الفصل الثاني

النسبية العامة

مبدأ التكافؤ

حتى الآن، استعرضنا فقط الحالات التي تكون فيها الحركة منتظمة؛ أي إن الراصد كان موجودًا داخل إطار مرجعي قصوري. أيضًا لم نضع أي اعتبار للجاذبية. والآن سنعمد إلى توسيع منظورنا كي يتضمن تأثيرات الحركة المتسارعة والجاذبية على الزمان والمكان. وفي هذا السياق الأوسع سنرى أن ما استعرضناه إلى الآن — نظرية النسبية الخاصة — ما هي إلا حالة خاصة من النظرية النسبية الأعم.

سنبدأ بالملاحظة البسيطة القائلة إنه في مجال الجاذبية — على غرار ذلك الموجود على سطح الأرض — كل الأجسام الساقطة من الارتفاع ذاته تتحرك نحو الأرض بالمعدل ذاته. في الواقع، ليست هذه الحقيقة واضحة بديهيًّا. فعند التطبيق العملي، علينا أن نضع في الاعتبار مقاومة الهواء، التي تنحو إلى إبطاء بعض الأجسام الساقطة بدرجة أكبر من سواها. فمثلًا، في حين تسقط المطرقة مباشرة نحو الأرض، تتهادى الريشة المُسقطة في الوقت ذاته في حركتها إلى أن تصل للأرض. لكن عند استبعاد تأثير مقاومة الهواء — كما حدث حين أجرى رواد رحلة أبولو ١٥ هذه التجربة على القمر — تصل المطرقة والريشة إلى الأرض في اللحظة عينها.

ليست هذه بفكرة حديثة؛ إذ توصل لها جاليليو قبل أن يفعل رواد الفضاء ذلك. ورغم أن القصة التي تُروى عنه — والتي فيها ألقى بالأجسام من برج بيزا المائل — غير صحيحة على الأرجح، فإنه بالفعل أرسى مبدأ «عمومية السقوط الحر». وقد فعل هذا من خلال إجراء تجاربه على الأجسام المتدحرجة على امتداد أسطح مائلة. (ربما حريٌّ بي أن أوضح أنه رغم أن قافزي المظلات قد يزعمون أنهم قبل فتح مظلاتهم يكونون في حالة «سقوط حر»، فإنهم في الحقيقة ليسوا كذلك؛ إذ إنهم خاضعون لتأثير مقاومة الهواء.) ومن الممكن أن تكون العبارة المعبرة عن مبدأ عمومية السقوط الحر أشبه بما يلي:

إذا وُضع جسم في نقطة في الفضاء ثم مُنح سرعة مبدئية هناك؛ فإن حركته التالية ستكون مستقلة عن بنيته أو تركيبه الداخلي، إذا كان خاضعًا لقوة الجاذبية فقط.

كيف لنا أن نفهم هذا إذنْ؟ إذا كان التسارع (العجلة) نتيجة الجاذبية إذنْ تتحدد قوة الجاذبية الواقعة على الجسم من خلال التعبير:
حيث هي سمة أصيلة للجسم تُسمى «كتلة الجاذبية».
لكن، في تقريب نيوتن، رأينا بالفعل أن القوة تتحدد أيضًا من خلال التعبير:
حيث هى العجلة و هي كتلة القصور الخاصة بالجسم؛ أي مقياس قصور الجسم عندما يتعلق الأمر بالاستجابة للقوى. وبحذف رمز القوة من هاتين المعادلتين يتبقى لدينا المعادلة التالية:
يقضي مبدأ عمومية السقوط الحر بأن العجلة الخاصة بكلٍّ من المطرقة والريشة متطابقة؛ ومن ثَم يمكننا الحديث عن العجلة الناتجة عن الجاذبية، ونشير إليها بالرمز وهكذا تكون مساوية ﻟ وهو ما يعني أن:
وبذا نكون قادرين على التحدث عن كتلة الجسم التي أشير لها سابقًا — ويشار لها في المعتاد — بالرمز نُفذت الاختبارات التجريبية الخاصة بتساوي نوعَي الكتلة هذين بنجاح حتى درجة دقة قدرها جزء واحد في مليون المليون؛ أي ١ في كل ١٠١٢ أجزاء.

كما ذكرنا من قبل، هذه الحقيقة معروفة منذ وقت طويل. تكمن عبقرية أينشتاين في أنه اكتشف — مجددًا — أن ثمة خطأً ما، رغم أن غيره لم يلحظه. في حالة النسبية الخاصة لاحظ أينشتاين أن ثمة خطأً ما عند محاولة التوفيق بين مبدأ النسبية المعروف جيدًا والحقيقة المعروفة جيدًا بالمثل — والمشتقة من قوانين ماكسويل للكهرومغناطيسية — التي تقضي بأن سرعة الضوء ثابتة. والآن، وجد أينشتاين نفسه متحيرًا بسبب حقيقة أن هذين النوعين المتمايزين فيما يبدو من «الكتلة» لهما نفس القيمة؛ ومن ثَم، تساءل كيف تأتَّى لقوة الجاذبية أن «تعرف» مقدار الشدة الذي يجب أن تجذب به جسمين مختلفين للغاية بحيث تجعلهما يتسارعان بالمعدل ذاته؟ وعلى أي حال، «لماذا» تريد الجاذبية أن يتسارع الجسمان بالمعدل ذاته؟ ما هو المغزى من وراء هذا؟ وبهذه الطريقة خلص أينشتاين إلى أنه لا بد من وجود رابط وثيق ودقيق بين الجاذبية من ناحية، والعجلة من ناحية أخرى.

لمعرفة ما يمكن أن يكون عليه هذا الرابط، دعونا نتخيل أننا ألقينا المطرقة والريشة في مصعد؛ بحيث يمثل المصعد الإطار المرجعي الذي يمكن تسريع حركته بسهولة في الاتجاه الرأسي. ولنفترض أنه في اللحظة التي أفلتنا فيها المطرقة والريشة، انقطع حبل المصعد وبدأ المصعد نفسه في السقوط. سيسقط المصعد بنفس المعدل الذي يسقط به الجسمان الآخران، ولأنها جميعًا تسقط معًا، يعني هذا أن مواضعها النسبية بعضها لبعض لا تتغير. من منظور الراصد الموجود في المصعد، عندما يفلت المطرقة والريشة، ستظلان حيثما هما نسبة إليه، ولن ينتهي بهما الحال بالسقوط على أرضية المصعد. بعبارة أخرى: سيبدو لهذا الراصد أن الجاذبية قد عُطلت. وستكون محتويات المصعد «عديمة الوزن». (نفترض هنا أن الراصد يدرك أن مكابح الطوارئ ستؤدي عملها في نهاية المطاف؛ ولهذا سيكون قادرًا على التركيز على المشكلات الفيزيائية المعقدة بدلًا من القلق على سلامته.)

من المألوف أكثر التعرض لفكرة انعدام الوزن في سياق دوران رواد الفضاء حول الأرض في الفضاء الخارجي. من الشائع الاعتقاد بأن سبب انعدام وزنهم هو وجودهم في الفضاء بعيدًا عن قوة الجاذبية الخاصة بالأرض والشمس. بَيْدَ أن هذا ليس صحيحًا. فانعدام الوزن يمكن حدوثه بينما مركبة رائد الفضاء تدور حول الأرض. وحقيقة أن المركبة تدور في مدار — بدلًا من أن تنطلق بعيدًا في الفضاء في خط مستقيم — تخبرنا على الفور بأن المركبة، ورائد الفضاء داخلها، خاضعان لقوة الجاذبية الأرضية. إن السبب الحقيقي لحالة انعدام الوزن هنا هو أن المركبة في حالة سقوط حر تحت تأثير الجاذبية الأرضية، تمامًا كشأن الراصد الموجود في المصعد الساقط. وسبب عدم اصطدام المركبة بالأرض هو أن قوة الجاذبية جميعها تُستهلك في تحويل الحركة المعتادة على خط مستقيم إلى الحركة المدارية التي نلحظها؛ ومن ثَم يمكن القول بأنه لا يتبقى منها ما يكفي لجذب رائد الفضاء إلى سطح الأرض؛ وبذا يبدو رائد الفضاء وكأنه «يطفو بلا وزن» حول مدار الأرض.

على نحو مشابه، بمقدورنا تخليق «قوة جاذبية» صناعية عن طريق التسارع المناسب. افترض — مثلًا — أنه أثناء طفو المركبة قرر رائد الفضاء أن يغفو قليلًا، وأنه بينما هو نائم عملت محركات المركبة. عند استيقاظه، سيشعر بقوة جذب ناحية مؤخرة المركبة، وأي شيء غير مثبت بإحكام سيُرى وهو ينساق نحو المؤخرة. ما الذي سيستنتجه رائد الفضاء؟ يمكنه سماع هدير المحركات؛ ومن ثَم سيدرك أن أحد تفسيرات ما يحدث هو أن المركبة تتحرك. لكنَّ هناك سيناريو بديلًا؛ ماذا لو أنه بينما كان رائد الفضاء نائمًا، دخلت المركبة نطاق أحد الكواكب من جهة المؤخرة، وأن محركات المركبة تعمل فقط كي تحافظ على موضعها نسبةً إلى الكوكب؟ لو صح هذا، فلن تتسارع حركة المركبة، بل ستكون ساكنة في موضعها، وسيكون السلوك المرصود في كابينة المركبة جميعه نابعًا من تأثير قوة جاذبية الكوكب. وسيكون من المستحيل على رائد الفضاء أن يميز بين البديلين: (١) عجلة منتظمة في الفضاء الخارجي، أو (٢) البقاء ساكنًا تحت تأثير قوة جاذبية كوكب قريب. وهذا ينشأ من مبدأ «التكافؤ الضعيف»، الذي ينص على أنه ليس بمقدور المرء أن يميز بين الحركة تحت تأثير الجاذبية والحركة تحت تأثير العجلة؛ إذ إنهما متساويتان؛ ومن ثَم، يعد مبدأ التكافؤ الضعيف في جوهره مساويًا لمبدأ عمومية السقوط الحر.

لكن لماذا سُمي بالمبدأ «الضعيف»؟ لأن ثمة نسخة أخرى منه تسمى «مبدأ التكافؤ القوي»، لأن ثمة نسخة أخرى «جميع» صور السلوك المادي (وليس فقط الحركة) هي ذاتها، سواءٌ تحت تأثير الجاذبية أو العجلة.

ثمة تحذير واحد عليَّ أن أضيفه؛ وهو أنه بمقدور المرء التفريق — على وجه الدقة — بين العجلة والجاذبية. ألقِ نظرة على الشكل ٢-١(أ)؛ الرجل الموجود في المصعد يحمل جسمين إلى جانبه بطول ذراعيه، وقوة الجاذبية موجهة ناحية مركز الأرض، ولأن موضع المطرقة يختلف عن موضع الريشة نسبةً إلى مركز الأرض، فإن القوة المؤثرة على المطرقة تعمل في اتجاه مختلف قليلًا عن تلك المؤثرة على الريشة؛ ويلتقي الاتجاهان في النهاية عند مركز الأرض. على العكس، إذا كان الراصد موجودًا في الفضاء الخارجي، بعيدًا للغاية عن أي أجسام لها تأثير جذبوي، وتسارع جسده، كما في الشكل ٢-١(ب)، فإن مسارَي الجسمين اللذين سيسقطهما سيكونان موازيًا أحدهما للآخر، ولن يلتقيا في أي نقطة. إذنْ من منظور الجسمين، العجلة وقوة الجاذبية لا تعملان في الاتجاه عينه. هذا يعني أنه لو انقطع حبل المصعد، فلن تظل المطرقة والريشة ساكنتين «تمامًا» إحداهما بالنسبة إلى الأخرى وإلى المصعد، بل ستقترب إحداهما من الأخرى قليلًا، بحيث إنه لو سقط المصعد في نفق يفضي مباشرة نحو مركز الأرض، فستلتقي المطرقة والريشة في نهاية المطاف. هذا يعني أن مبدأ التكافؤ (في صورتيه القوية والضعيفة) يجب أن يأتي مصحوبًا بتحذير: إذ إن تكافؤ العجلة والجاذبية يسري فقط إذا اخترنا منطقة صغيرة وأجرينا قياساتنا عليها وذلك في حدود دقة معينة، أما عبر المناطق الشاسعة و/أو على مستوًى أعلى من الدقة، فقد يلحظ المرء التفاوت البسيط الذي تحدثنا عنه. أيضًا من المفترض ألا تؤخذ القياسات عبر فترة زمنية أطول من اللازم. فالجسمان المُسقطان على ارتفاعين مختلفين اختلافًا طفيفًا داخل مركبة فضائية تدور حول الأرض (في حالة سقوط حر)؛ سيبتعدان بعد فترة زمنية كافية أحدهما عن الآخر؛ لأن قوة الجاذبية (التي تتناسب عكسيًّا مع مربع المسافة من مركز الأرض) ستكون أقل بقدر يسير على الجسم الأعلى.
fig13
شكل ٢-١: في الحالة (أ)، يميل مسارا الجسمين الساقطين بفعل قوة الجاذبية قليلًا أحدهما نحو الآخر؛ لأن كليهما يتجهان صوب مركز الأرض. وعلى العكس، في الحالة (ب)، حيث يقع الجسمان تحت تأثير العجلة وليس الجاذبية، يكون مسارا الجسمين متوازيين.

لكن ليس لهذا تأثير يُذكر على ما نتحدث عنه هنا. المهم في الأمر أنه بسبب مبدأ التكافؤ، إذا رغبنا في استكشاف ما ستكون عليه تأثيرات الجاذبية في موقف بعينه، يمكننا إحلال العجلة محلها لو كان هذا ملائمًا أكثر، وبالمثل، إذا رغبنا في استكشاف تأثيرات العجلة، يمكننا التفكير فيها بوصفها قوة جاذبية مكافئة. أحيانًا يعد مبدأ الجاذبية بمثابة السلف الأول للنسبية العامة؛ تلك النظرية التي تتجاوز إلى حدٍّ بعيد حدود ذلك المبدأ.

fig14
شكل ٢-٢: مصدر للضوء موضوع عند مؤخرة المركبة الفضائية يرسل نبضات منتظمة نحو هدف موضوع في المقدمة.

تأثيرات العجلة والجاذبية على الزمن

يمكننا استكشاف الكيفية التي تؤثر بها العجلة والجاذبية على الزمن بالاستعانة مجددًا بمصدر للضوء النابض وهدف موضوعَين على مركبة فضائية. لكن هذه المرة، مصدر الضوء موضوع في مؤخرة المركبة، والهدف موضوع في المقدمة (انظر الشكل ٢-٢). من المفترض أن يرسل مصدر الضوء سلسلة من النبضات ذات تردد منتظم عندما تكون محركات المركبة مطفأة، تمثل المركبة إطارًا مرجعيًّا قصوريًّا. وفي ظل هذه الظروف، تصل النبضات إلى الهدف بنفس معدل التردد الذي أُرسلت به؛ أي .
الآن، لنفترض أنه في اللحظة التي انطلقت فيها إحدى النبضات، اشتغلت محركات المركبة؛ بحيث بدأت المركبة في التسارع إلى الأمام بعجلة قدرها إذا كانت المسافة إلى الهدف هي ، فستستغرق النبضة وقتًا قدره حتى تصل إلى مقدمة المركبة. وخلال هذا الوقت، ستكون المركبة قد اكتسبت سرعة قدرها:
هذه هي سرعة الهدف عندما يتلقى النبضة مقارنة بسرعة المصدر حين أُطلقت النبضة في البداية. بعبارة أخرى: يتلقى الهدف النبضة وهو يبتعد عن مصدرها بسرعة نسبية قدرها .
كما هو معلوم، عند التعامل مع موجات صوتية كتلك التي تطلقها صافرة سيارة إسعاف متحركة، أو موجات ضوئية آتية من مصدر متحرك، فإن تردد الموجات المُستقبلة يختلف عن تردد الموجات عند إرسالها. وهذه هي «إزاحة دوبلر» المعروفة. فإذا كان مصدر الموجات آخذًا في الابتعاد، يكون التردد المُستقبَل أقل، أما إذا كان آخذًا في الاقتراب، يكون التردد أعلى. والمعادلة القياسية التي تربط التردد المستقبَل والتردد المرسل هي كالتالي:
(2-1)
مع السرعات القريبة من سرعة الضوء، ينبغي تعديل هذا التعبير كي يتضمن تأثير الإبطاء الزمني على المصدر المتحرك. لكن مع السرعات الصغيرة (مثل السرعة المتحققة من جانب المركبة المسرعة خلال الوقت الذي تستغرقه النبضة المرسلة في اجتياز طول المركبة) تكون هذه المعادلة كافية. وبإعادة ترتيب المعادلة، فإن الاختلاف في التردد المرصود عند الهدف أثناء ابتعاده عن الموضع الأصلي للمصدر يمكن كتابته كالتالي:
وباستخدام التعبير الذي اشتققناه من أجل السرعة يكون لدينا في النهاية المعادلة التالية:
(2-2)
ومن ثَم، فإن التردد الذي تُستقبل به النبضات في المقدمة يكون أقل من التردد الذي أُرسلت به من المؤخرة. وعلى نحو مشابه، إذا كان المصدر المرسِل للنبضات موضوعًا في مقدمة المركبة وكان الهدف موضوعًا في المؤخرة، فسيبدو المصدر وكأنه يقترب من الراصد لا يبتعد عنه، وسيكون تردد النبضات عند استقبالها أعلى مما كان عليه عند إرسالها.
fig15
شكل ٢-٣: نبضات منتظمة من الضوء تُرسَل من مؤخرة المركبة إلى مقدمتها، بينما تنتصب المركبة على نحو رأسي على منصة الإطلاق.
مع وضع كل هذا في الاعتبار، لنتدبر الآن ما سيحدث لو استعضنا عن العجلة بمجال جاذبية مكافئ. سنفترض أن المركبة موضوعة على منصة الإطلاق، وتثبتها إلى الأرض الجاذبية الأرضية (الشكل ٢-٣). الآن يصير حائط مؤخرة المركبة بمثابة «أرضية» المركبة، بينما يصير حائط مقدمة المركبة بمثابة «السقف» لها. ومجددًا، تنطلق نبضات منتظمة من الضوء من المصدر الموضوع على أرضية المركبة إلى السقف. وبعد أن عرفنا ما سيكون عليه الوضع داخل الإطار القصوري المتسارع، يمكننا على الفور أن نخلص — من خلال مبدأ التكافؤ — إلى أنه من منظور الراصد الموجود عند الهدف سيكون تردد الموجات أقل مما يراه راصد ثانٍ موجود قرب المصدر. من منظور الراصد الموجود عند القمة يجب أن يتساوى التردد الذي استُقبلت به النبضات مع التردد الذي تُطلَق به؛ ومن ثَم، يخلص هذا الراصد إلى أن تردد النبضات عند الإطلاق أقل مما يزعم الراصد الموجود عند المصدر. يطلق على هذا اسم «الانزياح الأحمر الجذبوي»، وهو يشير إلى حدوث إزاحة في التردد نحو الطرف الأحمر الأدنى للطيف. المغزى من وراء هذا هو أننا لو نظرنا إلى المصدر النابض بوصفه ساعة زمنية — تطلق نبضة واحدة كل ثانية مثلًا — فإن «الراصد الموجود عند القمة سيخلص إلى أن الساعة الموجودة في موضع أقرب إلى مركز مجال الجاذبية تسير على نحو بطيء.»

