الفصل الثامن

التعميم

يمنحنا هذا الكتاب مقدمة إلى الكيفية التي يُمكن بها دراسة كوكب واحد صالح للحياة — وهو الأرض — بصفته نظامًا. غير أنَّ العلماء توصَّلوا في السنوات القليلة الماضية إلى الاكتشاف اللافت باحتمالية وجود كواكبَ صالحة للحياة تدور حول نجوم أخرى. وكما تغيَّرَت وجهة نظرنا عن كوكبنا والكيفية التي نَدرُسه بها عندما رأيناه لأول مرة من الفضاء، فإنَّ «رؤيتنا» الأولى لكوكب يشبه الأرض حول نجمٍ آخر ستُغيِّر منظورنا مرةً أخرى بالتأكيد. ومن ثَم، يستكشف هذا الفصل الختامي كيف يمكن تعميم فهمنا لنظام الأرض، وتحويله إلى علمٍ معني بالعوالم الصالحة للحياة في العموم.

عمر الغلاف الحيوي

إذا استطاع البشر إيجاد علاقة مستدامة مع نظام الأرض، فربما يظل نوعنا البشري باقيًا حوالَي مليون سنة، وهذا هو العمر النموذجي لنوع من الثدييات. وإذا كنا محظوظين (أو أذكياء جدًّا) فربما نستطيع مدَّ هذا العمر إلى عشرة ملايين سنة. فحياة الكائنات المعقَّدة يُحتمل أن تستمر فترةً طويلة على الأرض، وكذلك حياة بدائيات النوى يمكن أن تستمر فترةً أطول، ولكنَّ كلتَيهما لا يمكن أن تستمرَّا إلى الأبد.

وتكمُن المشكلة في أنَّ وهج احتراق الشمس، مثلها مثل كل النجوم المنتمية إلى «النسق الأساسي» (أي التي تُولِّد الطاقة بالدمج النووي للهيدروجين محوِّلةً إياه إلى هيليوم)، يزداد سطوعًا بلا توقف مع مرور الزمن — إذ تزداد شدة السطوع بمقدار حوالي ١ في المائة كل ١٠٠ مليون سنة — وهذا سيؤدي في النهاية إلى أنَّ حرارة الكوكب ستتجاوز الحد المسموح به. ويزداد الأمر سوءًا بفعل بعض التغذيات المرتدة الموجبة؛ إذ يؤدي التسخين إلى تبخير الماء إلى الغِلاف الجوي؛ مما يؤدي إلى حبس كميةٍ أكبر من الحرارة. وتُعَد هذه أقوى آليات التغذيات المرتدة الموجبة في نظام المُناخ بالفعل، ومن المُتوقَّع أن تزداد قوةً مع ازدياد تشبُّع الغلاف الجوي المُحتَر ببخار الماء؛ مما يجعله أكثر إعتامًا فيسمح بنفاد كميةٍ أقل من الإشعاع المنبعث من الأرض. وسيُسفِر ذلك في النهاية عن «جموح تأثير الدفيئة» وخروجه عن السيطرة، وعندئذٍ لن تستطيع الأرض أن تُعيد الحرارة إلى الفضاء بنفس الوتيرة السريعة التي تأتي بها منه. ومع تصاعُد درجة الحرارة، ستتبخر المحيطات.

وقبل حدوث هذا الجموح المتوقع، سيحدُث تأثيرٌ مميت يُسمى «تأثير الدفيئة الرطب»؛ إذ سيُصبح الغلاف الجوي مثل قِدر الضغط البخاري؛ وهو ما يؤدي إلى ارتفاع نقطة غليان المحيطات المتبقية، وتمدُّد الجزء السفلي من الغِلاف الجوي. وستصل جُزيئات الماء إلى الغِلاف الجوي العلوي وتتفكَّك بسبب الإشعاع الشديد هناك؛ مما يُسفِر عن فقدان الهيدروجين الذي تحويه وانتقاله إلى الفضاء وتجفيف الكوكب تمامًا. وقبل فقدان كل كمية الماء على الكوكب، ستكون درجات الحرارة قد صارت أعلى من أن تتحملها الكائنات الحية المعقدة. إذ يبلغ أقصى حد تستطيع حقيقيات النوى أن تتحمَّله من درجة الحرارة حوالَي ٥٠ درجةً مئوية، في حين أن بعض أشكال حياة بدائيات النوى «التي تستطيع العيش في الظروف المتطرفة» يُمكنها أن تتحمَّل أكثر من ١٠٠ درجةٍ مئوية (إذا أسفر ضغطٌ إضافي عن رفع درجة غليان الماء فوق هذا الحد). لذا من المرجَّح أن يعود نظام الأرض إلى عالَم مكوَّن من العتائق والبكتيريا قبل أن يجفَّ تمامًا.

فهل يمكن تأخير هذا المصير النهائي الذي ينتظر الحياة؟ استطاعت آلية التغذية المرتدة السالبة المتمثلة في تجوية السيليكات، على مَرِّ تاريخ الأرض، إبطالَ تأثير ازدياد سطوع الشمس المستمر بإزالة ثاني أكسيد الكربون من الغِلاف الجوي. غير أنَّ هذه الآلية التبريدية صارت قريبةً من أقصى حدود فاعليتها؛ لأنَّ ثاني أكسيد الكربون انخفض إلى مستوياتٍ ضئيلة تحدُّ من نمو معظم النباتات، التي تُعَد من أبرز عوامل تعزيز تجوية السيليكات. وبالرغم من تطوُّر مجموعة فرعية من النباتات قادرة على أداء عملية التمثيل الضوئي بمستوياتٍ منخفضة من ثاني أكسيد الكربون، فإنها لا تستطيع استخلاص ثاني أكسيد الكربون عند انخفاض تركيزه إلى أقل من حوالي ١٠ أجزاء في المليون. وهذا يعني أنَّ الحياة أمامها مصيرٌ محتمل ثانٍ؛ وهو نفاد ثاني أكسيد الكربون. وقد توقَّعَت النماذج المبكرة إمَّا نفاد ثاني أكسيد الكربون أو ارتفاع درجة الحرارة فوق الحد الذي تتحمَّله الكائنات الحية (شكل ٨-١) بعد حوالي مليار سنة في المستقبل. وصحيح أنَّ هذا الوقت يبدو بعيدًا إلى حدٍّ مريح، لكنه يشير إلى أنَّ العمر المستقبلي للغِلاف الحيوي للأرض أقصر بكثير من تاريخه الماضي. أي إنَّ الغِلاف الحيوي للأرض يدخل في مرحلة الشيخوخة.
fig29
شكل ٨-١: توقع نموذجي لعمر الغِلاف الحيوي يشير إلى ارتفاع درجة الحرارة فوق الحد الذي تتحمَّله الكائنات الحية المعقدة وتحوُّل نظام الأرض إلى حالةٍ مستقرة أكثر حرارة (دون التعزيز الحيوي الناجم عن تجوية السيليكات)، يليها ما يُسمَّى بتأثير الدفيئة الرطب.

