الفصل الأول

تقديم ودراسة

(بقلم المترجمة)

١

نحن سائرون صَوبَ المستقبل، شئنا أم أبَينا. ومن منطلق الحرص على توجيه الأبصار نحو العلم … منطلق الحرص الواعي على أن يأتي هذا المستقبل أفضل من الحاضر العقيم … أن يأتي خَصيبًا مُثمرًا، كتجاوز بات ضروريًّا لكثير فاتنا، وكامتداد لفعالية حضارية متواصلة ومتنامية ذات أصول وجذور؛ بحيث تملك في صُلب ذاتها حيثيَّاتٍ لها وعوامل لتناميها … هذا الحرص الواعي بشأن المستقبل يرفع أهمية دراسة تاريخ العلوم عند العرب والميراث العلمي للحضارة الإسلامية إلى مركز الصدارة.

ولا جدال، إن هذه الأهمية قد فرضت نفسها الآن؛ بحيث يستأثر هذا المبحث بنصيب الأسد من جملة اهتماماتنا، ولكن الوعي بهذه الأهمية لا بد وأن يُوازيَه قلق حادٌّ بشأن الكيفية التي تتم بها الاستجابة. فمن بين الخِضَم الوفير من أعمال تحمل عناوين منتمية لتاريخ العلوم عند العرب، نجد «مجموع ما أُخرِجَ حقًّا من أُمَّهات التراث العلمي العربي طبقًا للمعايير العلمية الدقيقة في التحقيق والتفسير والتأريخ، وكذلك مجموع الدراسات الجادَّة التي تناولت فهم العلم العربي على أنه جزء من تاريخ العلم؛ تُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة.»١ إذ كادت تتوارى مناهج التتبُّع التاريخي الدءوبة ومناهج المقارنات التحليلية المثابرة، والتي ستميل ميلًا تلقائيًّا وموضوعيًّا إلى الحضارة الإسلامية العربية ما دامت هي التي احتلَّت قَصَب السَّبْق في العصر الوسيط وكانت مركز الإشعاع. والمحصِّلةُ طوفانٌ هادِر من تناول الأفكار بالشبه، وإغفالٌ تامٌّ لقُواها المنطقية — أي لمحتواها المعرفي وأُسُسها المنهجية وعلاقاتها النَّسَقية وأصولها التاريخية وتوقعاتها المستقبلية — بعبارة أخرى، إغفال تام لما يُمكن أن يفيد حقًّا، ويُمكِّننا من البناء عليها والإضافة إليها، إن كنا ننشد إلى هذا سبيلًا.

لقد ساد الميدان محاولاتٌ انفعالية لا تنشد إلا التهويل والمبالغة؛ بغرض التهميش على العلم الحديث. وكأن المهمة هي فقط محاولات ردِّه — عَنوةً واقتدارًا، طوعًا أو كرهًا — إلى أصولٍ من ميراث العلم العربي. فحق القولُ إن تاريخ العلوم عند العرب قد أصبح المرعى الفسيح للتهويلات الانفعالية والمبالغات اللامنطقية.

والحرص على ألَّا يصِحَّ إلا الصحيح؛ احترامًا للاعتبارات الأكاديمية، ونُشدانًا لعقلية قومية أمتن أُسُسًا وأكثر ثراءً؛ يدفع إلى طرح السؤال التالي بجرأة وصرامة: ماذا عسانا أن نفيد من التهويلات الانفعالية والمبالغات اللامنطقية حين دراسة مبحث شديد الأهمية، وهو تاريخ العلوم عند العرب؟ بعبارة أخرى هل يمكن التغاضي عن القيمة الموضوعية لهذا المبحث وضرورة أن تقتفي دراساتُه مناهج البحث الدقيق المضنية، لكن المؤدية إلى نتائج جديرة بالاعتبار، تُثري الواقع وتمهد لمستقبل أكثر إبداعًا؟ هل يمكن وضع هذا المبحث في خانة واحدة مع الأناشيد الحماسية، ليكون مجال الإسقاطات العاطفية المشبِعة للذات؟ وإجابتنا بالنفي تُصادِر على القيمة العُظمى لأبحاث علماء الحضارة الإسلامية، وبالتالي على مكانة تاريخ العلوم عند العرب، والحث على تلمُّسِها وتنميتها بالمناهج المثمِرة. وضرورة تنزيهِها من تهويلاتٍ وإسقاطاتٍ عاطفية لا تقدم ولا تؤخر، وتكاد تستأثر بهذا المبحث. مِلاك القول: إن أهمية تاريخ العلوم عند العرب تقتضي منا الثورة على أسلوبنا العاطفي اللامنهجي في تناوُله.

والواقع أن هذا الأسلوب قد فرض نفسه؛ بحيث بات مسألةً شديدة الخطورة، سواء الخطورة بمعنى الأهمية أو الخطورة بمعنى الأثر الوبيل، فيصعب تحديد ما إذا كان أصلَ الداء أم عرضًا له.

ذلك أننا نحيا في عصرٍ تعملَق علينا وأفلت منا بتسارُع معدَّلات التقدم العلمي والتقاني. وثمة إحساس بالنقص يؤرقنا جميعًا حتى أصبح شُغلَنا الشاغل، ولا بد من العمل على درء هذا النقص، بطبيعة الحال، الإبداع — خلق وإضافة ما لم يُضِفه آخر هو السبيل لتأكيد الذات ونُشدان الهُوِية — إلى هنا ونحن جميعًا متفقون. ولكن الخلاف يأتي من دور «تاريخ العلوم عند العرب». فالأساليب الانفعالية السائدة تستهدف إثبات أن العرب مارسوا كلَّ منهج وأنشَئوا كل علم، وأسسوا كل بحث، وعرفوا كل كشف، وألقوا أصول كل نظرية، ورَعَوا كل مفهوم وتلمَّسوا الطريق إلى كل تقانة … إلخ. وهكذا، وعلى طريقة «محلَّك سِر»، يتم درء الإحساس بالنقص وإثبات الذات المبدِعة لنستكين إلى ما قد تم وانقضى من إبداعات — حقيقية ومزعومة — وننام ملءَ الجفون على صدر الماضي الوثير. وقد لا يعنينا من أمر المستقبل إلا تدبير العُملة فيه، لجلب رغيف الخبز، ولو بالديون التي هي همٌّ بالليل وذل بالنهار، أو بما هو أنكى من الديون، كالدينونة لأنظمة أجنبية.٢

٢

أما الأسلوب المنهجي في دراسة تاريخ العلوم عند العرب، فأكثر مسئولية. بإزاء الماضي وإزاء المستقبل على السواء، إزاء الذات والموضوع، الأنا والآخرين، مُيَمِّمًا الأبصار نحو الآتي: الإبداع والإضافة إلى العلم، المساهمة في صنع مستقبله، أو على الأقل اللَّحاق بعصره، وهو في هذا أسلوبٌ يتحدد بتعامد مُعامِلين: مُعامِل ذاتي قومي خاص، ومُعامِل موضوعي إنساني عام.

من حيث المعامل الذاتي القومي المنطلق من الخصوصية الثقافية، نجد أن اللَّحاق بعصر العلم لا يتأتَّى بأن نستورد من الغرب — على طريقة النفخ في قِربة مثقوبة، أو مداواة المرض بالمسكِّنات — نستورد نظريات العلم وتقاناته المتغيرة دومًا، بل يستلزم قبلًا التشرُّب بروح العلم وطبائع منهجه الذي هو الثابتُ الديناميكي، إن جاز التعبير. أو القوة المثمرة الوَلود لكل ما يترى من إبداعات، وفلسفة العلوم هي صياغة رُوح العلم وبَلورة طبائع منهجه. معنى هذا أننا في حاجة ماسَّة إلى جرعات متزايدة من فلسفة العلوم، وهي محصلة منطقية لتاريخ العلوم عند العرب وعند سواهم، ولا تستغني البتة عنه. بعبارة أخرى، احتياجنا لعموم الروح العلمية — لفلسفة العلوم — يستلزم الدراسة المنهجية لتاريخ العلوم عند العرب كفصلٍ هام من فصول قصة العلم، ورافد غزير لنهره الدافق، وكما يرى المشتغِلون المتبصرون بهذا المبحث: «نحن إذ نسعى إلى تقدير تراثنا العلمي وإبرازه — بدون أن يحكُم مسعانا اعتبارات الهوى الجامح أو التعصب المرذول أو ردود الفعل العفوية — ندرك — بوضوح — أن هذا التراث مكوِّن أساسي من مكونات حضارتنا، وتلك مسألة يستوجبها التقاء الحضارات وتصارعها من ناحية. واتصال تيار الوعي الإنساني من ناحية أخرى.»٣
وبطبيعة الحال، المعامِل الذاتي القومي يعني أن يكتسب تاريخ العلوم عند العرب — دُونًا عن سائر فصول قصة العلم — أهميةً خاصة في الدوائر العربية المعنية بفلسفة العلم وتاريخه. فأولًا، نحن — كما يقول حسن حنفي — «أحوج في موقعنا الحضاري الحالي إلى تحليل عقليتنا الرياضية والعلمية القديمة؛ كي نتعرف على مواطن الابتكار فيهما، خاصة وأننا في هذين العِلمين في الفترة الحالية مجرد نَقَلة.»٤ ننقل أكثر مما نُفكر، ونجمع أكثر مما نُبدع. مما يُبرِّر الحكم بأننا لم نلحق بعد بعصر العلم، على الأقل لحاقًا حقيقيًّا فعَّالًا خلَّاقًا.
وثانيًا، اللَّحاق بعصر العِلم لا يتأتَّى بقفزة في الهواء شَطْر الغرب — إن أمكنت أصلًا — بل لا بد وأن نحققه — كما استهلَلنا الحديث — كفعالية موصولة مستمرة، تحمل في صُلب ذاتها عوامل بقائها وتناميها واستفادتها من المتغيِّرات، وقدرتها على تجاوزها. وهنا تتقدم الدراسة المنهجية لتاريخ العلوم عند العرب لتستهدف الوقوف على الجذور العميقة، وتحديد عناصر الروح العلمية المتوشِّجة في بِنية ثقافتنا وجلوها واستغلالها. وأيضًا تحديد القصورات، والأهم المعوِّقات والمثبِّطات التي لا بد من قَهرها. ثم استشراف الإمكانيات الكامنة التي تطرح مجالات لإبداعات مستقبلية. وعلى هذه الأُسُس يمكن أن تُقدم الدراسة المنهجية لتاريخ العلوم عند العرب كي تُساهم بدورها في «أهمية المعرفة بالتراث العلمي العربي لوضع مشكلة «التجديد والتراث» وضعها الصحيح، وللمساهمة في خلق العقلانية العلمية كقِيمة حضارية لازمة للإجابة عن السؤال حول العطاء العلمي وحول توطين العلم في الوطن العربي، وللحث على خَلق فكرٍ أصيل في الفلسفة جمُلةً، وفي فلسفة العلوم خاصة.»٥ وعلى الإجمال، يساهم تاريخ العلوم عند العرب بدوره المحوَري في تنفيذ المشروع الحضاري المَرُوم، وهي مساهمة تتناسب جدارتها وفعاليتها تناسُبًا طَرديًّا مع منهجية الدراسة لهذا المبحث.

