مقدمة
ماذا تصدِّق؟
قبل الوصول إلى اليقين، علينا أنْ نَقْنَع غالبًا بتخمينٍ معقولٍ إلى حدٍّ ما.
***
جرِّبْ هذا في بعض الأحيان: اسألْ أحد الأصدقاء: «لماذا تصدِّق ما تصدِّقه؟ ما الأدلة التي تُقنِعك بأنَّ أحد الأشخاص على صوابٍ أو أن أحد المنتجات جيد حقًّا؟» نادرًا ما يثير هذا السؤال إجابةً متأنية ومدروسة، بل يثير عادةً الصمتَ ويجعل الصديقَ يضيِّق عينَيْه متشكِّكًا. يعتقد معظم الأشخاص أن معتقداتهم تتشكَّل بواسطةِ المنطق والعقل، ومن المحتمل أن يجد صديقك قدرًا من الإهانة في السؤال.
إلا أن معتقداتنا تغذِّيها أمورٌ أكثر من المنطق والحقائق؛ فمن الصحيح أننا نقتنع بالأدلة الدامغة المجمعة في صورِ حججٍ تتفق مع مبادئ المنطق، إلا أن هذا تنطبق صحته فقط على الرسائل التي نفحصها، ونحن لا نمتلك وقتًا للتدقيق في كل الإعلانات التي نسمعها ومنشورات المدونات التي نقرؤها. إن المعلومات تنهال علينا بصفة مستمرة تقريبًا. فكِّرْ فحسب في التواجُد الدائم للشاشات في كل مكان؛ عند بوابات المطار، في المطاعم، في قاعات الانتظار، في مكتب البريد، حتى في مصاعد الفنادق. إذا كان المكان يحتوي على جمهورٍ بشريٍّ مضطر للمشاهدة، فمن المحتمل أن توجد شاشةٌ، وتحديثاتٌ سريعة للأخبار من أفغانستان، أو تغطيةٌ لإحدى بطولات الجولف، أو إعلانٌ لدواء كلاريتين. كثيرٌ من هذه المعلومات غيرُ حيادي، والمقصود منه إقناعك بأمرٍ ما. وعلى الرغم من ذلك، فإننا لا نمتلك الوقتَ أو الطاقةَ الذهنية للتفكير مليًّا في كل رسالةٍ تأتي في طريقنا.
هل نتأثَّر بالرسائل التي نتجاهلها؟ كنت أقف في الطابور في البنك ورأيتُ تليفزيونًا كبيرًا خلف الصراف، يعرض قناةً خاصة بالبنك؛ عُرِضَ إعلانٌ عن سيارة سيدان تسير على أحد الطرق الريفية في نيو إنجلاند مبعثِرةً أوراق الخريف، فدخلتُ في حالةٍ من التخيل الجميل وفكَّرْتُ في جبال بيركشير. لم ألحظ واعيًا اسمَ الشركة المصنِّعة للسيارة … لكنْ هل تأثَّرْتُ على الرغم من ذلك؟ عندما أحتاج بعد ذلك إلى سيارةٍ، حتى لو كان هذا بعد أربع سنوات من وقتنا الحالي، فسيكون من المرجح أن أشتري هذا النموذجَ لأنني تعرَّضْتُ لهذا الإعلان. هل سيكون من المرجح أن أتقدَّم للحصول على قرضِ سيارةٍ من هذا البنك بدلًا من البحث ومقارَنة الأسعار لمعرفة السعر الأفضل؟ «هل من الممكن أن تتغيَّر توجُّهاتي دون أن أكون واعيًا لذلك؟» على الرغم من أن تأمُّل هذا السؤال يُشعِرنا بالانزعاج، فقد أوضحَتِ الأبحاثُ النفسية على مدار الخمسين سنةً الماضية أن الجواب هو نعم.
في بعض الأحيان أنتبه، بالطبع، إلى هذه الرسائل، ولا أثق كليًّا فيما أسمع؛ فعلى سبيل المثال: عندما أقرأ مجلةَ «ماذر جونز» أو مجلة «ويكلي ستاندرد»، أكون مُدرِكًا أن كلًّا منهما لديها وجهةُ نظرٍ سياسية، وأحاوِل أن أتذكَّر أنه من المحتمل حدوث حذفٍ للمعلومات أو لَيٍّ لأعناقِ الحقائق كي تتَّفِق مع وجهة نظر المجلة. عندما أسمع خطابًا للرئيس الإيراني، أتذكَّر أنه أنكَرَ حدوثَ محرقةِ الهولوكوست؛ ومن ثَمَّ فأنا أتوخَّى الحذرَ تجاه أي مزاعم يقولها. «عندما أستمع بعنايةٍ إلى الرسائل، هل أكون قادرًا على تبرير تحيُّزِ المصدر أو مصداقيته؟» إلى حدٍّ ما الجواب هو نعم، لكنْ ليس على نحوٍ كاملٍ.
إنني أجعل الأمرَ يبدو كأننا جميعًا نعاني — بل أسوأ؛ نُستغَلُّ على نحوٍ منهجي — بشكلٍ متكرِّر من قِبَل قوًى خارجةٍ عن نطاق إدراكنا، أو خارجةٍ عن نطاق سيطرتنا في حالة إدراكنا لها. إن التعبير عن الأمر بهذه الطريقة يبدو مُبالَغًا فيه مبالغةً ما، لكنه ليس ببعيد عن الحقيقة.
سوف يخبرك هذا الكتاب كيف تُقَيِّم الأفكارَ الجديدة — وبصفة خاصة تلك المتعلِّقة بالتعليم — كي يقلَّ احتمالُ اقتناعك بالأدلة السيئة.
(١) النسبة الذهبية
الحذر يَقِي من النوائب. الخطوة الأولى في الدفاع عن نفسك ضد المُقْنِعين الخفيين تتمثَّل في التعرُّف على هؤلاء. سأبدأ بمثالٍ ربما يُعتبَر أغرب الأمثلة: إن «الشكل» نفسه الذي يحمل لك المعلومةَ يؤثِّر على ما إذا كنتَ ستصدِّق المعلومة أم لا. هذه القصة معقَّدة بعض التعقيد، على الرغم من أن القاعدة الرياضية المعتمدة عليها بسيطة نسبيًّا.
