مكيدة كبرى في شركة السكك الحديدية

هل يعرف القارئُ أنَّ كل الأموال المحصَّلة في أي محطة سكة حديد تُرسَل إلى المقر الرئيسي كلَّ ليلة؟ هذا هو الإجراءُ المتبع. تُوضَع الأموال في صندوق، أُنشِئَ لجعل الاختلاس أو السرقة على الطريق أمرًا صعبًا، إنْ لم يكن مستحيلًا، وتُرسَل بهذه الطريقة. ويُرسَل معها بالطبع أيضًا إخطارٌ من قِبَل مدير المحطة أو المحصِّل من محطة معينة إلى المكتب الرئيسي. وتُرسَل الأموال لدفع الرواتب والأجور بطريقة مماثلة وعبر مسار عكسي من المقر الرئيسي إلى المحطات التي أتَت منها في الأصل. إنَّ المحطة الرئيسية أو المكتب الرئيسي هو في الواقع مركزُ نظامٍ نقدي توزيعي. فكلُّ شيء في شكل نقود يأتي إلى هناك ويذهب من هناك.

هذه هي طريقة سداد الأجور، أو على الأقل تحويل الأجور من المقر الرئيسي. ومن أجل الحماية من السرقة أو الاحتيال، تُرسَل قائمة بجميع الحمَّالين وسائقي القطارات والحُرَّاس وغيرهم من عمال كلِّ محطة، إلى المقر الرئيسي. وفي يوم محدَّد — على سبيل المثال الجمعة أو السبت — تُعاد هذه القائمة إلى المحطة مع كاتبٍ من مكتب المحصلين أو السكرتارية، الذي يأخذ معه أيضًا المبلغَ المطلوبَ لسداد أجور جميع هؤلاء العاملين. ويقوم الكاتب برحلةٍ من بداية الخط إلى نهايته، حيث يُسلم، خلال رحلته طردًا من المال معبَّأً بقائمة الأجور. وتُستلَم هذه الطرود من أيدي الكاتِب من قِبل شخص ما يحرس دائمًا مكان التسليم، مع ذلك الحماس أو العناية التي عادةً ما يُظهرها الرجال عندما يتوقعون نَيل مكافأة على جهدهم. ودائمًا ما يكون وصول حامِل النقود معروفًا إما بترتيب ثابت أو ببرقية خاصة تُرسَل إلى محطات الخط.

إنَّ القارئ، في رأيي، أيضًا لا يعرف إلى حدٍّ كبير حقيقة، أنه حتى عامٍ أو عامَين قبل ذلك، كانت هناك عصابةٌ من أشرس الأوغاد الذين حصَلوا على مكاسبَ هائلةٍ من النهب الممنهج لشركات السكك الحديدية. كانت أساليبُ عملهم متنوعةً بقدر ما يمكن أن تُقدم لهم حيل البراعة الشريرة، وكانت تداعياتها مذهلة بالنسبة إلى أكثر المحققين خبرة. لقد وفَّرَت لي خُدعُهم وخططهم وترتيباتهم عملًا طويلًا ومربحًا؛ ومن باب الإنصاف أن نفترض أنَّ العديد من حالات النهب هذه لم تُكتشَف، أو لم يُشتبَه بها. لقد رفعوا دعاوى عن إصاباتٍ لم تقع، من قِبل أشخاص لم يكونوا موجودين في حوادثِ التصادم أو التحطم؛ وقدَّموا مطالَبات مقابل طرود مفقودة والتي، كما قد يُعذر أي أيرلندي على قول ذلك، لم تُفقَد أبدًا؛ وسرَقوا أمتعة الركَّاب؛ واستولَوا على البضائع في مسار الترانزيت؛ وكانت لديهم مخططات أخرى للنهب. كانت آلية عملهم متشعبة على نطاق واسع، بحيث إنه في كل محطة كبيرة تقريبًا توجد عصبة تقوم بعمل الشركة ظاهريًّا، وتتلقَّى رواتبها، وتُصنَّف ضمن عُمَّالها المخلصين. في كل قطارٍ تاسع أو عاشر كان هناك حارسٌ له صلة، سواءٌ بصفته عضوًا أو وكيلًا، بعصابة النهب. كما يوجد لديهم جواسيسُ ومخبرون وشركاء في المقر الرئيسي للعديد من خطوط السكك الحديدية في جميع أنحاء المملكة — في مكاتب السكرتارية، والمحصلين، ومكاتب المديرين في العديد من الخطوط.

وكانت فائدة هؤلاء الجواسيس في المقرَّات هائلة. فهناك، على سبيل المثال، قضية الحادث المزعوم. حيث رُفِعت دعوى ذات مرة ضد شركة لها محطة رئيسية في العاصمة. وطالبَ المدعي بتعويضاتٍ عن الإصابات التي لحقت به في حادث تصادم. لم تستطع الشركة أن تدحضَ المطالبة بالكامل، ولكن نظرًا إلى أنهم اعتبروا المبلغ المطلوب من قِبل المدَّعي مبالغًا فيه، فقد اعتقدوا أنه يمكن تخفيضه عن طريق التفاوض. كان المبلغُ المطلوب أصلًا هو ٢٠٠٠ جنيه. لكنَّ المدعيَ، أثناء المفاوضات، خفَّض توقعاته إلى ١٠٠٠ جنيه. وقد كان هذا، على حدِّ قول محاميه، أدنى مبلغ يمكن أن يقبله. وقد أبلغ محامو الشركة الإدارة بذلك، ومِن ثَمَّ فوضَتهم الإدارة بتسوية القضية عن طريق سداد ٨٠٠ جنيه والمصاريف. وبناءً على ذلك، عرضَ محامو الشركة ٧٠٠ جنيه كأعلى مبلغٍ يمكنهم سداده. فإذا رفضَ هذا العرض، فإنه يجب عليهم، حسَبما قالوا، خوضُ المعركة حتى النهاية، ومعرفة ما ستُقرره هيئة المحلَّفين. لقد كانوا ينتوون بالطبع أن يَزيدوا المبلغ بمقدار ١٠٠ جنيه في اللحظة الأخيرة، بدلًا من ترك المفاوضات تنهار. ومع ذلك، ردَّ محامي المدعي، على عرض اﻟ ٧٠٠ جنيه، وكتبَ ليقول إنه تشاور مع موكِله البائس، الذي، من أجل وضع حدٍّ للنزاع والتقاضي، قرَّر أن يأخذ مبلغ ٨٠٠ جنيه، لا ينقص ولو شلنًا واحدًا؛ وأضافَ أنه لا جدوى من إجراء مزيدٍ من التفاوض إذا لم يُلبَّ هذا الطلبُ في الحال ويُوافَقْ عليه. ومِن ثَمَّ لم يَبدُ أن هناك ضرورةً لاستمرار التفاوض على هذا النحو حتى يصل إلى المرحلة التي حُدِّدت لمحامي الشركة كي يُسويَ الأمر، ولم يكن ذلك مستغرَبًا على الإطلاق؛ لكن السبب الحقيقي لموافقة المدعي على قَبول ٨٠٠ جنيه كان المعلومات التي تلقَّاها، التي تفيد بأن هذا المبلغ هو أقصى ما يمكن أن يأمُلَ في الحصول عليه دون المرور بمحنةِ تحقيقٍ عام؛ وهو اختبارٌ تسعى العصابة دائمًا إلى تجنبه.

