الفصل الثاني

إعادة التدوير

كيف يدعم نظام الأرض الحالي ازدهار الحياة بهذا الشكل؟ من البديهي أنَّ توافُر مُناخٍ صالح للحياة يُعَد أمرًا ضروريًّا، لكنَّ الكائنات الحية تحتاج أيضًا إلى طاقة ومجموعة من المواد لتبني أجسامها بها. وتُوفر الشمس كمياتٍ وفيرة من الطاقة، وهذه الطاقة تُحرك دورة الماء وتُغذي الغلاف الحيوي كذلك، عَبْر عملية التمثيل الضوئي. لكن نظام سطح الأرض يكاد يكون مغلقًا أمام استقبال المواد؛ إذ لا تصل إلى السطح سوى موادَّ بسيطة من باطن الأرض. ولذا فإنَّ تعزيز الغِلاف الحيوي العامر بالحياة يستلزم خضوع كل العناصر اللازمة للحياة لإعادة التدوير داخل نظام الأرض. وهذا بدوره يتطلب طاقة لتحويل المواد كيميائيًّا ولتحريكها فيزيائيًّا في مختلف أنحاء الكوكب. وتُسمَّى الدوراتُ الناتجة من انتقال المادة بين الغِلاف الحيوي والغِلاف الجوي والمحيطات والأراضي والقشرة الأرضية، الدورات البيوجيوكيميائية؛ لأنها تتضمَّن عملياتٍ بيولوجية (أي حيوية) وجيولوجية وكيميائية. ويستعرض هذا الفصل تلك الدورات التي تُحافظ على استدامة الحياة.

التدوير البيوجيوكيميائي

يتضح حجم التدوير الذي يجري ضِمن نظام الأرض بجلاء عند إجراء مقارنة بين تدفقات الغازات المُتبادَلة عند سطح الأرض في الوقت الحاضر وتدفقات الغازات التي تدخل نظام الأرض من عمليات جيولوجية (شكل ٢-١). ويبلغ حجمُ تبادل المواد بين سطح الأرض والغِلاف الجوي مقدارًا أكبر بعدة قيم أُسية من إضافات المواد الآتية من الأرض الصُّلبة (أي من سطح الأرض وباطنها). ولا يُمكن تفسير التدوير إلا بوجود حياة على كوكبنا. بل إنَّ عدة غازات من الغازات الأساسية التي يتم تبادلها لا تَنتُج إلا من الحياة.
fig6
شكل ٢-١: تدفقات الغازات المُتبادَلة عند سطح الأرض في الوقت الحاضر وتدفقاتها على كوكب الأرض في حالة عدم وجود حياة، وهي توضِّح تأثير الحياة العميق.

يُعَد هذا التبادل اللافت للغازات بين الغِلاف الجوي من ناحية والمحيطات وأسطح اليابسة من ناحيةٍ أخرى مجرَّد جزءٍ واحد من التدوير البيوجيوكيميائي. فبعض العناصر تنتقل انتقالًا فيزيائيًّا أيضًا من الأراضي إلى المحيطات في صورة موادَّ صُلبة أو ذائبة في محاليل، تحملها دورة الماء. وتُمثِّل دورة الماء الدورة الفيزيائية للماء عَبْر أنحاء الكوكب بين المحيطات (حيث يُخزَّن ٩٧ في المائة منها) والغِلاف الجوي والصفائح الجليدية والأنهار الجليدية والمياه العذبة والماء الجوفي.

ترتبط دورة الماء ارتباطًا وثيقًا بمُناخ الأرض؛ لأنها تُحفَّز بالطاقة، كما أنها تحمل معها الطاقة. فتغيير حالة الماء من الصُّلب إلى السائل أو من السائل إلى الغازي يتطلب طاقة، وهذه الطاقة في نظام المُناخ تأتي من الشمس. وكذلك فعندما يتكثف الماء ويتحول من الحالة الغازية إلى الحالة السائلة أو يتجمَّد متحولًا من الحالة السائلة إلى الصلبة، تشهد هذه العملية إطلاق طاقة. تُسبب حرارة الشمس تبخير الماء من المحيطات. وهذا مسئول عن إمداد الغِلاف الجوي بحوالي ٩٠ في المائة من بخار الماء الذي يوجد فيه، فيما تأتي نسبة اﻟ ١٠ في المائة المتبقية من عمليات التبخر التي تحدُث على اليابسة ومُسطحات المياه العذبة (وتَسامي الجليد والثلج إلى بخار مباشرةً). ويعمل التبخر على تبريد المحيطات وأسطح اليابسة، وعندما يتكثف الماء ليكوِّن قطيرات سُحُب وأمطارًا، أو يتجمد ليكوِّن ثلجًا، يعمل ذلك على تسخين الغِلاف الجوي. وهذا التسخين بدوره يُسبب صعود الكُتل الهوائية إلى الأعلى بفعل تيارات الحَمل الحراري. ويعمل هطول الأمطار والثلج على إعادة الماء إلى المحيطات واليابسة، حيث يُمكن أن يتدفق الماء عَبْر المياه العذبة إلى المحيطات. وحيثما يظل الثلج المتساقط متجمِّدًا طوال عام كامل، يمكن أن تبدأ صفيحةٌ جليدية في النمو.