وبالمثل، إذا كان المصدر موضوعًا عند قمة المركبة والهدف موضوع عند قاعدتها، فمن واقع مبدأ التكافؤ أيضًا علينا أن نستنتج أن الراصد الموجود عند القاعدة سيتلقى النبضات بمعدل أسرع (إذ إن المصدر المتسارع المكافئ الآخذ في الاقتراب منه سيمنحه ترددًا أسرع مزاحًا وفق قاعدة دوبلر). هذا هو «الانزياح الأزرق الجذبوي»؛ وبذا، فإن الراصد الموجود عند أرضية المركبة سيتفق مع الراصد الموجود عند سقفها في أن ساعته تسير على نحو أبطأ من نظيره.

لاحظ أن هذه نتيجة مختلفة عن النتيجة التي وصلنا إليها بشأن ظاهرة الإبطاء الزمني النابعة من الحركة النسبية. في تلك الحالة، كان كل راصد من الراصدَين مؤمنًا بأن ساعة الراصد الآخر هي التي تسير على نحو أبطأ من ساعته؛ وذلك لأن الموقف كان متماثلًا على نحو تام؛ إذ لم يكن ثمة سبيل لمعرفة أيهما كان يتحرك «حقًّا». لكن الموقف الذي بين أيدينا الآن ليس متماثلًا بين الراصدَين؛ فهما متفقان بشأن أيهما أبعد عن مجال الجاذبية وأيهما أقرب له.

وهكذا نجد أنه كلما توغلنا أكثر في مجال الجاذبية، تسير الساعة — ومن ثَم الزمن ذاته — على نحو أبطأ. والإزاحة الطفيفة في التردد هي ذاتها التي وجدناها في حالة المركبة المتسارعة:
حيث مجددًا هو الفارق في الارتفاع بين الموضعين، وقد استعضنا هنا عن العجلة ، بالجاذبية ، مكافئ العجلة الناجم عن الجاذبية في هذا المجال الموحد.

خرج أينشتاين بتنبُّئه بوجود انزياح تردد جذبوي في عام ١٩١١. وقد وردت أولى الإشارات التجريبية عن وجود انزياح أحمر جذبوي من دراسة أطياف الضوء المنبعث من النجوم القزمة البيضاء. للأقزام البيضاء كتلة تعادل كتلة الشمس، لكنها منضغطة بدرجة كبيرة — أصغر بحوالي ١٠٠ مرة — ومن ثَم يكون لها مجال جاذبية قوي على السطح. وبعد فترة من الوقت، في الستينيات، تمكن فريق من جامعة برينستون من قياس انزياح الضوء الوارد من الشمس. بَيْدَ أن أقوى التأكيدات الواردة من الدراسات الفلكية جاء من النجوم النيوترونية. هذه النجوم لها كتلة قدرها ١٫٤ مرة قدر كتلة الشمس، لكن نصف قطرها يبلغ نحو ١٠ كيلومترات وحسب؛ ومن ثَم فإن قوة الجاذبية على سطحها مهولة. وفي عام ٢٠٠٢، رصد التليسكوب الفضائي إكس إم إم نيوتن، التابع لوكالة الفضاء الأوروبية، الانزياح الذي تعرضت له الأشعة السينية المنبعثة من أحد النجوم النيوترونية، والمارة عبر غلافه الجوي الذي لا يتجاوز السنتيمتر الواحد، وقد وُجد أن الانزياح في التردد بلغ ٣٥٪.

في عام ١٩٦٠، وباستخدام طريقة فائقة الدقة لقياس التردد، تحقق روبرت بوند وجلين ريبكا تجريبيًّا من وجود الانزياح من خلال تمرير أشعة جاما بطول برج ارتفاعه ٢٢٫٥ مترًا. وباستخدام القيم: = ٩٫٨١ م/ث٢، و = ٢٢٫٥ مترًا، و = ٣ × ١٠٨ م/ث، يمكن التحقق بواسطة المعادلة السابقة من أن الانزياح الطفيف في التردد في هذه الحالة كان يبلغ −٢٫٥ × ١٠−١٥. ومع هذا فقد تم التحقق من وجود هذا الانزياح في حدود دقة قدرها ١ بالمائة.

تم التحقق من هذا التأثير أيضًا من خلال إرسال ساعات ذرية إلى ارتفاعات عالية على متن طائرات. في السابق، ذكرنا كيف تم التحقق من معادلة الإبطاء الزمني الذي تُمليه النسبية الخاصة باستخدام طائرة. في الواقع، كان الموقف أكثر تعقيدًا بكثير مما أشير إليه ها هنا. كان هناك عاملان مؤثران: أحدهما هو سرعة الساعة الموضوعة على الطائرة نسبة إلى الساعة الموجودة على سطح الأرض، والثاني — التأثير الجديد — هو ارتفاع الطائرة فوق الساعة الموجودة على الأرض. هذان التأثيران مشابهان أحدهما للآخر ويجب فك الارتباط بينهما. من الناحية العملية، قام عالمان تجريبيان — هما جيه سي هافيل وآر إي كيتينج — في عام ١٩٧١ بوضع ساعة على طائرة تطير حول العالم باتجاه الشرق، فيما وُضعت أخرى على طائرة تطير حول العالم باتجاه الغرب. ثم قورنت القراءتان المسجلتان بقراءة ساعة ثالثة موجودة في المرصد البحري الأمريكي. ورغم أن الطائرتين كانتا تطيران بالسرعة عينها نسبة إلى سطح الأرض، فإنه بسبب سرعة دوران الأرض حول نفسها كانت الطائرتان بالفعل تطيران بسرعتين مختلفتين نسبة إلى الراصد الموجود داخل الإطار القصوري والموجود — مثلًا — في مركز الأرض. وبسبب دوران الأرض حول نفسها، كانت الساعة الموجودة على سطح الأرض هي الأخرى تتحرك نسبة إلى الراصد الموجود داخل الإطار القصوري؛ وذلك بسرعة تتوسط السرعتين اللتين تتحرك بهما الطائرتان. وفي رحلتَي الطائرتين تم الاحتفاظ بسجل لكلٍّ من السرعة والارتفاع. وقد مكَّن هذا من عمل الحسابات الخاصة بمقدار الفقد أو الزيادة المتوقع في زمن الساعتين الموضوعتين على الطائرتين مقارنة بتلك الموجودة على سطح الأرض. كان من المفترض أن تكتسب الساعة المتجهة شرقًا ١٤٤ ± ١٤ نانو ثانية بسبب الانزياح الأزرق الجذبوي، وأن تفقد ١٨٤ ± ١٤ نانو ثانية بسبب الإبطاء الزمني؛ بحيث يكون الصافي فقْدًا قدره ٤٠ ± ٢٣ نانو ثانية. وقد أثبتت النتائج التجريبية وجود فقْد قدره ٥٩ ± ١٠ نانو ثانية. في الوقت ذاته، كان من المتوقع للطائرة المتجهة غربًا أن تكسب زمنًا قدره ١٧٩ ± ١٨ نانو ثانية بسبب الجاذبية، إضافة إلى مكسب آخر قدره ٩٦ ± ١٠ نانو ثانية بسبب الإبطاء الزمني؛ بحيث يكون الصافي ٢٧٥ ± ٢١ نانو ثانية. وقد توافقت الحسابات توافقًا طيبًا مع النتيجة التجريبية التي بينت وجود زيادة قدرها ٢٧٣ ± ٧ نانو ثانية.

أُجري اختبار آخر على الانزياح الأزرق الجذبوي في عام ١٩٧٦ خلال رحلة لصاروخ على ارتفاع ١٠ آلاف كيلومتر. وبعد تصحيح البيانات في ضوء الإبطاء الزمني النسبي المتوقع، توافقت نسبة الانزياح الأزرق الجذبوي مع النظرية في حدود دقة قدرها جزأين لكل ١٠٤ أجزاء.
وبهذا تكون تأثيرات الجاذبية على الزمن قد أُثبتت جيدًا. إن الزمن يمضي في الطابق العلوي بمنزلك أسرع مما يمضي في الطابق السفلي. لكن قبل أن تراودك أفكار مثل تأدية الأعمال المضجرة — ككي الملابس — في الدور العلوي حتى تنتهي منها على نحو أسرع، تذكَّر أن الزمن نفسه هو الذي يمضي أسرع، وليس الساعة. هذا يعني أن المرء يفكر على نحو أسرع وهو في الطابق العلوي، وبذا ستظل الأعمال المضجرة تبدو أنها تستغرق الوقت عينه من منظورك. ومن الجدير بالذكر أيضًا أن العمر سيمضي بك أسرع؛ ومن ثَم ستموت أسرع هناك! إلا إذا، بالطبع، وضعت في اعتبارك أن التأثيرات التي نتحدث عنها هنا بالغة الضآلة. فحتى لو ارتقيت قمة جبل سنودون، فإن الزمن الذي ستستغرقه في شرب قدح من القهوة هناك لن يقل عن الزمن المستغرق عند مستوى سطح البحر إلا بجزء واحد في ١٠١٣ أجزاء من الثانية.

ليس الانزياح الأحمر الجذبوي صغيرًا على الدوام. وكما سنرى لاحقًا، فإن الجاذبية المرتبطة بالثقوب السوداء قوية للغاية لدرجة أنها قادرة على إيقاف الزمن تمامًا.

عودة إلى معضلة التوأمين

في ضوء معرفتنا بتأثيرات العجلة/الجاذبية على الساعات، سنعاود النظر إلى معضلة التوأمين.

أوضحنا سلفًا كيف أن رائد الفضاء بعد أن ترك توأمه على الأرض وسافر صوب كوكب بعيد، عكس حركة مركبته حتى يعود إلى الأرض كي يقارن الساعتين على نحو مباشر لا غموض فيه. وقد فعل هذا من خلال تشغيل محركات مركبته، وهو ما جعله يقع تحت تأثير العجلة. وعلى النقيض، طيلة الفترة التي كانت المركبة واقعة فيها تحت تأثير العجلة، لم يشعر مسئول المراقبة بشيء. وهذه هي الكيفية التي انهار بها التناظر بين رائد الفضاء ومسئول المراقبة. وعليه فإن مسئول المراقبة هو الوحيد الذي أطاع شرط البقاء طوال الوقت داخل إطار قصوري. ولهذا السبب، وحدها حساباته هي الصحيحة، وهذه الحسابات تحديدًا تفيد أن رائد الفضاء سيعود من الرحلة وعمره أصغر من عمر مسئول المراقبة.

بفرض أن المسافة المقطوعة بين الأرض وذلك الكوكب هي ، وأن سرعة المركبة إذنْ يكون الزمن المسجل على ساعة مسئول المراقبة للرحلة كلها ذهابًا وإيابًا هو:
(2-3)
ومن منظور مسئول المراقبة، فإن القراءة التي تسجلها ساعة رائد الفضاء وقعت تحت تأثير الإبطاء الزمني، وأن المعادلة الخاصة بها هي:
(2-4)
يتفق رائد الفضاء مع هذا التقييم الخاص بقراءة ساعته، لكن لسبب آخر. فمن منظوره، المسافة بين الأرض والكوكب (كما يراهما وهما يتحركان نسبةً إليه) تقلص طولها بمعامل قدره . ومن ثَم سيكون رائد الفضاء راضيًا عن الزمن المنتقص من ساعته.
تكمن المشكلة في تقييم رائد الفضاء لما يفترض أن تكون عليه قراءة ساعة مسئول المراقبة عند عودة رائد الفضاء إلى الأرض. فرائد الفضاء يزعم أن الأرض ومسئول المراقبة يتحركان بسرعة قدرها نسبةً إليه، وعليه من المفترض أن تخضع ساعة مسئول المراقبة للإبطاء الزمني. وهو محق إلى حدٍّ ما. ففي تلك الأجزاء من الرحلة التي تتسم بالحركة المنتظمة، يكون رائد الفضاء ومسئول المراقبة داخل إطار مرجعي قصوري، ويحق لرائد الفضاء أن يؤمن بأن ساعة مسئول المراقبة تسير على نحو أبطأ من ساعته. (هنا نحن نتجاهل أي تأثيرات جذبوية آتية من الكوكب الذي يزوره رائد الفضاء.) لكن ماذا عن الفترة التي انطلقت فيها محركات المركبة، وانخفضت سرعتها ولم يعد رائد الفضاء داخل إطار قصوري؟ هذا الانخفاض في السرعة يعادل تسارعًا في اتجاه الأرض. وبعد التوقف، على رائد الفضاء أن يتسارع مجددًا وصولًا إلى السرعة ، وهذه المرة في اتجاه الأرض؛ بحيث يستأنف فترة تسارعه في الاتجاه ذاته.
رأينا كيف أن التأثيرات التي تنتجها العجلة (التسارع) هي ذاتها التي ينتجها مجال جاذبية مكافئ؛ ومن ثَم، يمكننا الاستعاضة عن عجلة المركبة (تسارعها) بمجال جاذبية تخيُّلي، ذي قوة منتظمة، يمتد على طول الطريق من موضع المركبة الحالي على الكوكب وحتى موضع مسئول المراقبة على الأرض. تعطينا المعادلة رقم 2-2، والتي تنص تحديدًا على أن الإزاحة المرصودة في تردد الضوء المنبعث من المصدر الموجود على مسافة، قدرها والأقرب إلى مجال الجاذبية هذا هو الانزياح الأحمر الجذبوي. أما إذا كان مصدر الضوء موضوعًا في مكان أبعد عن الجاذبية، فسنحذف العلامة السالبة في المعادلة رقم 2-2 ويكون لدينا انزياح أزرق جذبوي. هذه العلاقة لا تصح وحسب في حالة تردد الضوء المنبعث، ولكن أيضًا مع معدل سير الساعة الموضوعة في المكان ذاته. وحين نضع في الاعتبار أنه في حالتنا هذه تكون ساعة مسئول المراقبة موضوعة في مكان أبعد من مركز الجاذبية مقارنة بساعة الراصد (رائد الفضاء)، يخلص رائد الفضاء إلى أن الزمن يمر بسرعة على مسئول المراقبة. وعليه — طيلة فترة التسارع — يدرك رائد الفضاء أن ساعة مسئول المراقبة تسير أسرع من ساعته. هذه الزيادة في السرعة ملحوظة، بحيث إنه إلى أن يطفئ رائد الفضاء محركاته ويبدأ في رحلة العودة المنتظمة إلى الأرض، فإن ساعة مسئول المراقبة ستكون قد سبقت ساعته بكثير، وذلك بدلًا من أن تكون متأخرة عنها. وخلال رحلة العودة المنتظمة إلى الأرض، تكون ساعة مسئول المراقبة مجددًا أبطأ من ساعة رائد الفضاء؛ وذلك بسبب تأثير الإبطاء الزمني المعتاد. ونتيجة لهذا، خلال رحلة العودة إلى الأرض، تبدأ ساعة رائد الفضاء في تعويض الفارق بينها وبين ساعة مسئول المراقبة. لكن يتبين أن ساعة مسئول المراقبة قد كسبت من الوقت قدرًا كبيرًا خلال فترة التسارع القصيرة، بحيث تظل متقدمة على ساعة رائد الفضاء عند عودته إلى الأرض. بعبارة أخرى: يكون التوأم الموجود على الأرض أكبر سنًا، وهي بالطبع النتيجة عينها التي يتوصل إليها توأمه؛ وبذا لا يكون للمعضلة وجود.
القراءات المسجلة على كلٍّ من ساعة مسئول المراقبة وساعة رائد الفضاء خلال المراحل المختلفة من الرحلة — وذلك من منظور رائد الفضاء — موضحة على الرسم البياني في الشكل ٢-٤. بعد الانطلاق من الأرض عند النقطة O، تصل المركبة إلى الكوكب عند النقطة A، وفي هذه المرحلة تتأخر عن . بين النقطتين A وB، تعمل المحركات؛ وهنا تسبق وخلال المرحلة الممتدة بين B وC، يميل الفارق بين القراءتين إلى التلاشي، لكن عند النقطة C تظل تسبق .
من الأمور التي قد تحيرك أنه لو حدث أن قطعت المركبة رحلة أطول — لنقُل مثلًا — بعشرة أضعاف، فسيكون الفارق الزمني إذن أكبر بعشرة أضعاف. لكنها ستحتاج نفس مقدار التسارع كي تعكس اتجاه سرعتها. كيف يمكن للتسارع عينه أن ينتج تغيرًا قدره عشرة أضعاف في قراءة ساعة مسئول المراقبة؟ الإجابة موجودة في المعادلة رقم 2-2؛ حيث نرى أن إزاحة التردد تتناسب طرديًّا مع المسافة وإذا كانت المسافة أكبر بعشرة أضعاف، فستزداد إزاحة التردد بعشرة أضعاف هي الأخرى.
أمر آخر قد يثير الاهتمام لديك، هو أننا لم نحدد مقدار التسارع الحادث. ومرة أخرى، ليس لهذا الأمر أي تبعات. فنحن نعرف أن ؛ حيث هي التسارع (العجلة) و هي الزمن الذي سيعمل خلاله التسارع كي ينتج ذلك التغير في السرعة ولو قُلل التسارع بمقدار النصف، فسيكون عليه أن يعمل لضعف الوقت كي ينتج التغير نفسه في السرعة. تبين المعادلة رقم 2-2 أنه لو قلت قيمة إلى النصف، فستقل إزاحة التردد بمقدار النصف. لكن التسارع، ومن ثَم معدل حركة الساعة المتزايد، سيتواصلان لزمن مضاعف؛ وبهذا يكون التغير الإجمالي في قراءة الساعة هو نفسه كالسابق.
fig16
شكل ٢-٤: القراءة المسجلة على ساعة رائد الفضاء مقارنة بالقراءة المسجلة على ساعة مسئول المراقبة ، وذلك من منظور رائد الفضاء.

من السهل التحقق من الأمر كميًّا بالاستعانة بطريقة إزاحة دوبلر. (هذا ما سنناقشه في الجزء المتبقي من هذا القسم، ويمكنك إغفال هذا الجزء والانتقال مباشرة للجزء التالي إن رغبت في ذلك.)

لنفترض أن ساعة مسئول المراقبة تطلق نبضات بمعدل تردد قدره نبضة واحدة في الثانية (وذلك من منظور مسئول المراقبة). وسيستطيع رائد الفضاء من خلال عد نبضات الضوء التي سيتلقاها من الساعة الأخرى من متابعة كيفية سيرها.

كم عدد النبضات التي سيتلقاها رائد الفضاء بحلول وقت عودته إلى الأرض؟

كما ذكرنا من قبل — في المعادلة رقم 2-1 — فإن الصيغة القياسية التي تربط بين التردد المستقبَل والتردد عند إرساله للضوء المنبعث من قِبل مصدر يتحرك بسرعة ما هي:
عند السرعات القريبة من سرعة الضوء، ينبغي تعديل التعبير الرياضي كي يتضمن تأثير الإبطاء الزمني على المصدر المتحرك:
ومن ثَم، عندما يكون المصدر يتحرك مبتعدًا عن الراصد، فإن:
(2-5)
بينما لو كان يقترب من الراصد:
(2-6)
من المعادلة رقم 2-4 رأينا أنه من منظور رائد الفضاء تستغرق رحلة الذهاب زمنًا قدره: .
إن عدد النبضات المتلقاة خلال رحلة الذهاب يساوي الزمن مضروبًا في تردد النبضات المتلقاة (المعادلة 2-5):
وعلى نحو مماثل، فإن عدد النبضات المتلقاة خلال رحلة الإياب يساوي الزمن مضروبًا في تردد النبضات المتلقاة (المعادلة 2-6):
وبهذا يمكن الحصول على إجمالي عدد النبضات المتلقاة من المعادلة التالية:
وبما أن التردد يساوي نبضة واحدة في الثانية؛ إذنْ يساوي الزمن الإجمالي لساعة مسئول المراقبة .
وهذا يتفق مع تقدير مسئول المراقبة نفسه، كما هو موضح في المعادلة رقم 2-3. وبهذه الطريقة يستطيع رائد الفضاء توقع المقدار الذي ستكون ساعة مسئول المراقبة متقدمة به عن ساعته.