أما من حيث المُعامِل الموضوعي الإنساني العام، فإن تاريخ العلوم عند العرب — كما هو عند سواهم — ضروري لفهم مسار العلم وصيرورة إبداعاته وكُنْهِ المحاولات المبتكَرة الرائدة التي تتحمل مهام فتح الطريق إلى فض المجهول، وهي أشق المهام، وأيضًا أهمها، يتوالى في إثرها منظومة الإبداعات المتتالية والمتجاوزة، كلٌّ لسابقتها؛ تلك هي قيمته الموضوعية أو العلمية الأكاديمية، والعامة التي تهم البشر أجمعين، والتي ينبغي حمايتها من التشويهات، كيما ينضبط التاريخ العِلمي، فتستقيم محاولات تفهُّمه.

هكذا نجد المُعامِل الذاتي القومي والمعامل الموضوعي الإنساني العام مُتعامِدَين متداخِلَين، بل مُتوشِّجَين في التناول المنهجي المتبصر. وعليه — وأيضًا آيته — نجد المُعامِل القومي يُملي علينا اهتمامًا خاصًّا بمنهجية تأريخ العلم وضرورة انضباطه. وكما اتضح هذه — في الوقت نفسه — أخطر قضايا المعامِل الموضوعي الإنساني العام، إن لم تكن صُلبَه. ذلك أننا — نحن المسلمين العرب — المؤسسون لمفهوم عالمية العلم.٦ فكما يقول أحد مؤرخي العلم الغربيين عن المسلمين الأوائل صناع التراث: «كان من الطبيعي بعد أن اطمأنُّوا إلى قوتهم العسكرية ومعتقداتهم الإيمانية أن يتجهوا لتشييد المدن الرائعة، ودراسة ثقافة الحضارات التي دانت لهم، وكان العرب المسلمون أُمة جديدة بلا معرفة أو تراث سابق. فقرءوا التراث الفكري للقُدماء بعقول متفتِّحة بلا خلفيات تعوقهم. ولذلك وقفت الثقافات الإغريقية واللاتينية والهندية والصينية جميعًا بالنسبة لهم على قدم المساواة، وكان من نتائج هذه العقلية المتعطِّشة للمعرفة عند المسلمين أنهم أصبحوا بالفعل المؤسِّسين الحقيقيين لمفهوم العالمية في المعرفة أو وحدة المعرفة الإنسانية. وهي إحدى السمات بالغة الأهمية بالنسبة للعلم.»٧ وكما لاحظ مؤرخ إنجليزي آخر للعلم، فإن العرب في هذا التفتح الواعد لم يرتدُّوا عن إيمانهم بالله (في النص Allah) أو تهاونوا في أخذ الدين مأخذ الجد، بيد أن تعصبهم انحسر، وتنامى إحساسهم بمغزى التناسُب، فشرعوا في تفهُّم واستيعاب فضائل النزعة الإنسانية.٨ ومن هنا انطلقت مرحلة هامة، من مراحل الحضارة ومن مراحل العلم على السواء، تميَّز العلمُ فيها عن العلم الغربي الحديث في أن هذا الأخير انفصل انفصالًا بائنًا عن القيم والأخلاق. أما العلم العربي في الحضارة الإسلامية فقد تأتَّى في إطار توجُّههم الأخلاقي المثالي العام، إن لم يكن محضَ ترجمة له.

٣

وهنا لا بد من التوقف للإشارة إلى أننا إذا هدفنا إلى حماية القيمة الموضوعية لتاريخ العلوم من جنوحات المشاعر الإسلامية والعربية الناهضة، فإن العكس أيضًا صحيح؛ لا بد من العمل على حمايتها من جنوحات نزعات الاستعلاء الغربي المريضة، التي تريد وصف قصة العلم من ألفها إلى يائها وكأنها قصة غربية أولًا وأخيرًا، بدأت أصوله النظرية مع حضارة الإغريق، وواصل مسيره في قلب منظومة تاريخ الفكر الغربي حتى بلغ ما بلغه العلم الغربي الآن! وإن كان ثمة ممارسات أو إسهامات علمية لحضارات أخرى فإنها خارج تاريخ العلم، أو إن أُدرِجَت في سياقه لم يتم لها ذلك إلا بوصفها مساهمات للعلوم الأوروبية أساسًا. ولا تُعْتَبَر هذه المساهمات إلا مجرد تكميلات فنية لهذه العلوم الأوروبية، ولا تغير بحال من الأحوال تشكيلها الفكري العام أو الروح التي تسيرها. وتُشكل الصورة المرسومة للعلم العربي مثلًا بليغًا على هذا النهج؛ فما العلم العربي، وَفقًا لهذه الصورة، إلا متحف للتراث اليوناني، نُقِلَ كما هو — أو بعد أن أُضِيفَت إليه بعض التجديدات الفنية — إلى ورثته الشرعيين، أي الأوروبيين.٩

ومع سيادة هذا التشويه الأيديولوجي — بفعل الاحتلال والاستعمار بشتى صوره وأساليبه — شاعت وذاعت خرافة تقول «العلم ظاهرة غربية»! في حين أن العلم بالضرورة بمعنى التعريف — كمفارق للدين والقيم والأيديولوجيا والأعراف والتقاليد — لا بد وأن يكون ظاهرة عالمية، فعالمية المعرفة أو وحدة المعرفة الإنسانية خاصة من خصائص العلم، كما أشرنا. وعلى هذا يمكن القول — بلا تجنٍّ — إنه إذا كان الدين المنزَّل في الشرق ظاهرة مستوردة بالنسبة للحضارة الغربية، فإن العقل العلمي ليس هكذا، بل ملكًا للعقل الإنساني من حيث هو عقل، ومع ذلك نجد نزعات الاستعلاء الغربي تُشَوِّه غالبية جهود ونظريات التأريخ العلمي، والتأريخ الحضاري إجمالًا، بل وأُمَّهات هذه النظريات؛ كتطور الروح المطلق الهيجلي مثلًا. وهو تشويه يجعلها قاصرة عن استيعاب وعن جدارة، كان يمكن أن تتمتع بهما لولاه.

لقد سَرَت خرافة «العلم ظاهرة غربية» في بنية التفكير العلمي سريان المرض الخبيث في خلايا الجسد، لدرجة أنْ رَفَعْنا نحن لواءها! فنجد بعضًا من أخلص محاولات حل مشكلة الأصالة والمعاصرة، من قِبَل نفرٍ من أعلى الأساتذة قدرًا وأرفع المفكرين شأوًا، تُصادر على أن العقل العلمي «الغربي» هو المعاصرة، والوجدان الشرقي بقِيَمه ودينه وأعرافه وفنونه … وهو الأصالة، وعلينا الجمع بينهما.١٠ وكأن المشكلة هي كيفية استيراد وتدجين العقل العلمي الذي هو غريب علينا أصلًا وفروعًا أو ليس «ظاهرة غربية»!

ومع هذا الوضع الخطير، تبدو المبالغات اللامنطقية والتهويلات غير المقنعة أكثر خطورة، وتغدو الحاجة مُلِحَّة إلى مناهج دقيقة مُتأنِّية مثابرة قادرة على النفاذ إلى صلب بنية العلم، ومن ثم تاريخه، لاستكشاف العلاقة العضوية — ولنضع خطًّا تحت العضوية — بين الإسهام العربي وبين تاريخ العلم. وحين تُثرى دراسة تاريخ العلم بمناهج البحث الدقيقة سوف تنضبط منظومة المسار العلمي انضباطًا تسقط تحت جحافله الشعارات الأيديولوجية والسياسية الجوفاء — مثل الحضارة الحديثة إبداع عربي خالص، أو العلم ظاهرة غربية — التي هي إما نافلة أو مدمِّرة.

وإذ نتساءل مع رشدي راشد: «عما إذا لم يكن قد حان الأوان كي يتمسك مؤرخ العلوم بالموضوعية التي تقتضيها مهنته، وكي يكف عن استيراد مختلَس ﻟ «أيديولوجيات» بغير ضابط ولا رادع عن ترويجها بدون شعور، وكي يتجنب كل المحاولات التي تُبرِز أوجه الشَّبه على حساب أوجه التبايُن، وكي يتجنب اللجوء إلى المعجزات في تحرير التاريخ — كالمعجزة اليونانية عند السواد الأعظم، أو كالمعجزة العربية عند سارتون حديثًا — أو باختصار، ألم يحن الأوان لكتابة التاريخ دون اللجوء إلى البديهيات الكاذبة التي تدعو إلى اصطناعها دواعٍ قوميةٌ تكاد لا تخفى.»١١ … إذ نطرح هذا التساؤل، نهدف إلى إزاحة خرافة عبقرية المعجزة العربية وخرافة عبقرية المعجزة الغربية على السواء. فالمعجزة عنصر إلهي ديني أولًا وأخيرًا، ولا شأن للبشر به ما دامت هي ما يَعجز عنه البشر. فلا بد وأن ننأى عن محاولات تفهُّم أي واقع إنساني، سواء الواقع العلمي أو سواه؛ إذا رُمنا لهذه المحاولات انضباطًا.

من المُجدي أن تعمل كل الأطراف على أن يستقيم الطريق أمام التفهُّم المنهجي لمسار العلم وكيفية نمائه، فيستطيع تاريخ العلوم أن يقوم بدوره المنشود في جلو وتفهُّم وتأصيل مسيرة التقدم العلمي الإنساني.

وتكتسب الدراسة المنهجية لتاريخ العلوم عند العرب أهمية خاصة في القيام بهذا الدور؛ لأنها تشغل أطول المراحل نسبيًّا. فإذا كانت تمتد تاريخيًّا من القرن الثامن الميلادي إلى القرن الثالث عشر أو الثاني عشر، فإنها في الواقع تملأ كل الفراغ الحضاري الممتد منذ انتهاء عصر العلم السكندري في مصر — في العصر البطلمي في القرن الأول الميلادي، حتى بزوغ الجمهوريات الإيطالية في عصر النهضة.

٤

ومن الملائم تمامًا أن تقترن الدعوة إلى منهجية دراسة تاريخ العلوم عند العرب بترجمة النص المطروح كمثال. فهو أنموذج منهاجًا وتطبيقًا للتناول العلمي المنشود، القادر على النفاذ إلى بنية الموضوع لاستكشاف علاقاته العضوية بمسار التاريخ العلمي … وذلك فضلًا عن جدارة الموضوع ذاته، وهي التي استوقفتنا فعلًا.