وقد تصادف، من خلال مجموعةٍ فريدة من الظروف غير المتوقَّعة، أنْ كنتُ أُراقبُ بعيني اليقظةِ في ذلك الوقت رجلًا متهَمًا بالتزوير. وخلال مراقبتي رأيتُ رسائلَ تمر من وإلى مكتب السكرتارية لخط سكةٍ حديدية مهم. لم يكن الإبلاغُ عن هذا الظرف جزءًا من عملي. فذلك قد يُفسِد الخطة التي أقوم بها؛ ولذا لم أُخطِر أحدًا، أو على وجه الدقة لم أعطِ أيَّ إشارة أو تلميح. خلال أقل من أسبوع بعد تسليم الرسالة الأخيرة، في نحو الساعة السادسة مساءً، كانت خطتي قد تبلورت، وأمسكتُ بالمتهم الذي كنت أسعى خلفه. إهمالٌ غير عادي وعناية رائعة! لقد دمَّر حلقةً واحدة في السلسلة التي كنت أنشئُها بمساعدته اللاواعية، لكنه احتفظَ بحلقةٍ واحدة في سلسلة أخرى متساوية القيمةِ والمنفعة لخصومه الآخَرين. وقد وجدتُ معه رسالة، كانت مشفَّرة، لكنها مكتوبة على ورق مختوم بأحد أختام الشركة.

علاوة على ذلك، لم يكن من الصعب جدًّا فكُّ الشفرة. إذ سرعان ما كشفَ أحدُ الأصدقاء، الذي أشدتُ بمهارته في مجلدي السابق، هذا اللغز.

هل يرغبُ القارئ في تخمين ما تحتويه الرسالة؟ لقد كانت نسخةً مشفرة من محضر اجتماع مجلس الإدارة ذي صلةٍ بقضية الأضرار والتعويضات! وكان المتهم هو أحدَ المتحالفين مع العصابة، أو أحد جواسيسها على الأقل، الذي احتفظ في الواقع بمنصبٍ سري في مكتب السكرتارية، قريب جدًّا من معقل أسرار الشركة بحيث يُمكنه نسخُ المحاضِر من السجلِّ الذي تُسجَّل فيه قراراتهم. وبموجب هذا التوجيه، أصدر المدعي تعليماته إلى المحامي، الذي وكَّلَته العصابة في هذه القضية، كي يخفض مبلغ التعويض إلى ٨٠٠ جنيه بالضبط، ومن خلال هذه الخيانة الشائنة لثقة الشركة، حصلَ الناهبون على المال.

سلَّمتُ الآن بالطبع الوثيقة إلى الشركة. ومع ذلك، سدَّدتُ مبلغ التعويض. وأُدينَ سجيني بتهمة أخرى، ولذا لم يكن من الضروري مقاضاته بتهمة الاحتيال على شركة السكك الحديدية. كما لم تتَّخَذ إجراءاتٌ لمقاضاة الكاتِب. لقد أفلتَ من ذلك المصير بفضل علاقاته القوية التي وفرَت له الحماية. حيث أكد رسميًّا لمجلس الإدارة أنه لم يشارك في واقعة النهب، وأنه لا تجمعه بالمزوِّر علاقةٌ وثيقة، وأنه تعلَّم الكتابة بطريقة الشفرة، بهدف الترفيه وحسب، وأنه أخبره فقط بقرار مجلس الإدارة من أجل أن يحثَّ صديقه، المدعي (الذي كان يظنه قد تعرَّض للضرر بالفعل)، على عدم الإصرار على مبلغ التعويض المبالَغ فيه. صدَّق مجلس الإدارة هذه القصة أو تظاهروا بأنهم صدَّقوا. ربما لم يرغبوا في كشف أنَّ الاحتيال والإجرام قد توغَّلا في المقر الرئيسي لهم، وقريبٌ للغاية من مركز إدارتهم. وأيًّا ما كان الأمر، فقد علمتُ أنهم وبَّخوا الكاتِب، ووجَّهوا اللومَ إليه، وفصلوه من العمل، لكنهم امتنعوا عن مقاضاته.

عندما فُصِل هذا الشاب، الذي نسخَ المحضر، تخيَّلَت الشركة بلا شك أنها قد تخلَّصَت من العناصر الاحتيالية التي أثرَّت سَلبًا على ثقتها. لكنها كانت مخطئة كما سيتَّضح الآن. إذ إن الواقعة التي أنا بصدد الحديث عنها لم تحدث إلا بعد انقضاء نحو ١٢ شهرًا على القصة التي رويتُها للتو.

فقد تصادفَ أنه في تاريخ هذه المكيدة الكبيرة، رتَّب كاتِبٌ ملحَق بمكتب كبير المحصلين، كانت مهمته نقلُ الأجور إلى محطات الخط الرئيسي، أن يأخذ إجازته السنوية ومدتها شهر، وأن يبدأها يوم الجمعة، وهو اليوم الذي كان المالُ يُسلَّم فيه دائمًا.

استفسرَ الكاتِبُ من كبير المحصلين: «ماذا سنفعل بخصوصِ الأجور، في هذا الأسبوع، يا سيدي؟»

أجابَه الرجل: «أوه، يمكن تدبُّر الأمر بسهولة، يا ويلسون، يجب أن تُسلمها يوم الخميس.»

«شكرًا لك سيدي. ولكن هل ينبغي أن أُرسل برقياتٍ إلى المحطات وأُخبرهم أننا سنُسلمهم الأجورَ في يوم الخميس من هذا الأسبوع؟»

قال كبيرُ المحصلين: «يمكنك فعلُ ذلك أيضًا، يا ويلسون.»