انحناء الضوء

رأينا بالفعل، من خلال مبدأ التكافؤ، كيف أن العجلة والجاذبية ينتجان تأثيرات متكافئة على حركة الأجسام المختلفة على غرار المطرقة والريشة. لكن ماذا عن حركة شعاع الضوء؟ نحن معتادون على فكرة أن الضوء ينتقل في خطوط مستقيمة، لكن هل يصح هذا تحت تأثير الجاذبية، أو في إطار مرجعي متسارع؟

لاستكشاف الأمر، تخيل تجربة أخرى تتضمن مصدرًا نابضًا للضوء وهدفًا موضوعَين على متن مركبة فضائية. لكن هذه المرة، المصدر والهدف موضوعان على نحو مماثل تمامًا لما كانا عليه في التجربة الأولى. بعبارة أخرى: من المفترض أن ينطلق شعاع الضوء بزاوية عمودية على اتجاه حركة المركبة.

حين تكون المركبة ساكنة، وبعيدة عن أي مصدر للجاذبية — أو بمعنًى آخر: لو كانت في حالة سقوط حر — فإنها تمثل إطارًا مرجعيًّا قصوريًّا. وفي هذه الظروف، ينتقل شعاع الضوء — كالمتوقع — في خط مستقيم نحو الهدف، كما يوضح الشكل ٢-٥(أ). لكن الآن افترض أنه في اللحظة التي انطلقت فيها نبضة الضوء من المصدر، دارت محركات المركبة وتسارعت المركبة إلى الأمام. من منظور مسئول المراقبة الموجود على الأرض، تتبع نبضة الضوء مجددًا المسار عينه بالضبط؛ أي تسير في خط مستقيم في نفس الاتجاه كالسابق. لكن حين تبلغ الحائط المقابل، تكون المركبة قد تحركت إلى الأمام، وبهذا لا يكون الهدف مواجهًا على نحو مباشر للمصدر الذي انطلقت منه النبضة. بعبارة أخرى: سيرى مسئول المراقبة النبضة وهي تصيب نقطة إلى الوراء قليلًا من المكان الموجود فيه الهدف الآن.
fig17
شكل ٢-٥: عندما تكون المركبة الفضائية في حالة سقوط حر، الحالة (أ)، فإن نبضة الضوء الموجهة جانبيًّا عبر المركبة تنتقل في خط مستقيم وصولًا إلى هدفها على الحائط المقابل. لكن عندما تخضع المركبة لتأثير العجلة (أي عندما تتسارع)، الحالة (ب)، تبدو النبضة لرائد الفضاء وكأنها تتبع مسارًا منحنيًا، بحيث تصيب الحائط المقابل بالقرب من الهدف.
لكن ما الذي يراه رائد الفضاء في الوقت ذاته؟ هذا موضح على الشكل ٢-٥(ب). تبدأ النبضة رحلتها في اتجاه الهدف، لكن لكي تضرب الحائط المقابل في نقطة إلى الوراء قليلًا من الهدف سيكون عليها أن تنحرف عن الخط المستقيم، وأن تتبع مسارًا منحنيًا.

لو أننا استعضنا عن العجلة (التسارع) بمجال جاذبية مكافئ؛ بحيث يُعتبر الحائط الخلفي للمركبة بمثابة «الأرضية» مجددًا والمقدمة المخروطية بمثابة «السقف»، فإن رائد الفضاء سيخلص إلى أن نبضة الضوء «سقطت» في اتجاه الأرضية، شأنها شأن أي جسم آخر يُطلق عبر المركبة في اتجاه الهدف لكن ينتهي به الحال وقد سقط ناحية أرضيتها؛ ومن ثَم يخطئ الهدف.

من هذه الملاحظة لنا أن نتوقع أن أشعة الضوء ستتبع مسارات منحنية في مجالات الجاذبية، وأن الضوء سينثني. في الواقع، كان هذا هو التنبؤ الذي خرج به أينشتاين في عام ١٩١٥ بينما كان يعمل في برلين إبان الحرب العالمية الأولى. خرجت أنباء عن أفكاره من ألمانيا ووصلت إلى مسامع العالم البريطاني آرثر إدنجتون الموجود في كامبريدج. وفي مايو عام ١٩١٩، بعد انتهاء الحرب بستة أشهر، أثبت إدنجتون صحة نظرية أينشتاين من خلال واحدة من أشهر التجارب على الإطلاق. كانت فكرة التجربة هي ملاحظة المواضع الطبيعية للنجوم في منطقة معينة من السماء ليلًا، ثم قياس مواضعها ثانية حين تكون الشمس ساطعة. حين تكون الشمس ساطعة سيمر ضوء النجوم بالقرب من الشمس كي يصلنا؛ ومن ثَم سيعبر مجال جاذبية الشمس. عندئذٍ سيتبع الضوء مسارًا منحنيًا، وإلى أن يتم رصده سيبدو وكأنه آتٍ من اتجاه مختلف عن اتجاهه الأصلي. هذا بدوره سيعطي انطباعًا بأن مواضع النجوم قد تغيرت عن مواضعها المعتادة، وذلك كما يبين الشكل ٢-٦. بطبيعة الحال من المشكلات التي ستواجهنا في عملية الرصد هذه أن سطوع الشمس من شأنه في المعتاد أن يحُول دون رؤية النجوم؛ ولذلك السبب أجريت عملية الرصد خلال كسوف كلي للشمس. كان التأثير المراد رصده طفيفًا للغاية؛ ولا يتجاوز انحرافًا قدره ١٫٧٥ ثانية قوسية (أي بضعة أجزاء على العشرة آلاف جزء من الدرجة). لكن إدنجتون نجح في التحقق تجريبيًّا من صحة هذا التنبؤ.
fig18
شكل ٢-٦: مسار الضوء الآتي من نجم بعيد يتغير بينما يمر بجوار الشمس. وإلى أن يصل إلى الراصد، سيبدو وكأنه آت من موضع مختلف من السماء، وسيبدو الموضع الظاهري للنجم وكأنه قد تغير.

هذه التجربة، إلى جانب غيرها من التجارب التي أجريت خلال مواقف الكسوف الشمسي، خرجت بقياسات لهذا التأثير في حدود دقة لا تتجاوز العشرين بالمائة. لكن خلال الفترة بين عامَي ١٩٨٩ و١٩٩٣، تمكَّن التليسكوب هيبارخوس التابع لوكالة الفضاء الأوروبية من إجراء قياسات عالية الدقة لمواضع النجوم. ولأن هذا التليسكوب كان فوق الغلاف الجوي للأرض، فقد كانت النجوم مرئية له طوال الوقت، ولم يكُ ثمة حاجة لانتظار كسوف شمسي. وقد تأكد حدوث انحناء الضوء حتى حدود دقة قدرها ٠٫٧٪. وبينما كان على القياسات الأرضية أن تركز على ضوء النجوم الذي يمس حافة الشمس، حيث تكون الجاذبية في أقوى صورها، تمكَّن هيبارخوس من رصد انحناء الضوء حتى لتلك النجوم الواقعة بزاوية قدرها ٩٠ درجة على اتجاه الشمس.

يأخذنا انحناء الضوء إلى ظاهرة مثيرة للاهتمام تُدعى «عدسة الجاذبية». فليست الشمس وحدها، بل المجرة أيضًا — وفي واقع الأمر العناقيد المجريَّة — يمكنها أن تكون مصدرًا للجاذبية، بحيث تحني وتشوه الضوء الآتي من الأجرام الساطعة البعيدة الواقعة خلفها. ففي عام ١٩٧٩، رُصد ما يبدو كأنه نجمان زائفان (كوازار) قريبان أحدهما من الآخر (النجوم الزائفة هي مصادر شديدة السطوع للضوء موجودة في مجرات ضخمة حديثة التكون). لكن اتضح أن الصورتين للنجم الزائف نفسه؛ إذ إن الضوء القادم من هذا النجم الزائف تعرض للتشويه بواسطة مجرة تقع على امتداد خط الرؤية إليه، وبهذا عملت هذه المجرة المتداخلة عمل العدسة؛ بحيث سببت انحناء ضوء النجم الزائف. ولو كان مصدر الضوء والمجرة المسببة للعدسة ونحن على الخط نفسه بالضبط، فسيلتف الضوء القادم من المصدر على نحو منتظم حول المجرة محدثًا حلقة، ويطلق عليها أحيانًا حلقة أينشتاين. لكن هذا هو الموقف المثالي. فبسبب الانحراف قليلًا عن خط الرؤية، ولكون المجرة المسببة للعدسة غير منتظمة كرويًّا، عادةً ما نرى صورًا مشوهة وصورًا متعددة لمصدر الضوء. هذا يطلق عليه عدسة الجاذبية القوية، وإلى وقتنا الحالي يوجد ما يربو على المائة مثال عليها. إضافة إلى ذلك، هناك العدسية الدقيقة، التي تحدث عندما يعمل نجم وحيد عمل العدسة للضوء القادم من نجم آخر بعيد موجود على نفس خط الرؤية الخاص به. في مثل هذه الحالات، نرى الضوء القادم من المصدر وقد سطع فجأة لوهلة بينما كان يمر بخط الرؤية الخاص بالنجم المتداخل، إذ يعمل الأخير عمل العدسة المكبرة. في الواقع، كشفت عمليات تضخيم كهذه في عام ٢٠٠٤ عن أن النجم البعيد يدور حوله كوكب يبلغ حجمه مرة ونصف قدر حجم المشترِي. وكان هذا أول كوكب من الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية يُكتشف بهذه الطريقة.

جدير بالذكر أن نيوتن تنبأ منذ زمن بعيد بأن من شأن الضوء أن ينحني في أي مجال جاذبية، وإن كان هذا على أسس مختلفة تمامًا عن تلك التي بنى عليها أينشتاين تنبؤه. فقد بنى نيوتن فكرته على النظرية الجسيمية للضوء، التي تقضي بأن الضوء يتألف من تيار من الجسيمات الدقيقة التي تنتقل بسرعة الضوء. وفي ظل تلك الظروف، لنا أن نتوقع أن هذه الجسيمات ستنجذب نحو الشمس؛ ومن ثَم تنحرف عن مسارها. إلا أن مقدار الانحراف هذا يبلغ نصف المقدار الذي تتنبأ به نظرية أينشتاين، والذي تم التحقق منه تجريبيًّا. ليس هذا وحسب، بل إن النظرية الجسيمية التي اعتنقها نيوتن كانت تتعارض مع النظرية الموجية في وصف الكيفية التي ينتقل بها الضوء عبر الفضاء.

الفضاء المنحني

إذنْ، ما دام أينشتاين لم يعتبر الضوء بمثابة تيار من الجسيمات ينجذب — شأن أي نوع آخر من الجسيمات — بفعل قوة الجاذبية، فما الصورة الفيزيائية التي طورها بغرض اختبار وفهم ما يحدث على أرض الواقع؟

سنعود إلى تجربة إسقاط المطرقة والريشة. في ضوء أن كلًّا منهما تملك كتلة مختلفة عن الأخرى، رأينا أن الجاذبية يتعين عليها أن تجذبهما بقوة متباينة كي تجعلهما تتسارعان نحو الأرض بالطريقة عينها تمامًا. وقد أثار هذا تساؤلًا مفاده: كيف تعرف الجاذبية مقدار الشدة الذي يجب أن تجذب به كلًّا منهما بحيث يسلك الاثنان السلوك عينه؟ وعلى أي حال، لماذا تريد قوة الجاذبية أساسًا منهما أن يسلكا على هذا النحو؟

الأمر عينه يحدث حين يخرج رائد الفضاء من مركبته. إن المركبة تدور حول الأرض حين تكون محركاتها مطفأة؛ أي إنها في حالة سقوط حر. وحين يخرج رائد الفضاء منها ويطفو إلى جوارها في الفضاء فهو أيضًا يدور حول الأرض، في نفس مدار المركبة حول الأرض تقريبًا. ومجددًا، تتسبب الجاذبية الصادرة عن الأرض في السلوك نفسه لجسمين مختلفين تمامًا. فبدلًا من التحرك في خط مستقيم بسرعة ثابتة، فإن قوة الجاذبية تجتذب رائد الفضاء الذي يطفو في الفضاء والمركبة الفضائية بالطريقة نفسها تقريبًا؛ بحيث تجبر الاثنين على التحرك في مسار منحنٍ؛ المسار المنحني ذاته.

كانت استجابة أينشتاين لهذه المعضلة هي اقتراح أنه في وجود جسم جاذب، فإن الحركة «الطبيعية» لأي جسم حوله «ليست» البقاء في سكون أو الحركة بسرعة ثابتة في خط مستقيم، وإنما اقترح أينشتاين أنه قرب الأجسام الجاذبة ككوكب الأرض يكون الفضاء نفسه مشوهًا. فهو منحنٍ بطريقة تجعل المسار الطبيعي للأجسام التي تدور حول الجسم يكون ذلك المسار الذي نرصده: أي المدار الذي يتبعه رائد الفضاء وهو خارج المركبة والمركبة حول الأرض.

يمكن تصور الموقف وكأننا في حلبة دائرية ذات سطح مائل لسباق سيارات. في مثل هذا النوع من الحلبات يمكن لسيارتين مختلفتين للغاية أن تدورا حول الحلبة دون الحاجة سوى لتوجيه قليل للغاية من السائقَين؛ وذلك لأن السيارتين مدفوعتان للسير في المسار المنحني؛ بسبب ميل مستوى سطح الحلبة عند الأطراف. إن سطح الحلبة مشوه أو منحنٍ بحيث لم يعد من «الطبيعي» للسيارة أن تواصل السير في خط مستقيم. أيضًا لم تعد السيارة بحاجة إلى قوة موجهة كي تغير اتجاه حركتها. إن «التوجيه» يوفره سطح الحلبة المهيأ على هذا النحو.

ما يقوله أينشتاين إذنْ هو أننا لسنا بحاجة للاستعانة بقوة — قوة الجاذبية — لإبقاء رائد الفضاء والمركبة في مدارهما حول الأرض. ليست هناك قوة بحاجة للضبط الدقيق بحيث تبقي الأجسام ذات الكتل المختلفة على المسار ذاته. بدلًا من ذلك، يتبع كلٌّ من رائد الفضاء والمركبة المسار الطبيعي الذي ستتبعه «كل» الأجسام لو أنها بدأت من الموضع ذاته وبالسرعة ذاتها؛ وبذا استعاض أينشتاين بالكامل عن فكرة قوى الجاذبية بمفهوم جديد تمامًا هو مفهوم «الفضاء المنحني».

كان الأمر غاية في البساطة. لكن بالطبع بشرط أن يستطيع المرء الإلمام في عقله بفكرة الفضاء المنحني! وهذا ليس بالأمر السهل، خاصة وأننا اعتدنا التفكير في الفضاء بوصفه مرادفًا ﻟ «العدم». كيف يكون العدم منحنيًا؟

الجواب في نظر الفيزيائيين هو أن الفضاء ليس كالعدم. بل يُنظر للفضاء بوصفه متَّصلًا سلسًا منتظمًا، يمكن تشبيهه بطبقة رقيقة للغاية من الجيلي. وعندما نضع في اعتبارنا لاحقًا علم كونيات الانفجار العظيم، سنجد أن جميع العناقيد المجرية تتحرك مبتعدة بعضها عن بعض. ليس هذا راجعًا إلى أنها تتمدد فيما كان في السابق فضاءً شاغرًا — أو عدمًا خاويًا — وإنما الحقيقة هي أن الفضاء نفسه هو الذي يتمدد، وبالتبعية يحمل معه المجرات في مدٍّ من الفضاء المتحرك. ومرة أخرى، عند التعرض لدراسة فيزياء الكم، نكتشف أن الفيزيائيين يرون أن الفضاء مكتظ بجسيمات أساسية «افتراضية»، بعضها يظهر إلى الوجود من وقت لآخر. هذا أحد التأثيرات. ويتمثل تأثير آخر في أن الشحنة الكهربية التي يحملها الإلكترون — مثلًا — تتنافر مع شحنات الإلكترونات الافتراضية التي يتألف منها الفراغ الملاصق لها، وهو ما يتسبب في دفع هذه الجسيمات الافتراضية بعيدًا.

fig19
شكل ٢-٧: تمثيل للطريقة التي يمكن أن ينحني بها الضوء القادم من نجم بعيد بفعل انحناء الفضاء الذي تسببه الشمس.
بالتفكير من هذا المنطلق — من منطلق أن الفضاء مادة (من نوع ما) وليس عدمًا — سيكون من المقبول أكثر أن نصور هذه المادة وقد تعرضت للتشويه والانحناء بصورة ما؛ بحيث لا يصير المسار الطبيعي بالضرورة خطًّا مستقيمًا. ويُتوقع أن يؤثر هذا الانحناء، أو التقوس، على أي شيء يمر بجوار تلك المنطقة من الفضاء، بما في ذلك الضوء. في مناقشتنا السابقة عن تجربة انحناء الضوء — مثلًا — اعتبرنا أن الضوء المار بجوار الشمس سينجذب نحوها بفعل قوة الجاذبية. لكن هذا التفسير الجديد، الذي يتضمن الفضاء المنحني، يقترح أن ما عُرض في الشكل ٢-٦ يمكن أن يحل محله شيء آخر أشبه بالمعروض في الشكل ٢-٧.
fig20
شكل ٢-٨: الهندسة على السطح الكروي تختلف عنها على سطح مستوٍ.
ليست فكرة الفضاء المنحني جديدة في حد ذاتها، وفكرة الفضاء المنحني الثنائي الأبعاد مألوفة لنا جميعًا. قد يتكون الفضاء الثنائي الأبعاد من صفحة مستوية. وعلى سطح كهذا، يتحدد محيط أي دائرة من خلال التعبير الرياضي الشهير «محيط الدائرة = ٢ ط نق»، أو:
حيث نصف قطر الدائرة. ثَمَّةَ نتيجة أخرى للفضاء الثنائي الأبعاد؛ وهي أن مجموع الزوايا الداخلية للمثلث تساوي ١٨٠ درجة. لكننا قد نواجَه بموقف يتخذ فيه السطح شكل الكرة. بعبارة أخرى: يكون الفضاء الثنائي الأبعاد منحنيًا. في الشكل ٢-٨، نرى أن الدائرة التي يشكلها خط الاستواء يقع مركز سطحها عند القطب الشمالي P (وليس مركز الكرة؛ لأننا مجبرون على الالتزام بالسطح الثنائي الأبعاد). على هذا السطح، أقصر طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم (أي الشكل الذي سيتخذه شريط مطاطي لو أنه مُد بين نقطتين)؛ ومن ثَم، تكون «الخطوط المستقيمة» بالنسبة للكرة بمثابة خطوط أقواس لدوائر كبيرة. وبذا، يكون الخط PA هو نصف القطر الخاص بالدائرة الاستوائية داخل السطح الثنائي الأبعاد (وليس نصف القطر الممتد من مركز الكرة). إن خط الاستواء يمثل دائرة كاملة ممتدة حول الكرة، بينما نصف القطر ما هو إلا ربع دائرة كاملة حول الكرة؛ ومن ثَم، على مثل هذا السطح تكون العلاقة الرياضية لهذه الدائرة بعينها كما يلي:

وهكذا نرى أن محيط الدائرة يكون أقل من ٢ ط نق.

