الفصل الأول

الموطن

عندما نظر البشر من الفضاء إلى كوكب الأرض لأول مرة، توغَّلَت الوحدة الواضحة لهذا الكوكب الذي يدعمنا — وكل أشكال الحياة التي نعرفها — في وعينا الجمعي. ومن رحمِ هذا الاكتشاف، وُلد عِلم نظام الأرض الذي يُعَد مجالًا بحثيًّا يسعى إلى فهم الآلية التي تُسيِّر كوكبنا بصفته نظامًا كليًّا واحدًا. وهذا العلم ذو نطاقٍ واسع. فهو يغطي تاريخ الأرض الممتد عَبْر ٤٫٥ مليارات سنة، والكيفية التي يسير بها النظام الآن، والتنبؤات بحالته المستقبلية، ومصيره النهائي. ويتناول الكيفية التي خُلِق بها عالَم تَسنَّى للبشر أن يتطوَّروا فيه، والكيفية التي تَسنَّى بها لنوعنا البشري أن يُعيد تشكيل هذا العالم الآن، والشكل المُحتمَل الذي قد يصبح عليه مستقبلٌ مستدام للبشر ضِمن نظام الأرض. ومن ثَم، فإنَّ عِلم نظام الأرض مجالٌ متعدد التخصصات؛ إذ يجمع بين عناصر من علوم الجيولوجيا والأحياء والكيمياء والفيزياء والرياضيات. وفوق ذلك، فهو عِلمٌ حديث وتكاملي يُمثِّل جزءًا من توجُّهٍ فكري أوسع في القرن الحادي والعشرين نحو محاولة فهم الأنظمة المعقَّدة والتنبؤ بسلوكها. ويوضِّح هذا الفصل كيف ظهر عِلم نظام الأرض، ويقدِّم بعض مفاهيمه الأساسية.

علامات على الحياة

كثيرًا ما يكون من المفيد أن تنظر إلى الأشياء من زاويةٍ جديدة كي تراها بطريقةٍ مختلفة، وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ تفكيرَ شخصٍ واحد في كيفية اكتشاف الحياة على سطح المريخ هو الذي أعطانا منظورًا علميًّا جديدًا نرى كوكب الأرض من خلاله. كان ذلك في عام ١٩٦٥، وقد وظَّفَت وكالة ناسا جيمس لفلوك ضِمن البعثات التي صارت تُعرَف ببعثات الفايكينج إلى المريخ. وأدرك لفلوك، الذي كان مكلَّفًا بتصميم وسيلة لاكتشاف علامات على وجود حياة على سطح المريخ، أنَّ الذهاب إلى المريخ ليس ضروريًّا في الحقيقة. فالكائنات لكي تبقى على قيد الحياة لا بُد أن تستهلك مواد وتُحوِّلها كيميائيًّا؛ ومن ثَم تُفرز النُّفايات الناتجة في الوسط المحيط بها. ويُعَد الغِلاف الجوي الغازي المحيط بأي كوكب هو المصدرَ الطبيعي للمواد، وهو أيضًا مَكبُّ نُفايات الكوكب. ومن ثَم، استنتج أنه إذا وُجدَت حياة على كوكب المريخ، أو على غيره من الكواكب، فإنها بالضرورة ستظهر في تركيب غِلافه الجوي.

يُمكن استنتاج تركيب الغلاف الجوي المحيط بكواكب أخرى من على الأرض هنا، وذلك عن طريق النظر إلى طيف الإشعاع الذي يُبَث عَبْر الغِلاف الجوي؛ لأن الغازات المختلفة تمتص الإشعاع عند أطوالٍ موجية مختلفة. وبعد مدةٍ قصيرة من ذلك الاقتراح الذي اقترح فيه لفلوك اكتشاف وجود الحياة بتحليل الغِلاف الجوي، أظهرَت الأرصاد الأولى من التلسكوبات الأرضية أنَّ كوكب المريخ كان محاطًا بغلافٍ جوي يسوده غاز ثاني أكسيد الكربون، مثلما سيكون متوقَّعًا بالضبط في حالات عدم وجود حياة. وكذلك كان كوكب الزهرة. أمَّا كوكب الأرض، فلديه غِلافٌ جوي لافت، يحتوي على مزيجٍ كيميائي من غازات تتسم بنشاطٍ كيميائي عالٍ، وهذا المزيج يظل باقيًا بسبب وجود حياة (شكل ١-١).

يُعَد الأكسجين المكوِّن الغريب الرئيسي هنا؛ إذ يُشكِّل ما يزيد عن خُمس الغِلاف الجوي للأرض، ويُعَد ضروريًّا لوجودنا بصفتنا حيواناتٍ مُتحركةً مُفكرة، ولكن لولا عملية التمثيل الضوئي التي تُخلِّقه، لكان من الغازات النادرة جدًّا. هذا ويكون الأكسجين مختلطًا بغازاتٍ أخرى تتفاعل معه بنشاطٍ شديد، لدرجة أنهما يكونان على وشك الاحتراق معًا. ولعل التفسير الوحيد لارتفاع تركيز الميثان إلى حدٍّ لافت في الغِلاف الجوي الحالي أنه يُنتَج باستمرار بسبب وجود حياة. أمَّا ثاني أكسيد الكربون، فهو شحيح بدرجةٍ مُفاجئة في الغِلاف الجوي الحالي. وكما سنرى، فتفسير ذلك أيضًا ينطوي على وجود الحياة.

fig1
شكل ١-١: تركيبات الأغلفة الجوية المحيطة بالأرض والمريخ والزهرة (نسبة الخلط تكافئ نسبة الغاز في الغِلاف الجوي).