والآن، فإنَّ معرفة ما إذا كان ويلسون قد سلَّم أي رسالة إلى كاتِب البرقيات أم لا، هو لغزٌ لم يُحَل إلى الآن. فهو يقول إنه قد فعلَ ذلك. بينما يقول كاتِب البرقيات إنه لم يفعل. وبين هذه التصريحات المتضاربة يظلُّ هناك شكٌّ مؤلم حتى يومِنا هذا. يبدو من المحتمَل فقط أن الكذَّاب كان متحالفًا مع العصابة، لكن هذا ليس استنتاجًا مؤكدًا. فربما قد سلَّم ويلسون الرسالة المكتوبة إلى أحد زملائه الكتَبةِ في مكتب كبير المحصلين، في ظل ارتباك أو انفعالٍ ناتِج عن إجازته الوشيكة، أو ربما وضَعها كاتِبُ البرقيات جانبًا عن غير قصد، وربما أتلفها أحدُ شركائه من أجل مساندة المشروع الإجرامي الذي أصبح ممكنًا بحجب هذه الرسالة (أيًّا ما كان السبب الداعي إلى ذلك).

لم يستطع مجلسُ الإدارة، وربما لم يكن متوقَّعًا منه بشكل معقول، أن يحكم بين التصريحات المتضاربة للكاتبَين؛ ولذا فقد فصَلوا كِلَيهما من العمل، واعتقدوا أنهم قد قاموا بكل ما تتطلَّبه العدالة النزيهة وما يمليه عليهم واجبهم تجاه المساهِمين.

إنَّ الحقيقة الوحيدة المؤكدة هي حقيقةٌ سلبية. فالبرقية لم تُرسَل. وانتظر العمَّالُ وصولَ الأجور، وطالَ انتظارهم عَبثًا، يوم الجمعة.

ذهبَ ويلسون، محمَّلًا بمبلغ كبير من المال، إلى محطات الخط يوم الخميس، وَفْقَ ما رتَّب مع رئيسه. لقد ذهبَ، كما لو كان سيئَ الحظ، وَفْقًا لوعده في البرقية، مستقلًّا القطارَ السريع في وقتِ ما بعدَ الظهر، وكما لو أن الطقس يعمل لصالح عملية الاحتيال، فقد استمرت شبورة خريفية كثيفة، تكاد تصل إلى حدِّ الضباب، طوال رحلته؛ على الرغم من أنني لا أعلم أنَّ الأحداث كانت ستتخذ أيَّ شكل أو لونٍ آخرَ لو كان الجو صَحْوًا والشمسُ ساطعة.

وعندما يقترب ويلسون من كل محطة، كان القطار يُبطئ من سرعته، وهو شيءٌ اعتاده ويلسون عندما كان يسافر على متنه لأداء مثلِ هذه المهمة، ومِن ثَمَّ أخرجَ رأسه من العربة التي خُصِّصت له فيها مقصورةٌ منفصلة. وبمجرد ظهوره، رحَّبَ به أحدُ الأصدقاء؛ أو على الأقل شخصٌ يعرف ملامحه جيدًا.

«مساء الخير، يا سيد ويلسون. لقد أتيتَ مبكرًا هذا الأسبوع. إنه لمن الجيد أن نحصل على المال في موعد مبكر. أتمنى أن تستمتع بإجازتك، يا سيد ويلسون.»

تُجسد هذه الجمل التمنياتِ السارةَ لأصدقائه القدامى، ومع اختلافات طفيفة، فإنها تؤكِّد رسالةَ جميع التحيات التي تلقاها وجوهرها.

ومع ترحيب كلِّ صديق بالكاتِب، يأخذ المالَ المخصَّص إلى محطة معينة، وخلال وقت قصير يُعاود القطارُ التحركَ مجددًا.

وفي بعض الحالات لا يتوقف القطارُ على الإطلاق. حيث يُلقى منه طردُ الأموال بالطريقة نفسها التي تُلقى بها أكياسُ البريد؛ وينتظر أحدُ الموظفين في يوم الخميس هذا، كما في أيام الجمعة السابقة، على رصيف المحطة لتلقِّي ذلك الطرد المنتظر.

في إحدى المحطات — وهي محطة كبيرة — أُصيبَ رجلٌ، كان هناك ينتظر بصبر استلامَ الأموال من السيد ويلسون، بخيبة أمل. أحدُ المعارف القدامى لمح كاتِبَ النقود بينما كان القطار يُبطئ من سرعته.

وبعد المصافحة السريعة، أعطى ويلسون المالَ إلى كاتِب المحطة.

قال ويلسون: «تفضَّل.»

قال الآخر مستفسِرًا: «ماذا؟»

«المالُ المخصَّص للأجور.»

«لكن اليوم هو الخميس.»

«أجل؛ فإجازتي ستبدأ غدًا.»

«أوه! حسنًا. في رأيي؛ سيانٌ هو الأمر بين اليوم والغد، لكن لماذا لم تقل إنك قادمٌ اليوم؟ فأنا لم أكن أنتظرك؛ لكن رأيتُك بالصدفة، ويا لها من مزحةٍ مروعة لو أنك اضطُرِرت إلى إعادة المال مرة أخرى إلى لندن!»

«لقد أرسلتُ إليكم برقيةً يوم الإثنين.»

«حقًّا! لم يُخبرني المديرُ بأيِّ شيء عنها. إنه معتادٌ على ذلك؛ لكن لا تَشغَل بالك، فأنا أتكتَّم على إهماله. إنه رجلٌ طيب.»

ثم تحرَّك القطار مرةً أخرى، وغادرَ اللصُّ الذي كان ينتظر الكاتِب خاليَ الوفاض.

وضاعت الأموالُ من محطة أخرى. وهذا يعني أنها لم تصل إلى الأيدي التي قصَدها محصِّلُ الشركة، ولا أولئك الذين وضَعوا خُطة لتحويلها إلى قنواتٍ أخرى. لكنها ذهبت في اتجاهٍ لم يُفكر فيه أيٌّ من الطرفين.

لم يتوقف القطارُ في تلك المحطة، وكان هناك رجلٌ ينتظر لتلقِّي المال، لكن تحركاته، كما ظنَّ، كانت ملحوظة. لقد كان حذرًا؛ وربما جبانًا بلا داعٍ. لقد ظنَّ أنه عندما اقتربَ القطار كان هناك رجلان يُراقبانه من مكتب مدير المحطة. ولذا استدارَ، ودخلَ المحطة، وسألَ عن موعد وصول القطار التالي الذي يتوقَّف عند تلك المحطة، ثم تسلَّل بعيدًا.