ليست الدوائر وحدها التي تتأثر بالهندسة المنحنية، بل المثلثات أيضًا. فالمثلث PAB يتألف من ثلاثة خطوط مستقيمة متقاطعة، وزواياه الداخلية الثلاث زوايا قائمة؛ أي إن مجموعها ٢٧٠ درجة، وليس ١٨٠ درجة كالمعتاد.
إن سطح الكرة ما هو إلا نوع واحد من أنواع الفضاء المنحني الثنائي الأبعاد. يبين الشكل ٢-٩ نوعًا آخر، على شكل سرج جواد. وهنا نجد أن مجموع الزوايا الداخلية للمثلث يقل عن ١٨٠ درجة، ومحيط الدائرة أكبر من ٢ ط نق.
fig21
شكل ٢-٩: السرج شكل آخر تكون الهندسة داخل سطحه مختلفة عن الهندسة على سطح مستوٍ.

لاحظ أن الدائرتين والمثلثين، المرسومة على السطحين المقوسين، كانت أحجامها متشابهة نسبة إلى الحجم الكلي للكرة أو السرج. ولو أننا حصرنا انتباهنا في الدوائر والمثلثات الصغيرة للغاية، كنا لنحصل على نتائج مختلفة بدرجة كبيرة. فعلى المستويات الصغيرة للغاية حتى الأسطح المنحنية تميل إلى أن تكون مستوية، وفي هذه الحالة تصح الهندسة الطبيعية الخاصة بالأسطح المستوية ولو على نحو تقريبي، وهذا التقريب يتحسن كلما كان النطاق أصغر.

ما نعلمه إذنْ من هذه الدراسة الموجزة للفضاء المنحني الثنائي الأبعاد، هو أننا نحصل على نتائج تختلف عن النتائج التي تقدمها لنا الهندسة الإقليدية المستوية المعتادة، رغم أننا كلما درسنا الأشكال على مستوًى أصغر، صارت أقرب إلى حالة الهندسة المستوية. وسنستعين بهذه النتائج عند تدبرنا لما يعنيه وجود فضاء منحنٍ «ثلاثي» الأبعاد.

في البداية، من المستحيل أن نتصور ذهنيًّا شكل الفضاء المنحني الثلاثي الأبعاد. في حالة الفضاء الثنائي الأبعاد كان الأمر يسيرًا؛ لأن لدينا بُعدًا ثالثًا نستطيع تصور التقوس أو الانحناء وهو يحدث فيه. لكن أين البعد المكاني الرابع الذي سيحتوي «انحناء» الأبعاد الثلاثة؟

في الواقع، يمكن للتصور الذهني أن يكون مضللًا. ألقِ نظرة على السطح المبين في الشكل ٢-١٠. هل هو منحنٍ؟ من الواضح أنه كذلك، من جانب ما؛ فهو شكل أسطواني. لكن يمكن أن تكون المظاهر خداعة؛ فالهندسة التي تتم على ذلك السطح هي ذاتها هندسة السطح المستوي. فعلى أي حال، يمكن عمل أسطوانة عن طريق ثني صفحة من الورق (بطريقة يستحيل بها أن تثني صفحة من الورق كي تكوِّن كرة أو سرجًا). وإذا رسمت دائرة أو مثلثًا على صفحة مستوية من الورق ثم ثنيتها كي تكوِّن أسطوانة، فإن خصائص تلك الأشكال ستظل ذاتها كما كانت من قبل.

لذا انسَ أمر تصور الانحناء ذهنيًّا. بدلًا من ذلك نحن نعرِّف الفضاء بوصفه منحنيًا ما دامت الهندسة «داخل» ذلك الفضاء تختلف عن الهندسة الإقليدية. فعلى أي حال، لن يحتاج الذباب الذي يزحف على سطح الكرة أو السرج أن ينظر إلى ذلك السطح من علٍ كي يستنتج أنه سطح منحنٍ. فبمقدوره التوصل إلى ذلك الاستنتاج ببساطة من خلال إجراء بعض القياسات على المثلثات والدوائر داخل السطح نفسه. وهذه هي الكيفية التي سنستكشف بها هندسة الفضاء الثلاثي الأبعاد؛ ليس بواسطة وضع أنفسنا في موضع خارج الفضاء الثلاثي الأبعاد بشكل ما من أجل الحصول على نظرة كلية له، وإنما بواسطة إجراء بعض القياسات داخل الفضاء نفسه.

fig22
شكل ٢-١٠: رغم حقيقة أن سطح الأسطوانة يبدو «منحنيًا»، فإن هندسته هي ذاتها هندسة الأسطح المستوية.

نعرف بالفعل — من تجارب انحناء الضوء ومن دوران المركبة ورائد الفضاء خارجها حول الأرض — أن الفضاء ينحني بالمقدار الذي تؤثر به الأرض والشمس والمجرة. فهذه الأجرام أشبه بغمازات منتشرة على امتداد السطح العريض الذي يؤلف الفضاء بأكمله. لكن إجمالًا، هل هذه الغمازات موجودة على سطح مستوٍ أم كروي أم على شكل سرج أم ماذا تحديدًا؟ سنعاود الحديث عن هذا الموضوع لاحقًا؛ حين نتدبر الكون إجمالًا.

رأينا من قبل كيف أن وجود جسم جاذب يؤثر على الزمن (الانزياح الأحمر الجذبوي)، والآن نرى أنه يؤثر أيضًا على المكان. ومع الوضع في الاعتبار كيف أن النسبية الخاصة قادتنا إلى استنتاج أن المكان والزمان يؤلفان زمكانًا رباعي الأبعاد، نخلص من هذا الآن إلى أنه لا يجدر بنا فقط التفكير في فضاء منحنٍ، بل في «زمكان منحنٍ». فمحور الزمن إضافة إلى المحاور المكانية الثلاثة الأخرى تتأثر كلها بوجود جسم جاذب.

تحدثنا سابقًا عن أن الأجسام تتبع «مسارات طبيعية» عبر الزمكان المنحني. والاسم الفعلي الذي يطلق على هذه المسارات هو «الخطوط الجيوديسية». والخط الجيوديسي هو المسار الذي يتبعه الجسم في حالة السقوط الحر، ونقصد الجسم الذي لا يخضع لأي قوى غير جذبوية، مثل التأثيرات الكهربية والمغناطيسية (التأثيرات الجذبوية موضوعة بالفعل في الحسبان من خلال انحناء الزمكان). وبعبارة أخرى: في النسبية العامة، يحل الخط الجيوديسي محل الخط المستقيم في الهندسة الإقليدية المعتادة أو في النسبية الخاصة؛ وبذا، حين ينحني الضوء القادم من أحد النجوم قرب الشمس، فهو بهذا يتبع خطًّا جيوديسيًّا.

fig23
شكل ٢-١١: الخطوط العالمية الخاصة للتوأمين المشارك فيما يطلق عليه «معضلة التوأمين».
ما السمة المُحددة للخط الجيوديسي؟ في الفضاء الإقليدي الثلاثي الأبعاد، يُعرَّف الخط المستقيم القياسي بأنه أقصر مسار بين نقطتين. أما في الزمكان، فالخط الجيوديسي يُعرَّف بأنه ذلك المسار بين حدثين يتسمان بأن لهما «الزمن الحقيقي» الأقصى. ويُعرَّف الزمن الحقيقي بأنه الزمن المسجل على ساعة مصاحبة للجسم إبان حركته بين النقطتين موضع السؤال. في الشكل ٢-١١ سنعاود النظر إلى معضلة التوأمين (باختصار هذه المرة!) وهذا الشكل يبين الموقف من منظور مسئول المراقبة. النقطة O تميز مغادرة رائد الفضاء لكوكب الأرض، ثم يسافر إلى الكوكب البعيد وصولًا إلى النقطة P، ثم يستدير ويعود إلى الأرض، ويصل إلى النقطة Q. في الآن ذاته يظل مسئول المراقبة ساكنًا ويرسم الخط العالمي OQ. لقد أثبتنا بالفعل أنه بحلول وقت التقاء مسئول المراقبة برائد الفضاء ستكون ساعة مسئول المراقبة قد سجلت زمنًا أكثر من ساعة رائد الفضاء. بعبارة أخرى: سيكون زمنه الحقيقي أكبر من زمن رائد الفضاء الحقيقي. وهذا سيصح على وجه العموم. فبغض النظر عن الخط العالمي الذي سيرسمه رائد الفضاء بين النقطتين O وQ — على غرار المسار الاعتباطي المبين وهو يعبر النقطة S مثلًا — ستكون القراءة التي تسجلها ساعته دائمًا أقل من القراءة التي تسجلها ساعة مسئول المراقبة. وسيكون رائد الفضاء قد تبع خطًّا عالميًّا يتسم بزمن حقيقي أقل من الزمن الخاص بمسئول المراقبة. ما الأمر المميز بشأن الخط العالمي لمسئول المراقبة بحيث يجعله يملك الزمن الحقيقي الأقصى؟ الإجابة هي أنه هو مَن ظل طيلة الوقت داخل إطار مرجعي قصوري، وأنه يتبع مسار سقوط حر. إنه يتبع الخط الجيوديسي بين الحدثين O وQ.

بالمناسبة، لا تدع مسمى «الزمن الحقيقي» يضللك؛ فهو لا يعني بصورة ما أن هذا هو الزمن الفعلي، الصحيح، وأن غيره من الأزمنة ليس صحيحًا! أكرر هنا ما قلته من قبل عندما شرعت في تقديم الأفكار النسبية عن الأطوال والأزمنة: إن كل تقديرات المسافة والزمن مرتبطة بمنظور راصد بعينه؛ فما من وجود لمسافة أو فترة زمنية موضوعية ومستقلة عن منظور أي راصد؛ ولا وجود لما يمكن تسميته المسافة أو الزمن «المتفق عليه».

نقطة أخرى تستحق الذكر؛ هي أنه رغم أننا قدمنا فكرة الخطوط الجيوديسية في سياق مناقشتنا لتأثيرات الجاذبية، فإنها تنطبق على نحو عام وشامل؛ حتى على الحالات التي لا تشتمل على الجاذبية. ليس الأمر أننا نستخدم «الزمن الحقيقي الأقصى» في حالة، و«أقصر مسافة بين نقطتين» في حالة أخرى. ففي غياب الجاذبية، فإن الخطوط الجيوديسية التي تتسم بأن لها الزمن الحقيقي الأقصى يتفق أنها تتسم أيضًا بكونها أقصر مسافات مكانية.

إن أساس النسبية العامة هو أن المادة تُملي على الفضاء كيف ينحني، والفضاء يُملي على المادة كيف تتحرك. فالفضاء لم يعد يُنظر إليه بوصفه خشبة مسرح يؤدي عليها الممثلون — المادة والأجسام والضوء — أدوارهم، بل صار للفضاء نفسه دورٌ يلعبه.

fig24
شكل ٢-١٢: وفق ميكانيكا نيوتن، ينبغي أن يكون مدار كوكب مثل عطارد مدارًا بيضاويًّا. وفي غياب أي جسم آخر جاذب (كواكب أخرى)، من المفترض أن يظل الحضيض ثابتًا (أ). لكن وفق النظرية النسبية العامة، يجب أن يتبادر الحضيض (ب).

قد تخال أنه لا بأس بكل هذا، وأن فكرة قوى الجاذبية قد حلت محلها فكرة الفضاء أو الزمكان المنحني. لكن أليس هذا محض تفضيل شخصي بشأن الكيفية التي يختار بها المرء أن يرى الأمور؟ ألا يستطيع المرء التمسك بفكرة نيوتن عن قوى الجاذبية لو أنه رغب في ذلك؟

في أغلب المواقف اليومية، تنطبق نظرية نيوتن حتى مستوًى ملائم للغاية من الدقة. وحتى عند حساب مدارات الأقمار الصناعية، من المُواتي استخدام قانون التربيع العكسي للجاذبية. فمن الناحية الرياضية، نظرية نيوتن أسهل كثيرًا في تناولها من النسبية العامة؛ ولهذا السبب وحده سيستمر الفيزيائيون في الحديث عن قوى الجاذبية وسيستخدمون قانون نيوتن. ومع ذلك، هم يدركون أن النسبية العامة تقدم تنبؤات أدق وأنها سبيلٌ أرقى لفهم الفيزياء. فرغم أن قانون نيوتن يعد «وصفة» مفيدة لحل أغلب المشكلات — تلك التي تتضمن الجاذبية الضعيفة والسرعات الأقل بكثير عن سرعة الضوء — فإنه لا يقدم أفكارًا كثيرة عما يحدث بالفعل. ليست النسبية العامة مجرد تفسير هندسي اختياري للجاذبية، وقد لمسنا جانبًا من هذا بالفعل حين أوضحنا أن نظرية نيوتن تنبأت بانحناء ضوء النجوم قرب الشمس — وذلك على افتراض أن الضوء مؤلف من جسيمات — بَيْدَ أنها تنبأت بمقدار خاطئ، أما النسبية العامة فتنبأت بمقدار الانحناء الصحيح.

أُجري اختبار شهير آخر للنسبية العامة في عام ١٩١٥، وتضمن كوكب عطارد؛ أقرب الكواكب إلى الشمس ومن ثَم أكثرها تعرضًا للجاذبية الشمسية في أقوى صورها. شأن غيره من الكواكب، يدور عطارد حول الشمس في مدار بيضاوي بحيث تمثل الشمس أحد مركزي المدار البيضاوي، كما يوضح الشكل ٢-١٢(أ). تسمى النقطة التي يكون الكوكب فيها أقرب ما يكون إلى الشمس باسم «الحضيض». في المعتاد، ووفق ميكانيكا نيوتن، من المفترض أن يظل اتجاه المدار ثابتًا دون تغير، بحيث يظل الحضيض الشمسي في موضعه. لكن في الواقع، كان معروفًا أن الحضيض الشمسي لعطارد يتغير مع كل دورة يدورها الكوكب حول الشمس (الشكل ٢-١٢(ب)). أطلق على هذا بدارية الحضيض. وكان من السهل تفسير أغلب هذه الحركة على أساس قوى الجذب التي تمارسها الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية. ومع ذلك، لوحظ منذ عام ١٨٤٥ أن معدل البدارية كان يختلف عن المعدل المتوقع بمقدار ٤٣ ثانية قوسية في القرن. إنه مقدار ضئيل لا شك، لكنه كان موجودًا، وكان يثير القلق نظرًا لعدم وجود تفسير له. إلا أن نظرية أينشتاين فسرته؛ إذ تطلبت النسبية العامة وجود مثل هذه البدارية. وقد أعلن أينشتاين لاحقًا أنه عند سماعه بأنباء التحقق من صحة تنبؤه «طار عقله من فرط النشوة لأيام.»
وفي عام ١٩٧٤، اكتشف جوزيف تايلور وتلميذه راسل هالس أن النجم النابض PSR 1913+16 جزء من نظام نجمي ثنائي. كان النجم النابض (وهو نوع من النجوم المنهارة) يدور في مدار عجيب للغاية حول نجم آخر حول مركز كتلتهما المشتركة، بحيث يقترب كلاهما من الآخر إلى مسافة ١٫١ نصف قطر شمسي عند أدنى اقتراب لهما، ثم يتراجعان حتى نصف قطر شمسي قدره ٤٫٨ عند أقصى ابتعاد لهما. وكما تنبأت النسبية العامة، وُجد أن الحضيض كان يتقدم بمقدار ٤٫٢ درجات قوسية كل عام؛ أي إن مقدار التقدم في يوم واحد يعادل مقدار التقدم في حركة عطارد في قرن كامل.
fig25
شكل ٢-١٣: اختبار للنسبية العامة مبني على التأخير الزمني لنبضات الرادار المرتدة من أحد الكواكب بينما تمس النبضات حافة الشمس.
اقتُرح اختبار آخر مثير للاهتمام لأول مرة في عام ١٩٦٤ من جانب إروين شابيرو، وتضمن استخدام جهاز رادار قوي ونبضات رادار مرتدة من أحد الكواكب. كانت فكرته تقضي بقياس الوقت الذي استغرقته النبضات في الذهاب إلى الكوكب والرجوع منه؛ ومن ثَم تتبع مسار الكوكب على نحو دقيق. ثم كررت العملية بينما كان الكوكب على وشك المرور خلف الشمس (انظر الشكل ٢-١٣). وبِناءً على قياسات سابقة، حين كان الكوكب في مواضع مختلفة من السماء، يمكن بسهولة حساب القراءة المتوقعة بينما تمس نبضات الرادار حافة الشمس. في الواقع، تبين أن ثمة تأخيرًا زمنيًّا قدره نحو ٢٥٠ ميكروثانية؛ إذ تسبب مرور النبضات قرب الشمس في إبطائها، وهذا ما تنبأت به نظرية أينشتاين. أُجريت التجربة باستخدام نبضات مرتدة عن كوكبي عطارد والزهرة، باستخدام هذين الكوكبين كعاكسات عملاقة. أُجريت التجربة أيضًا بالاستعانة بالأقمار الصناعية للمسبارات: مارينر ٦ و٧، فويجر ٢، وفايكنج مارس لاندر، ومسبار المركبة كاسيني المرسلة إلى زحل. في الحالات الأخيرة، استُخدمت الأقمار الصناعية في إعادة بث نبضات الرادار. أُجري أحدث هذه التجارب في عام ٢٠٠٣ باستخدام المسبار كاسيني، وقد تمكن من إثبات صحة التنبؤ وصولًا إلى دقة قدرها جزء واحد في كل ١٠−٥ أجزاء.

لاحظ أن التأثير الذي نتحدث عنه هنا يتضمن قياسات زمنية؛ ومن ثَم فهو دليل على أن الزمكان — وليس الفضاء (المكان) وحده — هو الذي ينحني قرب الأجسام ذات الجاذبية.

نقطة أخيرة تستحق الذكر؛ رأينا في مختلِف التجارب التي أُجريت لاختبار النسبية العامة (الانزياح الأحمر الجذبوي، انحناء الضوء، عدسة الجاذبية، تقصي نبضات الرادار بالقرب من الشمس، بدارية حضيض عطارد) أننا كنا نبحث عن تأثيرات صغيرة؛ انحرافات طفيفة عما هو متوقع وفقًا لقوانين نيوتن للجاذبية. بَيْدَ أن هذا يجب ألا يغرينا بالاعتقاد بأن النسبية العامة معنية فقط بالتفاصيل الدقيقة التافهة. فالنسبية العامة تفسر «كل» التأثيرات الجذبوية، بما فيها تلك التي يمكن أن تتناولها قوانين نيوتن؛ ومن ثَم، لا تفسر النسبية بدارية حضيض مدار عطارد وحسب، بل تفسر أيضًا سبب بقاء عطارد وجميع الكواكب الأخرى في مداراتها من الأساس.

