قافية الراء

وقال يمدح عظمة السلطان «عبد العزيز خان» دام ملكهُ:

مدى الدوران

لأعتاب سلطان الأنام سعى فكري
فيا ليت شعري! هل يفي مدحَهُ شعري؟
سليلُ السلاطين الأُولى بسيوفهم
أغاروا على الدنياءِ بالفتح والنصرِ
مليكُ الورى «عبدُ العزيز» الذي جرى
على سيفهِ الماضي دمُ الظلم والغدرِ
ودانت لديهِ رهبةً هامةُ العلا
وقد أطرقت من هيبةٍ أعين الزهرِ
تدورُ ملوك الأرض حول جلالهِ
مدارَ نجوم الأفق حول سنا البدر
أبى الله أن يدعو سواهُ خليفةً
بلى، فهو ظلُّ اللهِ باقٍ إلى الحشرِ
فهذا أميرُ المؤمنين حقيقةً
وكلُّ أميرٍ دونهُ قاصرُ الأمرِ
لهُ شرف «الشِّعرى»، لهُ رفعة السهى
لهُ المجد والنعمى، لهُ سطوة الدهرِ
يرفرفُ جنح اللطف حول سريرهِ
وتحرسهُ عين العنايةِ والقدرِ
ويحمي حماهُ السعد من كلِّ سوأةٍ
ويقضي لهُ الرحمان بالنصر والقهرِ
فلو لم يكن قد خان «قيصرَ» عصرهُ
لقلتُ: يمينَ الله ذا «قيصرُ العصرِ»
على عرشهِ أثنى خفيٌّ وظاهرٌ
فزكَّى لسانُ السرِّ ألسنة الجهرِ
بهِ ازدانَ وجهُ الملكِ وافترَّ ثغرهُ
فحاكى سماءَ الزُّهرِ أو روضةَ الزَّهرِ
مليكٌ رمى أُسد العدى ونسورهم
بقوس هلالٍ نبلهُ نجمةُ الفخر
لذا نامتِ الأقوام تحت لوائهِ
أمانًا، فأربابُ الغنى وذوو الفقرِ
وقد هفتِ الدنيا إليهِ وكلُّ ما
عليها، ولم ينفرْ سوى البؤس والضرِ
فلا ريبةٌ والأمن في الشرق قد سرى
يحاكي نسيمَ الروض في وهجِ الظهرِ
هناك نظامٌ أخجلَ الغرب شملهُ
فيا خجلة اليعسوبِ من نحلة البرِ
فما الشرق إلَّا محتدُ السلم والهنا
وما الغربُ إلَّا مرسح الكرب والكَرِ
وها عندنا صدح الفضائل والتقى
وعندهمُ نبحُ الكبائر والشرِّ
فسلطاننا خير السلاطين كلهم
فأحكامهم تكبو وأحكامهُ تجري
عزيز الملا «عبد العزيز» الذي عنت
لدولتهِ الأقدارُ في البر والبحرِ
هو الناظم الشمل الذي ائتلفت بهِ
ألوفُ قلوبٍ طالما كنَّ في نثرِ
أقام من الشرع الشريفِ مجلَّةً
بها امتزج الأحزاب كالماءِ والخمرِ
فراح الملا يعدون في سُبُل الولا
ولم يبقَ عدوانٌ لزيد على عمرِ
وطابت نفوسٌ، واطمأَنَّت مضاجعٌ
وقرَّت عيونٌ، وارتدى الثغرُ بالبشرِ
نظامٌ يودُّ الدرُّ لو صيغ مثلهُ
غدا في نحور الملك أحلى من الدرِ
وقام على رُكن الأمانة والمنى
بمملكةٍ قامت على البيض والسمرِ
وما كان أغناها عن الخُطِّ والظبا
فحكمتها تبري وسطوتها تفري
ممالكُ تهتزُّ الجبال لقدرها
وتعنو لدى خاقانها الباذخ القصرِ
فيا ربُّ، صُنْ «عبد العزيز» ووقهِ
وهبْهُ عظيمَ الفوز في طولة العمرِ
وحكِّم سيوف النصر طول المطال في
رقاب عداهُ، واعطهِ ساعد اليسرِ
وشتِّت أفاعي المكر عن روض ملكهِ
فذو العجز والأطماع يسعى إلى المكرِ
ويا دهرُ، كن باللهِ مطواعَ أمرهِ
فما طاعة السلطان إلَّا من الكبرِ
وبلِّغْ إلى عليائهِ بتهيُّبٍ
ثنائي، وأَرِّخْ حُبَّ آلائها الغرِّ
سنة ١٢٨٩

وقال:

قلتُ شعرًا وقال غيري شعرًا
فكلانا في دارج القول شاعر
وإذا كان تاجرُ الدرِّ يُدعى
تاجرًا كان تاجرُ الفحم تاجر

التجاهل

أبروقٌ تبسمت أم ثغورُ
وغصونٌ تمايلت أم خصورُ؟
وشموسٌ قد أشرقت أم وجوهٌ
ونجومٌ تبلجت أم نحورُ؟
وصباحٌ ما شمتهُ أم جبينٌ
وظلامٌ على النقا أم شعورُ؟
وسيوفٌ تجرَّدت أم عيونٌ
وصفاحُ اللجين ذا أم صدورُ؟
بأبي من إذا انثنت وتبدَّت
شمتُ غصنًا عليهِ بدرٌ منيرُ
إن يكن وجهها الصباحَ إذا ما
لاح يومًا ففرعُها الديجورُ
كم على العقل شنَّ غارة سحرٍ
جفنها وهو ذابلٌ مكسورُ
فرقُها الفجرُ، والمحيَّا الثريَّا
واللمى المسكُ، والطلى الكافورُ
أفتديها من ظبيةٍ ذاتِ خالٍ
من شذاهُ للندِّ يهدي عبيرُ
خدُّها والرضاب جمرٌ وخمرٌ
لهما في جوانحي تأْثيرُ
حاربتني عيونها حربَ بدرٍ
وا عذابي أنا المحبُّ الكسيرُ!
ليس لي إذ يصيحُ بوق الهوى في
عمق قلبي غيرَ السكوت نصيرُ
شيمُ العاقل السكوتُ ومن شنـ
ـشنة الجاهل الكلامُ الكثيرُ

الدلال

أجودُ بدمعي للدُّمى وهو جوهرُ
ويبخلنَ عني باللمى وهو كوثرُ
ومن عادة الحسناءِ قتل أخي الهوى
دلالًا، ولكن قلبها يتفطرُ
وخودٍ ترى ما بي فتنكرُ ما بها
وهيهات أن يخفى الغرامُ ويُنكرُ
تهدِّدُني بالهجر إذ رمت وصلها
وأعلمُ حقًّا أَنها ليسَ تهجرُ
وتذكرُ يومَ البين مزحًا وإنني
أذوب ارتياعًا كلَّما البينُ يُذكرُ
أنا للسوى ما جدتُ بالقلب فهو من
تملكها، إن المبذِّر يفقرُ
وبدرُ السما يهدي الضيا، والضياءُ لم
يكن ملكهُ أصلًا لذلك يصغرُ
بروحي من تشري الرقادَ بنظرةِ
وتُبقي الحشا في حبها يتسعرُ
رعى الله ذياك الدلال الذي حكت
لطافتهُ ريح الصبا حين تخطرُ
مهاةٌ يلوحُ الصبحُ إن هي أقبلت
ويعتكرُ الديجورُ إن هي تدبرُ
تميس بقدٍّ خلتهُ خوط بانةٍ
ولكن سوى فرط الهوى ليس يثمرُ
هيَ الغصن والخطيُّ إذ تنثني إلى
عناقي، وظبيٌ في الفلا حين تنفرُ
خذِ الحذرَ يا قلبي إذا ما رنت فمن
لواحظها سيفُ المنية يشهرُ
أيا طرفها السكران، ما لك حائرًا؟
أراعكَ قتلي؟ لا تخف، أنت تُعْذَرُ
عذوليَ دعني إنني لم أصخِ إذا
عذلت، فذق ما ذقتُ علَّكَ تشعرُ
أتسلمُ يا إنسان من سطوة الهوى
وقلبُك موجودٌ وعينُك تبصرُ
مُنَعَّمَةٌ قد حيرتني بدَلِّها
ومن ذا الذي يهوى ولا يتحيرُ؟
إذا شاهدتني ناظرًا وجهها رخت
لثامًا، وإن غضيت طرفي تسفرُ
وإن تبتسم تجعل على الوجهِ كفها
حياءً، فبدرٌ بالثرياءِ يُسترُ
مُذُ الحبُّ راضاها أتتني وقد بدا
بوجنتها وردُ الصَّبابة يزهرُ
وتاهت، وقالت: يا «كثير الهوى» إذا
أذبتك إعراضًا فماذا تصيرُ؟
فقلت لها: حاشاكِ من قسوةٍ، أما
حرارة إشفاقٍ بقلبك تنشرُ؟
فقالت: أنا قلبي حديدٌ، أجبتها:
وليس بهِ مجرى الحرارة يَعْسرُ
إذا ما أزادت صدَّها ونفارها
تيقنتُ أني بالوصال سأظفرُ
ويزداد وجهُ الليل في الأفق ظلمةً
إذا كان نورُ الفجر أوشك يظهرُ
ويا رُبَّ بؤسٍ جاء كان طليعةً
لجيشٍ هنًا، إن الزمانَ يغيرُ
كتمت عن الخلان سري في الهوى
لعلمي أَنَّ الناس داءٌ مدمرُ
يكدِّرُ عيش المرءِ صفو ضميرهِ
وقد ينفع المرءَ الضمير المكدرُ
إذا كان في الإنسان طبعٌ يظنهُ
بكلِّ امرئٍ، والطبع لا يتغيرُ
ومن كان يمشي في البحار فإنهُ
يرى الأرض والأجبال تمشي وتعبرُ
إذا رمتَ تخفي عن عدِّوك حاجةً
فإياك إعلام الصحاب فيشهروا
تغرُّ الفتى دنياهُ وهي دنيةٌ
وتملا لهُ كاس الرجاءِ فيسكرُ
ولولا الرجا ما لذَّ للمرءِ عيشهُ
ونفس الفتى باليأْس لا شك تصغرُ
حياةٌ إذا طالت يطول بها البلى
وكم عيشةٍ منها لنا الموت أسترُ!
فقد ناعَ «نعمانٌ» كما تاع «تبَّعٌ»
وكُسِّر «كسرى» ثم قصِّرَ «قيصرُ»
وأطيب عيش المرءِ في زمن الصبا
وأخبثهُ يوما: يشيب ويكبرُ
ويصفو بياض الشمس في قبة الضحى
ولكنهُ عند الغروب يعكرُ

