مقدمة

ماذا تصدِّق؟

قبل الوصول إلى اليقين، علينا أنْ نَقْنَع غالبًا بتخمينٍ معقولٍ إلى حدٍّ ما.

جورج بوليا1

***

جرِّبْ هذا في بعض الأحيان: اسألْ أحد الأصدقاء: «لماذا تصدِّق ما تصدِّقه؟ ما الأدلة التي تُقنِعك بأنَّ أحد الأشخاص على صوابٍ أو أن أحد المنتجات جيد حقًّا؟» نادرًا ما يثير هذا السؤال إجابةً متأنية ومدروسة، بل يثير عادةً الصمتَ ويجعل الصديقَ يضيِّق عينَيْه متشكِّكًا. يعتقد معظم الأشخاص أن معتقداتهم تتشكَّل بواسطةِ المنطق والعقل، ومن المحتمل أن يجد صديقك قدرًا من الإهانة في السؤال.

إلا أن معتقداتنا تغذِّيها أمورٌ أكثر من المنطق والحقائق؛ فمن الصحيح أننا نقتنع بالأدلة الدامغة المجمعة في صورِ حججٍ تتفق مع مبادئ المنطق، إلا أن هذا تنطبق صحته فقط على الرسائل التي نفحصها، ونحن لا نمتلك وقتًا للتدقيق في كل الإعلانات التي نسمعها ومنشورات المدونات التي نقرؤها. إن المعلومات تنهال علينا بصفة مستمرة تقريبًا. فكِّرْ فحسب في التواجُد الدائم للشاشات في كل مكان؛ عند بوابات المطار، في المطاعم، في قاعات الانتظار، في مكتب البريد، حتى في مصاعد الفنادق. إذا كان المكان يحتوي على جمهورٍ بشريٍّ مضطر للمشاهدة، فمن المحتمل أن توجد شاشةٌ، وتحديثاتٌ سريعة للأخبار من أفغانستان، أو تغطيةٌ لإحدى بطولات الجولف، أو إعلانٌ لدواء كلاريتين. كثيرٌ من هذه المعلومات غيرُ حيادي، والمقصود منه إقناعك بأمرٍ ما. وعلى الرغم من ذلك، فإننا لا نمتلك الوقتَ أو الطاقةَ الذهنية للتفكير مليًّا في كل رسالةٍ تأتي في طريقنا.

هل نتأثَّر بالرسائل التي نتجاهلها؟ كنت أقف في الطابور في البنك ورأيتُ تليفزيونًا كبيرًا خلف الصراف، يعرض قناةً خاصة بالبنك؛ عُرِضَ إعلانٌ عن سيارة سيدان تسير على أحد الطرق الريفية في نيو إنجلاند مبعثِرةً أوراق الخريف، فدخلتُ في حالةٍ من التخيل الجميل وفكَّرْتُ في جبال بيركشير. لم ألحظ واعيًا اسمَ الشركة المصنِّعة للسيارة … لكنْ هل تأثَّرْتُ على الرغم من ذلك؟ عندما أحتاج بعد ذلك إلى سيارةٍ، حتى لو كان هذا بعد أربع سنوات من وقتنا الحالي، فسيكون من المرجح أن أشتري هذا النموذجَ لأنني تعرَّضْتُ لهذا الإعلان. هل سيكون من المرجح أن أتقدَّم للحصول على قرضِ سيارةٍ من هذا البنك بدلًا من البحث ومقارَنة الأسعار لمعرفة السعر الأفضل؟ «هل من الممكن أن تتغيَّر توجُّهاتي دون أن أكون واعيًا لذلك؟» على الرغم من أن تأمُّل هذا السؤال يُشعِرنا بالانزعاج، فقد أوضحَتِ الأبحاثُ النفسية على مدار الخمسين سنةً الماضية أن الجواب هو نعم.

في بعض الأحيان أنتبه، بالطبع، إلى هذه الرسائل، ولا أثق كليًّا فيما أسمع؛ فعلى سبيل المثال: عندما أقرأ مجلةَ «ماذر جونز» أو مجلة «ويكلي ستاندرد»، أكون مُدرِكًا أن كلًّا منهما لديها وجهةُ نظرٍ سياسية، وأحاوِل أن أتذكَّر أنه من المحتمل حدوث حذفٍ للمعلومات أو لَيٍّ لأعناقِ الحقائق كي تتَّفِق مع وجهة نظر المجلة. عندما أسمع خطابًا للرئيس الإيراني، أتذكَّر أنه أنكَرَ حدوثَ محرقةِ الهولوكوست؛ ومن ثَمَّ فأنا أتوخَّى الحذرَ تجاه أي مزاعم يقولها. «عندما أستمع بعنايةٍ إلى الرسائل، هل أكون قادرًا على تبرير تحيُّزِ المصدر أو مصداقيته؟» إلى حدٍّ ما الجواب هو نعم، لكنْ ليس على نحوٍ كاملٍ.