الثقوب السوداء

في الشكل ٢-٧، حاولنا توضيح الطريقة التي تسبب بها الشمس انحناء الزمكان من خلال إظهارها ككرة تستقر في تجويف سببته في صفحة مرنة. وهذا، بالطبع، ما هو إلا تشبيه مفرط في التبسيط. ذكرنا من قبلُ أنه عند التفكير في انحناء الفضاء الثنائي الأبعاد — على غرار سطح الكرة — من الممكن أن نتخيله على شكل انحناء يقع في فضاء ثلاثي الأبعاد. لكن عندما يتعلق الأمر بالفضاء الثلاثي الأبعاد، لا يوجد بُعد مكاني إضافي كي يستوعب عملية «الانحناء». بدلًا من هذا علينا الاعتماد على فحص الخصائص الهندسية للفضاء الثلاثي الأبعاد ذاته. ومع ذلك، فإن التمثيلات الثنائية الأبعاد للفضاء الثلاثي الأبعاد يمكنها أحيانًا أن تمنحنا فكرة عامة عما يحدث. يصح هذا تحديدًا في حالة التناظر الكروي — شأن الانحناء الموجود في الفضاء المحيط الذي تسببه الشمس — حيث أيُّ شريحة ثنائية الأبعاد عبر ذلك الفضاء (تمر عبر الشمس) تتساوى مع أي شريحة أخرى ثنائية الأبعاد. هنا يصير البُعد الثالث غير ذي أهمية؛ لأنه لا يحتوي على أي معلومات غير متاحة بالفعل من خلال البُعدين الآخرين. في هذه الصورة التوضيحية، يمكننا تمثيل الفضاء الثلاثي الأبعاد بواسطة هذه الشريحة الثنائية الأبعاد، ثم استخدام البعد الثالث الخاص بهذه الصورة التوضيحية لاستيعاب عملية «الانحناء». هذا ما فعلناه في الشكل ٢-٧. وفي الشكل ٢-١٤ نرى كيف أن الانحناء الكلي الناجم عن وجود الكرة الثقيلة (الشمس) يجعل الكرة الصغيرة (أحد الكواكب) تدور حولها بدلًا من الانطلاق في خط مستقيم.
fig26
شكل ٢-١٤: تمثيل للطريقة التي يتسبب بها انحناء الفضاء الناجم عن وجود الشمس في جعل الكوكب يدور حولها.
في الشكل ٢-١٥ نرى بتفصيل أكثر نوعية الانحناء الذي تسببت فيه الشمس. لكن لِمَ يأخذ مثل ذلك الشكل؟ يعتمد ميل المنحنى في أي نقطة على المسافة بين هذه النقطة وبين مركز الشمس، وأيضًا على مقدار المادة الجاذبة الموجودة بين النقطة المختارة وبين مركز الشمس. بينما نتدبر النقاط الأقرب والأقرب إلى الشمس، يظل مقدار المادة ثابتًا (كتلة الشمس)، لكن المسافة تقل؛ ومن ثَم يزداد ميل الانحناء. ويستمر هذا حتى نصل إلى حافة الشمس عند النقطة R. وبالتحرك في النطاق الداخلي للشمس الآن، تستمر المسافة إلى المركز في التناقص، لكن الآن يقل مقدار الكتلة الموجودة بين النقطة المختارة والمركز؛ وهو التأثير الذي يميل إلى التقليل من الانحناء. في الواقع، يؤدي مجموع هذين التأثيرين إلى خفض إجمالي في الانحناء؛ بحيث إنه عند الوصول إلى مركز الشمس، يكون الانحناء قد استوى. وهذا هو المتوقع؛ نظرًا لأن الشمس لا تمارس أي قوة جذب عند نقطتها المركزية. وما ينطبق على الشمس ينطبق بالمثل على النجوم الأخرى، وعلى الكواكب؛ وبذا فهي تنتج انحناءً أشبه بالانحناء المبين في الشكل ٢-١٥.
fig27
شكل ٢-١٥: منظر جانبي لانحناء الفضاء الذي تسببه الشمس يبين كيف أن الانحناء يقل داخل الشمس.

لكن مجددًا دعوني أؤكد على أنه رغم كون هذه المخططات مفيدة في تصور ما يحدث في الواقع، فإننا من الناحية العملية لا نرى الفضاء الثلاثي الأبعاد وهو ينحني داخل بُعد مكاني آخر من نوع ما. بدلًا من ذلك علينا الاعتماد على الخصائص الجوهرية للفضاء نفسه. ما الذي يعنيه هذا إذنْ؟ سنتناول مثالًا محددًا عن جسم متناظر كرويًّا كالشمس ونتساءل: كيف له أن يؤثر على الزمكان من حوله؟

نعرف بالفعل القليل عن الكيفية التي يتأثر بها الزمن. فمن منظور الراصد البعيد عن الشمس، تبدو الساعة الأقرب إلى الشمس وكأنها تسير ببطء؛ وذلك لأنها واقعة تحت تأثير الانزياح الأحمر الجذبوي. لكن بأي مقدار؟ كان كارل شفارتزتشيلد أول من يحل معادلات أينشتاين الخاصة بحالة الجسم المتناظر كرويًّا. يتطلب الحل قدرًا كبيرًا من الحسابات الرياضية، لكن النتيجة النهائية بسيطة إلى حدٍّ ما؛ إذ إنه من منظور الراصد البعيد، يبدو معدل حركة الساعة وقد تباطأ بمعامل قدره ؛ حيث كتلة الشمس، و ثابت الجاذبية، و المسافة التي تبعدها الساعة عن مركز الشمس، و هي سرعة الضوء المعتادة. ونذكر هنا أنه إذا كانت قيمة كبيرة، تقترب قيمة التعبير الرياضي من الرقم ١؛ بمعنى أنه حين تكون الساعة بعيدة عن الشمس، تبدو وكأنها تسير بالمعدل الطبيعي. وكلما اقتربت الساعة من الشمس، تباطأت حركتها. وبالنسبة للنجوم الأثقل من الشمس — أي التي تكون كتلتها كبيرة — يكون التأثير أكبر، وهذا أمر متوقع.
هذا بخصوص الزمن، فماذا عن المكان؟ يبين حل شفارتزتشيلد أن المكان يتأثر في الاتجاه الشعاعي. تخيل — على سبيل المثال — أن عددًا من المساطر موضوع واحدة تلو الأخرى على امتداد المسافة الفاصلة بين الراصد والشمس. من منظور الراصد، تبدو المساطر وكأنها تقصر؛ فكلما اقتربت المسطرة من الشمس، قصر طولها. والمعامل الذي تقصر به المساطر نحصل عليه من التعبير الرياضي عينه الذي استخدمناه في حالة الإبطاء الزمني، وهو: . ومرة أخرى نرى أنه إذا كانت قيمة كبيرة، تقترب قيمة التعبير الرياضي من الرقم ١ وتبدو المسطرة وكأن طولها طبيعي. لكن إذا كانت قيمة صغيرة، أو قيمة كبيرة، يزداد انكماش المسطرة.

ما علاقة هذا بسرعة الضوء؟ تخيل أن نبضة من الضوء تنطلق من الساعة مبتعدة عن مجال الجاذبية ومتجهة نحو الراصد. تبدأ النبضة في منطقة يكون الزمن فيها قد تباطأ. يعني هذا أن كل شيء يحدث هناك تباطأت سرعته من منظور الراصد البعيد. وهذا يسري على سرعة الضوء؛ فتأخذ وقتًا أطول كي تقطع مسافة كل مسطرة من المساطر الموضوعة على امتداد المسافة إلى الراصد. لكن ليس الزمن وحده هو ما يتباطأ في منطقة الساعة، بل ينضغط المكان أيضًا في الاتجاه الشعاعي الذي تتحرك النبضة فيه. يعني هذا أنه من منظور الراصد البعيد يقطع الضوء مسافة تقل عن المتر في كل مرة يجتاز فيها مسطرة طولها متر. وهذا عامل ثانٍ يؤدي إلى إبطاء نبضة الضوء. وبذا يكون على الضوء أن «يجر» نفسه مبتعدًا عن الشمس.

هل تتباطأ سرعة الضوء؟ أليس في هذا خرق لإحدى المسلمتين اللتين تقوم عليهما النظرية النسبية؟ كلا. تحدثت تلك المسلمة تحديدًا عن أطر القصور المرجعية، ونحن هنا لا نتعامل مع إطار قصوري. ففي الزمكان المنحني الذي تنتجه الجاذبية، لا يوجد ما يمنع سرعة الضوء من أن تتخذ قيمًا مختلفة عن قيمتها المعتادة .
إلى الآن، حصرنا اهتمامنا على الصورة التي سيبدو عليها الموقف من منظور الراصد البعيد. فماذا عن راصد في حالة سقوط حر قريب من الساعة محل النقاش؟ هذا الراصد يكون في إطار مرجعي قصوري محلي، وتبدو بيئته المباشرة طبيعية إلى حدٍّ بعيد؛ فساعته تسير بمعدلها الطبيعي، والمساطر المترية جميعها لها الطول نفسه، وسرعة الضوء في منطقته هي السرعة المعتادة . من المهم هنا أن ندرك أنه مثلما كانت أي منطقة صغيرة على سطح الكرة أو السرج تكاد تكون مستوية — وأنه كلما صغرت المنطقة صارت أقرب إلى الاستواء — فإنه في الزمكان الرباعي الأبعاد أيضًا، إذا تدبرنا موقف راصد في حالة سقوط حر في منطقة محلية صغيرة من ذلك الزمكان، فسيبدو لنا وقتها أن الزمكان «مستوٍ»؛ بمعنى أنه يخضع لقواعد النسبية الخاصة؛ وبذا يمكن التفكير في الزمكان المنحني حول الشمس مثلًا وكأنه حاشية مرقعة من المناطق المحلية الصغيرة يمكن التعامل مع كل واحدة منها من خلال قواعد النسبية الخاصة. وحده الراصد البعيد هو من يستطيع استيعاب الصورة الكلية الشاملة لما يحدث في الزمكان القريب من الشمس والبعيد عنها، وهو الوحيد القادر على إدراك سماته المنحنية.
عند تحديد المقدار الذي يبدو الزمن وقد تباطأ به — وتبدو المسافة وقد انكمشت به — من منظور الراصد البعيد، تحدثنا عن المعامل . ربما خطر لك أن تتساءل عما سيحدث لو أن قيمة كانت صغيرة للغاية إلى درجة يساوي معها الحد الثاني للمعادلة ١ ويقل الناتج الكلي إلى صفر. ألن يعني هذا أن الزمن سيتوقف وأن المساطر المترية سيصير طولها صفرًا؟ علينا توخي الحذر هنا؛ فحل شفارتزتشيلد (وبالتبعية مدى ملاءمة ذلك المعامل) ينطبق فقط في الخارج؛ حيث تكون كتلة الشمس مركزة. بعبارة أخرى: فيما وراء النقطة R في الشكل ٢-١٥. بالنسبة للشمس، فإن قيمة التي من شأنها أن تجعل المعامل يساوي صفرًا ستكون قيمتها داخل الشمس واحدًا صحيحًا؛ لأن نسبة بسيطة للغاية من الكتلة هي التي ستظل موجودة داخل نصف قطر الكرة . إذنْ، بالنسبة للشمس، من المستحيل أن يقل المعامل حتى يصل إلى صفر. إلا أن هذا ليس الحال دومًا؛ فهناك أجرام في الكون مضغوطة للغاية إلى درجة يمكن معها الوفاء بهذا الشرط. وهذا يأخذنا إلى موضوع «الثقوب السوداء» الساحر. إذنْ، ما هي الثقوب السوداء؟ وكيف تتكون؟

رأينا كيف أن النجوم تستمد طاقتها من عمليات الاندماج النووي. ومن البديهي أن — شأنها شأن أي جسم مشتعل — سيأتي عليها يوم ينفد فيه الوقود منها. ويعتمد ما سيحدث عندئذٍ إلى حدٍّ بعيد على مدى ثقل النجم ومن ثَم مقدار شدة جاذبيته. بالنسبة للنجوم متوسطة الحجم كشمسنا، بعد الاحتراق بثبات لمدة ١٠ آلاف مليون عام، سينتفخ النجم ويصير «عملاقًا أحمر». ثم سيطرح طبقاته الخارجية، بينما ينهار القلب على نفسه مكونًا «قزمًا أبيض» ساطعًا. ثم سيخبو هذا القلب ويصير جمرة باردة.

أما النجم الذي تزيد كتلته عن كتلة الشمس بثمانية أضعاف فستنتهي حياته النشطة بالانفجار كمستعر أعظم (سوبرنوفا). سينهار قلبه تحت وطأة الجاذبية لدرجة أن الإلكترونات — التي توجد في المعتاد خارج نواة الذرة — ستُدفع إلى داخل النواة نفسها، حيث تنضم إلى البروتونات والنيوترونات. بعد ذلك ستتحد مع البروتونات لتكون المزيد من النيوترونات، إضافةً إلى النيوترينوات (والنيوترينوات المنبعثة هي المسئولة عن دفع المادة إلى الخارج أثناء الانفجار). وهكذا يتبقى لدينا قلب من النيوترونات يُعرف باسم «النجم النيوتروني». وكما ذكرنا سلفًا، عند تناول الانزياح الأحمر الجذبوي، فإن النجم النيوتروني تساوي كتلته في المعتاد ١٫٤ كتلة الشمس، ومع ذلك لا يتجاوز نصف قطره عشرة كيلومترات. وتبلغ شدة الجاذبية على سطح النجم النيوتروني ٢ × ١٠١١ مرات قدر الجاذبية على الأرض.

لو أن كتلة النجم كانت تبلغ في البداية ٢٠ مرة ضعف كتلة الشمس، فسينتج عن انفجار المستعر الأعظم نجم نيوتروني تتجاوز كتلته ضعفَي كتلة الشمس، إلا أنه بالنسبة لهذه الكتلة، تكون الجاذبية شديدة للغاية لدرجة أنه لا شيء يستطيع مقاومتها، وسيستمر النجم النيوتروني المتكون في الانهيار على ذاته إلى أن تتركز مادته كلها في نقطة وحيدة؛ منطقة متناهية الصغر حجمها صفر وكثافتها لانهائية. وهكذا يولد الثقب الأسود، كما أسماه جون ويلر في ستينيات القرن العشرين. إلا أن هذه الظاهرة جرى التنبؤ بها قبل ذلك بكثير، في عام ١٩٣٩ تحديدًا، على يد روبرت جيه أوبنهايمر وهارتلاند سنايدر استنادًا إلى نظرية أينشتاين.

fig28
شكل ٢-١٦: منظر جانبي لانحناء الفضاء الذي يسببه ثقب أسود.
يوضح الشكل رقم ٢-١٦ انحناء الفضاء الذي يسببه الثقب الأسود. يُعتقد أن الانحناء يستمر وصولًا إلى نقطة تفرد تتجمع فيها المادة كلها. أما عن قوة الجاذبية فستدنو هذه القوة من اللانهائية كلما اقتربنا من المركز. وأي شيء يسقط في الثقب الأسود سيُسحق إلى نقطة وحيدة في المركز. على الأقل، هذه هي النتيجة التي تُنبئنا بها معرفتنا الفيزيائية الحالية. لكن مصدر القلق هو أن معرفتنا الفيزيائية الحالية لا يمكنها التعامل مع نقاط التفرد. فنحن نعرف أننا عندما نتعامل مع الأجسام الصغيرة للغاية على المستوى دون الذري، فإن كل شيء يخضع لقواعد نظرية الكم، ونحن لا نعرف بعدُ كيف نجمع بين فيزياء الكم والنظرية النسبية. إذنْ، ربما تخبئ لنا الطبيعة مفاجأة ما. ومع هذا، ليس لدينا بديل في الوقت الحالي سوى تقبل النتيجة القائلة بأن كل شيء سيُسحق إلى نقطة وحيدة.
في هذه الحالة — وعلى العكس من الشمس — سيكون لهذا الجرم مسافة تبتعد عن مركزه يقل فيها التعبير وصولًا إلى الصفر. وسيكون هذا عند نصف القطر الذي نحصل عليه من المعادلة التالية:
(2-7)
ويطلق على اسم «نصف قطر شفارتزتشيلد». ويحد نصف قطر شفارتزتشيلد سطحًا كرويًّا يسمى أفق الحدث، مركزه نقطة تركز الكتلة. يمكن توضيح المغزى من هذه المسافة بالطريقة التالية: تخيل أن ثمة مركبة فضائية تهوي نحو ثقب أسود، وبينما تدنو المركبة من أفق الحدث فهي تبدو للراصد البعيد وكأنها تبطئ من سرعتها. هذا هو التأثير المزدوج لإبطاء الزمن وتقلص الأطوال الشعاعية كلما اقتربنا من المركز. عند أفق الحدث ذاته، تبدو المركبة وكأنها توقفت، بل وكأنها عالقة هناك لأجَلٍ غير مسمًّى؛ سبب هذا هو أن الضوء الصادر عن المركبة يجب عليه أن يجر نفسه ببطء بعيدًا عن تلك المنطقة. وعند أفق الحدث ذاته، يستغرق الضوء وقتًا لانهائيًّا كي يصل إلى الراصد؛ ومن ثَم يبدو الجسم وكأنه ساكن بلا حراك. لكن من الناحية العملية لن تبدو المركبة كذلك لوقت طويل. فرغم أن المركبة تبدو من منظور الراصد البعيد وكأنها توقفت عند أفق الحدث، فإن المركبة ذاتها مرقت من هذه المنطقة بسرعة كبيرة إلى حدٍّ ما متجهة صوب الثقب الأسود. لقد بعثت كمية محدودة فقط من الضوء خلال توقفها الوجيز في تلك المنطقة؛ لذا، بمجرد أن يزحف ذلك الضوء وصولًا إلى الراصد، لا يتبقى منه أي شيء، وسريعًا ما تتلاشى شدة الضوء وتخبو الصورة تمامًا.

يجب هنا التأكيد على أن هذا ما ستبدو عليه الأمور من منظور الراصد البعيد. فكيف ستبدو الأمور من منظور رائد الفضاء الموجود داخل المركبة؟ من منظور رائد الفضاء، بينما تهوي المركبة نحو الثقب الأسود، يكون رائد الفضاء في البداية داخل إطار قصوري وتبدو البيئة المحيطة طبيعية. لا شيء غريب بخصوص الزمن أو المسافة أو سرعة الضوء. وسيمر رائد الفضاء عبر أفق الحدث وهو غير واعٍ إلى أنه من اللحظة الحالية صار مصيره محتومًا. لكن لا يوجد ما ينبئ رائد الفضاء بأنه يجتاز نقطة اللاعودة، وأنه من اللحظة الحالية لا مهرب له. بعد الدخول في أفق الحدث، يستمر كل شيء في الاندفاع بلا هوادة صوب مركز الثقب الأسود. وهذا ينطبق على الضوء مثلما ينطبق على أي شيء آخر. فالثقوب السوداء لا ينبعث منها أي ضوء؛ ولهذا سميت بهذا الاسم.

ينتهي الحال برائد الفضاء ومركبته وقد انسحقا في نقطة وحيدة في مركز الثقب. ومن المهم أن ندرك أن هذا النوع من الانسحاق لا يشبه البتة ظاهرة تقلص الأطوال التي تعرضنا لها في سياق النسبية الخاصة. فكما تذكر — في حالة تقلص الأطوال — فإن رائد الفضاء ومركبته لم يستشعرا أي شيء؛ لأن ذرات جسديهما تقلصت هي الأخرى؛ ومن ثَم لم تعد بحاجة لنفس المكان الذي توجد فيه. لكن السقوط في ثقب أسود سيكون أمرًا مختلفًا تمامًا؛ فعندما يسقط رائد الفضاء وقدماه جهة الثقب الأسود، سيشعر أن جسده يستطيل، كما لو كان موضوعًا على آلة التعذيب المسماة بالمخلعة. سبب هذا هو أن قدميه أقرب إلى مركز الثقب؛ ومن ثَم فهما يتأثران بمجال جاذبية أقوى من ذلك الذي يؤثر على رأسه، الأبعد قليلًا عن مركز الثقب. وبينما تتواصل عملية الاستطالة، يزداد جانباه انسحاقًا. وفي النهاية، ينتهي الحال به وقد انسحق في نقطة وحيدة، وقد مات بكل تأكيد!

بالنسبة للنجم الذي انتهى به الحال كثقب أسود وتبلغ كتلته مثلًا عشرة أضعاف كتلة الشمس، تُبين المعادلة رقم 2-7 أن قيمة ستبلغ نحو ١٠ كيلومترات. على هذه المسافة من المركز، تكون القوى المدية المؤثرة على جسد رائد الفضاء الساقط عند أفق الحدث مهولة بالفعل. سيكون الأمر أشبه بوضع رائد الفضاء على مخلعة مع تعليق ثقل قدره مليار كيلوجرام في قدميه. هذا هو الوضع في حالة «الثقب الأسود النجمي»؛ أي الثقب المتكون نتيجة انهيار أحد النجوم.

