا شعوبَ الشرق الأوسط أبدًا «ما دمنا نحكم عليهم … بالمقاييس التي نطبِّقها على أنفسنا بدلًا من أن نزن سلوكياتهم بمعاييرنا». ومع ذلك فقد آمن ماكليلان أن التغيير يمكن إحداثه بالتدريج في المنطقة، عن طريق التعليم والتعرُّض بصورة أكبر للغرب والاحتكاك به.4

كان الجمهور الأمريكي يتتبَّع بنهمٍ حكايات زيارات سيوارد وماكليلان للشرق الأوسط. لكن لا واحدة من تلك الرحلات كانت لتُقارن بالأحاسيس التي أثارتها رحلةُ أحد أكثر شخصيات قادة الحرب الأهلية جاذبيةً وإثارةً للجدل. ففي مارس عام ١٨٧٢، أي بعد سبع سنوات من قيادة جيوشه المنتصرة عبر مدينة الإسكندرية بفرجينيا، هبط الجنرال شيرمان في مدينة الإسكندرية بمصر، مقدمًا عرضًا للسلام.

كانت أولى انطباعات شيرمان عن المصريِّين مشجِّعة للغاية. فكتب إلى ابنه تومي، الطالبِ بجامعة جورج تاون: «إيمانهم بمحمد أمرٌ يدعو للاحترام.» وتذكَّر أنه «منذ عشرين عامًا مضت … كان أيُّ كلب يهودي أو مسيحي يُطارَد ويُرجَم. وكان المسلم الورِع يظن أنه بذلك يقوم بفعلٍ يؤهله لدخول الجنة في الآخرة». ولكن الآن أصبح المصريون يرحِّبون بالغربيين، بسبب «مهاراتهم الميكانيكية، فهم يأتون بالمحركات البخارية لمساعدة العمال الفقراء … ويمهِّدون الطرق عبر الصحاري الجافة، وينشئون التلغراف الذي يحمل الرسائل من القاهرة إلى السويس، في دقيقة واحدة». وتنبأ المحارب السابق بأن العِلم الحديث سيكسر كلَّ العوائق والعقبات بين الشرق الأوسط والغرب، وسيمحو كلَّ الأفكار المسبقة.

ولكن ملاطفات شيرمان المبدئية لم تلبَث أن تحوَّلت إلى نفاد صبر مع الشرق الأوسط وجوانبه المتقلبة. فقد اشتكى من أن القاهرة «مدينة جافة» مزدحمة «بجموع من النساء والرجال والأطفال من نحو عشرين عِرقًا مختلفًا، ومعهم جِمال وحمير وجياد وكلاب وحشرات». وادَّعى أيضًا أن الزنوج الأمريكيِّين عندما كانوا عبيدًا كان لديهم منازلُ أفضل من تلك، وأن النساء المصريات: «يُبعن ويُشترين مثل الحيوانات تمامًا». أما أكثر ما أثار شيرمان فكان المصريِّين الذين يظنون أنفسهم أفضلَ من الغربيين، ويهتمون بمُرافقه العسكري الملازم أول فريدريك جرانت، ابنِ الرئيس، أكثرَ مما يهتمون به. وقد أقسم أنه «سيحرك الأهرامات من مكانها» بدلًا من إظهار الاحترام «لعِرق يبدو ويتحدَّث ويتصرف تمامًا كالهنود الحُمر».

وهدأ غضبُ شيرمان مؤقتًا بسبب زيارة من الجنرالين لورينج وستون، وعن طريق جولة شخصية قام بها إلى قناة السويس برفقة فرديناند دي ليسيبس. وقدَّم الخديوي له ترضيةً إضافية بإعادة عرض أوبرا عايدة من أجله شخصيًّا، وقدَّم له دبوسًا ماسيًّا ثمنُه ٢٠٠٠٠٠ دولار. ولكنَّ هذا الاستقبال الحافل الذي لقيه شيرمان في مصر لم يكن شيئًا بجانبِ ما لقيه من حفاوة في إسطنبول. فقد عامله السلطان عبد العزيز معاملةَ رؤساء الدول، واستعرضا معًا طابورًا وراء آخر من حرس الشرف الملكيِّين، وكلُّهم مسلَّحون بالبنادق، واستعرضا أيضًا أساطيلَ مكوَّنة من سفن حربية مصنوعة في الولايات المتحدة. وركب عربات التروللي التي استُورِدت من أمريكا قبل تسييرها في سان فرانسيسكو بعام كامل؛ وقام أيضًا بزيارة «أداء واجب» لكلية روبرت كوليدج.5

وأصبحت رحلة شيرمان مثل سيوارد من قبلُ تمثِّل استمرارًا لتمازج الخيال الأمريكي عن الشرق الأوسط مع ازدياد ارتفاع مكانة أمريكا بوصفها قوةً اقتصادية وحربية. فلم يزُر المنطقة مواطنون عاديون مثل يعقوب (جيكوب) فريز وتشارلز دادلي وارنر فقط، ولكن زارها أيضًا موظفون ذوو مراتب عالية، سابقون وحاليون؛ أما أكثر الرحلات التي أظهرت هذا المزيج فكانت رحلة قائد قوات الاتحاد والرئيس السابق للولايات المتحدة، يوليسيس جرانت، أشهرِ أمريكي في عصره.