لغز الشمس الصغيرة الخافتة

بينما كان لفلوك يُفكر في كيفية اكتشاف وجود حياة على كوكبٍ ما، كان كارل ساجان في مَمر مُختبَر الدفع النفَّاث في مدينة باسادينا بولاية كاليفورنيا، يُفكر مُتحيِّرًا فيما أبقى كوكبَ الأرض دافئًا في المراحل المبكرة من عمره. يتمثل اللغز في أنَّ النجوم، التي تُعَد شمسنا واحدة منها، تحترق بسطوعٍ متزايد باطِّراد مع مرور الزمن. وعندما تكوَّنَت الأرض — مع بقية المجموعة الشمسية — منذ حوالَي ٤٫٥ مليارات سنة، كانت شدة إضاءة شمسنا أقل بحوالَي ٣٠ في المائة من قيمتها الحالية. ومع ثبات كل العوامل الأخرى، كان من المفترَض أن يؤدي ذلك إلى انخفاض حرارة سطح الأرض بمقدار ٣٣ درجةً مئوية، وهو ما يعني أنَّ المحيطات كانت ستتجمد، في ظل التركيب الحالي للغِلاف الجوي. وبدون وجود ماء سائل على السطح، لكان من المستحيل أن تكون الأرض مهد الحياة. غير أنَّ ظهور الصخور الرسوبية قبل ٣٫٨ مليارات سنة أظهرَ أنَّ بعض المواد حُلِّلَت من اليابسة بفعل التجوية، وترسَّبَت بعدئذٍ في قاع البحر، ونستنتج من ذلك أن الأرض كانت تحتوي بالفعل على محيطاتٍ سائلة في المراحل المبكرة من عمرها. لذا فمن المؤكَّد أنَّ شيئًا ما قد أبقى الأرض دافئةً في المراحل الأولى من عمرها.

اقترح ساجان أن هذا الشيء يمكن أن يكون غطاءً أكبر سُمكًا مكوَّنًا من غازاتٍ حابسة للحرارة في الغِلاف الجوي. كان المرشَّح الأرجح من وجهة نظره هو غاز الأمونيا، وأحد أسباب ذلك أنَّ الأمونيا إذا كان موجودًا في الغِلاف الجوي المبكر، فمن الممكن أن يكون قد تفاعل مع غازاتٍ أخرى ليكوِّن الأحماض الأمينية، التي تُعَد اللبنات الأساسية للحياة. والآن نظنُّ أنَّ الأرض حين كانت في مراحلها المبكرة، من المفترَض أنها كانت محاطة بغِلافٍ جوي يسوده ثاني أكسيد الكربون، مثل الغلافَين المحيطَين بكوكبَي المريخ والزهرة في الوقت الحاضر. ثم نُقل معظم ثاني أكسيد الكربون إلى القشرة الأرضية أثناء العصور الطويلة التي تلت ذلك. ولكن تلك النظرية تُثير لغزًا مختلفًا؛ إذ يتعين تفسير سبب إزالة ثاني أكسيد الكربون على نحوٍ ثابت، مع ازدياد شدة سطوع الشمس، وهو ما أتاح للكوكب أن يبقى باردًا.

فرضية جايا

عندما ناقَش لفلوك لغز الشمس الصغيرة الخافتة مع ساجان، خطرَت بباله فكرة؛ إذا كان الغِلاف الجوي ناتجًا في الأساس من وجود حياة، وكان تركيبه مُستقرًّا على مَرِّ فتراتٍ زمنية جيولوجية؛ فربما تُنظِّم الحياةُ تركيبَ الغلاف الجوي، وبذلك تُنظِّم مُناخ كوكب الأرض. كان مُقدَّرًا لهذه الفكرة أن تُصبح معروفة بعدئذٍ باسم فرضية جايا؛ ومفادُها أنَّ الحياة وبيئتها غير الحية على كوكب الأرض تكوِّنان نظامًا ذاتيَّ التنظيم يُبقي مُناخ الأرض وتركيب الغِلاف الجوي صالحَين لوجود حياة فيهما. طوَّر لفلوك فرضية جايا، التي سُميَت بهذا الاسم نسبةً إلى جايا إلهة الأرض في الأساطير الإغريقية، في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي مع لين مارجوليس، العالمة العظيمة الراحلة التي كانت متخصِّصة في علم الأحياء الدقيقة. تُمثِّل هذه الفرضية أول بيانٍ علمي يعتبر الأرض نظامًا كليًّا واحدًا وليس منظومات جزئية منفصلة. ولذا فمن وجهة نظري الشخصية على الأقل، تُمثِّل فرضية جايا بداية عِلم نظام الأرض.

بالطبع كان يوجد رُواد سابقون بدءوا يُفكِّرون في الأرض على أنها نظام، وبدءوا يُدرِكون دور الحياة في هذا النظام. فجيمس هَتون، الذي كان يُلقَّب بأبي الجيولوجيا، وصَف الأرض الصُّلبة في أواخر القرن الثامن عشر بأنها «ليست مجرد آلة بل كِيانٌ منظَّم؛ لأنها تملك القدرة على التجدد وتعويض ما تفقده.» وكذلك أكَّد فلاديمير فيرنادسكي في كتابه «الغلاف الحيوي»، الذي نُشر في عام ١٩٢٦، أنَّ الحياة هي القوة الجيولوجية الرئيسية التي تُشكِّل الأرض. وفي عام ١٩٥٨، اقترح عالِم المحيطات ألفريد ردفيلد آلياتٍ لِما أسماه «التحكم الحيوي في العوامل الكيميائية في البيئة». هذا مجرد غَيضٍ من فيض. ولكن رغم ذلك، لم يُدرِك أيُّ مُفكِّر سابق مدى وقوة اقتران الحياة ببيئتها الكوكبية في نطاق الكون ككلٍّ.