فالموضوع — أولًا — يتخذ مادته من الرياضيات: العلوم الدقيقة المنضبطة التي تتمتع، دونًا عن سائر فروع العلم، بثبات منطقي نسبي، فقدم لنا — ثانيًا — واحدًا من علمائها المبرزين لكن شبه المجهولين، وهو السِّجزي، قدمه — ثالثًا — في تعامل العرب الحي الخلَّاق مع التراث الرياضي السابق عليهم — رابعًا — في إطار مشكلة اللانهائية شديدة الصعوبة والخطورة، والتي ظلت «دائمًا على عتبة تطور الرياضيات كأنها التنين الخرافي الذي يحرس مداخل الجنة.»١٢ وذلك — خامسًا — لبحث مشكلة العلاقة بين التصور والبرهنة التي انشغل بها الرياضيون العرب. وهذا يعني — سادسًا — أن التراث العربي لا يقتصر على الرياضيات، بل يتعدَّاها إلى اقتحام ميدان الفلسفة الرياضية ذاتها، وهذا أهم ما يكشف عنه النص المترجَم، إنه يُميط اللثام عن أن الرياضيات العربية ليست فصلًا هامًّا ومثيرًا في قصة العلم الرياضي فحسب، بل وأيضًا في قصة فلسفته.

وسبيلنا الآن إلى مناقشة هذه القضايا الست.

٥

فأولًا: المُعامِلان الذاتي والموضوعي لمنهجية تاريخ العلوم العربية يُفضِيان معًا إلى ضرورة أن نُولي اهتمامًا خاصًّا للرياضيات؛ حيث يَتبَوْأَر تعامدُهما، بل وتقاطعهما وتلاقي مراميهما. من حيث المُعامِل الذاتي، نجد الرياضيات — التي هي أعلى مدارج العقل العلمي وأرقى أشكال التفكير المنطقي المنظَّم والمدخل الحق للعقل العلمي — قادرة تمامًا على تقويض خرافة: العلم غربي، وبالتالي العقلانية غربية، الشرق الديني الفنان حصيلته فقط في الغيبيات والفنون والشعر …

وآية ذلك المُعامِل الموضوعي، المتمثل في الدور الكبير الذي لعبه التراث الإسلامي في تاريخ الرياضيات. وعلى مفترق الطرق بين الحساب والجبر وبين الجبر والهندسة.

بصفة عامة، انقسمت الرياضيات الإسلامية إلى أربعة علوم أساسية: الحساب والهندسة والفلك (الهيئة) والموسيقى، أو الأرثماطيقا والجومطريا والأسطرنوميا والتآليف تتفرع فروعًا عدة، ويعد الجبر امتدادًا للحساب.

فقد اهتم الإسلاميون بالرياضيات أكثر من اهتمامهم بسواها من مباحث العلوم العقلية. فانشغلوا دائمًا بموقعها في النَّسَق المعرفي وعلاقاتها بالبنية الثقافية. وَضَعها الكِنْدي (١٨٤–٢٥٠ﻫ) — أول الفلاسفة الإسلاميين — كمدخل للعلوم، فتسبقها جميعًا، حتى المنطق ذاته يأتي بعد الرياضيات، وجَعَلها جسرًا للفلسفة، وللكندي رسالة في أنه «لا تُنال الفلسفة إلا بالرياضيات». وله من الكتب والرسائل: أحد عشر في الحساب، وثلاثة وعشرون في الهندسة، فضلًا عن تسعة عشر في النجوم.١٣ وإذا كان ابن سِينا يضع المنطِق في المدخل ثم الطبيعيات وبعدها تأتي الرياضيات وأخيرًا الإلهيات. فذاك يعكس مسار العقل أو تدرُّج خُطاه. فقد اهتم بالرياضيات، ربما أكثر من الكِندي، فجاءت إنجازاته أعلى مقامًا، وهو يصنف علومها إلى علوم الرياضة الرئيسية، وهي: العدد، والهندسة، والهيئة أي الفلك، والموسيقى. ويتفرع عنها علوم الرياضة الفرعية؛ فعن العدد يتفرع الجمع والتفريق والحساب الهندي وعلم الجبر والمقابَلة، وعن الهندسة يتفرع علم المساحة وعلم الحِيَل المتحركة وعلم جر الأثقال وعلم الأوزان والموازين وعلم الآلات الجزئية وعلم المناظر والمرايا وعلم نقل المياه. أما علم الهيئة فيتفرع عنه عمل الأزياج والتقاويم. ومن فروع علم الموسيقى اتخاذ الآلات الغريبة، فله «رسالة الآلة الرصدية» وضَعَها عن آلة صنعها في أصبهان، وفي تحقيق كتاب «الشفاء»، موسوعة ابن سينا الكبرى، نجد تحقيق مؤلفاته الرياضية.١٤
وكان الفارابي قد جعل الرياضيات تاليةً لعلوم اللغة العربية وعلوم المنطق، ويجعلها أبو حيان التوحيدي في موقع آخر، وكذا إخوان الصفا … وفي كل حال سلم التراث الإسلامي بالعلوم الرياضية بوصفها مُبرهَنات يقينية لا بد أن تحتل موقعها بدقة في بنية العقل. وحتى الإمام الغزالي، حين صب جامَّ غضبه على العقلانية، وشن حملته الساحقة الماحقة على العلوم العقلية؛ استثنى الرياضيات، وقال إن أعظم جناية على الإسلام الظن بأنه يُنكر الرياضيات، فظلت الرياضيات عنده دائمًا «لا معنى لإنكارها ولا للمخالفة فيها، فإنها ترجع إلى الحساب والهندسة.»١٥
على أية حال، أدى اهتمام الإسلاميين بالرياضيات وإعلاؤها في المباحث العقلية إلى تناميها على أيديهم تناميًا يصعب تفسيره فقط بتلك النظرة الداخلية للنسق العقلي، أو العوامل الداخلية للبِنية الفكرية وقواعد العلم ثم مسار إشكالياته. وهذا التفسير الداخلي يمكن أن يُسمَّى بالتفسير الأبستمولوجي للعلم. وعلى حد تعبير جورج كانجيم G. Canguilhem لا بد وأن يتكامل بالنظرة إلى العلم من الخارج، أي إلى العوامل الدينية والحضارية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يؤدي تفاعلها معًا إلى نشأة العلم ودفع مساره؛ فيما يُسمَّى بالتفسير السوسيولوجي للعلم. ومن هذه النظرة السوسيولوجية أو الخارجية لا بد من إرجاع الفضل إلى عوامل من خصوصيات الحضارة الإسلامية أدت إلى الاهتمام بالرياضيات وازدهار مباحثها، عوامل يأتي أولها من اهتمام العرب وأسلافهم العتيق بالتجارة والترحال، وبالتالي حساب الأنصبة والأرباح في البضائع والبيوع. وكمثال على مشاكل التجارة العربية التي احتاجت في حلها إلى عقلية رياضية متطوِّرة: تناقُص قيمة الجارية كلما تقدَّمت في العُمر، وحساب ثمنها. ثم نظام المواريث الإسلامي المعقَّد، وكثير من مؤرخي العلم — مثل جوان فرنيه Juan Vernet — يرون القرآن الكريم نقطة البدء في الرياضيات العربية؛ بسبب ما احتواه من نظام للمواريث. وأيضًا تعاظُم جحافل الجيوش الجرارة، وتوزيع رواتبها وغنائمها وحساب نفقاتها. ثم الرخاء الاقتصادي والتراكم المالي الذي تلا تكوين الإمبراطورية الإسلامية الواسعة، ومشاكل حساب أنصبة الجِزية والخراج والزكاة والضرائب … هذا فضلًا عن مشاكل عمليات المساحة وتقسيم الأراضي وتشييد المدن …
وقد كان الفلك — وسيظل دائمًا — أوثق العلوم ارتباطًا بالرياضيات. وهنا نجد تحديد مواقيت الصلاة والشعائر والأعياد الدينية دفعت المسلمين إلى اهتمام مكثَّف بالفلك، خصوصًا وأنهم اعتمدوا على التقويم القَمَري بصعوباته في تحديد التواريخ سلفًا، وفي الوقت نفسه اهتموا بالتقويم الشمسي، لا سيما في الأمصار الزراعية التي دانت لهم؛ من أجل تحديد أوقات جِباية الجزية والضرائب وَفقًا لمواسم الحصاد. وكما يقول مؤرخ العلم ج. كروثر: «دفعهم اهتمامهم بالعلاقات العددية بين المعطيات الفلكية إلى تطوير علم حساب المثلثات. واستطاعوا تصنيف جداول دقيقة عن جيب الزاوية وجيب تمامها، وقاطع الزاوية وقاطع تمامها، وإيجاد العلاقة بينها. ثم استفادوا من ذلك كله في وضع حساب دقيق لمواقيت الصلاة. ونشروا بحوثًا في تصنيع واستخدام آلات فلكية لا تزال تستعملها المساجد لتعيين مواقيت الصلاة. ووضع بحَّارتُهم هذه المعارف الفلكية في خدمة الملاحة عبر المحيط الهندي.»١٦
وستظل المأثرة الكبرى للرياضيات الإسلامية هي تأسيس علم الجبر، والذي احتفظ حتى الآن باسمه العربي في اللغات الأوروبية ذاتها، منذ أن ترجم روبرت أوف شستر كتاب الجبر للخوارزمي حوالي عام ١٢٤٥م باسم Algebra فواحدة من أهم المراحل في تاريخ الرياضيات طرًّا كانت في بغداد بين عامي ٨١٣، ٨٣٣م — أي في عهد المأمون، حين وضع محمد بن موسى الخوارزمي مؤلفه الشهير «الكتاب المختصر في الجبر والمقابلة»، و«لأول مرة في التاريخ صيغت كلمة «جبر» وظهرت تحت عنوان يُدَل به على علم لم تتأكد استقلاليته بالاسم الذي خُص به فقط، بل ترسخ كذلك مع تصور لمفردات تقنية جديدة معدة للدلالة على الأشياء والعمليات.»١٧ وبطبيعة الحال، تباشير الجبر كائنة منذ القِدم، منذ الحضارات البابلية والهندية، والصينية القديمة، وأيضًا عند الإغريق وفي كتاب «الأصول» لإقليدس. وجميعها مجرد إرهاصات مشُوبة بقصورات جمَّة. لعل أهمها كتاب ديوفانطس السكندري «المسائل العددية» «على أساس أنه أول رياضي اعترف صراحة بالكُسور كالأعداد، وكان أيضًا أول من تناول المعادلات البسيطة من الدرجة الأولى ومعادلات الدرجة الثانية، ومعادلات من رتبة أعلى، لكن كان أسلوبه الرمزي غير فعَّال وطُرُقه غير دقيقة فلم يكن إلا مُبشِّرًا.»١٨ وأما التأسيس الناضج المهيَّأ للنماء في «الجبر والمقابلة» فيتعرض بأسلوب منظَّم لحل معادلات من الدرجة الثانية. ومعادلات أخرى تتعلق بمشاكل واجهت الحضارة الإسلامية. الجبر يتعلق بمعالجة المعادلات، بحيث نستبعد منها العدد السالب، بينما تمثل المقابلة طريقة لتبسيط المعادلات عن طريق جمع أو طرح كميات متساوية. وأطلق على الكمية المجهولة اسم «الجذر» إشارة إلى جذر النبات الذي عادة ما يكون مُختفِيًا تحت الأرض. وأطلق على مربع الجذر اسم المال، ثم العدد المفرد الذي لا يُنسَب إلى جذر ولا إلى مال …
لقد انطوى جبر الخوارزمي على جدة حقيقية في التصور وحداثةٍ وإبداع أصيل في المنهج، لا يتعلق بأي تقليد حسابي سابق عليه، لا شرقي ولا غربي، فقطع شوطًا طويلًا يفصله بمنحاه المنهجي المنظم عن ديوفانطس. ويحق له القول إن كل ما يتعلق بالجبر «لا بد أن يُخرِجك إلى أحد الأبواب الستة التي وضعتُها في كتابي هذا.»١٩ والجدير بالذكر أن الجبر شهِد قفزة تالية في القرن الحادي عشر، حين وضع عمر الخيام قواعدَ تساعد على حل ثلاث فئات من معادلات الدرجة الثالثة، بالإضافة إلى فئة من مُعادِلات الدرجة الرابعة. لكن كانت البداية الباكرة الناضجة للجبر والمقابلة إيذانًا بالانطلاقة الكبرى للرياضيات العربية. فلم يتوانَ المعاصرون للخوارزمي والتالون له عن شرح وتفسير كتابه، من أمثال أبي كامل شجاع بن أسلم، وثابت بن قُرَّة، ومنصور بن عراق الجِيلي، وأبي الوفا البوزجاني، وسنان بن الفتح الصيداني …