وصلَ ويلسون إلى تلك المحطة في الوقت المناسب، ورأى مَنْ ظنَّ أنه رجلٌ ينتظره. ولسوء الحظ، لم تقبض العجلات على القضبان بشكل صحيح ولم يبطئ القطار من سرعته، بسبب الرطوبة وانزلاقها، لذلك لم يكن لديه وقتٌ كافٍ ليتحقَّق من ملامح مَن ينتظره، على الرغم من أنَّ حالة الجو جعلت التحقُّق الدقيقَ ضروريًّا للغاية. ومِن ثَمَّ ظنَّ الموظف غيرُ الحذِر (وأعتقدُ أنني يجب، بعد كل البدلات العادلة، أن أقول مهملٌ للغاية)، أنه قد سلَّم الطرد إلى يد المسئول الذي ينتظره، لكن ما حدث هو أنَّ الطرد ظلَّ هناك دون أن يُلاحظه أحدٌ حتى الصباح.

ثم رآه رجلٌ عجوز وامرأة، من ركَّاب قطار السوق، فالتقطه الرجل، واصطحبه إلى المنزل، ولم يقل شيئًا، لكنه أدخله في حفرة داخل مدخنة المنزل لمدَّة طويلة؛ وبعد ذلك أبلغا قسَّ الرعية أنَّ عم والدة الزوج أرسل لهما هذا المال. كان مقدارَ إرثٍ مستحَق للزوجة، كما زعم. ورأى رجلُ الدين أنه من اللافت للنظر أن تصلَهما هذه الأموالُ على نحو مفاجئ، دون أن يعرف كلمةً واحدة عن أيِّ مراسلات سابقة مع المحامين؛ لكن القس لم يكن رجلًا متشككًا، ولم يطلب أيَّ استبانة أو توضيح.

كان المبلغ، على الرغم من أنه ليس كبيرًا (نحو ٥٣ جنيهًا فقط)، أكثر بكثير من الحصَّة الأسبوعية المعتادة للأجور في المحطة التي أُسقِط فيها. فهي لا تتجاوز ثمانية جنيهات في الأسبوع. إلا أنه، كان هناك مبلغٌ مستحَق من الشركة لتاجر ماشية، كتعويضٍ عن إتلاف غير منشور لجزءٍ من حمولته؛ وأُرسِلَ هذا المبلغ مع الأجور إلى مدير المحطة، مع توجيهاتٍ صارمة حول صيغة الإيصال الذي سيأخذه مقابلَ المبلغ.

نصحَ رجلُ الدين بأن تُوضَع الأموال تحت إشراف السادة سيل ودليفري، المحامين الموقَّرين في البلدة «إتش» المجاورة. وقد مهَّد الأمر لهؤلاء السادة بخطابٍ شرحَ فيه الموضوع مثلما شُرِحَ له؛ وقد أعفى ذلك التمهيدُ، مع تفسيره، من كلِّ التساؤلات حول مصدر الأموال، التي استثمروها بشكلٍ مربح للزوجين اللذين ليس لهما أولاد، واللذين لن يتمتَّعا بقرشٍ واحد منها.

كانت عمليتا التسليم الخاطئ اللتان ذكَرتُهما بمثابة الإخفاق الوحيد لخطة العصابة من أجل الحصول على حصة أسبوعٍ كامل من الأجور عبر كل محطات خطِّ السكة الحديدية لشركة جريت للسكك الحديدية.

وفي اليوم التالي (الجمعة) ذهبَ السيد ويلسون في رحلة إلى باريس خلال إجازته. كان عمَّال الشركة ينتظرونه كالمعتاد، باستثناء المحطة الوحيدة التي تسلَّمَت الأموال المخصَّصة لاستخدامها بالصدفة البحتة. لا داعي للقول إنه لا السيد ويلسون ولا الأموال وصلَت إلى أيٍّ من هذه الأماكن في لندن، كما كان متوقعًا. حتى وقتٍ متأخر من وقتِ ما بعد الظهر، وبعد أن أُغلِقَ مكتب كبير المحصلين، وعاد ذلك الموظف الكبير وجميع موظفيه إلى منازلهم، لم يُذكَر أيٌّ في هذا الشأن. ولم ينكشف الأمر حتى ذلك الحين؛ ولكن بمجرد أن أصبحت الحقيقةُ موضعَ ملاحظةٍ لدى الجميع، تطورَت لتُصبح تظلمًا عامًّا، وهدَّدت بالتحوُّل إلى فضيحة.

قال أحد الحمَّالين في إحدى المحطات البعيدة لحارس قطار عائدٍ إلى العاصمة: «لم نحصل على أجورنا، ومن غير المحتمل أن نحصل على أيِّ شيء حتى الغد.»

أجابه الحارس: «أوه، هُراء؛ لا تحاول فعل هذا معي، أفَهِمت. لن أُقرِضَك شلنًا آخرَ على عجل.» حيث كان قبل يومين قد أقرضَ هذا المبلغ الصغير للحمَّال الطيب.

قال الحمَّال: «أقسمُ لك إننا لم نحصل على أجورنا.» واستشهدَ بزملائه الحمَّالين كي يؤكدوا كلامه، وقد فعلوا.

قال الحارس: «سيصبح كلُّ شيء على ما يُرام غدًا، أظن أنَّ كبير المحصلين يُعاني من صداع ولم يذهب إلى المكتب، أو أنَّ ويلسون يعاني من آلام في البطن، أو شيء بسيط أو غيره. حسنًا، من حُسن حظي أن زوجتي العجوز غيرُ مفلسة؛ كي تتمكَّن من الذَّهاب إلى السوق، لو كان وضعُنا سيئًا في محطتنا مثلكم هنا؛ لكنَّا جميعًا في المأزق نفسه.»