المنطقة الصالحة للحياة

تُوجد طريقةٌ أخرى للتفكير في حدود صلاحية الكوكب للحياة، وهي صلاحيته على النطاق المكاني وليس الزماني. إذ تُمثِّل المنطقة الصالحة للحياة (شكل ٨-٢) نطاق المسافات حول نجمٍ ما (أو ما يكافئه من نطاق مستويات شدة الإضاءة النجمية) الذي يستطيع فيه كوكبٌ صخري شبيه بالأرض دعم استمرار وجود الماء السائل على سطحه. فإذا كان الكوكب أقرب ممَّا ينبغي من نجمه الأم، فسترتفع درجة الحرارة فوق الحد المسموح به وتُفقَد المياه، وهذا يُمثِّل الحافة الداخلية للمنطقة الصالحة للحياة. أمَّا إذا كان الكوكب أبعَدَ مما ينبغي عن نجمه الأم، فستنخفض درجة الحرارة تحت الحد المسموح به ويُفقَد الماء السائل بالتجمُّد، وهذا يُمثِّل الحافة الخارجية للمنطقة الصالحة للسكن. ويُعَد ذلك بمثابة المكافئ المكاني ﻟ «لغز الشمس الصغيرة الخافتة» الذي تعرَّفنا عليه في الفصل الأول.
fig30
شكل ٨-٢: تطوُّر المنطقة الصالحة للحياة حول الشمس مع مرور الزمن.

تُعرف الحافة الخارجية للمنطقة الصالحة للحياة بأنها الحد الذي يُصبح عنده ثاني أكسيد الكربون المتراكم عاجزًا عن إبقاء الكوكب فوق درجة حرارة التجمد. بل إنَّ ثاني أكسيد الكربون عندما يصل إلى تركيزاتٍ عالية جدًّا يُصبح عاملًا تبريديًّا في المُجمل؛ لأنه عندئذٍ يُشتِّت من الإشعاع الشمسي الوارد كميةً أكبر من الكمية التي يحبسها من الإشعاع الحراري المنبعث من الكوكب. يُعرف هذا التأثير باسم «تشتُّت رايلي»، ويحدُث في كل جُزيئات الغاز الصغيرة (تجدُر الإشارة إلى أنَّ تأثير تشتُّت رايلي بفعل غازَي النيتروجين والأكسجين السائدَين في الغِلاف الجوي حاليًّا هو ما يجعل السماء تبدو زرقاء ويجعل الشمس تبدو صفراء). وفي نهاية المطاف، سيُسفِر تشتُّت رايلي عن استحالة منع الأرض من التحول إلى كرةٍ ثلجية بفعلِ تراكُم ثاني أكسيد الكربون.

تُوجد مناطقُ صالحة للحياة حول جميع النجوم المنتمية إلى النسق الأساسي التي يزداد سطوع احتراقها بانتظام مع مرور الوقت؛ مما يزيح مناطقها الصالحة للحياة بعيدًا عنها باستمرار. وصحيح أنَّ النجوم تختلف في كُتلتها، وفي شدة سطوعها بالتَّبَعية، وهو ما يؤثِّر على موقع مناطقها الصالحة للحياة، ولكن يمكن عمَل حساب تأثير هذه العوامل في النماذج بسهولة. وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ النموذج التقليدي المُستخدَم لتقدير حدود المنطقة الصالحة للحياة كان من ابتكار جيم كاستينج وبعض زملائه. ويفترض النموذج كوكبًا يُشبه الأرض من حيث الكتلة والضغط الجوي، ويتسم بنشاط تكتوني، وله دورة مائية. ومن ثَم، يفترض أن تحدُث التغذية المرتدة السالبة المتمثلة في تجوية السيليكات، وهذا يوسِّع عرض المنطقة الصالحة للحياة؛ إذ يعمل على إبطال تأثير تناقُص شدة السطوع (أي الابتعاد عن النجم) بزيادة ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي، وإبطال تأثير تزايُد السطوع (أي الاقتراب من النجم) بإزالة ثاني أكسيد الكربون. وبدون أن تضبط هذه التغذية المرتدة مستوى ثاني أكسيد الكربون، ستكون المنطقة الصالحة للحياة أضيق بكثير.

ووَفْق أحدث التقديرات الواردة من فريق كاستينج البحثي، تقع الحافة الخارجية للمنطقة الصالحة للحياة حول الشمس حاليًّا خارج مدار المريخ (شكل ٨-٢) عند شدة سطوع تساوي ٣٥ في المائة من شدة سطوع الإشعاع الذي يصل إلى الأرض في الوقت الحاضر. وهذا يتفق مع الدليل على أنَّ سطح المريخ قد شهد تدفق مياه سائلة على سطحه في الماضي. ولكن يُتوقَّع أنَّ المريخ في مراحل حياته المبكرة، حين كانت الشمس أخفتَ وأصغرَ عمرًا، كان واقعًا خارج الحافة الخارجية للمنطقة الصالحة للحياة، ويعني صِغَر حجمه (إذ تساوي كتلته ١٠ في المائة من كتلة الأرض، وما يصاحب ذلك من جاذبيةٍ ضعيفة ومجالٍ مغناطيسي غير منتظم) أنه الآن قد فقد مُعظم غِلافه الجوي ومياهه في الفضاء. ويُقدَّر أنَّ كوكب الزهرة دائمًا ما كان موجودًا داخل الحافة الداخلية للمنطقة الصالحة للحياة، وهذا يتوافق مع تعرُّضه لمستوًى جامح من تأثير الدفيئة. وفي الواقع، يُقدَّر أنَّ الحافة الداخلية للمنطقة الصالحة للحياة تُعَد الآن قريبة من كوكب الأرض إلى حدٍّ خطير؛ لأنَّ مجرد حدوث زيادة بسيطة تتراوح بين ١ و٣ في المائة في شدة سطوع الشمس سيُودي بالأرض إلى مصير تأثير الدفيئة الرطب أو الجامح. ويُشير هذا إلى أنَّ الوقت المتبقي من عمر غِلاف الأرض الحيوي يتراوح بين ١٠٠ و٣٠٠ مليون سنة فقط، ولكن ينبغي النظر إلى ذلك على أنه أدنى تقدير؛ لأنه قائم على نموذج بسيط يتجاهل دوَران الغِلاف الجوي والتغيرات الحادثة في الغطاء السَّحابي. ويُتيح مثل هذا النموذج، الذي خُفِّضَت تقديراته عمدًا لأغراضٍ تحذيرية، نقطةَ انطلاقٍ جيدة لتقدير المناطق الصالحة للحياة حول النجوم الأخرى، وبذلك يقدِّم مساعدةً إرشادية لمساعي البحث عن الكواكب التي يُحتمل أن تكون صالحةً للحياة عليها خارج المجموعة الشمسية.

