الفصل السادس

الهندسة الوراثية

كما رأينا، تُمكِّننا عمليات استنساخ الجينات من إنتاج كميات كبيرة من تسلسل الحمض النووي بحيث يمكن دراسة وظيفته. يمكن أيضًا تطبيق هذه التقنيات في الطب والزراعة لإنتاج البروتينات البيولوجية أو كائنات حية كاملة بسماتٍ جديدة أو معدلة وراثيًّا. ويأتي في صميم هذه التطبيقات القدرة على إنتاج البروتينات من جينات مُستنسخة في الخلايا المضيفة. وتُسمَّى هذه البروتينات بالبروتينات المُعادة التركيب؛ إذ تُنتَج من الحمض النووي المعاد التركيب.

من مزايا البروتينات المعادة التركيب إمكانية إنتاجها بكمياتٍ كبيرة جدًّا بتكلفة زهيدة نسبيًّا. ويمكن أيضًا استخلاصها من المضيف الذي استُنْسِخَت فيه بسهولة أكبر مقارنة بالمصادر الأصلية مثل سوائل الحيوانات أو الإنسان أو الأنسجة أو النباتات. على سبيل المثال، كان العامل الثامن، وهو بروتين تخثُّر الدم، الذي يُستخدَم في علاج مرضى الهيموفيليا، يُشتقُّ سابقًا من مصادر حيوانية أو بشرية. غير أن كِلا المصدرين يوفران كميات قليلة فقط، وعُرِفَ أن المرضى يصابون بفيروس نقص المناعة البشرية والتهاب الكبد الوبائي سي نتيجة الجزيئات الفيروسية الملوثة التي كانت تُستخلَص في الوقت نفسه. وبذلك يمكن للبروتينات المعادة التركيب أن تقضي أيضًا على خطر الإصابة بالأمراض المعدية. ثمة فائدة أخرى للبروتينات المعادة التركيب وهي إمكانية تعديل الجين، وهو ما يتم غالبًا من خلال أساليب استحداث الطفرات معمليًّا، لإنتاج بروتينات ذات وظائف مُحسَّنة أو جديدة.

يتم إنتاج البروتين المعاد التركيب عن طريق إدخال تشفير الحمض النووي لأحد البروتينات المعنية في ناقلٍ مُصمَّمٍ خِصيصى لذلك. تحمل نواقل التعبير هذه سماتٍ تُتيح استنساخ الجينات، وتحمل، بالإضافة إلى ذلك، تسلسلات مُحفزٍ ومُنهٍ من أجل عمليتي النسخ والترجمة في المضيف الغريب. وقد أصبحت عملية التنقية مُمكنةً عن طريق وسْم البروتين بواسمةٍ لفصله عن جميع البروتينات الأخرى التي تُنْتَج في المضيف. ولكي يكون البروتين مُفيدًا، لا بد أن يعمل بكامل طاقته، وغالبًا ما يتطلب ذلك طيَّ البروتينات المُخلَّقة حديثًا بشكل صحيح، وإجراء تعديلات ما بعد الترجمة، مثل إضافة مجموعات السكر. قد يشكل هذا تحدِّيًا تقنيًّا، ولكن بالرغم من الصعوبات، فقد تم تصنيع عددٍ كبير من البروتينات المعادة التركيب.

المستحضرات الدوائية المعادة التركيب

يُعتبر البروتين العلاجي أحد الأنواع الأساسية للبروتينات المعادة التركيب، ويُسمى أيضًا بالمستحضرات الصيدلانية الحيوية أو المستحضرات الدوائية الحيوية. يُوجَد العديد من الأمراض التي تنشأ بسبب غياب بروتين معين أو إنتاج بروتين معيب. ويمكن معالجة هؤلاء المرضى بإعطائهم نسخةً سليمة من هذا البروتين.

كان أول بروتين معاد التركيب متوافر تجاريًّا يتم إنتاجه للاستخدام الطبي هو الإنسولين البشري لعلاج داء السكري. ينتج هذا المرض عن نقص هرمون الإنسولين البروتيني اللازم لاستخدام الجلوكوز في الجسم. ويؤدِّي نقص الإنسولين إلى تراكم الجلوكوز في الدم والبول، مما يُعطل وظائف خلوية عديدة، ويمكن أن يتسبَّب في النهاية في الوفاة. كان الإنسولين سابقًا يُنقَّى من بنكرياس الأبقار والخنازير. غير أنه لم يكن مُتاحًا إلا بكمياتٍ قليلة، وكانت عملية تنقية البروتين صعبة، وكانت استجابة الأجهزة المناعية لدى بعض المرضى عكسية. وللتغلُّب على هذه المشاكل، صمَّمت شركة «إيلي ليلي» بروتين الإنسولين البشري المعاد التركيب. عُزل الجين البشري، واستُنسِخَ في ناقلٍ وتم التعبير عنه في خلايا بكتيريا الإي كولاي أو الإشريكية القولونية. ووافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على الإنسولين المعاد التركيب للاستخدام السريري في عام ١٩٨٢.

ومنذ ذلك الحين، حصل أكثر من ٣٠٠ دواء معاد التركيب قائم على البروتين على تصريح كلٍّ من إدارة الأغذية والدواء الأمريكية ووكالة الأدوية الأوروبية، لعلاج مجموعةٍ متنوعة من الاضطرابات، من بينها الهيموفيليا والتهاب المفاصل والنوبات القلبية والسرطان، ويخضع عدد آخر منها للتجارب السريرية.