كان الحمَّالون أقلَّ قدرةً على مواجهة الموقف بهدوءٍ. إذ إن جميع ترتيباتهم المنزلية والشخصية تعتمد على أجر الأسبوع الذي يحصلون عليه يوم الجمعة، وليس يومًا آخَر. ربما سُمح للزوجات بتأجيل شراء اللحم يوم الأحد وبقية مستلزمات الأسبوع الضرورية من المؤن، لكن كل رجل كان لديه ارتباطات لا يُمكن تأجيلُها بسهولة. إذ يتجمَّع الحمَّالون كلَّ ليلة جمعة في حانة لقضاء ساعةٍ من البهجة. هل يجب التضحيةُ بهذه المتعة، أو حتى تأجيلها؟ لقد كان هذا أكثرَ مما يُمكن أن تتحمَّله الطبيعة البشرية، التي جُبِل عليها حمَّالُ السكك الحديدية، دون احتجاجاتٍ مدويَّة وعميقة. هل يجب السخريةُ منهم والاستهزاء بهم، وإبلاغهم بأن الشركةَ مُعسِرة، وأنَّ أصحاب العمل لا يستطيعون سدادَ أجورهم؟ كان هذا سيئًا للغاية. أليس لديهم مشاعرُ مثل سكرتير، أو مدير عام، أو عضو مجلس إدارة، أو رئيس مجلس إدارة؟ كان هذا هو ما يُريدون معرفته. كانوا يقصدون أن يقولوا إنها واقعة مُخزية، وفاضحة، وفظيعة، وبغيضة، وتستحق صفاتٍ أقسى. هذا ليس فقط ما قصَدوا قوله، وإنما هو ما قالوه بالفعل.

وانتشرَت الأخبارُ خلال الليل صعودًا وهبوطًا عبر الخط، وجميع محطاته. وفي الصباح وصلَ الخبرُ إلى السكرتير وكبير المحصلين. كانت ملابساتُ القضية غريبةً للغاية، لدرجة أنَّ هؤلاء الموظَّفين الكبار شعروا بأنهم غيرُ مؤهلين للتعامُل معها. فسارعَ السكرتير إلى التشاور مع رئيس مجلس الإدارة، الذي استشار مرةً أخرى اثنَين من زملائه، تصادفَ حضورُهما، ونتيجةً لذلك، اتُّخِذت خطواتٌ معينة.

بادئ ذي بدءٍ، سُحِبَ شيكٌ على البنك الذي تتعامل معه الشركة بقيمة المبلغ المسروق منهم — بالضبط ٢٣١٠ جنيهات و١٨ شلنًا و٦ قروش — وأُرسِل كاتبٌ إلى جميع المحطات لإرضاء جميع العمَّال الساخطين، الذين تصاعدَت صيحاتُ غضبهم وهم يُطالبون بأجورهم، وتهدئتهم.

كان تصرُّف ويلسون موضوعَ دراسةٍ جادَّة. هل يُمكن أن يكون قد هرَب بالمال؟ كيف يُمكن أن تحدث عمليةُ السرقة دون مشاركته أو تواطُئِه؟ ماذا كانت صفاتُه الشخصية فيما سبق؟ ما هي التَّزكيات التي قدَّمها إلى الشركة عندما دخَل الخدمة لأول مرة، منذ خمسِ سنوات؟ كانت الإجابات عن الأسئلة الأخيرة مُرضِيةً. لكنَّ الأولى لم تكن كذلك. ردَّد كبيرُ المحصلين رأيًا عامًّا عندما أعلنَ أنه لا يعتقد أنَّ ويلسون قادرٌ على مثلِ هذه السرقة الحقيرة والضخمة. ومع ذلك، فإنَّ رئيس مجلس الإدارة والسكرتير لم يتفهَّما كيف يُمكن أن تُرتكَب هذه الجريمة دون تواطُئِه، أو، حسَبما اعتقدا، دون مشاركته الفعالة. وتساءَلا مِرارًا وتَكرارًا كيف يمكن أن يحدث ذلك رغم يقظته؟ وفتَّشوا الأوراق وفحصوا سجلَّ التزكيات الخاصة بالكتبة لمعرفة نوع التزكيات التي قدَّمها عند تقدُّمه للعمل موظَّفًا لديهم. وكانت جميعها تزكياتٍ جيدةً للغاية. فجميعها كانت تُشيد به وتعطي ضمانةً كافية لإخلاصه في أيِّ موقع ينضمُّ إليه. مرارًا وتَكرارًا، دفعَتهم هذه الاستفساراتُ إلى السؤال، كيف يُمكن أن يحدث ذلك دون تواطُئِه على الأقل؟ فأسلوبُ حياته وعاداته وأخلاقه ومحادثاته وكيفية تفكيره وأذواقه المعروفة كانت غيرَ متسِقة مع نظرية إجرامه. مرةً أخرى، أكَّد رئيس مجلس الإدارة أنه سمعَ عن الأوغاد الذين استطاعوا إخفاءَ حقيقتهم الإجرامية، ووجَدوا فُرصَهم لارتكابِ الجريمة، عبر تصنُّعِهم المستدام للفضيلة. وكان متأكدًا تمامًا من أن ذلك الرجل ويلسون شريكٌ في الجريمة، إن لم يكن أيضًا مُدبرًا لها.

ومِن ثَمَّ صدَرَت تعليماتٌ إلى محامي الشركة باتخاذ الخطوات التي قد يرَونها مناسبةً في القضية. وقد استشاروني في الأمر، وأخبرتهم بأن رأيي القاطع هو أن الوقائع يمكن أن تُفسَّر لصالح براءة الكاتِب مثلما يُمكن أن تُفسَّر لصالح إدانته. كانت هذه وجهة نظر في القضية لم تخطر ببالِ المحامين. حيث يتَّسم المحامون بنوعٍ من الغريزة الثانية، مما يجعلهم دائمًا يميلون إلى الجانب المظلِم من السلوك والأحداث. وهذا صحيحٌ بشكل خاصٍّ بالنسبة إلى المحامين الجنائيين. إذ لا يستطيع المحامي المعتاد الذي يترافع أمام المحكمة الجنائية المركزية فهمَ نظرية البراءة. وسيُصبح من الأسهل بكثيرٍ إقناعُ أيِّ قاضٍ أو هيئة محلَّفين ببراءة رجلٍ أو امرأة متهمين، أكثرَ من إقناع ذلك الرجل المتمكِّن البارع ذي الأنف المعقوف والصوت الرخيم، المعروف باسم «المحامي العام للصوص»، في مدينة لندن. ولكن ما الذي يُهمُّه بشأن إدانة موكليه أو براءتهم؟ لا شيء حرفيًّا. تحت التأثير اللطيف للأتعاب، سيتحدَّث ببلاغة (في رأيه ورأي شخص آخر) ويدَّعي بصوت عالٍ أن موكله غيرُ مذنب بالفعل، سواءٌ كان كذلك أم لا. إذا كان هناك أيُّ شيء يُفضِّله، كما يقول في كثير من الأحيان، فهو أن يحصل على اعترافٍ بارتكاب الجريمة من المتهم؛ لأنه يعلم حينَئذٍ أن موكله لا يخدعه، ويعتمد على معرفة الأسوأ، ويصبح متأكدًا من أنه لا توجد حقائقُ مخفيةٌ عنه، ويُمكنه أن يُحدِّد إلى أيِّ مدًى يُصبح من الآمن تنفيذُ انتقاده أو استجوابِه للشهود. ولم يكن محامو الشركة، وهذه هي الحقيقة، رجالًا يتَّسمون بهذا الطابَع بالضبط. ومع ذلك، فقد رأَوا في حياتهم المِهْنية الكثيرَ جدًّا من الفساد والشر في البشر، والقليلَ جدًّا من السِّمات العليا للطبيعة البشرية، لدرجة أنهم كانوا مستعدِّين دائمًا لقَبول الفرضيات السلبية في تفسير السلوك البشري، وأقل تقبلًا للنظريات الإيجابية بدلًا منها. كان من الصعب إقناعُهم بأن ويلسون ربما يكون بريئًا من المشاركة في السرقة. ومع ذلك، بعد مدَّة، وبعد دراسةٍ متأنِّية لجميع الأسباب التي قدَّمتُها ضد الاعتقال الفوري للكاتِب واتهامه، أقروا بأنه من الوارد أنه لم يُساعد المتآمرين واللصوص إلا من خلال إهماله الجسيم الذي يستحق الإدانة.