بَيْدَ أن هذه ليست الطريقة الوحيدة لتكون الثقوب السوداء؛ إذ يُعتقد الآن أن أغلب المجرات تُؤْوي ثقوبًا سوداء في قلوبها؛ والمعروفة باسم «الثقوب السوداء المجرِّيَّة». تتكون هذه الثقوب من خلال تقارب النجوم القريبة من مركز المجرة بعضها من بعض، ثم اصطدامها واندماجها؛ ومن ثَم انهيارها مكونة ثقبًا أسود ضخمًا. في عام ١٩٧٤ اكتُشف أن مجرتنا — مجرة درب التبانة — تُؤْوي ثقبًا أسود في مركزها تبلغ كتلته ٣ ملايين مرة قدر كتلة الشمس. ويبدو أن أغلب المجرات الأخرى تحوي أجرامًا سوداء فائقة الصخامة يُعتقد أنها ثقوب سوداء. وقد ابتلع بعضها بالفعل مليارات النجوم.

من خلال المعادلة رقم 2-7، نرى أن نصف قطر أفق الحدث يتزايد طرديًّا مع تزايد الكتلة. ومن المعروف أن القوة المديَّة الموجودة في أفق الحدث تتناسب عكسيًّا مع مربع الكتلة. وعليه فإنه حتى في حالة الثقب الأسود المجرِّي الصغير الذي يحوي مليون كتلة شمسية ستقل القوة المدية عند نصف قطر شفارتزتشيلد بمعامل قدره ١٠١٢، وهو ما يعني أن رائد الفضاء سيَمر من أفق الحدث دون تأثير يذكر (لكن بالطبع ما هذه إلا مهلة مؤقتة؛ إذ ستعمل القوى المدية القوية عملها على المسافات الأقل من هذا).

قلنا إن الثقوب السوداء النجمية تتكون عندما تنهار النجوم فائقة الضخامة. لكنَّ ثمة شيئًا واحدًا لم نذكره بعدُ وهو حقيقة أن أغلب النجوم — شأن الكواكب — لها زخم زاويٌّ؛ أي إنها تدور حول محورها. يجب أن يظل الزخم الزاويُّ محفوظًا؛ لذا رغم فقدان بعضٍ من الزخم الزاوي بسبب المادة التي لفظها النجم خلال انفجاره كمستعر أعظم إبان انهياره، فإن الثقب الأسود ذاته من المتوقع أن يحافظ على غالبية الزخم الزاوي الأصلي للنجم. وهذا يجعل الأمور أكثر تعقيدًا. فحل شفارتزتشيلد لمعادلات أينشتاين لم يعد صالحًا. وتعين علينا الانتظار حتى عام ١٩٦٣ ليخرج روي كير بحل للثقوب السوداء الدوارة. وقد جلب لنا حل كير نتيجة مثيرة للاهتمام للغاية: وهي أن الثقب الأسود الدوار يجر الزمكان القريب منه حوله كالدوامة الملتفة. والجسم الساقط على نحو مباشر صوب الثقب الأسود سيجد نفسه وقد انجرف تدريجيًّا داخل هذه الحركة الدوارة. بالنسبة للثقب الأسود الدوار، يمر الجسم الساقط أولًا عبر سطح يعرف باسم «الحد الساكن». وهذا الحد يعد بداية المنطقة المسماة «مجال أرجو» التي تمتد وصولًا إلى أفق الحدث. في مجال أرجو، يكون مد الزمكان الدوار قويًّا للغاية لدرجة أنه لا شيء — ولا حتى مركبة فضائية تخيلية ذات قوة دافعة لانهائية — يمكنه البقاء ساكنًا، بل سيكون عليه الدوران حول مركز الثقب. فقط خارج الحد الساكن من الممكن للمركبة الفضائية التي تشغل محركاتها أن تظل ساكنة.

حاليًّا، تعكف مهمة فضائية تدعى «مسبار الجاذبية ب» على اختبار عملية تباطؤ الإطار المرجعي. وتتكون هذه المهمة من أربعة جيروسكوبات فائقة الدقة. في الفضاء الحر ستحافظ هذه الجيروسكوبات على اتجاه محاور دورانها إلى ما لا نهاية. إلا أن المسبار يدور حول كوكب الأرض، وانحناء شفارتزتشيلد للفضاء الذي تسببه جاذبية الأرض من المفترض أن يسبب انحرافًا في قراءة الجيروسكوبات قدره ٠٫٠٠١٨ درجة كل عام. علاوةً على ذلك، من المفترض وجود تأثير إضافي طفيف ناتج عن تباطؤ الإطار المرجعي قدره لا يتجاوز ٠٫٠٠٠٠١١ درجة كل عام. هذا أشبه بالنظر إلى شعرة من على مسافة ربع ميل. وحتى كتابة هذه السطور لا نزال في انتظار النتائج.

تفقد الأجسام هويتها حين تسقط في ثقب أسود. على سبيل المثال، عندما تنسحق الأجسام في نقطة وحيدة، لا يكون لها أي حجم أو شكل مميز. لا يعني هذا أنها تفنى من الوجود تمامًا؛ فأي كتلة كان الجسم يملكها تُضاف إلى كتلة الثقب الأسود. ما الذي يتبقى أيضًا؟ من السمات المحفوظة كتلة الثقب الأسود، وسمة أخرى هي الزخم الزاوي. أيضًا الشحنة الكهربية تظل محفوظة؛ لذا، أيًّا كانت الشحنة التي كان يحملها الجسم الساقط فهي تظل محفوظة وتضاف إلى الشحنة الإجمالية للثقب الأسود. وهذا كل ما في الأمر؛ فقط الكتلة والزخم الزاوي والشحنة الكهربية. أما بقية السمات الأخرى للأجسام التي سقطت في الثقب، ومن ثَم صارت جزءًا منه، فتصير نسيًا منسيًّا.

قد تفكر قائلًا: كل هذا يبدو معقولًا بدرجة كبيرة، لكن هل من دليل على وجود الثقوب السوداء؟ فعلى أي حال ثمة مشكلة جلية تتعلق بالعثور على الثقوب السوداء، وهي أنها سوداء معتمة؛ أي لا تبعث أي ضوء، علاوةً على أنها تبتلع أي ضوء كان من الممكن أن ينعكس عنها. فهذه الثقوب خفية بكل ما تحمله الكلمة من معنًى.

هل تذكر فيلم الرجل الخفي؟ لم يكن بمقدور أحدهم رؤيته بصورة مباشرة، لكن كان بإمكانهم رؤية التأثيرات التي يحدثها على بيئته المحيطة. وهذا تحديدًا هو النهج الذي نتبناه عند البحث عن الثقوب السوداء. فنحن نبحث عن نجم يمر بتغيرات دورية في ترددات الضوء المنبعث عنه، وسيكون سبب ذلك هو إزاحة دوبلر التي تحدث مع ابتعاد النجم عنا ثم اقترابه منا. هذه الحركة من السمات المميزة للنظم النجمية الثنائية التي تتكون من نجمين يدوران حول مركز كتلتهما المشترك. وفي المعتاد يكون من الممكن رؤية أحد هذين النجمين. لكن في بعض الأحيان يبدو أن ثمة نجمًا واحدًا وحسب، أما رفيقه فلا يُرى. من واقع حركة النجم المرئي يمكننا حساب كتلة رفيقه. وإذا تجاوزت الكتلة ٣ أضعاف كتلة الشمس، فمن المحتمل أن يكون هذا الرفيق ثقبًا أسود. تتعزز هذه الاحتمالية إذا كان النجم المرئي عملاقًا أحمر؛ أي نجمًا منتفخًا بشدة. وفي بعض الأحيان نتمكن من رؤية الطبقات الخارجية للنجم المرئي وهي تُجذب ناحية الرفيق الخفي مطلقة الأشعة السينية بينما يجري امتصاصها بسرعة في جوف الثقب الأسود.

في عام ١٩٧٢ اكتشف توم بولتون أن النجم المسمى «الدجاجة إكس-١» يظهر هذا السلوك تحديدًا. قُدرت كتلة الشريك الخفي بسبعة أمثال كتلة الشمس. وكان هذا النجم مصدرًا لأشعة سينية متذبذبة بسرعة كبيرة. كان التذبذب في المعتاد يحدث كل جزء على المائة من الثانية. أشارت هذه الفترة إلى أن مصدر الأشعة السينية — أيًّا كان — لا يمكن أن يكون كبيرًا للغاية. يقطع الضوء نحو ٣ آلاف كيلومتر (أي حوالي ربع قُطر الأرض) في هذه الفترة الزمنية، ومن ثَم يبدو أن هذا يضع حدًّا أقصى لحجم الجرم الذي يطلق هذه الأشعة السينية. بعبارة أخرى: المنطقة صغيرة؛ على نحو يؤكد أن الانبعاث صادر من النطاق اللصيق لثقب أسود. ووقت كتابة هذه السطور، ثمة نحو ٢٠ مثالًا معروفًا على الأنظمة الثنائية، التي يعد أفضل تفسير لها هو أن أحد النجمين المكونين لها هو في الواقع ثقب أسود نجمي؛ وبعض الأمثلة أقوى حتى من نجم الدجاجة إكس-١.

ماذا عن أدلة وجود ثقوب سوداء عملاقة في مراكز المجرات؟ تدور نجوم أي مجرة حول مركزها. في البداية قد يفترض المرء أن ما يبقى على النجوم في مسارها هو قوة الجاذبية الخاصة بكل النجوم الأخرى الأقرب إلى مركز المجرة من النجم المتحرك في مداره. لكن اكتُشف أن النجوم القريبة من مركز المجرة تدور على نحو أسرع بكثير مما هو متوقع وفق هذا المبدأ. وعليه، يخلص المرء إلى أنه من أجل توفير قوى الجذب الكافية للحفاظ على النجوم في مداراتها، يجب أن تفوق الكتلة الجاذبة القريبة من مركز المجرة كتلة جميع النجوم المرئية بكثير. وهذا يقودنا إلى استنتاج أنه في مركز المجرة ذاته لا بد من وجود ثقب أسود فائق الضخامة ابتلع بالفعل العديد من النجوم؛ ومن ثَم جعلها جميعًا غير مرئية.

دليل آخر يشير إلى وجود الثقوب السوداء فائقة الضخامة يأتينا من «المجرات النشطة». هذه المجرات تبدو مثل المجرات العادية فيما عدا أنها تطلق انبعاثات من قلب صغير منطمر داخلها. إن نواتج هذه الانبعاثات — أشعة تحت حمراء وموجات راديوية وأشعة فوق بنفسجية وأشعة سينية وأشعة جاما — قد تكون متباينة بشدة وساطعة للغاية مقارنة ببقية المجرة. يمكن تفسير هذا بالقول إن المادة يجري تكثيفها بواسطة منطقة صغيرة مركزية — ثقب أسود — مع انبعاث كميات كبيرة من طاقة الجاذبية.

ثمة تأكيد آخر على وجود الثقوب السوداء يأتينا من «النجوم الزائفة». هذه عبارة عن أجرام ساطعة بدرجة استثنائية تقع على مسافات بعيدة للغاية عنا. وكلما نظرنا أبعد في جوف الكون وجدنا المزيد من النجوم الزائفة. وكما هو معروف، كلما نظرنا إلى جرم سماوي أبعد، يعني هذا أننا نعود أكثر إلى الماضي (بسبب الزمن المحدد الذي يستغرقه الضوء في الوصول إلينا). يُعتقد أن النجوم الزائفة هي مجرات في مراحل تطورها المبكرة. وشأن المجرات النشطة، ظل مصدر السطوع الاستثنائي للنجوم الزائفة لغزًا لبعض الوقت، إلى أن جرى الربط بين النجوم الزائفة وتكوُّن الثقوب السوداء في مراكز المجرات حديثة التكون. في الواقع، يُعتقد الآن على نطاق واسع أنه رغم أن المجرات النشطة والنجوم الزائفة تبدوان مختلفتين للغاية في نظرنا، فإنهما في الحقيقة جانبان مختلفان للظاهرة نفسها. فما النجوم الزائفة إلا مجرات نشطة بعيدة للغاية عنا.

باختصار، الأدلةُ الداعمة لفكرة وجود الثقوبِ السوداء الفائقةِ الضخامة في مراكز المجرات؛ أدلةٌ دامغة.

بعد أن تعرضنا للثقوب السوداء المجرية والنجمية، حريٌّ بنا الحديث عن نوع ثالث: «الثقوب السوداء الدقيقة». رأينا أنه إذا كانت كتلة النجم أقل من ضعفين إلى ثلاثة أضعاف كتلة الشمس، فإن جاذبيته لا تكون بالقوة الكافية بحيث ينضغط إلى ثقب أسود. ومع ذلك، يمكن للنجوم الأقل ضخامة أن تصير ثقوبًا سوداء إذا ما تعرضت لضغط خارجي شديد بما يكفي. في عام ١٩٧١ اقترح ستيفن هوكينج أنه في ظروف الضغط والاضطراب الشديدين التي سادت في بواكير الانفجار العظيم، ربما انضغطت التذبذات عالية الكثافة مكونة ثقوبًا سوداء دقيقة. ربما كانت لهذه الثقوب كتلة لا تتجاوز مثلًا كتلة جبل، وفي هذه الحالة لن يتجاوز أفق الحدث الخاص بها حجم البروتون. ربما توجد مثل هذه الأجسام في وقتنا الحالي، إلا أنه ما من دليل على وجودها.

وبالمثل، ما من دليل على وجود «الثقوب البيضاء»، التي هي مجرد احتمالية نظرية تسمح بها معادلة أينشتاين. فمثلما يكون الثقب الأسود منطقة من الفضاء لا يمكن لشيء الفكاك منها، يكون الثقب الأبيض منطقة لا يمكن للمرء أن يمنع خروج الأشياء منها! وثمة توقع جامح آخر يروق لكتَّاب الخيال العلمي، هو «الثقب الدودي». تقضي هذه الفكرة بأنه بمجرد سقوط الجسم في ثقب أسود فإنه سيندفع عبر نفق إلى أن يخرج من ثقب أبيض. قد يكون هذا الثقب الأبيض في مكان آخر من الكون، أو في كون آخر كلية. ومجددًا نؤكد أنه ما من دليل على صحية أيٍّ من هذه الافتراضات.

ثمة نقطة أخيرة تستحق الذكر بشأن الثقوب السوداء. ما الذي يحدث للثقب الأسود بعد تكوُّنه؟ هل يظل موجودًا إلى الأبد؟ ستستمر الثقوب السوداء لفترة من الوقت في مراكمة المادة؛ وبذا تصير أضخم حجمًا. لكن لا بد من أن ينتهي هذا حين تبتلع كل المادة المتاحة لها. نحن نتوقع أن المطاف سينتهي بالثقب الأسود المجري وقد ابتلع كل النجوم في مجرته، وهي عملية ستستغرق ١٠٢٧ أعوام، اعتمادًا على الحجم المبدئي للمجرة. تنتمي المجرات إلى عناقيد مجرية، كما هو الحال مع مجرتنا درب التبانة التي تنتمي — إضافة إلى ما يزيد عن الثلاثين مجرة — إلى «المجموعة المحلية» للمجرات. تتحرك المجرات على نحو ثابت وترتبط بعضها مع بعض بفضل قوى الجاذبية المتبادلة، مثلما تكون مجموعة الكلاب المقيدة إلى وتد حرة في التجول لكن في حدود منطقة معينة. تطلق المجرات خلال تحركها الطاقة على صورة موجات جاذبية (وهو الموضوع الذي سنتناوله في القسم التالي). هذا بدوره يعني أن كل المجرات التي يتكون منها أي عنقود مجري سينتهي بها الحال في ثقب أسود واحد. وبالنسبة إلى المجموعة المحلية، من المفترض أن يستغرق هذا الأمر نحو ١٠٣١ أعوام.

في البداية كان يُظن أن هذه هي نهاية الحكاية. فعلى أي حال، لا شيء يسعه الفرار من الثقب الأسود، ولن يتبقى شيء ليدخل فيه. لكن في عام ١٩٧٤ خرج ستيفن هوكينج بفكرة لامعة مفادها أن الثقوب السوداء يُفترض بها أن تسطع، وإن كان سطوعًا باهتًا للغاية، إلا أنها تشع طاقة على أي حال. تفسير هذا يأتينا من نظرية الكم، وهو ما يأخذنا بعيدًا عن نطاق هذا الكتاب الوجيز. لكن اسمحوا لي أن أستعرض باختصار كيف يحدث هذا.

ذكرنا من قبل أنه من منظور الفيزيائيين فإن الفضاء الخاوي — الفراغ — ليس خاويًا على الإطلاق (بادئ ذي بدء، يمكنه أن ينحني). ووفق نظرية الكم، يُنتِج الفراغ على نحو ثابت — وفي كل مكان — أزواجًا مما يطلق عليه «الجسيمات الافتراضية». هذه الأزواج تتكون من المادة والمادة المضادة، أو أزواج من الفوتونات (أي حزم من طاقة الضوء). تتطلب عملية إنتاج الجسيمات هذه طاقة، من أجل إنتاج كتل السكون الخاصة بالجسيمات على سبيل المثال. لكن نظرية الكم تسمح بحدوث تذبذبات الطاقة، بمعنى أن الطاقة يمكن «استعارتها»، شريطة أن يتم إرجاعها على الفور. ومن ثَم، تظهر هذه الأزواج من الجسيمات على نحو وجيز إلى الوجود، وسريعًا ما تعاود الاتحاد لتختفي من الوجود مجددًا. اقترح هوكينج أنه حين تحدث هذه العملية قرب أفق الحدث الخاص بثقب أسود، قد يسقط أحد الجسيمات الافتراضية داخل الثقب مطلِقًا طاقة جاذبية (تمامًا كما يحدث في حالة سقوط جسيم حقيقي في ثقب أسود). يطلِق هذا طاقة قد تكون كافية لسداد الطاقة «المستعارة» دون أن يكون الجسيم الثاني مضطرًّا لسداد هذه الطاقة بنفسه. هذا الجسيم، أو الفوتون، الثاني الموجود خارج أفق الحدث مباشرة يكون حرًّا في الإفلات من الثقب الأسود مثلما يفعل أي جسيم أو فوتون عادي. ومن ثَم خلص هوكينج إلى أنه من المفترض أن تطلق الثقوب السوداء نوعًا ضعيفًا من الإشعاع. بعبارة أخرى: ليست الثقوب السوداء سوداء تمامًا. صار هذا الإشعاع معروفًا باسم «إشعاع هوكينج». وهو ضعيف للغاية لدرجة أنه لم يُرصد حتى الآن. فالثقب الأسود الذي تعادل كتلته كتلة الشمس، مثلًا، سيطلق إشعاعًا تعادل حرارته ١٠−٧ درجات كلفينية فوق الصفر المطلق. ومع هذا، أغلب العلماء مقتنعون الآن بأن هذا هو السلوك التقليدي للثقوب السوداء. في هذه الحالة، يصير من الجلي أن الثقوب السوداء ستستمر في إطلاق الطاقة؛ ومن ثَم تفقد الكتلة. بمعنًى آخر: ستتبخر الثقوب السوداء مثلما تتبخر بركة من الماء في يوم حار. وكلما كان الثقب الأسود أصغر، صار التفاوت في الانحناء في منطقته أكبر؛ ومن ثَم صار من الأسهل على الجسيمات المكونة لأزواج الجسيمات الافتراضية أن تنفصل، بحيث يسقط أحد الجسيمين في الثقب الأسود بينما يفلت الآخر. ومن ثَم، كلما كان الثقب الأسود أصغر، كان إشعاع هوكينج أشد.
ما المصير النهائي إذن للثقب الأسود؟ من المتوقع أن تتبخر الثقوب السوداء ذات الكتلة النجمية في غضون ١٠٦٧ أعوام، فيما ستتبخر الثقوب ذات الكتلة المجرية في غضون ١٠٩٧ أعوام، أما الثقوب المتكونة من اندماج جميع أفراد العنقود المجري فستتبخر في غضون ١٠١٠٦ أعوام.