كان جرانت قد حقَّق خطوات واسعة منذ أن كان مزارعًا فاشلًا وبائع حطب وسمسار عقارات، ونجا كذلك من حالة إفلاس وحالة إدمان كحوليات وفضائح سياسية وبعض أسوأ المعارك في ذاكرة الإنسانية. والآن في سن الخامسة والخمسين وكمواطن عاديٍّ، كان جرانت لا يزال شخصيةً شهيرة، وهو أول أمريكي منذ جورج واشنطن يشغَل أعلى منصب حربي ومدني في البلاد. وللاحتفال بهذا الانتصار، وللهرب من اتهاماتٍ مستمرة بالفساد في فترة رئاسته، قام جرانت وزوجته جوليا برحلة حول العالم. فبدآ بأوروبا في مايو عام ١٨٧٧، واستمرا شرقًا، وأطلق على هذه الرحلة اسم «أكثر الرحلات تميزًا في كل التاريخ المسجَّل … وكأنها قصة رومانسية».

تحوَّلت هذه الرومانسية الخيالية إلى حقيقة وواقع في ٥ يناير عام ١٨٧٨، عندما أوصلت السفينةُ فانداليا «آل جرانت» إلى الإسكندرية. وقد مرَّت عدةُ ساعات قبل أن يتمكَّنا من مغادرة السفينة، بسبب ظهور طابور لا نهايةَ له من الضباط جاء لتحيتهما. وكتبت جوليا عن ذلك: «يمكن أن يظن أيُّ شخص بسهولة أننا جئنا لتدمير الإسكندرية بدلًا من القيام بنزهة.» واستمر الاستقبال الحافل عندما وصلت الجماعة إلى الشاطئ، حيث اصطفَّ على طريق عربة الجياد آلافٌ من المستقبلين والمحيِّين، وهم يلوِّحون بالشعلات والفوانيس، ويهتفون «لملك أمريكا». وقالت لافتة عريضة كبيرة «أهلًا بالجنرال جرانت»، وكان أحد حروف اسمه مقلوبًا.

وإذا كان سيوارد وشيرمان قد تلقيا معاملةً خاصة، فإن استقبال آل جرانت كان احتفاء برئيس بالفعل. فقد نزل الضيفان في قصر النزهة الفخم، وكان به طاقمُ خدَم كامل على مدار الساعة. وتتذكَّر جوليا: «كان علينا فقط أن نصفِّق بأيدينا! وسرعان ما يظهر خادم مرتديًا ثوبًا أبيضَ بخطًى غير مسموعة.» وزار الزوجان المزارات المعتادة ومنحا المصريِّين مشاهدَ لم يروها من قبل، منها مشهد رئيس سابق وزوجته وهما يتأرجحان على ظهر حمار نحو الأهرامات، وركبا قاربًا على صفحة نهر النيل، واصطادا ضِباعًا وتماسيح وهما يتغنيان بأناشيد أمريكية مثل «رالي راوند ذا فلاج، بويز» و«ستار سبانجلد بانر».

كانت مصر لآل جرانت كنيجاتيف فيلم التصوير، فيها الأبيض والأسود، وفيها الفخامة والأبَّهة والفقر. فقال جرانت، وهو يحدِّق في أبي الهول: «يبدو وكأنه ظلَّ يفكِّر طوال الدهر دون أن يتكلم كثيرًا.» وأضاف: «رأيت ما يثيرني ويشدني في مصر أكثرَ من كلِّ ما رأيت وشاهدت في رحلاتي الأخرى.» ولكن جوليا لم يكن لديها نفس القدْر من الإعجاب. فقد قالت: «لا يسَع المرءَ إلا أن يفكِّر هنا في فراغ الإنسان وضَعفه وغروره وعمله. فمصر مكان ميلاد ومهد الحضارات، ومصر بانيةُ المعابد والمقابر والأهرامات العظيمة ليس فيها أيُّ شيء.»