الكواكب الواقعة خارج المجموعة الشمسية (الكواكب الخارجية)

شهد العقدان الماضيان وحدهما اكتشاف آلاف من الكواكب تدور حول نجوم أخرى. وحتى وقت كتابة هذا الكتاب، تأكَّد وجود أكثر من ١٥٠٠ «كوكب خارج المجموعة الشمسية»، وعُثِر على أكثر من ٣٠٠٠ جسم آخر «يُحتمل» أن تكون كواكب خارج المجموعة الشمسية، وقد اكتُشفَت معظم هذه الكواكب بمرصد كبلر الفضائي، الذي يكتشف الكواكب إذا كانت «تعبُر» بيننا وبين نجمها الأم، مما يُسبِّب خفوتًا في الضوء النجمي الذي يصل إلينا. (يُتوقَّع أنَّ نسبةً مقدارها أقل من ١ في المائة من مدارات الكواكب الشبيهة بالأرض تمُرُّ عَبْر خط الرؤية بيننا وبين أي نجم؛ ولذا فإنَّ عدد النجوم التي رصَدها مرصد كبلر يبلغ أكثر من ١٩٠ ألف نجم.) وقد أعطتنا هذه العيِّنة الكبيرة فكرةً عن الشكل النموذجي للكواكب والشكل النموذجي للأنظمة الكوكبية. فالنجم يدور حوله كوكبٌ واحد على الأقل في المتوسط. ويتراوح نصف قُطر أكثر أنواع الكواكب شيوعًا بين قيمة تساوي نصف قطر الأرض وقيمة أكبر منه أربع مرات — أي تصل إلى نصف قطر كوكب نبتون — مما يجعل مجموعتنا الشمسية حالةً شاذة؛ لأنها لا تحوي كواكب ذات حجم واقع ضِمن هذا النطاق المتوسط من الأحجام. وإذا نظرنا إلى «الكواكب الأكبر كتلةً من الأرض» التي تقع خارج المجموعة الشمسية، ويتراوح نصف قطرها بين قيمة مساوية لنصف قطر الأرض وقيمة مساوية لضِعفه، نجد أنها شائعة بما يكفي لدرجة أنَّ حوالي ١٠ في المائة من نجوم النوع «جي» الشبيهة بالشمس يُقدَّر أنَّ لديها واحدًا من هذه الكواكب في المنطقة الصالحة للحياة حولها. وترتفع النسبة إلى مقدار يتراوح بين ٤٠ و٥٠ في المائة حول نجوم النوعَين «إم» و«كيه» الأبرَد والأخفَت التي رصدها مرصد كبلر. لذا ففي المرة القادمة التي تتأمل فيها سماء الليل، فكِّر في الفكرة المذهلة أنَّ نجمًا واحدًا على الأقل من بين كل عشرة نجوم تراها يمكن أن يكون له كوكبٌ مجاور يحمل مياهًا سائلة على سطحه.

وبدءًا من أواخر عام ٢٠١٤، يُعَد أقربُ كوكب مُرشَّح ليكون أحد توائم كوكب الأرض هو الكوكب الذي أُطلقَ عليه، في تسميةٍ عادية غير مميزة بعض الشيء، اسم «كبلر-١٨٦إف»؛ وهو كوكب يُساوي نصف قطره نصف قطر الأرض ١٫١ مرة تقريبًا، ويدور حول نجم نموذجي من نجوم النوع «إم». وتجدُر الإشارة إلى أنَّ «كبلر-١٨٦إف» هو الأبعد من بين خمسة كواكب عن نجمه الذي يدور حوله على بُعد حوالَي ٤٠ في المائة من مسافة بُعد الأرض عن الشمس. ولأنَّ نجمه أبردُ وأخفتُ من الشمس، فإنَّ هذا يجعل كوكب «كبلر-١٨٦إف» واقعًا في قلب المنطقة الصالحة للحياة حول نجمه، باتجاه الحافة الخارجية، في موضع «يشبه موضع المريخ في المنطقة الصالحة للحياة» (شكل ٨-٣). وإذا كان كوكب «كبلر-١٨٦إف» لديه غِلافٌ جوي غني بثاني أكسيد الكربون، ولديه ماء، فمن المحتمل أن يكون بعض هذا الماء موجودًا في صورةٍ سائلة على سطحه.
fig31
شكل ٨-٣: مقارنة بين النظام الشمسي (الذي يقع فيه كوكبا الأرض والمريخ في المنطقة الصالحة للحياة) ونظام النجم «كبلر-١٨٦» (الذي يقع فيه كوكب «كبلر-١٨٦إف» في المنطقة الصالحة للحياة).

لا يمكن ضمان وجود كميات وفيرة من ثاني أكسيد الكربون والماء على كوكبٍ ما؛ لأنهما من المركَّبات «المتطايرة» التي تُعَد غير مستقرة عند درجات الحرارة المرتفعة بالقرب من نجم صغير العمر عندما تتشكل الكواكب الصخرية لأول مرة. إذ يمكن أن يُحبسا في الوشاح ثم يُطلقا في صورةٍ غازية إلى الغِلاف الجوي، أو يجري جلبُهما إلى الكوكب بفعل التصادمات مع النيازك والمُذنَّبات الناشئة عند مسافةٍ أبعدَ من نجمه الأم. غير أنَّ بعض عمليات محاكاة تكوُّن المجموعة الشمسية تُشير إلى أنَّ حصول الكوكب على المواد المتطايرة من هذه التصادمات محضُ صدفة. ومن ثَم، فمع أنَّ كل الكواكب الواقعة في المناطق الصالحة للحياة خارج المجموعة الشمسية من المفترض أن تستمد بعض الماء وثاني أكسيد الكربون، من المرجَّح أن تتفاوت الكمية تفاوتًا كبيرًا، ومعها صلاحية الكوكب للحياة.

