الفصل الثالث

كيمياء الحب

التصوير الإشعاعي للمخ في حالة الحب
من أجلِ حبٍّ قويٍّ كالموت
مشاعرُه لا تخلو من قسوة مثل قبر
وومضاتُ نارِه كشعلة الإله
«أغنية الأغنيات ٩٠٠–٣٠٠ ق.م.»
«إنها نارُ الحب، ودفقة اللهفة النابضة، همس المحبين، والسحر الذي لا يقاوم، الذي يجعل أقدس الرجال مجنونًا.»١ هذا السحر الذي غنَّاه هوميروس في الإلياذة أشعل حروبًا وأهلك أُسَرًا حاكمة، وأسقط ممالك، وأنتج بعضًا من أرقِّ الأدب العالمي وفنونه؛ فالناس يغنُّون للحب، يقتلون للحب، يعيشون للحب ويموتون للحب، فما سببُ كلِّ هذا السحر والشعوذة؟

كما تعلم فأنا أومن أن الحب الرومانسي هو شعور إنساني عالمي تُنتجه موادُّ كيميائية خاصة وشبكات معينة بالمخ. ولكن ما هي بالتحديد؟ عزمتُ على إلقاء بعض الضوء على هذا السحر الذي يجعل القديس مجنونًا. لهذا بدأتُ مشروعًا متعددَ الأجزاء في عام ١٩٩٦م لجمع المعلومات العلمية عن كيمياء المخ وروابطه أثناء الحب الرومانسي، وأدَّعي أن العديد من المواد الكيميائية يجب أن تكون متداخلة بشكل أو بآخر. ولكنني ركزتُ أبحاثي على مادتَي الدوبامين والنوريبينفراين، ومن ثم المادة المرتبطة بهما وهي السيروتونين.

لقد اهتممتُ بطبيعة هذه المواد الكيميائية لسببين: أولهما انجذاب الحيوانات لشريك محدد يرتبط بارتفاع مواد الدوبامين و/أو النوربينفيراين بالمخ، والسبب الثاني والأهم هو أن هذه المواد الثلاث تُنتج العديد من الأحاسيس في الهيام الرومانسي الإنساني.

(١) الدوبامين اللذيذ

إن ارتفاع مستويات الدوبامين بالمخ ينتج عنها زيادة هائلة في تركيز الإنسان على شيء محدد،٢ ومن ثَم الدوافع الحاسمة والسلوك المحدد الاتجاه،٣ وهي كلُّها خصائص مركزية في الحب الرومانسي.
يركز المحبون تمامًا على المحبوب إلى درجة استبعادِ كلِّ ما حولهم، والعجيب أنهم يركزون بكل حنان على الخصائص الإيجابية لهذا الشخص الذي يهيمون به، ويتغاضون بكل سهولة عن خصائصهم السلبية،٤ حتى إنهم قد يهيمون بأحداث أو أشياء مشتركة مع هذا المحبوب، كما أنهم يعتبرونه شخصًا فريدًا وليس له مثيل. كذلك فإن مادة الدوبامين تصاحب التعليم عن طريق المحفزات الجديدة.
ومن الأشياء المركزية في الحب الرومانسي هو تفضيل المحب وتمييزه؛ فكما تتذكر في الفصل الثاني، عند ذكر فئران البراري، فإن هذا التفضيل يصاحبه ارتفاع نِسَب الدوبامين في بعض مناطق المخ.٥ وقياسًا على ذلك، فإن هذا الأمر يحدث أيضًا بشكل جزئي للإنسان، وهو الأمر الذي لا يعتبر قفزة كبيرة للمنطق، فكما نتذكر فإن كلَّ الثدييات لها قواعد عمل المخ نفسها بغض النظر عن الحجم والشكل وموضع أجزاء المخ المختلفة حتمًا.٦
النشوة سمة أخرى بارزة للمحبين وهي ترتبط أيضًا بمادة الدوبامين، حيث إن ارتفاع نسبة تركيز الدوبامين بالمخ تزيد الابتهاج، مع العديد من المشاعر التي يُقرُّها المحبون مثل زيادة الطاقة لديهم، زيادة النشاط الحركي، الأرق في النوم، فقدان الشهية، الرجفة، ارتفاع دقات القلب، التنفس السريع، وفي بعض الاحيان الهوس، والقلق والخوف.٧

كما يوضح ارتفاع الدوبامين لماذا يصبح المبتلون بالحب من الرجال والنساء في حالة اعتمادية على علاقتهم العاطفية، ولماذا يتشوقون لحالة التوحد العاطفي مع المحبوب؟

ويجب ألَّا نغفلَ أن الاعتمادية والاشتياق هما من أعراض الإدمان؛ فكل أمراض الإدمان الكبيرة تكون مصاحبة لارتفاع الدوبامين بالمخ.٨ فهل الحب الرومانسي إدمان؟ نعم، أعتقد ذلك، اعتماد سعيد حين يعود الحبيب واعتماد مؤلم ومؤسف، وأحيانًا مدمر حين يزدريه هذا الحبيب.
في الحقيقة، إن الدوبامين يزود المحب بالطاقة اللازمة كي يحشدَ قواه حين يستشعر الخطر في علاقةِ حبِّه؛ فحين تتأخر المكافأة تعمل الخلايا المنتجة للدوبامين بشكل أكبر لحشد طاقة المخ، والانتباه المركز، وقيادة المطاردة، والكفاح من أجل الحصول على المكافاة وهي في هذه الحالة الفوز بالمحب.٩ إن الدوبامين هو المثابرة.

كذلك فإن الاشتياق لممارسة الجنس مع المحب قد يكون مرتبطًا بشكل غير مباشر بارتفاع الدوبامين، حيث إن زيادته بالمخ تعمل غالبًا على رفع معدلات التيستيستيرون وهو هرمون الرغبة الجنسية لدى الإنسان.

(٢) النوريبنفراين

النوريبنفراين هي مادة مشتقة من الدوبامين، وربما يكون مساهمًا في اضطراب المحبين، ويتعدد تأثيرُه على حسب المنطقة التي ينشط بها في المخ، ومع هذا فإن زيادة مستويات هذه المادة المنشطة على وجه العموم، تُثير البهجة، والطاقة الزائدة، والأرق، وفقدان الشهية، وكلُّها من خصائص الحب الرومانسي.

إن زيادة النوريبنفراين يمكن أن يساعد في فَهْم لماذا يتذكر المحبون التفاصيل الدقيقة لكل ما فعله المحبوب، ولماذا يبقى كلُّ ما فعله هذا المحبوب في الذاكرة طويلًا، فهذه المادة تترافق مع قوة الذاكرة للمؤثرات الجديدة.١٠ كما توجد مادة ثالثة تتداخل مع مشاعر الحب التي لا تقاوم، ألا وهي مادة السيروتونين.

(٣) السيروتونين

أحدُ أعراض الحب الرومانسي اللافتة للنظر هو التفكير المستمر بالمحبوب؛ فالمحبون لا يستطيعون إيقاف أفكارهم المتلاحقة عنه، ويا لَلعجب، فهذا الجانب بمفرده قويٌّ للغاية، لدرجة أنني استعملتُه بصفته سؤالًا محوريًّا للعاطفة الرومانسية؛ فأي شخص يذكر لي أنه يحب شخصًا آخر، أسأله مباشرة «كم نسبة الساعات التي تقضيها مستيقظًا تفكر في هذا المحبوب؟»

والعديد منهم يردُّ «فوق ٩٠٪ والبعض الآخر يعترف بخجل أنهم لا يتوقفون أبدًا عن التفكير فيها أو فيه.»