كانت المشاهد القديمة تثير جرانت بالتأكيد، ولكن ليس بنفس القدْر ولا الوضوح الذي تثيره به صورٌ من ماضيه البعيد. وصاح وهو يأخذ باليد الباقية لضابط حاربَ إلى جانبه في حرب المكسيك وضدَّه في الحرب بين الشمال والجنوب: «إنه لورينج الذي لم أرَه منذ ثلاثين عامًا.» وأضاف: «وها هو ذا أيضًا ستون، الذي لا بد أنه يصبغ شعرَه ليكون بهذا القدْر من الشيب.» ولكن مقابلته مع ماري، ابنةِ الجنرال روبرت لي، التي كانت تزور مصر بالمصادفة أيضًا، لم تكن حسنة. فقد كانت امرأةً ذات روح متوقِّدة، ورفضت أن تتناول العشاء مع عدوِّ أبيها السابق، قائلة: «لن أجلس معه إلى طاولة واحدة، حتى لو كان في ذلك إنقاذٌ لحياته.» وبدلًا من ذلك تسلَّقت قمةَ الهرم الأكبر، وأخذت تلوِّح بعَلم الانفصاليين.6
وتبعًا للتقليد الأمريكي في زيارة الشرق الأوسط رحل جرانت بعد مصر إلى فلسطين. وقد وجدَت جوليا مدينةَ يافا «مكانًا فقيرًا وقذرًا للغاية»، ولكن زوجها استمر في شعوره بالإثارة. وقد شعر أن الأرض المقدَّسة «يمكنها أن تغذِّي كلَّ هذا الجزء من الشرق الأوسط»، فقط إذا كانت أيادٍ أمريكية هي التي تزرعها. كانت مرشدتهما هي لورا فلويد، خبيرة مستوطنة آدامز، وبدأ الزوجان في تسلُّقهما نحو القدس وسطَ طبيعة خلابة. ووقف طابور من الفلاحين والبدو لتحيتهم، وهم يرتدون ما بدا للزائرين وكأنه أثواب من عصر الإنجيل. وقالت جوليا: «لم يستطِع الجنرال أن يضع قبَّعته لحظة، بسبب ردِّه التحيةَ على الجماهير أثناء مرورنا.» أما أكثرُ المشاهد إبهارًا فكانت خارج أسوار المدينة القديمة: «صفٌّ مزدوج من العساكر راكبي الخيل، وفرقة موسيقى عسكرية وموكب رائع برَّاق.»7

غادر يوليسيس جرانت فلسطين متجهًا إلى إسطنبول، حيث عومل مرةً أخرى كالملوك، وأُقيمت الحفلات على شرفه وأخذ في جولات إلى البازارات واستعرض حرسَ الشرف المسلَّح بسيوف الحرب الأهلية وأسلحتها. وأسَّست رحلته إلى الشرق الأوسط، مثل رحلات سيوارد وشيرمان، نموذجًا لكثير من الزيارات التي قام بها قادةٌ أمريكيون في القرن والنصف التاليَين. كان جدول الرحلات دائمًا مزدحمًا للغاية، وكانت الحاجة إلى الاحتفاظ بالمظاهر لا تتوقَّف. وأما جرانت، فكانت فترات الراحة الوحيدة من ذلك الإيقاع تكمُن في قراءة كتابٍ جاء به من موطنه. كان الكتاب يدور عن الشرق الأوسط، لكنه لم يكن الإنجيل أو رسائل أحد المبشِّرين، بل كان كتاب رحلات صامويل لانجهورن كليمينس، المعروف باسم «مارك توين».

البراءة المفقودة

بالنسبة إلى توين، كانت القاهرة مدينةً مثل مدينة إلينوي على حدود نهر الميسيسيبي وكان عظيم التُّرك مجرَّد قاربٍ بخاريٍّ، أما كلمة «العرب» فكانت كلمةً مهينة تُطلَق على عمال التحميل في الميناء. كان توين واحدًا من رجال جيش الانفصاليين، وقائدًا لقارب نهري ومنقِّبًا، قضى معظم سنوات عمره الاثنتين والثلاثين في تحرك مستمر إلى أبعدِ نقطة إلى الغرب من موطنه في ميسوري، دون أدنى تفكير في الاتجاه شرقًا، أو إلى الشرق الأوسط. ولم تكن لديه أيُّ رغبة في رؤية الأرض المقدَّسة، ومع نشأته المشيخية الصارمة، ومعرفته الجيدة بالإنجيل، فإنه كانت تنقصه «المشاعر الدينية الصحيحة» كي يصبح واعظًا، وكان يحتقر إرساليات التبشير التي تجعل الناسَ «بؤساء على الدوام، عن طريق إخبارهم … بمدى جمال مكان اسمه الجنة ونعيمها، وكيف يكاد يستحيل الوصول إليه». ومع ذلك فقد عانى توين أيضًا عدمَ الاستقرار الذي يصيب سكان الحدود. وبحلول ربيع عام ١٨٦٧، ورغم أكثر من أربعين عامًا من الرحلات البحرية، ورحلة سريعة حديثًا إلى هاواي، فإنه كان «قد سئم البقاء في مكان واحد». وعندها فقط، علِم بأول رحلة بحرية فاخرة حول العالم، مع محطات توقُّف في المغرب ومصر وفلسطين. كانت خطة الرحلة تثيره، فيسترجع صورًا من كتاب طفولته المفضَّل «ألف ليلة وليلة». وكتب مسرورًا إلى والدته: «أنا أرحِّب … بالهواء الذي يحرِّك الروحَ المتعبة نحو البلاد المشمسة للبحر المتوسط!»