يمكن إنتاج البروتينات العلاجية في الخلايا البكتيرية، ولكن في أغلب الأحيان تُستخدَم خلايا الثدييات مثل خط خلايا مبيض الهامستر الصيني والخلايا الليفية البشرية؛ لأن هذه الخلايا المضيفة أقدر على إنتاج بروتينٍ بشريٍّ يعمل بكامل كفاءته. غير أن استخدام خلايا الثدييات مُكلفٌ للغاية والبديل هو استخدام الحيوانات الحية أو النباتات. وهذا ما يُسمَّى بالزراعة الجزيئية وهي طريقةٌ مُبتكَرةٌ لإنتاج كمياتٍ كبيرةٍ من البروتين بتكلفةٍ زهيدةٍ نسبيًّا. وغالبًا ما تستخدم الأغنام أو الماعز أو الأبقار أو الأرانب في الزراعة الجزيئية الحيوانية. وكان أول بروتين علاجي أُنتِج في الحيوانات الحية هو أترين (ATryn) في حليب الماعز، وهو عقار يمنع تجلط الدم. وفي سبيل ذلك، صُمِّم حمض نووي مُستنتسَخ يحمل التشفير الجيني لعامل تخثر الدم، مرتبطًا بتسلسُلٍ محفز. اختِيرَ تسلسل المحفز خصِّيصى لتوجيه إنتاج البروتين حيث تقتضي الحاجة؛ في حليب الماعز في حالة عقار أترين. يُحْقَن الحمض النووي المستنسَخ في بويضة مخصبة مأخوذة من أُنثى تزاوجت حديثًا، حيث يندمج في جينوم المضيف. بعد ذلك تُزرع البويضة المخصبة في قناة البيض لأنثى ماعز حاضنة، ويُعبِّر النسل الذي يولَد عن البروتين الموجود في حليبها. يُستخلَص البروتين من الحليب ويُحوَّل إلى منتجٍ دوائي، كأقراص على سبيل المثال.

أُفيدَ مؤخرًا أيضًا إنتاج أدوية لعلاج السرطان في بياض بيض الدجاج. وفي هذه الحالة يُجمَع بين التشفير الجيني لبروتين مُعين مُشتق من البشر مع تسلسلات من جينوم الدجاجة بحيث يُوجَّه إنتاج البروتين إلى بياض البيضة.

أما في الزراعة الجزيئية النباتية، فيُستخدم التبغ والأرز والذرة والبطاطس والجزر والطماطم لإنتاج البروتينات العلاجية. تُشبه هذه العملية عملية الزراعة الجزيئية الحيوانية حيث ينقل الجين المعني بالإضافة إلى تسلسلات مُحفز مُعينة إلى الخلايا النباتية باستخدام ناقل. يُختار المحفز لتوجيه الإنتاج إلى أجزاء معينة من النبات، سواء الأوراق أو البذور أو الفاكهة، حسب الرغبة. وتُعَد الزراعة الجزيئية مجالًا مُثيرًا للجدل في مجال استنساخ الجينات؛ لأنه يعتمد على إنتاج كائنات أو نباتات مُعدَّلة وراثيًّا، تحمل جينوماتها حمضًا نوويًّا من كائنٍ حي آخر غير ذي صِلة.