إذن المحبون موسوسون (Obsessed)، والأطباء يعالجون أغلب مرضى الوسواس القهري، ويصفون لهم أنواعًا معينة من العلاجات؛ مثل عقاقير الفلوكسوتين والسيرترالين، وهي ما يُطلق عليها (مثبطات استعادة السيروتونين)، وتعمل على استعادة مستويات هذه المادة بالمخ.١١
لهذا فأنا أعزو مثابرةَ المحبين، وفقدانهم للإرادة، والتفكير المتكرر بالمحبوب إلى نقص محتمل لبعض هذه المواد (هناك أكثر من ١٤ نوعًا من السيروتونين).١٢ وهنالك بعض الدعم المنطقي لهذا الأمر؛ ففي عام ١٩٩٩م ميلاديًّا درس العلماء بإيطاليا ستين شخصًا، عشرون رجلًا وامرأة وقعوا في الحب خلال الستة أشهر السابقة، وعشرون آخرون عانوا من اضطراب الوسواس القهري، ولا يتناولون أيَّ عقار بوصفه علاجًا له، والعشرون الآخرون كانوا أشخاصًا عاديِّين ولم يخوضوا تجربة عاطفية في الفترة الأخيرة. وأظهرت النتائج أن المجموعتين الأولى (الذين وقعوا في الحب حديثًا)، والثانية (المصابون بالوسواس القهري) كان لديهم انخفاضٌ ملحوظ في مستويات السيروتونين عن العينة الحاكمة. ولكن هؤلاء العلماء درسوا مستويات السيروتونين في مكونات الدم عوضًا عن المخ، ولحين استدلال العلماء على تغير مستوياته في بعض مناطق المخ، لا نستطيع أن نجزم بدور السيروتونين في الحب الرومانسي. وعلى الرغم من هذا فإن هذه التجربة دشَّنَت وللمرة الأولى علاقة محتملة بين الحب الرومانسي وانخفاض مستويات السيروتونين بالجسم.١٣
إن كل هذه الساعات الطويلة التي تجري فيها أفكارك كالفأر في طاحون الدوس ربما يرافقها انخفاض مستويات السيروتونين في وصلات الدماغ الكبرى. ومع تطور علاقة الحب، فإن هذه الأفكار الوسواسية التي لا تقاوم تزداد، حيث إن العلاقة بين السيروتونين من ناحية ومادتي الدوبامين والنوريبنفراين من ناحية أخرى علاقة عكسية، فإن تصاعد مستويات الدوبامين والنوريبنفراين لدى المحبين يعمل على هبوط مستوى السيروتونين،١٤ وهو ما قد يفسر لماذا تزيد عند المحبين نشوة هذا الحب الرومانسي، وتتأجج لديهم أحلام اليقظة والخيال، والاستغراق بالتفكير وإمعان النظر، وكذلك يستحوذ هذا المحبوب على تفكيره تمامًا.

(٤) الفرضيات الفاعلة

بالاعتماد على خصائص هذه المواد الكيميائية الثلاثة بالمخ. الدوبامين والنوريبنفراين والسيروتونين، فلقد بدأت باعتبار أن لهم دورًا فاعلًا في عاطفة الحب الرومانسي لدى الإنسان. إن مشاعر البهجة، وقلة النوم، وفقدان الشهية للطعام، وكذلك الطاقة المنبعثة لدى المحبين، وتركيز الانتباه على المحبوب، والدوافع المنقادة، والسلوك المتوجه نحو الهدف، واعتبار المحبوب لا مثيل له، وزيادة عواطف المحب في مواجهة المحن، كل ذلك قد يكون نتيجة زيادة مستويات الدوبامين والنوريبنفراين بشكل جزئي بالمخ. وأن الاستغراق القهري بالتفكير في هذا المحبوب ربما يكون نتيجة انخفاض مستوى السيروتونين بالمخ كذلك. والآن إلى المحاذير:

تتعقد هذه النظرية بالعديد من الحقائق: إن جرعات مختلفة من هذه المواد الكيميائية تؤثر بشكل مختلف، كما أن هذه المواد تؤثر بشكل مختلف حسب اختلاف الجزء الموجودة به بالمخ، وكذلك تتفاعل كلٌّ منها بشكل مختلف مع المواد الأخرى حسب اختلاف الظروف، كما أنها تتناغم مع العديد من أجهزة الجسم الأخرى ودوائر المخ، وتؤسس ردود فعل معقدة. علاوة على كل ذلك فإن الحب الرومانسي المشبوب بالعاطفة يتبدَّى هو الآخر بأشكال متعددة بدءًا من الانتشاء النقي مع تبادل المحبة انتهاءً بشعور الخواء، واليأس وأحيانًا الهياج حين يحبط حبه.

وبدون شكٍّ تختلف هذه الكيميائيات في تركيزاتها وامتزاجاتها؛ حيث تتأثر بالمد والجزر في هذه العلاقة.

وعلى الرغم من كلِّ هذا فإن الارتباط الواضح بين خصائص الحب الرومانسي وتأثير هذه المواد الثلاث في المخ يقودني إلى هذه الفرضية: إن اندلاع نار الحب بالدماغ ينتج عن ارتفاع مستوى الدوبامين و/أو والنوريبنفراين أو كليهما، مع نقص مستوى السيروتونين. هذه المواد الكيميائية تشكِّل العمود الفقري للحب الرومانسي، والانفعالي، والوسواسي.

(٥) التصوير الإشعاعي للمخ في حالة الحب

احتجتُ بعد ذلك أن أجد مناطق المخ المنخرطة فيما قاله هوميروس «دفقات اللهفة النابضة» فأنا أعلم أن الدوبامين والنوريبنفراين والسيروتونين أكثر وجودًا في بعض مناطق المخ عن الأخرى. فإذا استطعت أن أبرهنَ أيَّ مناطق المخ تُصبح نشطة حين يشعر الفردُ بالانفجار الرومانسي، فسوف يؤكد هذا أيَّ المواد الكيميائية الأولية منخرطة في ذلك. إنه وقت الشروع في تنظيم بحث لتصوير أمخاخ المفتونين بالحب من الرجال والنساء.

مع عالم الأعصاب جريج سيمبسون، ثم في كلية طب ألبرت أينشتاين طورت منهجًا للعمل؛ فسوف نجمع المعلومات عن نشاط المخ في عينة مرضى الحب وهم يمارسون مهمتَين: النظر إلى صورة محبوبته/محبوبها، ثم النظر في صورة محايدة لأحد المعارف الذين لا يحمل لهم مشاعر إيجابية أو سلبية. وفوق كلِّ ذلك سوف نستعمل التصوير بطريقة الرنين المغناطيسي الوظيفي لأخذ صور للمخ، ومن الجدير بالذكر أن هذا الجهاز يقيس تدفقَ الدم في المخ وهو يعتمد على مبدأ بسيط: أن خلايا المخ النشطة تمتصُّ كمية دماء أكثر من أجزاء المخ الساكنة، وذلك من أجل جمع أكبر قدر من الأكسجين اللازم لوظيفتها. وباستعمال هذا الجهاز فأنا لست بحاجة لحقن أفراد العينة بأيِّ صبغات ملونة أو اقتحام أجسادهم بأيِّ وسيلة أخرى، وبدون ألم، هكذا يبدو لي، ثم نحلل معلوماتنا نستطيع أن نقارن نشاط المخ الذي يحدث حين ينظر الشخص لصورة محبوبته بنشاطه حين ينظر لصورة محايدة.

بداية موفقة على حسب ما نعتقد؛ ففي عام ١٩٩٦م قمنا بفحص أربعة أفراد، شابَّين وشابَّتَين في مقتبل العمر جميعهم في حالة حب جنوني. والنتائج كانت مشجعة، ولكن زملائي في العمل انسحبوا من التجربة نتيجة التزامات وظيفية أخرى، ولحسن الحظ كنت قد دعوت لوسي براون، عالمة الأعصاب البارعة بكلية ألبرت أينشتاين كي تؤوِّلَ نتائج المسح بالأشعة وهي المهمة المعقدة تكنولوجيًّا، والملتهمة للوقت، والمتطلبة للمهارات العقلية الخاصة.

مع مرور الوقت انضم إلينا «أرت أرون» الباحث النفسي الموهوب بجامعة نيويورك في ستوني بروك، وكذلك الموهوبة «ديب ماشيك» طالبة الدراسات العليا في قسم علم النفس بصني ستوني بروك.