موجات الجاذبية

مثلما تمثل نظرية ماكسويل فهمنا للكهرومغناطيسية، فإن نظرية النسبية العامة لأينشتاين هي التعبير عن فهمنا للجاذبية. لقد تمكَّن ماكسويل — على أساس نظريته — من التنبؤ بوجود موجات كهرومغناطيسية؛ أي ذبذبات من القوى الكهربية والمغناطيسية تنتشر عبر الفضاء. وتتولد هذه الذبذبات من تسارع الشحنات الكهربية. وما الضوء المرئي والأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسجية والموجات الراديوية والأشعة السينية إلا أمثلة لهذه الموجات الكهرومغناطيسية، وجميعها تنتقل بسرعة الضوء، ولا تتباين سوى في طولها الموجي. وبالمثل، تمكن أينشتاين من أن يتنبأ — على أساس نظرية الجاذبية التي وضعها — بأنه من المفترض وجود موجات جاذبية، وأنها ناتجة عن تسارع الأجسام الضخمة. رأينا سلفًا أنه يمكن التفكير في الجرم الضخم — كالشمس — كجرم مستقر داخل فجوة في نسيج الزمكان (انظر، مثلًا، الشكل ٢-١٤). وعلى نحو مشابه، يمكن تصور موجات الجاذبية بوصفها ذبذبات تمر عبر نسيج الزمكان. وشأن الموجات الكهرومغناطيسية، تنتقل موجات الجاذبية بسرعة الضوء.

ليس الكشف عن موجات الجاذبية هذه بالمهمة اليسيرة. وسبب هذا هو أن التأثيرات التي من المتوقع أن تنتجها ضئيلة. في حالة الموجات الكهرومغناطيسية لا توجد مشكلة؛ فالجسيمات المشحونة التي تدور في دائرة كهربية مغلقة لمعجل جسيمات (ومن ثَم تتعرض لعجلة طاردة مركزية) تنتج على الفور إشعاعًا كهرومغناطيسيًّا؛ ذلك الإشعاع المسمى «إشعاع المعجل الدوراني التزامني». بالنسبة للإلكترونات يكون فقْد الطاقة في ظل هذه الظروف حادًّا للغاية لدرجة أنه من أجل الوصول بها إلى أعلى مستويات الطاقة، من المفضل أن يجري تعجيلها على امتداد أنبوب مستقيم — على غرار المعجل الموجود في ستانفورد بكاليفورنيا والبالغ طوله ثلاثة كيلومترات — بدلًا من توجيهها على نحو متكرر في دائرة مغلقة.

لكن في حالة الجاذبية، حتى لو تمكَّنَّا من دفع كتلة من المعدن وزنها عدة أطنان إلى الدوران بسرعة كبيرة لدرجة أنها تصير في خطر التطاير بعيدًا بسبب قوى العجلة الطاردة المركزية، فلن يمكنها سوى أن تطلق كمية ضئيلة من الطاقة مقدارها نحو ١٠−٣٠ واطات على صورة موجات جاذبية.

لهذا السبب، علينا النظر خارج مختبراتنا، ونحو الأجرام السماوية، للعثور على مصادر أقوى لإشعاع الجاذبية. أول دليل — غير مباشر بقدر ما — على إشعاع الجاذبية عُثر عليه في عام ١٩٧٨. فكما تذكر فإن هالس وتايلور اكتشفا قبل هذا التاريخ بأربعة أعوام نجمًا نابضًا يمثل جزءًا من نظام نجمي ثنائي. وقد رأينا كيف أنه قدم لنا أفضل اختبار حتى ذلك الوقت على بدارية الحضيض الشمسي للجسم الذي يدور في مدار. ظهرت نتيجة أخرى لهذا الاكتشاف؛ وهي نتيجة عادت على هذين المكتشفين بجائزة نوبل في عام ١٩٩٣. النجوم النابضة هي نجوم نيوترونية تطلق تيارات من الإشعاع من قطبيها الشمالي والجنوبي، ثم تلتف هذه التيارات مع حركة النجم حول نفسه. وإذا حدث أن وقعت الأرض في مسار هذه الأشعة الدوارة، فسنرصد سلسلة من النبضات المنتظمة؛ على نحو أشبه بالسفينة التي تتلقى وهي في عرض البحر نبضات الضوء الصادرة عن الإشعاع الدوار الذي يطلقه الفنار. في حالتنا هذه يتكون الإشعاع من موجات راديوية. وما اكتشفه هالس وتايلور هو أن الدورة الأساسية لهذا النجم النابض (وقدرها ٠٫٠٥٩٠٣ ثانية) كانت ثابتة للغاية (ولا تزيد بأكثر من ٥٪ كل مليون عام)؛ ومن ثَم فهي تعد ساعة دقيقة للغاية. ومع هذا، كان ملحقًا بهذا الإيقاع المنتظم دورة من الإيقاع المتفاوت. وقد فُسرت هذه الدورة بأنها إزاحة دوبلر ناجمة عن الطريقة التي يتحرك بها النجم النابض مقتربًا منا ثم مبتعدًا عنا خلال دورانه حول رفيقه الخفي. وقد وُجد أن فترة الدوران تبلغ نحو ثماني ساعات. لكن المثير للاهتمام حقًّا هو أن هذه الفترة كانت تقصر على نحو متزايد. لم يكن مقدار النقص كبيرًا — بل نحو ٧٥ جزءًا على المليون من الثانية في العام — لكن على مدار الأعوام الأربعة من الرصد بدا التأثير ملموسًا. بمعنًى آخر: كان النجم النابض — خلال حركته حول رفيقه — يفقد طاقة، وكان يسير في مدار حلزوني يضيق مع الوقت. وقد أُرجعَ سبب هذا إلى أنه يشع موجات جاذبية. وقد اتفقت النسبة المحسوبة من واقع نظرية أينشتاين مع النسبة المرصودة حتى حدود دقة قدرها نصف درجة في المائة.

fig29
شكل ٢-١٧: رسم تخطيطي يبيِّن الشكل العام لأداة هدفها الكشف عن موجات الجاذبية.
لكن بالطبع نحن نود أن نرصد موجات الجاذبية بواسطة معدات موجودة في المختبر. يعرض الشكل ٢-١٧ مخططًا لإحدى هذه المعدات. الفكرة هنا هي شطر شعاع ليزر بحيث يُرسَل شعاعان في اتجاهين عموديين أحدهما على الآخر، وبعد أن ينتقلا عبر أنابيب مفرغة لعدة كيلومترات يُعكَسان ثانية نحو المصدر، حيث يُسمح لهما بالاتحاد والتداخل أحدهما مع الآخر. والفكرة هي أن موجة الجاذبية المارة عبر الكاشف ستجعل إحدى هاتين المسافتين تقل والثانية تزيد. ومن المفترض أن يؤدي هذا إلى إخلال الطريقة التي يتحد بها الشعاعان؛ وهو التأثير الذي يمكن رصده بواسطة كاشف ضوئي. يُطلَق على هذه الأداة اسم مقياس التداخل. ولكي نزيد من حساسية الأداة للتغيرات الدقيقة في المسافة، يُجبر كل شعاع من الشعاعين على اجتياز رحلة العودة نحو مائة مرة. وبهذه التقنية يؤمل أن نتمكن من الكشف، مثلًا، عن موجات الجاذبية المنبعثة خلال أحد انفجارات المستعرات العظمى، وإن كان من المستبعد أن ينتج انفجار مستعر أعظم تام التناظر مثل هذه الموجات. لكن لحسن الحظ لا يُنتظر أن تكون هذه الانفجارات تامة التناظر؛ فالنجوم التي تُنهي حياتها بانفجار كهذا يُتوقع أنها تدور حول نفسها. علاوةً على ذلك، بعض هذه النجوم أعضاء في نظم نجمية ثنائية. وهكذا، من الناحية العملية، من المنتظر أن تكون انفجارات المستعرات العظمى متناظرة؛ ومن ثَم أن تبعث نبضة من موجات الجاذبية.
مشكلة انتظار حدوث انفجار مستعر أعظم هي أن هذه الانفجارات لا تحدث كثيرًا. ففي مجرتنا — درب التبانة — يُتوقع أن تقع هذه الانفجارات بمتوسط مرة كل ٣٠ عامًا. هذا يعني أن ثمة احتمالًا كبيرًا أن يُمضي عالِم الفلك حياته المهنية كلها وهو ينتظر وقوع أحدها دون طائل. ولهذا السبب، لا بد أن يمتد البحث إلى المجرات القريبة. لكن هذا سيعني بالطبع أن قوة الإشارة التي نأمل في رصدها ستتضاءل (إذ تتناسب شدة الإشارة عكسيًّا مع مربع المسافة التي تقطعها). إن الحاجة إلى أن نكون قادرين على رصد الإشارات الصغيرة من المجرات الأخرى هي التي تحدد درجة الحساسية المطلوبة في معداتنا. والهدف هو أن نرصد التغيرات الحادثة في الطول بمقدار جزء واحد في كل ١٠٢١ أجزاء؛ أو ما يساوي واحدًا على الألف من حجم البروتون. في الوقت الحالي، هناك العديد من مقاييس التداخل الكبيرة هذه، وتديرها فرق أمريكية، وفرنسية إيطالية، وألمانية بريطانية، ويابانية. ولا نزال في انتظار أولى عمليات الرصد الإيجابية لموجات الجاذبية.

ماذا عن المستقبل؟ هناك بالفعل خطط لإطلاق مقياس تداخل إلى الفضاء، ووقتها لن نكون متحررين من الاضطرابات العشوائية الموجودة هنا على الأرض والتي تحد من حساسية معداتنا وحسب، بل سنكون أيضًا قادرين على أن نزيد على نحو عظيم مسار العودة الذي سيتعين على أشعة الليزر أن تقطعه. يتكون مشروع لاقط مقياس التداخل الفضائي الليزري (المعروف اختصارًا بالاسم «ليزا») من ثلاث محطات فضائية حاملة للمرايا، موضوعة على مسافة خمسة ملايين كيلومتر بعضها من بعض. وبينما تستطيع المعدات العاملة حاليًّا — بمسارات العودة الخاصة بها البالغ طولها كيلومترات عديدة — أن تكشف عن ترددات موجات الجاذبية حتى شدة قدرها نحو ١٠٠ هرتز وأكثر من ذلك، تستطيع الأذرع الممتدة للاقط ليزا الكشف عن ترددات أعلى بكثير، تبلغ مثلًا ميللي هرتز واحدًا. سيمكِّنها هذا من استكشاف طيف موجات الجاذبية المتوقَّع أن يفيد في التحقق من أولى المراحل المبكرة لتطور الكون؛ المرحلة التي سنطلق عليها في القسم التالي اسم «التضخم». ووقت كتابة هذه السطور لا يزال المشروع ينتظر التمويل اللازم. وأقرب موعد محدد للإطلاق هو عام ٢٠١٧.

الكون

بداية من عام ١٩١٧، شرع أينشتاين وغيره من العلماء في تطبيق النسبية العامة على الكون بأكمله. وقد رأينا في الشكل ٢-١٤ كيف يمكن لجسم ضخم كالشمس أن يتسبب في انحناء الزمكان على نحو أشبه بالغمازة. هذا هو ما يحكم التأثير الجذبوي للشمس على حركة الكواكب. لكن إلى الآن لم نضع في اعتبارنا إمكانية أن يكون للزمكان انحناء عام واسع النطاق. كتشبيه، فكر في حاشية الفراش؛ إن كل من يستلقي عليها سيتسبب في انضغاطها للأسفل، لكن ماذا لو أن الحاشية نفسها تتسم إجمالًا بأنها غائرة من المنتصف؟ سينتهي الحال بالراقدين على الفراش بالتجمع في المنتصف. وعلى النقيض من ذلك، إذا كانت الحاشية مرتفعة من المنتصف، سيميل الناس إلى الجلوس على الأطراف ضاغطين على النوابض الموجودة هناك، وقد يتسبب الانحناء العام في جعل الراقدين على الفراش يتدحرجون بعيدًا بعضهم عن بعض. بالطبع ثمة خيار ثالث وهو أن يكون المرء راقدًا على واحدة من تلك الحشايا الطبية الغالية التي تحافظ على استوائها على الدوام (وهي بهذا من المفترض أنها صحية تمامًا لنا، وإن كانت صلبة وغير مريحة). إننا نتوقع من الزمكان أن يتصرف على أحد هذه الأوجه الثلاثة. فلن تتسبب الأجرام الضخمة في أن تكون مواضعها المحلية غائرة وحسب، بل سيتسبب متوسط الكتلة والطاقة في انحناء عام كلي للزمكان. المعادلات التي تتناول هذه النقطة معقدة للغاية، إلى درجة أنني لن أعرضها هنا. لكن يكفي القول بأنه يصير من الممكن تناولها فقط في الحالة الخاصة التي يتسم فيها توزيع المادة بأنه متسق الاتجاهات (أي متماثل في مختلِف الاتجاهات)، ومتجانس (أي له الكثافة عينها في كل مكان). وحتى في هذه الحالة، سيكون علينا الاكتفاء بسرد تصويري لهذه الحالة. إن الافتراض بأن الكون متسق الاتجاهات ومتجانس يُعرف باسم «المبدأ الكوني». لكن هل هذا ما عليه الكون حقًّا؟ من النظرة الأولى لا يبدو الكون كذلك؛ فالمجموعة الشمسية من الواضح أنها لا تتسم بالتجانس، ولا مجرة درب التبانة التي تنتمي إليها مجموعتنا الشمسية. الأمر عينه ينطبق على العنقود المجري المكوَّن من نحو ٣٠ مجرة ويؤلف المجموعة المحلية. ثمة عناقيد مجرية أخرى عديدة، وبعضها يتكون من عدة آلاف من المجرات. ورغم أن النجوم في كل مجرة — والمجرات داخل العناقيد المجرية — تتحرك نسبةً بعضها إلى بعض، فإنها مرتبطة بقوة الجاذبية؛ أي إنها تظل معًا. وحتى العناقيد المجرية مرتبطة على نحو غير محكم بعضها ببعض في عناقيد مجرية فائقة. وهذه يمكن أن تأخذ شكل خيوط ممتدة أو أسطح منحنية ثنائية الأبعاد، تحيط بمناطق من الفراغ لا تحوي أي مجرات تقريبًا. هذه المناطق من الفراغ قد تمتد الواحدة منها بعرض ٢٠٠ مليون سنة ضوئية. إذنْ حتى على هذا المستوى يكون الكون بعيدًا كل البعد عن التجانس.
لحسن الحظ، هذه المسافات لا تمثل سوى نسبة بسيطة من حجم الكون القابل للرصد (١٣٫٧ مليار سنة ضوئية)؛ ومن ثَم نشعر أن لنا الحق في تقبُّل المبدأ الكوني. في هذه الحالة، سنكون بصدد ثلاثة بدائل ممكنة بشأن الانحناء الإجمالي للفضاء الثلاثي الأبعاد:
  • (١)

    أنه قد يكون «مستويًا»، بمعنى أنه بعيدًا عن أي أجرام جاذبة، ستنطبق الهندسة الإقليدية العادية. سيكون مجموع زوايا المثلث ١٨٠ درجة، وسيساوي محيط الدائرة ٢ ط نق. ومن المفترض أن يكون هذا الفضاء ممتدًّا إلى ما لا نهاية.

  • (٢)
    الاحتمال الثاني هو أن يكون الفضاء ذا «انحناء موجب». والتشبيه الثنائي الأبعاد لهذه الحالة هو الكرة (انظر الشكل ٢-٨). في هذه الحالة سيكون مجموع زوايا المثلث أكبر من ١٨٠ درجة، وسيكون محيط الدائرة أقل من ٢ ط نق. وفي هذه الحالة، سيكون الكون (كالكرة) ذا حجم محدود. هذا يعني أنه لو أنك انطلقت على متن صاروخ في أي اتجاه بعينه — لنقل مثلًا في اتجاه عمودي منطلقًا من القطب الشمالي — فبعد أن تقطع مسافة محددة، وأنت في الاتجاه عينه، ستجد أنك قد عدت من حيث بدأت، بحيث تصل إلى كوكب الأرض من ناحية القطب الجنوبي. أو يمكن تشبيه الموقف بزحف الذبابة على سطح كرة في اتجاه معين، بحيث تجد نفسها في نهاية المطاف وقد وصلت إلى نقطة البداية.
  • (٣)
    الاحتمال الثالث هو أن يكون الفضاء الثلاثي الأبعاد ذا «انحناء سالب». والتمثيل الثنائي الأبعاد لهذه الحالة هو شكل السرج (انظر الشكل ٢-٩). في هذه الحالة سيكون مجموع زوايا المثلث أقل من ١٨٠ درجة، وسيكون محيط الدائرة أكبر من ٢ ط نق.

عند بحث هذه الاحتمالات، قد ينخدع المرء بالاعتقاد بأن الإجابة الصحيحة واضحة؛ فنحن «نعرف» بالفعل أن مجموع زوايا المثلث ١٨٠ درجة، وأن محيط الدائرة يساوي ٢ ط نق، إذنْ لا بد أن الفضاء مستوٍ. لكن علينا ألا ننسى أنه حتى في حالة تشبيهَي الكرة والسرج، إذا كنا بصدد التعامل مع دائرة صغيرة للغاية، فإن هذه الأسطح المنحنية ستقترب من الاستواء. فعند بحث انحناء الكون ككل، نحن لم نتعرض سوى للمثلثات والدوائر دقيقة الحجم للغاية؛ لذا من الطبيعي أن نتوقع أنها ستكون مقاربة للحالة المستوية. لكن عند الحديث عن الانحرافات عن الهندسة الإقليدية سيكون علينا أن نفكر مثلًا في مثلثات عملاقة تضم ثلاثة عناقيد مجرية بعيدة بعضها عن بعض. فقط على هذا المستوى من التفكير نتوقع أن نلحظ اختلافات بينة عن الاستواء.

يعتمد تحديد نوع الانحناء الخاص بالكون على ما يحويه الكون. لكن قبل أن نأتي لهذه النقطة ثمة ملاحظة أخرى علينا أن نضعها في الاعتبار؛ وهي — كما ذكرنا من قبل — أنه وفق المبدأ الكوني يُفترض أن تكون كثافة المادة في كل مكان متماثلة عبر الفضاء. إلا أن الكثافة لا تظل واحدة مع مرور الوقت. فكما لاحظ جورج لوميتر في عام ١٩٢٧ فإن الكون يتمدد، والعناقيد المجرية تبتعد عنا، وكلما بَعُد العنقود المجري زادت سرعة تحركه؛ فالعنقود الذي يبعد عنا ضعف المسافة التي يبعدها آخر عنا يتحرك بضعف السرعة التي يتحرك بها العنقود القريب. يلخص «قانون هابل» — الذي قدمه إدوين هابل في عام ١٩٢٩ — هذا المبدأ:
(2-8)
حيث هي سرعة ابتعاد العنقود المجري و هي المسافة التي يبعدها عنا و هي معامل هابل، الذي تبلغ قيمته المَقيسة نحو ٢ × ١٠−١٨ ث−١.