لقد ظهرت ترجمة «الأصول» في نفس وقت ظهور «الجبر المقابلة»، فتدافعت أفواج الرياضيين العرب منذ القرن التاسع، أمثال الماهاني والحراني والدِّينَوَري والسَّرَخْسي وبني شاكر الثلاثة والبَعْلَبَكي والحجاج وابن هلال الحِمصي والكرابيسي والدمشقي، ثم أفواج القرن العاشر، أمثال الرازي والصوفي والنيريزي والخازن والكوهي والصيداني والإصطخري الحاسب والشريف البغدادي … ليتلوهم في القرن الحادي عشر — العصر الذهبي للحضارة الإسلامية — ابن يونس والكَرخي والنسوي وابن الهيثم والبيروني وابن الليث، ونصل في القرن الثاني عشر إلى الخيَّام وابن الأفلح والبيهقي وكعب العمل الحاسب البغدادي والسَّمَوْأل … إنها جحافل أوسع كثيرًا مما نتصوَّر … ومعظمهم، ونفر من أهمهم، أسماء شبه مجهولة لنا!

٦

ويقدم النص المترجَم واحدًا من الرياضيين الإسلاميين الجديرين بالاهتمام، من حيث هو عالم رياضي وفيلسوف رياضي في آنٍ واحدٍ، ومع هذا يكاد يكون مجهولًا، حتى للمَعنِيين بالجوانب العقلية في التراث الإسلامي، إنه أبو سعيد أحمد بن محمد بن عبد الجليل السِّجزي، المتوفَّى حوالي عام ٤٤٤ﻫ/١٠٥٢م. اشتغل بالهندسة، فاشتهر بدراسته للقُطوع المخروطية، والدائرة، ومحاولات تقسيم الزوايا. وقد نشر سكوي Carl Schoy عام ١٩٣٦م في مجلة «أيزيس Isis» بحوث السجزي في تقسيم الزوايا إلى ثلاثة أقسام متساوية وفي إنشاء المُسبَّع المنتظم.٢٠

ولكن بخلاف النص المترجم ها هنا، لم تتعرض له، ولم تغُص في عالمه دراسات تاريخ العلوم عند العرب. وهذا قصور كان لا بد من تدارُكه؛ فالسجزي ترك جهودًا جديرة بالتنقيب، وتبوَّأ في عصره مكانة علمية تجعله حقيقًا بالدرس.

ولعل أبا الريحان محمد بن أحمد البيروني (٣٦٢ﻫ/٩٧٣م–٤٤٠ﻫ/١٠٤٨م) شاهدٌ ثِقةٌ على هذا، فهو في الطليعة من رياضيين إسلاميين قلة حظُوا بالشهرة والاهتمام اللائق. والبيروني، بلا جدال، جدير بهذا. جهوده العلمية الرفيعة في الرياضيات والفلك والأديان المقارنة والفكر الشرقي القديم والتاريخ والجغرافيا وسواها، جعلت عالِم الاستشراق في جامعة برلين الدكتور إدوارد ساخاو E. Sachau يقول عام ١٨٨٧م — عن حق — إن البيروني أعظم عقلية عرفتها الحضارة العربية والعصور الوسطى. وقد عاصر السجزي بدايات المرحلة التي أطلق عليها جورج سارتون اسم عصر البيروني. البيروني إذن محل ثقة للدلالة على جدارة السجزي وأهميته، خصوصًا وأنه انشغل بمسائل هندسية انشغل بها سلفه السجزي.
وفي هذا نجد البيروني يورد في البحوث التي اعتمد عليها في دراساته الرياضية: «رسالة في شكل القطاع للعلَّامة أحمد بن محمد بن عبد الجليل السجزي»،٢١ وعادة ما يورد اسمه مقرونًا بلقب العلَّامة.

تبلغ أعمال البيروني في الرياضيات نحو أربعة وعشرين كتابًا. من أهمها في الهندسة كتابه المحقَّق «استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها»، وهو يتلخص في شروح وإثباتات بطرق مختلفة لأربع نظريات، ناتجة عن خواص الخط المنحني — أي المنكسر مثل الخط أ ب ﺟ في الأشكال الآتية:

ويبحث البيروني، كما يقول: «في انقسام الخط المنحني في كل قوس بالعمود النازل عليه من منتصفها»،٢٢ ولنستعمل المصطلحات الحديثة، ونقول:
  • أولًا: إذا أُنزِلَ عمود من د على الخط أ ب مثل د ﻫ

    فإن أ ﻫ = ﻫ ب + ب ﺟ

  • وثانيًا:
  • وثالثًا: إذا رُسِمَ وتران متساويان أ د، د ﺟ داخل القوس أ د ﺟ، ثم زِيدَ على هذا القوس آخرُ هو ﺟ ب لنفس الدائرة، فإن:
  • ورابعًا: إذا كان أ ب ﺟ خطًّا منكسرًا داخل قوس من دائرة، و د منتصف هذا القوس، و:
    د ﻫ أ ب، فإن:
    أ د ﺟ - أ ب ﺟ = د ﻫ · ﻫ ب
ثم يتعرض البيروني بعد هذا لعدة مسائل رياضية وفلكية من قَبِيل بُرهان مساحة المثلث بدلالة أضلاعه، وبرهان مساحة الشكل الرباعي المرسوم داخل دائرة. ثم سرد بعض الدعاوى الفلكية مُبرهنًا عليها باستغلال النظريات الأربع المذكورة، ثم تعرَّض لتقدير أطوال أوتار الدائرة٢٣ … وفي كل هذا كان البيروني، كدأب عليةِ العلماء ذوي الحق العلمي الرفيع، يبدأ بالجهود الهامة السابقة عليه والبراهين التي وُضِعَت قبله ناسبًا الفضل لأصحابه؛ سواء عرب أو فرس أو إغريق أو هنود — لإتقانه هذه اللغات جميعًا وسواها؛ كالخوارزمية والسُّريانية — ثم يطرح البرهان الذي أضافه. ويُهمنا الآن الإشارة إلى أن البيروني في معالجة النظريتين الأُوليَين، حرص على عرض ومناقشة براهين السجزي.٢٤

وإذا كان البيروني قد رأى السجزي لا يمكن تجاوزه، فهل يمكننا نحن في محاولتنا لفهم واستيعاب التراث الإسلامي وتاريخ الرياضة أن نرى غير ذلك؟

٧

على أن النص المترجم لا يقدم السِّجزي وفلسفته الرياضية بصورة منعزلة، بل في تعامله مع إحدى قضايا نص من النصوص الهامة في تاريخ الرياضيات القديمة — خصوصًا الهندسة. إنه كتاب أبلونيوس «القطوع المخروطية» والذي ترجمه العرب باسم «المخروطات».

فما هو هذا الكتاب؟ وما موقعه في تاريخ الرياضيات القديمة عمومًا؟

ثم، ما موقعه في تاريخ الهندسة العربية خصوصًا؟

في الإجابة عن هذا نُسلِّم أولًا بالنبوغ الملحوظ للإغريق في الرياضيات. فهي، كرَبيبِهم المنطِق، علم استنباطي لا تجريبي، يناسب تمامًا مِزاج العقلية الإغريقية التي دأبت على تمجيد النظر وتحقير العمل. فإذا كانت الرياضيات في الحضارات الشرقية القديمة — لا سيما المصرية والبابلية — قطعت خطوات واسعة، فإنها لم تستطع التخلص من ارتباطها وتوشُّجها بالتطبيقات العملية. أما مع ورثتهم الإغريق، فقد استطاعت الرياضيات أن تصبح كما ينبغي لها أن تكون: علمًا نظريًّا خالصًا. وفي هذا بذل الإغريق طوال عهودهم جهودًا ضخمة في البحث عن أُسُسها والبرهنة على نظرياتها … ولكنها كانت جهودًا مُشتَّتة متناثرة. وفي النهاية، أو في القرن الثالث ق.م. وفي الإسكندرية التي كانت مركز العلم الإغريقي آنذاك — إبان العصر البطلمي — استطاع إقليدس أن يصب كل هذا في نسق مكتمل كالبنيان المرصوص، وذلك في كتابه الشهير «الأصول».

ولكن لا يمكنه البتة تجاوز جهود المعلم الأول أرسطو. أوَلم يقضِ عشرين عامًا في الأكاديمية أو متصلًا بها؟ فلا مندوحة له إذن عن أن يكون رياضيًّا. إن إلمام أرسطو الموسوعي برياضيات عصره، ودوره في دفعها إلى الأمام مسألة لها من الوضوح ومن الأهمية ما يجعلنا نندهش؛ لأنها لا تَلقى العناية اللائقة، فعلى الرغم من كثرة المعنيين بأرسطو، فإن القلة النادرة هي التي تلتفت لأرسطو الرياضي، وإلى أن كتابه «التحليلات الثانية» مقدمة مُفضية منطقيًّا لكتاب إقليدس «الأصول».