كان لي اهتمامٌ واحد بشأن تصميم التجربة، فكما تتذكر، فإن المحبين لديهم أوقات صعبة حينما لا يفكرون في أحبائهم، فكنت خائفة من مشاعرهم المحبة الفياضة، والتي تتولد من نظرهم لصورة المحبوب أن تلوث أفكارهم السلبية حينما ينظرون للصورة المحايدة، وحينما ناقشتُ هذا الأمر مع ديب وأرت، اقترحَا «مهمة تشتيت» وهي طريقة نفسية معروفة تُستعمل كي تغسلَ المخ من أيِّ مشاعر. وقد اتفقنا على واحدة من هذه الطرق؛ فما بين النظر لصورة المحبوب والصورة المحايدة لأحد المعارف المملِّين، سوف يخضع المفحوص لرقم طويل (مثل ٨٤٢١) على شاشة، ويطلب منه أن يخصمَ منه تسلسل سبعة، والمغزى أن ينظف رأسه من المشاعر الفياضة ما بين التعرض لصورة المحبوب والأخرى لأحد المحايدين. جرِّبْها وسوف تشعر بأنك غير سعيد بالمرة. اختر رقمًا أكبر وركِّز حقًّا بطرح سبعة من كل رقم (بطرح ٧ من ٨٤٢١ ستكون النتيجة ٨٤١٤ ثم ٨٤٠٧، ٨٤٠٠ … إلخ) وهي طريقة تصلح لتفريغ الشحنات العاطفية بسرعة من خلال الكفاح من أجل العد الصحيح.

قبل أن نبدأ بفحص أمخاخ أخرى لرجال ونساء أصيبوا بالحب، كنا نريد رغم ذلك التأكد من شيء واحد: أن صورة المحبوب سوف تُثير حقًّا مشاعرَ الحب الرومانسية أكثر من أي شيء آخر (أو ظاهرة أخرى) للمحبوب باعتبارها رائحة معينة، أغنية أو خطابًا عاطفيًّا أو ذكرى معينة.

يعرف الشعراء والفنانون دائمًا قوة الرؤية البصرية بكل تأكيد. وكما كتب وليم باتلر ياتيس «تعرف النبيذ في الفم، ويعرف الحب في العيون»١٥ والعديد من أخصائيي النفس يدَّعون أن الرؤية البصرية تُؤجج مشاعر الحب الرومانسية. ونحن مقتنعون بذلك أيضًا. لكن قبل البدء في استحضار مشاعر الحب الرومانسية عبر الصور أراد فريق البحث (أرت وديب وأنا معهم) أن يكون إيجابيًّا بأن الحب يأتي من النظر أكثر من أيِّ إحساس آخر، ولكي نجد الدليل فقد اندمجنا في تجربة بارعة بجهاز أسميناه «جهاز قياس الحب».

(٦) جهاز قياس الحب

قام «أرت» و«ديب» زملاء المشروع بطلب العون من الرجال والنساء الذين وقعوا في الحب، وذلك في نشرة أخبار قسم علم النفس في صني ستون بروك، بدأ الإعلان بعناوين عريضة:

«هل وقعت حديثًا في الحب بجنون؟» وكانت كلمتا «بجنون» و«حديثًا» هما مفتاحَا الإعلان، وناشدنا المحبين الغارقين في الحب إلى درجة المعاناة في النوم وتناول الطعام. وقد تواصل فعلًا مع «ديب» العديدُ من المتطوعين، ثم وصلوا فعلًا لقسم علم النفس بستوني بروك، وقامت «ديب» باختيار هؤلاء التي ارتأت أنهم في حالة حب حقيقي، وأعطتهم عدة استبيانات صُمِّمَت للاستبصار بشخصياتهم، ومشاعرهم عمَّن يحبونه، ومدة وقوة علاقة حبِّهم. ثم طلبَت من كلٍّ منهم العودة للمعمل بعد أسبوع حاملين معهم العناصر التي تجعلهم يشعرون بالحب الرومانسي تجاه هذا الشخص الذي يهيمون به. وعادوا بعد أسبوع ومعهم صور، وخطابات، وبريد إلكتروني، كروت أعياد الميلاد، شرائط موسيقى، عطور، ومذكرات كُتبَت على أوراق، وبعض الملاحظات عن المناسبات المتوقعة في المستقبل، وحملوا هذه الأشياء كباقات الزهور. وخضع كلُّ مفحوص للاستعدادات الخاصة بالتجربة، وذكرَت لكلٍّ منهم أن هذه الأسلاك الملصقة بالدماغ سوف تقيس موجات المخ الكهرومغناطيسية أثناء التجربة.

قامت «ديب» بلصق ثلاثة أقطاب كهربائية بمناطق مختلفة بفروة الرأس، وتوصيل ذلك برسام المخ الكهربائي، وأفهمتهم بأن هذه الأسلاك سوف تسجل موجات المخ أثناء التجربة. وفي الحقيقة لم يكن هذا صحيحًا؛ فالجهاز لم يعمل بعد، ولكننا آملنا أن هذا الخداع سوف يحفِّز كلَّ متطوع على الأمانة. جلس كلُّ مشارك أمام شاشة حاسب آلي (كمبيوتر) يعرض أيقونة تُشبه مقياس حرارة قائمًا ويعطي الشخصَ نفسَه عدادًا دائريًّا يدويًّا مدرجًا من صفر إلى ثلاثين درجة. وبتدوير هذا القرص الزنبركي فإن المفحوص يرفع «الزئبق» في مقياس الحرارة بالكمبيوتر، وعندما يترك هذا القرص يعود الزئبق إلى الصفر مرة أخرى. وقد أسمينا استجابات هذا الجهاز المبني على الكمبيوتر، على سبيل المزاح مقياس حرارة الحب أو ترمومتر الحب.

بدأت التجربة، وفي البداية سيرى المفحوص صورةَ محبوبته/محبوبها، ثم صورة محايدة لشخص آخر من الجنس نفسه أو صورة من الطبيعة. ثانيًا يقرأ كل مفحوص خطابًا عاطفيًّا من محبوبته ثم يقرأ بعدها قطعة من كتاب إحصائي. ثالثًا يشمُّ كلٌّ منهم عطرًا يذكِّره بالمحبوب ثم بعدها يشمُّ ماء ممزوجًا بقليل من الكحول. رابعًا يطلب من المفحوص أن يستعيدَ التفكير في لحظات مدهشة مع محبوبة ثم يطلب منه أن يستعيدَ ذكريات أحداث أخرى رتيبة كآخر مرة غسل فيها شعرَه. خامسًا، سماعُ كلٍّ منهم أغنية صاحبته مع حبيب القلب، ثم أغنية غنَّاها في عرض للأطفال بالتليفزيون الأمريكي (شارع سمسم). أخيرًا، يطلب من كلِّ مفحوص أن يتخيل حدثًا مستقبليًّا مبهجًا مع حبيبته، ثم حدثًا رتيبًا بعدها كغسيل الأسنان مثلًا. وكل مهمة محددة يعقبها «مهمة تشتيت» أي طرح ٧ أعداد من رقم كبير كما ذكرنا من قبل.

إن مهمة المفحوص هي الاستجابة لكل طلب بالضغط على قرص ترمومتر الحب لكي يعكسَ قوة عواطفه المحبة. شارك بالتجرية إحدى عشرة سيدة وثلاثة رجال، كان متوسطُ أعمارهم تسعة عشر عامًا ونصف العام، وأظهرَت النتائج أن مشاعر الحب الرومانسي القوية يمكنها أن تتأجج بشكلٍ متساوٍ تقريبًا بالصور والأغاني والذكريات مع المحبوب.١٦

(٧) الصور تحفِّز الحب

ليس من المستغرب أن تنتزع الصور منَّا مشاعرَ الحب الرومانسية، فبعدَ كلِّ شيء يحتفظ معظمُنا بصورةٍ لحبِّنا الحقيقي في درج مكتبه. علاوة على ذلك، فكما تتذكَّر في فصل سابق فإن ردَّ الفعل الحشوي للمتخيل البصري له تفسيرٌ أنثروبيولوجي. فالجنس البشري تطور من شجرة الأسلاف التي تطلَّبَت حياته رؤية متميزة كي يستطيع العيش على الأرض، فهؤلاء الذين يملكون رؤية سيئة سيفشلون في العثور على الفاكهة والزهور المعلَّقة، وسيفقدون طريقَ العودة عبر القفز من فرع شجرة إلى آخر ليسقطوا وتنقصف أعناقهم. لهذا فإن كلَّ الرئيسيات العليا لها حجمٌ كبير بالمخ مكرَّس لإدراك ودمج المثير البصري. وفي الواقع، ولعقود طويلة شدَّد الاختصاصيون النفسيون على أهمية دور الرؤية البصرية في تحفيز مشاعر الانجذاب الرومانسي.١٧ وأكدت التجربة بالفعل أن صور المحبوب تستطيع أن تنتزع السعادة الرومانسية، وأننا يمكننا البدء في وضع المحبين في جهاز المسح الإشعاعي والبحث عن دوائر الغرام والنشوة الرومانسية.