كتَب لفلوك ومارجوليس في البداية أنَّ تنظيم الغلاف الجوي يحدُث ﺑ «واسطة» المُحصِّلة الإجمالية لكل أشكال الحياة على الأرض «ومن أجلها». ومع أنهما لم يقصدا ذلك، يبدو أنَّ هذا يشير ضمنيًّا إلى نوع من التنظيم أو التحكم الغائي في بيئة الكوكب بفعلِ كائناتٍ غير واعية. غير أنَّ مثل هذا الفكر الغائي يقع خارج الحدود المسموح بها للعلم؛ ولذا بدأ جدال بخصوص فرضية جايا، وما زال هذا الجدال مستمرًّا حتى اليوم. وفي الحقيقة، فالفكرة التي كان لفلوك يحاول إيصالها هي أنَّ نظامًا معقَّدًا كالأرض يُمكن أن يُنظِّم ذاته تلقائيًّا، دون أي رؤية أو غايةٍ واعية.

التغذية المرتدة

كان لفلوك على دراية بنظرية الأنظمة، وأحد فروعها الذي يُسمى «السيبرنطيقا»، والذي يَدرُس أنظمة التحكم التنظيمي. ومن المفاهيم البالغة الأهمية في نظرية الأنظمة مفهوم التغذية المرتدة. يُشير ذلك إلى سلسلة من علاقة السبب والنتيجة تُشكِّل حلقةً مغلقة (شكل ١-٢). وهذا يعني أنَّ المعلومات المتعلقة بحالةِ جزء من نظام معيَّن في الماضي أو الحاضر يُمكن أن تؤثر في حالته الحالية أو المستقبلية. قد يكون من الصعب فهمُ مثل هذه الحلقات المغلقة من العلاقات السببية؛ لأننا تعلمنا أن نُفكِّر «من منظور خطي»؛ حيث يؤدي سبب معيَّن إلى نتيجة معيَّنة وقُضي الأمر. غير أنَّ لفلوك أدرك أنَّ نظامًا معقَّدًا كالأرض ينطوي حتمًا على العديد من حلقات التغذية المرتدة المغلقة التي تؤثر تأثيرًا عميقًا في سلوكه.
fig2
شكل ١-٢: تغذيةٌ مرتدة موجبة وتغذيةٌ مرتدة سالبة. توضِّح إشارة الزائد المرسومة على سهم متصل وجودَ علاقةٍ طردية (أي إنَّ مقدار يزداد كلما ازداد مقدار ). وتوضِّح إشارة الناقص على سهمٍ متقطع وجودَ علاقةٍ عكسية (أي إنَّ مقدار يقل كلما زاد مقدار ). يعطي أي عدد زوجي (بما في ذلك الصفر) من العلاقات العكسية المترابطة في حلقةٍ مغلقة تغذيةً مرتدة موجبة، فيما يعطي العدد الفردي تغذيةً مرتدة سالبة.

يوجد نوعان من التغذية المرتدة. التغذية المرتدة الموجبة، التي تُعَد حلقةً مُضخِّمة من الصلات السببية؛ بمعنى أنَّ إحداث تغيير أوَّلي في أي جزء من الحلقة سيُثير استجابةً تُضخِّم التغيير الأوَّلي. والنوع الثاني هو التغذية المرتدة السالبة التي تُعَد حلقة مُثبِّطة من الصلات السببية؛ بمعنى أنَّ إحداث تغيير أوَّلي في أي جزء من الحلقة سيُثير استجابةً تُثبِّط التغيير الأوَّلي. وبذلك فالتغذية المرتدة السالبة تميل إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه، في حين أنَّ التغذية المرتدة الموجبة تميل إلى دفع التغيير وتعزيزه. وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ المقصود بكلمتَي «موجبة» و«سالبة» ليس المعنى الذي ينطوي على الإيجابية والسلبية، بل المعنى الرياضي للفظَين. أي ليس شرطًا أن تكون «التغذية المرتدة الموجبة» مفيدة لنظام الأرض، ولا أن تكون «التغذية المرتدة السالبة» ضارَّة به. بل إنَّ المعنى الرياضي غالبًا ما يكون معاكسًا للمعنى اللفظي في الحقيقة.

افترض لفلوك ومارجوليس أنَّ المزيج بين حلقات التغذية المرتدة السالبة والموجبة في نظام الأرض يُنتج خاصية التنظيم الذاتي في المُجمَل؛ بمعنى أنَّ النظام إذا تعرَّض لتأثيرٍ ما، يميل إلى الارتداد إلى حالته الأصلية. وهذا يعني أنَّ التغذية المرتدة السالبة صاحبة اليد العُليا، على الأقل بالقرب من حالة النظام الابتدائية. ولكن إذا تعرَّض النظام لتغييرٍ أشد ممَّا يسمح له بالعودة إلى حالته الأصلية، فالنتيجة المنطقية أنه ربما يُدفَع إلى حالةٍ بديلة، بفعلِ التغذية المرتدة الموجبة. بعبارة أخرى، فالتنظيم الذاتي ليس ثابتًا، بل يمكن أن ينهار.