fig7
شكل ٢-٢: التدوير البيوجيوكيميائي عند سطح الأرض وعَبْر دورة الصخور، يُظهر عمليات وخزَّانات رئيسية.
ترتبط دورة الماء ارتباطًا وثيقًا بدوراتٍ بيوجيوكيميائية أخرى (شكل ٢-٢)؛ فالعديد من المركَّبات قابل للذوبان في الماء، وبعضها يتفاعل مع الماء. وهذا يجعل المحيط خزانًا رئيسيًّا لعدة عناصرَ أساسية. وهذا يعني أيضًا أنَّ مياه الأمطار يُمكن أن تُزيل الغازات القابلة للذوبان وأيضًا جُسيمات الهَباء الجوي من الغلاف الجوي. وعندما تصل مياه الأمطار إلى الأرض، يُمكن للمحلول الناتج أن يُجوِّي الصخور تجويةً كيميائية. وتُسهم تجوية السيليكات بدورها في إبقاء المناخ في حالة يكون فيها الماء سائلًا. ويعمل هطول الأمطار والانجراف الجليدي على تعرية الأرض فيزيائيًّا كذلك. ثم تُنقَل الجُسيمات الدقيقة والمواد الذائبة الناتجة من التعرية والتجوية الكيميائية بواسطة المياه العذبة من اليابسة إلى المحيطات. وفور الوصول إلى المحيطات، يُمكن تحويل العناصر الأخف إلى صورةٍ غازية وإعادتها إلى الغلاف الجوي؛ حيث يُمكن أن يعود جزءٌ منها إلى الأرض (أمَّا العناصر الأثقل، فيستحيل أن تتحول إلى غازات). تترسب المواد الصُّلبة من المحيط وتقبع ضمن رواسبه. غير أنَّ جزءًا كبيرًا مما يترسَّب في قاع المحيط تُعيد الكائنات الحية تدويرَه مرةً أخرى وتُعيده إلى عمود الماء.
وعلى مدار نطاقاتٍ زمنية جيولوجية أطول، يُعاد تدوير المواد عَبْر القشرة الأرضية أيضًا (شكل ٢-٢)؛ فبعض تدفقات المواد الطفيفة تُفقَد مؤقتًا من نظام سطح الأرض في صخورٍ رسوبية جديدة تتشكل في قاع البحر، لكنَّ معظم هذه المواد تُعاد في النهاية إلى السطح بواسطة دورة الصخور. ويُمكِن أن تظهر الرواسب الموجودة على الرفوف القارية لاحقًا بانخفاض مستوى سطح البحر أو ارتفاع القشرة القارية. وفي النهاية تتعرَّض رواسب المحيطات للاندساس عند الحواف القارِّية، حيث تخضع للتسخين والضغط — في عملية تُعرَف بالتحول — فتُطلِق المواد المتطايرة التي تحتويها مُعيدةً إياها مرةً أخرى إلى الغِلاف الجوي في صورة غازات، عَبْر البراكين أحيانًا. تعود الصخور المتحولة إلى السطح مرةً أخرى عن طريق حركة الصفائح التكتونية. وهكذا تُوفِّر الصخور الرسوبية المُعاد تدويرُها والصخور المتحولة والصخور النارية (المتكونة من طبقة الوشاح) مصدرًا جديدًا يُمِد نظام سطح الأرض بموادَّ يمكن إطلاقها عَبْر عملية التجوية الكيميائية.
وصحيحٌ أنَّ كل عنصرٍ رئيسي مهم للحياة له دورةٌ بيوجيوكيميائية عالمية خاصة به. ولكن يُمكن تصوُّر كل دورة بيوجيوكيميائية على أنها سلسلة خزانات (أو «صناديق») من مواد متصلة بتدفقات (أو جريانات) من المواد فيما بينها. سأعبِّر هنا عن أحجام الخزانات بالمول (الذي يُعَد مقياسًا لعدد الذرات أو الجزيئات التي تحويها) بدلًا من الكتلة (لأنَّ الكتلة الذرية تختلف باختلاف العناصر)، فيما سأعبِّر عن التدفقات بين الخزانات بوحدة المول لكل سنة. عندما تكون الدورة البيوجيوكيميائية في حالةٍ مستقرة، يجب أن تكون التدفقات التي تدخل كل خزان مساويةً للتدفقات التي تخرج منه. يسمح لنا هذا بتحديد كمياتٍ إضافية مفيدة. إذ تجدُر الإشارة هنا على وجه التحديد إلى أنَّ كمية المادة في الخزان مقسومةً على التدفق المتبادَل مع خزانٍ آخر تُعطي متوسط «زمن مكوث» المواد في ذلك الخزان فيما يتعلق بعملية التبادل المختارة. فعلى سبيل المثال، يُوجد حوالي ٧ × ١٠١٦ مول من ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي حاليًّا، وتستخدم عملية التمثيل الضوئي حوالي ٩ × ١٠١٥ مول من ثاني أكسيد الكربون سنويًّا، وهو ما يمنح كل جُزيء من ثاني أكسيد الكربون زمنَ مكوث في الغِلاف الجوي مقداره نحوُ ثماني سنوات قبل أن يُستخدم، في مكانٍ ما في العالم، بواسطة عملية التمثيل الضوئي.