(٨) التجربة

«هل وقعت توًّا في الحب بجنون؟» لقد استخدمنا هذا السطر مرة أخرى حينما قمنا بإعلان جديد في نشرة أخبار علم النفس في مبنى صني ستون برووك، ولكن في هذه المرة طلبنا من الرجال والنساء المرحِّبين بالأمر الاستلقاء في جهاز طويل، مظلم، وضيق، ومزعج بينما نحن نصور أو نمسح أمخاخهم إشعاعيًّا.

وبحثنا، مرة أخرى عن أولئك الذين وقعوا في الحب بجنون في الأسابيع الأخيرة أو خلال الشهور القليلة الماضية، حيث مشاعرهم الرومانسية طازجة، خصبة، غير مسيطر عليها ومشبوبة.

ليس صعبًا أن نجد مطلبنا هذا، فكما قال جون دون «الحب، كعادته لا يعرف المواسم، ولا المناخ، ولا الساعات أو الأيام أو الأشهر، فهو دائمًا خارق للوقت.»١٨ فربيع الحب يأتي بأي وقت، في أي مكان. يسارع الطلاب بالاتصال بمعمل «أرت» النفسي للتطوع في التجربة. وتستبعد «ديب» هؤلاء الذين لديهم أي شيء معدني في رءوسهم، مثل الشفة، اللسان، الأنف، أو مجوهرات بالوجه، أو دعامات بالأسنان، وهو ما يؤثر بالمغنطة في جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. تستبعد كذلك مَن لديهم رهبة من الأماكن المغلقة،١٩ أو هؤلاء الذين يتناولون أيَّ مضادات للاكتئاب وهو ما يؤثر في فسيولوجية المخ، كذلك تم استبعاد العسراء من الرجال والنساء؛ حيث يمكن أن يختلف تنظيمُ المخ بشكل عام، ونحن في أمسِّ الحاجة لأن نوحِّد مقاييس عينتنا لأقصى حدٍّ ممكن.

هنا قمت بمقابلة كلِّ مرشح، لمُدَد تفوق الساعتين في بعض الأحيان، وكان سؤالي الأول هو نفسه تقريبًا لكلٍّ منهم «كم بقيَ لك في حالة الحب هذه؟» والسؤال الثاني كان هو الأهم «كم نسبة ما تقضيه بالنهار والليل تفكر في حبيبك؟» لأن التفكير الوسواسي مكونٌ مركزي في العاطفة الرومانسية، وقد قمتُ باختبار هؤلاء المشاركين الذين يفكرون في أحبائهم معظم أوقات استيقاظهم. كذلك بحثتُ عن الرجال والنساء الذين يضحكون أكثر أو يتنهدون أكثر من الطبيعي أثناء المقابلة، وهؤلاء الذين يستدعون من ذاكرتهم دقائق التفصيلات عن أحبائهم، الذين أظهروا حنينًا حقيقيًّا — وبالضرورة اشتياق — لمحبوبهم.

إذا أظهر المفحوص المحتمل هذا الأمر أو العلامات الأخرى للعاطفة الرومانسية، دعوته/دعوتها للمشاركة، وحصلنا منه على صورتين: واحدة للمحبوب والأخرى لشخص محايد عاطفيًّا. وكان الأخير على وجه العموم أحد الذين يعرفهم سريعًا في المدرسة الثانوية أو الكلية. ثم حددنا وقتًا كي نضعَ كلًّا منهم على جهاز الأشعة المغناطيسية للمخ.

(٩) إجراءات المسح الإشعاعي للمخ

بمناقشات متعمقة عن ماذا سيحدث لهم عندما يتم فحصهم بجهاز أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي، بدأتُ أُخبر كلَّ مشارك بأنني قد خضتُ هذه التجربة بنفسي ثلاث مرات قبل ذلك، وشرحتُ لهم أنني أخشى — إلى حدٍّ ما — الأماكنَ المغلقة، ولكني كنت بحاجة إلى خوض التجربة قبل أن أدخل الآخرين فيه. ووصفتُ ماذا سيحدث داخل الجهاز دقيقة بدقيقة، وطمأنتُ كلًّا منهم أنه لا مفاجآت. ذلك لأني أحتاج ثقة هؤلاء الرجال والنساء بي، وبدون هذه الثقة سوف تنتهي التجربة بقياس مشاعر الشك أو الهلع التي ستنتج من تأثير الجهاز نفسه بدلًا عن عاطفة الحب الرومانسي.

حينما بدا أنَّ كلَّ شيء جاهز، حدَّدنا المواعيد للتصوير الإشعاعي، وكم كنت مرحة، وقلقة، وفضولية بتحديدنا ذلك الميعاد.

الإجراءات كانت بسيطة، ولكنها ليست سهلة، في البداية قمنا أنا و«ديب» بالتأكد من شعورِ كلِّ مشارك بالراحة في الجهاز، الجهاز عبارة عن أنبوب بلاستيكي كبير أسطواني الشكل، أفقي الوضع ولونه أصفر كريمي، ومفتوح من كلا الطرفين وممتدٌّ من أعلى منطقة الرأس وحتى منطقة الوسط تقريبًا. ينام المفحوص على محفة المرضى في هذا الجهاز الأنبوبي شبه المظلم ومن أعلاه ومن حوله مساحة فراغ حوالي قدم أو قدمين، حسب حجم كلٍّ منهم. وضعنا وِسادات تحت الركبتين كي نعمل على راحة الظهر، وتم تدفئتهم ببطانية، أرقدنا رءوسهم على وسادة جافة لضمان عدم الحركة أثناء التجربة، كما علَّقنا أمام أعينهم مرآة مائلة بحيث يستطيع كلُّ مفحوص أن ينظر للخارج كي يشاهدَ تلك الشاشة التي نودُّ أن نعرض عليها كلَّ صورة، وكذلك الأرقام الكبيرة التي صممت باعتبارها مهمة تشتيت (كما سبق الشرح). بعد أخذ تصوير تمهيدي كي نؤسسَ تشريحًا أساسيًّا للمخ، بدأت تجربةُ الاثنتي عشرة دقيقة. في البداية ينظر المفحوص إلى صورة المحبوب التي تظهر على الشاشة لثلاثين ثانية في حين يسجل الجهازُ تدفُّقَ الدم في مختلف مناطق المخ. بعد ذلك يشاهد المفحوص رقمًا كبيرًا، مثل ٤٦٧٣. وهذا الرقم يتغير مع كل مشاهده جديدة وكل هذه الأرقام هي عبارة عن مهمة تشتيت. لأربعين ثانية يطلب منه طرح ٧ أرقام من الرقم المذكور آنفًا وهكذا. ثم يشاهد المشارك صورة لشخص محايد لمدة ثلاثين ثانية أخرى ويتم تصويره مجددًا بجهاز الرنين.

أخيرًا يرى المشارك رقمًا كبيرًا ولكن هذه المرة لمدة عشرين ثانية فقط، ويبدأ في طرح رقم ٧ منه. هذه الدورة تتكرر ٦ مرات لتمكنَّا من جمع حوالي ١٤٤ صورة لمختلف مناطق المخ عبر هذه الحالات الشعورية الأربع لكل مشارك. بعد أن تنتهيَ التجربة، أُجْرِي مقابلةً مع كلٍّ منهم مرة أخرى، وأسألُهم عن شعورهم وعن أيِّ شيء فكَّروا به أثناء كل مراحل التجربة. وتعبيرًا عن تقديرنا لهم، أعطينا كلَّ مشارك خمسين دولارًا وصورة أشعة لمخهم. فحصنا عشرين رجلًا وامرأة كانوا في حالة حب عميق وسعداء به. ثم فحصنا عشرين آخرين من أنواع مختلفة، أشخاص هجرهم أحباؤهم منذ فترة قليلة، والذين يعانون من الصدِّ من أحبائهم، وذلك لدراسة الرفض الرومانسي أو الجانب المهلك من الحب والذي يحدث تقريبًا لكل شخص في وقت ما،٢٠ ونأمل أن نعرف مدًى كاملًا لمناطق المخ أثناء الحب الرومانسي (سوف يكون نقاشًا عن الحب من طرف واحد في الفصل السابع من الكتاب).