في ذلك الوقت، كان توين ذو الشارب والأنف المعقوف يشتهر بسرعة في سان فرانسيسكو، بسبب مقالاته القصيرة الساخرة، حول الحياة الأمريكية ومحاضراته باعتباره «الضاحك الوحشي من منحدرات المحيط الهادئ». كانت الرحلة قد نظَّمها عدد من «مشاهير بروكلين»، وأطلق عليها «نزهة على نطاق واسع» مع شخصيات عامة، من أمثال القس هنري وارد بيتشر والجنرال شيرمان. وقد بدت هذه الرحلة مادةً مثالية لمقالاته الساخرة. وعلى ذلك توجَّه توين إلى جريدتين، هما جريدة «ألتا كاليفورنيا» الصادرة في سان فرانسيسكو، وجريدة «نيويورك تريبيون»، عارضًا إرسالَ مقالاتٍ منتظمة عن الرحلة، مقابل قيمة التذكرة وقدرها ١٢٥٠ دولارًا. وتساءل متفاخرًا: «أليست هذه خطة رائعة؟ خمسة أشهر من التحرُّر التام من أي نوع من الواجب، وفي حضرة مجموعة من الناس ذهبوا فقط لإمتاع أنفسهم، ولن يذكروا أبدًا أيَّ كلمة عن العمل.» وافق محررو الجريدة على الفور، وفي ٨ يونيو، استقل توين السفينةَ «كويكر سيتي»، مرتديًا «نظارة خضراء ومعه شمسية خضراء وغطاء للوجه من أجل مصر … وملابس مناسبة لرحلات الحج القاسية في الأرض المقدَّسة». وكانت تلك السفينة مجهَّزة بكل سبل الراحة، ومن بينها مدفع لتحية الملوك.

لم يكن بيتشر ولا شيرمان من بين الركَّاب، وبدلًا من المشاهير، وجد توين عددًا من الأمريكيِّين الطيبين، معظمهم في مرحلة منتصف العمر، ومن وسط الغرب الأمريكي. ولكن المؤسف أكثر من ذلك أنه بدلًا من «السماح للركَّاب بالتجول على سطح السفينة نهارًا، وملئها بالصيحات والمرح والضحك، والرقص والتجوُّل على سطحها ليلًا، والتدخين والغناء والعشق»، وُزِّعَت كتبُ تراتيل على المسافرين، ودعوات لحضور قدَّاس يومي في كابينةٍ أطلق عليها توين سرًّا «المعبد اليهودي». واشتكى الكاتب الساخر من أن «رحلة الملذات إلى الأرض المقدَّسة» كما كان يطلق عليها قد تحوَّلت إلى «جنازة من دون جثَّة». وأوصى بأن يُغَيَّر اسمها إلى «مسيرة جنائزية إلى الأرض المقدَّسة».8

ومع كل ذلك تمكَّن توين من عقدِ صداقات مع بعض الركَّاب، «ثمانية من بين خمسة وستين راكبًا»، وبصورة خاصة مع صحفيتين، هما ماري فيربانكس وإميلي سيفيرنس، اللتين تجاهلتا عباراته الغريبة وهذَّبتا من سلوكياته الخشِنة. في تلك الأثناء كانت السفينة قد عبرت المحيط الأطلسي متجهةً إلى أولى محطاتها، مدينة طنجة المغربية، حيث كان القنصل الأمريكي جيمس دي لونج قد ألقى القبضَ على مبعوثَي الانفصاليِّين مايرز وتونستال قبلها بخمس سنوات. وقال توين مراوغًا، وهو يدخل الميناء المغربي: «السفر قاتل للأحكام المسبقة والتعصُّب وضيق الأفق.»