الأجسام المضادة وحيدة النسيلة

ثمة فئة أخرى من البروتينات التي يمكن تخليقها باستخدام تكنولوجيا الاستنساخ الجيني هي الأجسام المضادة العلاجية. والأجسام المضادة هي بروتينات يُنتجها الجسم استجابةً لعدوى فيروسية أو بكتيرية أو أي عدوى مرَضية أخرى. تُدافع الأجسام المضادة عن الجسم من خلال الارتباط ببروتينات معينة (الأنتيجينات أو المستضدات) موجودة على سطح المواد المسببة للأمراض وتستهدفها من أجل تدميرها. تُصمَّم الأجسام المضادة العلاجية لتكون أحادية النسيلة؛ أي أنها مُصمَّمة بحيث تكون موجهة للارتباط بأنتيجين مُعين، وذلك لمنع تأثيراته الضارة. في السابق، كانت الأجسام المضادة وحيدة النسيلة تُخلَّق عن طريق دمج الخلايا المنتجة للأجسام المضادة؛ الخلايا الليمفاوية البائية من فأرٍ أو جرذ مُحصن ضد المرض مع خلايا ورم موجودة في فأر. ونتج عن ذلك خلايا خالدة تُسمى الأورام الهجينة أفرزت الجسم المضاد المطلوب. غير أن الأجسام المضادة للقوارض لها استخدام محدود؛ لأنها ليست مُستقرة في البشر بشكلٍ خاص، ويمكن أن تؤدي إلى ردود فعلٍ تحسُّسية. وقد أصبح بالإمكان الآن تكوين أجسام مضادة متوافقة مع البشر باستخدام تقنيات الهندسة الوراثية. ويتضمن ذلك استبدال مناطق تشفير الأجسام المضادة البشرية بأجزاء تشفير الحمض النووي الخاصة بالجسم المضاد للقوارض والتعبير عن الجسم المضاد في الخلايا المضيفة. كان أول جسمٍ مضاد أُحادي النسيلة من الفئران يُعتمد استخدامه هو «موروموناب» في عام ١٩٨٦ لعلاج رفض الزرع (زراعة الأعضاء) لدى المرضى. يعمل موروموناب عن طريق الارتباط بمركب كتلة التمايز (CD3) البروتيني المستقبِل الموجود على سطح نوع من الخلايا المناعية تُسمى الخلايا التائية. تدخل الخلايا التائية في تكوين استجابةٍ مناعية للتخلُّص من المواد الغريبة. وعندما يرتبط الموروموناب بالخلايا التائية، تُثبط الاستجابة المناعية ويُمنَع رفض الزرع.
يعتبر «بيفاسيزوماب» Bevacizumab))، المعروف تجاريًّا باسم أفاستين (AvastinTM)، مثالًا لأحد أوائل الأجسام المضادة الأحادية النسيلة المتوافقة مع البشر. يُستخدَم أفاستين لعلاج سرطانات القولون والمستقيم والثدي والرئة. صُمِّم الجسم المضاد ليرتبط بعامل النمو البطاني الوعائي للبروتين (VEGF). ويُعبَّر عن هذا البروتين في الخلايا السرطانية ويتسبب في تكوين أوعية دموية جديدة بحيث يمكن للورم أن يزداد حجمًا. ومن خلال الارتباط بعامل النمو البطاني الوعائي للبروتين، يمنع أفاستين نمو الأوعية الدموية ويحدُّ من زيادة حجم الورم. ويُعد العقار التجريبي «زيماب» (ZMapp) الذي طُوِّرَ لعلاج مرض فيروس الإيبولا، أيضًا جسمًا مضادًّا أحاديَّ النسيلة. يتألف العقار من مزيج من ثلاثة أجسام مضادة وحيدة النسيلة مصنوعة من جينات الإنسان والفأر، تُشفِّر البروتينات التي تستهدف فيروس الإيبولا وتعطل نشاطه. تُدخَل الجينات في نواقل وتُصَنَّع في نباتات التبغ المزروعة في مزارع داخلية مُغلقة شبيهة بالمصانع. تُعَد الأجسام المضادة الوحيدة النسيلة في طليعة العلاجات البيولوجية؛ لأنها شديدة الانتقائية ولا تميل إلى إحداث آثارٍ جانبية كبيرة.

لقاحات البروتين المعاد التركيب

اللقاحات هي مستحضرات بيولوجية تتكون عادة من شكلٍ ميتٍ أو معطل من كائن حي مُمرِض. عند حقن لقاح ضد مرضٍ بعينه، فإنه يحفز جهاز المناعة لإنتاج أجسامٍ مضادة ما يمنح الجسم حصانة ضد هذا المرض. تستخدم لقاحات الإنفلونزا وشلل الأطفال والكوليرا العوامل المُمرضة الميتة، بينما يكون العامل الممرِض حيًّا في لقاحات الحصبة الألمانية والحصبة والسُّل، ولكن خصائصه المُعدية مُعطلة. من بدائل استخدام اللقاحات ذات العوامل الممرضة الميتة أو المعطلة إنتاج لقاحاتٍ مُعادة التركيب. ويُتاح ذلك إذا أُنتِجت الأجسام المضادة كاستجابةٍ لمكونات مُعينة (أنتيجينات) من العامل المعدي، وإذا كانت الجينات التي تُشفر تلك المكونات معروفة. يمكن إدخال تسلسُلات التشفير هذه في ناقل تعبيرٍ جيني لإنتاج البروتين المعاد التركيب. ونظرًا لأن اللقاح يتكوَّن من الأنتيجين الذي يحفز الاستجابة المناعية وليس من العامل الممرِض بالكامل، تقلُّ احتمالية إثارة ردود فعلٍ مُضادة. وقد اعتمد الآن عدد من اللقاحات المعادة التركيب للاستخدام. من هذه اللقاحات لقاح ضد فيروس الورم الحليمي البشري، وقد صُنع بالجمع بين البروتينات الفيروسية من سلالاتٍ مختلفة للحماية من الثآليل التناسُلية وسرطان عنق الرحم. يُوجَد لقاحٌ آخر وهو لقاح التهاب الكبد بي، الذي صُنِّع باستخدام بروتين موجود على سطح فيروس التهاب الكبد بي. عادة ما تكون الخلية المضيفة المستخدَمة في التصنيع خليةً ثديية، ولكن تُجرى تجارب أيضًا على التعبير الجيني في النباتات. وقد كان تخليق البروتين المعاد التركيب الذي يمنح حصانة ضد التهاب الكبد بي ناجحًا في الموز والبطاطس والتبغ والجزر. عندما يتناول الفرد هذه «اللقاحات القابلة للأكل»، يقوم الجهاز المناعي ببناء أجسامٍ مضادةٍ لمحاربة المرض كاللقاح التقليدي تمامًا. ولا يزال العلماء يعملون على إيجاد وسيلةٍ لزيادة فاعلية هذه اللقاحات. ويمكن أن تمثل هذه اللقاحات طريقة بسيطة ورخيصة لتنفيذ برامج التطعيم الشاملة، لا سيما في البلدان النامية، والتغلب على الاحتياج إلى الإبر والحُقَن المعقمة والتبريد.