(١٠) مقياس عاطفة الحب

هنالك جزءٌ آخر من التجربة؛ فقبل أن يدخل في جهاز أشعة الرنين على المخ، سألنا كلًّا منهم أن يملأ عدة استبيانات، من بينها ذلك الذي أعطيناه — أنا وزملائي — لثمانمائة وتسعة وثلاثين أمريكيًّا ويابانيًّا، وتقييم عام مماثل صُمِّم بواسطة المتخصصة النفسية «إلين هاتفيلد» و «سوزان سبريكر» اسمه «مقياس عاطفة الحب».٢١

ومقياس عاطفة الحب عبارة عن خمسة عشر سؤالًا عن الحب الرومانسي معظمها متشابهٌ تمامًا مع الأسئلة الموجودة بالمقياس الذي صممته. من بين ذلك أسئلة، مثل: «سوف أشعر بالإحباط الشديد إذا تركني … (يذكر اسم حبيبته)»، و«أحيانا، أشعر بأنني لا أستطيع التحكم بأفكاري، إنها تأتي بشكل قهري عن … (يذكر اسم حبيبته)».

العينة المختارة للتجربة كانت تسأل للاستجابة لكل جملة، ودوَّنَّا ردَّ فعلهم على مقياس من تسعة، بداية من ردٍّ (غير حقيقي بالمرة) إلى (بالتأكيد حقيقي)، كنَّا ننتظر مقارنة نشاط المخ لكل مشارك بما سجَّله في هذا الاستبيان، لكي نرى هل هؤلاء الذين سجَّلوا نِسَبًا مرتفعة في هذه الاستبيانات كان لديهم أيضًا نشاط متزايد بالمخ، كنَّا نأمل بهذه الطريقة أن نُجيبَ على السؤال الذي حيَّر صانعي هذا المسح العام طويلًا: هل ما يقرِّره الشخص في استبيان يعكس بدقة ما الذي يجري بداخل مخه؟ نحن لا نعرف في هذا الوقت، ولكن قياس الحب من شأنه أن يُثبتَ بشكل ملحوظ ومقنن المخَ في حالة الحب.

(١١) في الحب بسعادة

أتذكَّر بشكل واضح كلَّ الرجال والنساء الذين فُحصوا بالرنين المغناطيسي، منهم بجورين؛ شابٌّ صغير من إحدى الدول الاسكندنافية والذي كان يدرس في نيويورك، وكان في حالة غرام مع إيزابيل، وهي سيدة من أصول برازيلية وتعمل حاليًّا في لندن. وهما يتحادثان يوميًّا عبر الهاتف كما أخبرني، ويريان بعضهما في الإجازات، ويتقابلان منذ ما يقرب من عام ويُخطِّطان كذلك للزواج.

وأنا أذكر «بجورين»؛ لأنني تعلمتُ منه شيئًا مهمًّا، كان رجلًا أشقر، كثيفَ الشعر، مستقلَّ الشخصية، ذا ابتسامة دافئة، ذا حضور ساحر، حادَّ الذكاء، ويُومض بالحسِّ الفكاهي. لقد أعجبني في الحال، لكن حين سألتُه بدايةً كيف يَصِف محبوبتَه، لاذ بالصمت ولم ينبس بشفة. لوهلة أحسستُ بأنني فقدتُ الاتصال الهاتفي معه، وأعدتُ كلامي بشكل واضح «حسنًا، بالتأكيد أنت معجبٌ بشيء ما في إيزابيل»، وأجاب بشدة … نعم.

داهنت «بجورين» كي ينطقَ بأي شيء عن محبوبته، فأفصح بخجل عن أنه يحلم بها باستمرار، يحبُّها بشغف، ويفكر فيها أكثر من ٩٥٪ من الليل والنهار، لكن «بجورين» لم يصرِّح أبدًا بالولع العاجل المميز لوسواس الحب، لهذا كنت بعد ذلك مذهولة عندما رأيتُ صور الأشعة لمخِّه. فهذا الشاب المحافظ حينما شاهد صورةَ محبوبته، تأجَّج مخُّه كعرض الألعاب النارية.

لقد هزَّني «بجورين» بعمق، محيَّاه الصارم أخفى وغطَّى على عواطفه الداخلية. لم أعتقد أنه كان يحاول خداعي، لكنه عبَّر بطريقة تعكس تركيبته البيولوجية، وطريقة تربيته، وثقافة مجتمعه؛ فتعبيراته الخارجية لا تعكس عالمه الداخلي. وهو ما جعلني أتساءل في عقلي: كيف نختار المرشحين المناسبين؟ فكرتُ في ذلك كثيرًا، وفي النهاية حصلتُ على لمحة ثاقبة للأمر: أنا ليس لديَّ خيارٌ في ذلك. عليَّ أن أسأل ببساطة مشاركين محتملين أسئلةً كثيرة بقدر الإمكان، أُنصِت بعناية لكلماتهم، أُلاحظ أيَّ أعراض جسمانية للنشوة، الطاقة، الانتباه المركز، الاستحواذية، والتفكير الوسواسي، وعليَّ أن أَصِلَ كي تكونَ مهاراتي الاجتماعية جيدة بشكلٍ كافٍ كي أنتقيَ هؤلاء البشر الواقعين فعلًا في الحب.

كانت أكثر الحالات مأساوية هي باربارا، وهي سيدة طويلة، شقراء، ذات وجه أحمر، جميلة المظهر، تتكلم بكثرة، وفي بداية العشرينيات من العمر. عرفنا أنها قد قابلت مايكل على الشاطئ بنيو جيرسي قبل حوالي خمسة أشهر من الآن. وقد كانت غارقة في الحب لدرجة أنها كانت تُعاني أثناء النوم، عقلها منطلق. شعرَت بالخجل بصحبته، وتشعر بقلبها يدقُّ حين يُحادثها هاتفيًّا. كانت تستعيدُ أوقاتهما معًا في مخيَّلتها مرارًا وتكرارًا. تحدَّثت عن شعورها برجفات كالكهرباء تسري بجسدها، وأقرَّت بأنها ستجنُّ إذا لم يُحادثها هاتفيًّا. وهي غيورة بشكل متوحش أيضًا، وعلى ما يبدو فإن لدى مايكل العديد من الصداقات مع النساء، بينما هي لا تحبِّذ حتى كلامه مع إحداهن عبر الهاتف. وحين سألتها ما إذا كانت تعتقد في وجود علاقة غرامية ثانية «على الجانب» صُعِقت من سؤالي. وكخاصية لكلِّ المحبين، فإن باربارا لا تتقبَّل أن تُمضيَ الوقت مع أي أحد خلاف مايكل. وعندما سألتها ما أكثر شيء تحبُّه فيه؟ أجابت «الكيمياء» إنها المرة الأولى التي تشعر فيها باربارا بالغرام، فتوهجَت.

ردُّ الفعل اللافت للنظر كان من وليم أحد محبينا السعداء، وقد كان شخصًا سريع الفهم، شديد الأناقة، ودودًا، حريصًا على المشاركة، لديه فضول قوي عن الجهاز، لكنه كان يفتقد صديقتَه بشكل رهيب؛ فقد انتقلَت إلى ولاية أوريجون، وبالرغم من كونهما غارقَين في الحب وعلى اتصال متكرر، فإنه كان يعاني من بُعدِها عنه. وقد كانت هذه علامة جيدة، فهذه المحنة سوف تزيد من عواطفه. ولكنْ هناك شيء آخر؛ فقد قال وليم أثناء مقابلة ما بعد التصوير بالأشعة إنه ترك لديه انطباعًا، سألته وهو يخرج من الجهاز بمَ شعر؟ فأجاب: «غير كامل.» بالنسبة لي فإن هذه الجملة لا يوجد أفضل منها لوصف المرضى الواقعين بالحب من الرجال والنساء. على الرغم من مزاح «أريستوفانيس» فقد ضرب كبدَ الحقيقة الأساسية عن المحبِّين، وذلك قبل ألفين وخمسمائة عام. في ندوات أفلاطون؛ حيث زعم الكاتب المسرحي الإغريقي أن كلَّ إنسان عبارة عن كائن خنثى مكتمل، له أربعُ أيادٍ، وأربع أرجل، ووجهان في رأس واحد، وأربع من الآذان، وجهازان تناسليان (لرجل وامرأة)، وكان هذا الكائن البدائي «رهيبًا في قوَّته وعنفوانه».٢٢ وفي يوم من الأيام أرادت هذه الوحوش أن تتغلب على الأرباب؛ لذا قرر زيوس شطرَ كلِّ إنسان إلى اثنين، رجل وامرأة. ولهذا كما يشرح أريستوفانيس فمنذ زمن طويل «يبحث كلُّ واحد منَّا عن نصفه الآخر المكمل له.»٢٣ مثل وليم، فإنَّ كلَّ المحبين يشعرون بعدم الاكتمال حتى يحققوا الاتحاد العاطفي مع الحبيب المنشود.