وقال مبهمًا ما بين المدح والهجو:

قد أخبروني عنك يا هذا بما
لا أشتهيهِ للعدوِّ المفتري
ومذ اختبرتك رحت أضحك قائلًا:
يا خجلةَ الأخبار عند المَخْبَرِ

وقال:

غرامٌ في الفؤَاد لهُ مقرُّ
وأشواقٌ وما للصب صبرُ
أيلقى العاشقون جميلَ صبرٍ
وفي أحشائهم قد شبَّ جمرُ؟
تحاربنا العيون وهنَّ بيضٌ
وتقتلنا القدود وهن سمرُ
كلفتُ بأغيدٍ باهي المحيَّا
بقلبي من شمول هواهُ سكرُ
فتنتُ بطرفهِ، ورُميتُ فيهِ
فقال العاذلونَ: عراهُ سحرُ

لسان العشق

بروحيَ من لاحت فتاهت على البدرِ
ومن عبقَتْ من خدِّها نفحة العطرِ
لها غرةٌ غراء ما الصبح إن بدا
شبيهًا لمعناها، ولا كوكبُ الفجرِ
رنت بكحيلٍ مدنفٍ فسرى الشفا
بسقمي، ولكن عدتُ في علة السحرِ
إذا هاجرتني كان عسري بهجرها
وإن واصلتني كان في وصلها يسري
لها مقلةٌ تُدمي، وقدٌّ حكى القنا
فوا تلفي بين الصوارم والسمرِ!
ولي أعذب الصهباءِ من كاس ثغرها
ومن خدِّها الورديِّ لي أطيبُ النشر
لئن سترت عن مقلتي شمس وجهها
فحسبي شفافُ النور مما ورا السترِ
وقامتها السكرى بخمر دلالها
لقد أثمرت بدرًا بدا في دجى الشعرِ
إذا ما انثنت تيهًا زرت أَسَلَ القنا
وإن أسفرت فاقت على الشمس والبدرِ
سكرت بخمرٍ من كئوس لحاظها
فكيف الهوى يخفى وفاضحهُ سكري؟
ومُذْ جَرَحَتْ قلبي بصارم لحظها
جنحتُ إليها راجيًا بلسم الثغرِ
فقالت: وحق الجفن مني وسحرهِ
أَذقْتُك صابَ الصدِّ إن لم تطع أمري
فقلتُ: وما هذا؟ أجابت وقدُّها
تمايلَ تيهًا: خُذْ نحولك من خصري
رعى الله ذياك القوامَ وصان ما
حوى من دلال حار في لطفهِ فكري
وفي حبها إن متُّ عشقًا أعشْ فما
ألذ المنايا في هوى غادة الخدرِ
وما العشق مفعولُ الجمال حقيقةً
ولكنْ صدورٌ جاءَ من حيث لا ندري
رواضح سرٍّ في الطبيعة عند من
يكون جهولًا، غامضٌ عند ذي الخبرِ
إذا ما براك الحبُّ يا قلب فاصطبرْ
فعند الجفا يُبري وعند الوفا يبري
لعمرك سلطانُ الهوى خضعت لهُ
قلوبُ الورى وهو المليكُ مدى الدهرِ
أيا منيةَ القلبِ الذي ذاب بالجوى
ألا فانظري نحوي ولو كان بالشذرِ
خذى ما بقي مني فلم يبقَ لي سوى
أنينٍ وأشواقٍ، إليكِ الهوى العذري
إذا رمتِ قتلي في هواكِ تعمُّدًا
فلا حاجةً لي، صانكِ الله بالعمرِ
فروحي قد راحت، وجسمي لكِ البقا
وممَّا اعتراني بالغرام عفا صبري
هبي متُّ عشقًا لست أسلوكِ فالمدى
يحنُّ إليكِ العظمُ من داخل القبرِ
تقولين لي: قد بحتَ بالسر ملعنًا
فسمْ يا خئون السر صبرًا على الهجرِ
أنا لم أبح بالسر والله إنما
جفاكِ برى جسمي فشفَّ عن السرِ
أما منكِ إشفاقٌ فإن النوى فنى
وجودي فجودي بالوفا ودعى عذري
لقد جمع الله المحاسن كلها
بوجهكِ، والضيقات جمَّع في صدري
ألا يا مهاةً قد سبتني بوجنةٍ
بها الوردُ مغروسٌ وماءُ البها يجري
بعصركِ أنتِ بالجمال فريدةٌ
كما أنني في حبِّكِ أوحدُ العصرِ
فيا منيتي عطفًا على مغرمٍ شجٍ
بحبكِ لاقى اليوم مستصعب الأمرِ
صبرتُ على ذاك الجفا منكِ فاحلمي
على صبوتي، والعقل بالحلم والصبرِ

رثاءٌ اقترحهُ عليهِ أحد أصحابهِ في حلب:

أسفًا على الغصن الرطيب الناضرِ
وعلى سنا ذاك الهلال الزاهرِ
يا مهجتي ذوبي، ويا قلبُ اضطرمْ
وترقرقي يا دمعتي وتناثري
لي في النوى نفسٌ إذا ما هزَّها
ذكرُ الفقيدِ تبادرت من ناظري
كيف الحياةُ تطيب لي من بعد ما
شقت على فقد الشقيق مرائري
وا حسرتاهُ عليك ما هجم الدُّجى
وبدا على الأفنانِ نوح الطائرِ
يا من نأَى عني فحلَّ بمهجتي
حزنٌ يمزقها كوقع بواترِ
ودِّع أخاكَ بنظرةٍ قبل النوى
ويناطُ بالماضي وداعُ الحاضرِ
إن كنتَ غبتَ فأنت نصب لواحظي
وأليفُ أسراري، وملءُ خواطري
في الأرض أتراح عليك، وفي السما
للقاك أفراحٌ ودقُّ بشائرِ
فسقى هزيمُ الودق رمسك والثرى
يا نازلًا مني مكان سرائري
غادرت أطفالًا وقد يتمتهم
مذ جاذبتك يدُ الحتوف الغادرِ
صبرًا عليهِ أيا قرينتهُ ويا
أولادهُ فالفوز عند الصابرِ
أنتم فقدتم درَّةً عصماءَ لم
تثقَبْ ولكن ذاك حكمُ القادرِ
لو كان يجدي الميت نفعًا مدمعٌ
لأتيتُ من دمعي ببحرٍ زاخرِ
ما العمرُ للإنسان في الدنيا سوى
عرضٍ يزولُ زوالَ يومٍ عابرِ
كلٌّ إلى بلد المنونِ مسافرٌ
هذا استقرَّ، وذاك إثر الآخرِ
والصبرُ ترسٌ للفتى يلقى بهِ
سيفَ الخطوبِ وفيهِ ليس بخاسرِ