اكتشاف الحياة

لا شك أنَّ اكتشاف أنَّ حوالي نصف النجوم قد يكون حولها كوكبٌ صالح للحياة يُعزز بشدة من احتمالات وجود كواكبَ أخرى تُؤوي حياةً بالقرب منا في مَجرَّتنا. صحيحٌ أنَّ هذه الاحتمالات تعتمد أيضًا على سهولة تطوُّر الحياة أو صعوبة ذلك. غير أنَّ ظهور الحياة على كوكب الأرض ظهورًا سريعًا نسبيًّا بعد عصر «القصف الشديد المتأخر» يُلمح بالفعل إلى أنَّ نشوء الحياة ليس بهذه الصعوبة. السؤال هنا: هل نستطيع اكتشاف الحياة على كوكبٍ واقع خارج المجموعة الشمسية إذا كانت موجودة هناك؟

لا يمكننا أن نذهب فعليًّا إلى كوكبٍ واقع خارج المجموعة الشمسية. إذ تُشير التقديرات إلى أنَّ أقرب كوكب صالح للحياة من تلك الكواكب يَبعُد عنا حوالي اثنتَي عشرة سنةً ضوئية. وإذا افترضنا أنَّ مركبةً فضائية استطاعت بلوغ مُعدَّل معقول من سرعة الهروب من الشمس يصل إلى ١٠٠كم/ث، فسيستغرق وصولها إلى هناك ٣٦ ألف عام. وحتى بعد ذلك، سيكون التواصل مع من يصل إلى هناك بطيئًا وشاقًّا؛ لأنَّ انتقال إشارات التواصل في كل اتجاه سيتعرض لتأخير مُدَّتُه اثنا عشر عامًا. لذا نحتاج إلى وسيلة لاكتشاف الحياة عن بُعد بدلًا من ذلك.

وهكذا فإنَّ هذا يُعيدنا إلى البداية؛ إلى فكرة جيم لفلوك الأصلية التي اقترح فيها اكتشاف الحياة من خلال تأثيرها على تركيب الغِلاف الجوي للكوكب (الفصل الأول). تذكَّروا أنَّ لفلوك اقترح أنَّ البصمة التي تتركها الحياة تتمثل في اختلال توازُن خليط الغازات المكوِّنة للغِلاف الجوي. ويُعَد وجود الميثان والأكسجين معًا في الغِلاف الجوي للأرض في الوقت الحاضر مثالًا على هذا الاختلال الشديد في التوازن. أمَّا الكواكب الواقعة خارج المجموعة الشمسية، فيمكن تصوُّر وجود خلائط غازات أخرى في أغلفتها الجوية تتسم بعدم الاتزان، ولكن ربما يكون بعضها، مثل ثاني أكسيد الكبريت وكبريتيد الهيدروجين، محفوظًا وباقيًا بسبب تصاعُد الغازات من الثورانات البركانية. لذا يجب أن يقتصر البحث على أزواج الغازات التي تتسم بعدم اتزان، والتي يبدو واضحًا أنها نشأت بفعلِ كائناتٍ حية، مثل زوج الأكسجين والميثان.

وتقوم طريقة اكتشاف تلك الأزواج على استخدام مطياف للبحث عن نطاقات الامتصاص (أي نطاقات الأطوال الموجية) الخاصة بالغازات المختلفة في طيف الإشعاع القادم من كوكبٍ واقع خارج المجموعة الشمسية. فبعض الغازات لها نطاقاتُ امتصاص أكثر من نطاقات امتصاص غيرها، ويعتمد الامتصاص في كل نطاق على تركيز الغاز. وهذا يُمثِّل مشكلة؛ لأن تلك الحالة الشديدة من عدم الاتزان تعني وجود غازَين متفاعلَين متعطشَين للتفاعل معًا بسرعةٍ كبيرة؛ مما يؤدي إلى تقليل تركيزاتهما. وفي حالة الغِلاف الجوي الحالي للأرض، فإنَّ هذا يجعل تركيز الميثان حوالي جزء واحد في المليون؛ مما يعني أن نطاقاتِ امتصاصه المتواضعة لن تكون قابلةً للاكتشاف إذا كنا نرصُد الأرض من نجمٍ آخر. وعلى الجانب الآخر، سيكون الأكسجين والأوزون الناتج منه قابلَين للاكتشاف.

أمَّا حول النجوم التي تنبعث منها أشعةٌ بنفسجية أقل من الأشعة التي تبُثها الشمس، فستتباطأ التفاعلات الكيميائية في الغِلاف الجوي تباطؤًا كبيرًا؛ مما سيُتيح زيادة تركيز الغازات، وربما سيسمح باكتشاف الميثان في وجود الأكسجين، أو غيره من أزواج الغازات التي تتسم بعدم الاتزان. غير أنَّ الباحثين يُحوِّلون اهتمامهم حاليًّا إلى اكتشاف غازاتٍ مفردة «ذات بصمةٍ حيوية». وفي حالة بعض الغازات التي يُمكِن إنتاجها بطريقةٍ غير حيوية، كالأكسجين، يُواجه هذا البحث مشكلة النتائج الإيجابية الكاذبة. ومن ثَم، فإحدى الطرق البديلة هي البحث عن الغازات التي لا تنتج إلا عن وجود حياة، مثل كبريتيد ثنائي الميثيل، أو الأيزوبرين، أو كلوريد الميثيل، لكنَّ تركيزات هذه الغازات عادةً ما تكون أقل بكثير.