إنني أجعل الأمرَ يبدو كأننا جميعًا نعاني — بل أسوأ؛ نُستغَلُّ على نحوٍ منهجي — بشكلٍ متكرِّر من قِبَل قوًى خارجةٍ عن نطاق إدراكنا، أو خارجةٍ عن نطاق سيطرتنا في حالة إدراكنا لها. إن التعبير عن الأمر بهذه الطريقة يبدو مُبالَغًا فيه مبالغةً ما، لكنه ليس ببعيد عن الحقيقة.

سوف يخبرك هذا الكتاب كيف تُقَيِّم الأفكارَ الجديدة — وبصفة خاصة تلك المتعلِّقة بالتعليم — كي يقلَّ احتمالُ اقتناعك بالأدلة السيئة.

(١) النسبة الذهبية

الحذر يَقِي من النوائب. الخطوة الأولى في الدفاع عن نفسك ضد المُقْنِعين الخفيين تتمثَّل في التعرُّف على هؤلاء. سأبدأ بمثالٍ ربما يُعتبَر أغرب الأمثلة: إن «الشكل» نفسه الذي يحمل لك المعلومةَ يؤثِّر على ما إذا كنتَ ستصدِّق المعلومة أم لا. هذه القصة معقَّدة بعض التعقيد، على الرغم من أن القاعدة الرياضية المعتمدة عليها بسيطة نسبيًّا.

أنا وأنت لدينا رقم مشترك، رقم يؤثِّر على ما نعتبره جميلًا ويستحق انتباهنا المستمر، هذا الرقم هو: ١٫٦١٨ (في الواقع، الرقم هو: ١٫٦١٨٠٣٣٩٨٨٧، لكنني سوف أستخدم النسخة المختصرة). إنه مهم ليس كرقمٍ لكن كنسبةٍ، وأبسطُ طريقة لفهم ذلك هي التفكير في المستطيل الموضَّح في الشكل ١.

نسبة طول الضلع «ب» إلى الضلع «أ» هي ١٫٦١٨، ويجد الأشخاصُ المستطيلاتِ التي تتبع هذه النسبة أكثرَ إمتاعًا من الناحية الجمالية عن المستطيلات الأخرى، فمثلًا إذا عُرِض على الأشخاص ثلاثون مستطيلًا من المستطيلات المختلفة النِّسَب، فإن معظم الناس سوف يختارون هذا المستطيل بصفته الأكثر جاذبيةً. ونظرًا لأهمية النسبة ١٫٦١٨ في علم الجمال فإنها تُسمَّى «النسبة الذهبية».

لاحَظَ الباحثون وجودَ هذه النسبة في العمارة الكلاسيكية؛ فعلى سبيل المثال: عرضُ وارتفاعُ واجهةِ معبد البارثينون في اليونان يلتزمان بالنسبة الذهبية. تُلاحَظ النسبة الذهبية أيضًا في الهرم الأكبر في الجيزة، فإذا رسم المرء مثلثًا كما هو موضَّح بالشكل ٢، فإن نسبةَ طولِ إحدى الواجهات إلى نصف طول القاعدة تكون في حدودِ واحدٍ في المائة من النسبة الذهبية.
fig1
شكل ١: مستطيل جوانبه متوافقة مع النسبة الذهبية.
fig2
شكل ٢: النسبة الذهبية راسخة ضمن نِسَب أعمال العمارة الكلاسيكية مثل معبد البارثينون (أو نسخته في ناشفيل بولاية تينيسي الموضحة هنا)، والهرم الأكبر في الجيزة.
fig3
شكل ٣: أعمال شهيرة من الفن الغربي تظهر النسبةُ الذهبية في أبعادها.
تُلاحَظ النسبة الذهبية أيضًا في أعمال فنية صغيرة الحجم، من بينها وضع الأشخاص في رسوم دافنشي، وأجزاء آلة الكمان لستراديفاريوس (انظر الشكل ٣).
لماذا هذه النسبة ممتعة جماليًّا في مختلف الثقافات وعبر القرون؟ إن ملاحظة هذه النسبة على نحوٍ شائعٍ في الطبيعة من الاحتمالات المنطقية التي تُجِي عن هذا السؤال. بالفعل توجد النسبة الذهبية في أبعاد الجسم البشري (انظر الشكل ٤)، وفي الوجه البشري، لا سيما الوجوه التي يجدها الآخَرون جذَّابةً.
fig4
شكل ٤: نِسَب أجزاء الجسم تُظهِر فيها أيضًا النسبة الذهبية. انظر النصَّ للوصف.
إذا اعتُبِرت المسافة بين السرَّة والقدم وحدة مقدارها ١، فإن طول الشخص يساوي عادةً ١٫٦١٨. من النِّسَب الذهبية الأخرى في جسم الشخص العادي ما يلي:
  • المسافة بين طرف الإصبع والمرفق/المسافة بين الرسغ والمرفق.