سقوط المتكبرِّ

سَلْ كلَّ عصرٍ فالعصور تُخبِّرُ
هل دام كبرٌ أيها المتكبرُ؟
حتامَ تطمعُ بالتسلُّط والعلا
وإلامَ تنهى في الأنام وتَامُرُ؟
جعل الزمان عماءَ هذا الجيل في
عينيهِ عنكَ، وعينُ ربك تنظرُ
فمردتَ حتى صرتَ أكبرَ ماردٍ
وظننتَ أنَّ الدهرَ لا يتغيرُ
هل فتنةٌ قامت ولم تكُ ربَّها
أو هل عداك دمٌ بروعٍ يهدرُ؟
أملأتَ كلَّ الأرضِ أهوال الوغى
حتى عَرا الأيَّامَ منكَ تحيرُ؟
وسقيتَ خيرَ الأرض خيرَ دم الملا
لما زرعت مطامعًا لا تثمرُ
لا أعتبنَّ عليك بل عتبي على
دهرٍ حماك وأمةٍ تستهترُ
والدهرُ يُعذرُ فهو يحمي سرَّهُ
لكنما أهلُ النُّهى لا تعذرُ
قومٌ لهم دأبُ الفلاحِ فكيف قد
خاروا غريبًا حار كيف يدَمرُ؟
عجبًا لهم أَنَّى عتوا وتعبدوا
وهمُ الذين لكلِّ عبدٍ حرروا!
ذي أمةٌ فَضُلَتْ وسادت وارتقت
وعلى الخليقةِ فضلها لا ينكرُ
منها التمدُّنُ والتهذُّبُ والهدى
يبدو، ومنها كلُّ نورٍ يظهرُ
لكن قضاءُ الله لما جاءَها
عثرتْ، وأيُّ قبيلةٍ لا تعثرُ؟
ما ضرَّ رونقها اغبرارٌ ينجلي
هل يبخسُ الياقوتُ إذ يتغبرُ؟
قد خانها ذاك الغريبُ وليس ذا
عجبًا؛ فسوءُ الأصلِ منهُ مقرَّرُ
وأضلَّها وأذلَّها وأقلَّها
وبمالها قد كان سرُّا يتجرُ
بل ما أذل بذاك إلَّا نفسهُ
وعلى مذلتهِ ستروي الأعصرُ
بئس الخيانةُ منكَ يا رجل الدها
والله مثلك لا يسودُ ويقدرُ
وإذا تغاضى الدهرُ عنك بسؤددٍ
فلكي يعيدَ بلاكَ أمرًا يذكرُ
ها قد سقطتَ سقطتَ فَابْشِرْ بالردى
وغدا انقلابك عبرةً لا تعبُرُ
كدَّرتَ نورَ الناس بالنيران وا
عجبًا فذا طبعًا لتلك يكدِّرُ!
هذا نصيبُ معاشرٍ ركنوا إلى
من لم يكن من ركنهم فليصبروا

هواجس

فؤَادٌ على نارِ الوقودِ تسعرا
ودمعٌ بأسواقِ العقودِ تسعَّرَا
وقلبٌ على الأوصاب قَلَّبَهُ الهوى
فراحَ على البلوى يسيم التصبُّرا
وما الحبُّ إلَّا سلطةٌ دمويةٌ
تصولُ على كلٍّ، ولو كان قيصرا
صدورٌ لهُ الحسنُ الطبيعيُّ مصدرٌ
وذو الحسن سلطانٌ يصول على الورى
وليس لكل الناس صبرٌ على الهوى
ولا لذَّةٌ في الحبِّ إلا لمن درى
وصالٌ ترجيهِ القلوب ولا لقا
وطيفٌ تراعيهِ العيونُ ولا كرى
وغيداءَ أضحى وجهها معدنَ البها
بهِ خفرٌ أجرى من اللطف عنصرا
تهزُّ من الأعطافِ سمرًا إذا انثنت
وإن نظرت سلَّت من اللحظ أبترا
عيونٌ توارت كهرباءُ الصبا بها
فجاذَبْنَ قلبي للهوى فتفطرا
تحلَّل نورُ الحسن فوقَ خدودها
فلاحَ لدى الأبصار أسمر أحمرا
ومذ لاح روض الحسن من وَجَنَاتها
جنتْ أعيني منهُ شقيقًا وعنبرا
إذا ما غدا ليلُ الغدائر غاشيًا
على قدِّها أبدت من الفرق نيرَّا
سبتني بعطفٍ لاعبتهُ يد الصبا
ويا حسن غصنٍ بالشمائل أزهرا!
فإن لاحَ من تحت الغدافِ جبينها
نظرت ضياءً بالظلام تسترا
وإن بسمت ألقت يدًا فوق ثغرها
حياءً فبرقُ الحسن من ديمةٍ سرى
حياءٌ هو الجزءُ المتممُ صورةً
لشكل جمالٍ في الفؤَادِ تصورا
وثقتُ بها إذ عاهدتني أَنها
تصون الولا، لكنما الغدر قد جرى
على ذلك الميثاق حمَّل ذو الهوى
ذمامًا أبى إلَّا الثباتَ الموقرا
فغيَّرتِ الموضوع إذ نفتِ الوفا
ولكن أبى المحمولُ أن يتغيَّرا
إذا حَسِبَتْ حفظ الوفا عرضًا لهُ
زوالٌ، فعندي ذاك يحسب جوهرا
رأَت أن طولَ الهجر يُفضي إلى القلى
فجادت بوصلٍ كنت أرجوهُ في الكرى
ولكن قضى بالبعد ما بيننا القضا
فبانتْ فأضحى جمعُ صبري مكسرا
وأصلى غداة البين في كبدي الجوى
لهيبًا أعاد الجفن كالسحب ممطرا
فلما رأيت العيس يجهدها النوى
وشمتُ غزال الحي سار مع السرى
وقفتُ على تلك الطلولِ وأدمعي
تطلُّ، وأحشائي تذوب تحسرا
تذكَّرتُ أيامَ اللقاءِ وأنسها
فهمتُ، وكم صبٍّ يهيمُ تذكرا!
ومذ سارتِ الأحداجُ بالغيد والدمى
رأيت بدورًا في بروجٍ على الثرى
فيا قاتلَ الله الفراقَ فقد غدا
لقلبي وللحسادِ صبرًا وسكرا
لقد فَصَمتْ أيدي البعاد عرى اللقا
ومن عادة الأيام أن تفصم العرى
فوا أسفَ العاني على الزمن الذي
بهِ قد جنى غصن المحبة مثمرا
وكم بتُّ يا عشاقُ للأوج راصدًا
بذاك النوى، والقلبُ يصبو محيرا
صبرتُ على دهرٍ أتاح ليَ الردى
لعلمي أن الدَّهرَ لن يتصبرا
وهيهات أن يرجى من الدهر للفتى
صفاءٌ إذا كان الزمان مكدرا
وكُلُّ امرئٍ طورًا يكونُ ميسرًا
يجولُ على النعمى وطورًا معسرا
زمانٌ غدا للناس دائرة الضنا
يمرُّ بها قطرُ المنونِ كما ترى
وأخبثُ أدهار الورى دهرنا الذي
بهِ قد رأينا كلَّ خطبٍ مدهورا
فما حيلةُ الإنسان إن كان دهرهُ
يجيش عليهِ من بلاياهُ عسكرا
لحا الله عصرًا صار في الشرق مظلمًا
وفي الغرب قد أضحى بهيًّا منوَّرا
يظنُّ الفتى أن الغنى عضدٌ لهُ
ولم يدرِ أن الدهرَ يهوى التدمرا
فكم بلدٍ أشقى فبلبلَ بابلًا
وصادمَ صادومًا، ودمَّرَ تدمرًا
ولا أسوةٌ بين الآنام فبعضهم
يسودُ القرى، والبعضُ يحتاج للقرى
وهذا أديبٌ ينظم الشعر مطربًا
وذلك فدم لن يذوقَ ويشعرا
وما الشعر ما جاءت عليهِ «مفاعلن»
وكان بهِ «طيٌّ» و«خبنٌ» تعذُّرا
إذا لم يكن للشعر معنًى ورقةٌ
فليس بهِ من لذةٍ للذي قرا
وكم شاعرٍ في نظمهِ خللٌ فمن
كلامٍ بلا وزنٍ وعجزٍ تكرَّرا

الوداع

جادَتْ لنا بوداعها إثرَ السرى
تلك التي بخلت بطيفٍ في الكرى
رحلت فراح القلب يحدي ظعنها
فمتى يعاودُ بالتلاقِ مبشرا؟
ورنت بطرفٍ ملؤُهُ غصص النوى
فأنا قتيلُ نوًى وطرفٍ أحورا
قربت فكانت في الفؤَادِ ندًى ومذ
بَعُدت غدت نارًا بهِ فتسعرا
والشمس يخمد بالدنوِّ سعيرها
ويشبُّ إن بعدت فتضطرم الورى
دمعي جرى بفراقها دُرَرًا وقد
جاء العذول يقول لي: ماذا جرى؟
حَدَقٌ إذا ما النوءُ ضنَّ تبادرت
عبراتها تسقي الحدائق والثرى
وبمهجتي من أودعتني سرَّها
يومَ الوداعِ وغادرتني مشهرا
هيفاء هزَّت أسمرًا من قدِّها
ومن العيونِ النجل سلت أبترا
أبدت هلال الحسن قامتها وكم
يحلو لذي الأبصار غصنٌ أثمرا
ولكم أَبانَت روضةً للعين في
وجهٍ من النور البديع تصوَّرا
فخدُودُها تُبدي لعيني جنةً
ورضابها يهدي فؤَادي كوثرا
هي مظهر الحسن البهيِّ ومخبرُ الـْ
ـلُطف الشهي ودرةٌ لا تشترى
فبطلعةٍ بيضاءَ لاحت عبلةً
وبمقلةٍ سوداءَ راحت عنترا
يا نسمةً من أرض نجدٍ قد سرت
هيجتِ وجدًا دونهُ نارُ القرى
ولأَنتَ يا برقًا تأَلَّق في الدجى
كن عن ثغور أحبتي ليَ مخبرا
خُشفٌ لهنَّ الطرف راعٍ والحشا
مرعًى فكلُّ الصيدِ في جوف الفرا