دورة الأكسجين

تُعَد عملية التمثيل الضوئي بمثابة الباب الذي تدخل منه الطاقة الشمسية للغلاف الحيوي وتبدأ تحويل المواد كيميائيًّا. لذا من المُرجَّح أن يكون اكتشاف التدوير البيوجيوكيميائي قد بدأ مع التجارب التي كان جوزيف بريستلي يُجريها على النباتات (في عام ١٧٧٢)؛ فبريستلي أدرك أنَّ النباتات تتبادل المواد مع الغِلاف الجوي والتربة أيضًا. وهذا يعني بالمصطلحات العصرية أنَّ النباتات تحصُل على كربونها من ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغِلاف الجوي، وتُضيف الإلكترونات التي تُستمَد من جزيئات الماء إلى الكربون، ثم تُطلِق الأكسجين إلى الغِلاف الجوي بصفته من المواد الناتجة. تُكتب الصيغة الكيميائية المُبسَّطة للتفاعل الكلي على النحو الآتي:

ومع أنَّ النباتات تُهيمِن على عملية التمثيل الضوئي على اليابسة، فإنَّ أولى الكائنات الحية التي أدَّت عملية التمثيل الضوئي كانت الزراقم، تلَتْها حفيداتها الأكثر تعقيدًا، الطحالب، وما زالت هذه الكائنات تُهيمِن على التمثيل الضوئي في المحيطات والمياه العذبة. وإذا أردنا التعبير عن ذلك بمصطلحات الطاقة، يُمكن القول إنَّ التمثيل الضوئي العالمي يمتص في الوقت الحاضر حوالي ١٣٠ تيرا واط (حيث تساوي التيرا واط الواحدة ١٠١٢ واط) من الطاقة الشمسية في صورةٍ كيميائية؛ حوالي نصفها في المحيط ونصفها تقريبًا على اليابسة. ويستهلك هذا تدفقًا هائلًا من ثاني أكسيد الكربون من الغِلاف الجوي، ويُطلِق كميةً مكافئة من غاز الأكسجين الجزيئي ( ) (شكل ٢-١).
يتسم الأكسجين بأنه مادةٌ عالية النشاط الكيميائي، وله ميلٌ قوي إلى أن يسلبَ الإلكترونات من العناصر والمركَّبات الأخرى في عملية تُعرَف باسم «الأكسدة». وبذلك يُقال إنَّ المواد التي سُلبَت إلكتروناتها، عَبْر التفاعل مع الأكسجين على سبيل المثال، «مؤكسَدة» (بينما تُعرَف العملية المضادة التي تتضمن إضافة إلكترونات باسم «الاختزال»، ويقال إنَّ المواد التي تحتوي على فائض من الإلكترونات «مُختزَلة»). ما يحدُث في عملية التمثيل الضوئي يحدُث عكسه في عملية التنفس الهوائي — أي أكسدة المادة العضوية بالأكسجين ( ) — حيث تُطلَق الطاقة الكيميائية التي استُخلصَت من ضوء الشمس ويُعاد ثاني أكسيد الكربون (الكربون المؤكسَد) إلى الغلاف الجوي. وتؤدي الكائناتُ الحية التي تُمارِس التمثيل الضوئي عملية التنفس الهوائي لتغذية نموها، وكذلك الحيواناتُ والفطريات ومجموعةٌ كاملة من الميكروبات.
غير أنَّ بعض الكربون العضوي الناتج من عملية التمثيل الضوئي يُفلِت من عملية التنفس الهوائي ويصل إلى أماكنَ خالية من الأكسجين، مثل رواسب المحيطات أو أمعاء الحيوانات. ويُمكن تحويله هناك إلى ثاني أكسيد الكربون مجدَّدًا بفعل البكتيريا باستخدام النترات أو الكبريتات أو أكاسيد الحديد أو غيرها من المواد المؤكسدة. وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ الأكسجين الموجود في هذه المركَّبات مُستمَد أصلًا من عملية التمثيل الضوئي، وبذلك تبقى النتيجة النهائية موازِنة لعملية التمثيل الضوئي، لكنَّ التفاعلات تُنتج طاقةً أقل مما يُنتجها التنفس الهوائي. وإذا نفدَت المواد المؤكسدة، يمكن لمجموعةٍ خاصة من الكائنات الحية تُسمى العتائق أن تُحوِّل الكربون العضوي إلى غاز الميثان وثاني أكسيد الكربون، مُنتِجةً طاقةً أقل. ثم يتفاعل الميثان في النهاية مع الأكسجين الموجود في الغلاف الجوي (أو المواد المؤكسَدة الأخرى)، فيُوازِن تأثير التمثيل الضوئي مجددًا. وتُسفِر كل مسارات تحلُّل الكربون العضوي مُجتمِعةً عن إنتاجِ دفقٍ من ثاني أكسيد الكربون يعود إلى الغِلاف الجوي، ويكاد يوازِن الكمية التي يتم استهلاكها في عملية التمثيل الضوئي (شكل ٢-١).
يُعَد نظام إعادة التدوير عند سطح الأرض شبه مثالي، لكنَّ جزءًا بالغ الصغر (مقداره نحو ٠٫١ في المائة) من الكربون العضوي المُصنَّع في عملية التمثيل الضوئي يُفلِت من إعادة التدوير ويُطمر في صخورٍ رسوبية جديدة. وهذا الكربون العضوي المطمور يترك كميةً مكافئة من غاز الأكسجين في الغِلاف الجوي. ومن ثَم، فإنَّ طَمْر الكربون العضوي يُمثِّل المصدر الطويل الأمد للأكسجين في الغِلاف الجوي. يوازَن ذلك بتفاعُل الأكسجين الموجود في الغِلاف الجوي مع المواد العضوية القديمة التي تنكشف في الصخور الرسوبية الموجودة في القارات؛ وهي عمليةٌ تُعرف باسم التجوية المؤكسِدة. يُوجد ٣٫٨ × ١٠١٩ مول من الأكسجين الجزيئي في الغلاف الجوي في الوقت الحاضر، وتستهلك التجوية المؤكسِدة حوالي ١ × ١٠١٣ مول من الأكسجين الجزيئي سنويًّا، وهو ما يمنح الأكسجين زمنَ مكوثٍ مقداره نحو أربعة ملايين سنة إلى أن يُستهلك بواسطة التجوية المؤكسِدة. وهذا يجعل دورة الأكسجين (شكل ٢-٣) إحدى الدورات الممتدة على نطاقاتٍ زمنية جيولوجية.