ومِن ثَمَّ تأكدتُ بسرعة من كيفية قضاء ويلسون لإجازته ومكانها. حيث تقرر أن أتبعه وأُراقبه. وإذا وافق على العودة معي عندما ألحق به، فلن أعتقله بشكلٍ قانوني. ومع ذلك، في حالة ما إذا رفض، أو أظهرَ أيَّ ممانعة للعودة، فقد صدرَت أوامرُ بالقبض عليه في باريس وتسليمه، ووُكِّلتْ هذه المهمة إلى أحد ضبَّاط التحقيق الذي كان يُرافقني، وكانت لديه تعليماتٌ بإطاعة توجيهاتي.

وهكذا، ذهبنا إلى باريس مسلَّحين بتلك الاحتياطات. ولم يكن من الصعبِ اكتشافُ الكاتِب المشتبَه به. لقد كانت واحدةً من أسهل المهامِّ التي كُلِّفتُ بها على الإطلاق. حيث اكتشفتُ الفندق الذي يُقيم فيه. لكنه لم يكن موجودًا عندما وصلنا إلى هناك، في وقتٍ مبكر إلى حدٍّ ما من المساء. فتركتُ رفيقي بمذكرة الاحتجاز في الفندق، بينما ذهبتُ في مهمتي، بحثًا عن السيد ويلسون.

كان لديَّ دافعٌ خاص لهذا الجزء من خُطتي الصغيرة. لم أكن أعتقد أنَّ الرجل سيعود أثناء غيابي عن الفندق. واعتقدتُ أنه من المرجَّح — حيث كنتُ أعرف طريقي في باريس، وعلى درايةٍ بمؤسَّسات عاصمة الحرية والانفتاح، وأعلم أنه يُمكنني الحصول على مساعدةٍ من الشرطة الفَرَنسية في بحثي، ولأسباب أخرى — أنه ينبغي أن أحضر السيد ويلسون إلى الفندق، وهو محتجَزٌ بالفعل، على الرغم من أنه ليس احتجازًا رسميًّا. وفي حالة عدم العثور عليه خارجَ الفندق، قررتُ العودة وحدي إلى الفندق في وقتٍ مناسب حتى أتمكنَ من مقابلته. كنتُ أرغب في أن أكون أولَ من يتحدث إليه، وإذا كان بإمكاني، أن أتحدث إليه في غياب زميلي الذي يرافقني في الرحلة، متسلحًا بسلطته.

قد يسألني القارئ: لماذا أردتَ أن تأخذ هذه المَيْزة من ضابط القانون؟ والحقيقة هي أنني لم أكن أريد أيَّ مَيزة من هذا القَبيل. فأنا الذي كنت سأمنحه مَيزة، ربما قد تخدم دورَه في سكوتلاند يارد، لو كان بإمكاني فعلُ ذلك بما أعتبره عادلًا تجاه المشتبَهِ به. لم أكن أرغب في أن تؤديَ ظروفُ القبض عليه إلى وجود تحاملٍ عليه من قِبل أصحاب عمله، وربما أمام محكمة جنائية. لقد أوحت لي خبرتي بالطبيعة البشرية والمجتمع أنَّ هذا الشاب، عندما يكون بعيدًا جدًّا عن مقرِّ عمله، وبعيدًا، كما يفترض، عن عيون أصحاب العمل وآذانهم، وقد أصبح مِزاجه رائقًا في العطلة، ربما يزور بعضَ الأماكن، التي يعتقد الكثير من أصحاب المبادئ السليمة أنها أماكنُ غيرُ لائقة، وأنا واحدٌ منهم، على الأقل في هذا الصدد. وحيث إنني أشعر أن وطأة الشك، قبل إثبات الذنب، تحمل بالفعل تحاملًا لا داعي له على الكاتِب، فقد اعتقدتُ أنه من الخطأ تركُ وطأة عنصر آخرَ (مهما كان عادلًا في حدِّ ذاته) تضاف إلى عبء التحامُل. ولو كنتُ في هذه المهمة، كما كنتُ غالبًا في مناسبات أخرى، مكلَّفًا بمراقبة التحرُّكات الترفيهية وتعقب الكاتِب في العطلة، حتى يتمكَّن أصحابُ العمل من خلال تقريري من تحديدِ ما إذا كان لائقًا لِشَغلِ وظيفته أم لا، لما كانت لديَّ أيُّ رغبة في عرض وقائع زيارة السيد ويلسون لباريس. لقد رأيتُ هنا أو اعتقدتُ أنني رأيت أنه من واجبي إعادته إلى لندن، حتى يتمكَّن من تقديم تفسيراته قدرَ استطاعته حول جريمةٍ معينة. وللقيام بذلك على نحو فعَّال، أشرتُ إلى أنه من المستحسَن، من أجل صالحه حقًّا، وأيضًا من أجل صالح العدالة، ألَّا يُواجه أي تحيُّز لم يُبرره سجلُّ التزكيات الخاصة بالكتَبة، وأصحاب عمله السابق، وسلوكه العام. كان هذا، كما آمُل أن يتفهَّم القارئ، مجردَ توفير لقدر بسيط من العدالة للمشتبَه به. واسمحوا لي أن أضيف، أنني تنبأتُ، بأنه إذا كان الكاتِب بريئًا بالفعل، ولكن أدى التحيز إلى القبض عليه دون وجهِ حق، فإن الجُناة الحقيقيِّين سيحصلون في هذه الحالة على تحذير فعَّالٍ كي يُدمروا أيَّ دليل بينما مطاردوهم يتبعون المسارَ الخطأ. وأيًّا كان ما قد يظنُّه القارئ، فأنا صريحٌ بما يكفي لأقولَ إنَّ اقتناعي لن يتغيَّر بأنني تصرفتُ حتى الآن بحِكمة وعدالة.