  • المسافة بين خط الكتف وأعلى الرأس/ارتفاع الرأس.

  • المسافة بين السرة وأعلى الرأس/المسافة بين خط الكتف وأعلى الرأس.

  • المسافة بين السرة والركبة/المسافة بين الركبة ونهاية القدم.

من الطبيعي وجود اختلافات بين الأفراد في هذه النِّسَب، لكننا نلاحظ النسبة الذهبية عند أخذ المتوسطات لعددٍ كبيرٍ من الأفراد، والأفراد أصحاب «النِّسَب المثالية» يعتبرهم الآخَرون أصحابَ أجسام متناسبة.

جدول ١: نسبة الأرقام المتجاورة في متتالية فيبوناتشي تقترب من النسبة الذهبية.
النسبة القيمة
٣ إلى ٢ ١٫٥٠٠٠
٨ إلى ٥ ١٫٦٠٠٠
٢١ إلى ١٣ ١٫٦١٥٤
٥٥ إلى ٣٤ ١٫٦١٧٦
١٤٤ إلى ٨٩ ١٫٦١٧٩
الأمر نفسه ينطبق على الوجوه، وهنا يسهل تقييم العلاقة بالجاذبية. إن الوجوه ليست جذَّابةً بسبب الشكل الجيد للعينين والفم فحسب؛ فلا بد أن تكون أبعادُ الوجه صحيحةً؛ فإذا كانت عينا الشخص شديدتَي القرب أو شديدتَي البُعْد، فلن يُعتبَر جذَّابًا، فالممثلةُ جيسيكا ألبا، تُعتبَر عادةً جذَّابة للغاية، ليس فقط لأنها تمتلك ابتسامة ساحرة وعينين جميلتين، لكنْ لأن المسافة بين ملامحها تطابِق النسبة الذهبية على نحوٍ مثالي (انظر الشكل ٥).
النسبة الذهبية ملحوظة في كل مكان في الطبيعة في صورة حلزون. لفهم طريقة ذلك تحتاج إلى فهمٍ مبدئيٍّ للقاعدة الرياضية التي تمثِّل أساسًا لها: أول مَن وصف النسبة الذهبية هو عالِمُ رياضيات من القرن الثاني عشر يُدعَى ليوناردو فيبوناتشي. ربما سمعت عن متتالية فيبوناتشي؛ أنْ أبدأ بالرقمين صفر وواحد، ثم أجمع آخِر رقمين في المتتالية للحصول على الرقم التالي على هذا النحو: ٠ + ١ = ١؛ ومن ثَمَّ فالمتتالية تبدأ على هذا النحو: ٠، ١، ١. للحصول على الرقم التالي أجمع آخِرَ رقمين في المتتالية حتى الآن؛ ومن ثَمَّ فإن ١ + ١ = ٢؛ إذن فالمتتالية الآن هي: ٠، ١، ١، ٢. واستمرارًا، تصبح المتتالية كالتالي: ٠، ١، ١، ٢، ٣، ٥، ٨، ١٣، ٢١، ٣٤، ٥٥، ٨٩، ١٤٤، وهكذا. إذا أخذتَ نسبةَ الأرقام المتعاقبة، فستقترب القِيَمُ من النسبة الذهبية (انظر الجدول ١).
fig5
شكل ٥: جيسيكا ألبا (أ) عادةً تُعتبَر واحدةً من أجمل النساء في هوليوود. تُظهِر هذه الصور بعضًا من النِّسَب الذهبية الملحوظة في تناسب ملامح الوجه البشري المثالي: (ب) المسافة بين حدقَتَي العين/المسافة بين الحاجبين، وأيضًا (ﺟ) عرض الفم/عرض الأنف، وكذلك (د) المسافة بين الشفتين وملتقى الحاجبين/طول الأنف.
الآن، افترِضْ أنني أرسم مربعاتٍ، لكلٍّ منها أضلاعٌ مرادفة للأرقام في متتالية فيبوناتشي (أيْ إنني أرسم مربعاتٍ أطوالُ أضلاعِها كالآتي: ١، ١، ٢، ٣، ٥، وهكذا). ويضاف كل مربع أرسمه إلى المربعات الأخرى بحيث تكوِّن مستطيلًا (انظر الشكل ٦). أستطيع تكوينَ قوسٍ من خلال ربط أركان المربعات المتقابلة.
هذا يُسمَّى قوس فيبوناتشي، ويُلاحَظ وجوده أيضًا في الطبيعة؛ فعلى سبيل المثال: يوجد في شكل صدف البحر مثل النوتي، وفي نسق بذور الزهور (مثل دوَّار الشمس والأُقحوان، كما هو موضَّح في الشكل ٧). ويُلاحَظ وجود الحلزونات في نباتات أخرى أيضًا، مثل القُنَّبِيط، وإنْ كان من الأسهل رؤيته في القُنَّبِيط الروماني (وهو نوعٌ هَجين بين القنبيط الأخضر والقنبيط الأبيض).
fig6
شكل ٦: قوس فيبوناتشي. انظر النصَّ للوصف.