على مدى نطاقاتٍ زمنية أطول وأطول، يُتبادَل بعض الكربون العضوي والأكسجين العضوي مع وشاح الأرض. إذ يُزال الأكسجين بالتفاعل مع غازاتٍ بركانية مُختزَلة قادمة من طبقة الوشاح، ويُضاف كربون عضوي قديم إلى هذه الطبقة عند اندساس الصفائح التكتونية. ومن المرجَّح أنَّ تدفُّق المادة المؤكسَدة إلى طبقة الوشاح يتجاوز تدفُّق المواد المُختزَلة، ولكن منطقة الوشاح شديدةُ الضخامة ومُحصَّنة للغاية لدرجة أنَّ حالة الأكسدة الخاصة بها لم تتغير كثيرًا على مدار تاريخ الأرض. في المقابل، تحتوي قشرة الأرض على كميةٍ أكبر بكثير من الأكسجين المحبوس في الصخور في صورة حديد مؤكسَد وكبريت مؤكسَد، من كمية الكربون العضوي التي تحويها. يُخبرنا هذا بوجود مصدر أمدَّ القشرة الأرضية إمدادًا صافيًا بالأكسجين على مدار تاريخ الأرض، وهذا المصدر ناتج حتمًا من فقدان الهيدروجين في الفضاء. وتُعَد سلسلة التفاعلات الكاملة معقَّدة، لكنها تبدأ بتفكيك الماء في عملية التمثيل الضوئي، وتصل في النهاية إلى فقدان الهيدروجين الموجود في الماء بتصعيده إلى الفضاء وترك الأكسجين:

fig8
شكل ٢-٣: دورة الأكسجين، شاملةً أحجام التدفقات والخزانات.

وصحيح أنَّ كمية الهيدروجين التي تهرب من غِلاف الأرض الجوي في الوقت الحاضر ضئيلة جدًّا؛ مما يجعل هذا مصدرًا ضعيفًا للأكسجين، لكنَّ الوضع لم يكن هكذا دائمًا (كما سنرى في الفصل الرابع).

دورة الكربون

تُعَد دورة الأكسجين بسيطةً نسبيًّا؛ لأنَّ خزان الأكسجين في الغلاف الجوي ضخم جدًّا لدرجة أنه يجعل خزانات الكربون العضوي في الغطاء النباتي والتربة والمحيطات تبدو ضئيلةً بالمقارنة به. ومن ثَم، لا يمكن أن يَنفَد الأكسجين بالتنفس أو احتراق المواد العضوية. حتى احتراق جميع احتياطيات الوقود الأحفوري المعروفة لا يُمكنه سوى أن يصنع مجرد ثغرة صغيرة في خزان الأكسجين الجوي الأكبر بكثير (يُوجد نحوُ ٤ × ١٠١٧ مول من كربون الوقود الأحفوري، وهذا لا يُمثِّل إلا حوالي ١ في المائة فقط من خزان الأكسجين الجزيئي).
غير أنَّ ثاني أكسيد الكربون غازٌ أندر بكثير من الأكسجين؛ فكل جُزيء من ثاني أكسيد الكربون كان يقابله ٧٥٠ جُزيئًا من الأكسجين الجُزيئي في الغِلاف الجوي قبل الثورة الصناعية. ومن ثَم، فإن التدفقات نفسها يمكن أن تُحدِث تأثيرًا أكبر بكثير على ثاني أكسيد الكربون مما تُحدِثه على الأكسجين. وعلى عكس الأكسجين، فإنَّ الغِلاف الجوي ليس الخزان السطحي الرئيسي للكربون. فكمية الكربون في الغطاء النباتي العالمي مُقارِبة لتلك الموجودة في الغِلاف الجوي، وكمية الكربون في التُّرَب (بما فيها التربة الصقيعية) تُساوي تلك الموجودة في الغِلاف الجوي أربع مرات تقريبًا. وحتى هذه الخزانات تبدو ضئيلةً أمام المحيط، الذي يُخزن كمية من الكربون تُساوي تلك الموجودة في الغلاف الجوي خمسًا وأربعين مرة؛ وذلك لأنَّ ثاني أكسيد الكربون يتفاعل مع مياه البحر. لذا يجب النظر إلى التدفقات التبادلية بين الأرض والمحيط على أنها من المحتمل أن تكون المتحكمة في ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغِلاف الجوي بشكلٍ مؤقت (شكل ٢-٤).
fig9
شكل ٢-٤: دورة الكربون؛ تُظهِر كلًّا من التدوير القصير الأمد عند السطح (الأسهم الكبيرة) والتبادل الطويل الأمد مع القشرة (الأسهم الأصغر)، مع التدفقات الرئيسية البشرية المنشأ (الأسهم المتقطعة).