بجورين، باربارا، وليم، وكلُّ مشاركينا أخبروني قدرًا كبيرًا من حياتهم الشخصية، وأنا في غاية الامتنان لهم جميعًا. لكن أمخاخهم أخبرَتنا أشياءَ أكثر عن عواطفهم الأصلية، الحب الرومانسي.

(١٢) المخ في حالة الحب

«في تكوين الإنسان هنالك قدرٌ كبير من الاهتمام بوجود مادة ملتهبة، ومهما كانت نائمة فهي قد تكمن لفترة، ولكن عندما تُوجه لها الشرارة، فعليك وقتَها أن تقتحم هذا اللهب.»٢٤ هكذا كتب جورج واشنطن هذه السطور في ١٧٩٥م في خطاب موجَّه إلى زوجة حفيده الصغيرة. لقد بدأنا نفهم هذه الشعلة.

قبل أن نفهم نتائج الفحص الإشعاعي الذي قمنا به، يجب أن نقوم بتحليل عميق لهذه الصور، وقد قام زملائي هنا بعمل رائع؛ فهناك حرفيًّا مئات الخطوات المعقدة. ولأن تقنية المسح بالرنين المغناطيسي الوظيفي جديدة جدًّا ومعقدة، تُخرج لنا أشياء خاطئة ويعاد التحليل من جديد. لكن مع الوقت، التحق بفريقنا «جريج سترونج» طالبٌ موهوب بالدراسات العليا بقسم علم النفس بصني ستوني برووك، وقد كان قادرًا على وضع المعلومات في مسارها الصحيح. درسَت لوسي صِوَرَ أشعةِ المخ وحدَّدَت أيَّ المناطق التي نشطَت به، وقام «آرت» بعمل العديد من التحاليل الإحصائية. وقام آرت ولوسي بعمل مقارنات بين الأجزاء المتعددة لهذه المادة الفيلمية. وقد أخذ كلُّ هذا وقتًا، وجهدًا، وتكريسًا، ومعلومات، وإبداعًا، واستبصارًا ومهارة كبيرة لا حدودَ لها.

أخيرًا شاهدنا النتائج: صِوَر جميلة للمخ في حالة الحب. وحين نظرت للمرة الأولى لتلك الصوَر، ومناطق المخ النشطة مضاءة بالأصفر الفاتح والبرتقالي الداكن، شعرَت كما أشعر في ليالي الصيف أُحملق في الكون المتلألئ: رهبة غامرة. ولكن لكي تفهمَ ما أقول، يجب أن تعرف القليل عن الأثاث الموجود برأسك.

يتكوَّن المخ من أجزاء ومناطق متعددة، كلٌّ منها له وظيفة محددة. وكلٌّ منها متصل بمناطق المخ الأخرى بواسطة خلايا عصبية أو وصلات عصبية، ما يقارب عشرة بلايين منها. وهذه الخلايا العصبية تنتج، وتخزن، وتوزع الموصلات العصبية من أنواع مختلفة؛ بعضها على سبيل المثال يخلق الدوبامين، والنوريبنفراين، و/أو السيروتونين. وحين يتم تنبيه خلية عصبية كهربائيًّا بواسطة خلية أخرى بجوارها فإن الدفقة تحضُّ هذه الناقلات العصبية (Neurotransmitters) على الخروج من الخلية العصيبة لتتهادى عبر فراغ ضيق أو مشبك عصبي (Synapse) لتنتهيَ وتستقرَّ في «أماكن المستقبلات» بالخلية التي تليها. بهذه الطريقة تنقل الموصلات العصبية الدفقة الكهربائية خلية بخلية. وكل خلية عصبية بها حوالي ألف من هذه الوصلات؛ ولهذا يوجد حوالي عشرة تريليونات من المشبك العصبي بين الخلايا العصبية في المخ.
كل خلية عصبية تتواصل فقط مع مجموعة أخرى محددة، لتُنتج شبكة عصبية تلك التي تصل أجزاء معينة ببعضها وتدمج أفكارنا، ذكرياتنا، أحاسيسنا، عواطفنا، ودوافعنا. وقد أطلق العلماء على هذه الشباك من الأعصاب وأجزاء المخ «دوائر» أو «أنظمة»، وعلى الرغم من أن جهاز مسح المخ بأشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي يُظهر فقط نشاط تدفق الدم في بعض مناطق المخ، فالعلماء يعرفون أي نوع من الأعصاب متصلة بمناطق المخ، فإنهم يستطيعون التخمين أي كيميائيات المخ تنشط حين تتوهج منطقة ما به.٢٥

(١٣) نظام الإثابة لدى المخ

ربما يكون واحدًا من أهم ما وجدناه في بحثنا هو نشاط النواة المذنبة (Caudate Nuclus) وهي نواة كبيرة على شكل حرف سي الإنجليزي (C-Shaped)، وتقع في العمق قريبًا من مركز المخ (انظر الشكل ٣-١ و٣-٢ و٣-٣) وهي بدائية، بمعنى أنها جزء مما يسمى مخ الزواحف أو مركب–أر (Reptilian Brain-Complex) حيث تطورت هذه المنطقة من المخ منذ أمد طويل قبل نشوء الثدييات، أي قبل ٦٥ مليون عام تقريبًا.
وقد أظهرَت صور المخ الملتقطة أن أجزاء من هذه النواة المذنبة خاصة الجسم والذيل فيها تصبح أكثرَ نشاطًا حين يُحملق المحب في صورة حبيبه.٢٦
كنت مندهشة من هذه النتائج؛ فالعلماء يُدركون من زمن طويل أن هذه المناطق تعمل على إدارة حركة الجسم. وحديثًا فقط بدءوا يُدركون أن هذا المحرك الضخم (أو الموتور) جزءٌ من «نظام الإثابة»، شبكة الدماغ للإيقاظ العام، والإحساس بالبهجة، والحفز كي ينال الإثابة.٢٧
إن النواة المذنبة تُساعدنا كي نحددَ ونستقبل الإثابة وتُخطط لحركات معينة كي تحصلَ عليها، وهي تُصاحب أيضًا الأداء الذي يشدُّ الانتباه والتعلم.٢٨
fig1
شكل ٣-١
fig2
شكل ٣-٢

هذا ليس كل شيء كشفَت عنه تجربتُنا، لكن أيضًا كلما زادَت العواطف، نشطَت هذه النواة.

اكتشفنا ذلك بشكل فضولي. تذكر مقياس الحب الذي ملأه أفرادُ عينتنا قبل الدخول في جهاز الأشعة، حينما قارنَّا استجابةَ كلِّ مفحوص بنشاط المخ المصور، اكتشفنا تناسبًا إيجابيًّا؛ فهؤلاء الذين سجلوا درجاتٍ أعلى في هذا المقياس أظهروا نشاطًا أكبر في منطقة معينة من هذه النواة حينما نظروا إلى صورة المحبوب. كم كان هذا رائعًا؛ فالعلماء ورجال الأعمال دائمًا ما يتساءلون: هل مقاييس التقرير الذاتي تعكس بالفعل شعور الفرد الداخلي؟ وفي هذه الحالة، فإن الإجابة هي نعم. وفريقنا كان من أوائل الذين شاهدوا العلاقة بين الاستجابات لمقياس البحث والنمط المحدد لنشاط المخ. كما وجدنا نشاطًا في مناطق أخرى من نظام الإثابة، وهو ما يشمل مناطق من منطقة الحاجز (Septum) ومناطق المخ التي نشطَت حين يأكل الناس الشيكولاتة؛٢٩ حيث يمكن اعتبارها مادة إدمان، وفي الفصل الثامن سوف أُثبت أن الحب إدمان أيضًا.
fig3
شكل ٣-٣

(١٤) الدوبامين

نتيجة أخرى مفاجئة في تجربتنا بالمسح بالرنين الوظيفي وهو نشاط المنطقة السقيفية الباطنية (VTA)، وهي تعتبر جزءًا مركزيًّا لدوائر الإثابة لدى المخ.٣٠ هذه النتائج هي ما كنت أبحث عنه؛ فلقد افترضت، كما تعرف، أن الحب الرومانسي يصاحب ارتفاعَ نسبة الدوبامين و/أو النوريبنفراين؛٣١ فإن منطقة السقيفية الباطنية هي الأم للخلايا الصانعة للدوبامين. عن طريق الطرف العصبي الشبيه بالمجسات، فإن هذه الخلايا العصبية توزِّع الدوبامين لمناطق مختلفة بالدماغ، بما فيها النواة المذنبة (انظر الشكل).٣٢ هذا النظام «الرشاش» يُرسل الدوبامين إلى أجزاء عديدة بالدماغ وهو ما يؤدي إلى الانتباه المركز،٣٣ وإطلاق النشاط، والدوافع المركزة للحصول على الإثابة، والشعور بالسعادة، حتى لوثة المرح،٣٤ وهي المشاعر المركزية للحب الرومانسي.