بالرغم من التحفظات، فإنَّ احتمال العثور على كوكبٍ آخر مأهول لم يعُد خيالًا علميًّا. ومن الممكن أن يحدُث ذلك في العَقد المقبل. صحيحٌ أنَّ هذا يُعَد تحديًا تقنيًّا هائلًا؛ لأنه يتطلب تلسكوبات فضائية باهظة الثمن، لكنَّ البعثات الفضائية التي كان مُقرَّرًا إرسالها وقت كتابة هذا الكتاب تسير في الاتجاه الصحيح نحو الهدف المنشود. وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ «قمر البحث عن الكواكب الخارجية بطريقة العبور الفلكي»، الذي كان مُقرَّرًا إطلاقه في عام ٢٠١٧، سيمشِّط السماء كلها بحثًا عن كواكبَ صخريةٍ حول النجوم الساطعة القريبة. ومن المفترَض أن يُسفِر هذا عن العثور على «كواكبَ مُحتمَلة شبيهة بالأرض خارج المجموعة الشمسية» في المنطقة الصالحة للحياة حول نجومها التي تُعَد أقرب بكثير، وأشد سطوعًا بالتبعية، من تلك التي وجدها مرصد كبلر. ومن المقرَّر بعدئذٍ، أن يمتلك تلسكوب جيمس ويب الفضائي، الذي كان مُقرَّرًا إطلاقه في عام ٢٠١٨، دقة الوضوح اللازمة لبدء توصيف أغلفتها الجوية في أثناء عبورها أمام نجمها الأم. فإذا كانت الحياة موجودة وكنا محظوظين، فسيستطيع اكتشاف حياة فضائية. وإن لم يحدُث ذلك، فسينشأ جيلٌ آخر من التلسكوبات الفضائية «يستبعد» ضوء النجوم الأم أو يحجُبه، وهذا سيُعزِّز بشدة من احتمالات تحليل تركيب الأغلفة الجوية.

مُناخ الكواكب الخارجية

إنَّ الاكتشافات الحديثة التي عُثر فيها على كواكبَ خارج المجموعة الشمسية واحتمالات اكتشاف الحياة عن بُعد تجعل الوقت الحالي مناسبًا لبدء صياغة عِلم مَعني بالكواكب الصالحة للحياة بوجهٍ عام، وليس الأرض بالذات فقط. وقد بدأ بعض الباحثين بالفعل تعميمَ نماذجَ ثلاثية الأبعاد خاصة بمُناخ الأرض واستخدامها لمراجعة بعض التقديرات المتعلقة بالمنطقة الصالحة للحياة. وما يُساعدهم على ذلك أنَّ مبادئ الغِلاف الجوي ودورة المحيطات ثابتة في كل مكان، ومن بينها معادلات «نافييه-ستوكس» المَعنية بديناميكا الموائع، والجاذبية، وتأثير كوريوليس، الذي يعتمد على مُعدَّل دوران الكوكب. وقد أظهرَت دراساتٌ أولية أنَّ تأثيرات دوران الغِلاف الجوي يُمكن أن تُوسِّع الحافة الداخلية للمنطقة الصالحة للحياة توسيعًا كبيرًا نحو النجم الذي تُوجد حوله؛ مما يؤخِّر حدوث تأثير الدفيئة الجامح. والسبب الرئيسي أنَّ الغِلاف الجوي الذي له ثلاثة أبعاد ويتضمَّن دورانًا من المُفترَض أن تظل فيه مناطقُ من الهواء النازل الجاف؛ ومن ثَم يُمكن أن تزداد فعالية هروب الإشعاع الحراري نحو الفضاء عَبْر تلك الأجزاء الأشد جفافًا من الغِلاف الجوي؛ مما يمنع جموح تأثير الدفيئة.

إذا أُخذ في الحُسبان بعضُ الكواكب التي تتسم بمعدَّلات دوران أبطأ من معدَّل دوران الأرض، فقد يؤدي ذلك إلى توسيع المنطقة الصالحة للحياة نحو الداخل أكثر وأكثر. إذ تُشير بعض عمليات المحاكاة إلى أنَّ غطاءً سَحابيًّا عميقًا سوف يتطور على الجانب النهاري من الكواكب البطيئة الدوران، فيعكس كثيرًا من الضوء الذي يتلقاه الكوكب من نجمه الأم إلى الفضاء. وكذلك فإنَّ انتقال الحرارة عَبْر الغِلاف الجوي سيكون فعالًا جدًّا، في ظل وجود خلايا كبيرة من الحَمل الحراري تمتد من خط الاستواء إلى القطبَين ومن الجانب النهاري من الكوكب إلى جانبه الليلي. ويُمكن أن تُسفِر هذه التأثيرات التبريدية عن توسيع الحافة الداخلية للمنطقة الصالحة للحياة إلى الحد الذي يجعلها تتلقَّى ضِعف تدفُّق الإشعاع النجمي الذي تتلقاه الأرض، وبذلك تضُم في نطاقها كواكبَ قريبة من نجمها الأم قُربًا كافيًا للدرجة التي تجعلها «مقيدة تقيدًا مديًّا» به؛ حيث يبقى الكوكب مواجهًا للنجم بجانبٍ واحد دائمًا.

يبدو أنَّ الحافة الخارجية للمنطقة الصالحة للحياة أقل قابليةً للتأثر بتحليل دوران الغِلاف الجوي والغطاء السَّحابي. لكن بعض النماذج الأكثر تطورًا تجد أنَّ الدخول في حالة «الكرة الثلجية» المتجمدة أصعب، وأنَّ الخروج منها أسهل، مما تقترحُه النماذج البسيطة. وعلى وجه التحديد، يمكن أن تُساعِد السُّحُب الموجودة فوق الغطاء الجليدي على إبقاء المناخ دافئًا؛ لأنها ليست عاكسة بدرجةٍ أفضل من الجليد الموجود تحتها، لكنها تحبس الإشعاع الحراري الصاعد من سطح الكوكب.

جيولوجيا الكواكب الخارجية

تفترض بعضُ التقديرات الحاليَّة للمنطقة الصالحة للحياة أن محتوى ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي للكوكب يمكن أن يستقر تلقائيًّا — بفضل التغذية المرتدة السالبة المتمثلة في تجوية السيليكات — بحيث يكون منخفضًا جدًّا عند الحافة الداخلية للمنطقة الصالحة للحياة ومرتفعًا جدًّا عند الحافة الخارجية. ويفترض هذا أنَّ الكوكب يتضمن نشاطًا تكتونيًّا، وأنَّ بعضًا من سطح مناطقه اليابسة مكشوف، لكنَّ كلا الافتراضين يُمكن أن يكون محل شك.