هذه الحركة المتباعدة تُستنتج من الطريقة التي تنزاح بها الأطوال الموجية للضوء الصادر عن العناقيد المجرية البعيدة ناحية الطرف الأحمر من الطيف؛ أو ما يطلق عليه اسم «الانزياح الأحمر». وبعبارة أخرى: الأطوال الموجية استطالت. في البداية فُسر الأمر بوصفه إزاحة دوبلر، بالطريقة ذاتها التي تنزاح بها موجات الصوت الصادرة عن صافرة سيارة الشرطة المسرعة نحو ترددات أقل مع ابتعاد السيارة عنا. إلا أن التفسير الحديث لهذا الانزياح الأحمر هو أنه ناتج عن تمدد الفضاء نفسه. وكما ذكرت بإيجاز من قبل، ليس الأمر أن العنقود المجري يتحرك مبتعدًا عنا «عبر» الفضاء، وإنما نعتقد أن الفضاء بيننا وبينه هو الذي يتمدد على نحو متواصل، وإبان ذلك يحمل معه العنقود المجري بعيدًا عنا على موجة مدية من الفضاء المتمدد. إن الضوء لا يبدأ رحلته نحونا بطول موجي زادته حركة العنقود، وإنما هو يبدأ رحلته بالطول الموجي الطبيعي، لكن فيما بعد يستطيل الضوء بفعل تمدد الفضاء الذي ينتقل خلاله.

من المهم هنا أن نذكر أننا حين نتحدث عن تمدد الفضاء فإننا لا نعني أن «كل» المسافات تتمدد. فلو أن هذا حدث لما كان لدينا وسيلة للتحقق من هذا التمدد. إن القوى المحكمة التي تبقي على تماسك الأجسام، مثل الذرات والمجموعة الشمسية والمجرات والعناقيد المجرية، من الشدة بما يكفي بحيث تتغلب على ميل الفضاء للتمدد، وبذا تحافظ هذه الأجسام على حجمها كما هو. لكن هذا لا ينطبق على الانجذاب الضعيف بين العناقيد المجرية؛ ففي هذه الحالة يكون تأثير تمدد الفضاء هو المهيمن؛ ومن ثَم تتحرك العناقيد مبتعدة بعضها عن بعض.

هذا النوع من التباعد — الذي فيه تتناسب سرعة التباعد طرديًّا مع المسافة — هو بالضبط ما نتوقعه إذا كانت محتويات الكون كلها في وقت ما من الماضي منضغطة في نقطة وحيدة، ثم وقع انفجار مزقها إربًا. يُطلَق على هذا الانفجار اسم «الانفجار العظيم». والحركة المتباعدة التي نراها اليوم هي الأثر المتخلف عن ذلك الانفجار. ومن واقع الانفصال المرصود بين العناقيد المجرية اليوم، والسرعات التي تتحرك بها، يمكننا أن نحسب كم من الوقت تطلب الأمر كي تقطع هذه المسافة بتلك السرعة. وهذه هي الكيفية التي خلصنا بها إلى أن الانفجار العظيم وقع منذ ١٣٫٧ مليار عام.

ينطبق قانون هابل على نحو محكم على المسافات المتوسطة، لكن على أكبر المستويات من المتوقع وجود انحرافات. وثمة إمكانية أن معدل التباين سيتغير مع مرور الوقت. في الواقع، كان من المتوقع في البداية أن العناقيد المجرية ستبطئ في حركتها؛ وذلك بسبب الجاذبية المتبادلة بينها. فإذا كان متوسط الكثافة كبيرًا بما يكفي، فمن المفترض أن يؤدي التجاذب المتبادل إلى إبطاء حركة العناقيد إلى أن تتوقف تمامًا. وبدايةً من تلك النقطة ستتحرك مقتربة بعضها من بعض إلى أن تتلاقى جميعًا في «انسحاق عظيم». وستكون هناك فترة محددة بين الانفجار العظيم والانسحاق العظيم. ليس هذا وحسب، بل إن هذه الكثافة العالية ستجعل الفضاء ذا انحناء موجب، وسيكون حجمه لامتناهيًا، وإن كان محددًا (على غرار سطح الكرة في حالة الفضاء الثنائي الأبعاد).

بالطبع، مع تمدد الكون وزيادة المسافات بين العناقيد المجرية، سيكون من المتوقع أن تقل الجاذبية المتبادلة بينها. وإذا كانت كثافة المادة منخفضة، بحيث تنخفض الجاذبية المتبادلة فعليًّا إلى الصفر وتبدأ العناقيد المجرية في الابتعاد بعضها عن بعض، فسيستمر التمدد إلى الأبد. في هذه الحالة سيتسم الفضاء بأنه ذو انحناء سالب وسيكون الكون ذا حجم لامتناهٍ.

بين هذين السيناريوهين المتطرفين يوجد ما يسمى «حالة الكثافة الحرجة». وفي هذه الحالة تنخفض قوة الجاذبية إلى الصفر بينما تقل سرعة تباعد العناقيد المجرية إلى أن تقترب من الصفر لكن لا تصل إليه. وفي هذه الحالة تكون هندسة الكون مستوية. وفي المرحلة الحالية من تطور الكون، تبلغ قيمة الكثافة الحرجة للكون نحو ١٠−٢٦ كجم/م٣؛ أو ما يعادل نحو ١٠ ذرات هيدروجين لكل متر مكعب.

تتضمن مساعي قياس معدل تباطؤ تمدد الكون رصد أبعد العناقيد المجرية عنا. لا توجد صعوبة في قياس مقدار الانزياح الأحمر. لكن ثمة صعوبات جمة في الحصول على تقديرات موثوق بها للمسافات بين العناقيد. ولهذا السبب، عجزت القياسات القائمة على الرصد لفترة طويلة عن تحديد مقدار التباطؤ؛ ومن ثَم الفصل بين النماذج الثلاثة الممكنة لتمدد الكون. ثم في عام ١٩٩٨ وردت أولى الإشارات المفاجئة التي دلت على أن العناقيد المجرية البعيدة لم تكن تتباطأ على الإطلاق، وإنما كانت تتسارع في حركتها مبتعدة عنا! هذه النتيجة غير المتوقعة تمامًا كشفت النقاب عن نوع لم يكن معروفًا من القوى حتى ذلك الوقت؛ نوع يعمل في الاتجاه المعاكس للجاذبية المتبادلة بين العناقيد المجرية، بل ويهيمن أيضًا على المسافات البعيدة. وسنتحدث عن مصدر هذه القوة فيما يلي.

كما ذكرت من قبل، يعتمد الانحناء الكلي للفضاء على محتويات الكون. وباستخدام نظرية أينشتاين، طور الفيزيائي الروسي ألكسندر فريدمان في عام ١٩٢٢، والفيزيائي البلجيكي جورج لوميتر في عام ١٩٢٧ — على نحو منفصل — المعادلات التي تربط انحناء الفضاء بمصدر هذا الانحناء. وبالأساس، ثمة مصدران لانحناء الفضاء؛ الأول هو متوسط كثافة الكتلة أو الطاقة الخاصة بمحتويات الكون. وهنا تحضرنا الفكرة العبقرية التي قدمتها لنا النسبية الخاصة، والتي تقضي بأن الكتلة والطاقة وجهان لعملة واحدة، وذلك من خلال المعادلة: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. فبالإضافة إلى الطاقة التي يملكها الجسم بفضل حركته، يملك الجسم طاقة مختزنة في صورة كتلة السكون. لكن ليست المادة وحدها التي تملك طاقة؛ إذ إن للإشعاع الكهرومغناطيسي طاقة هو الآخر، شأنه شأن مجالات الجاذبية. لذا في هذا السياق علينا أن نضع في اعتبارنا الأنواع المختلفة من الطاقة الموجودة. وبهذا فإن «كثافة الطاقة» هي الحد الأول في المعادلة الخاصة بمصدر الانحناء المكاني. المصدر الثاني هو «الضغط»، وهو ينشأ عن الطريقة التي تتحرك بها العناقيد المجرية بعيدًا بعضها عن بعض. هذه الحركة المنظمة تتسبب في دفعة من الزخم إلى الخارج والتي — شأنها شأن كثافة الطاقة — تسهم في انحناء الفضاء. والعنصر الأهم هو كثافة الطاقة، وهو ما سنركز حديثنا عليه الآن.

ماذا وجدنا إذنْ؟ هل كثافة الطاقة تعادل القيمة الحرجة أم أنها أكبر منها أم أقل منها؟ بجمع كتلة النجوم المرئية الموجودة في المجرات، نجد أن هذه الكتلة تعادل ٤٪ من الكتلة الحرجة. هذا وحده من شأنه أن يشير إلى أن للفضاء انحناءً سالبًا، وأن الفضاء لامتناهٍ، وأن التمدد سيستمر إلى الأبد. لكن علينا ألا نتسرع. فالشمس، شأن غيرها من النجوم الموجودة في مجرة درب التبانة، تدور حول مركز المجرة، وما يحافظ على مسارها هذا هي قوة الجاذبية النابعة من كل الأجرام الأقرب إلى مركز المجرة منها. المشكلة هي أننا عندما نقدر الكتلة الإجمالية لهذه النجوم — بما في ذلك تلك النجوم التي ابتلعها الثقب الأسود الموجود في مركز المجرة — سنجد أنها لا تكفي لإحداث قوة الجذب القوية بما يكفي كي تجعل الشمس تدور في مدارها. ومن هذا نخلص إلى أنه لا بد من وجود قدر أعظم بكثير من المادة في المجرة عن ذلك الذي تحويه النجوم. ونحن نطلق على هذا العنصر الخفي اسم «المادة المظلمة». وإلى الوقت الحالي لا نزال غير واثقين ممَّ تتكون هذه المادة، وإن كنا نعتقد أنها تتكون من نفس نوعية المادة المألوفة لدينا؛ أي من إلكترونات ونيوترونات وبروتونات.

بعد ذلك نلحظ أن المجرات مرتبطة بعضها ببعض بفعل قوة الجاذبية في عناقيد مجرية. ورغم أن هذه المجرات لا تدور بعضها حول بعض على النحو الذي تدور به النجوم حول مراكز مجراتها، فإن السرعات التي تتحرك بها المجرات داخل العنقود المجري دون الإفلات من قوة الجاذبية الخاصة بالأعضاء الآخرين بالعنقود المجري؛ تمكِّننا من تقدير الكتلة الإجمالية للعنقود المجري. وقد تبين أن هذه الكتلة أكبر من الكتلة الإجمالية للمجرات نفسها، حتى بعد إضافة المادة المظلمة التي تحتويها هذه المجرات. هذا بدوره يعني أن ثمة مادة مظلمة إضافية موجودة «بين» المجرات. وإجمالًا، يُقدَّر إجمالي الطاقة المختزنة في المادة — بصورتيها العادية والمظلمة — بنحو ٣٠٪ من الكثافة الحرجة.

أخيرًا، عند تصنيف مجموع الإسهامات في كثافة الطاقة الإجمالية للكون، علينا أن نضع في الاعتبار الاكتشاف الحديث بأن تمدد الكون يتسارع وسبب حدوث هذا. هذا التسارع يُعزى إلى كثافة الطاقة التي يتسم بها الفراغ. قد يبدو من الوهلة الأولى مستغربًا أن نعزو أي شيء إلى «الفضاء الخاوي»، لكننا ذكرنا بالفعل أنه من منظور الفيزيائيين ليس الفضاء مساويًا للعدم. ولقد رأينا بالفعل كيف أن الفضاء يمكن أن ينحني، وكيف أنه يحمل العناقيد المجرية على موجة مدية من الفضاء المتمدد، وكيف أن زوجًا من الجسيمات الافتراضية يستطيع على نحو لحظي أن يظهر إلى الوجود من الفراغ. هذه الإمكانية يسمح بها مبدأ عدم اليقين الذي وضعه هايزنبرج. ومن تبعات هذا المبدأ أنه في أي لحظة زمنية يكون من المستحيل أن نحدد بدقة ماهية الطاقة. وعلى وجه التحديد، من المستحيل أن نحدد أن طاقة الفراغ تساوي صفرًا؛ صفرًا بالضبط. هذا يمكِّن الجسيمات الافتراضية من استعارة الطاقة على نحو مؤقت؛ ومن ثَم يوفر لها الطاقة الكافية لإنتاج كتلة السكون الخاصة بها؛ ومن ثَم تظهر إلى الوجود. وبذا يعد الفراغ بمثابة بحر هائج من الجسيمات التي تظهر إلى الوجود لفترات وجيزة ثم تختفي مجددًا. هذه الظاهرة تتسبب في وجود كثافة طاقة متذبذبة للفراغ؛ أو ما نطلق عليه اسم «الطاقة المظلمة». وهي تضيف إسهامها الخاص إلى كثافة الطاقة الإجمالية الخاصة بالكون. وشأن أنواع الطاقة الأخرى، هي تزيد من الانحناء الكلي للفضاء، لكنها تختلف عن أنواع الطاقة الأخرى في الطريقة التي تؤثر بها على حركة العناقيد المجرية؛ فبينما تتسبب أنواع الطاقة الأخرى في إحداث قوة تجاذب، تتسبب هذه الطاقة في إحداث قوة تنافر؛ التنافر المسئول عن تسارع تمدد الكون.

جدير بالذكر أنه في عام ١٩١٧ فكر أينشتاين في فكرة مشابهة. لقد كان — شأن كافة معاصريه — يؤمن بأن الكون ساكن تمامًا (لم يكن تمدد هابل قد اكتُشف بعد). ومن ثَم فقد احتاج إلى قوة تنافر كي يعادل ميل الجاذبية إلى تجميع كل مادة الكون معًا. وقد أدى به هذا إلى أن يدرج في معادلته حدًّا إضافيًّا؛ يطلق عليه الثابت الكوني، ويشار له بالرمز وقد ندم لاحقًا على هذا؛ لأنه لو لم يدرج هذا الحد لكان تنبأ بأن الكون يتمدد (لأن هذه هي الطريقة الوحيدة لمنع المجرات من التجمع بفعل قوة الجاذبية).
رغم أن وجود الطاقة المظلمة لم يُقَر به إلا حديثًا، فمن المقدر لها أن تلعب دورًا رئيسًا في مستقبل الكون. فكثافة الطاقة المظلمة — التي هي سمة للفراغ — تظل ثابتة خلال عملية تمدد الكون، بينما أنواع الطاقة الأخرى — كتلك الناتجة عن المادة أو الإشعاع — تقل كثافتها مع التمدد. في البداية كانت كثافة الطاقة المرتبطة بالنوع الأخير هي المهيمنة، وكان التمدد يتباطأ. لكن في الوقت الحالي قلت هذه الإسهامات في كثافة الطاقة الإجمالية للكون إلى مستوًى أقل مما تسهم به الطاقة المظلمة. ونتيجة لهذا توقف التباطؤ الذي كان يتسم به التمدد، وحل محله تسارع ملحوظ ناتج عن الطاقة المظلمة (انظر الشكل ٢-١٨ حيث نضع المعامل الذي هو مقياس لحجم الكون في مقابل الزمن ). ومن المتوقع أن يستمر هذا التسارع في المستقبل.

كيف إذنْ نلخص كل هذا؟ فيما يلي نعرض لأفضل تقديراتنا الحالية عن الإسهامات المختلفة في كثافة الطاقة، وذلك على صورة نسب مئوية من الكتلة الحرجة:

المادة العادية على صورة نجوم ٠٫٠٤ ± ٠٫٠٠٤
المادة المظلمة ٠٫٢٧ ± ٠٫٠٤
الطاقة المظلمة ٠٫٧٣ ± ٠٫٠٤
الكثافة الإجمالية ١٫٠٢ ± ٠٫٠٢
إن اقتراب النتيجة النهائية من القيمة الحرجة أمر يحتاج للتفسير. سبب هذا هو أن علينا أن ندرك أنه لو في أعقاب الانفجار العظيم مباشرة كانت الكثافة مختلفة قليلًا عن القيمة الحرجة، لكان هذا الاختلاف قد تضاعف أضعافًا مضاعفة بحلول وقتنا الحالي. فعلى سبيل المثال، لو كانت الكثافة أقل قليلًا من القيمة الحرجة في البداية، لكان التمدد الذي وقع في الفترة القصيرة التالية أكبر مما هو ملائم للكثافة الحرجة. هذا بدوره يعني أن هذه الطاقة كانت لتشغل حجمًا أكبر مما يتطلبه الوصول للحالة الحرجة. وهذا من شأنه أن يقلل الكثافة التي كانت منخفضة من البداية؛ وبذا يتصاعد تناقص الكثافة. على سبيل المثال، قُدر أنه لو كانت الكثافة تبلغ اليوم نسبة ٣٠٪ من القيمة الحرجة، يمكن تتبع هذا إلى تناقص قدره جزءًا واحدًا في كل ١٠٦٠ أجزاء بعد بداية الانفجار العظيم ﺑ ١٠−٤٣ ثوانٍ.
fig30
شكل ٢-١٨: المعامل المرتبط بحجم الكون في مقابل الزمن المنقضي منذ الانفجار العظيم. في البداية، يتباطأ معدل حركة بسبب قوى التجاذب بين العناقيد المجرية. لكن في أوقات لاحقة يهيمن الإسهام الذي تقدمه الطاقة المظلمة؛ ومن ثَم يتسارع معدل حركة .
في ضوء هذه الاعتبارات أُدركَ — حتى قبل الاكتشاف الحديث للإسهام الذي تقدمه الطاقة المظلمة — أن الكثافة اليوم قريبة على نحو استثنائي من القيمة الحرجة. وفي عام ١٩٨١ خرج آلان جوث بتفسير لهذا الأمر؛ وذلك بأن اقترح فكرة أنه عقب الانفجار العظيم بوقت ضئيل، كانت هناك فترة من التمدد السريع على نحو استثنائي تسمى فترة «التضخم». وفي هذه الفترة زاد حجم الكون بمعامل قدره ١٠٣٠ في فترة قدرها ١٠−٣٢ ثوانٍ. وبغض النظر عن شكل الانحناء الذي كان موجودًا قبل التضخم، فبعد وقوع التضخم صار الفضاء مستويًا. كان الموقف أشبه بنفخ بالون؛ فرغم أنه ربما كان مجعدًا في البداية، لكن إذا حدث التمدد بالقوة الكافية، فستكون أي منطقة صغيرة على السطح مستوية بالأساس. وعلى النحو ذاته، فإن كوننا القابل للرصد — ذلك الجزء من الكون الإجمالي والواقع داخل حدود ١٣٫٧ مليار سنة ضوئية عنا؛ ومن ثَم هو الجزء الذي تمكنا من استقبال أشعة الضوء المنبعثة منه منذ الانفجار العظيم — ما هو إلا جزء ضئيل من كون كلي؛ وبذا يكون الكون القابل للرصد مستويًا فعليًّا.

النتيجة النهائية هي أنه من بين كل أشكال الهندسة التي تسمح بها النسبية العامة، فإن كوننا له فضاء مستوٍ؛ ومن ثَم تنطبق عليه الهندسة الإقليدية. ومع ذلك فالزمكان «ليس» مستويًا. ولأن الفضاء يتمدد مع مرور الزمن، ينبغي التفكير في عنصر الزمن بوصفه منحنيًا. وهو في هذا يختلف عن الزمكان في النسبية الخاصة، حيث يعد كلٌّ من الفضاء والزمكان مستويين.

ختامًا، رأينا كيف أن نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين تمكِّننا من فهم سلوك أصغر المكونات دون الذرية للطبيعة بينما تتحرك بسرعة تقارب سرعة الضوء، وكيف أن نظرية النسبية العامة تقدم اللغة والأدوات الضرورية لفهم الكون ككل. والاثنان معًا يعتبران إنجازًا رائعًا بحق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