صباح الخير

قلْ: يا صباحَ الخير صبح وجهَ من
تمحو بطلعتها دجى الأكدارِ
غيداءُ قد لعب الصبا بقوامها
فتمايلتْ كالغصن والخطارِ
يتموَّجُ الحسن البديعُ بوجهها
كتموُّج الأنوار في الأقمارِ
هيَ بغيتي، لا بل مليكة مهجتي
وغزالتي، لا بل ضيا أفكاري
من ثغرها لفمي ألذُّ طلًا ومن
وجناتها لي أطيبُ الأزهارِ
كم ليلةٍ قد بتُّ وهي نديمتي
أجني ثمارَ الوصل في الأسرارِ
والنجمُ مشتغلٌ بنقب الغيم كي
يرنو إليَّ كراقبٍ متوارِ
تعطو بجيدٍ كالغزالِ وجهها
مثلَ الغزالة حاملُ الأنوارِ
وعلى بهيِّ جبينها قد لاح لي
إكليلُ زهرٍ فاحَ كالمعطارِ
يا ربَّةَ الحسن الذي سجدت لهُ
روحي وقد رنت بهِ أشعاري
كلَّلتِ رأسكِ بالزهور وأنتِ في
ظفرٍ عليَّ، فكللي بالغارِ
يا طولَ ليلٍ قد أطلتُ بهِ البكا
شوقًا إليكِ وأنتِ ذاتُ نفارِ
ما فاز طرفي من سناكِ بنظرةٍ
إلَّا يعودُ بحيرةِ المحتارِ
تاهت بيَ الأشواق في قفر الدجى
تيهَ السرى في سبسبٍ غرَّارِ
فكأنَّما أسدُ السما يبغي دمي
وتدوس قلبي أرجلُ الجبار
وخيالُكِ الوهميُّ فوق نواظري
متوقفٌ كالنور فوق النارِ
ألقي يديَّ على الخلاءِ كأَنني
أرجو معانقةَ الخيالِ الساري
واهًا فلا شيءٌ أعانقهُ سوى
لهب الزفيرِ ومدمعٍ مدرارِ
فالشوقُ أملأَ أعيني فتبادرت
منها الدموعُ تبادر الأمطارِ
وعلى حشايَ برجلهِ ضرب الغرا
مُ فهاج بركان الزفير الواري

وقال:

أقبلت تسفرُ عن قمرِ
فغدا عقلي على سفرِ
غادةٌ هيفاءُ إن خطرت
غادرت قلبي على خطرِ
وإذا ما نظرت سلبت
كبدي بالغنج والحورِ
جلَّ من ضرَّج وجنتها
بمياهِ الحسن والخفرِ
ثغرها يهدي المتيَّمَ إن
بسمت كنزًا من الدُّررِ
ظفرت بالعقل طلعتها
ولكم للحسن من ظفرِ!
كيف لا أعشقُ منظرها
وأنا في الناس ذو نظرِ؟
ما بدت إلَّا لتسلبني
ببديع المنظر النضرِ
لعب اللطفُ بمعطفها
فانثنت تشكو من الأُزُرِ
قدُّها يزهو بميلتهِ
زهوةَ الأغصان بالثمرِ
والهوى لولا ضفائرها
ما قضيتُ الليل بالسهرِ
ذاتُ فرعٍ قد رأيت بهِ
غيهبًا يعلو على قمرِ
وقوامٍ لم يشنهُ سوى
أَنَّهُ يهتزُّ كالسمرِ
فسواها لا أرومُ ولا
يرتجي الأعمى سوى البصر
كم أتتني بالدلالِ فكم
أودعت قلبي من شررِ!
أرتجي القربَ فتبعدُني
وإذا استنجدتها تجُر
إن أكن أعتب فهو على
أعيني والقلبِ والفكرِ
قربتْ أو بعدت هيَ لي
منتهى الآمالِ والوطر
زادني إعراضها شغفًا
هكذا شأنُ هوى البشرِ
بهواها ذقتُ كلَّ أسًى
وعلا الشيبُ على شعري
ليتَ لي خلًّا يساعدني
أو يرى ألَّا يرى كدري
لو ترى للخير من مائةٍ
واحدًا لم تخشَ من ضررِ

وقال إلى صاحبٍ لهُ:

ما أومض البرق إلَّا أومض البصرُ
إلى منازل من سكَّانها القمرُ
وما سرت نسمةُ الأسحار نافحةً
إلَّا وقلبي بنار الشوق يستعرُ
تهتاج وجدي ورق الدوح إن صدحت
وكم أهيمُ إذا ما غرَّدَ الوترُ!
والحبُّ حربٌ لها نارٌ تثور على
كلِّ القلوبِ، ومن أجنادها الفكرُ
لا أشكون الهوى العذريَّ إن عبثت
صروفُهُ بفؤادي؛ فالهوى قدرُ
هيهاتَ يأمَنُ مِن غدرِ الجمال فتًى
يخونهُ الصاحبانِ: القلب والنظرُ
وطلعةُ الحسن إن لاحت لعاشقها
يُطوَ التصبُّر، والأشواق تنتشرُ
بالنفس حسناءَ تحييني إذا نظرت
نحوي، ويقتلني من طرفها الحورُ
لمياءُ تزهو بنسرينٍ يكللهُ
وردٌ تجلى عليهِ النرجس النضرُ
وتنثني بقوامٍ زانهُ مَيَلٌ
منهُ تبدَّى لعيني الليلُ والسحرُ
قدٌّ هداهُ الصبا عجبًا وذا عَجَبٌ
فالغصنُ يهدي ولا يهدى لهُ الثمرُ
يميلُ سكرًا بخمر الدلِّ معطفها
وطرفها فيهِ يجلى الشوقُ والخفرُ
يبدو على الخدِّ منها للحياءِ ندًى
إذا بدت وهو في قلبي لهُ شررُ
كم ليلةٍ للقاها بتُّ منتظرًا
ولذَّةُ الحبِّ حين الوصلُ يُنْتَظَرُ
تأتي وشهبُ الدُّجى كالسفن تسبح في
لجِّ الفضا وشراعُ النور منتشرُ
والبدرُ يرسمُ شكل الدائرات على
سطح السما، وزوايا الأفقِ تزدهرُ
أحاذرُ الصدَّ إذ بالوصل تسمح لي
يومًا، ومما يصيبُ العاشقَ الحذرُ
ما زال يحملُ قلبي كلَّ عائدةٍ
من ذلك الهجر حتى كاد ينفطرُ
يا غادةً غادرت عينيَّ مذ غدرت
بالعهد تسكبُ من آماقها غدرُ
أما رثى قلبُكِ القاسي لسقميَ إذ
رثى لجرح فؤادي بالهوى الحجرُ؟!
إن كنتُ أذنبتُ ذنبًا فهو عن خطأٍ
مني، وها اليوم عمدًا جئت أعتذرُ
أناخَ حبكِ في قلبي مطيتهُ
فليس يرحل حتى يرحل العمرُ
فكم تحملتُ من تلك المحبة ما
لو يحمل الصخر منهُ البعض ينفجرُ
دمعي كطوفان «نوحٍ» سال منهمرًا
وفي الحشا نارُ «إبراهيم» تستعرُ
أخو ودادي من أضحت سجيَّتُهُ
ظرفًا بهِ كلُّ ظرفٍ راح ينحصرُ
ندبٌ بهِ الفضل قد قامت دعائمهُ
دومًا، ومنهُ مياهُ اللطف تنحدرُ
يزهو على الناس في علمٍ وفي عملٍ
من تالدٍ وطريفٍ فهو مفتخرُ
لهُ على فصلهِ والفضل بينةٌ
أتى بها الشاهدانِ: الخبرُ والخَبَرُ
يسعى إلى الخير سعيًا لا يخامرُهُ
ضعفُ العزيمة والمفضالُ يقتدرُ
وربَّما القلمُ المبريُّ يفعل ما
لم تستطع فعلهُ الأسيافُ والسمرُ
رقت إلى أُفق النعمى مراتبهُ
حتى تعجَّبتِ الجوزاءُ والزُّهرُ
يا كوكبًا بسماءِ الودِّ مركزهُ
طرفي برصدك قد أضحى لهُ وطرُ
شاعت صفاتك في عربٍ وفي عجمٍ
لما صفت، فاصطفتك البدو والحضرُ
إليكَ مني أيا مفضالُ جاريةً
تبدو فيغشى محيَّا وجهها الخفرُ
تهديك نشرَ سلامٍ راح ينشرهُ
ريحُ الصبا ما بدا في الروضةِ الزهرُ