نماذج للأمراض التي تُصيب الإنسان

يمكن إنشاء نموذج حيواني لبعض الأمراض البشرية لزيادة فَهم عمليات تطور المرض واختبار فاعلية علاجاتٍ جديدة. وعلى الرغم من إمكانية استخدام عددٍ من الكائنات الحية، فإن الفئران هي الأكثر شيوعًا نظرًا لكونها من الثدييات، ما يجعل جينوماتها تُشبه جينومات البشر. وثمة مزايا إضافية لاستخدام الفئران، مثل قِصَر فترة الحمل إذ تبلغ نحو ثلاثة أسابيع، وكبر حجم فضلاتها نسبيًّا، وقصر عمرها إذ يبلغ نحو عامَين.

أُنشئ عدد ضخم من النماذج التي استُخدِمت فيها الفئران لأمراضٍ مختلفة، منها السرطانات وأمراض القلب والأوعية الدموية والسكري واضطرابات التنكُّس العصبي وإصابات النخاع الشوكي والإيدز والسمنة. تُنْشَأ هذه النماذج باستخدام تقنيات الهندسة الوراثية التي عادة ما يتم فيها تعطيل أو طرق جين موجود لدى فأر. في عملية التعطيل الجيني، يُزال الجين الوظيفي من الفأر لمحاكاة الحالات المرضية التي تنشأ نتيجةً لفقدان الجينات وظيفتَها. أما في نموذج الطرق الجيني، فيحلُّ محل جين الفأر جين بشري يحمل تغيرًا مُحددًا في النوكليوتيدات ويُستخدَم لمحاكاة الحالات المرضية التي يُنتج فيها الحمض النووي المتحوِّر بروتينًا مَعيبًا.

على الرغم من أن نماذج الفئران لا تُقدر بثمن بالنسبة للبحوث الطبية الحيوية، فهناك قيود على استخدامها. فبعض الأمراض مثل مرض ألزهايمر ومرض باركنسون والاضطرابات النفسية مثل الفصام لا يمكن استنساخها بشكلٍ كامل في الفئران. بالإضافة إلى ذلك، تُظهر بعض الأدوية نتائج جيدة على الفئران ولكنها تفشل بعد ذلك أو يكون لها آثار جانبية ضارة على البشر. ويجري حاليًّا البحث عن بديلٍ لاختبار العقاقير على الحيوانات في معهد هارفارد ويس بالولايات المتحدة الأمريكية باستخدام جهاز لنمذجة الأعضاء على رقاقة. تحتوي هذه الرقائق، التي تكون بحجم شريحة ذاكرة الكمبيوتر، على خلايا بشرية مُدمجة في بلاستيك وتُحاكي بنية ووظيفة الأعضاء المختلفة مثل الرئة والقلب والجلد والأمعاء. وتُظهر الدراسات الأولية إمكانية استخدام هذه الرقائق لدراسة العمليات المرضية البشرية واختبار الاستجابات للأدوية. وجارٍ العملُ على ربط رقائق الأعضاء المختلفة معًا لتطوير نموذجٍ لجسمٍ بشري كامل.

العلاج الجيني

يستهدف العلاج الجيني استعادة وظيفة جينٍ معيب عن طريق إدخال نسخةٍ صحيحة من هذا الجين. يمكن استخدام العلاج الجيني لعلاج الأمراض الوراثية التي تنشأ من اختلالاتٍ في جين واحد مثل التليُّف الكيسي، وكذلك الاضطرابات المتعددة الجينات الأكثر تعقيدًا مثل السرطان. تبدو العملية بسيطة نسبيًّا؛ إذ يُنقَل الجين المستنسَخ إلى خلايا المريض. بمجرد دخول الخلية، يُنتِج الجين البروتين المُشفر ويُصَحح الخلل. غير أن ثمة عقباتٍ كبيرةً لا بد من التغلب عليها حتى يكون العلاج الجيني فعَّالًا. أُولى هذه العقبات أن التركيب الجيني لا بد أن يُوَصَّل إلى الخلايا أو الأنسجة المريضة. وغالبًا ما يمكن أن يكون هذا صعبًا في حالة خلايا مثل خلايا الدماغ التي يصعب الوصول إليها مقارنةً بخلايا أُخرى مثل خلايا العين والجلد والعضلات. تمتلك خلايا الثدييات أيضًا آليات معقدة تطوَّرت لمنع دخول المواد غير المرغوب فيها مثل دخول أي حمض نووي غريب. العقبة الثانية تتمثل في احتمال أن يؤدي إدخال أي بنيةٍ جينية إلى تحفيز الاستجابة المناعية للمريض، التي يمكن أن تكون قاتلةً في بعض الحالات. ثمة عقبة أخرى تكمن في أنه بمجرد توصيل البنية الجينية، لا بد أن يستمر التعبير عن هذا الناتج الجيني ليكون فعَّالًا.

تتمثل إحدى طرق توصيل الجينات إلى الخلايا في استخدام فيروسات معدلة وراثيًّا صُمِّمَت بحيث يحذف معظم الجينوم الفيروسي، مما يزيل قدرات الفيروس الضارة. يُدخَل الجين العلاجي في هذه النواقل التي تنقل الجين بعد ذلك إلى خلايا المريض. يمكن تعديل الناقل الفيروسي بطريقةٍ تجعل امتصاص الخلية المستهدفة أكثر فاعلية، على سبيل المثال، عن طريق إضافة بروتينات سطحية تتعرَّف على الخلية المرغوبة.