وهكذا يتمثَّل جزءٌ أساسي من علم نظام الأرض في تحديد حلقات التغذية المرتدة في نظام الأرض وفهم السلوك الذي يمكن أن تُحدِثه. ولكن عندما خطرَت ببال لفلوك فِكرتُه العظيمة، التي تطوَّرَت لاحقًا إلى فرضية جايا، لأول مرة، لم يكن لديه أي فكرة عن ماهية آليات التغذية المرتدة التي يمكن أن تُنظِّم المناخ وتركيب الغِلاف الجوي، بل لم يكن أي شخص آخر آنذاك لديه فكرة عن ذلك. صحيحٌ أنَّ لفلوك ومارجوليس بدآ خلال السبعينيات يفترضان آليات يمكن أن تكون مسئولةً عن تنظيم تركيب الغِلاف الجوي، لكن الاستقرار الطويل الأمد الذي يتسم به مناخ الأرض ظل يمثِّل لغزًا.

تنظيم المناخ

ثم اقترح جيمس ووكر وبي بي هايز وجيم كاستينج، في عام ١٩٨١، آلية تغذية مرتدة سالبة يُمكن أن تكون قد أحدثت تأثيرًا معاكسًا يعادل تأثير زيادة سطوع الشمس، وأبقت درجة حرارة الأرض منخفضة. ومن الأسس التي تقوم عليها فكرتهم عمليةٌ تُسمى تجوية صخور السيليكات، وهي تُزيل ثاني أكسيد الكربون من الغِلاف الجوي والمحيطات على مرِّ العصور الجيولوجية. وهذا يُوازِن تأثير ازدياد كمية ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي والمحيطات بفعلِ العمليات البركانية وعمليات تحويل الصخور، التي تُعيد تدوير الكربون القديم الذي ترسَّب في قاع البحار. وتتضمن عملية تجوية السيليكات تفاعُل ثاني أكسيد الكربون ومياه الأمطار مع صخور السيليكات، وهو ما يؤدي إلى إطلاق أيونات الكالسيوم والماغنسيوم والبيكربونات التي تترسب في المحيط، حيث تتحد معًا لتُكوِّن صخور الكربونات. وهذا ينقل ثاني أكسيد الكربون من الغِلاف الجوي إلى القشرة الأرضية.

ما أدركه ووكر وزملاؤه أنَّ تجوية صخور السيليكات، مثلها مثل معظم التفاعلات الكيميائية، تجري بوتيرة أسرع عندما تكون الظروف المحيطة بها أدفأ. ومن ثَم، فإذا كان يوجد شيء يعمل على تدفئة الأرض، مثل سطوع الشمس على نحوٍ مُطَّرد، فمن المفترَض أن يؤدي ذلك إلى تسريع عملية تجوية صخور السيليكات، وإزالة المزيد من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي. ولأنَّ ثاني أكسيد الكربون أحد غازات «الدفيئة» التي تحبس الحرارة، فمن المفترَض أن يميل ذلك إلى خفض الحرارة مجدَّدًا. تُمثِّل هذه العملية إحدى آليات التغذية المرتدة السالبة (شكل ١-٣)، وفي هذه الحالة تُعَد التغذية المرتدة «السالبة» نافعة بالتأكيد؛ لأنها تساعد في تحقيق استقرار مناخ الأرض.
fig3
شكل ١-٣: يبيِّن الشكل التغذية المرتدة السالبة الناتجة من تجوية السيليكات، فيما تظهر شدة الإضاءة الشمسية المتغيرة على أنها تأثيرٌ خارجي.

وصحيح أنَّ التغذية المرتدة الناتجة المتمثلة في تجوية السيليكات ليست مثالية — إذ لا يمكنها إبطال تأثير ازدياد سطوع الشمس تمامًا — لكنها تُخفِّف التغيرات المتوقَّعة في درجة حرارة الأرض. هذا وقد أضاف جيم لفلوك، مع أندرو واطسون ومايك وايتفيلد، بعد ذلك بوقتٍ قصير لمسةً بيولوجية إلى آلية التغذية المرتدة. وذلك بأنهم أشاروا إلى أنَّ النباتات ومجتمعات الكائنات المرتبطة بها التي تعيش في التربة تخلق بيئةَ تجويةٍ حمضية تُذيب الصخور بوتيرة أسرع، وبذلك تُسرِّع انخفاض كمية ثاني أكسيد الكربون. يؤدي هذا إلى انخفاض درجة حرارة الأرض، ولأن إنتاجية النبات تتأثر بالتغيرات في ثاني أكسيد الكربون ودرجة الحرارة، يمكن أن تنتج آلية تغذية مرتدة أقوى.