إن حركة الصفائح التكتونية غير مضمونة. إذ تُشير نظرياتٌ حالية إلى أنَّ حركة الصفائح التكتونية تكون أرجح على الكواكب الصخرية الأكبر حجمًا، وتُحفَّز بوجود الماء السائل. فالمريخ يفتقر إلى حركة الصفائح التكتونية، وهذا يتوافق مع حجمه الصغير، لكن كوكب الزهرة أيضًا يفتقر إلى هذه الحركة، رغم أنه ليس أصغر من الأرض إلا بمقدارٍ ضئيل. وفي الواقع، من المتوقَّع أن يقترب حجم كوكب الأرض من الحد الأدنى لأحجام الكواكب التي تتحرك فيها الصفائح التكتونية، وربما يرجع الفضل في وجود هذه الحركة إلى الماء، وربما تكون حركة الصفائح التكتونية بدورها لازمةً للحفاظ على الماء السائل في مواجهة سطوع الشمس. أما على الكواكب الأصغر حجمًا التي تقع خارج المجموعة الشمسية ولا تتضمن حركة صفائح تكتونية، فلا تُوجد آليةٌ واضحة لإعادة تدوير الكربون الموجود في الرواسب وإرجاعه إلى الغِلاف الجوي. بل بالعكس، لن يضُخ النشاط البركاني إلا كمياتٍ صغيرة من ثاني أكسيد الكربون من وشاح الكوكب، ويمكن أن تُزال هذه الكميات بسهولة بفعل تجوية السيليكات؛ مما يؤدي إلى انخفاض مستوى ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي باستمرار، وتقييد الحافة الخارجية للمنطقة الصالحة للحياة.

وصحيحٌ أنَّ افتراض وجود حركة صفائح تكتونية في «الكواكب الخارجية الأكبر كتلةً من الأرض» مبنيٌّ على أُسُس أقوى، لكنَّ وجود سطح مكشوف من اليابسة غيرُ مضمون. وهذا لأنَّ الجاذبية الأقوى الموجودة لدى الكوكب الخارجي الأكبر كتلةً من الأرض ستُقلِّل مستوى ارتفاع السطح، وهذا من المحتمل أن يُسفِر عن «عالَم مائي» لا يرتفع فيه أي شيء فوق سطح المحيط. ومع عدم وجود أسطح مكشوفة لعوامل الطقس، وعدم وجود تجوية قارية للسيليكات بالتبعية، سيتراكم ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي. ولكن تُوجد عمليةٌ ثانية لإزالة ثاني أكسيد الكربون، من خلال التفاعل مع قاع البحر (أي البازلت) أثناء تكوُّنه عند مناطق حيد وسط المحيط. ويُعتقد أيضًا أنَّ عملية إزالة ثاني أكسيد الكربون هذه حسَّاسة لدرجة الحرارة؛ لذا يُمكِنها أن تعمل على تثبيت مستوى تركيز ثاني أكسيد الكربون واستقرار المُناخ، وإن كان عند درجة حرارة أكبر. علاوةً على ذلك، من المُتوقَّع أن يُسفِر ارتفاع ضغط قاع البحر في الكواكب الخارجية الأكبر كتلةً من الأرض عن إزالة المزيد من المياه ونقلها إلى الوشاح؛ مما يُقلِّل من حجم المحيط ويسمح بانكشاف بعض كتلة اليابسة وتفعيل التغذية المرتدة الخاصة بتجوية السيليكات.

الأغلفة الحيوية في الكواكب الخارجية

بعدما تناولنا المتطلبات الجيولوجية اللازمة ليكون أي كوكب خارج المجموعة الشمسية صالحًا للحياة، هل يُوجد أي تعميم يُمكِننا إطلاقه عن نوع الغِلاف الحيوي الذي يمكن أن يستضيفه مثل هذا الكوكب؟

أحد الاعتبارات الرئيسية لأي غِلاف حيوي هو المصدر الذي يُمِده بالطاقة. وفي حالةِ أيٍّ من الكواكب الخارجية الواقعة في المنطقة الصالحة للحياة، سيكون مصدر طاقته الرئيسي هو النجم المجاور. ومن ثَم، لكي يُحقق الغِلاف الحيوي للكوكب الخارجي وجودًا معتبرًا على النطاق العالمي، لا بد أن يُغذيه شكلٌ من أشكال عملية التمثيل الضوئي الذي ينقل الطاقة من الفوتونات إلى الإلكترونات. وتُعَد غالبية النجوم أكثر خفوتًا من الشمس؛ الأمر الذي يعني أن فوتونات الضوء المُفرَدة التي تُطلقها عادةً ما تحمل طاقةً أقل. ومن ثَم سيتعيَّن استخلاص قَدر أكبر من الفوتونات لأداء أي نوع معيَّن من التمثيل الضوئي. وتجدُر الإشارة إلى أنَّ أداء التمثيل الضوئي غير الأكسجيني على كوكب الأرض يتطلب فوتونًا واحدًا لكل إلكترون، في حين أنَّ أداء التمثيل الضوئي الأكسجيني على الأرض يتطلب فوتونَين لكل إلكترون. وكذلك استغرق تطوُّر التمثيل الضوئي الأكسجيني على كوكب الأرض ما يصل إلى مليار سنة، وقد قام على نظامَين ضوئيَّين كانا قد تطوَّرا قبله، كلٌّ على حِدة، في أنواعٍ مختلفة من التمثيل الضوئي غير الأكسجيني. أمَّا بالنسبة للكواكب الواقعة حول نجوم أكثر خفوتًا من النوع «كيه» أو «إم» (التي يتراوح لونها من البرتقالي إلى الأحمر)، فيُقدَّر أن التمثيل الضوئي الأكسجيني يمكن أن يتطلب ثلاثة فوتونات أو أكثر لكل إلكترون — وعددًا مكافئًا من الأنظمة الضوئية — مما يجعل تطوُّره أصعب. ومن ثَم، فبصفتنا حيوانات تتنفس الأكسجين، ينبغي ألا نتفاجأ بأننا ندور حول نجمٍ ساطع للغاية من نجوم النوع «جي» (التي يتراوح لونها من الأبيض إلى الأصفر)؛ لأنه قد يكون من الصعب للغاية أن يتطوَّر التمثيل الضوئي الأكسجيني حول النجوم الأكثر خفوتًا وقياسية التي تنبعث منها فوتوناتٌ ذات طاقةٍ أقل. غير أنَّ النجوم الأكثر خفوتًا تقضي وقتًا أطول في النسق الأساسي؛ مما يتيح مزيدًا من الوقت لحدوث التطور.