بدأ توين بقوله: «أليست هذه صورةً شرقية جميلة؟» ثم تابع وصفه «المدينة المزدحمة … المملوءة بالقبور البيضاء، وجيوش بني البشر … غير مألوفي الشكل». ومثل الكثير من الكتَّاب الأمريكيِّين قبله، انتقد توين نُظم حكم الشرق الأوسط، بسبب فسادها المفترض. وقد انتقد إمبراطور المغرب، وأطلق عليه لقب «ديكتاتور بلا روح ولا قلب»، يسيء معاملةَ رعاياه، وحتى زوجاته. «هو يظن أن لديه ٥٠٠ زوجة … أو دزِّينة منهما أو شيئًا من هذا القبيل، لا يهم.» وانتقد تحريم المسلمين دخولَ «الكلاب المسيحية» منازلَهم ومساجدهم، وارتعد بسبب قسوة قطع أرجل وأيدي المجرمين. وقال: «إنهم يقطعون ما حول العظمة قليلًا، ثم يكسِرون الأطراف. أحيانًا تتحسَّن حالة المجرم، ولكنهم عامة لا يشهدون تحسنًا.» ومع ذلك، فإن مارك توين، الشديد الانتقاد والقوي الملاحظة، لم يفُتْه جَمال ورومانسية المدينة. فاعترف قائلًا: «طنجة بلدة من أغربِ ما يكون. والروح الحقيقية لها لا يمكن إيجادها في أي كِتاب سوى كتاب «ألف ليلة وليلة».»

وفي معرض نقده كما في مدحه، كان توين يشبه إلى حدٍّ بعيد الزوَّار الأمريكيِّين الأوائل للشرق الأوسط، ومع ذلك فقد كانت هناك سمةٌ واحدة تميِّز كتاباته عن كل كتابات باقي الزوار السائحين. ففي حين كان أسلافه ينظرون إلى المنطقة ويرون في قسوتها وتخلُّفها صورةً معكوسة لتسامحهم ورقيهم، أظهر توين الأمريكيِّين بنفس القدْر من ضيق الأفق والخشونة. فقبل ذلك بسبع سنوات، وقبل اندلاع الحرب الأهلية، كان من الممكن للقارئ الأمريكي أن يعترض على مثل هذا الوصف. ولكنَّ الموت العنيف ﻟ ٦٠٠٠٠٠ جندي أجبر الأمريكيِّين على النظر لأنفسهم وتقييمها، وعلى التساؤل عما إذا كان بإمكانهم ادعاء البراءة أو امتلاك الحق في وصف أي ثقافة أخرى بأنها «غير متحضرة». نعم، نصح توين بني وطنه بتفضيل حكمٍ بالموت على العيش في الشرق الأوسط، لكنه واسى أيضًا شعوب الشرق الأوسط، التي يدهسها «قطيع غريب … ممن يسمُّون أنفسَهم أمريكيِّين … ويظنون أن لهم الحق في الفخر بذلك».9
غادرت السفينة مدينةَ طنجة، متخذةً مسارًا يوصلها إلى شرق البحر المتوسط، ولكنه أعادها مرةً أخرى إلى أوروبا والميناء الفرنسي، مارسيليا. واستقل توين القطار إلى باريس، ووصل في وقتٍ مناسب لمشاهدة موكبٍ أقامه نابليون على شرفِ ضيفه السلطان العثماني. وأمدَّ هذا الحدث الكاتب بمادة لمراجعة انطباعاته عن الإمبراطورية التركية، حتى قبل أن يكوِّن تلك الانطباعات. ومع كيلِ توين المديحَ للدكتاتور الفرنسي الضئيل القامة، الذي كان قد فرغ لتوه من غزو المكسيك — قمة «الرقي والتقدُّم والحضارة الحديثة» — فإنه كال الإهانات لعبد العزيز، فقال:

… رجل داكن قصير القامة، ذو ذقن سوداء وعينين سوداوين، غبي، يمنحك انطباعًا سيئًا … عند أول مقابلة … يمثِّل حكومةً تقوم على الدكتاتورية والدماء والجشع … وُلد على العرش، ضعيفًا غبيًّا، جاهلًا تقريبًا مثل أقل واحد من عبيده ملك مملكة واسعة … يملك بين يديه سلطةَ حياة وموت الملايين؛ وهو ينام ويأكل ويلعب مع جارياته الثمانمائة … ويؤمن بالمخلوقات الخرافية والجن والقصص الخيالية ﻟ «ألف ليلة وليلة»، ولديه احترامٌ لسحرة اليوم، ويكون عصبيًّا في حضور السكك الحديدية وسفنهم البخارية والتلغراف.

وباعتبار توين كاتبًا ساخرًا ومعلقًا اجتماعيًّا، نادرًا ما كان يوجِّه كلماتٍ رقيقة حانية لأي مجموعة دينية أو عِرقية. ولكنَّ احتقاره للمسلمين لم يكن له مثيل. فقد كان يعتبرهم «شعبًا قذرًا خشنًا جاهلًا غير متقدِّم يؤمن بالخرافات»، وأكَّد أيضًا أن «المؤمنين بالله مضلَّلون بسبب الروايات الخرافية ﻟ «ألف ليلة وليلة»». وكانت مثل هذه التصريحات والأحكام تعكس أحكامًا مسبقة عميقة الجذور لدى الأمريكيِّين ضد الإسلام، بالإضافة إلى ميلِ توين إلى اتهام المسلمين باعتناق خرافات الشرق الأوسط، التي كان هو نفسه يسهم فيها. أما مدى تلك الأوهام فاتضح لتوين تمامًا عندما رست السفينة «كويكر سيتي» في إسطنبول.