الأرض كرةٌ ثلجية

بينما كان علماء الكيمياء الجيولوجية يحاولون التوصل إلى العوامل التي يُمكن أن تحافظ على استقرار مُناخ الأرض على مرِّ أطول النطاقات الزمنية، كان واضعو نماذج المناخ الأوائل مهمومين بالعوامل التي ربما تُزعزع استقراره. ففي أواخر الستينيات، أدرك ميخائيل بوديكو وويليام سيلرز، كلٌّ على حدة، أن مناخ الأرض يمكن نظريًّا أن يُحوَّل إلى حالةٍ متجمِّدة؛ حيث يكون مغطًّى بالجليد من خط الاستواء إلى القطبَين. أصبحَت هذه الحالة البديلة تُعرف باسم «الأرض كرة ثلجية»؛ لأن الكوكب عندئذٍ سيبدو من الخارج ككرة ثلجية عملاقة. اللافت أنَّ نموذجَي بوديكو وسيلرز اقترحا أنَّ حالة الكرة الثلجية ستكون مستقرة، مثل حالة المُناخ الحالية بالضبط؛ لأنها سوف تمتص قدرًا أقل بكثير من الطاقة الشمسية، وتُوازِن ذلك بإصدار إشعاع حراري أقل، بفضل درجة حرارتها المنخفضة.

يتضمَّن الانتقال من الحالة المُناخية الحالية إلى الحالة التي تتحول فيها الأرض إلى كرة ثلجية آليةً قوية جدًّا من آليات التغذية المرتدة الموجبة، تُعرَف باسم «التغذية المرتدة الرابطة بين الجليد والبياض» (والبياض هو مقياس الانعكاس الانتشاري لأشعة الشمس) (شكل ١-٤). الفكرة الأساسية هي أنَّ الجليد والثلج يعكسان قَدْرًا كبيرًا من ضوء الشمس (أي يتسمان بدرجة بياض عالية). ومن ثَم، فإذا حدث شيءٌ يميل إلى خفض درجة حرارة الأرض — كانخفاض في محتوى الغلاف الجوي من ثاني أكسيد الكربون مثلًا — يؤدي هذا إلى توسيع مساحة الجليد والثلج؛ ومن ثَم إلى زيادة قَدْر ضوء الشمس المنعكس، وانخفاض درجة الحرارة على نحو أكبر. وفي هذه الحالة، فالتغذية المرتدة «الموجبة» ليست مفيدةً على الإطلاق بالتأكيد.
fig4
شكل ١-٤: التغذية المرتدة الموجبة التي تربط بين الجليد والبياض.

وككل آليات التغذية المرتدة الإيجابية، يمكن أن تؤدي التغذية المرتدة الرابطة بين الجليد ودرجة البياض إلى زيادة تغيُّر المناخ في أيٍّ من الاتجاهين؛ إما اتجاه انخفاض الحرارة (بازدياد رُقعة الغطاء الجليدي) وإما اتجاه زيادة الحرارة (بانحسار رُقعة الغطاء الجليدي). تجري هذه التغذية حاليًّا بالفعل على كوكب الأرض، بغطاءَيه الجليديَّين الصغيرَين نسبيًّا عند كل قُطب؛ حيث تميل إلى تضخيم التغيرات المناخية وخصوصًا بالقرب من القطبَين. غير أنَّ التغذية المرتدة تُصبح أقوى إذا انخفضَت حرارة الكوكب وزادت رُقعة الغطاء الجليدي. وذلك لأن الجليد ينتشر على السطح الكروي وصولًا إلى دوائر عرض أكثر انخفاضًا؛ حيث يوجد قَدْر أكبر من أشعة الشمس الواردة. وعندما يصل الجليد إلى دوائر العرض الأكثر انخفاضًا، يمكن أن يؤدي تغيرٌ معيَّن في درجة الحرارة إلى حدوث تغيرٍ تدريجي أكبر في مساحة الغطاء الجليدي، وزيادةٍ أكبر في انعكاس ضوء الشمس، وتضخيمٍ أكبر في تغيُّر درجة الحرارة بالتبعية.

إذا وصل حدُّ الغطاء الجليدي إلى دائرة العرض البالغة ٣٠ درجة تقريبًا — أي مدار السرطان أو الجدي — تُصبح التغذية المرتدة قوية جدًّا لدرجة أنها «تصير جامحة وخارجة عن السيطرة». بمعنى أنَّ أي انخفاض إضافي طفيف في درجة الحرارة سيؤدي إلى زيادة في رُقعة الغطاء الجليدي، وتبريدٍ شديد مُصاحب لذلك بدرجةٍ تضاهي شدة التبريد الأوَّلي (أو تفوقها). وهذا يُسفِر عن زيادةٍ أكبر من ذي قبلُ في الغطاء الجليدي، وهكذا دوالَيك، إلى أن تنغلق حافتا الغطاء الجليدي بعضهما على بعض عند خط الاستواء، فتُكوِّنان بذلك كرةً أرضية ثلجية.

تُعَد مثل هذه التغذية المرتدة الموجبة الجامحة نادرة جدًّا. فهي لا تحدُث إلا عندما يؤدي إكمال دورة واحدة عَبْر إحدى حلقات التغذية المرتدة الموجبة إلى تضخيم التغيير الأوَّلي بمقدار ١٠٠ في المائة أو أكثر. وهذا التضخيم الشديد لا يصل إليه سوى جزء صغير من الآليات، سواء في الأرض أو أي نظام آخر. بل إنَّ معظم آليات التغذية المرتدة الموجبة أضعف من أن يُسبِّب زيادةً جامحة — أي إنَّ إكمال دورة واحدة عَبْر حلقة التغذية المرتدة يُضخِّم التغيير الأوَّلي بمقدارٍ أقل بكثير من ١٠٠ في المائة — وبذلك يميل النظام إلى العودة إلى حالةٍ قريبة من حالته الأصلية.