نسبة طول الضلع «ب» إلى الضلع «أ» هي ١٫٦١٨، ويجد الأشخاصُ المستطيلاتِ التي تتبع هذه النسبة أكثرَ إمتاعًا من الناحية الجمالية عن المستطيلات الأخرى، فمثلًا إذا عُرِض على الأشخاص ثلاثون مستطيلًا من المستطيلات المختلفة النِّسَب، فإن معظم الناس سوف يختارون هذا المستطيل بصفته الأكثر جاذبيةً. ونظرًا لأهمية النسبة ١٫٦١٨ في علم الجمال فإنها تُسمَّى «النسبة الذهبية».




-
المسافة بين طرف الإصبع والمرفق/المسافة بين الرسغ والمرفق.
-
المسافة بين خط الكتف وأعلى الرأس/ارتفاع الرأس.
-
المسافة بين السرة وأعلى الرأس/المسافة بين خط الكتف وأعلى الرأس.
-
المسافة بين السرة والركبة/المسافة بين الركبة ونهاية القدم.
من الطبيعي وجود اختلافات بين الأفراد في هذه النِّسَب، لكننا نلاحظ النسبة الذهبية عند أخذ المتوسطات لعددٍ كبيرٍ من الأفراد، والأفراد أصحاب «النِّسَب المثالية» يعتبرهم الآخَرون أصحابَ أجسام متناسبة.
النسبة | القيمة |
---|---|
٣ إلى ٢ | ١٫٥٠٠٠ |
٨ إلى ٥ | ١٫٦٠٠٠ |
٢١ إلى ١٣ | ١٫٦١٥٤ |
٥٥ إلى ٣٤ | ١٫٦١٧٦ |
١٤٤ إلى ٨٩ | ١٫٦١٧٩ |


توجد أيضًا متتاليات فيبوناتشي في ترتيب أوراق كثيرٍ من النباتات، وإنْ كان وجودها أصعبَ في الرصد.
سيبدو تفسيرُ القِيَم الجمالية للنسبة الذهبية واضحًا؛ حيث إننا ننجذب طبيعيًّا إلى الأشياء التي تُظهِر النسبةَ الذهبية نظرًا لوجود هذه النسبة في كل أنحاء الطبيعة.
لكن ما علاقة النسبة الذهبية بالإقناع؟ ختم جون كيتس الشاعر البريطاني العظيم الذي عاش في القرن التاسع عشر «قصيدة الجرة الإغريقية» بهذه الكلمات: «الجمال هو الحقيقة، والحقيقة هي الجمال. هذا كل ما تعرفه على الأرض، وكل ما تحتاج إلى معرفته.» اتضح أن كيتس كان عالِمًا ممتازًا في علم النفس؛ فنحن نربط بين الجمال والحقيقة، وعندما نرى شيئًا جميلًا من الناحية المادية، فإننا نفترض امتلاكه صفات جميلة أخرى، بما فيها الصدق.


في السميوطيقا (علم دراسة الرموز) يمكن أن نطلق على هذا اسمَ «علامة»؛ فمثلما يعني الأحمر «ساخن»، ويعني الأزرق «بارد»، فإن الجمال يعني «الحقيقة». بَيْدَ أن دلالة الأحمر والأزرق في الحرارة معتقدٌ ثقافي، ولا بد لكلٍّ منَّا تعلُّمه؛ أما الرابطُ بين الجمال والحقيقة فموجودٌ عبر الثقافات، ولا يحتاج إلى تعلُّمٍ. يبدو أنه جزء طبيعي من التكوين البشري.

تؤثِّر النسبةُ الذهبية بالفعل تأثيرًا قويًّا وغامضًا على نحوٍ قوي على الإقناع. أو من الممكن أن يكون لها هذا التأثير لولا مشكلة صغيرة؛ أَلَا وهي أن نظرية النسبة الذهبية هراءٌ.
(٢) المشكلة
إلا أن المعتقدات غير المدعومة بالأدلة المرتبطة بالتعليم لها أهمية أكبر؛ فكلفتها من حيث الوقت والمال يمكن أن تكون هائلة، والأسوأ من ذلك أن المعتقدات الخاطئة المتعلقة بالتعليم من الممكن أن تكلِّف الأطفال تعليمهم. يمكن أن تمثِّل الأدوات العلمية مساعدةً حقيقيةً في تحديد الطرق والمواد التي تساعد الطلبة حقًّا في التعلُّم وتلك التي لا تفيد، فنحن لا نملك ترفَ السماح بأن تخضع الممارسة التعليمية لتوجيه الحدس أو الأمل في توفير المعلومات الأفضل. لكن على الرغم من تطبيق الأدوات العلمية بانتظام، فإن النتيجة غالبًا تخضع للتجاهل، أو يمكن أن يُحرفها الأشخاص المهتمون بالمال في المقام الأول.
لنتأمَّلْ بعضَ نظريات أساليب التعلُّم. تقول تلك النظريات إن الأشخاص المختلفين يمتلكون أساليبَ تعلُّم مختلفة، وإننا يمكننا تحديد أسلوبِ كلِّ شخص، وتكييف طريقة التعليم وفقًا لهذا الأسلوب، وجعل التعلُّم أسهل أو أكثر فعاليةً؛ على سبيل المثال: أشهر نظرية حول أساليب التعلُّم تقول إن بعض الأشخاص يتعلَّمون على نحوٍ أفضل من خلال رؤية الأشياء (أي إنهم متعلِّمون بصريون)، والبعض من خلال سماع الأشياء (متعلمون سمعيون)، وآخَرين من خلال تحريك الأشياء (متعلِّمون حركيون). هذه النظرية موجودة منذ خمسٍ وعشرين سنةً على الأقل، واختُبِرت في تجارب علمية. في الحقيقة، إن اختبار النظرية أمر سهل ومباشِر تمامًا.