لا عجب إذن أن المحبين يتحدثون طوال الليل أو يمشون حتى الوقوع، يكتبون شعرًا متهورًا، ويُرسلون رسائل تكشف الأسرار عن أنفسهم، يَعبُرون قارات أو محيطات من أجل حضن في إجازة آخر الأسبوع، يغيِّرون أعمالهم أو أسلوب حياتهم، أو حتى يموتوا من أجل بعضهم. إنهم غارقون في كيمياء الدماغ التي تَهَبُ لهم تركيزَ الاهتمام، مضاء العزيمة، والحيوية، وعبر قيادة محرك الدوافع بالمخ، يخضع العشاق إلى رغبة المغازلة الجامحة لديهم.

هذه «المادة الملتهبة» التي وجدها الأب جورج واشنطن في كلامه، بشكل جزئي على الأقل، هي ذلك الدوبامين الذي يحرِّك النواة المذنبة وباقي أجزاء المخ في نظام الإثابة — شبكات المخ الأولية التي تقود المحبَّ ليهتمَّ ويركِّز على جائزة الحياة الأعظم — رفيق ربما يَعبُر بجيناته تجاه الخلود.

(١٥) كيف يُغَير الحب

اكتشفنا أثناء مضينا قُدُمًا في تجربتنا، الشيء الذي يستطيع به الحب أن يغير مع مرور الوقت، استبصارنا هذا حدث نتيجة ترافق مهم؛ ففي عام ٢٠٠٠م، وحينما كنَّا في منتصف مشروعنا، أعلن العلماء في جامعة لندن اكتمالَ تجربة مماثلة.٣٥ باستعمال جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي فحص كلٌّ من أندرياس بارتيلز وسمير زكي نشاطَ المخ في سبعة عشر مفحوصًا، أقروا بأنهم في حالة حب عميق، وحقيقي، وجنوني. كانت منهم إحدى عشرة سيدة، نظرن كلهن لصورة محبوبهن وكذلك إلى ثلاثة من الأصدقاء في السن نفسها، والجنس، ومدة الصداقة.

كانت تجربة لندن لها غرض واضح. فقد وجد بارتليز وزكي مناطقَ عدةً بالمخ تنشط حين يحملق المفحوص في صورة محبوبه. والمهم أنهم قد وجدوا نشاطًا في مناطق النواة المذنبة نفسها. ما الدعابة؟ فريقَا بحثٍ بقارتَين مختلفتَين، وعينات من مجموعات عِرْقية مختلفة، ومن متوسط أعمار مختلفة، وجد الفريقان نشاطًا في تركيب المخ نفسه. النواة المذنبة — وهي صاحبة الشحنات الأكبر بالدوبامين بالمخ — يجب أن تكون موقدَ الحب الرومانسي إذن.

على كل حال، فإن المعلومات الواردة من لندن أخبرتنا أيضًا شيئًا عن نمو الحب بمرور الوقت، فما لم نكن نخطِّط لبحثه هو كيف يغيِّر الحب؟ لكن دراسة لندن كانت على عينة لأشخاص وقعوا في الحب منذ حوالي عامين لثلاثة أعوام، على حين أن عينتَنا كانت لأشخاص في حالة حب حديث بمتوسط بلغ سبعة أشهر فقط. وقد أظهر الرجال والنساء بتجربتهم نشاطًا في منطقتين أخريَين وهما منطقة القشرة الحزامية الأمامية (Anterior cingulate gyrus) والقشرة الانعزالية (Insular cortex) على حين لم تُظهر عينتُنا هذا النشاط. (انظر الرسم التوضيحي) وهذه الاختلافات تستفزُّنا كي نقارنَ العينات بكل من دراستنا ودراستهم. ولا ندري حقيقة ماذا يعني هذا؛ فتلافيف الفص الحزامي الأمامي هي منطقة العواطف والانتباه والذاكرة العملية متفاعلين سويًّا.٣٦ بعض الأجزاء تتصاحب مع حالات السعادة، والأخرى تشمل إدراك حالة المشاعر الذاتية الخاصة، والقدرة على تقييم مشاعر الناس الآخرين أثناء التفاعل الاجتماعي، والبعض الآخر تصاحب ردَّ الفعل العاطفي للانتصار أو الخسارة، والذي يحدث في جزء من الثانية، ونتيجة لذلك يكون الحكم على قيمة الإثابة.٣٧ أما منطقة المخ التي تسمى بالقشرة الانعزالية فهي تجمع المعلومات من الجسم عن طريق اللمس الخارجي والحرارة، وكذلك الألم الداخلي ونشاط المعدة، والأمعاء، وباقي الأحشاء. بأجزاء المخ هذه نستطيع أن نسجل على سبيل المثال «تأثير الفراشة» بالمعدة، دقات القلب العنيفة، والعديد من ردود أفعالنا الجسمانية المختلفة. كما تدخل بعضُ أجزاء القشرة الانعزالية في نهج أو عملية المشاعر أيضًا. لهذا فقد ثبت أنه بطول مدة العلاقة، فإن مناطق المخ المصاحبة للعواطف، والذاكرة، والانتباه تبدأ في الاستجابة بطريقة جديدة. ماذا تفعل هذه الأجزاء بالمخ تحديدًا؟٣٨ لا أحدَ يعرف. هل يقوم المخ بتقوية وتجميع العواطف لعلاقة الحب؟ نحن جميعًا نُدرك أن الحب يتغير مع الزمن، ربما إذا فهمنا هذه النتائج، تشرح لنا كيف ولماذا؟

لقد وجد فريقُنا في نيويورك أيضًا العديدَ من الاختلافات بين الجنسين، من حيث العواطف الرومانسية، لكن سوف أشرح هذه النتائج وماذا تعنيه في الفصل الخامس.

(١٦) دوافع الحب

كل هذه المعلومات كان لها تأثير على نفسي بكل تأكيد، لقد تغيَّر فهمي للحب الرومانسي، لسنوات عديدة كنت أعتبر هذه التجربة العجيبة كوكبة من المشاعر، والتي تتراوح من النشوة إلى اليأس. لكنَّ اختصاصيي النفس يفرقون ما بين المشاعر والدوافع؛ فأنظمة المخ تُدرك الخطط وتُلاحق الاحتياج المحدد. زملاؤنا، أرت وأرون شُغِفَا بفكرة أن الحب الرومانسي ليس عواطف فقط بل نظام دوافع مصمَّم لكي يمكِّن الخطيب أن يبنيَ، ويحافظ على العلاقة الحميمة مع الشريك المفضَّل.٣٩

نظرًا لتفرُّغ آرت لهذه الفكرة فكان ضروريًّا أن نبدأَ مشروعنا بالمسح بالرنين المغناطيسي بأطروحتَين: أطروحتي بأن الحب الرومانسي يصاحب الدوبامين و/أو الموصلات العصبية وثيقة الصلة به بالمخ، وأطروحة آرت بأن الحب الرومانسي هو بداية نظام دوافع، فضلًا عن كونه عواطف.

بعد أن فرغنا رجحَت نتائجُنا أن الأطروحتَين صحيحتان. فالغرام أو الحب الرومانسي يبدو أنه يترافق مع ارتفاع الدوبامين. ولأن العواطف تنبعث من النواة المذنبة فإن الدوافع والسلوك المتوجه لهدف تصبح متشاركة في الأمر كذلك.