وهذه هي الواقعة التي أفاض في شرحها كتاب «النجاة» لابن سينا، الذي يُعَد أعلى نقطة لتطور المنطق العربي في المشرق الإسلامي — أي في العراق وفارس — هذا على الرغم من أن ابن سينا ليس تابعًا وفيًّا أو شديد الإعجاب بأرسطو، كابن رشد مثلًا، بل كان اتجاهه المستقل نحو أرسطو لا نظير له في العالم اللاتيني حتى عصر النهضة. وكما يقول نيقولا ريشر: «لم يكن ابن سينا مجرد جامع أو شارح تحليلي. بل عقلية أصيلة على وجه قوي، وعلى الرغم من إخلاصه لمصادره المنطقية لم يكن جهده في الشرح، بل في التنسيق.»٢٥ لذلك أجاد تنسيق المسار الهندسي من أرسطو إلى إقليدس، أو من «التحليلات الثانية» إلى «الأصول».
وسوف نلاحظ أن النص المترجم يُعرِّج كثيرًا على أرسطو، وخصوصًا على كتابه «التحليلات الثانية»، وهو الكتاب الرابع من مجموعة كتب أرسطو المنطقية الستة المعروفة باسم الأرجانون، والتي تدور جميعها حول البرهنة. و«التحليلات الثانية» يدرس البراهين والقياسات اليقينية.٢٦ فيتبين أن اليقين الذي تمتاز به الرياضيات راجع إلى أنها علم برهاني. والعلم البرهاني عند أرسطو الذي يحتاج إلى نقطة بدء، أي أُسُس ومبادئ يبدأ منها برهان قضاياه. وهذه الأسس قليلة وغير قابلة للبرهنة في العلم نفسه — أي في الرياضيات ذاتها مثلًا — وإن كانت تبرهن في علم أعلى، كالميتافيزيقا التي هي علم المبادئ الأولى للوجود، ومنها مبادئ الرياضيات ذاتها. وأرسطو في ترتيبه للعلوم يعدُّ أدقها هو أقربها إلى المبادئ الأولى. وعلى هذا جعل الرياضيات أولًا، وجعل الحساب قبل الهندسة. ثم ميز أرسطو في «التحليلات الثانية» بين الأُسُس والمبادئ المشتركة لكل العلوم، وهي قوانين الفكر الأساسية: الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع، وبين المبادئ الخاصة بكل علم على حدة. والمبادئ الخاصة بالرياضيات هي:
  • (١)

    التعريفات للحدود المستعملة.

  • (٢)

    البديهيات التي هي واضحة بذاتها وبغير حاجة لبرهان، مثل الكل أكبر من الجزء.

  • (٣)

    المُسلَّمات التي نصادر عليها كي نؤسس العلم ونقيم البرهان، وقد لا تكون واضحة، ولكنها تتضح فيما بعد.

وبهذا التحليل غير المسبوق كان أرسطو يُرسي على أساس منطقي ومنهجي مُقنَّن حجر الزاوية للتعاون الوثيق بين الرياضيات والفلسفة، والذي لن تنفصم عُراه بعد هذا أبدًا، مثلما يُرسي نسق الهندسة وأصول الرياضيات، ولكن أرسطو لم يتجاوز حد التأسيس، ولم يُقِم نسقًا رياضيًّا.٢٧

ثم جاء إقليدس، المعاصر تقريبًا لأرسطو، ليقوم بتطبيق ذلك التحليل الأرسطي في إقامة نَسَق استنباطي. لم يضف إقليدس كثيرًا للجهود السابقة عليه، ولكنه فعل ما هو أهم: الربط المنطقي بينها ربطًا بلغ حدًّا من الكمال جعله مثالًا يُحتذَى للمنهج الرياضي الاستنباطي طوال ألفين من السنين، عالج إقليدس كل الرياضيات البحتة المعروفة في عصره؛ الهندسة والحساب ونظرية الأعداد. واعتلت هندسته العرش بغير منازع، حتى ساد الظن أن الله خلق العالم بموجب هندسة إقليدس، وأنه تعالى — كما قال القديس توما الأكويني — لا يستطيع أن يخلق مثلثًا زواياه لا تساوي قائمتين. ورغم ظهور الهندسات اللاإقليدية في القرنين الماضيين، بمثلثات زواياها أقل أو أكثر من قائمتين ظل كتاب إقليدس حتى يومنا هذا الكتاب التعليمي الأول للهندسة، تُطْبَع نسخة منه لكل من يتعلم. وباستثناء الكتب المقدسة، لا يوجد في تاريخ البشر كتاب يُضاهي كتاب إقليدس في عدد النسخ المطبوعة.

أَسمى إقليدس كتابه Stoizia وترجمه العرب باسم «الأصول»، وكما يقول ابن القفطي: «وسماه الإسلاميون «الأصول»، وهو كتاب جليل القدر، عظيم النفع، أصل هذا النوع، لم يكن لليونان قبله كتاب جامع في هذا الشأن، ولا جاء بعده إلا من دار حوله وقال قوله، وما في القوم إلا من سلَّم إلى فضله وشهد بغزير نبله.»٢٨
ثم نقلت أوروبا «الأصول» باسم Elements of Euclid على يد الراهب أدلار الباثي Adelhrd of Bath الذي تعلم العربية ودرس بقُرطبة — مركز العلم في أوروبا آنذاك — فترجم حوالي عام ١١٢٠م كتاب «الأصول» من العربية إلى اللاتينية. وظلت هذه الترجمة تُدَرَّس في جميع مدارس أوروبا حتى عام ١٥٨٣م، حينما تم اكتشاف الأصل اليوناني.٢٩
وينقسم «الأصول» إلى ثلاثة عشر كتابًا. الستة الأولى عن الهندسة المستوية؛ الكتاب الأول أساسي يشمل التعريفات والمسلَّمات، ويتناول المثلثات والمتوازيات ومتوازيات الأضلاع … إلخ. ويمكن أن تُسَمَّى محتويات الكتاب الثاني «الجبر الهندسي». والكتاب الثالث عن هندسة الدائرة. والرابع يعالج الأشكال المنتظمة متعددة الأضلاع. والخامس يعالج نظرية في النِّسب المستخدمة في الكمِّيات التي تُعَد والتي لا تُعَد. والكتاب السادس يطبق النظرية على الهندسة المستوية. أما الكتب من السابع إلى العاشر، فيها الحساب ونظرية الأعداد، وهي تعالج أعدادًا من أنواع شتَّى: أولية، وأولية بالنسبة لبعضها، والمضاعف المشترك الأصغر، والأعداد التي تكوِّن المتوالية الهندسية … وهكذا. أما الكتاب العاشر فمخصص للمستقيمات غير الجذرية. والكتب من الحادي عشر إلى الثالث عشر تشمل الهندسة الفراغية.٣٠
انتصب مارد «الأصول» بوصفه هيكل الرياضة الأعظم. لكنه اقتصر على هندسة المسطَّحات والهندسة المستوية، ولم يتعرض لهندسة المجسَّمات. فحاول علماء الهندسة القُدامى إكماله. ويتقدمهم في القرن التالي مباشرة — أي الثاني ق.م. — هيبسكليس السكندري Hypsicles، ألمع الأسماء الهندسية في هذا القرن، وقد وضع في بدايته ما يُسَمَّى بالكتاب الرابع عشر، وفي عهدٍ أحدث ظهر الكتاب الخامس عشر، وكلاهما يعالج المجسَّمات المنتظمة. يحتوي كتاب هيبسكليس «الرابع عشر» على ثماني نظريات تتناول المجسَّمات المتعددة الأوجُه. وهو يعزو الفضل في وصوله إلى هذه النظريات، إلى أريستايوس الأكبر وإلى عالمنا أبلونيوس٣١ صاحب «القطوع المخروطية» الذي يُضيف ما يَنقُص «الأصول» من هندسة للمجسَّمات.
وُلِدَ أبلونيوس حوالي عام ٢٦٢ق.م. في برجا. أبدى نُبوغًا، فأُرسِل في سن مبكر للدراسة في الإسكندرية؛ حيث تعلم على يد تلاميذ إقليدس. أمضى فيها معظم حياته وترعرع إبان حكم بطليموس الثالث والرابع. لكنه زار برجامة Pergamum وهي غير موطنه برجا، إنها مدينة في آسيا الصغرى كانت حاضرةَ مملكةٍ في القرن الثالث ق.م. وكانت بها مكتبة تأسست أيام الملك أنطوكيوس العظيم وظلت مدةً تضارِع مكتبة الإسكندرية في شُهرتها، وأهدى أبلونيوس أعظم أعماله للبرجاميين، ولا أحد يعلم لماذا.
وكما يقول مؤرخ العلم القديم الثقة جورج سارتون، أبلونيوس هو العالم اليوناني الوحيد الذي يمكن مقارنته بأرشميدس. أبلونيوس يصغره بنحو خمسة وعشرين عامًا، فيمكن افتراض أنه كان على علم بكل أعماله رغم أنه لم يكن تلميذًا له، على أية حال، اتجهت عبقرية أبلونيوس اتجاهًا آخر هو نظرية «القطوع المخروطية» التي حاول أن يفهم أشكالها ومواضعها، فضلًا عن إدراك ما بينها من علاقات يمكن أن تميز كل نوع منها عن الآخر.٣٢ لقد أنجز الكثير في الهندسة، واشتهر بحل مسألة تُسمَّى «مسألة أبلونيوس» وهي: «كيف ترسم دائرة تمس ثلاث دوائر معلومة». وله عدة مؤلفات أخرى غير «القطوع المخروطية» تُرجِمَت إلى العربية، منها «كتاب النسبة المحدودة» و«كتاب القطع المحدد» و«إنشاء الآلات التي تعمل على الماء».٣٣ والجدير بالذكر أن كتاب «القطوع المخروطية» ضاعت كل أصوله ولم يبقَ للبشرية — وللنهضة الأوروبية في عصرها — إلا الترجمة العربية،٣٤ الموسومة باسم «المخروطات». واستخدم يوحنا كبلر عام ١٦٠٩م القطوع المخروطية في الميكانيكا السماوية ليُحرز خطوة تقدُّمية هائلة في علم الفلك، كما قام العالم الفلكي إدموند هالي عام ١٧٠٦م بترجمة الكتاب من العربية إلى اللاتينية، فبدأ تأثيره يتوغل في الحضارة الغربية.

وكشأن إقليدس الذي كتب أعمالًا عِدة، ولكنه ظل أولًا وأخيرًا مؤلف «الأصول». نجد أبلونيوس كتب أعمالًا عدة، لكنه ظل أولًا وأخيرًا مؤلف «القطوع المخروطية». وقد قسم هذا الكتاب إلى ثمانية أجزاء، أو مجلدات، أو كتب. وأوضح المرمى منه في مقدمة الكتاب الأول؛ حيث ذكر أن الكتب من الأول إلى الرابع مقدمة تمهيدية، أما الكتب التالية فتحتوي على نظريات لطلاب البحوث المتقدمة. الكتاب الأول يشتمل على طرق تكوين القطوع المخروطية الثلاثة والفروع الأخرى من القطع الزائد، فضلًا عن الخواص الأساسية الموجودة بها. أما الكتاب الثاني — الذي يتضمن القضية موضوع النص المترجَم — ففيه خواص أقطار القطوع ومحاورها. ويحتوي الكتاب الثالث على منطوق نظرياتٍ يستفاد بها في ربط المحلات الهندسية المجسَّمة في حدود الإمكانيات. وفي هذا الكتاب استطاع أبلونيوس أن ينشئ القطوع المخروطية بواسطة المماسَّات، كذلك استطاع أن ينشئ قطعًا مخروطيًّا بمعرفة خمس نقاط عليه. ويبين الكتاب الرابع بطرق متعددة كيف تتقاطع القطوع المخروطية مع بعضها ومع محيط الدائرة. ويعالج الخامس بالتفصيل النهايات الصغرى والعظمى، والسادس القطوع المخروطية المتشابهة. ويعالج الكتاب السابع النظريات الخاصة بتعيين النهايات. أما الكتاب الثامن والأخير فهو مفقود، ويعالج مسائل معينة متعلقة بالقطوع المخروطية.