ويُعتبر تبادُل الكربون بين الغِلاف الجوي واليابسة في جزء كبير منه قائمًا على العمليات الحيوية؛ إذ يتضمَّن امتصاص الكربون في عملية التمثيل الضوئي وإطلاقه من عملية التنفس الهوائي (وكذلك من خلال الحرائق، بكميةٍ أقل). أمَّا تبادُل الكربون بين الغِلاف الجوي والمحيطات، فيتضمَّن مزيجًا من العمليات الكيميائية والفيزيائية والحيوية. إذ يجري تبادُل ثاني أكسيد الكربون بين أسطح المحيطات والغِلاف الجوي باستمرار. وبينما تنتقل المياه من أسطح المحيطات انتقالًا فيزيائيًّا من دوائرِ عرضٍ منخفِضة إلى أخرى مرتفِعة، تبرُد، وهو ما يجعلها تمتص مزيدًا من ثاني أكسيد الكربون. وفي بعض المناطق الواقعة عند دوائر عرضٍ مرتفعة — كشمال المحيط الأطلسي والمحيط الجنوبي في الوقت الحاضر — تغوص هذه المياه السطحية إلى أعماقٍ كبيرة، آخذةً معها فائض ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يُنتِج «مِضخة ذوبانية» تنقل الكربون إلى أعماق المحيطات. وتُوجد أيضًا «مضخة حيوية» للكربون، وهذه تتمثل في أنَّ الكائنات الحية الموجودة في سطح المحيط تمتص ثاني أكسيد الكربون، وتغوص أجسادها بعد الموت (أو تغوص فضلات الكائنات الحية التي أكلَتها) ناقلةً الكربون إلى الأعماق. وهكذا فإنَّ مضختَي الكربون كلتَيهما تُنتِجان فائضًا من الكربون في أعماق المحيطات وتُحدِثان نقصًا في كميته في الغلاف الجوي وأسطح المحيطات.

بالإضافة إلى أنَّ بعض الكائنات البحرية مكوَّنة من الكربون العضوي، فإنها تُرسِّب كربونات الكالسيوم والماغنسيوم. ومن هذه الكائنات عوالقُ نباتية بالغة الصِّغر تطفو في سطح المحيط، وكائناتٌ حية دقيقة قاعية (تعيش في قاع البحر)، والشعاب المرجانية. تُفرِط العوالق النباتية في إنتاج الكربونات، ولكن لأن أصدافها المصنوعة من الكربونات تغوص في أعماق المحيط، فهي تميل إلى الذوبان مع زيادة الضغط. ويُحدد هذا عمقًا معينًا لا يمكن الحفاظ على الكربونات في رواسب المحيط تحته، ويُطلَق عليه «عمق تعويض الكربونات»، وهو ما يُشبه «خط الثلج». فوق هذا العمق، يمكن أن تتشكل صخورٌ كربوناتية جديدة، بإزالة الكربونات من نظام السطح. ويوازَن تأثير هذه الإزالة بتجوية صخور الكربونات الموجودة على اليابسة، وهو ما يستهلك ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي (عَبْر هذا التفاعل مثلًا: ). وعندما تترسَّب الكربونات وتُحفظ في المحيط في النهاية، يُعكَس هذا التفاعل، فيُطلِق جزيئًا واحدًا من ثاني أكسيد الكربون مُقابل كل جُزيء من الكربونات المتكونة (عَبْر هذا التفاعل مثلًا: ). يُنتِج ذلك دورةً صفرية لا تُحدِث أي تأثير في المُجمَل على ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي، ما دامت عمليتا التجوية وترسيب الكربونات متوازِنتَين.
تتضمَّن دورة الكربون الطويلة الأمد تبادُل الكربون مع القشرة (شكل ٢-٤). وتُسفر عملية تجوية صخور السيليكات، متبوعةً بتكوين صخور الكربونات، في المُجمَل عن إزالة الكربون ونقله إلى قشرة الأرض (عَبْر هذا التفاعل مثلًا: ). يُوجد نحوُ ٣٫٤ × ١٠١٨ مول من الكربون في المحيطات واليابسة والغِلاف الجوي معًا، وتُزيل تجوية السيليكات حوالي ٧ × ١٠١٢ مول من الكربون سنويًّا. ومن ثَم، يبلغ زمن مكوث ثاني أكسيد الكربون فيما يتعلق بإزالته بفعل تجوية السيليكات حوالي ٥٠٠ ألف عام. ويعود هذا الكربون من القشرة عند اندساس رواسب الكربونات الموجودة في المحيطات و«إزالة الغاز منها» بفعل العمليات البركانية وعمليات تحويل الصخور؛ وهو ما يؤدي إلى إدراج ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي مجددًا. وكذلك يؤدي طَمْر الكربون العضوي إلى إزالة الكربون ونقله إلى القشرة، ثم يُعاد هذا الكربون إلى سطح الأرض بفعل التجوية المؤكسِدة أو إزالة الغاز (وتلك صورةٌ معكوسة لدورة الأكسجين). وعند المقارنة بين طريقتَي إزالة الكربون ونقله إلى القشرة، نجد أنَّ حجم تدفُّق طَمْر الكربونات أكبر من تدفُّق طَمْر الكربون العضوي أربع مرات.