إن ما وجدناه في الواقع قد دفعني إلى اعتقاد أشمل؛ فلقد آمنت أن الغرام هو عبارة عن دافع بدائي في المخ، اختصارًا عبارة عن دافع موالفة إنساني جوهري وقد عرَّف عالِمُ الأعصاب «دون بفاف» هذا الدافعَ بأنه حالة عصبية (نسبة للخلايا العصبية Neural state) تعمل على حشد الطاقة وتوجِّه السلوك للحصول على احتياج بيولوجي محدَّد ليعيشَ الكائن الحياة أو يتكاثر.٤٠

نحن لدينا العديد من الدوافع، وهي تقع على سلسلة متصلة، البعض منها مثل العطش، والاحتياج للدفء لا يمكن لها أن تخمدَ إلا بالإشباع بينما دوافع الجنس، والجوع، وغريزة الأمومة في الجهة المقابلة يمكن لها أن يُعادَ توجيهها، أو حتى قمعها بالوقت والمجهود، أعتقد أن خبرة الوقوع في الحب تقع ضمن هذه المجموعة.

قبل أيِّ شيء يجب أن نعرف أن الانجذاب الرومانسي متشبثٌ ويصعب جدًّا إخماده، تمامًا مثل الدوافع بينما العواطف، على الجانب الآخر، تأتي وتذهب، فيمكنك أن تكون سعيدًا بالنهار وغاضبًا بعد الظهيرة مثلًا.

مثل باقي الدوافع، يركز الحب الرومانسي على إثابة محددة، وهو المحبوب، تمامًا مثل الجائع الذي يركز على الطعام. أما المشاعر، مثل الاشمئزاز على سبيل المثال، فتُثبت نفسها على كمٍّ هائل من الأشياء والأفكار المتعددة. إن الحب الرومانسي متصلٌ بمشاعر عديدة متنوعة؛ وذلك اعتمادًا على هل هذا الشيءُ الملحُّ مشبع أم محبط للشخص؟ ومثل كل الدوافع فإن الحب الرومانسي تُصاحبه العديدُ من تعبيرات الوجه؛ حيث إن كل المشاعر الأولية، مثل الغضب، الخوف، المرح، المفاجأة، الاشمئزاز لها تعبيرات نمطية معروفة. وكما الدوافع أيضًا فإن الحب الرومانسي يصعب التحكم فيه، إنه أصعب من كبح العطش على سبيل المثال أو كبح العواطف كالغضب.

من المهم جدًّا أن نذكر أن كلَّ الدوافع الأساسية يصاحبها ارتفاع مستويات الدوبامين بالمخ والحب الرومانسي كذلك،٤١ ومثل كل الدوافع الأخرى فإن الحب الرومانسي احتياج، ولهفة؛ فنحن نحتاج إلى الطعام والماء والدفء، والمحب كذلك يشعر باحتياجه ولهفته للمحبوب.
لقد صدق أفلاطون حين قال منذ ألفَي عام إن إله الحب «يعيش في حالة احتياج».٤٢

(١٧) الكيمياء المعقدة للحب

من دون شك، فإن العديد من أجهزة المخ الأخرى تعزو إلى «تدفق الشوق النابض» كما قال هوميروس، كما تذكر، فأنا منذ البداية طرحتُ أن النوريبنفراين ربما يكون مساهمًا؛ لأنه متلازم جدًّا مع الدوبامين، ويُنتج العديد من المشاعر والسلوكيات المتشابهة، وما زلت أعتبر أنه مشارك في زخم الغرام، ولكننا لا نملك بعد ابتكار الجهاز الذي يمكِّننا من قراءة هذا الشيء.

إن نقص مستوى السيروتونين سوف يؤدي إلى التفكير الوسواسي وهو مكونٌ هامٌّ للغرام؛ لهذا فأنا أعتقد يومًا ما ربما نجد أن هذه المادة مشاركة أيضًا في هذا الهيام الرومانسي.٤٣
القشرة المخية ما قبل الجبهية (Prefrontal cortex) يجب أن تكون مشاركة في الأمر كذلك، فهذا الحشد من أجزاء المخ التي تقف خلف الجبهة يُطلق عليها «المدير المركزي»؛ لأنه يجمع المعلومات من حواسنا، يَزِنها، يدمج الأفكار مع المشاعر، يصنع الاختيارات، يتحكم في دوافعنا الأساسية،٤٤ يعقل الأمور، يدرس، يداول، ويقرر. نستطيع أيضًا بمناطق متعددة في القشرة المخية ما قبل الجبهية أن نُحلِّل الإثابات، ومن الجدير بالذكر أن العديد من أجزائه لها وصلاتٌ مع النواة المذنبة.٤٥ وفي يوم من الأيام سوف يتمكن شخص ما من تعريف هذه الأجزاء (من القشرة المخية ما قبل الجبهية) التي تساعد في قيادة الفرقة الموسيقية التي تعزف مقطوعة الحب الرومانسي. نحن الآن في الطريق لنفهم بعض الدوافع في الحب، وما هي روعة هذا التصميم؛ فالغرام ينبعث من محرك الدماغ، النواة المذنبة، وهي تتقد وتشتعل، على الأقل بواحد من أقوى المنشطات الطبيعية، ألا وهو الدوبامين، حين تقدر عواطف الشخص، يسير المخ على المشاعر الإيجابية، مثل الفرح والأمل. أما إذا احتُقرَ حب الشخص أو خاب أمله، فإن المخ يربط هذه الدوافع بالمشاعر السلبية التي اختبرها كاليأس والغضب.

على كلِّ حال فإن مناطق القشرة المخية ما قبل الجبهية سوف تُقيم الملاحقة، تضع الخطط التكتيكية، تحسب الربح والخسارة، تسجل التقدم نحو الهدف: عاطفيًّا، جسمانيًّا، وحتى الاتحاد الروحي مع المحبوب.

«المخ أوسع من السماء» هكذا كتبَت إميلي ديكنسون.٤٦
إن هذا الجزء الذي يَزِن ثلاثة باوندات (أي المخ) يمكن له أن يُنتجَ احتياجًا قويًّا يخضع له العالم أجمع: إنه الحب الرومانسي، ولكي نجعلَ حياتنا أكثر تعقيدًا فإن هذه العواطف الرومانسية وقعَت بشكل معقد في شباك دافعَين آخرَين من دوافع الموالفة وهما دافع الغريزة الجنسية والثاني هو الاحتياج لبناء رابط عميق للشريك العاطفي، آه، يا لَنسيج الحب، كيف تغذِّي هذه القوى شعلةَ الحياة؟٤٧

(١٨) أعلام الفصل الثالث

وليم باتلر ياتيس William Butler Yeats: شاعر أيرلندي، كاتب مسرحي وأحد أعلام الأدب في القرن العشرين، وُلد في ١٨٦٥م، وحصل على جائزة نوبل للأدب عام ١٩٢٣م، وتوفي في عام ١٩٣٩م في سنِّ الثالثة والسبعين.
أريسطوفانس Aristophanes (٣٨٦–٤٤٦ ق.م.): كاتب ومخرج مسرحي إغريقي شهير، ويعتبر أبا الكوميديا في الأدب العالمي.
هوميروس Homer: كاتب إغريقي، عاش في القرن الثامن قبل الميلاد، وصاحب الملحمة الشعرية الشهيرة الإلياذة والأوديسا.
جون دون John Donne (١٥٧٢–١٦٣١م): شاعر وكاتب ساخر ومحامٍ إنجليزي، كما أنه راهب بروتستانتي كذلك.
دون باف Don Pfaff: أستاذ جامعي معاصر — مختبر علم الأعصاب والسلوك — جامعة روكفلر بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد حصل على جوائز تقديرية متعددة عن كتابه المنشور حديثًا «تنبيه المخ ونظرية المعلومات».
إميلي ديكينسون Emily Elizabeth Dickinson (١٨٣٠–١٨٨٦م): شاعرة أمريكية تم نشر أول مجموعة شعرية لها في ١٨٩٠م بعد رحيلها بأربع سنوات، ويعتبرها النقاد حاليًّا شاعرة أمريكية عظيمة.
جورج واشنطن George Washington (١٧٣٢–١٧٩٩م): أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، وأول رئيس جمهورية لها من ١٧٨٩–١٧٩٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