بمجرد دخول الخلية، تندمج بعض النواقل الفيروسية مثل الفيروسات القهقرية أو الرجعية في جينوم المضيف (انظر شكل ٦-١). وتعتبر هذه ميزة؛ لأنها توفر تعبيرًا طويل الأمد عن الناتج الجيني. غير أنه يُشكل أيضًا خطرًا على السلامة؛ إذ لا يوجَد سوى القليل من التحكم في مكان إدخال الناقل الفيروسي في جينوم المريض. وإذا حدث الإدخال في جينٍ مشفر، فقد يؤدي ذلك إلى تعطيل وظيفة الجين. وإذا اندمج بالقُرب من مواقع بدء النسخ — حيث تُوجَد تسلسلات المحفزات والمعززات — يمكن أن يحدُث تعبير جيني غير مناسب. وقد لوحظ هذا في تجارب العلاج الجيني المبكِّرة خلال الفترة بين عامَي ٢٠٠١ و٢٠٠٢ التي أُجريت في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة لعلاج الأطفال المصابين بنقص المناعة المشترك الشديد المرتبط بالكروموسوم X باستخدام أحد نواقل الفيروسات القهقرية. فمِن بين المرضى العشرين الذين عولجوا، تم تصحيح نقص المناعة في ١٧ مريضًا، وهو أول دليل على أن العلاج الجيني يمكن أن يُعالِج مرضًا يُهدد الحياة. غير أن خمسة من هؤلاء المرضى أصيبوا بلوكيميا في الخلايا الليمفاوية التائية بعد الخضوع للعلاج بمدةٍ تراوحَت بين ثلاثة وعشرين وثمانية وستين شهرًا. وأُرْجِع هذا إلى اندماج الفيروس القهقري في موقع بدء النسخ لجينٍ مُسبب للسرطان مما أدى إلى تعزيز التعبير الجيني لهذا الجين. ومنذ ذلك الحين، جرت دراسة نواقل فيروسية مُعدلة تُوجِّه الاندماج إلى مواقع آمنة محددة داخل الجينوم المضيف.
fig19
شكل ٦-١: العلاج الجيني الفيروسي. يتم إدخال جين وظيفي في الفيروس، فتمتصُّه الخلية ويُدْمَج في جينوم المضيف.
ثمة فيروسات أخرى، مثل الفيروسات الغُدِّية، لا تدمج حمضها النووي في جينوم المضيف ولكن يُحْتَفَظ بها داخل الخلية ككيان منفصل. وعلى غرار دمج الفيروسات، صُمِّمَت ناقلات الفيروسات الغُدِّية لإزالة أجزاء من الجينوم الفيروسي بحيث لا تكون مُسببة للأمراض في الإنسان. غير أن ناقلات الفيروسات الغدِّية لا توفر تعبيرًا ثابتًا طويل المدى عن الجينات المتحوِّرة؛ ومن ثم فهي غير مناسبة لعلاج الاضطرابات التي تتطلَّب تعبيرًا طويل المدى. يمكن للفيروسات الغدِّية أيضًا أن تحفز نشاطًا مناعيًّا قويًّا لدى المضيف، خاصةً في المرضى المصابين بأمراض. وقد سُلِّطَ الضوء على هذا في حالة جيسي جيلسنجر في عام ١٩٩٩. في التجربة التي شارك فيها جيسي، أُعْطيَ ١٨ مريضًا يعانون من نقص الأورنيثين ناقل الكربامويل (OTC) — وهو اضطراب وراثي يؤدي إلى خلل وظيفي في الجهازين العصبي والهضمي — العلاج الجيني باستخدام ناقلات الفيروس الغُدِّي. وتُوفي جيسي بسبب فشل في أعضاء مُتعدِّدة بعد أيام قليلة من العلاج بسبب الفيروس الغدِّي الذي أنتج لدَيه استجابةً مناعية شديدة.
ثمة بديل للفيروسات الغدية وهي الفيروسات المرتبطة بالغدِّية (AAVs). غالبًا ما تُستخدم هذه الفيروسات — التي لا علاقة لها بالفيروسات الغدية على الرغم من المُسمى — في تطبيقات العلاج الجيني لأنها غير مُعدِية، ولا تثير سوى استجابة مناعية محدودة للغاية، ويمكن تصميمها لتندمج مع جينوم المضيف، مما يوفر تعبيرًا جينيًّا طويل المدى. غير أن الفيروسات المرتبطة بالغدية لا يمكن أن تحمل إلا مُدخلًا جينيًّا صغيرًا؛ لذا يقتصر استخدامها على الجينات ذات الحجم الصغير.

وعلى الرغم من النتائج المبكرة المخيبة للآمال والوفيات المأساوية، فقد حقق العلاج الجيني بعض النجاحات ويبدو مُستقبله مبشرًا.