قيودٌ نظائرية

كيف يتوصل علماء نظام الأرض إلى مثل هذه الأرقام، وبالتبعية يُحددون حجم التدوير البيوجيوكيميائي؟ بالطبع يُحاولون تقدير حجم التدفقات والخزانات بقياسها مباشرة. لكنَّ القياس ليس ممكنًا في كل الحالات. ومن ثَم، غالبًا ما تُستخدم النماذج لاستنباط أرقام عالمية من القياسات المتاحة. وعندما يتعلق الأمر بتمثيل عملياتٍ ذات نطاقٍ زمني طويل تتضمن تدفقاتٍ صغيرة نسبيًّا، يُمكن أن تكون أعمدة الخطأ في هذا التمثيل كبيرة. ولكن لحسن الحظ، يُوجد قيدٌ إضافي على البيانات، وهو قائم على التركيب النظائري للخزانات والتدفُّقات المختلفة.

فالنظائر مفيدة جدًّا بالأخص في إعادة إنشاء دورات الكربون في الماضي. وللكربون نظيران مستقران؛ النظير الشائع والنظير الأثقل والأندر (الذي يتضمَّن نيوترونًا إضافيًّا في النواة). ولأنَّ كتلتَي النظيرين مختلفتان، تُفضِّل كل عملية نظيرًا معينًا منهما. فامتصاص ثاني أكسيد الكربون في عملية التمثيل الضوئي (بفعلِ الإنزيم المعروف باسم «روبيسكو» RuBisCO) مثلًا يُفضِّل النظير الأخف تفضيلًا شديدًا على النظير الأثقل، فتكون المادة العضوية الناتجة مُحتويةً على كميةٍ أقل من النظير بنسبةٍ تتراوح بين ٢٫٥ و٣ في المائة بالنسبة إلى الغِلاف الجوي. يُشار إلى هذا بمصطلح «التجزئة النظائرية». وعادةً ما يُقاس على مقياس جزء في الألف، بالمقارنة بمعيار أو مادةٍ مرجعية لها تركيبٌ مُحدَّد على أنه يُساوي صفرًا في الألف. وقد كان المعيار الأصلي عينةً من الكربونات في صورةِ صدَفةِ كائنٍ أحفوري؛ من السهميات. عادةً ما تكون عمليات التجزئة ذات القِيَم البعيدة عن المعيار صغيرةً ويُعبَّر عنها بالرمز «دلتا»، مثل ؛ ومن ثَم، تبلغ قيمة الخاصة بالكربون العضوي الناتج من عملية التمثيل الضوئي مقدارًا يتراوح بين سالب ٢٥ و٣٠ لكل ألف.
يبلغ متوسط التجزئة النظائرية لصخور الكربونات صفرًا لكل ألف، لكنَّ التذبذبات بعيدًا عن هذه القيمة يُمكن أن تعطي خيوطًا إرشادية قيِّمة عن تغيُّراتٍ ماضية في دورة الكربون. إذ تجدُر الإشارة إلى أنَّ كمية الكربون المُزال في المادة العضوية إذا تغيَّرَت، فسيتغير التركيب النظائري للمحيطات، وهذا بدوره يُسجَّل في صخور الكربونات. فعلى سبيل المثال، إذا زاد معدل طَمْر الكربون العضوي، فسيُزيل ذلك كميةً أكبر من النظير الخفيف من المحيطات، وسيجعل المحيطات، وصخور الكربونات التي تتكون فيها، غنيةً بالنظير . وكذلك فإذا انخفض معدل طَمْر الكربون العضوي، فستُصبح المحيطات وكربوناتها غنيةً بالنظير .

اللافت أننا عندما نتفحَّص تاريخ الأرض، نجد تقلبات في التركيب النظائري للكربونات، ولكننا لا نجد انزياحًا صافيًا في قيمته بالزيادة أو النقصان. وهذا يشير إلى أنَّ خُمس الكربون تقريبًا دائمًا ما كان مطمورًا في صورةٍ عضوية، في حين أنَّ الأخماس الأربعة الأخرى مطمورة في صورة صخورٍ من الكربونات. ومن ثَم، فحتى في المراحل المبكرة من عمر الأرض، كان الغِلاف الحيوي يتسم بإنتاجيةٍ كافية لدعمِ مستوًى صحي من تدفق طَمْر الكربون العضوي.

دورة الفوسفور

تتحدَّد الإنتاجية ومعدَّل طَمْر الكربون العضوي بحجم إمداد اليابسة والمحيطات بالمواد المغذية. وأهم مادتَين مغذيتَين للحياة هما الفوسفور والنيتروجين، وكلاهما له دورةٌ بيوجيوكيميائية مختلفة تمامًا عن الآخر (الشكلان ٢-٥ و٢-٦)؛ فأكبر خزان للنيتروجين يُوجد في الغِلاف الجوي، أمَّا الفوسفور الأثقل، فلا يُوجد في الصورة الغازية بكميةٍ جديرة بأن تؤخذ في الحُسبان. ولذا يُشكِّل الفوسفور تحديًا أكبر للغِلاف الحيوي في إعادة تدويره.
يدخل كل الفوسفور نظام سطح الأرض من باب التجوية الكيميائية للصخور على اليابسة (شكل ٢-٥). ويتركَّز الفوسفور في الصخور في صورةِ حُبيبات أو عروق من معدن الأباتيت.
fig10
شكل ٢-٥: دورة الفوسفور.