-
(١)
خُذْ مائة شخص وصنِّفْهم إما كمتعلمين بصريين وإما كمتعلمين سمعيين. (دعونا نستبعد المتعلمين الحركيين من أجل البساطة.)
-
(٢)
أَعِدَّ أدواتٍ تعليميةً بصرية وسمعية متشابهة؛ على سبيل المثال: يمكن أن يستمع الأشخاص إلى قصةٍ (أسلوب سمعي)، أو يشاهدون عرضًا صامتًا يصوِّر القصةَ نفسها (أسلوب بصري).
-
(٣)
اجعلْ خمسين شخصًا يتلقَّوْن القصةَ بأسلوبهم المفضَّل، واجعلِ الخمسين الآخَرين يتلقَّوْن القصةَ بأسلوبهم غير المفضَّل.
-
(٤)
في اليوم التالي، اختبرْ تذكُّر الجميع للقصة. إذا كانت نظرية أساليب التعلم صحيحة؛ فالأشخاص الذين تلقَّوا القصة بأسلوبهم المفضل يجب أن يتذكروها على نحو أفضل.
على الرغم من ذلك إذا بحثتَ عن «أساليب التعلُّم» على الإنترنت، فلن تجد نعيًا أكاديميًّا لهذه الفكرة المثيرة التي اتضح أنها خاطئة، بل ستجد تقريبًا مليونَيْ نتيجة، وستجد تقريبًا ألفَيْ كتاب على موقع أمازون، وستجد المصطلح مذكورًا في مناهج آلاف الدورات في الكليات، وستجد الكثير والكثير من المنتجات التي تَعِدُ بنتائج تعليمية محسنة بمجرد معرفة أساليب التعلُّم الخاصة بالطلبة … على الرغم من أن معرفة أسلوب تعلُّم الطفل تتطلَّب غالبًا شراءَ الكتاب الذي يريدون منك شراءَه، أو حضورَ الورشة التي يُقِيمونها.

يوجد عاملان كان من الممكن أن يحذِّرَا المعلِّمين من أن هذا الأسلوب المستخدم في تعليم القراءة مشكوكٌ في فعاليته؛ أولًا: اللغة المكتوبة هي نظام يعتمد على الصوت، وليست نظامًا يعتمد على المعنى. إن رؤية الحروف الثلاثة «ك، ل، ب» لا تخبرك بالمعنى؛ فالحروف تدل على «الأصوات». إذا كان هذا غير صحيح، فعندما أُرِيكَ كلمةً غير مألوفة — مثل «ميليستا» — لن تكون غيرَ واثقٍ فقط من معناها، بل أيضًا لن تكون لديك أية فكرة عن طريقة نطقها. نظرًا لأن الكتابة تعتمد على الصوت، فإن تعليمَ القراءةِ بطريقةٍ تتجاهل الصوت يبدو خطرًا.
ثانيًا: شجَّعَتِ النظريةُ على تعليم القراءة اعتمادًا على الطريقة التي يقرأ بها الكبار. من ناحية، يمكنك أن تدرك وجاهة المنطق القائل: إذا أردتَ أن تتعلَّم شيئًا، فابحثْ عن شخصٍ ماهر فيه، ثم حاوِلْ فِعْلَ ما يفعله. من ناحية أخرى، لا يوجد ضمان على أن ذلك الخبير فعل ذلك الأمر بهذه الطريقة عندما كان مبتدئًا. إن لاعب كرة السلة الخبير لم يَعُدْ يحتاج إلى التفكير في أساسيات التحكُّم بالكرة وحركة القدمين لأنه طالما مارَسَ ذلك على نحوٍ موسعٍ. يفكِّر الخبير في صنع الألعاب والاستراتيجية، لكن المبتدئ يحتاج إلى التفكير في الأساسيات. إن تقليد القارئ الخبير ليس بالضرورة استراتيجيةً جيدة للقراء المبتدئين.
الخياراتُ العلاجية محدودةٌ، والعلاجاتُ الأكثر موثوقيةً هي علاجاتٌ سلوكية. وتعتمد تلك العلاجاتُ على تعليم الطفل السلوكيات المناسبة في موقف معين، مثل التواصُل البصري والرد عندما يقول البائع: «شكرًا لك.» وإذا كان الطفل يَعْلم السلوكيات المناسبة لكنه لا يفعلها عادةً، فإن تركيزَ المعالجة يكون على زيادةِ معدلِ تكرارِ الطفل لهذه السلوكيات.
عندما تقرأ عن العلاجات غير التقليدية لاضطرابِ طيفِ التوحُّد، فإنك تشعر برغبة قوية في التفكير على النحو التالي: «أنا لستُ ساذجًا، أنا لن أصدِّق أمرًا ليس له دليل.» الآباء والمعلمون والمديرون الآخَرون ليسوا أغبياء أيضًا، وكما ذكرتُ، فإن العلاجات التي يعتقدون أنها سوف تنفع وراءَها بالفعل منطقٌ مؤكَّد. لقد كان أنصار طريقة اللغة الكاملة مُحِقِّين في انتقادِ كثيرٍ من كتب التعليم الصوتي لأنها مُمِلَّة، وفكرةُ اتباعِ طريقةٍ مستخدمة من قِبَل المزيد من القراء الخبراء تبدو مقبولةً ظاهريًّا. يمكن أن يشير مروِّجُو العلاجات غير المثبتة لاضطرابِ طيفِ التوحُّد إلى دراساتٍ علميةٍ مشهورة كدليلٍ يدعمهم، وقد تتطلَّب معرفةُ أن الدراسات فُسِّرَتْ على نحوٍ خاطئ بعضَ الحنكة العلمية. إن الفحص بتعمُّقٍ كافٍ لاكتشاف إساءة التفسير قد يكون أصعبَ ممَّا قد تتخيَّل.