توجد أيضًا متتاليات فيبوناتشي في ترتيب أوراق كثيرٍ من النباتات، وإنْ كان وجودها أصعبَ في الرصد.

على سبيل المثال: في نبات التين المَرِن الموضَّح في الشكل ٨، بدايةً من القمة لدينا ثلاث دورات في اتجاه عقارب الساعة قبل أن نقابل ورقة أخرى أسفل الأولى مباشَرةً، مرورًا بخمس ورقات في هذه الأثناء. وإذا درنا عكس عقارب الساعة، فسوف نحتاج إلى دورتين فقط. لاحِظْ أنَّ الأرقام ٢ و٣ و٥ هي أرقامٌ متعاقِبة في متتالية فيبوناتشي. إن نسبةَ الدورات إلى الأوراق ملحوظةٌ عادةً.

سيبدو تفسيرُ القِيَم الجمالية للنسبة الذهبية واضحًا؛ حيث إننا ننجذب طبيعيًّا إلى الأشياء التي تُظهِر النسبةَ الذهبية نظرًا لوجود هذه النسبة في كل أنحاء الطبيعة.

لكن ما علاقة النسبة الذهبية بالإقناع؟ ختم جون كيتس الشاعر البريطاني العظيم الذي عاش في القرن التاسع عشر «قصيدة الجرة الإغريقية» بهذه الكلمات: «الجمال هو الحقيقة، والحقيقة هي الجمال. هذا كل ما تعرفه على الأرض، وكل ما تحتاج إلى معرفته.» اتضح أن كيتس كان عالِمًا ممتازًا في علم النفس؛ فنحن نربط بين الجمال والحقيقة، وعندما نرى شيئًا جميلًا من الناحية المادية، فإننا نفترض امتلاكه صفات جميلة أخرى، بما فيها الصدق.

fig7
شكل ٧: أمثلة على أقواس فيبوناتشي ملحوظة في الطبيعة.
fig8
شكل ٨: تنمو أوراقُ كثيرٍ من النباتات على هيئةِ حلزونِ فيبوناتشي متمركزٍ على الساق.