أكسَب الانتخاب الطبيعي النباتات الموجودة على اليابسة وشريكاتها من الفطريات («الفطريات الجذرية») قدرةً كبيرة على استخلاص الفوسفور من الصخور، بتصنيع وإفراز مجموعة من الأحماض العضوية التي تعمل على إذابة معدن الأباتيت. إذ تَحفِر الفطريات طريقها عَبْر الصخور، وعندما تعثُر على الأباتيت، تبدأ العمل على إذابته. وحالما يُصبح الفوسفور في صورته المُذابة؛ أي يتحوَّل إلى فوسفات، يمكن أن تمتصَّه النباتات مباشرة. ولكن يمكن كذلك أن يُمتَص الفوسفات داخل أسطح المعادن مثل المعادن الطينية، أو يتفاعل مع عناصرَ أخرى في التربة ليُكوِّن معادنَ ثانوية؛ مما يُقلل درجة توافُره ويزيد قيمة إعادة تدوير الفوسفور. هذا ويُعاد تدوير الفوسفور الموجود في المواد العضوية الميتة بفعل البكتيريا والفطريات، بما فيها الفطريات الجذرية المرتبطة مباشرةً بجذور النباتات؛ الأمر الذي يحدُّ من احتمالية فقدان كميات منه طوال الوقت. وهكذا يُعيد النظام الإيكولوجي الأرضي تدوير الفوسفور حوالي خمسين مرةً في المتوسط قبل أن يُفقَد في المياه العذبة.

عند فقدان الفوسفور من اليابسة فإنه ينتقل بالكامل إلى المحيطات؛ ومن ثَم يُعتبر هذا هو المصدر الأساسي لإدخال هذا العنصر المُغذي الضروري إلى النظام. ويُخزَّن الفوسفور في المحيطات في صورة فوسفات مُذاب في الماء. وعندما يتدفق الفوسفات من أعماق المحيطات إلى الأعلى، تمتصُّه عوالقُ نباتية، هذه العوالق تموت أو تؤكَل فيما بعدُ. ويُمثِّل الفسفور قيمةً كبيرة في علم الأحياء، حتى إنه يُستخرج بالذات من هذه المادة العضوية الميتة. وهذا يُنتِج حلقة من إعادة تدوير المواد المُغذية في سطح المحيط بمساعدة الأحياء الدقيقة، ويُقدَّر أنَّ هذه الحلقة تُحسِّن إنتاجية السطح بمقدار ثلاث مرات. ومع ذلك، يهرب بعض الفوسفور إلى أعماق المحيطات. وتُحدِّد عملية إعادة تدويره، عَبْر التدفق الفيزيائي للمياه إلى الأعلى، كمية المادة العضوية التي يُمكن أن تُغادر أسطح المحيطات في «المضخة الحيوية» وتؤثِّر على دورة الكربون بالتبعية.

يصل بعض الفوسفور العضوي إلى رواسب المحيط، حيث تُفضِّل الكائنات مجددًا التغذِّي عليه، فيُعاد بذلك تدويرُ جزءٍ كبير منه إلى عمود الماء، ويُسهم ذلك في دعم الإنتاجية في سطح المحيط. لكنَّ بعض الفوسفور يظل محصورًا في الرواسب بفعل تكوين معادن أباتيت جديدة والتصاق الفوسفات بأسطح معادن أكاسيد الحديد، ويتبقى بعضُه في موادَّ عضوية تَدخُل صخورًا رسوبية جديدة. وهذه العملية التي تتضمَّن إزالة الفوسفور ونقله إلى دورة الصخور تُوازِن تجوية الفوسفور من الصخور الموجودة على اليابسة. بل تُحدِّد كمية الكربون العضوي الذي يُمكن طَمْره في المحيط؛ وبذلك تُحدِّد حجم المصدر الطويل الأمد الذي يُمِد الغِلاف الجوي بالأكسجين.

دورة النيتروجين

تتحكم الأحياء في دورة النيتروجين (شكل ٢-٦). وصحيحٌ أنَّ الغِلاف الجوي يحوي خزانًا كبيرًا من النيتروجين، لكنَّ جُزيئات غاز النيتروجين ( ) مرتبطة معًا بقوة؛ مما يجعل النيتروجين غير مُتاح لمعظم الكائنات الحية. ويتطلب تفكيك النيتروجين الجُزيئي وإتاحة النيتروجين للكائنات الحية مجهودًا كيميائيًّا حيويًّا لافتًا — يُعرَف باسم تثبيت النيتروجين — ويستهلك كثيرًا من الطاقة. وتُعَد أبرز مُثبِّتات النيتروجين في المحيطات البكتيريا الزرقاء، مع توافُر مصدر مباشر للطاقة من ضوء الشمس. أمَّا على اليابسة، فتُقيم نباتاتٌ مختلفة شراكةً تكافلية مع بكتيريا مُثبِّتة للنيتروجين؛ إذ تُتيح لها موطنًا في العُقد الجذرية، وتُمِدها بالغذاء مقابل النيتروجين. ويُوجد كذلك كائناتٌ غير طفيلية مُثبِّتة للنيتروجين في التربة.
يُثبَّت النيتروجين في الأمونيوم، الذي يُعَد مُركَّبًا مُختزَلًا، ويُنتِج طاقة عند تفاعُله مع الأكسجين. وتعيش بكتيريا النترتة على هذه الطاقة، محوِّلةً الأمونيوم إلى نيتريت ثم نترات ( ) في عملية النترتة. وفي عالمنا المؤكسَج، تُعَد النترات مركَّبًا مستقرًّا نسبيًّا يُشكِّل الخزان الرئيسي للنيتروجين المُتاح للأحياء في المحيطات والتربة. ولكن يمكن استخدام النترات لأكسدة المادة العضوية؛ وبذلك تُنتج طاقة، وتُحول النترات في النهاية إلى غاز النيتروجين، في عملية تُعرَف باسم نزع النيتروجين. تعيش بكتيريا نزع النيتروجين على مصدر الطاقة هذا، وغالبًا ما يُطلَق أثناء العملية غاز أكسيد النيتروز ( ). تُصبح الظروف مُواتية لعملية نزع النيتروجين حالما ينخفض تركيز الأكسجين؛ لذا فهي عادةً ما تحدُث في التُّرَب المشبعة بالمياه والمنقوصة جدًّا من الأكسجين، وفي «مناطق الحد الأدنى من تركيز الأكسجين» التي تُوجد على عُمق متوسط في المحيطات (والتي تنشأ بفعلِ التنفس الهوائي للمواد العضوية الغائصة).
fig11
شكل ٢-٦: دورة النيتروجين.