كان «جينديسين» (Gendicine) هو أول مُنتَج للعلاج الجيني يحصل على موافقة إدارة الغذاء والدواء الصينية لاستخدامه سريريًّا على البشر في عام ٢٠٠٣ لعلاج سرطان الخلايا الحرشفية في الرأس والرقبة (HNSCC). يتكون جينديسين من ناقل غُدِّي عديم التكاثر، وجين وظيفي مُثبِّط لجين الورم البشري p53 (TP53). يتحور جين TP53 في ٥٠ في المائة من جميع الأورام السرطانية. ويتمثل دور هذا الجين في منع تكاثُر الخلايا غير الطبيعي. وعندما يفقد وظيفته، تستمر الخلايا التالفة في التكاثر بشكلٍ غير ملائم وتظهر الأورام. من خلال توصيل جين TP53 وظيفي إلى الخلايا التي تفتقر إليه، يمكن القضاء على الخلايا المريضة من خلال بروتين جين p53 الذي يتسبَّب في موت الخلايا. وقد أفادت التجارب السريرية التي أجرتها شركة «شينزن سيبونو جين-تِك» بحدوث تحسُّن كبير في المرضى الذين عولجوا بجينديسين بعد شهرين فقط. ولم تتكرر هذه النتائج الأولية في تجارب سريرية أخرى، ولا تزال الصين حاليًّا هي الدولة الوحيدة التي تستخدم الجينديسين.
كان أول علاج جيني يُعتمَد للاستخدام السريري في أوروبا هو «جليبيرا» (Glybera)، وذلك في عام ٢٠١٢، لعلاج نقص إنزيم البروتين الدهني ليباز. يؤدي هذا الاضطراب الوراثي إلى ارتفاع مستويات الدهون في الدم مما يؤدي إلى آلام في البطن والتهاب البنكرياس الذي يهدد الحياة. يتكون جليبيرا من فيروس مرتبط بالغدية يحمل نسخة وظيفية من جين ليباز البروتين الدهني البشري. يحقن الفيروس في خلايا العضلات التي يحمل ناقل الفيروس المرتبط بالغدية انجذابًا خاصًّا نحوها. بمجرد دخول الخلايا، يُنتَج ليباز البروتين الدهني، مما يساعد على تكسير الدهون والحدِّ من التهاب البنكرياس.
يُوجَد نظام توصيل بديل للفيروسات، وهو تغليف الحمض النووي في الجسيمات الدهنية التي تمتصُّها الخلايا بعد ذلك. يُعد هذا أكثر أمانًا من استخدام الفيروسات؛ لأن الجسيمات الدهنية لا تندمج في جينوم المضيف ولا تُولِّد استجابة مناعية إلى حد كبير. غير أن امتصاص الخلايا للجسيمات الدهنية يمكن أن يكون أقل كفاءة، مما يؤدي إلى انخفاض التعبير الجيني. وقد وردت أنباء عن نجاح حديث للعلاج الجيني غير الفيروسي في علاج التليف الكيسي. ينتج هذا المرض الوراثي عن طفرات في الجين المنظم لموصلية الغشاء الليفي (CFTR). إن البروتين الذي يُشفره الجين CFTR مسئول عن التحكم في حركة الأملاح والماء داخل الخلايا وخارجها. وعند حدوث طفرة أو تحور، يُفقَد هذا التحكم ويؤدي إلى انسداد الرئتين والجهاز الهضمي على وجه الخصوص بالمخاط. وتكون النتيجة عدوى متكررة وخللًا وظيفيًّا في الأعضاء. وقد أظهرت المرحلة الأولى لإحدى التجارب السريرية تحسُّنًا طفيفًا في وظائف الرئة لدى المرضى الذين يتلقَّون جين CFTR المقترِن بجُسَيم دهني، بواسطة بخاخ. كانت المحاولات السابقة لتوصيل جين CFTR الوظيفي إلى الخلايا باستخدام طرق التوصيل الفيروسية غير فعَّالة إلى حدٍّ كبير بسبب ضعف امتصاص الخلايا له. يُوجَد حاليًّا أكثر من ألفَي منتَج من منتجات العلاج الجيني رهن التجارب السريرية، مُصمَّمة بالأساس لعلاج السرطان، ولكنها أيضًا موجهة لعلاج الاضطرابات الوراثية وأمراض القلب والأوعية الدموية.

الأطعمة المعدَّلة وراثيًّا

يمكن تطبيق تكنولوجيا الهندسة الوراثية على النباتات ليس فقط لتصنيع العقاقير العلاجية، ولكن أيضًا لتصميم نباتات ذات قيمةٍ غذائية أعلى، وطاردة لمبيدات الأعشاب الضارة ومقاوِمة للجفاف والعدوى. على مدى قرون، كان المزارعون يختارون النباتات وفقًا لسماتٍ مرغوب فيها — الأكثر مرونةً والأطول والأشهى مذاقًا — لإنتاج السلالات اللاحقة. في طرق الإنتاج التقليدية، يتَّحِد الحمض النووي الخاص بالوالدَين عشوائيًّا عند التهجين. ووفقًا لذلك، يكون مظهر السمة المختارة غير قابل للتنبُّؤ به. في المقابل، تسمح تقنيات الهندسة الوراثية بإجراء تغييراتٍ جينية مُستهدفة على الجينوم، مما يؤدي إلى إنتاج نباتاتٍ أكثر موثوقية بالسمات المرغوبة.