وقد قام مينايخوموس وأريستايوس بتوليد القطوع المخروطية بقطع مستوٍ لمخروط دائري قائم، بحيث يكون المستوى عموديًّا على أحد رواسم المخروط، ويكون القطع ناقصًا أو مكافئًا أو زائدًا على حسب كون زاوية رأس المخروط حادة أو قائمة أو منفرِجة. ثم بين أبلونيوس أنه يمكن الحصول على الأنواع الثلاثة للقطوع المخروطية من نفس المخروط، ويكون بهذا قد مهد السبيل لفهمٍ أفضل لوحدة القطوع المخروطية. فتَتبع كل القطوع أُسرة واحدة مقسمة إلى مجموعات. وأصبحت تسمية مينايخوموس لكل مجموعة (قطع المخروط الحاد والقائم والمنفرج الزاوية) غير مستخدمة للقطوع المولَّدة بالطريقة الجديدة. أما الأسماء المألوفة لنا فقد قدمها أبلونيوس: الأقل مساحة «القطع الناقص»، والمساوي للمساحة كلها «القطع المكافئ»، والأزيد مساحة «القطع الزائد».٣٥
وبطبيعة الحال، الأساليب الرياضية الحديثة تقدم لدراسة القطوع المخروطية طُرقًا أعمق وأسهل من طريقة أبلونيوس. وتوضح الهندسة التحليلية وحدة القطوع المخروطية بطريقة أبسط؛ إذ تمثلها بمعادَلات من الدرجة الثانية في مجهولين. فلا يُعَد كتاب أبلونيوس مُجديًا في الوقت الحاضر. لكن دوره خطير في تطور الهندسة؛ فهو الذي أدى إلى نشأة الهندسة التحليلية أصلًا في القرن السابع عشر. ولا يعود الفضل في هذا إلى ديكارت وحده، بل يجب أن نعترف بدور فرما Fermat؛ حيث إن كتابه «المدخل إلى المحلات المستوية والمجسَّمة» Isagoge Planos Locos et Solidos يتضمن مبدأ الهندسة التحليلية مَصُوغًا في أوضح عبارة، قال عنها كانتور إنها أوضح من صياغة ديكارت، وفرما قد تأثر في هذا أولًا بأبحاث أبلونيوس البرجاوي في «القطوع المخروطية».٣٦

٨

ولكن كيف كان موقع «القطوع المخروطية» في الحضارة الإسلامية وتاريخ الرياضيات العربية؟

قبل أن نوضح كيف انساب هذا الميراث الهندسي في نهر الحضارة الإسلامية الدافق، لا بد أن نعرف أولًا كيف كان اتصالها بالرياضيات أصلًا. فلم يكن للعرب قبل الإسلام أي باع في العلوم الرياضية. الرياضة ليست كالشعر، بل هي كالفلسفة، أي نتيجة مباشرة لمعلوم مستحدَث، هو الثورة الثقافية العُظمى التي أحدثها الإسلام، ثم تعاظمت بفعل العوامل السوسيولوجية التي أشرنا إليها.

فسارت الرياضيات العربية بالمرحلتين التاريخيتين اللتين مرت بهما الإنجازات المستحدثة للعقلانية العربية، أعني مرحلة الترجمة والنقل ثم مرحلة الإسهام والإبداع.

بدأت المرحلة الأولى حين أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بترجمة «السدهانت» أي «مقالة الأفلاك» التي عرفها العرب باسم «السندهند»، وهي أكبر موسوعة هندية في الفلك والحساب، من وَضْع برهما جوبت. وتتألف من جزئين؛ أحدهما عن الأزياج، أي سير الكواكب، التي تستخرج منها جداول التقاويم، والآخر عن الوسائل الحسابية لهذه الجداول، والتي فتحت أمام العرب آفاق الحساب وحساب المثلثات. وقد حملها إلى بغداد عام ١٥٣ﻫ/٧٧٠م العالِم الهندي كنكه. فترجمها إلى العربية يعقوب بن طارق (ت٧٩٦م) وإبراهيم بن حبيب الفَزاري المُنَجِّم (ت٧٧٧م) الذي يقول عنه ابن النديم في «الفهرست» إنه أول من عمل الأسطرلاب في الإسلام. وكانت ترجمة «السدهانت» أو «السندهند» فاتحه الاتصال بالرياضيات الهندية، التي كانت بدورها عِلة مباشرة لنشأة الرياضيات العربية، تنامت فيما بعد بالاتصال المباشر بالحضارة الهندية، خصوصًا على يد اثنين من أكبر الرياضيين العرب هما الخوارزمي والبيروني، كلاهما أتقن السنسكريتية وزار الهند.

احتوت «السندهند» على إيجابيات عظمى، لكن لم تشفِ غليل العقلية العربية الناهضة المتشوِّفة آنذاك. فأمر جعفر البَرمَكي بترجمة كتاب إقليدس، ليكون أول ما تُرجِم من كُتب اليونان، وليكون أيضًا البوابة العظمى التي دخل منها العقل الإسلامي إلى عالم الهندسة. فيبدأ عصر ازدهار الرياضيات بالتفاعل مع العوامل السوسيولوجية المذكورة فيما سبق (الجزء الخامس).

وقد ترجمت «الأصول» من اليونانية إلى السريانية. ولأول مرة ترجم الحجَّاج بن يوسف بعض كتبها من السُّريانية إلى العربية في النصف الأول من القرن التاسع من أجل الخليفة هارون الرشيد، ثم راجع ترجمته من أجل الخليفة المأمون. وتُعَد ترجمات الحجاج الرائدة بمثابة الترجمة الأساسية «للأصول». وعلى مدار عهدي هارون الرشيد والمأمون وما تلاهما، عمِل على ترجمة أجزاء كتاب «الأصول» ومراجعة الترجمات وتنقيحها كوكبةٌ من ألمع المترجمين والرياضيين. منهم أشهر المترجمين إسحاق بن حنين، وراجع ترجمته ثابت بن قُرة الحرَّاني الصابئي (ت٢٢١ﻫ/٨٣٥م). وقد أتقن ثابت السُّريانية واليونانية والعبرية، وكان جيد النقل إلى العربية، حتى عدَّه جورج سارتون من أعظم المترجمين، فضلًا عن أنه من أعظم الرياضيين في عصره. كما قام سهل بن رابان الطبري بترجمة كتب — أي أجزاء — أخرى من «الأصول»، وسهل يهودي من أهل مَرو التي كانت إحدى مراكز الثقافة الإغريقية في فارس بعد غزو الإسكندر لها. وقام الحجاج بن يوسف بمراجعة ترجمات سهل. كما راجعها فيما بعد محمد بن جابر بن سِنان البتاني عام ٩٢٩م. وفي ذلك الأوان — النصف الأول من القرن العاشر — راجع قسطا بن لوقا البَعلَبكي الترجمة الأصلية التي قام بها الحجاج (عام ٩١٢م). وكما قام سعيد الدمشقي حوالي عام ٩١٠م بترجمة كتب أخرى من «الأصول». وفي عام ١٨٩٣م حقَّق مخطوطات هذه الترجمات المستشرقان بستورن وهيبرج.٣٧

كان الكِندي أول فيلسوف عربي، وأول من يهتم بإقليدس، على الإجمال لازم الرياضيون العرب طوال المائتين وخمسين عامًا التالية أعمال إقليدس. ولم يعد ثمة فيلسوف أو رياضي يمضي دون أن يصنف رسالة أو أكثر حول ناحية أو أخرى من هندسة إقليدس. فكثرت شروح «الأصول» والتعليقات عليه ومناقشاته، وأيضًا مختصراته، وأشهرها مختصر ابن سينا في «الشفاء».

فتح «الأصول» شَهِية العرب للرياضيات الإغريقية خصوصًا في عصرها الذهبي — العصر السكندري. فتوالت دفعة واحدة ترجمة العديد الجمِّ من أُمَّهات هذا التراث. ومنها كتاب أبلونيوس «القطوع المخروطية» الذي تُرجم إلى العربية — كما ذكرنا — تحت اسم «المخروطات»، وذلك في العصر الذهبي للترجمة العربية — عصر المأمون.

وهذا الكتاب — كما أوضحنا — مؤلَّف من ثمانية كتب. فتوالت على ترجمة كتبه، ومراجعة الترجمات وتنقيحها كوكبةٌ من المترجمين والرياضيين وعبر أجيال عدة. في «الفهرست» ينسب ابن النديم «كتاب المخروطات» إلى أبي جعفر محمد بن موسى بن شاكر (ت٣٥٩ﻫ/٨٧٣م) أكبر إخوته الثلاثة — بني شاكر — وأعلمهم. أما حاجي خليفة فيقول في كشف الظنون (مجلد ٢، ص٢٩٩): «وقال بنو موسى بن شاكر: الموجودُ من هذا الكتاب سبع مقالات وبعضُ الثامنة، ‌وهو ‌أربعة أشكال. وترجَم الأربع الأُوَل منه أحمد بن موسى الحِمْصِيُّ، والثلاثَ الأواخِر ثابتُ بن قُرَّة الحَرَّاني، كذا في «نوادر الأخبار». أصلحه الحَسَنُ وأحمد ابنا موسى بن شاكر»٣٨ … وهكذا.
وأيضًا، كشأن «الأصول»، قلَّ أن يمر عالِم رياضي عربي بغير أن يُصنف رسالة في المخروطات التي كانت الإضافة الحقَّة لهندسة إقليدس المستوية. وضع نصير الدين الطوسي «المخروطات»، ووضع حفيد ثابت، وهو إبراهيم بن سنان بن ثابت بن قرة، في القرن الرابع الهجري من تأليفه «كتاب في قطع المخروط المكافئ» و«رسالة في رسم القطوع الثلاثة» … إلخ. ويتقدم ابن الهيثم بكتاب يقول عنه: «جمعت فيه الأصول الهندسية والعددية من كتاب إقليدس وأبلونيوس. ونوعت فيه الأصول وقسَّمتها وبرهنت عليها ببراهين نظمتها من الأمور التعليمية والمنطقية.»٣٩ هكذا انسابت «مخروطات» أبلونيوس في أمواه الحضارة الإسلامية الواعدة بالخصب والنماء.