(٣) لماذا الحل الواضح لا ينفع
افترِضْ أنك والدٌ تبحث عن دعمٍ تكميلي لطفلك المصاب بعسر القراءة، أو أنك معلِّم لديه فضولٌ عن خطة المنطقة التعليمية حول تطبيق برنامجِ رياضياتِ جديدٍ، أو أنك مديرٌ تعليميٌّ طلَبَ منه رئيسُ المنطقة التعليمية حضورَ ندوةٍ في عطلة نهاية الأسبوع حول بناء الفريق؛ في كل حالة من الحالات المذكورة تكون متأكدًا من أن البرنامج «يستند إلى أبحاثٍ».
إذا أردتَ أن تعرف هل أحد الأمور يستند حقًّا إلى أبحاث، فكيف تستطيع أن تعرف؟ حسنًا، مصطلح «مستنِد إلى أبحاث» يعني أن شخصًا ما أجرى بعضَ الدراسات العلمية الرسمية لمعرفةِ إنْ كان البرنامج — أو المعالجة، أو الأداة — يحقِّق بالفعل ما يزعم تحقيقه. أمثال هذه الأبحاث ستكون منشورةً في دوريات متخصِّصة مخصَّصة لهذا النوع من الأمور؛ ومن ثَمَّ فهذا هو المكان الذي يجب أن تبحث فيه عن الأمر. إن مجرد محاولةِ تحديدِ مكان الدراسات العلمية الخاصة بإحدى الممارسات قد تخبرك أن هذه الدراسات لم تُجْرَ من الأساس. هذا وحده أمرٌ مفيد، ومن دواعي السرور أن معرفة هل الدراسات أُجرِيت أم لا، أصبحت الآن سهلةً إلى حدٍّ بعيدٍ باستخدام الإنترنت. لديَّ المزيد لقوله عن هذا الأمر في الفصل السابع.
بَيْدَ أن معرفة هل الأبحاث الوثيقة الصلة موجودةٌ أم لا، ليست كافيةً عادةً. رأينا ذلك في حالة العلاج بالأكسجين العالي الضغط الخاص باضطرابِ طيفِ التوحُّد؛ إذ توجد أدلة حقيقية محل ثقة تؤكِّد وجودَ التهاب في أدمغة الأطفال المصابين باضطرابِ طيفِ التوحُّد، وأيضًا توجد أدلة حقيقة محل ثقة تؤكِّد أن الجلوبولين المناعي يمكنه تقليل الالتهاب، إلا أن فهم سبب احتمالية عدم نفع هذا العلاج يتطلَّب منك قدرًا قليلًا من المعرفة التفصيلية أفضل من الموجود لدى معظمنا. إنني بالكاد أدرك وجود آليات عديدة يمكن بسببها أن يلتهب نسيجُ الدماغ، لكنني أشكُّ فعلًا في أنني كنتُ سأفكِّر في التساؤل عن ذلك. كذلك لم أكن لأعرف أن الالتهاب ليس دائمًا أمرًا سيئًا؛ حيث اتضح أن الالتهاب في بعض الأحيان يمكن أن يكون علامةً على أن الدماغ يحاوِل إصلاحَ نفسه. أيضًا لم أكن على الأرجح لأفكِّر في احتمالية وجود عاملٍ آخَر — فَلْنُسَمِّه العاملَ «س» — يسبِّب الإصابةَ باضطرابِ طيفِ التوحُّد، ويسبِّب «أيضًا» الالتهابَ كنتيجةٍ ثانوية. إن علاج الالتهاب قد يكون شبيهًا بعلاج الحمى التي تنتابك عندما تكون مصابًا بالإنفلونزا، فعلاجُها لا يجعل الفيروس يختفي؛ لأن الحمى عَرَضٌ وليسَتْ سببًا.
يبدو تنفيذ هذا الأمر صعبًا بما يكفي، لكن المشكلة ما زالَتْ أصعبَ من ذلك بخطوة. ليس من السهل معرفة مقومات الدراسة «الجيدة»، فمن الواضح أنه توجد مبادئ توجِّه تصميمَ الأبحاث واستخدام الإحصائيات، ومن شأن التمرُّنِ على التفكير في هذه المبادئ أنْ يساعدك على نحوٍ مؤكد. إلا أن تقييم جودة البحث يتطلَّب أيضًا معرفةَ «المحتوى العلمي» الوثيق الصلة. يرجع السبب في ذلك إلى أن المحتويات تؤثِّر على تفسيرِ ما إذا كانت الدراسة أُجرِيت على نحوٍ جيد أم لا. إليكم مثالًا بسيطًا: لنفترِضْ أنك قرأتَ دراسةً عن تأثيرِ السيكريتين على سلوك الأطفال المصابين باضطرابِ طيفِ التوحُّد، واستخلصَتِ الدراسةُ أن السيكريتين لا يساعد هؤلاء الأطفال. ربما تلاحظ أن الدراسة لم تُجْرِ اختبارات على الأولاد والبنات على نحوٍ منفصلٍ، واعتبرَتْ كلَّ الأطفال المصابين باضطرابِ طيفِ التوحُّد مجموعةً كبيرة واحدة؛ فهل هذا يجعل الدراسة سيئةً؟ الجوابُ يعتمد على الظروف؛ فإذا كانت الأبحاثُ السابقة قد أظهرَتْ أن النوع متغير مهم في آلية عمل السيكريتين، فربما يعني هذا أن الدراسةَ سيئةٌ.
أو إذا كان يوجد سببٌ للتفكير في أن النوع عاملٌ مهم في اضطرابِ طيفِ التوحُّد — سواء أكان فيما يتعلَّق بمجموعةِ أعراضه أم فيما يخصُّ علاجَه — فيجب على الأرجح أن يُلقِي الباحثون نظرةً على تأثيرِ السيكريتين على الأولاد والبنات كلٌّ على حدة. يمكنك عادةً في أية دراسةٍ أن تختلق الكثيرَ من الفروق — استخدام اليد اليمنى أم اليد اليسرى، في أي وقتٍ من اليوم أُجرِيت التجربة، الأدوية الأخرى المتناوَلة، الحمية، العلامات الوراثية — التي «من المحتمل» أن تُحدِث اختلافًا. وإذا علمنا أن أحد العوامل كان مهمًّا في إحدى الدراسات السابقة وتجاهَلَه الباحثُ، فهذا مأخذ مشروع يُؤخَذ عليه.