ومِن ثَمَّ عثرتُ على ويلسون، مرتديًا ملابسَ غريبةً بعض الشيء، في قاعة رقص بالعاصمة الفرنسية. حيث أشار إليه أحدُ حراس الأمن على أنه وافدٌ جديد. وقد تأكدتُ من هُويته بفحصِ صورته التي بحوزتي.

اقتربتُ منه وسألته: «هل أنت السيد ويلسون؟»

«أجل هذا هو اسمي.»

«أنا أعرفُ ذلك جيدًا. أريد أن أتكلم معك.»

«مَن أنت؟ ما هو اسمك؟ وماذا تريد مني؟»

«إذا تنحَّيتَ جانبًا إلى الطرَف الآخر من القاعة، وتركتَ هذه السيدة الشابة الجميلة هنا، فسوف أخبرك.»

«أنت …»

أوقفتُ ما تبقى من الجملة بنظرةٍ أرعبَته.

همستُ في أذنه أنني أريده، وإذا لم يُطِعْني، فسأطلب من الشرطة، الموجودة داخل وكر الحماقة والرذيلة هذا وخارجه، أن تُلقي القبض عليه، بتهمة سرقة أصحاب عمله، شركة السكك الحديدية، والاستيلاء على مبلغ ٢٣١٠ جنيهات و١٨ شلنًا و٦ قروش؛ ولكن إذا تبعني عائدًا إلى الفندق الذي يُقيم فيه، ومن هناك إلى لندن، فستُصبح لديه فرصةٌ لتقديم أيِّ توضيح يريده بشأن القضية.

ومِن ثَمَّ تركَ رفيقتَه الرقيقة، وانتقلنا معًا إلى الجهة الأخرى من القاعة، حيث تمكنَّا من إجراء محادثتنا دون أن يسمعَنا أحد؛ وأخبرتُه بمزيدٍ من التفصيل عن ملابَسات السرقة. وبطبيعة الحال أنكرَ أيَّ معرفة بالقضية، وقال إنه غيرُ قادر تمامًا على تفسير ذلك، وعلى الرغم من أنه كان من السهل رؤيةُ الرعب الناتج عن الاشتباه الواضح فيه، فقد أعربَ عن رغبته الشديدة في العودة معي إلى إنجلترا، وتقديم كلِّ المساعدة التي يستطيعها لكشف الجناة.

وقد شرحتُ له أسبابَ عدم السماح لصديقي الذي يحمل مذكرة الاحتجاز بالقبض على ويلسون. وكان ممتنًّا للغاية. وأخبرتُه أنه إذا تبعني للخارج، فسأسمح له أن يشقَّ طريقه، تحت مراقبتي، إلى أحد المقاهي الجيدة في بوليفارد، حيث يجب أن آخذَه إلى عهدتي. كان البائسُ الوضيع سعيدًا بما يكفي للاستفادة من هذا الامتياز.

ومِن ثَمَّ أرسلتُ برقيةً بنجاحي في المهمة تلك الليلة. واستقلَلْنا قطارًا مبكرًا في صباح اليوم التالي في طريق عودتنا إلى الوطن، ووصلنا إلى لندن في مساء اليوم نفسه في وقتٍ مناسب. ووافقَ السيد ويلسون على أن يُصبح ضيفي هذا المساء، فإما أن تجبرني ضغوطُ الواجب على تسليمه إلى الشرطة، أو يُصبح من دواعي سروري أن أعلن أنه لم يعد قيدَ الاعتقال.

في اليوم التالي لعودتي إلى لندن عُقِدَ مؤتمرٌ رسمي في المقر الرئيسي لشركة السكك الحديدية. حيث عقَد هذا المجلسُ الموقَّر، مجلس الإدارة، اجتماعًا خاصًّا على عجَل. وبحث الأمر برمَّته في ضوء الحقائق التي أصبح مسئولو الشركة ومستشاروها على علمٍ بها الآن. كما عُقِدت اجتماعاتٌ مصغَّرة وأخرى إضافية في غرفة الانتظار بيني وبين الشريك الرئيسي للشركة الذي اتخذ قرارَ التعيين المربح والمشرف لمحامي الشركة. كانت نتيجة المداولات مجتمعة، قرارًا بعدم مقاضاة الكاتِب المشتبَه به؛ لأنه لم يكن هناك أدلةٌ كافية في متناول اليد لتبرير الإدانة؛ وقرارًا آخر، بأنه نظرًا إلى وجود دليلٍ أكثرَ من كافٍ لتبرير الشكِّ القوي في تواطُئِه في القضية — حيث كان هناك دليلٌ وافٍ على الإهمال الجسيم — ومِن ثمَّ، يجب فصل الكاتِب ويلسون.

لكن لم تكن ضحيةٌ واحدة كافيةً للتعويض عن خَسارة الكثير من المال، فقد فُصِل الكاتِبان الآخران — أحدهما في مكتب كبير المحصلين والآخر في قسم البرقيات — من وظيفتَيهما.