وقال:

الحبُّ في القلب نارٌ لا خمودَ لها
وقلَّما كان قلبٌ ما بهِ نارُ
أستودعُ الله روحي في محبتكم
والموتُ في الحبِّ لا عيبٌ ولا عارُ

ثمر الصداقة

أطارحُها وجدي فتلوي فأزورُّ
وبعض نفوس العاشقين بها كبرُ
وأرجو الوفا منها فتظهر غدرَها
وربَّ وفاءٍ كان أحرى بهِ الغدرُ
تراني على غيظٍ فتبسطُ عذرها
وما كلُّ ذي ذنبٍ يقوم لهُ عذرُ
وها إنني راضٍ بما هي ترتضي
ولا ذنب للمحبوب إلا لهُ غفرُ
ضللت ولكن قد هداني جبينها
ومن ضلَّ في كفر الدجى يهدهِ الفجرِ
رضيت بضيم العسر في عيشة الهوى
إذا المرءُ يرضى العسر فهو لهُ اليسرُ
وما عيشةُ الخالي بحالٍ يطيبُ لي
وإن طاب حالٌ للفتى يطبِ العمرُ
مهاةٌ تريك السحر في لحظاتها
ولا شك في الألحاظ قد وُجدَ السحرُ
إذا نظرت شذرًا إليَّ أَهمْ جوًى
وكم لذَّ من عين الحبيب ليَ الشذرُ!
تعشَّقتُها حتى قضيتُ محبةً
ومن لم يمُت في الحبِّ ليس لهُ أجرُ
بلثم ثناياها قنعتُ وخدِّها
وقنع الفتى يجنى بهِ التبرُ والدرُّ
أنا لست أسلو حبها وجمالها
وخيرٌ لمن يسلو الهوى الموتُ فالقبرُ
أيا عاذلي، لو كنت تفهم ما الهوى
لما لمتني، واللومُ يا صاحبي مرُّ
ففهمك في ذكر السوى هو فاسدٌ
وقد تفسدُ الأفهامُ إن فسد الذكرُ
تميل نفوس الناس طبعًا إلى الهوى
وإنَّ الهوى جنسٌ وأنواعهُ كثرُ
رعاها إلهي كم حبتنيَ وصلها
وفي الوصل ما تحيا النفوسُ وتنسرُّ
وقد ساهرتني والكواكب طلَّعٌ
وكم ساهرٍ في الليل ساهرهُ البدرُ!
وقد هاجرتني لا ملالًا تدللًا
وأصعبُ شيءٍ في الهوى الصد والهجرُ
فها بعتها روحي وما احتجت شاهدًا
شهود الهوى: الأسقام والدمعُ والزهرُ
وأخفيتُ سرَّ الحب حتى عن الصبا
وقد قلَّ من يُخفي بجانبهِ السرُّ
ولا نفعَ للإنسان في كتم سرِّهِ
إذا ما استوى بين الورى السرُّ والجهرُ
رضعتُ هوى ذات الجمال فمضَّني
وربَّ رضيعٍ كان داءً لهُ الذرُّ
لقد أسرتْ قلبي بعينٍ كحيلةٍ
رعى الله عينًا دأبها الفتك والأسرُ!
من الغصن حازت ميلهُ وهو لينها
مقايضةُ الأحباب ما مسها ضرُّ
لها طلعةٌ غراءُ تزهو كأنها
طلاقةُ من قد زانهُ العزُّ والفخرُ
صحيحُ مقال يسبق القول فعلهُ
صريح ودادٍ زانهُ الإنس والبشرُ
يصون ويرعى حرمةَ العهد والوفا
على أنَّ حفظ العهد يحسنهُ الحرُّ
لبيبٌ، زكيُّ العقل، ذو فطنةٍ جلا
سناها ظلام الغامضات فلا عثرُ
وفكرٌ لهُ كالبرقِ يُسرع حدَّةً
إلى فهم ما لم يستطع فهمهُ فكرُ
فمن ذهنهِ نارٌ، ومن فمهِ ندًى
ومن لفظهِ درٌّ، ومن يدهِ بحرُ
وإن يبكِ أهل الشح ضاحك سحِّهِ
فكم خُزيَ الخزَّانُ إذ همل القطرُ!
توهم قومٌ أسوةً لهم بهِ
أَسيان عند العارف: الترب والتبرُ؟
ومن رام يحذو حذوهُ فهو عاجزٌ
وهل إبرٌ يَفْعَلَنْ ما تفعل السمرُ؟
ولا أسوةً للناس إلا إذا استوت
أصابعهم، هيهاتُ فالطول والقصرُ!
ولولا ذوو الراحاتِ أين أخو الغنى؟
وليس الغنى يغني إذا أفقد الفقرُ
ثلاثة أشياء يسود بها الفتى
على الكلِّ وهي: العقل والمال والدهرُ
ألَّا أيها الحاوون كلَّ شهامةٍ
نذرتُ لكم مدحي، ولا يُفسدُ النذرُ
وها حلب الشهباء روضٌ، وأهلها
غصونٌ، وأنتم نفحةُ الزهرِ والنهرُ
فحقٌّ لكم ما الأفق لاحت نجومهُ
ثناءٌ حميدٌ فاحَ من طيبهِ النشرُ

وقال:

قتلت لحاظك يا غزال تصبُّري
قتلًا دعا هممي لأخذ الثارِ
ولذا بدت في القلب معركة الهوى
ما بينَ أشواقي ونزعِ العارِ
لكنَّما الأشواق قد غلبت وها
قد عدتَ أنتَ مكللًا بالغارِ
فاحنن على ضعفي، وراعِ تخشعي
يا من كساهُ الحسن بالأنوارِ
لا سلوةٌ لي عن هواكِ ولو بدا
منكِ الجفاءُ محمَّلًا بنفارِ
هيهات يشملني السلوُّ وأنت في
كبدي سكنتَ، وجلت في أفكاري
ما لي أرى قلبي لصدري قارعًا
يحكي أخا هَلعٍ مريدَ فرارِ
لم أدرِ من سبب سوى أَنَّ الهوى
ألقى خيالك فيهِ وهو الساري

وقال إلى صديقٍ لهُ:

علامة الشوق

قم بكرةً، واجلُ ظلمةَ الكدرِ
بنيِّر الكاس، وأصغِ للوترِ
واقطفْ زهورَ الصبا ألست ترى
مُدَّت إلى قطفها يدُ الكبرِ؟
في روضةٍ قد زهت بسندسها
وابتسمت بالندى عن الدُّرَرِ
فيها غصون الأراكِ قد رقصت
لما شدا العندليبُ في السحرِ
سرت نسيم الصباءِ حاملةً
في جيبها طيبَ نفحة الزَّهرِ
فانهض بنا يا أخا السرور إلى
نهب الصفا نقضِ لذَّةَ العُمُرِ
أما ترى النورَ كالوشاح غدا
للأفقِ أزرارُهُ من الكُررِ
والشهبَ في قبَّة السماءِ بدت
كنرجسٍ في حدائقٍ خُضرِ
قد ظلَّ قطبُ الشمال مزدهرًا
بأنجمٍ لم تغبْ عن البصرِ
والأرض تجري بنا كمركبةٍ
على الفضا بين أنجُمٍ كُثُرِ
أشعةُ البدرِ في الغمام دجًى
تُبدي لنا رسمَ أفخر الصُّورِ
حتى انتضى الفجرُ سيفهُ وفرى
نحرَ الدُّجى، ثم صاح بالظفرِ
دُقَّتْ طبولُ الصباحِ وانتشرت
أعلامهُ فوقَ أرؤس الشجرِ
والليل قد هارَ، والنجوم غدت
تجري إلى الغربِ وهي في ذَعرِ
والقوس بالسحبِ عاد في أُصُلٍ
يرمي الروابي ببندقِ المطرِ
يا صاحِ، سبحْ بحمد ربك إذ
كلُّ البرايا لخدمة البشرِ
إن لم يكن عن قضاءِ ربك من
بدٍّ فلا تخشَ سطوةَ القدرِ
ولا تُضعْ فرصةَ الشباب سدًى
واغنمْ زمانًا صفا من العكرِ
ما بين وردٍ ونرجسٍ خضِلٍ
وزنبقٍ نافحِ الشذا عطرِ
وخمرةٍ إن مزجتها ظهرت
كالشمس ما بين أنجمٍ زُهرِ
من كفِّ غيداءَ إن تمِسْ وتلحْ
أبدت من الغصن طلعةَ القمرِ
هيفاءُ تحكي الرماحَ ما خطرت
إلَّا غدت مهجتي على خطرِ
سكرى بخمرِ الدلال مقلتها
ترمي نبالَ الفتورِ والحَوَرِ
قد كتب الحسن في الخدودِ: ألم
نشرحْ لكم سرَّ ذلك الخفر؟
تلقي على وجهها إذا ابتسمت
منديلةً؛ كي تصونَ لي بصري
تاهت بعزِّ الدلال إذ نظرت
ذلي، فإن أستجرْ بها تُجرِ
قد أثمر البدرَ غصن قامتها
والفجرَ، يا حسنَ ذلك الثمرِ
وشيدَ الله من حواجبها
لعاهل الطرفِ قوسَ منتصرِ
قالت: ألا يا أخا الغرام ألم
تصبرْ هوًى؟ قلت: لات مصطبري!
أفديكِ من ذات طلعةٍ أسرت
عقلي وصبري وقيَّدت فكري
حتامَ ذا الهجرُ يا معذبتي؟
إن كنتُ أذنبت فالهوى عذري
درست حبًا وطالما سفحت
عيني دموعًا جرت على أثري
أخفيتُ سرَّ الهوى فباح بهِ
دمعي، وذو الدمعِ غيرُ مستترِ
بالمعطف الليِّن ارحمي سقمي
يا من روى قلبها عن الحجرِ
زيحى عن الوجه ذا الخمارَ ولا
تخفي أعاجيبَ حسنكِ النضر
العين والقلب في الهوى استويا
فكان حظُّ الإناث كالذكر
أَبدي البها كي تصولَ دولتهُ
قُبَيلَ أركاس دولةِ العُمرِ
والحسن كالعقل قلَّ صاحبهُ
فاجليهِ للعاشقين وافتخري
قد ذقتُ في الحبِّ كل نائبةٍ
إن الهوى للخطوب كالجسرِ
بالله يا منيتي اذكري زمنًا
فيهِ اغتنمنا الوصالَ وافتكري
أيامَ روحين كنا في جسدٍ
وكان قلبُ الحسودِ في شَرَر
والأن طارت ولم يعدْ بيدي
منها سوى الذكرِ فهو لم يطرِ
بالأمس قد كنتِ تعتبينِ إذا
ما عنكِ غضيتُ ساعةً نظري
واليومَ لا يخطرنَّ ذكريَ في
بالٍ ولو جزت شاسعَ البحر
بمن تعوَّضتِ عن مُحبِّكِ يا
من حوَّلت وردها إلى الصَّدَر
جودي على المغرم القديم إذن
بنظرةِ، هل بذاك من ضررِ؟
ما من محبٍّ ترينَ مثليَ ذي
قلبٍ بنار الغرامِ مستعرِ
هل الودادُ الذي انتشا ونما
ما بيننا صار فاقدَ الخبرِ؟
لا يُجمَعُ الحسن والوداد معًا
فالحسنُ للودِّ غيرُ مفتقرِ
أينَ الوصال الذي بهِ انتعشت
روحي فهل عاد دارس الأثرِ؟
من يرجُ حالًا لهُ تدومُ فذا
يرجو محالًا يقيدُ للكدرِ
رجوتُ دومَ اجتماع شمليَ معْ
خلٍّ حبيبٍ، فلم أنل وطري
ذاك الحبيب الذي نأَى فرمى
فراقهُ مقلتيَّ بالسَّهرِ
بقربهِ القلب في النعيم لقد
ثوى، وبالبعدِ صار في سقرِ
ودَّعتُهُ والفؤَاد ودَّعني
وراح إثر الحداةِ في السفرِ
مذ سار جاء الحسود يشمت بي
والبيدُ يعجبنَ؛ كيف لم أَسرِ؟
يا بين حمَّلتني عدمتكَ ما
إن يحمل الطودُ بعضهُ يغر
قد حلْتَ بيني وبينَ من شهدت
بلطفهِ العذبِ نسمةُ السَّحر
نجل الكرام الذين فطرتهم
قد ركبت من أطائب الفطرِ
سليلُ أصلٍ، جليلُ طائفةٍ
والأصلُ يغني الفتى عن البدرِ
قد اكتسى العقلَ والذكا وزها
بالظرف واللطفِ وهو في الصغرِ
سأَلتُ طولَ اللقا لهُ زمنًا
جاد بهِ، فاستجابَ بالقصرِ
يا نائيًا قد تركتَ قلبي في
نار اللظى، والعيونَ في غدر
ما كان ذاك اللقا سوى حُلُمٍ
قد مرَّ في هجعةٍ من الدُّجر
سهم النوى قد رمى الفؤَاد ولو
أخطأ الكرى قلتُ: في المنام زُرِ
شوقٌ أنينٌ تفكُّرٌ سهرٌ
لي بعد ذا البعدِ، فاستمع سيري

وقال:

صن العلمَ إن جالستَ ذا الجهل في الصدرِ
فليس يلذُّ العلمُ إلَّا لمن يدري
أيُطربُ آذانَ الأصمِّ مغرِّدٌ
وهل لذَّ للأعمى سنا طلعةِ البدرِ؟
وما العلمُ عند الغمر إلَّا فضالةٌ
ومن أفضل الأشياءِ عند أخي الخبر
هو الدهرُ ميدان الثراءِ وذا ثرًى
وفيهِ خيول الجهل طول المدى تجري
ومن كان ذا مالٍ ولم يكُ عاقلًا
فذاكَ حمارٌ حمَّلوه من التبرِ
ومن أحسن الأشياءِ علمٌ مع الغنى
ومن أقبح الأشياءِ جَهْلٌ مع الفقرِ
يُعيِّرُنا بالعلم قومٌ وإننا
نرى ذلك المعيارَ ضربًا من الفخرِ
أخو اللبِّ إن لم يتحفِ الغمرَ حلمهُ
فهل لأولي الألباب فرقُ عن الغمرِ؟
أرى العقلَ مرآة الطبيعةِ إذ بهِ
نرى صُوَرَ الأشياءِ في عالم الفكرِ

وقال:

لا تكلَّفْنِي القراءة إني
هائمٌ في هوى الغزال النفورِ
فإذا ما فتحتُ يومًا كتابًا
طاف طيفُ الحبيبِ بين السطورِ

وقال وهو في روضةٍ بحلب يقال لها «الغوري»:

غار جيشُ النسيم صبحًا على الغا
ر بروض «الغوريِّ» فاهتز ذعرَا
إنما الوردُ في ظُبَا الشوك قد فا
زَ عليهِ وحاز فتحًا ونصرًا

وقال ملغزًا:

من ذا يقيك من الجفونِ أو الحورْ؟
لا مهربٌ للناس من سيف القدرْ
صبرًا على ما قد عراك من الضنا
والصبرُ يحلو للفتى عند الكَدَرْ
حلَّ الهوى، رحل النهى، جاءَ الجوى
نأَتِ القوى، مات الكرى، عاش السهرْ
ومهفهفٍ أَسرَ الغزالَ إذا رنا
وبوجههِ فتن الغزالةَ والقمرْ
حلوُ المقبَّل بكرةً، مرُّ الجفا
رخصُ المعاطف، قلبهُ مثل الحجرْ
بدرٌ أتى باسمٍ رباعيٍّ بهِ
صغرٌ وفي كبر الوغى هو مشتهرْ
إن تبغِ تصحيفًا لمهملهِ تشمْ
منهُ اسمَ شيءٍ في البطون قد استقرْ
احذف ثمانيةً وصحِّفْ بعدها
فتراهُ من شجر الكروم قد اشتهرْ
واقسمهُ تلقَ النصف منهُ ماضيًا
والنصفَ بالتصحيف تهواهُ البشرْ

وقال:

خطرت تميسُ كغصن بانٍ غادةٌ
تبدي هلالًا من خلال إزارِ
وتبسمتْ، فالدرُّ ذا أم ثغرُها؟
ورنت فلحظٌ أم كئوسُ عقارِ
كُسيَتْ بأثوابِ المحاسن والبها
فتمنطقت بأشعة الأبصارِ
غارت ظباءُ البيدِ من لفتاتها
والغصنُ حار بقدِّها الخطَّارِ
وعن الترائبِ كم يشفُّ قميصها
كسحابةٍ شفَّت عن الأنوارِ
رعبوبةٌ قد أخجلت ريم الفلا
بتلفُّتٍ ولواحظٍ ونفارِ
نفثاتها أذكى شذًا من روضةٍ
نفحت بريَّا أطيب الأزهارِ
في وصف طرَّتها سردتُ قصائدًا
وَيَلَذُّ طولُ الليل بالأسمارِ
لما سقى ريعُ الصبا أعطافها
ماء الدلال أتت بخير ثمارِ
غازلتها فكسا الحياء خدودها
فرأيتُ من ماءٍ تأَججَ نارِ
ولقد تمشَّى حبُّها بأضالعي
كتمشيَ الأيامِ بالأعمارِ
وقد اتشحتُ بهِ سرابيل الضنا
لكن خلعتُ بذا الوشاح عذاري

وقال:

لا تعتبنَّ الدهر إن يكُ غادرًا
بكَ فهو من عاداتهِ أن يغدرا
وخذِ التصبُّرَ في المصيبةِ مسعفًا
ودعِ الأمورَ إلى الذي خلق الورى