أو افترِضْ أن نتائج الدراسة بَدَتْ متعارضةً على نحوٍ مباشِر مع نتائج دراسات سابقة. يجب على المؤلف على الأقل أن يناقش الأسبابَ المحتملة لهذا التعارُض، إنْ لم يتناول الموضوعَ في دراسة جديدة. أو افترِضْ أنَّ الدراسات السابقة أظهرَتْ أن الطريقة الإحصائية التي يمكن أن يستخدمها المرء عادةً في موقف معين لا تنفع في هذه القضية المتخصصة. دائمًا ما تعتمد الأساليبُ الإحصائية على افتراضاتٍ حول البيانات، وَلْنَقُلْ إنه معروفٌ أنَّ افتراضًا مهمًّا من تلك الافتراضات لا ينطبق على اختبارِ قراءةٍ معينٍ، إذا كان الأطفال تحت عمر الثانية عشرة قد خضعوا للاختبار مقيَّدِين بمدة زمنية محدودة. من الصعب أن تكون قارئَ مقالاتٍ علمية ذكيًّا إذا لم تكن بالفعل متبحِّرًا إلى حدٍّ بعيد في المحتوى.
كلُّ التفاصيل التي أسردُها هنا تهدف ببساطةٍ إلى التأكيد على ما يلي: (١) قول «مدعوم بالأبحاث» يجب أن يعني أن البحث أُجرِي بالطريقة الصحيحة. و(٢) أن معرفة هل البحث أُجرِي بالطريقة الصحيحة ليس بالأمر الهيِّن. هذا لا يعني أن الباحثين المحترفين فقط هم مَن يستطيعون تقييمَ الجودة العلمية؛ فلقد قابلتُ أشخاصًا أصبحوا خبراءَ في موضوعات كثيرة وكانوا مجرد متابِعِي أبحاثٍ مثقفين، إلا أنهم استغرقوا وقتًا طويلًا للوصول لهذا المستوى. إن الخبرة في الأبحاث تشبه بالضبط أيَّ نوعٍ آخَر من الخبرات؛ إذ يتطلَّب اكتسابُها الكثيرَ من العمل الجاد والممارسة، ومعظمُ الأشخاص الذين لديهم أُسَرٌ ووظائفُ وغيرهما من المسئوليات لا يستطيعون بذْلَ هذا القدر من الوقت. هل توجد طريقةٌ لتقييم الأبحاث لا تتطلَّب أن يصبح المرءُ خبيرًا؟
الأهمية | فورد توروس | بورش ٩١١ | دودج رام بيك أب | |
---|---|---|---|---|
الإجمالي (الإعجاب) | ١٣٫٨٩ | ١٩٫١٠ | ١٥٫٨ | |
ارتفاع السقف | ٠٫٢ | ٧ | ٢ | ٨ |
نظام الصوت | ٠٫٤ | ٥ | ٩ | ٤ |
الموثوقية | ٠٫٨ | ٦ | ٦ | ٥ |
كفاءة استهلاك الوقود | ٠٫٥ | ٦ | ٣ | ٢ |
مساحة صندوق السيارة | ٠٫٢ | ٥ | ١ | ١٠ |
الاحتكاك على الجليد | ٠٫٣ | ٣ | ٢ | ٨ |
التصميم | ٠٫٨ | ٢ | ١٠ | ٤ |
الآن وقد صرتَ تَعْلَم مدى إعجابك بكل سيارة، فإنك تحتاج إلى أن تضيف التكلفة إلى اعتباراتك. في الخطوة الثالثة، سوف تبحث عن تكاليف صيانةِ كلِّ سيارة، بالإضافة إلى الإهلاك. في الخطوة الرابعة، سوف تزور وكالةَ بيعِ كلِّ سيارة وتتفاوض على سعرِ كلِّ طراز معروض للبيع. في الخطوة الخامسة، سوف تكرِّر الخطوات من الأولى حتى الرابعة مع السيارات المستعمَلة. في الخطوة السادسة، سوف تجمع كلَّ المعلومات المتعلِّقة بالإعجاب بالسيارة والتكلفة لاختيار أفضل سيارة.
من الواضح أن لا أحد يختار سيارةً بهذه الطريقة؛ إنها طريقة مستنزفة للوقت على نحوٍ بالغٍ. إننا نواجه الكثير من المهام ذات الخواص المشابهة، وتوجد طريقةٌ لإنجاز المهمة قد تكون هي الأفضل، لكننا نفتقر إلى الوقت أو المعرفة لإنجازِ المهمة بتلك الطريقة، فماذا نفعل بدلًا منها؟ إننا نستخدم طريقةً غيرَ مثالية تُسمَّى «الحدس التجريبي». الطريقة التجريبية هي طريق مختصر؛ إنها ليست «أفضل» طريقةٍ لفعل أحد الأمور، لكنها تؤدِّي إلى حلٍّ يكون جيدًا جدًّا عادةً، وتمتاز بفائدة كبيرة تتمثَّل في العملية؛ إذ إنها سهلة الحساب. عندما اشتريتُ سيارةً مؤخرًا، كانت طريقتي «الحدسية التجريبية» كالتالي: «اشتَرِ أولَ سيارة تجدها موثوقًا فيها إلى حدٍّ بعيد، ولديها أربعة أبواب، وصندوق كبير، ومساحةٌ لوضْعِ مقعدَيْ سيارة في الخلف، وتكلِّف أقل من ١٨ ألف دولار أمريكي.» ربما لا ينتهي بي المطاف إلى شراء أفضل سيارة، لكن عندما أعطي الأولويةَ للسمات التي أعلم أنني أهتمُّ لأمرها كثيرًا، فعلى على الأرجح سوف أكون راضيًا، فضلًا عن أنني جعلتُ المشكلةَ من السهل التعامُل معها.