في السميوطيقا (علم دراسة الرموز) يمكن أن نطلق على هذا اسمَ «علامة»؛ فمثلما يعني الأحمر «ساخن»، ويعني الأزرق «بارد»، فإن الجمال يعني «الحقيقة». بَيْدَ أن دلالة الأحمر والأزرق في الحرارة معتقدٌ ثقافي، ولا بد لكلٍّ منَّا تعلُّمه؛ أما الرابطُ بين الجمال والحقيقة فموجودٌ عبر الثقافات، ولا يحتاج إلى تعلُّمٍ. يبدو أنه جزء طبيعي من التكوين البشري.

fig9
شكل ٩: نسبةٌ عالية على نحوٍ مفاجئ من الكتب غير الأدبية تستخدم تنسيقاتِ صفحاتٍ متوافِقةً مع النسبة الذهبية، لكن الأمر يقتصر على تلك الكتب الهادفة إلى الإقناع.
يزيد احتمال تصديق الناس لمحتويات الكتاب أو المجلة إذا كانت أبعادُهما متوافِقةً مع النسبة الذهبية. كتبُ الأطفال قد تكون مربَّعةً، وكذلك قد تكون كتبُ الفن أو كتبُ الطهي، لكن حوالي ٩٥ في المائة من الكتب غير الأدبية التي تسعى إلى الإقناع تكون أبعادها في حدود ٢ في المائة من النسبة الذهبية (انظر الشكل ٩). أما عدد المجلات فيزيد عن ٩٠ في المائة.

تؤثِّر النسبةُ الذهبية بالفعل تأثيرًا قويًّا وغامضًا على نحوٍ قوي على الإقناع. أو من الممكن أن يكون لها هذا التأثير لولا مشكلة صغيرة؛ أَلَا وهي أن نظرية النسبة الذهبية هراءٌ.

إن بعض الإحصائيات التي اقتبستُها هنا هي مجرد أمور غير دقيقة بالمرة؛ لقد أُجرِيت دراساتٌ عُرِضَتْ فيها على أشخاصٍ (أشخاصٍ عاديين2 أو فنانين ومصمِّمين محترفين)3 مجموعةٌ كبيرة من المستطيلات، وطُلِب منهم أن يعثروا على المستطيل الأكثر جاذبيةً، لكن «ليس» صحيحًا أن الناس يختارون مستطيلات النسبة الذهبية. فحصَتْ دراسةٌ أخرى أبعادَ ٥٦٥ لوحة مستطيلة لفنانين مشهورين. لم يُظهِر الفنانون أيَّ ولعٍ بأحجام لوحات الكانفاه التي تحترم النسبة الذهبية، وكانت النسبة المتوسطة هي ١٫٣٤.4 وأظهرت الأشياءُ الطبيعية، مثل الجسم البشري والوجوه والصَّدف، تنوُّعاتٍ كثيرةً، ليس صحيحًا أن أكثرها جاذبيةً يُظهِر النسبةَ الذهبية.5 أما الإحصائيات المتعلِّقة بأبعاد الكتب والمجلات فهي اختلاقاتٌ تامة.
بعض ظواهر النسبة الذهبية دقيقٌ لكنه تافه؛ تافه لأنَّ الأمثلة التي توافِق النسبةَ الذهبية يجري التركيز عليها، بينما الأمثلةُ التي لا توافقها يجري تجاهُلها. لماذا ندرس أبعاد معبد البارثينون وليس البانثيون؟ لماذا هرم الجيزة وليس هرم خفرع؟ بالإضافة إلى ذلك، لماذا لا تنطبق هذه النسبة على الكولوسيوم الروماني، أو تاج محل، أو قصر الحمراء، أو برج إيفل؟ علاوةً على ذلك، فإن تكوينًا معقدًا مثل معبد البارثينون أو لوحة «العشاء الأخير» لديه الكثير من السمات القياسية، وهذا يجعل من السهل للغاية التقاط واختيار المقاييس التي تحقِّق النسبةَ المرغوب فيها.6
أعتذر عن بدء هذا الكتاب بضربةٍ مباغتةٍ (ربما أراد جزءٌ مني الصحبةَ في الشقاء؛ لقد صدَّقتُ تمامًا النسبةَ الذهبية عندما سمعتُ بها لأول مرة.) ليست النسبة الذهبية مثيرةً لأنها حقيقية، بل هي مثيرة لأن الفكرة عاشت واستمرت في جذْبِ مصدِّقين لها، على الرغم من أنه «من المعروف» أنها خاطئة. وبهذه الطريقة، فهي تجسِّد أحدَ الدروس العملية المستفادة من هذا الكتاب؛ إن معرفة ماذا تصدِّق تمثِّل مشكلةً.