الصبر

صبورٌ على البلوى ولو لم يطُلْ صبري
لما أمكن الواشي لمثلكِ أن يُغري
ألمَّتْ بيَ النكباءُ من كلِّ جانبٍ
فمنكِ ومن واشي الهوى ومن الدهرِ
أفاطمَ، لو تدرينَ بعض صبابتي
لأدهشكِ الصبرُ الذي لي على الهجرِ
أزدتِ الجفا لما رجوتُ الوفا فإن
يكن ذاك ذنبًا لي فإنَّ الهوى عذري
يُضيعُ الهوى رشدي إذا ما انجليت لي
فأنشدُهُ بين الترائبِ والنحرِ
رعى الله هاتيكَ النهودَ فإنها
كواكبُ بلورٍ على أُفق دُرِّي
فسبحانَ مَنْ قد زيَّن الحسن منكِ إذ
خلقتِ بلطفِ الدَلِّ ياربةَ الخدرِ
ولو كان ميلُ القلب للحسن وحدهُ
لكان هوى التمثال أحرى لمن يدري
إذا ما اجتلاكِ الفكر كادت قريحتى
تطيرُ إلى «الشعْرى» بأجنحة الشعرِ
وإن مثلتكِ العين كادت بمهجتي
تهبُّ رياحُ الشوق مني إلى البدرِ
فيا نزهةَ الأبصار، زيحي اللثام عن
جمالكِ فهو البدرُ، أو كوكبُ الفجرِ
صبَتْ لمحيَّاكِ الغزالةُ في السما
وصيبَتْ بعينيكِ الغزالةُ في القفرِ
أميلي أميلي لا عدمتُكِ قامةً
حكت أسلاتِ البان في روضة الزهرِ
بعيشكِ كفِّي رُسْلَ لحظك فترةً
فما هُنَّ في ديني سوى رُسل السحر
ولا تجعلي ذاك الدلالَ مُطوَّلًا
فربَّ دلالٍ يقتل الصب كالهجر

وقال:

يا صاحِ، لا تكُ بالعلياءِ مفتخرًا
إن كنتَ لم تولِ نفعًا قطُّ بل ضررَا
إني أرى شجر الصفصافِ مرتفعًا
إلى العلوِّ ولكن لا أرى ثمرا

ولهُ لغز في عشق:

ما اسمٌ إذا مات منه آخرهُ
دعا بعيشٍ، وعاش طائرهُ
مخزولُ محذوفهِ لكلِّ فتًى
ودٌّ وحبٌّ وذاك سائرهُ؟

وقال تاريخًا يُنقش على قبر «ميخائيل أديب» في «أنطاكية»:

هذا ضريحٌ فيهِ «ميخائيل» قد
أضحى طريحًا فاندبوهُ يا ورى
هو كوكبٌ بالأمس كان على السهى
يعلو فغار اليومَ في جوف الثرى
أسفًا عليهِ فهو غصنٌ يانعٌ
قَصَفَتْهُ أيدي الموت من أعلى الذرى
فاسكبْ دموعك أيها الغادي على
رمس الوحيدِ، ولا تَسَلْ عمَّا جرى
إنَّ المنيَّةَ مثلَ ليثٍ ظالمٍ
تطسُ الكبير ولا تعاف الأصغرا
يا قبرُ، حزتَ ابنَ الأديب فلا تكن
بنواهُ ذا طمعٍ لئلَّا تخسرا
فالموت هذي الحالُ أرَّخ دأبهُ
واعلمْ بأنك قد ضممتَ الجوهرا
سنة ١٨٦٢

ظهور الغرام

سكبتْ على قلبي الغرام نواظري
لما رأتكِ، فصرت شغلَ ضمائري
وحرارةُ العشق الخفيِّ تشعشعت
بدمي، وقد كمَنتْ بكلِّ عناصري
من مقلتيكِ هدت فؤَادي للهوى
عَقِبَ اتفاقِ دمٍ شعاعُ أوامرِ
أفديكِ بالقلبِ الذي في الحبِّ قد
غادرتهِ ملقًى صريعَ محاجرِ
ما زلتُ أشغلُ عنكِ طرفي مخفيًا
سرَّ الهوى؛ خوفَ النفار القاهرِ
حتى نظرتُ عليكِ سيماءَ الرضا
فأبان ما أخفاهُ قلبي ناظري
هامت بوادي الحبِّ كلُّ جوارحي
وجرى عقيقُ دمي بدمعي الهامرِ
أشعلتِ أحشائي بنيران الجوى
وشغلتِ أفكاري وكلَّ خواطري
وتركتِ قلبي بالغرام معذَّبًا
قلقًا كطيرٍ بين أيدي ناحرِ
أخفيتُ سرَّ تشوُّقي في باطني
فأذاعهُ لذوي الصبابةِ ظاهري
لو كانَ يُدركُ قَدْرَ وجدي عاذلي
لانكفَّ عن عذلي وأصبح عاذري
ويلاهُ من تلكَ اللحاظِ فإنها
قد أتلفت كبدي بوقعِ بواترِ
كتبَ الجمالُ على عيونك هكذا:
احفظْ فؤَادك من عيون جآذرِ
ما فزتُ منكِ بنظرةٍ إلَّا أرى
بين الجوانح قيظَ شهرَيْ ناجر
فلقد حباكِ سنا الطبيعة بهجةً
كالبدر تزهو فوقَ غُصْنٍ ناضر
ناديتُ حينَ رأيتُ ثغركِ: جل من
جعلَ العقيقَ مرصَّعًا بجواهرِ!
رَوِّي فؤادي من لماكِ فذا اللمى
برءُ العليل بهِ ووِرْد الصادرِ
قد ألحقتْ عيناكِ حسنَ تصبُّري
بالقارظينِ وذاكَ مُعجز ساحرِ
وسطا جمالُكِ يا سنا قمر على
كبدي بسيف الطَرْف سطوة كاسرِ
لكِ أعينٌ تهوى الكرى أبدًا وذا
خلُقُ الخليِّ، فويحَ جفني الساهرِ!
حتامَ تخفينَ اللحاظَ بأجفنٍ؟
لا تَحسُنُ الأنوارُ تحت ستائرِ
كم ليلةٍ قد بتُّ منفردًا بها
أرعى الهوى، وخيال طيفك زائري؟
ولسان فكري عنكِ يروي في الخفا
والفكرُ في الخلواتِ خيرُ مسامرِ
فإذا رأيتُ الشمس يطردُها الدُّجى
نحوَ الغروبِ بجيشهِ المتقاطرِ
ويدَ الأصيلِ طلت جبين الأفق من
حوض المغيبِ بماءٍ تبرٍ زاهرِ
حنَّت إلى مرأَى خدودكِ أعيني
وصبت إلى لقياك كلُّ خواطري
ما جاء ذكرُكِ في حديث منادمي
إلَّا وكادت أن تُشَقَّ مرائري
مذ هاج بركان الجوى في مهجتي
أبدت لهيبَ الشوق فوهةُ ناظري
فلقد فتحت حصونَ قلبي للهوى
بقوى الدلال، وما سواك بقادرِ
وأسرتِ بالأحداق كلَّ عزايمي
أسرَ العبيدِ فها خضعتُ فآمري
ومن الجوى بَنَتِ الحواجب في الحشا
قوسَ انتصارٍ للجمال الظافرِ
حتى إذا ما رمتُ منكِ تقربًا
أعرضتِ عني كالغزال النافرِ
فأنا أطيلُ على الجفا صبري فلي
أملٌ طويلٌ بالوصال الغابرِ
ومطامعُ الآمالِ تعزيةُ الفتى
وعلى الرجا ترتاحُ روحُ الصابرِ
والمرءُ في زَمَنِ الشباب يهيمُ في
وادي الغرام هيامَ صبٍّ حائرِ
لا ترجُ أمنًا من زمانك فهوَ ذو
غدرٍ فحاذر شرَّ هذا الغادرِ
واتركْ مصاحبةَ الجهول فلم يصبْ
إلَّا العنا مَن سارَ إثر العاثرِ
وإذا الفتى ألف الوحوش فموتهُ
سيكون بين مخالبٍ وأظافرِ
لا تعطِ قلبك للصديق فإن يخنْ
عهد الولا أولاك صفقةَ خاسرِ
واجعل على شفتيكَ حارس حكمةٍ
وادفعْ بصمتك عنك هذرَ الهاذرِ
وعلى الظواهر تنجلي لذوي النهى
صُوَرُ البواطن، فاخشَ نقد الخابرِ
لا تستر النُقَّادُ عيبَ فتًى كما
لا تستر الشعراء هفوةَ شاعرِ
أمران ليسُ يكون أصعبُ منهما:
حكمُ الغبي، ورفعُ شأن الفاجرِ
والدهرُ كالميزان يعلو فيهِ ذو
نقصٍ، ويهبطُ ذو الكمال الفاخرِ
والله ليس يفوزُ بالعلياءِ مَنْ
ورث الدناءةَ كابرًا عن كابرِ
إن تسلبِ الأيامُ نعمة فاضلٍ
يومًا فلم تسلبهُ شكرَ الذاكرِ
وإذا هوى قَدْرُ الكبير إلى الثرى
ما عُدَّ إلَّا في مصاف أكابرِ
ولو ارتقى شأنُ الصغير إلى السهى
لم ينخرط إلَّا بسلك أصاغر
لما فحصتُ الدهرَ فحص مدققٍ
وخبرتُ أهل الموتِ خبرةَ ماهرِ
لم ألقَ إلَّا ضاحكًا لنوالهِ
ربحًا، وآخرَ باكيًا لخسائرِ
والمرءُ يحيا في الشقا ويموتُ في
أشقى إذا جهل الأمورَ كقاصرِ
لا يُذكرُ الإنسانُ بعدَ مماتهِ
أبدًا إذا لم يُبقِ حسنَ مآثرِ
الفضلُ يلبثُ خالدًا فوق الثرى
والمال يدرَس تحت ردم مقابرِ
والعلمُ صبحٌ يُهتدى بسنائهِ
والجهلُ ليلٌ فيهِ تيهُ السائرِ
كلٌّ لهُ ميلٌ إلى شيءٍ فذا
يرجو العلومَ، وذاك ربحَ متاجرِ
قد يستطيبُ الشمُّ ما للذوق لم
يصلح، وقدرُ الشيءِ عند الآثرِ
فالأذنُ مولعةٌ بألحان الغنا
والعينُ مغرمةٌ بحسن مناظرِ
والدهرُ يأمُرُ بالتقلُّب أهلهُ
وبليَّةُ المأمورِ جورُ الآمرِ