كان الشعور بالاختلاف التام يثير الاضطرابَ في توين. فكلُّ الشوارع كانت تبدو له كالمتاهة، وكان الناس يرتدون «ثيابًا غريبةً ومتنافرة وزاعقة الألوان» وكأنه مهرجان عنيف للألوان وغير منسجم. وقد اشتكى توين من كثرة القبور والمساجد، وندرة الخمور، وكثرة وجود غريبي الأطوار: «سيدة ذات ثلاث أرجل، ورجلٌ له عين في خدِّه … وقزم ذو سبعة أصابع في كل يد، وليس لديه شفة عليا، وليس له فكٌّ.» ولم تكفِ كلُّ الصفات السلبية توين لوصفِ تقزُّزه واشمئزازه. وكانت الحمَّامات التركية مصدرَ نفوره بصورة خاصة، وهي الحمَّامات التي طالما حلَم بها. لكنه وجدها الآن «فقيرة وواسعة وعارية، ليس بها أيُّ رومانسية ولا شيء من أبَّهة الشرق». ومع ذلك، ففي تَجواله في الأسواق الخارجية، بين البائعين والجِمال والشيوخ المدخني النارجيلة، نسي توين تقريبًا نفوره، واعترف قائلًا: «الصورة لا ينقصها شيء؛ فهي تعود بك فورًا إلى طفولتك المنسية، فتحلُم مرة أخرى بعجائب «ألف ليلة وليلة».»

وكلما تعمَّق توين في توغُّله في المنطقة تزايد نفوره من كلِّ ما هو شرق أوسطي. فمدينة دمشق التي كانت تبدو له على البعد «مثل جزيرة من اللؤلؤ والمجوهرات تلمع وسط بحر من الزبرجد» تحوَّلت إلى «مكانٍ للتلوُّث وعدم الراحة» عندما اقترب منها. أما الرجال السوريون الذين قابلهم فكانوا «كالحشرات الآدمية»، وخليطًا متنافرًا من «الثياب الرثَّة والقذارة والوجوه المريضة الممصوصة، لونهم مريضٌ ووجوههم مملوءة بالجروح والبثور، وعظامهم ناتئة»، أما النساء فكن قبيحاتٍ «بحيث لا يمكنهن الابتسام بعد العاشرة مساء السبت دون كسر السبت (صيام اليهود عن كل شيء)». وقد سخِر من جهل المرشدين البدو وأسمائهم الصعبة التي لا يمكن نطقها بطريقةٍ تثير الغيظ. وبسبب يأسه من ذلك الأمر، أطلق توين على جميع العرب اسم فيرجسون، وعلى قراهم جونزبورو. واعترف وهو غير سعيد أن «النظر للابن الأصلي للصحراء يعني نزعَ الرومانسية عنه إلى الأبد».10

من سوريا تابع توين ومجموعته الطريقَ الأمريكي المعتاد إلى فلسطين، ولكن هنا تنتهي أوجه الشبه. فمع أن عددًا قليلًا من المسافرين فقط هو الذي كان يجرؤ على استخدام أوصافٍ للأرض المقدَّسة غير صيغ المبالغة والتفضيل، فإن توين وصف فلسطين بأنها «لا أمل فيها، مقفرة، كسيرة الجناح، وأن قراها مزدانة … بكراتٍ من روث الجمال، أما شوارعها فمملوءة بالأحجار أكثرَ من الريف». وقال: «إذا جُمعت الأشعار المكتوبة … عن هذه المناظر الطبيعية العديمة الجَمال … فسيكون لدينا أكثر المجلَّدات ترشيحًا للحرق.» ومثل الكثيرين من الأمريكيِّين قبله، الذين تربَّوا على قصص المعجزات والخيال في الإنجيل، أصيب توين بخيبةِ أمل بسبب الحجم الصغير للمزارات في فلسطين؛ فقد قدَّر توين أن نهر الأردن يصل إلى نصف عرض أي شارع أمريكي، وقدَّر أيضًا أن بحر الجليل صغير لدرجة أنه رفض تسديدَ رسوم العبارة الباهظة لنقله إلى ضفته الأخرى. وتساءل: «هل من المستغرَب أن المسيح سار هذه المسافات؟» وقدَّر أنه يمكن وضع ثلاث دول بحجم فلسطين بيسر وسهولة داخل ولاية ميسوري، مع إيجاد مكان لرابعة.