وبالنظر إلى هذه الاعتبارات، من المُرجَّح أن يكون التمثيل الضوئي غير الأكسجيني أكثر شيوعًا في الكون من التمثيل الضوئي الأكسجيني. ولكن في الكواكب الخارجية، يُتوقَّع أنَّ المواد التي قد تمنح الإلكترونات من أجل أداء التمثيل الضوئي الأكسجيني — مثل الهيدروجين الجُزيئي وكبريتيد الهيدروجين والحديدوز — أندر من الماء، تمامًا كما هو الحال على كوكب الأرض. وهكذا فإنَّ ذلك سيحدُّ من إنتاجية الأغلفة الحيوية غير الأكسجينية؛ مما يُتيح لها قدرًا أقل من الطاقة التي تحتاج إليها لتُغيِّر بها تركيب أغلفتها الجوية، وهذا يُصعِّب اكتشافها عن بُعد. أمَّا التمثيل الضوئي الأكسجيني، فيُمِد الغِلاف الحيوي بطاقةٍ أكثر ممَّا يحتاج إليها، وهو ما يمنحه إمكانيةً أكبر لتغيير تركيب غِلافه الجوي، ويجعله قابلًا للاكتشاف عن بُعد. وهكذا فمع أنَّ الأغلفة الحيوية الأكسجينية ربما تكون أندَر من الأغلفة غير الأكسجينية، من المفترض أن يكون اكتشافُها أسهل. وقد يكون أفضل مكان للبحث عنها حول النجوم الأسخن، مثل شمسنا، في ظل ما تشعُّه من فوتونات ذات طاقةٍ أعلى؛ وهذه النجوم هي هدف التلسكوبات الفضائية القادمة بالفعل.

غير أنَّ البصمة الحيوية للأغلفة الحيوية الأكسجينية قد لا تكون هي العلامة الواضحة على وجود الأكسجين والأوزون في الغِلاف الجوي. فكما يُبيِّن تاريخ الأرض، يتطلب تراكم الأكسجين في الغِلاف الجوي معدلاتٍ مرتفعة من هروب الهيدروجين إلى الفضاء، وفي حالة كوكب الأرض، يستمد هذا الهروب طاقته من وجود تركيزاتٍ عالية من الميثان الحيوي. ويعتمد هروب الهيدروجين أيضًا على كتلة الكوكب، ومن المتوقَّع أن يصبح أصعب على الكواكب الخارجية الأكبر كتلةً من الأرض. وكذلك فحتى بعد وقوع «الأكسدة الكبرى» على كوكب الأرض، ظل الأكسجين عند مستوياتٍ معتدلة، وربما احتاج إلى تطوُّر الحياة البرية المعقَّدة لكي يرتفع إلى مستوياته العصرية، من خلال تعزيز عملية تجوية الفوسفور من الصخور.

هل تنطبق فرضية جايا على كواكب خارجية؟

تميل الدراسات الحالية المعنية بالمنطقة الصالحة للحياة إلى افتراض أنها مستقلة عن وجود الحياة أو عدمه. لكنَّ صلاحية كوكبٍ ما للحياة تعتمد على ما إذا كان مأهولًا أصلًا أم لا. تذكَّروا فرضية «جايا» التي اقترح لفلوك فيها أنَّ وجود الحياة على كوكب الأرض يُعزِّز صلاحيته للحياة. على الرغم من أنَّ بعض علماء نظام الأرض يختلفون بشأن الدليل على أن الحياة تؤثِّر في صلاحية كوكب الأرض للحياة، فإن معظمهم يتفقون على وجود هذا التأثير. وبالتبعية، يُمكن القول أيضًا إنَّ وجود غِلافٍ حيوي خارج المجموعة الشمسية قادر على إحداث تغيير قابل للاكتشاف في تركيب الغِلاف الجوي لكوكبه المضيف من المحتمل أن يُغيِّر صلاحية ذلك الكوكب للحياة. ولكن هل يُمكِننا إطلاق أي تعميم عن كيفية تأثير وجود الحياة على صلاحية كوكبٍ معيَّن للحياة؟

لنبدأ بالآلية الراسخة المؤكَّدة التي توسِّع المنطقة الصالحة للحياة؛ وهي التغذية المرتدة السالبة المتمثلة في تجوية السيليكات. إذ نعرف يقينًا أنَّ تجوية السيليكات على كوكب الأرض تتسارع بفعل وجود حياة على اليابسة، نتيجةً لسعيها إلى الحصول على المواد المغذية التي تحويها الصخور. وفي الواقع، يُعَد تعزيز معدل تجوية السيليكات بفعل وجود الحياة هو السبب الأبرز وراء المستوى المنخفض جدًّا من تركيز ثاني أكسيد الكربون على كوكب الأرض في الوقت الحالي. فبدون الحياة، كان كوكب الأرض الحالي سيُصبح أسخن، وتُشير بعض عمليات المحاكاة إلى أنه كان من الممكن أن يُصبح غير صالح أصلًا للحياة المعقدة، وهذا يتفق مع فرضية جايا.

وكذلك يُمكن توقُّع أنَّ بعض الأغلفة الحيوية الموجودة على كواكب أخرى تخفض مستوى ثاني أكسيد الكربون في الأغلفة الجوية لتلك الكواكب. فأولًا، إذا تطوَّرَت عملية التمثيل الضوئي على ذلك الكوكب، فمن المُرجَّح أن يؤدي هذا إلى نقل ثاني أكسيد الكربون من الغِلاف الجوي إلى صخور قشرة الكوكب في شكل مادةٍ عضوية ميتة. وثانيًا، من المحتمل أن يكون تعزيز تجوية صخور السيليكات حلًّا عامًّا للمشكلة الشائعة المتمثلة في ندرة الفوسفور على سطح الكوكب. وبعدما يؤدي ذلك إلى انخفاض مستوى أكسيد الكربون، من المُرجَّح أن يُسفِر هذا الانخفاض عن تحريك المنطقة الصالحة للحياة على كوكبٍ مأهول نحو موضعٍ أقرب إلى نجمه، مؤديًا بذلك إلى توسيع الحافة الداخلية، لكنه في الوقت نفسه يخفض الحرارة عند الحافة الخارجية للمنطقة الصالحة للحياة، وهذا يُشكِّل معضِلةً للأغلفة الحيوية التي تبدأ الحياة بالقرب من هناك. ويُمكِننا أيضًا أن نتوقع أنَّ الأغلفة الحيوية تُنشئ تأثيراتٍ تُسبِّب ارتفاعًا عامًّا إلى حدٍّ كبير في درجات الحرارة. وتجدُر الإشارة بالأخص إلى أنَّ إعادة تدوير الكربون العضوي في صورةِ ميثان تُعَد عمليةَ أيضٍ بسيطة وقديمة جدًّا على كوكب الأرض. فالغِلاف الحيوي المبكر على كوكب الأرض قد أعاد تدوير ما يصل إلى نصف الكربون المُستخلَص في عملية التمثيل الضوئي في صورة ميثان، وتجدُر الإشارة إلى أنَّ الميثان يرفع درجة الحرارة بمقدارٍ أكبر مما يُسبِّبه ثاني أكسيد الكربون. ومن ثَم، يُقدَّر أن التأثير الإجمالي قد أدى إلى ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض في مراحل عمره المبكرة (بالرغم من وجود مشكلةٍ محتملة تتمثل في أنَّ النسبة بين الميثان وثاني أكسيد الكربون إذا اقتربَت من الواحد الصحيح، فسينشأ في الغِلاف الجوي ضبابٌ يشتِّت ضوء الشمس معيدًا إياه مرةً أخرى إلى الفضاء، ويُبرِّد الكوكب المضيف).