كان أول غذاء مُعدَّل وراثيًّا يُصرَّح به للاستهلاك الآدمي هو نوع من الطماطم يعرف باسم «فلافر سافر» في عام ١٩٩٤ من إنتاج شركة «كالجين». صُمِّمت الطماطم بحيث يتأخَّر نضوجها؛ ومن ثم يطول الوقت الذي تستغرقه حتى الوصول لمرحلة الطراوة والفساد. وقد تحقق ذلك من خلال تعطيل التعبير الجيني للجين المُشَفِّر لإنزيم إندو-بولي جالاكتوروناز، المسئول عن تطرية الفاكهة. سُحِبَ هذا المنتج من الأسواق في عام ١٩٩٧ وسط مخاوف تتعلق بالسلامة العامة المتعلقة بالأطعمة المعدلة وراثيًّا. في الآونة الأخيرة، صمَّم علماء في المملكة المتحدة طماطم «أرجوانية» اللون. تُنتِج هذه الطماطم مستوياتٍ عالية من مادة كيميائية تُسمى الأنثوسيانين، وهي التي تُعطي الطماطم لونها الأرجواني. والأنثوسيانين هو أحد مُضادَّات الأكسدة الموجودة بشكلٍ طبيعي في الفواكه مثل التوت الأزرق والتوت الأسود. يُحَفَّز إنتاجه في الطماطم من خلال نقل الجينات من نبات زهرة الخطم إلى جينوم الطماطم. وقد أظهرت الدراسات أن الأنثوسيانين يمكن أن يُقلِّل من الإصابة بالسرطان ويُحسِّن وظائف وصحة القلب والأوعية الدموية. سيكون الهدف هو تطبيق نموذج الطماطم الأرجوانية على أكثر الأطعمة التي يُقبل عليها الناس وأرخصها مثل الكاتشب. ويخضع هذا المنتج حاليًّا للاختبار لمعرفة فوائده الصحية الإيجابية للبشر.

تشارك شركة «أكوا باونتي تكنولوجيز» في إنتاج السلمون المُصمَّم لكي ينمو أسرع ويصل إلى حجمه الكامل بشكلٍ أسرع. يُصمَّم هذا السلمون من خلال الجمع بين جينٍ مشفِّر لهرمون النمو من سمك السلمون الذي يعيش في المحيط الهادئ مع تسلسُلات مُحفزة من سمكةٍ تُشبه ثعبان البحر. يسمح هذا التعديل بإنتاج هرمون النمو داخل الأسماك على مدار السنة بدلًا من بضعة أشهر فقط. وبذلك تصل الأسماك إلى حجمها الكامل في نصف الوقت — ثمانية عشر شهرًا بدلًا من ثلاث سنوات — ويمكن تسويقها في وقتٍ أبكر. وقد اعتمدت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية السلمون المعدل وراثيًّا الآن للاستهلاك الآدمي.

المحاصيل التي تتحمل مبيدات الأعشاب والمقاومة للحشرات

السببان الرئيسيان لفقدان المحاصيل هما الضرر الناتج عن الحشائش وذلك الناتج عن الحشرات. فالمحاصيل تُرَش بانتظام بمبيدات الأعشاب والمبيدات الحشرية لتقليل فقدها، ولكن هذه المبيدات غالبًا ما تكون غير انتقائية، مما يؤدي إلى إتلاف المحاصيل التي تُزْرَع، وفي بعض الحالات تُسبب ضررًا للإنسان وللكائنات الحية الأخرى في البيئة المحلية. وللتغلُّب على هذه المشكلات وتحسين الإنتاجية، صُمِّمت محاصيل تتحمَّل مبيدات الأعشاب أو تُقاوِم الحشرات أو تحمل كلتا السمتَين في آنٍ واحد داخل المحصول نفسه.

تُصمَّم المحاصيل التي تتحمَّل مبيدات الأعشاب بحيث يُقضَى على الأعشاب الضارة عند رش مبيدات أعشاب بعينِها في الحقل، بينما يظل المحصول سليمًا. والمحصول التجاري الأكثر شيوعًا الذي يتحمَّل مبيدات الأعشاب هو «راوند أب ريدي» الذي تُنتجه شركة «مونسانتو». تحمل محاصيل راوند أب ريدي جينًا يُشفِّر إنزيمًا يجعلها مقاومة لعمليات الرش الواسعة النطاق للجليفوسات القاتل للأعشاب الضارة.

لإنتاج محاصيل مقاومة للحشرات، يُنقَل الجين الذي يشفر بروتينًا سامًّا من بكتيريا العصوية التورنجية، المعروفة باسم Bt، إلى نبات المحصول. ينتج المحصول بروتين البكتيريا التورنجية السام لبعض الحشرات، ولكنه غير ضار بالثدييات الأخرى، بما في ذلك البشر والطيور والأسماك.

أُطْلِق مؤخرًا في المملكة المتحدة مشروع لإنتاج بطاطس مُعدَّلة وراثيًّا تحمل مجموعة أكبر من السمات. من المزمع أن يكون المحصول مقاومًا للفحة البطاطس المتأخرة وعدوى الديدان الخيطية في كيس البطاطس، وهي أمراض تسبب خسارة كبيرة في محاصيل البطاطس للمزارعين. كذلك ستحتوي على مستوياتٍ أقل بكثير من المواد الكيميائية الموجودة طبيعيًّا، مثل الأسباراجين والسكريات المختزلة. تُكوِّن هذه المواد الكيميائية مادة الأكريلاميد عند طهوها في درجات حرارة عالية. وقد تم ربط مادة الأكريلاميد الموجودة في الطعام بالسرطان؛ ومن ثم فإن تقليل الاستهلاك يمكن أن يُقلِّل من خطر تَكون السرطان. ستكون البطاطس أيضًا أقلَّ عرضةً للعطب؛ إذ سيعطل عمل الجين المشفر لإنزيم بوليفينول أوكسيديز. لإنتاج هذه «البطاطس الخارقة»، ستُضاف ثلاثة جينات تمنح مقاومة للفحة البطاطس المتأخرة، وجينان يمنحان مقاومةً للديدان الخيطية إلى جينوم البطاطس. بالإضافة إلى ذلك، ستُعطل ثلاثة جينات تنتج الأسباراجين والسكريات المختزلة والبوليفينول أوكسيديز. وعلى الرغم من أننا لا نزال على بُعد بضع سنوات من المحصول النهائي، فإنه حال نجاحه، يمكن أن يزيد إنتاج البطاطس ويمنع رش كمياتٍ كبيرة من مبيدات الآفات ومبيدات الفطريات على الأراضي الزراعية، وهو ما سيؤدي إلى إنتاج غذاء أكثر صحة.