٩

في خضم هذا الزخم الهندسي البالغ، وفي قلب العصر الذهبي للحضارة الإسلامية والعقل العربي — القرن الرابع الهجري — يتوقف السجزي عند قضية من قضايا أحد أجزاء كتاب «المخروطات». إنها القضية الرابعة عشرة من الكتاب الثاني، التي تنص على أن الخطوط المقاربة والقطع الزائد يقتربان من بعضهما أبدًا، ودون أن يلتقيا. وهذا الاقتراب الدائم بغير لقاء، بغير نهاية، يعني، بطبيعة الحال، الاقتراب بمقادير لا متناهية الصغر. القضية إذن تقف على حدودٍ مراوِغة وذات خطورة، وهي حدود اللانهاية. «ومفهوم اللانهاية، ولو أنه غير مفروض علينا سواء بالمنطق أو بالخبرة، فإنه يُعتَبَر ضرورة رياضية»،٤٠ وطويلًا ما حيَّر الفلاسفة والرياضيين منذ القِدَم، وبغير أن يجرءوا على التعرض له بما يكفي.
ولعل زينون الإيلي Zeno of Elea المولود حوالي عام ٤٩٠ق.م. هو أول فيلسوف يستخدم مفهوم اللامتناهي — بل واللامتناهي في الصغر — ويوظفه لكي يقيم الحجة على استحالة الحركة، كما أكد أستاذه بارمنيدس ومدرسته الإيلية. وقد فعل زينون هذا في حُجة السهم الشهيرة؛ فالسهم يقطع نصف المسافة، ثم نصف النصف الباقي — أي الربع — ثم نصف الربع الباقي — أي الثمن — ثم نصف الثمن — أي ١ / ١٦، ثم ١ / ٣٢ — وهكذا إلى ما لا نهاية … وبالتالي لا يمكن للسهم أن يقطع ما لا ينتهي من الانقسامات.
وحُجج زينون لا تكشف عن مغالطات منطقية تستوقف الرياضيين، بل تكشف عن بعض نواحي الغموض اللغوي في تركيب العبارات، وقد رأى هنري بيرجسون أن هذه التناقضات الإيلية لا تعني إنكار الحركة نفسها بقدر ما تعني إنكار التنظيم المفتعل للحركة، الذي هو من صنع أفكارنا. وأيضًا أكد تانري أن زينون لم يقصد إنكار الحركة، بل على العكس، استخدم حقيقة الحركة التي لا شك فيها لكي يثبت وجود المتناقضات الصارخة في مفاهيمنا عن الزمان والمكان والاستمرار، مما جعل برتراند رَسِل يقول إن مجادلات زينون، التي سجلها أرسطو في كتابه «الفيزيقا»، مهدت السبيل، بشكل أو بآخر، لمعظم النظريات المتعلقة بالزمان والمكان واللانهاية.٤١ على أية حال، انقض أرسطو بسطوته الرسمية والاعتبارية على حجج زينون، وانهال عليها بنقد أجبرها على التراجع إلى زاوية مهجورة. ولم يقُم اللامتناهي بعد هذا بأي دور فلسفي هام حتى جاءت العصور الوسطى وارتفعت مشكلة الله اللامتناهي في كمالاته وقدراته. هذا من الناحية الفلسفية.
أما من الناحية الرياضية، فقد كانت أعظم خدمات أرسطو ذاته للرياضيات هي بحوثه الحذِرة في الاستمرار واللانهاية. أوَلم نوضح كيف انشغل بالرياضيات وكان من مؤسسي النسَق الهندسي؟! فلا بد إذن أن ينشغل بمشكلة اللانهاية التي مثلت الآفاق الممكنة المستحيلة للرياضيين القُدامى. وعند أرسطو «اللانهاية لا توجد إلا بالقوة، ولا توجد بالفعل. آراؤه في هذه المسائل شرَحَها وأضاف إليها كلٌّ من أرشميدس وأبلونيوس، فكان أساس علم التكامل الذي اكتشفه في القرن السابع عشر فرما وجون واليس وإسحاق بارو وإسحاق نيوتن.»٤٢

ويعرض لنا النص المترجَم — من خلال السِّجزي — نموذجًا لتعاملات الرياضيين الإسلاميين الحذِرة مع اللامتناهي. على أن السجزي ينظر لقضية اللامتناهي من زاوية أعمق مما يتبدَّى ويصل بها إلى حدود أبعد، فلا تعود مجرد مشكلة رياضية فحسب، بل ولا حتى مجرد مشكلة فلسفية، بل تتجاوز هذا وذاك بحيث نلقى أنفسنا بإزاء مشكلة من مشاكل الفلسفة الرياضية وأصول التفكير الرياضي، ألا وهي مشكلة الفجوة بين الاستعداد لتصور خاصية ما، وبين القدرة على البرهنة عليها أو تأسيسها تأسيسًا محكَمًا. ويصلح اللامتناهي موضوعًا مثاليًّا لهذه المشكلة. لأن اللامتناهي غير قابل لأن تستوعبه المعرفة أو تحيط به. إنه غير قابل للتصور (الذي هو فعل منطقي)، ولا حتى قابل للتخيُّل (الذي هو فعل سيكولوجي أو نفسي مطلق)، فالخيال يعين شكل وحدود موضوعه. ومع هذا فاللامتناهي قابل للبرهنة!

١٠

إن المدى الواسع لإنجاز علماء الرياضة الإسلاميين معلوم لكلِّ مَن يتصدى لتاريخ العلوم. ولكن النص المترجَم يُلقي الضوء على عمقٍ واكب هذا الاتساع، بعبارة أخرى على فلسفة رياضية ناضجة احتواها التراث الإسلامي. فقد تناول السجزي القضية المذكورة بتوغُّلها في حدود اللانهاية من أجل هدف فلسفي تُمثله تلك المشكلة التي كانت تشغله: مشكلة التقابل بين القابلية للتصور والقابلية للبرهان، أو بين التصور والبرهان.

عمومًا، انشغل الإسلاميون بمشكلة حدود التصور وطبيعته؛ فمثلًا، اهتموا بمبحث تسطيح الأشكال الكُرَوية، ويحوي التراث أعمالًا جمَّة فيه، لعل أهمها رسالة البيروني: «في تسطيح الصور وتبطيح الكور»، وواضح أن هذا المبحث في العصر الحديث — بعد اكتشاف كروية الأرض — هو أساس علم رسم الخرائط. وكما يقول حاجي خليفة في كشف الظنون: «هو علم يُتعَرَّف منه كيفية نقل الكُرة إلى السطح مع حفظ الخطوط والدوائر المرسومة على الكرة، وكيفية نقل تلك الدوائر على الدائرة إلى الخط. وتصوُّر هذا العلم عسير جدًّا يكاد يقرب من خرق العادة، لكن عملها باليد كثيرًا ما يتولاه الناس، ولا عُسر فيه مثل عسر التصور، ودعوى عسر التصور ليست على إطلاقه.»٤٣

ولكن السِّجزي حين تناول مشكلة «التصور» تناولها من زاوية محورية في فلسفة الرياضيات، وهي التقابُل بينه وبين البرهنة من منظور العقل العارف وقدراته وقابلياته. فمن هذا المنظور قد يبدو للنظرة العَجْلى أن التصور شرط أوَّلي للبرهان، البرهان بدوره يُفضي لجلو التصور. لكن ليس الأمر هكذا، فقد استوقفت السجزي واقعة رياضية شديدة الخطورة، هي أنه لا يمكن أن يوجد تصور لكل شيء يمكن البرهنة عليه، فأصبحت المشكلة هي تحديد العلاقة بين التصور والبرهنة، أو القابلية للتصور والقابلية للبرهنة.

وفي معالجة السجزي لهذه الإشكالية طرح منهاجًا بارعًا في الفلسفة الرياضية، يتلخَّص في تصنيف القضايا تصنيفًا تسلسُليًّا في خمسة أنماط: الأولية، ثم الأقل أولية، ثم الأقل والأقل أولية … فيكون التصنيف من حيث الوضوح الذاتي ودرجة اعتماد هذا الوضوح على قدرتنا على إدراك الخصائص حدسًا، أو إدراكها من الأشكال، فتكون البديهيات هي نقطة البدء، أو النمط الأول في هذا التصنيف، لنصِل إلى النمط الخامس والأخير، وهو القضايا التي يصعب تصورها حتى بعد البرهنة عليها. وكما نتعلم من معالجة السجزي: استنباط الخاصة التي يصعب تصورها من أخرى أقل في صعوبة التصور منهاج رياضي مُثمِر يؤدي إلى تحسين التصورات الرياضية. وهذا هو منهاج السجزي في معالجة النمط الخامس، والذي تنتمي إليه القضية موضوع البحث (القضية ١٤، الكتاب الثاني، من «القطوع المخروطية») أو «المخروطات».

ولعل السجزي في كل هذا يُرهِص بواحد من أحدث اكتشافات المدرسة المنطقية التحليلية المعاصرة في فلسفة الرياضة، المتلخِّص في أن برهان النظرية لا يخلق صِدقَها خلقًا، بل فقط ينقل هذا الصدق من المقدمات إلى النتائج، أو من المسلَّمات والمصادرات إلى النظريات.

وأخيرًا، دار حديث التقديم والدراسة حول السجزي، لم يتعرض البتة لموسى بن ميمون، وسوف نُفرد له هامشًا مطوَّلًا من الهوامش التي ألحقناها بالترجمة. على أن منطوق العنوان لا ينص عليه كمقابل للسجزي إلا لكي يبين كيف أن المشكلة في مسارها التاريخي بعد السجزي قد تحولت من التقابل بين التصور والبرهان إلى التقابل بين الخيال والبرهان، وهذا ما يوضحه تناوُل ابن ميمون لها، وبإحلال الخيال محل التصور حل علم النفس محل المنطِق ففقدت المشكلة كثيرًا من قوتها المنطقية. لكن يظل إسهام السجزي في فلسفة الرياضة جديرًا بأن نتوقف إزاءه مَليًّا.