وفي الواقع، تُوجد العديد من الطرق الممكنة التي يستطيع بها الغِلاف الحيوي أن يُسخِّن كوكبه المضيف أو يُبرِّده. فالحياة يُمكن أن تُنتِج بعض غازات الدفيئة القوية الأخرى، بما فيها أكسيد النيتروز وكبريتيد الكربونيل؛ أو يمكن أن تُولِّد تأثيراتٍ تبريدية أخرى، مثل إنتاج كبريتيد ثنائي الميثيل، فتَزيد من بياض السُّحُب. ومن المعروف أنَّ أي تأثير على المُناخ سيُولِّد بدَوره حلقةً من التغذية المرتدة؛ لأنَّ العمليات الحيوية كلها تقريبًا تتأثر بدرجة الحرارة. وصحيحٌ أنَّ أنظمة حلقات التغذية المرتدة المتعددة الناتجة من ذلك بدأَت تصبح أشد تعقيدًا من أن نستطيع إطلاق أي تعميم عن خصائصها. ولكن يُمكن تطبيق بعض المبادئ البسيطة الخاصة بالتغذية المرتدة.

وإذا كانت بعض أشكال الحياة تجعل كوكبها أصلح للحياة، فمن المُرجَّح أن تكون هذه عمليةً تُعزز نفسها بنفسها؛ وبذلك تنشأ تغذيةٌ مرتدة موجبة ستُشجِّع على انتشار الحياة. أمَّا إذا بدأَت بعض أشكال الحياة تدفع كوكبها نحو أقصى حدود صلاحيته للحياة، فستكون هذه عملية تُقيِّد نفسها بنفسها؛ وبذلك تنشأ تغذيةٌ مرتدة سالبة ستبدأ الحد من انتشار الحياة. وليس أكيدًا ما إذا كانت هذه التغذية المرتدة ستُحدِث تأثيرًا سريعًا وقويًّا بما يكفي لمنع حدوث انقراضٍ عالمي، وسيعتمد ذلك على التفاعل بين مجموعةٍ مختلفة من التغذيات المرتدة الحيوية وغير الحيوية. لكنَّ النماذج التي تتضمَّن هذه المبادئ الأساسية تتنبأ بأنَّ وجود غِلافٍ حيوي من المُرجَّح أن يؤدي، في المتوسط، إلى تعزيز صلاحية كوكبه للحياة.

وفي ظل اقتصار حجم العينة المتاحة على كوكبٍ واحد صالح للحياة، وهو الأرض، فمن الصعب (إن لم يكن مستحيلًا كما قد يقول البعض) أن نختبر ما إذا كان من المتوقَّع عمومًا أن تؤدي وفرة الحياة على كوكبٍ ما إلى تعزيز صلاحيته للحياة أم تقليلها. ولكن إذا اكتُشف وجود حياة بالفعل على أحد الكواكب الخارجية عن بُعد في العقود القليلة القادمة، فسنبدأ تكوين عينة ذات حجم أكبر من العوالم المأهولة. وفي ظل توافُر تلسكوبات فضائية أكثر تقدمًا باستمرار، يستطيع العلماء في المستقبل أن يكتشفوا المزيد عن خصائص هذه العوالم، ويُقارِنوها بخصائص الكواكب الخارجية التي تقع في المنطقة الصالحة للحياة ولا تظهر أي علامات على أنها مأهولة. وبذلك نستطيع أخيرًا أن نختبر صحة فرضية جايا. ومهما كانت النتيجة، فسنتعلم معلوماتٍ عميقة عن طبيعة الكواكب المأهولة بوجهٍ عام، وليس الأرض بالذات فقط.

عِلم نظام الكواكب الخارجية الشبيهة بالأرض

تُعَد ديناميكيات المُناخ والجيولوجيا والبيولوجيا كلها متشابكةً تشابكًا سببيًّا في نظام الأرض، ومن المؤكَّد أنها متشابكة معًا في عوالمَ مأهولةٍ أخرى. ويبدأ الباحثون من خلال تعميم النماذج التي وضعناها لنظام الأرض وتطوُّره صياغةَ ما أسمِّيه «علم نظام الكواكب الخارجية الشبيهة بالأرض»؛ وهو عِلم مَعني بالعوالم الصالحة للحياة والمأهولة عمومًا. وسوف نُصبح في العَقد القادم قادرين على اختبار صحة تنبؤات تلك النماذج استنادًا إلى أرصادٍ جديدة للكواكب الخارجية التي تقول نظرياتُنا الحالية إنها من المحتمل أن تكون صالحة للحياة. ومن المؤكَّد أننا سنشهد مفاجآت — وربما مفاجآت قوية — عن انتشار العوالم الصالحة للحياة، وانتشار الحياة، في الكون القريب منَّا. إذ ربما سنجد أنه على الرغم من وجود كل تلك الكواكب التي يُحتمل أن تكون صالحة للحياة هناك، لا تُوجد علامات على وجود حياة على أيٍّ منها. وربما سنجد قَدرًا وفيرًا من الحياة، وسنتفكر مليًّا في السبب الذي أدى إلى عدم اكتشاف أي علامة على وجود حياةٍ ذكية خارج كوكب الأرض بعد خمسين عامًا من البحث. وفي كلتا الحالتَين، من المؤكَّد أنَّ النتائج ستُغيِّر نظرتَنا إلى أنفسنا وإلى عالمنا. فأنا مُتيقِّن من أننا سنُعيد تأمُّل كوكب الأرض وحياتنا الذكية بإحساسٍ متجدد بالتعجب والعزم على الإسهام في تحقيق استدامة هذا الكوكب المذهل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