في فلسطين اقتربت وقاحة توين من الكفر، خاصة في القدس. فقد كانت المدينة في نظره خاليةً من أي قدسية، فوصفها بأنها مكان «كئيب ومقفِر وخالٍ من الحياة». وكانت «قذرة وفقيرة» ومملوءة بالحمقى والمصابين بالبرص والعميان. وكان الأمر يبدو وكأن توين يستقي سعادته من التهكُّم على الحجيج، وخاصة المشيخيِّين منهم، الذين حضروا للبحث عن حُلمهم بأرض الميعاد، فقط ليجدوا هذا الخراب. وقد تجادل بينه وبين نفسه عما إذا كان عليه أن يكذب على قرائه فيحكي «كيف انتزع نفسه بصعوبة … من فلسطين»، لكنه أعاد التفكير وكتب: «إن المرء ليسعد بترك هذا المكان.»

ولكن في النهاية لم يتمكَّن حتى مارك توين، السليط اللسان في مهاجمة التقاليد الغريبة الأطوار، من كتمان إعجابه بالنساء والرجال «الذين قطعوا آلاف الأميال، في تعب ومشقة، من أجل الإبحار فوق البحر المقدَّس وتقبيل التربة المقدَّسة». كان دنيويًّا بحتًا، كثيرًا ما تهكَّم على الكتاب المقدس، لكنه لم يستطِع مقاومةَ شراء إنجيل مغلَّف بالجلد الطبيعي من إسطنبول وقراءته طوال الرحلة، ثم شراء نسخة ثانية لوالدته من القدس. ولم يستطِع أيضًا إنكارَ شعور «بالغرابة والسحر والروحانيات» تغلَّب عليه في بعض الأحيان في فلسطين، فكتب: «أجلس هنا حيث وقف المسيح، وأنظر إلى النهير والجبال التي نظر إليها المسيح، ويحيطني رجال ونساء غامضون، رآه أسلافهم وتحدثوا إليه، وجهًا لوجه.»

فوراء جدله الكثير كان يكمُن شوقُ توين إلى إيمان ثابت لا يتزعزع مثل الذي كان لدى أسلافه، ونقاء كان قد فقده هو وكثيرون من جيله. واعترف مرة ثانية قبل مغادرة الأرض المقدَّسة: «لا أستطيع فهمَ ذلك. فالرب حسب فهمي كان يوجد دائمًا بين السَّحاب.»11

وأخيرًا غادرت سفينته «كويكر سيتي» ميناء يافا، ولكن ليس قبل أن يستقلها أربعون راكبًا جديدًا؛ أطفال وعجائز ومتزوجون حديثًا، وكلهم من الأمريكيِّين. كان هؤلاء هم الناجين من مستوطنة إنديان ريفر، أناس بسطاء، حكى عنهم توين أنه «أُسيء إليهم بصورة مخزية من قِبل نبيهم»، جورج آدامز. وكان منظر هؤلاء السذَّج الحزانى الجائعين يمثِّل لتوين الأوهامَ المثيرة للشفقة التي يأتي بها الأمريكيون إلى الشرق الأوسط، وإلى فلسطين بصورة خاصة. وخلَص إلى أن «فلسطين ليست جزءًا من هذا العالم الواقعي، بل هي بلد من الأحلام».

ومع ذلك فقد توقَّف توين لآخر مرة في الشرق الأوسط، وفي مصر بالتحديد، وقد كانت خاتمةً سيئة فاترة. ولأنه كان قد استنفد نقدَه اللاذع للحضارة الإسلامية، وجَّه توين إهاناته للسياح الأمريكيِّين، الذين «يحتلون» الفنادق، و«للأمريكيِّين المخرِّبين» الذين كشطوا وكسروا أجزاءً من عامود السواري بالمطارق الثقيلة. وأخيرًا غادرت السفينة الإسكندرية متجهةً إلى الوطن، وركَّابها يرتدون «ملابس بربرية وتركية وفارسية». وتضمَّنت التذكارات الأخرى بذورًا لشجرة برتقال تمكَّن أحد السياح من إعادة زرعها في فلوريدا، بالإضافة إلى عدد من المومياوات التي عُرضت فيما بعدُ في متحف بارنوم. ومن بين كل الأمريكيِّين المغادرين للسفينة في نيويورك يوم ١٩ من نوفمبر عام ١٨٦٨، لم يكن هناك مَن هو أكثر استفادة من رحلة الشرق الأوسط من مارك توين. فسرعان ما جعله الكتاب الذي وضعه عن هذه الرحلة من أشهر الكتَّاب الأمريكيِّين.