تقييمُ البحث يشبه شراءَ السيارة؛ يوجد حلٌّ مثالي للمشكلة، وهذا الحل يتمثَّل في قراءةِ واستيعابِ كلِّ الأبحاث الوثيقة الصلة، لكن معظمنا لا يمتلك الوقتَ لتنفيذِ ذلك الحل المثالي. تقول المقولة الافتتاحية لهذا الفصل: «قبل الوصول إلى اليقين، علينا أن نقنع غالبًا بتخمينٍ معقولٍ إلى حدٍّ ما.» بالفعل عندما يكون اليقينُ غيرَ متوافر، يكون التخمينُ المعقول هو أفضلَ ما نفعله، فما نحتاج إليه هو طريقٌ مختصرٌ جيد.
(٤) حل الطريق المختصر
- أولًا: «نحتاج إلى فهم أنواع الأمور التي يجدها الناس مُقْنِعةً.» قلتُ بالفعل إن الأشخاص الذين يجرِّبون علاجات تعليمية تبدو غريبة — مثل: أولئك الذين يضعون أطفالَهم في حاويات الأكسجين العالي الضغط، أو الذين يعتقدون أن الأطفال سوف يتعلَّمون القراءةَ من خلال تذكُّرِ كيف يبدو شكل الكلمات — ليسوا مجانين ولا أغبياء؛ لقد كان هؤلاء الناس مُدْرِكين أن المخاطر كبيرةٌ عندما اتخذوا تلك القرارات، وأنا مستعِدٌّ إلى حدٍّ بعيد أن أصدِّق أنهم اتخذوا تلك القرارات من منطلق تفكيرٍ مدروس. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان الناس مقتنعين بأن أحد التدخُّلات التعليمية مدعومٌ علميًّا، في حين أنه كان من الضروري ألَّا يقتنعوا بذلك. ما الذي يؤثِّر على قرارِ التصديق أو عدم التصديق؟ في الفصل الأول، سوف ألخِّص أبحاثًا أُجرِيت على مدار ما يقرب من خمسين سنة حول هذا الموضوع، وسوف نرى كيف أن العقل مزوَّد سابقًا في واقع الأمر بطرق مختصرة؛ فهناك سمات معينة للرسائل يفسِّرها العقل على أنها إشاراتٌ دالة على الحقيقة؛ على سبيل المثال: تُعتبَر الرسائل الطويلة أكثر مصداقيةً من الرسائل القصيرة. ربما لا تكون مُدرِكًا لسمات الرسائل التي يركِّز عليها عقلُك، لكنَّ موظفِي المبيعات والسياسيين ومَن يستغلون الناس لتحقيقِ مآربهم في حنكةٍ يدركون ذلك. حان الوقت لتعرف تلك السمات أنت أيضًا، وسوف أصف هذه السمات في الفصل الأول.
- ثانيًا: «نحتاج إلى فهم كيف يفكِّر العوام — غير العلماء — في الأدلة العلمية.» تُظهِر الاستقصاءات أن العلماء محلُّ ثقةٍ أكثر من غيرهم من الأشخاص في أية مهنة أخرى، فالناس يعتقدون أن الأبحاث العلمية هي أكثر أنواع الأدلة موثوقيةً. لماذا؟ لماذا هذه الثقة الضمنية في العلم؟ بدأَتْ هذه القصةُ في أوروبا القرن السادس عشر، في زمانٍ ومكانٍ كانت فيهما ملاحظةُ العالم — حَجَر الأساس في العلم — تُعتبَر «أقلَّ» أنواعِ الأدلة إقناعًا. كانت المرجعيةُ هي أكثرَ أنواعِ الأدلة إقناعًا؛ فإذا قال الكتاب المقدس (أو المفكِّرون القدماء لا سيما أرسطو) أمرًا ما، فلا بد أن يكون صحيحًا. شهدَتِ السنواتُ المائة التالية تحوُّلًا كاملًا عن هذا التوجُّه، وأصبحَتِ الملاحظةُ — لا سيما الملاحظة المحكومة مثل الموجودة في التجارب — تحظى بأعلى مراتب التقدير. كان التغيُّر في تقدير الأدلة راجعًا في الأساس إلى النجاح الهائل لهذه الطريقة في تفسير العالَم وتحسين ظروف البشر. لقد جاء العلم ليؤثِّر في كل جانب تقريبًا من جوانب شئون البشر — ويحسِّنه عادةً — وهذا يعني أن المظهر البسيط المتمثِّل في الأدلة العلمية يمثِّل عاملَ إقناعٍ مهمًّا. هذا النوعُ من الأدلة قويٌّ للغاية، حتى إنه في مجالات أخرى (مثل الطب والهندسة) لدينا مؤسسات قوية تراقِب وتتحكَّم في استخدامه، فمن غير القانوني أن تقول إن أحد الأدوية اختُبِر علميًّا في حين أنه ليس كذلك. أما التعليمُ فليس لديه مثل هذه القيود؛ فأيُّ شخصٍ يستطيع أن يقول إن أحد الحلول التعليمية «مستنِدٌ إلى أبحاث»، ولهذا السبب يكرِّر موظَّفُو المبيعات هذه الجملةَ مثل الببغاوات؛ وهذا هو السبب الذي يجعل الطريقَ المختصر لتقييم الأبحاث مطلوبًا. في الفصل الثاني سوف نُلقِي نظرةً حول الكيفية التي وصل بها الموقفُ إلى هذه المرحلة.