أثر الفراق

أعدُّوا السُّرَى فالبدرُ للغربِ قد سرى
معيدَ الثرى كالشهب والشهب كالثرى
دعاني النوى يومَ الرحيل فطعتهُ
وما رمتُ، لكنْ من يردُّ المقدَّرا
فسرتُ وعاد الغربُ يدنو تقرُّبًا
إليَّ وراح الشرقُ يرجع للورا
ووجهتُ وجهي نحوَ أرضٍ بعيدةٍ
وأطلقت أقدامي إلى حيث لا أرى
فيا موقف التوديع، ماذا فعلت بي
وكم أنت يا هذا النوى تنثر الورى؟
ركبتُ فسيحَ البحر أقطعُ لجَّهُ
ودمعي غداة البين يدفق أبحرا
وما زلت حتى مدَّ لي البعدُ باعهُ
فعانقني، والقربُ عني تقهقرا
أحبةَ قلبي، إن أكن سرتُ عنكم
بجسمي فروحي عندكم لا مع السرى
أُقطِّعُ أوقاتي ضجيجًا بذكركم
وأنفدُ ساعاتي جوًى وتحسرا
فيا جيرة الأحياءِ، هل تذكرون مَنْ
يُقضِّي لياليهِ الطوال تذكرا؟
تذكركم أنسي، وكاسي بغربتي
وأشباحكم طيبي، وحظي في الكرى
صروفٌ دعت قلبي إلى حمل بينكم
فيا ويحهُ ما كانَ في البين مفكرًا
وما زال سلطانُ القضا بجيوشهِ
يحاربُ هذا القلبَ حتى تفطَّرا
فقام اعتراكُ الشوق فيهِ وأعيني
نضت بيرقًا في حومة الحرب أحمرا
لهيبُ جوًى أبقى الدموعَ جواريًا
على ذلك البعد العظيم الذي جرى
وما كنت أدري أَنَّ في البين أكؤسًا
يميل الفتى منها، ولو كان عنترا
وأنَّ ببعدِ الإلفِ للمرءِ خطةً
تقلبهُ قهرًا ولو كان قيصرا
فيا أيها الدهرُ الذي للبعاد قد
دعاني كرهًا، هل أرى القربَ يا ترى؟
ويا أيها الربعُ الذي قد تركتُه
ترى هل تضمُّ الصحْبَ أم صرت مقفرا؟
لعينيك أن تحظى برؤيا أحبتي
ولكن لعيني أن تنوحَ وتسهرا
كسرتَ فؤَادي يا زمان تشتتي
فيا ليت شعري! هل ألاقي مجبرا؟
بدورَ الحمى، إني غريبٌ بدونكم
ولو كنت في الفردوس في أرفع الذرى
فلا تحسبوني حلتُ عن عهد حبكم
إذا كنتُ في أرض الهوى متخطرا
أنا حافظٌ عهدي، أنا راهنٌ يدي
أنا حارسٌ ودي، أنا واثقُ العرى
فكلُّ ضياءِ الكون عندي ظلمةٌ
إذ كان طرفي لا يراكم ولا يُرَى

وقال يرثي المرحوم «ميخائيل أديب» في «أنطاكية»:

قف يا حزين على هذا الثرى سحرَا
واندبْ ونحْ إذ بهِ بدرُ الحمى قبرا
وصحْ بقلبٍ من الأحزان منكسر
يا ويل غصنٍ غدا بالموت منكسرا
يا أيها القبرُ، بحرٌ أنت أم فلكٌ؟
فقد وجدناك تحوي البدرَ والدررا
كم أنتَ يا قبرُ ذو خصبٍ فما برحت
تجني الخواطرُ منك الخوف والحذرا
ويحًا عليكَ أيا نجلَ الأديبِ فقد
ذقتَ المنونَ صغيرًا لم ترَ الكبرا
واهًا لوالدةٍ قد فارقتكَ على
رغمٍ، وأنتَ وحيدٌ تشبهُ القمرا
فهل تُعيدُ اللقا يا من رحلتَ بلا
زادٍ وخلَّفتَ دمع الأهل منهمرا؟
من ذا دعاكَ إلى هذا الرحيل فيا
ويلي على كوكبٍ مذ غاب ما ظهرا!
ما للعيون التي كانت تغازلنا
مثل الغزال غدت لا تعرف النظرا
يا للمصيبةِ قد سلَّ القضاء على
كلِّ العبادِ سيوفًا تفلق الحجرا
فيا حمامَ الروابي نُحْ عليهِ، ويا
أهلَ الحمامِ اندبوا؛ فالصخرُ قد فطرا
قولوا وتاريخنا نوحٌ يعجُّ لهُ:
كلٌّ على موتِ «ميخائيل» قد حُسرا
سنة ١٨٦٢

أثر الصداقة

غطِّي محيَّاكِ إن الطرفَ قد نَظَرَهْ
فما محيَّاك إلَّا أسحرُ السَّحَرَةْ
وإن بسمتِ احجبي بالكفِّ ثغركِ عن
عين المحبِّ وإلَّا فاحرسي بَصرَهْ
سبحانَ خالق هذا الحسن! كيف بهِ
تطيبُ نفسي، وقد أورى بها شررهْ؟
وكيف يعشقُ قلبي منكِ؟ وا عجبًا!
طرفًا بباترِ ذاك السحر قد بتَرَهْ
طرْفٌ أثار حروبَ الحبِّ في كبدي
لما أقامَ على عرش الهوى حَوَرَهْ
أفدي الجمالَ الذي مذ مدَّ شوكتهُ
سطا على الحرِّ في الدنيا وقد أسرهْ
حسنٌ بقتلي قضى بين الترائب في
شرعٍ على صفحة البلُّور قد سطرهْ
حتامَ حسناءُ تَجفين المحبَّ فإن
كان الجفا ليلهُ بات الرجا قَمَرهْ
والله ما الليل إلَّا الفرعُ منكِ فلا
برحتُ أسهرُهُ حتى أرى سَحَرَهْ
مهلًا فهلَّا كفاكِ الصدُّ فانعطفي
على فؤَادي فإن الصدَّ قد فَطَرَهْ!

وقال:

وحاسدٍ أسخطتهُ فقالَ لي:
فطرتني يا حجرًا لا ينفطرْ
قلتُ: لأني الماس في ثباتهِ
وأنت يا زجاجُ مني تنكسرْ

قال وقد نظمها في الحلم:

لِمَن هذهِ الدُّنيا ومن حاز يُسرَها
وكلُّ امرئٍ يشكو شقاها وعُسرَها؟
تُعَظِّمُ في عينِ الفتى قدرَ خيرها
فيسعى ليلقاهُ فتوليهِ شرَّها
عجوزٌ حوت كلَّ المكائدِ والدُّها
وأجرت على كلِّ الخلائق سحرها
سلاطينها ناحت، وأعيانها بكت
وكلُّ الورى تشكو وتندبُ ضُرَّها
فكم أطمعت أهلَ الجهالةِ شهدَها
وكم قد سقت أهلَ الدِّرايةِ مُرَّها!
فَدَعْني مِنَ الدُّنيا خليلي لأَنَّني
فهمتُ معانيها وأدركتُ سرَّها
وأيقنتُ حقًّا أنها لدنيَّةٌ
وإن كان كلُّ الناس ترفعُ قدرَها

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