المحاصيل ذات القيمة الغذائية المحسَّنة

تُشير التقديرات إلى أن ما يقرب من ٢٠٠ مليون شخص في جميع أنحاء العالم يعانون حاليًّا من نقص فيتامين أ. يؤثر نقص فيتامين أ على الحوامل والأطفال على وجه الخصوص ويمكن أن يؤدي إلى العمى. ويمكن أن يُخفف تناول مكمِّلات فيتامين أ ضمن النظام الغذائي من آثار نقصانه. تتمثل إحدى أشكال المكملات الغذائية في استهلاك الأرز الذهبي، الذي سُمى بهذا الاسم بسبب لونه الشديد الصفرة. يُنتَج الأرز الذهبي عبر إدخال جينين في جينوم الأرز؛ أحدهما مُشتق من النرجس البري والآخر من أحد أنواع بكتيريا التربة. يُشفِّر هذان الجينان الإنزيمات التي تدخُل في إنتاج البيتا كاروتين، وهو مركب طليعي لإنتاج فيتامين أ. عند استهلاك البيتا كاروتين، يتحول إلى فيتامين أ في القناة الهضمية. وقد نُشرت تفاصيل كيفية تصميم السلالة وراثيًّا لأول مرة في دورية «ساينس» العلمية في عام ٢٠٠٠ واعتبر إنجازًا مُهمًّا في ذلك الوقت.

منذ ذلك الحين، أظهر عدد من الدراسات أن استهلاك الأرز الذهبي لا يقلُّ فائدةً عن مكملات فيتامين أ للأطفال، وأفضل من البيتا كاروتين الطبيعي الموجود في السبانخ. ولكن لم يوافَق بعدُ على طرح المنتج تجاريًّا.

مواجهة المخاوف المتعلقة بالأغذية المعدَّلة وراثيًّا

اعتُمد أول غذاء معدَّل وراثيًّا منذ أكثر من عشرين عامًا؛ ولكن لا تزال مجموعة كبيرة من الأغذية المعدلة وراثيًّا غير متوفرةٍ في الأسواق، ولا تزال محل نقاش عام على المستوى الدولي. يتمثل أحد المخاوف في الخطورة المحتملة لاستهلاك الأغذية المعدلة وراثيًّا على صحة الإنسان من خلال نقل الجينات المقاومة للمضادات الحيوية. تُستخدم هذه الجينات كواسِمات مُنتقاة أثناء عمليات الهندسة الوراثية ويمكن أن تنتقل إلى البشر من خلال استهلاك هذه الأطعمة. ثمة مصدر آخر للقلق هو تأثيرها على البيئة. فقد أدَّى الاستخدام المتزايد للمحاصيل التي تتحمل مبيدات الأعشاب إلى تطور «حشائش ضارة خارقة» مقاومة لمبيدات الأعشاب المستخدمة. وتظهر بعض الحشرات مقاومةً للمحاصيل المعدلة وراثيًّا لمقاومة الحشرات كما لوحِظ انخفاضٌ أو انعدام لمظاهر الحياة البرية الطبيعية. في الولايات المتحدة، يُعتبر نبات الصقلاب الموجود في الحقول مصدرًا غذائيًّا أساسيًّا للفراشات. وقد أدى استخدام المحاصيل المعدلة وراثيًّا إلى القضاء على الصقلاب؛ ومن ثم القضاء على مصدر غذاء الفراشات. وثمة مخاوف أيضًا بشأن تلوث المحاصيل غير المعدلة وراثيًّا عبر انتقال حبوب اللقاح من المحاصيل المعدلة وراثيًّا إليها؛ ومن ثم إنتاج سُلالةٍ مُعدلة وراثيًّا. وللحدِّ من المخاطر، يطبق حاليًّا عدد من التحسينات التكنولوجية. أحد هذه التحسينات هو استبدال واسِمات مشتقة من النباتات أكثر أمنًا بالجينات الواسمة المقاومة للمضادات الحيوية. وثمة تحسين آخر يتمثَّل في استخدام تسلسلات المحفز التي تنشط تعبير البروتين فقط كاستجابةٍ لمحفزٍ مُعين مثل عامل كيميائي أو عامل إجهاد. لا تقصر هذه المحفزات المستحثة إنتاج البروتين على أجزاء مُعينة من النبات فحسب، بل تحد أيضًا من إنتاج البروتين مؤقتًا. يمكن أيضًا إدخال الجينات بشكل أدق في مواقع محددة من الجينوم باستخدام تقنيات معقدة ومتطورة للتحرير الجينومي، ما يترتب عليه التغلب على الدمج العشوائي الذي شوهد في التجارب السابقة. ولا بد أن تستمر الأبحاث المتزايدة والتحسينات الإضافية في تكنولوجيا الحمض النووي المعاد التركيب لتقليل المخاطر المحتملة للأغذية المعدلة وراثيًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