- ثالثًا: «إذا كان لنا أن نجد طريقًا مختصرًا لتقييم الأبحاث، فإننا في حاجةٍ إلى فهم الطريق الذي سوف نختصره.» يهدف الطريق المختصر إلى توفيرِ مَمَرٍّ سهلٍ إلى الهدف الذي سنصل إليه إذا سلكنا الطريق الطويل. الهدف هو «العلم الجيد»؛ فكيف يبدو ذلك العلم الجيد؟ من المثير على نحوٍ كافٍ أنه اتضح أن توصيفَ العلم الجيد على القدر نفسه من صعوبةِ توصيفِ المواد الإباحية، لكننا لا نستطيع أن نُرضِي أنفسنا بأن نحذو حذْوَ بوتر ستيوارد قاضي المحكمة العليا الأمريكية عندما قال جملته الشهيرة في توصيف المواد الإباحية: «أعرفها عندما أراها.» فلا نستطيع توصيفَ العلم الجيد على هذا النحو. في الفصل الثالث سوف أتناول سبعةَ مبادئ يتفق معظمُ الخبراء على كونها أساسيات علمية.
في الفصل الثالث سوف أتحدَّث عن كيف يبدو العلم الجيد، لكنني لن أصف كيفيةَ استخدامه. إن كيفيةَ استخدام العلم الجيد هي موضوع الفصل الرابع الذي يصف الفرق بين العلوم الأساسية (مثل: الكيمياء، والأحياء، وعلم النفس) وبين مجالاتٍ مثل التعليم الذي «يستخدم» الاكتشافات التي توفِّرها العلومُ الأساسية؛ على سبيل المثال: إذا اكتشف متخصِّصو علم النفس حقيقةً جديدةً عن طريقة تفكير الأطفال، فهل تلك الفكرةُ الجديدة جاهزةٌ لاستخدامها في الفصل الدراسي؟ سأوضِّح طريقتين لاستخدام الاكتشافات العلمية في التعليم؛ الطريقة الأولى باهظة التكلفة وتتطلَّب دقةً بالغةً، لكنها تحقِّق معرفةً موثوقًا فيها إلى حد بعيد، أما الطريقة الثانية فغير مكلِّفة، وتتطلَّب دقةً بالغةً أيضًا عند تطبيقها على نحوٍ جيد، لكن من السهل أيضًا تطبيقها على نحوٍ غير متقن. إنها تقدِّم معرفةً عن الممارسة التعليمية يجب أن تُعتبَر غير قاطعة. وكما سأوضِّح، فإن الطريقة الصعبة الباهظة نادرةٌ في التعليم الأمريكي، بينما الطريقةُ الرخيصة غير المتقنة هي الشائعةُ. إن جزءًا من الطريق المختصر يكمن في إدراك هذا الفرق.
في الجزء الأول، سأبيِّن أن الناس يقتنعون بحجج ضعيفة (الفصل الأول) لا سيما تلك الحجج التي تبدو علمية (الفصل الثاني). لسوء الحظ، الناسُ غير قادرين على التمييز بين العلم الجيد والعلم السيئ (الفصل الثالث)، ولديهم التباسٌ عادةً حول كيفية استخدام المكتشفات العلمية في حلِّ مشكلات التعليم (الفصل الرابع). يقدِّم الجزءُ الثاني الطريقَ المختصر؛ إذ يتكوَّن من أربع عمليات تُطبَّق على البرنامج التعليمي المرشَّح، وهذه العمليات هي: تجريد الزعم، وقلب الزعم، وتتبُّع الزعم، وتحليل الزعم، وفي الخطوة الرابعة ستتخذ قرارًا بشأن هل ستطبق الزعم أم لا.
«تجريد الزعم» يعني الكشف عن الزعم، خاليًا من اللغة العاطفية والزخارف الأخرى التي يستخدمها الناسُ لإخفاء الزعم العلمي الفعلي. إن فحصَ الزعم في أبسط صوره يمكن أن يوضِّح لك الكثيرَ من المشكلات؛ كأنْ يكون الزعمُ حقيقيًّا لكنه مجرد أمرٍ بديهي، أو أنْ تكون النتيجة المزعومة غامضةً، أو ألَّا يكون ثمة أحدٌ يحدِّد الرابطَ بين المفترض منك فعله والمفترض تَحَسُّنه. يتناول «قلب الزعم» طريقةَ تأثُّر النتائج الموعودة بالوصف المقدَّم؛ على سبيل المثال: إن قول إن لحم الخنزير «خالٍ من الدهون بنسبة ٩٠ في المائة!» يبدو مختلفًا إلى حد بعيد عن القول إنه: «يحتوي على دهونٍ بنسبة ١٠ في المائة!» سوف نفحص الطرقَ المختلفة التي يجرِّبها الناس لجعل المنتجات التعليمية تبدو جيدة، والكيفية التي يمكنك بها رؤية ما وراء تلك المزاعم.
«تتبُّع الزعم» لا ينطبق على البرنامج التعليمي بل على مُبتكِره. معظمنا يستخدم هذه الخطوة بالفعل، وفي حقيقة الأمر، يفرط في استخدامها. إن المقصود بها الانتباه إلى مؤهلات ودوافع الشخص الذي يحاول إقناعنا. إننا نقتنع إلى أقصى درجة بالأشخاص الذين يتمتعون بالمعرفة وعدم التحيُّز؛ لكنْ لسوء الحظ، من الصعب الحكم على الشخص بأنه يتمتَّع بالمعرفة حول موضوعٍ ما، إذا لم نكن نحن نمتلك بعض الخبرة؛ ولذلك فإننا نميل إلى الاعتماد على الشهادات؛ فنحن نصدِّق الأطباءَ عندما يتحدَّثون عن الطب، والكهربائيين عندما يتحدَّثون عن صندوق الصمامات الكهربية. بطبيعة الحال، يمكن أن تكون الشهاداتُ مزوَّرةً، لكنني سأقول إنه حتى في حالة كونها أصليةً، فالشهاداتُ ليست دليلًا موثوقًا فيه على المصداقية في مجال التعليم. في الحقيقة، إن هذه العلامة المميزة الأكثر شيوعًا في الاستخدام للمصداقية هي «أقل» العلامات نفعًا.