١  د. رشدي راشد، تاريخ الرياضيات العربية: بين الجبر والحساب، ترجمة د. حسين زين الدين، سلسلة تاريخ العلوم عند العرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، سنة ١٩٨٩م، ص٧.
٢  هذا الأسلوب اللامنهجي في تناول تاريخ العلوم عند العرب يدخل بصورة مباشرة تحت نطاق السلبيات الضارة المدمِّرة في أساليب التعامل مع تراثنا، التي رصدها د. حسن حنفي. وعلى وجه التحديد تحت ما أسماه «النزعة الخطابية» المرتكزة على أربعة مناهج هي: التكرار أو تحصيل الحاصل – التقريظ والدفاع – الجدل والمهاترات – الحدس قصير المدى.
(انظر د. حسن حنفي، التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم، الأنجلو المصرية، القاهرة، سنة ١٩٨٧م، ص٨٢–٨٩).
وخصوصًا منهج التقريظ والدفاع الذي يقبل موضوعه قبلًا، ثم يبرره ويدافع عنه و«الدفاع غياب لكل وجهة نظر نقدية للموروث، وتقبل لكل الماضي بلا نقد أو تمحيص. الدفاع هدم للعقل، وضياع للواقع، وسيادة للانفعال. الدفاع هو إعلان بالعاطفة لما يجب أن يقوم العقل بتحليله، واستمرار في التخلف النفسي، وتعويض ذلك بالحماس وتملُّق مشاعر الجماهير. الدفاع رفض للعقل ينشأ عن جهل أو تعصب، يتبارى المدافعون كما يتبارى المحامون. الدفاع إثبات للهُوِية وللذات عن طريق إقامة معركة في الهواء وتعويض نفسي عن هزائم القوم وتخلف الباحثين واستسهال الأمور وطلب المراكز. تستخدمه السلطة السياسية لتغطية الواقع ومآسيه، فإذا كان الحاضر قد ضاع، فعلى الأقل لنا عزاء في الماضي.»
(المرجع المذكور، ص٨٤-٨٥).
٣  د. مصطفى لبيب عبد الغني، دراسات في تاريخ العلوم عن العرب، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، سنة ١٩٨٥م، ص٧.
٤  د. حسن حنفي حسنين، قضايا معاصرة، ج١: في فكرنا العربي، دار الفكر العربي، القاهرة، سنة ١٩٧٦م، ص٤٩.
٥  د. رشدي راشد، تاريخ الرياضيات العربية، ص٧.
وهذه هي الأهداف التي من أجلها تبنَّى مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت إصدار «سلسلة تاريخ العلوم عند العرب»، ولكنها في واقع الأمر ما ينبغي استهدافه من كل دراسة منهجية وجادة أصيلة لهذا المبحث.
٦  لم نرَ ضرورةً لتوثيق مقالٍ تمهيدي حول تاريخ العلوم عند العرب بمراجع أجنبية فتمتلئ هوامشه بالحروف اللاتينية لينال شيئًا من المصداقية، وكأننا الأجهل بكل شيء حتى بأنفسنا، ولكن هذه الفكرة بالذات تمثل بُعدًا شديد الأهمية للمُعامِل الذاتي وللمُعامِل الموضوعي على السواء. ولكيلا تكون ثمة شبهة تحيز، ولكيلا نُتَّهم بالوقوع فيما حذرنا منه، حرصنا على توثيقها من مصادر أجنبية تعرضت لتاريخ العلم بجُملته (وذلك في الهامشَين التاليين ٧، ٨).
٧  J.G. Crowther, A Short History of Science, Methuen Educational LTD, London, 1969, p. 27.
٨  L.W. Hull, History And Philosophy of Science, Longman, London, 1965, p. 114.
٩  د. رشدي راشد، مفهوم العلم كظاهرة غربية وتاريخ العلم العربي، ترجمه أحمد حسنواني، ملحق ﻟ: تاريخ الرياضيات العربية، ص٣٥٢-٣٥٣.
١٠  فهذا هو الحل الذي طرحه الدكتور زكي نجيب محمود، إمام المشتغلين بهذه القضية، وقد بذل فيها جهدًا لا يُبارى، لم يتوانَ عن اقتحام أعماق التراث بعزمه ودأبه المعهود (راجع: د. زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، دار الشروق، القاهرة، ١٩٧٨م). وفي النهاية أخرج أكثر من عشرين كتابًا تسير جميعها في هذا المنحى المطروح؛ إذ ينتهي في حل مشكلة الأصالة والمعاصرة إلى الصيغة التي تجمع العقل والوجدان. فنأخذ من الحضارة الغربية آيةَ العقل فيها، أي منهج العلم ونسقه وتقاناته، ونُبقي من تراثنا على ما يصون هُوِيتَنا؛ من قوالب لغوية وفنون وأنماط سلوكية تعكس أخلاقنا وقِيَمنا وديننا. يقول زكي نجيب: «وبهذا — فيما أتصور — نُساير عصرنا بالفكر العلمي، ونميز أنفسنا باللغة وبهذه الأنماط السلوكية التي ننفرد بها» (د. زكي نجيب محمود، هذا العصر وثقافته، دار الشروق، القاهرة، ١٩٨٠م، ص٨. وقد ناقشنا هذه القضية في بحثنا: المنهج العلمي في فلسفة زكي نجيب محمود، مجلة المنتدى، العدد ٢٩٤، مايو ١٩٩١م، ص٢٧–٣٣).
ومهما يكن الأمر، فإن محاولة الدكتور زكي نجيب الرائدة جديرة حقًّا بالاهتمام، ولكن لا تخلو الساحة من حلول آمنت بأن العلم ظاهرة غربية، لحد الدعوة إلى تكريس مجامع الجهد للحاق بالعلم الغربي، فكما يقول الدكتور فؤاد زكريا: «العلم ينبغي أن يُلتَمس حيث يحرز أعظم تقدم له، ولا أظن أن أعظم تقدم وصل إليه العلم المعاصر كان في العالم الإسلامي» (د. فؤاد زكريا، العلمانية ضرورة حضارية في: قضايا فكرية، أكتوبر ١٩٨٩م، ٢٨١).
ولم يفت الدكتور توفيق الطويل مناقشة هذه الاتجاهات مُصَدِّرًا النقاش بقوله: «بين المثقفين من إخواننا العرب من يضيق بتبديد جهودنا العلمية في البحث في بطون الماضي، ابتغاء الكشف عن كنوزه الخفية، يميل إلى حصر البحث فيما يمكن للعلم في حاضره، ويمهد لازدهاره وتطويره، مع أن استقراء تاريخ الأمم …»
(راجع: الدكتور توفيق الطويل، قضايا من رحاب الفلسفة والعلم، دار النهضة العربية، القاهرة ١٩٨٦م، ص٢٤٢ وما بعدها).
١١  د. راشد، مفهوم العلم كظاهرة غربية وتاريخ العلم العربي، ص٣٧٥.
١٢  توبياز. دانزج، العدد، لغة العلم، ترجمة: د. أحمد أبو العباس، مكتبة مصر القاهرة، د.ت، ص٦٥.
١٣  انظر: قدري حافظ طوقان، تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط٢، ١٩٥٤م، ص١٤٥-١٤٦.
١٤  وهي أصول الهندسة والحساب وجوامع الموسيقى. تحقيق عبد الحميد صبرة، وعبد الحميد لطفي، وزكريا يوسف.
١٥  الإمام الغزالي، منطق تهافت الفلاسفة، المسمَّى «معيار العلم» تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، ط٢، ١٩٦٩م، المقدمة، ص٢١.
١٦  J.G. Crowther, A Short History of Science, p. 28.
١٧  د. رشدي راشد، تاريخ الرياضيات العربية، ص١٩، ٢٠. وانظر: أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي، كتاب الجبر والمقابلة، تحقيق وتقديم: د. علي مصطفى مشرفة، ود. محمد مرسي أحمد، القاهرة، ١٩٣٧م، ١٩٦٨م.
١٨  دانزج، العدد، ص٨٢.
١٩  نقلًا عن: راشد، تاريخ الرياضيات، ص٢٧.
٢٠  قدري طوقان، تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك، ص٢٤٢.
وها هنا يبدو لنا إلى أي حد كان السِّجزي مجهولًا من المعنيين بالتراث الإسلامي. فهذا الكتاب رغم غلبة الطابع الخطابي عليه واحتوائه على بعض التجاوزات والهنات، فإنه يُعَد من المحاولات الرائدة في هذا المجال ويحمل جهدًا ببليوجرافيًّا وتوثيقيًّا ضخمًا. ولكنه يورد اسم السِّجزي برسم خاطئ هو «السجستاني»! ونحسب أن هذا الخطأ ناجم عن النقل من مصادر أجنبية، حيث يصعب غالبًا ضبط النطق العربي بالحروف اللاتينية. ونرجح أن المصدر الأجنبي الذي نقل عنه طوقان هو مجلة «أيزيس Isis» التي تحمل جهود مستشرقين مَعنِيين بهذه المجالات.
٢١  أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها، تحقيق أحمد سعيد الدمرداش، مراجعة عبد الحميد لطفي، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، ١٩٦٥م، من المقدمة، ص٢٦.
٢٢  المرجع السابق، ص٣٢.
٢٣  المرجع السابق، ص٢٨٨ وما بعدها.
٢٤  انظر: المرجع السابق: في النظرية الأولى: براهين السجزي، ص٤٠-٤١، ٥٦، ٥٩؛ وفي النظرية الثانية: براهين السجزي، ص٦٣، ٦٧-٦٨.
٢٥  نيقولا ريشر، تطور المنطق العربي، ترجمة ودراسة: د. محمد مهران، دار المعارف، القاهرة، ١٩٨٥م، ص٢٤٥، ٢٤٦.
٢٦  د. أميرة حلمي مطر، الفلسفة اليونانية: تاريخها ومشكلاتها، دار المعارف، القاهرة، طبعة مزيدة بنصوص، ١٩٨٨م، ص٢٣٩.
٢٧  د. محمد ثابت الفندي، فلسفة الرياضة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ١٩٨٧م. ص٤٣ وما بعدها.
٢٨  نقلًا عن: طوقان، تراث العرب العلمي، ص٦٩.
٢٩  G.J. Crowther, A Short History of Science, p. 29.
٣٠  جورج سارتون، تاريخ العلم: العلم والحضارة الهلينسيتية في القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد، ترجمة: لفيف من الباحثين، دار المعارف، القاهرة، ط٢، سنة ١٩٧٠م، الجزء الرابع، ص٨٥.
٣١  سارتون، تاريخ العلم، الجزء الخامس، ص١٢١-١٢٢.
٣٢  سارتون، تاريخ العلم، الجزء الرابع، ص١٦٠.
٣٣  شاخت وبوزورث (مصنِّفان)، تراث الإسلام، الجزء الثاني، ترجمة: د. حسين مؤنس وإحسان صدقي العمد، عالم المعرفة، الكويت، ط٢، ١٩٨٨م، ص٢٨٥.
٣٤  انظر في تفصيلها كتابنا: العلم والاغتراب والحرية: مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨٧م، ص١٧٣–١٧٦.
٣٥  سارتون، تاريخ العلم، ﺟ٤، ص١٦٣ وما بعدها.
٣٦  د. عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، وكالة المطبوعات، الكويت، ١٩٧٧م، ص٣٠، ٣١.
٣٧  البيروني، استخراج الأوتار …، تحقيق: أحمد سعيد الدمرداش، من مقدمة بقلم المحقق، ص١٠.
٣٨  نقلًا عن: طوقان، تراث العرب العلمي …، ص١٦٤.
٣٩  نقلًا عن: د. عبد الحليم منتصر، تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدُّمه، دار المعارف، القاهرة، ط٢، ١٩٦٧م، ص١٠٩.
٤٠  دانزج، العدد: لغة العلم، ترجمة: د. أحمد أبو العباس، ص٧٧.
٤١  المرجع السابق، ص١١٩ وما بعدها.
٤٢  جورج سارتون، تاريخ العلم، الجزء الأول: العلم القديم في العصر الذهبي لليونان، ترجمة: لفيف من الباحثين، ص٢٠٤.
٤٣  نقلًا عن: طوقان، تراث العرب العلمي، ص٧٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