الهروب من حالة الكرة الثلجية

في الوقت الذي صاغ فيه بوديكو وسيلرز نموذجَيهما، لم يكن أي شخص يتصور أنَّ الأرض تحوَّلَت بالفعل إلى كرةٍ ثلجية في الماضي؛ إذ كان من الصعب أنَّ يتخيل أحدٌ الكيفية التي استطاع الكوكب أن يهرب بها من تلك الحالة. ولكن توجد آلية هروب معقولة، وأول من اقترحها هو جو كيرشفينك في عام ١٩٩٢. تعتمد تلك الآلية على اختلال توازُن دورة الكربون الطويلة المدى. ففي ظل المناخ الشديد الجفاف والمُجمِّد الذي اتسمَت به الأرض عندما كانت كرةً ثلجية، مع اكتساء جزء كبير من القارَّات بالصفائح الجليدية، توقَّفَت عملية تجوية السيليكات التي تُزيل ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي. غير أنَّ إضافة ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي من البراكين وعمليات تحوُّل الصخور استمرَّت، بينما استطاعت البراكين أن تخترق الصفائح الجليدية الكبيرة على أسطح القارات بإذابتها. وهكذا في ظل إضافة مزيد من ثاني أكسيد الكربون وعدم إزالة أي قَدْر منه، فإنَّ تركيزه في الغِلاف الجوي ظل يتراكم ويتراكم ويتراكم.

ومع تراكُم ثاني أكسيد الكربون، حُبس المزيد من الكمية الضئيلة المتدفقة من الإشعاع الحراري المنبعث من الكوكب المتجمد وأُعيد إلى السطح؛ الأمر الذي أدى إلى ارتفاع درجة الحرارة. وبعد ذلك بملايين السنين، وصل ثاني أكسيد الكربون في النهاية إلى تركيزٍ كافٍ ليبدأ إذابة الجليد عند خط الاستواء وتعرية سطح المحيط الغامق. وعند حدوث ذلك، بدأَت التغذية المرتدة الرابطة بين الجليد ودرجة البياض مجدَّدًا، لكنَّ تأثيرها هذه المرة كان في الاتجاه المعاكس؛ إذ عزَّزَت ذوبان الجليد، في عمليةٍ جامحة مرةً أخرى.

وتقترح النماذج أنَّ الذوبان الجامح للكرة الأرضية الثلجية استمر على المنوال نفسه حتى وصل إلى حالةٍ أصبح فيها الكوكب خاليًا من الجليد. ومع وجود كمية هائلة من ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي، أصبح المُناخ حارًّا (ورطبًا) جدًّا، وصارت عملية تجوية السيليكات سريعةً جدًّا. وعلى مرِّ ملايين السنين التي تلت ذلك، أُزيل ثاني أكسيد الكربون الزائد الذي كان قد تراكَم في الغلاف الجوي؛ مما أسفر عن تبريد المُناخ مرةً أخرى. وبالطبع إذا لم يكن شيءٌ آخر قد تغيَّر، يُمكن أن يكون المُناخ قد برَد للدرجة التي جعلَت الأرض تتحول إلى كرةٍ ثلجية مرةً أخرى، وكرَّرَت الدورةُ نفسها. وهكذا سيظل النظام مذبذَبًا بين هذه الحالة وتلك، وهذا التذبذب عادةً ما يُميز سلوك النظام الذي تتفاعل فيه تغذيةٌ مرتدة موجبة سريعة — أي التغذية المرتدة الرابطة بين الجليد ودرجة البياض في هذه الحالة — مع تغذيةٍ مرتدة سالبة بطيئة؛ أي التغذية المرتدة المتمثلة في تجوية السيليكات في هذه الحالة. وكما سنرى (في الفصل الرابع)، يتضمَّن تاريخُ الأرض فترةً زمنية واحدة على الأقل يُعتقد أنها شهدَت تحوُّل الكوكب إلى كرةٍ ثلجية عدة مرات.

تغيُّر عالَمي

كان التفكير في تاريخ كوكبنا، مقارنةً بالكواكب المجاورة له، هو الذي بدأ عِلم نظام الأرض. ولكن بحلول ثمانينيات القرن الماضي، ظهر سببٌ آخر وجيه دفع العلماء إلى التفكير في كوكب الأرض على أنه نظام؛ إذ بدأ العالَم آنذاك يُدرك أنَّ الأنشطة البشرية كانت تُغيِّر نظام الأرض الموجود، على مدى نطاقٍ زمني أقصر بكثير. وأدرك العلماء الذين كانوا يَدرُسون استنزاف الأوزون من طبقة الستراتوسفير أنَّ فهم تلك التغيرات العالمية فهمًا صحيحًا يستلزم التركيز على التفاعلات بين المكوِّنات الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية في نظام الأرض.