«تحليل الزعم» هو الخطوة الثالثة في الطريق المختصر؛ ويعني التفكيرَ في السبب الذي يدعوك إلى تصديقِ أحدِ الأمور. سوف نتناول موضوعين أَلَا وهما: كيف تستخدم (وكيف لا تستخدم) خبرتَك الخاصة، بالإضافة إلى طُرُقٍ بسيطةٍ لتقييم الأبحاث. سأوضِّح أن خبرتك مهمة بالفعل؛ فإذا كانت المزاعمُ المتعلقة بالمنتج التعليمي تتعارض مع ما تعرف أنه حقيقي، ففي هذه الحالة توجد مشكلةٌ ما. في الوقت نفسه، إن خبرتك ليست دليلًا لا يخطئ، ولو كانت كذلك، لَمَا كانت توجد حاجةٌ للبحث العلمي. إذن بمجرد الاتفاق على أن المعتقدات السابقة مهمة لكنها ليست قاطعة، فإننا نحتاج إلى تحديد الظروف التي في ظلها تكون جديرةً بالثقة، وتحديد متى يكون من المحتمل أن تضلك. «تحليل الزعم» يعني أيضًا تطبيقَ بعض التعليمات البسيطة لتقييم مزاعم البحث. الهدفُ من الطريق المختصر هو إنقاذُك من الحاجة إلى تقييم البحث؛ ومن ثَمَّ فإننا لن نطبِّق أساليبَ شديدةَ التخصص في هذا الصدد. إلا أنه يوجد بعض القواعد العامة المجرَّبة اللازم تطبيقها.
بعد تقييم الجدارة العلمية لفكرةٍ ما، تحتاج إلى أن تقرِّر هل يلزم تطبيقها أم لا. على الرغم من أنني أؤيِّد سلوكَ إحدى الطرق المختصرة في هذا الصدد، فإنني لا أناصِر التسرُّعَ في اتخاذ القرار. لا أقول إن المرء يجب ألَّا يتبنَّى مطلقًا أحدَ البرامج التعليمية التي تفتقر إلى السند العملي؛ فكما سنرى، معظمُ تلك البرامج يفتقر إلى ذلك السند. ما أدافِع عنه هو تبنِّي أحد البرامج فقط عندما يكون في متناولك كل المعلومات المتعلقة به. والخطوة الأخيرة تتمثَّل في تجميعِ كلِّ ما تعرفه في مكانٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ كي تتمكَّن من التفكير فيه.
•••
سيكون هذا الكتاب مفيدًا بصفة خاصة في موقفين؛ في الموقف الأول: يتخذ شخصٌ آخَر القرار، وتتأثَّر أنت به، كأنْ يتخذ رئيسُ المنطقة التعليمية قرارًا بتبنِّي أحد برامج القراءة، وتكون أنت معلِّمًا يجب أن يطبِّق هذا البرنامج، أو والدًا لأحدِ أطفالِ هذه المنطقة التعليمية، أو ربما تكون مديرًا في المنطقة التعليمية قِيلَ له للتوِّ أنْ يبلِّغ أولياء الأمور هذا الخبرَ في اجتماعِ رابطةِ الآباء والمعلمين القادم؛ في كلِّ حالةٍ من هذه الحالات يوجد شخصٌ آخَر قرَّرَ أن أحد البرامج التعليمية فكرةٌ جيدة. يمكن أن يدلَّكَ هذا الكتابُ على الأسئلة التي قد تطرحها على صانع القرار. يُجِيب صنَّاعُ القرار غالبًا على أيِّ سؤالٍ قائلين: «كل الأبحاث تؤيده.» أو «هذا البرنامج صمَّمَه الأستاذ فلان من جامعة [اكتب هنا اسم جامعة مرموقة].» سوف يُرِيك هذا الكتابُ لماذا هذه الإجابات غير كافية، وسوف يقدِّم لك أسئلةً أفضلَ لتطرحها.
في الموقف الثاني: تكون أنت نفسك صانع القرار؛ كأنْ تكون والدًا يبحث عن خدمات تعليمية مكملة لطفلك الذي يعاني من صعوباتٍ في مادة الرياضيات، أو تكون معلِّمًا طُلِب منه ترشيح أحد منتجات البرمجيات الخاصة بالألواح البيضاء التفاعلية لتطبيقها على نطاق المدرسة ككلٍّ، أو تكون مديرًا يفكِّر فيما لو كان من المفيد تخصيص نصفِ يومِ عملٍ لأحد المدرسين من أجل تطبيق برنامجٍ عن التنمُّر رشَّحَه مديرٌ في مدرسة أخرى، أو ربما أنت عضو في مجلس إحدى المدارس في منطقتك وتتساءل حول إنْ كان من المُجْدِي إرسال كل مديري المدارس في منطقتك التعليمية إلى مؤتمرٍ على مستوى الدولة. في كل حالةٍ من هذه الحالات، يوجد منتج مطروح للبيع، وأنت تتساءل عن قيمته التعليمية. سوف يساعدك هذا الكتاب على معرفة الأسئلة اللازم طرحها، وكيف يبدو الجواب الجيد.
لن يحوِّلك هذا الكتاب إلى خبير في الأبحاث. في الحقيقة، الهدف من هذا الكتاب هو التخلص من الحاجة إلى الخبرة، والطريقةُ التي أقدِّمها ليست مثاليةً، شأنها شأن كلِّ الطرق الحدسية التجريبية؛ فمن المحتمل أن تطبِّق هذه الطرق وتتوصَّل بالرغم من ذلك إلى الاستنتاج الخاطئ.
إلا أنني أستطيع أن أَعِدَكَ بما يلي: مهما كان مستواك الحالي في المهارة البحثية، فإن هذا الكتاب سوف يساعدك على طرح أسئلةٍ أفضل متعلِّقة بالأساس البحثي القائم عليه أحد المنتجات، وسوف يساعدك في التفكير بدقةٍ في الحكمة من شراءِ واستخدامِ أحد المنتجات في فصلك، أو في منطقتك التعليمية، أو في منزلك.