تُشكِّل عملية تثبيت النيتروجين التدفُّق الأساسي لإدخال النيتروجين إلى كلٍّ من اليابسة والمحيطات، بينما تُشكل عملية نزع النيتروجين تدفُّق إخراجه الأساسي من اليابسة والمحيطات، لكنَّ النيتروجين يخضع لإعادة تدوير داخل بعض النُّظم الإيكولوجية أيضًا. فبعض الكائنات التي تؤدي عملية التمثيل الضوئي (النباتات على اليابسة، والعوالق النباتية في المحيطات) تأخذ النترات (أو الأمونيوم في حالة بعض العوالق النباتية) وتمتصُّها داخل المادة العضوية. ويُمكن بعدئذٍ استردادُ هذا النيتروجين من المواد العضوية الميتة بفعل البكتيريا، وكذلك الفطريات الموجودة على اليابسة، التي تُحوِّله إلى أمونيوم في عملية تُعرَف باسم الأموَنة (أو إعادة التمعدن). ثم يُمكن بعد ذلك نَترتةُ الأمونيوم وتحويلُه إلى نترات، وامتصاصُه مرةً أخرى داخل الكائنات التي تؤدي التمثيل الضوئي. وفي المحيطات، تحدُث إعادة تمعدُن النيتروجين الآتي من المادة العضوية على نطاق من الأعماق المختلفة بينما تغوص المادة العضوية عَبْر عمود الماء. وكالفوسفور، يُعاد تدوير بعض النيتروجين بسرعة في طبقات المحيط السطحية المختلطة جيدًا والمضاءة بنور الشمس. أمَّا الجزء المتبقي، فيُعاد تدويره ببطء في المياه العميقة المظلمة، ويتعيَّن عليه انتظار التدفق الفيزيائي لتلك المياه إلى الأعلى قبل أن يُمكن امتصاصُه داخل العوالق النباتية مرةً أخرى.

يتسرَّب بعض النيتروجين من أنظمة اليابسة الإيكولوجية إلى المحيطات في صورة مواد عضوية ونترات مذابة. ويتعرض جزءٌ كبير من هذا النيتروجين إلى النزع في مصبَّات الأنهار ورواسب البحار عند الأرفف الساحلية. ويصل بعض النيتروجين المُثبت الموجود في المحيطات إلى الرواسب من خلال المواد العضوية. ثم يُنتزع جزءٌ كبير منه في الرواسب مجددًا. ولكن تُفقَد كميةٌ صغيرة من النيتروجين بدخوله في تكوين صخور رسوبية جديدة. يُوجد ١٫٤ × ١٠٢٠ مول من غاز النيتروجين في الغِلاف الجوي، ويُطمر النيتروجين في القشرة الأرضية بمعدل ٣ × ١٠١١ مول في السنة تقريبًا؛ مما يُعطي النيتروجين زمن مكوثٍ مقداره نحوُ ٥٠٠ مليون سنة في الغِلاف الجوي فيما يتعلق بعملية إزالته ونقله إلى القشرة. وصحيح أنَّ هذا زمنٌ طويل، ولكن لا بُد أنَّ تأثير مدخلات النيتروجين الآتي من طبقة الوشاح وإعادة التدوير بفعلِ تجوية الصخور قد وازَن تأثيرَ إزالة النيتروجين ونقله إلى القشرة موازَنةً شبه تامة طوال تاريخ الأرض.

أيضُ كوكب الأرض

أحدَث التدوير البيوجيوكيميائي العالمي للمواد، الذي تُعزِّزه الطاقة الشمسية، تحوُّلًا في نظام الأرض. ويُمكن اعتبار عملية تحوُّل الطاقة وتدوير المواد بفعل الغِلاف الحيوي بمثابة «أيض» نظام الأرض. فهي ضرورية للإنتاجية اللافتة التي يتسم بها غِلاف الأرض الحيوي، تمامًا مثلما تُعَد عملية الأيض التي يؤديها كل كائن حي مفرد ضروريةً لعيشه حياةً صحية. وقد جعلَت هذه العملية الأرض مختلفة جذريًّا عن حالتها قبل وجود الحياة وعن الكوكبَين المجاورَين لها؛ المريخ والزهرة. ومن خلال تدوير المواد التي يحتاج إليها غِلاف الأرض الحيوي، جعل نفسه في حالةٍ أكثر إنتاجية. ومن ثَم، نتناول في الفصل الثالث الكيفية التي تُنظِّم بها الدوراتُ البيوجيوكيميائية ذاتَها وكيفية اقترانها بمناخ الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