وهنا أسهَم العمل الذي أنجزه لفلوك إسهامًا رئيسيًّا مرةً أخرى؛ لأنه، في عام ١٩٧١، كان أول من اكتشف التراكم العالمي لمركَّبات الكلوروفلوروكربون في الغلاف الجوي. وفي عام ١٩٧٤، استخدَم ماريو مولينا وشيروود رولاند نموذجًا من نماذج كيمياء الغِلاف الجوي للتنبؤ بأنَّ هذا التراكم لمركَّبات الكلوروفلوروكربون سيحفز فقدان جزء متواضع من الأوزون في طبقة الستراتوسفير (مقداره ٧ في المائة عَبْر فترة تتراوح ما بين خمسين ومائة سنة). ولكن اتضح لاحقًا أنَّ الواقع أشد دراميةً بكثير. ففي عام ١٩٨٥، نشر جو فارمان وزملاؤه رصْدَهم لثقب أوزون فوق القارة القطبية الجنوبية. ومن المفارقات أنَّ مطياف رسم خرائط الأوزون الكلي، الذي يحمله قمرٌ صناعي والذي أُطلِق في عام ١٩٧٩، كان يرى هذا الثقب بالفعل طوال كل هذا الوقت، لكن إحدى الخوارزميات الحاسوبية كانت ترفض البيانات المتطرفة مُعتبِرةً إياها أحد أخطاء الجهاز. أثار انفتاح ثقب الأوزون بحثًا علميًّا دءوبًا لفهم السبب الذي أدى إلى فقدان هذا القَدْر الهائل من الأوزون. واتضح أنَّ السبب يتعلق بتأثيراتٍ متبادَلة بين دوران الرياح في الغِلاف الجوي والمعروف بالدوامة القطبية، وتشكيل سُحُب الستراتوسفير القطبية الشديدة البرودة، وتفاعلات كيميائية على سطحها تُطلِق الكلور والبروم، والتدمير المُحفَّز للأوزون بفعل هذين الهالوجينَين. وبحلول عام ١٩٨٧، وقَّعَت ٥٩ دولةً على بروتوكول مونتريال، الذي يدعو إلى فرض قيود صارمة للحد من انبعاثات مركَّبات الكلوروفلوروكربون.

كان من الواضح أيضًا بحلول ثمانينيات القرن العشرين أنَّ تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي يتزايد، وهذا بفضل القياسات المستمرة المأخوذة من مرصد مونا لوا في هاواي، التي بدأها تشارلز ديفيد كيلينج في أواخر الخمسينيات. كان السبب الواضح في هذه الزيادة هو مصادر ثاني أكسيد الكربون البشرية المنشأ والناتجة من حرق الوقود الأحفوري وتغيُّر استخدام الأراضي، ولكن كان يوجد لغزٌ متمثِّل في أنَّ النسبة التي كانت تتراكم في الغِلاف الجوي سنويًّا من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون كانت تُساوي النصف تقريبًا فقط.

ومن أجل فهم ما كان يحدث، ابتكَر بعض الرُّوَّاد مثل بِرت بولين النماذجَ الأولى لدورة الكربون العالمية، موضِّحين بها أنَّ المحيطات واليابسة كانت تمتص جزءًا من ثاني أكسيد الكربون الذي يضيفه البشر. وفي الوقت نفسه، كانت عملية وضع نماذج للمُناخ قيد النضج أيضًا. ففي أواخر الستينيات من القرن الماضي، قدَّم سيوكورو مانابي (الشهير ﺑ «سوكي») وكيرك برايان أول نموذج عالمي نجح في الجمع بين عمليات دوران الغِلاف الجوي والمحيطات. واستخدم مانابي، بالتعاون مع ديك ويذرالد، النموذج لوضع التنبؤات الأولى لتغيُّر المناخ بسبب تراكُم ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي، والتي نُشرَت في عام ١٩٧٥. وكذلك جُمِع سِجل الأرصاد الخاص بارتفاع درجات حرارة الأرض العالمية لأول مرة خلال السبعينيات، بواسطة وحدة أبحاث المناخ في جامعة إيست أنجليا. وبعد سلسلة من السنوات التي اتسمَت بارتفاع درجة الحرارة في الثمانينيات، أدلى جيمس هانسن، المتخصص في إنشاء نماذج المُناخ، بشهادةٍ أمام الكونجرس الأمريكي في عام ١٩٨٨ مُنبهًا العالم إلى مشكلة الاحترار العالمي.

يُظهِر هذان النموذجان المشهوران كيف بدأ علماء الأرصاد وواضعو النماذج الحاسوبية يفهمون مسألة التغيير العالمي من منظور وجود تفاعلات بين أجزاء من نظام الأرض. ووسط كل هذا النشاط، جمَعَت وكالة ناسا مجموعةً من العلماء لإرساء إطار خارجي لهذا المجال الناشئ الخاص بعلم نظام الأرض. وفي تقريرٍ مؤثِّر في عام ١٩٨٦، قدَّموا «رؤية لنظام الأرض باعتباره مجموعةً من العمليات المتفاعلة التي تجري على نطاقٍ مكاني وزماني واسع، بدلًا من أن يكون مجموعةً من المكوِّنات المفردة». ويُعَد الإرث الأبقى الذي بقي من هذا التقرير مُخطَّطًا بيانيًّا يوضِّح التفاعلات بين مكوِّنات نظام الأرض (شكل ١-٥)، وأصبح يُعرف باسم «مخطط بريذرتون»؛ نسبةً إلى رئيس لجنة العلماء، فرانسيس بريذرتون. ما فعلَه مخطط بريذرتون هو أنه وضَع مجموعةً كاملة من الموضوعات العلمية — والمجتمعات العلمية المرتبطة بها — معًا على خريطةٍ واحدة. وبذلك أتاح رابطةً اجتماعية جعلَت مجموعةً واسعة من الباحثين تتجمَّع معًا تحت شعار «عِلم نظام الأرض» الدامج التكاملي.

تحديد نظام الأرض

عادةً ما تكون الخطوة الأولى في التفكير النُّظُمي هي أن تتعرَّف على نظامك وحدوده. وهذا يعني تحديدَ ما هو داخل النظام وما هو خارجه. وقد كان مخطط بريذرتون (شكل ١-٥) وتقرير ناسا المصاحب له من أولى المحاولات الرامية إلى فعل ذلك بالضبط فيما يتعلق بنظام الأرض.