كان كتاب «الأبرياء في الخارج» أو «تقدُّم الحاج الحديث» يتكوَّن من المقالات التي أرسلها للجرائد. وقد حقَّق توين منه ربحًا قُدِّر بأكثر من ٣٠٠٠٠٠ دولار، وبيع منه نصف مليون نسخة. فقال متفاخرًا: «مثل مبيعات الإنجيل تمامًا.» كان العنوان يمثل توين تمامًا: عفويًّا وطلقًا وساخرًا؛ وذلك لأن الرحلة لم تكن رحلة حج، والمشاركون فيها كانوا أبعدَ ما يكونون عن البراءة. ومع ذلك فقد تقبَّل القراء تلك المفارقة، التي أسماها مؤرِّخ مبكِّر لتوين «إنجيل الصدق». فقد ساعدت حروب البربر قبل ذلك بخمسين سنة الأمريكيِّين على تعريف أنفسهم، والآن، بعد صراع دموي، كان أمريكي زائر للشرق الأوسط قد دقَّق في هذا التعريف وزاده قتامةً.

كان نشرُ كتاب «الأبرياء في الخارج» بمنزلة بداية لمستقبل توين العملي بوصفه روائيًّا وكاتبَ مقالات ومعلِّقًا اجتماعيًّا ناجحًا للغاية. وأصبح أيضًا من بعدها ناشرَ يوليسيس جرانت وصديقه، الذي قرأ الكتاب في رحلته إلى الشرق الأوسط. ولكن توين لم يَعُد قط إلى الكتابة عن تلك المنطقة. فقد بدأ في كتابة مسرحية هزلية عن أمريكي متحوِّل إلى الإسلام، يؤسِّس حريمًا على نهر الميسيسيبي، بالإضافة إلى نسخة مقلَّدة من «ألف ليلة وليلة» تقوم فيها شهرزاد بإنقاذ نفسها عن طريق إثارة مَلل الملك بحكاياتها. لكنه لم يكمل أيًّا منهما.12 فمن الواضح أن توين بعد أن شاهد الواقعَ والحقيقة لم تكن لديه أيُّ أفكار رومانسية بشأن الشرق الأوسط، ولا حتى بصورة فكاهية.

•••

قد يكون مارك توين نجح في تبديد خيالات الأمريكيِّين في الشرق الأوسط، لكنه لم يستطِع تبديدَ خيالاتهم عنه. وقد ظهر ذلك بجلاء في ٢٦ سبتمبر عام ١٨٧٢، عند افتتاح «التنظيم العربي القديم لنبلاء الضريح الصوفي»، وهي جماعة منبثقة عن الماسونيِّين، أسَّسها الدكتور والتر فليمنج، وهو جرَّاح سابق أثناء الحرب الأهلية، مع الممثل بيلي فلورنس، الذي كان قد قدَّم عروضًا في القاهرة والجزائر، اتخذ أعضاء تلك الجماعة السيف والهلال شعارًا لهم، وارتدَوا غطاء الرأس المغربي (الفز أو الطربوش). وقد أطلقوا على أول معابدهم اسم مكة، وعند دخولهم كان الأعضاء يحيِّون بعضهم بعضًا بتحية الإسلام العربية «السلام عليكم». وكانت الجماعة، التي بدأت هذا الأمر بصفة هزلية، قد تطوَّرت إلى جمعية خيرية، وبعد ذلك بقرن واحد كان لديها مليون عضو و٢٢ مستشفى متخصصًا في أمراض الأطفال ومعالجة الحروق.

أما عند الجمهور الأمريكي العريض فقد ظلت أيضًا أوهام الشرق الأوسط منتشرةً على نطاق واسع. فمن بين أكثر الأمور جاذبيةً في المعرض المئوي بمدينة فيلادلفيا لعام ١٨٧٦ كان جناح مصر والسودان. فتحت لافتة كبيرة مدوَّن عليها «أقدم شعوب العالم يرسل تحيته الصباحية إلى أكثرِ الدول شبابًا» شاهد الزائرون نماذجَ لمعبد رمسيس و٢٠٠٠ عينة من القطن المصري. أما في الجناح التركي، فكان بإمكان الجمهور تذوُّق القهوة التركية وشراء أغراض عثمانية «أصيلة»، كالسجاجيد والسيوف، وبالطبع الفز أو الطرابيش. أما أكثرُ العروض جاذبيةً وإغراءً فكانت فيلا مغربية ذات قباب مزدانة بزينة خشبية، زعم رعاة المعرض أنها مستوردة من طنجة، هذه البلدة الناعسة التي وصفها مارك توين في كتابه.13

وسواء كان الأمريكيون يحيِّي بعضهم بعضًا بالعربية أو يقومون بشراء الطرابيش أو يضحكون على الأجزاء الساخرة في كتاب «الأبرياء في الخارج»، فإنهم كانوا لا يزالون مفتونين بالشرق الأوسط، أو بصورةٍ أدقَّ بالخرافات والأساطير التي ظلَّت عالقة بخيالاتهم وأذهانهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