كان الجزءُ غيرُ المرضي بشدةٍ في هذه القضية، في رأيي، هو التخلِّيَ عن أي بحث إضافي عن الجناة. ولم أحصل على أي تفسيراتٍ لشرح هذا القرار المفاجئ وغير المعتاد. وأظن أنَّ السبب هو عدمُ الرغبة في السماح بالإعلان، في جميع أنحاء العالم، عن علامةٍ واضحة مثل هذه على الضعف الإداريِّ في المقر الرئيسي، ومن المركز إلى أبعدِ نقطةٍ في محيط العمليات المالية للشركة. وقد عرَفتُ شركاتٍ مساهمةً وشركاتٍ تِجارية كبرى استسلمَت بهدوء أمام تعرُّضِها لخسائرَ أكبر بكثير من أجل سببٍ مماثل. فمثلًا عندما اكتشفَت إحدى أقدم وأغنى وأشهر شركات تداوُل السَّندات المالية في مدينة لندن أنَّ شريكها الرئيسيَّ بالوكالة قد أقرضَ مبلغًا هائلًا من المال إلى شركةٍ ناشئة من المتداولين بموجب سندات أوامر رسوٍّ مزوَّرة، قررَت عدم مقاضاة الأوغاد؛ لأنَّ السادة الذين وقَعوا ضحية الاحتيال، والذين يُدركون أهميتهم الخاصة، كانوا يخشَون أنه إذا أصبح من المعروف في لومبارد ستريت أنهم، وهم الشركة الكبرى، والعريقة، والثرية، والخبيرة، قد تعرَّضوا للاحتيال، فإنَّ كل السندات المالية المتداولة في أسواق لندن ستفقد مصداقيتها، وسيُصيب الذعرُ كلَّ المتداولين، وسيتورط مصرفيُّو العاصمة في مشكلات قد تزعج الكثيرَ منهم، وسيتعين على محافظ بنك إنجلترا حماية الأصول المالية للبنك، وخفض ائتماناته إلى الحدِّ الأدنى، وفي الواقع، أنه بسبب عملية احتيالٍ ضخمة واحدة سيعمُّ اليأس، أو الانهيار، أو الفوضى داخل دائرة يبلغ نصفُ قطرها نصفَ ميل حول البورصة الملكية (حيث يتجمَّع ملوك الذهب، وهم المحكَّمون والمتحكِّمون في التصنيع داخل جميع أنحاء إنجلترا وخارجها أيضًا). هل أُبالغ في القضية؟ دَعِ القارئ الذي يعتقد ذلك يفحص الأدلة التي قدَّمها السيد تشابمان، من الشركة الشهيرة أوفريند وجورني وشركاه، في محكمة الإفلاس بلندن، وفي المحكمة الجنائية المركزية، في الإجراءات المتخذة ضد السادة … أو، إذا لم يكن قادرًا على معرفة تفاصيلِ هذه القضية الشهيرة بسهولة، فَدَعْه يسأل أيَّ صديق يعرف تاريخ البنوك البريطانية والتِّجارة البريطانية خلال العشرين عامًا الماضية، وسيُزوده هذا الصديقُ بعددٍ مماثل على الأقل من الحالات المؤثرة للخداع والتزوير والاحتيال التي لم يُحقَّق فيها للأسف، أو حدث التحقيق والإدانة، وانتهى الأمر بالتغاضي عنها سرًّا، وهكذا أتخيَّل أن مثل هذه الأسباب هي التي دفعت مجلس إدارة شركة السكك الحديدية لاتخاذ قرارهم هذا في القضية الحاليَّة. كما أعتقد أن أيَّ رجل خبير، لديه خبرةٌ كبيرة في ممارسة الأعمال التِّجارية، لن يتجاهل احتمالية دافعي المقترح. لا أقول إن السبب المشارَ إليه هو السببُ العمَلي في هذه الحالة، لكنني أعتقد أنه كان كذلك، وأقول إنني أعتقد أنه كان؛ ويمكن للقارئ الذكيِّ أن يُكوِّن رأيه الخاصَّ حول صحة فرضيتي أو خطئها.

قد يكون من المقبول تقديمُ مزيدٍ من التوضيح (حيث يُسعدني كثيرًا القيامُ بذلك)، أنه على الرغم من أنني لم أتلقَّ تعليماتٍ بالقبض على مرتكبي هذه الجريمة، فقد طُلِبَ مني مساعدةُ مسئولي الشركة في صياغة الترتيبات التي تجعل من المستحيل تَكرار مثلِ هذه السرقة بنجاح. وبمساعدة مسئولي الشركة، فعلتُ ذلك، ويُسعدني أن أعرف أنه إذا وُضعت أيُّ خطط أخرى بعد ذلك بالوصفِ نفسِه من أجل السرقة، فلن يتمكَّن اللصوصُ من تنفيذها مطلقًا. ولا بد أن معرفة العوائق التي تحول دونَ تحقيق تلك الخُطط قد وجَّهَت إنذارًا إلى مَنْ تُسول له نفسه أن يتآمر على الشركة.

إنَّ القارئ الذي يرغب في رؤية العدالة الشاعرية تقتصُّ دون مماطلةٍ من كلِّ مذنب بمجرد ارتكاب الخطأ، قد يُصبح حزينًا عندما يعلم أنَّ عصابة من الأشرار أفلتَت من عقابها الذي تستحقُّه. لقد جَرَّبتُ هذا الشعور. لا أعتقدُ أنَّ ويلسون كان متورطًا في عملية الاحتيال، على الرغم من أنني لا أستطيع أن أقول إنَّ الدليل على إيماني مكتملٌ للغاية مثلما كنتُ أتمنى. ومع ذلك، فقد انهارَ تمامًا وبشكل ميئوسٍ منه، بسبب فصله من وظيفته في ظل ظروف من الشكِّ الشديد؛ وإذا كانت أسوأُ اتهاماته هي الإهمالَ (كما أفترض)، فقد كانت عقوبتُه شديدةَ القسوة. في المرة الأخيرة التي رأيته فيها (منذ أقل من ستةِ أشهر) كان يبيع علبًا صغيرة من الأدوات المكتبية في كشك في أحد الأسواق الشعبية في غرب لندن. قد يشعر القارئ الذي أشَرنا إليه مؤخرًا بقدرٍ مناسب من الارتياح بسبب الدليل الذي يُمكنني تقديمه بشأن تبرئة ساحة العدالة من تهمة عدم القِصاص من كل أفراد العصابة المشاركين في تلك المكيدة الكبرى. حيث قبضتُ على أربعة منهم بعد فترة قصيرة بسبب ارتكابهم جريمة أخرى، وتطوَّع أحدُهم بتوضيح حقائقِ تلك القضية (مثلما فعل كلُّ واحد من الأربعة)، على أمل أن ينالَ امتيازات ما يُسميه الأيرلنديون شاهدَ الإثبات. خلال هذه المحادثة (بعد أن أكمل اعترافه بالجريمة التي اتُّهِم بها آنذاك) أخبرني أنه تورط أيضًا في قضيتنا هذه مع جميع شركائه الحاليِّين في الجريمة، الذين كانوا آخِرَ مجموعة من أفراد العصابة أفلتَت من العدالة حتى ذلك التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