يُعَد الحد الخارجي لنظام الأرض واضحًا؛ فهو قمة الغلاف الجوي. أي إنَّ الشمس تقع خارج نظام الأرض. صحيحٌ أنها توفِّر المصدر الرئيسي الذي يُمدُّنا بالطاقة، لكنها لا تتأثر بما يجري داخل نظام الأرض. هذا ويحدُث تبادُل لكمياتٍ كبيرة من الطاقة عَبْر الجزء العلوي من الغِلاف الجوي، ولكنَّ التبادل الذي يحدُث فيما بين المواد ضئيل نسبيًّا. فبعض ذرات الهيدروجين يُمكن أن تهرُب من جاذبية الأرض وتُفقَد في الفضاء، فيما يأتي إلينا من الفضاء بعضُ المواد النيزكية (حوالي ٤٤ طنًّا يوميًّا في المتوسط)، لكنَّ معدَّلات تدفُّق المواد بالغةُ الصِّغر مُقارنةً بمعدَّلات دوران المادة داخل نظام الأرض.

غير أنَّ الشيء الأقل وضوحًا هو ما إذا كان ينبغي وضعُ حدٍّ داخلي لنظام الأرض، والموضع الذي يُفترض وضع هذا الحد عنده. فمن منظور الفضاء الخارجي، من الطبيعي اعتبار كوكب الأرض كله نظامًا واحدًا. غير أنَّ الكتلة الكبيرة المتمثلة في الجزء الداخلي من كوكب الأرض لها مصدر حرارة خاص بها، يُغذيه مزيج من التحلل الإشعاعي والحرارة المتبقية من تراكُم الكوكب. وهذا المصدر الحراري الداخلي يحفِّز الحمل الحراري الخاص بطبقة الوشاح والنشاط البركاني والصفائح التكتونية عند السطح. ومن ثَم فهو يؤثِّر في نظام الأرض عند السطح ولكنه لا يتأثَّر به. لذا، فمن منظور التفكير النُّظُمي، يُعتبر «خارج» النظام، مع أنه يقع تحتنا (وتدفُّق الحديد السائل في لُب الأرض الخارجي يُنشئ مجالًا مغناطيسيًّا واقيًا من حولنا).

fig5
شكل ١-٥: «مخطط بريذرتون» للموائع والعمليات البيولوجية على الأرض.
إذَن، فأين يضع العلماء الحد الفاصل بين نظام سطح الأرض والجزء الداخلي من الأرض؟ من المفاجئ بعض الشيء أنَّ ما يُعَد جزءًا من نظام الأرض يعتمد على النطاق الزمني محل الاهتمام. فإذا كنا مهتمين بالتغير العالمي على مدار القرن المُقبِل، نستبعد تدوير الصفائح التكتونية للقشرة الأرضية من نماذجنا؛ لأنَّ هذا التدوير يحدُث على مدار ملايين عديدة من السنين. بل لا نحتاج إطلاقًا إلى أن نضع في حُسباننا تجوية القارات واستقرار الرواسب في المحيطات. وصحيحٌ أننا نضع في حُسباننا المواد الناجمة عن الانفجارات البركانية، ولكنها تُعامَل على أنها آتية من خارج النظام، وهذا بالضبط ما يُبيِّنه مخطط بريذرتون (شكل ١-٥).

وكلما كان النطاق الزمني الذي نَدرُسه أطول، كَثُرت العناصر التي نحتاج إلى إدراجها في نظام الأرض. لنضرب هنا مثلًا بأشد الحالات تطرفًا؛ فإذا كنا مهتمين، على سبيل المثال، بدراسة الآليات التي عادلَت تأثير ازدياد سطوع الشمس المطَّرد على امتداد مليارات السنين، نحتاج إلى أن نضع في حُسباننا إنشاء القارَّات وحركتها، وإعادة تدوير الكربون المترسِّب في القشرة الأرضية، والتغيرات الطويلة المدى في النشاط البركاني والنشاط التكتوني. وهذا يعني أنَّ المادة الموجودة في القشرة الأرضية تُصبح جزءًا من نظام الأرض، وعلينا أن ندرك أنَّ القشرة أيضًا تتبادل المواد مع وشاح الأرض.

كل هذا يجعل الحد السفلي لنظام الأرض ضبابيًّا بعض الشيء. ومن ثَم تُوجد نزعةٌ قوية إلى إدراج باطن الكوكب كله ضمن نظام الأرض، وهذا بالضبط ما فعَله تقرير عام ١٩٨٦ الصادر عن وكالة ناسا عند دراسة أطول النطاقات الزمنية. وكذلك يميل بعض العلماء الذين يَدرُسون كوكب الأرض إلى إبقاء الكوكب كله ضمن حدود نظام الأرض، وهذا مفهوم بالطبع. غير أنَّ العديد من علماء نظام الأرض يرون أنَّ كوكب الأرض مُكوَّن في الواقع من نظامين؛ نظام سطح الأرض الذي يدعم الحياة بمقوِّماتها الأساسية، وباطن الأرض الذي يُمثِّل الجزء الأكبر منها. وما يُركِّز عليه هذا الكتاب هو النظام المتعلق بالطبقة الرقيقة عند سطح الأرض، وخصائصه اللافتة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