(٢) المشكلة

يؤمن الناس بأمور كثيرة لا يوجد لها دليل علمي؛ فهم يؤمنون أن عملة معدنية معينة تجلب لهم الحظ، أو أن الكائنات الفضائية تزور الأرض بانتظام، أو أن تنبؤات المنجمين صادقة بحيث يستحيل عزوها إلى الصدفة. كثير من هذه المعتقدات، على الرغم من كونها غير مدعومة بالأدلة، غير ضارة. ربما تكلِّفنا القليلَ من الوقت أو المال، لكننا نجدها ممتعةً أو مثيرةً، ولا نتعامل معها بقدر كبير من الجدية على أية حال.

إلا أن المعتقدات غير المدعومة بالأدلة المرتبطة بالتعليم لها أهمية أكبر؛ فكلفتها من حيث الوقت والمال يمكن أن تكون هائلة، والأسوأ من ذلك أن المعتقدات الخاطئة المتعلقة بالتعليم من الممكن أن تكلِّف الأطفال تعليمهم. يمكن أن تمثِّل الأدوات العلمية مساعدةً حقيقيةً في تحديد الطرق والمواد التي تساعد الطلبة حقًّا في التعلُّم وتلك التي لا تفيد، فنحن لا نملك ترفَ السماح بأن تخضع الممارسة التعليمية لتوجيه الحدس أو الأمل في توفير المعلومات الأفضل. لكن على الرغم من تطبيق الأدوات العلمية بانتظام، فإن النتيجة غالبًا تخضع للتجاهل، أو يمكن أن يُحرفها الأشخاص المهتمون بالمال في المقام الأول.

لنتأمَّلْ بعضَ نظريات أساليب التعلُّم. تقول تلك النظريات إن الأشخاص المختلفين يمتلكون أساليبَ تعلُّم مختلفة، وإننا يمكننا تحديد أسلوبِ كلِّ شخص، وتكييف طريقة التعليم وفقًا لهذا الأسلوب، وجعل التعلُّم أسهل أو أكثر فعاليةً؛ على سبيل المثال: أشهر نظرية حول أساليب التعلُّم تقول إن بعض الأشخاص يتعلَّمون على نحوٍ أفضل من خلال رؤية الأشياء (أي إنهم متعلِّمون بصريون)، والبعض من خلال سماع الأشياء (متعلمون سمعيون)، وآخَرين من خلال تحريك الأشياء (متعلِّمون حركيون). هذه النظرية موجودة منذ خمسٍ وعشرين سنةً على الأقل، واختُبِرت في تجارب علمية. في الحقيقة، إن اختبار النظرية أمر سهل ومباشِر تمامًا.

  • (١)

    خُذْ مائة شخص وصنِّفْهم إما كمتعلمين بصريين وإما كمتعلمين سمعيين. (دعونا نستبعد المتعلمين الحركيين من أجل البساطة.)

  • (٢)

    أَعِدَّ أدواتٍ تعليميةً بصرية وسمعية متشابهة؛ على سبيل المثال: يمكن أن يستمع الأشخاص إلى قصةٍ (أسلوب سمعي)، أو يشاهدون عرضًا صامتًا يصوِّر القصةَ نفسها (أسلوب بصري).

  • (٣)

    اجعلْ خمسين شخصًا يتلقَّوْن القصةَ بأسلوبهم المفضَّل، واجعلِ الخمسين الآخَرين يتلقَّوْن القصةَ بأسلوبهم غير المفضَّل.

  • (٤)

    في اليوم التالي، اختبرْ تذكُّر الجميع للقصة. إذا كانت نظرية أساليب التعلم صحيحة؛ فالأشخاص الذين تلقَّوا القصة بأسلوبهم المفضل يجب أن يتذكروها على نحو أفضل.

أجريت مثل هذه التجارب، ولا يوجد دعم لفكرة أساليب التعلم.7 فلا يوجد دليل يدعم وجود متعلمين بصريين، أو سمعيين، أو حركيين، أو متعلمين خطيين أو شموليين، أو أي نوع آخر من المتعلمين الذين تصفهم نظريات أساليب التعلم.

على الرغم من ذلك إذا بحثتَ عن «أساليب التعلُّم» على الإنترنت، فلن تجد نعيًا أكاديميًّا لهذه الفكرة المثيرة التي اتضح أنها خاطئة، بل ستجد تقريبًا مليونَيْ نتيجة، وستجد تقريبًا ألفَيْ كتاب على موقع أمازون، وستجد المصطلح مذكورًا في مناهج آلاف الدورات في الكليات، وستجد الكثير والكثير من المنتجات التي تَعِدُ بنتائج تعليمية محسنة بمجرد معرفة أساليب التعلُّم الخاصة بالطلبة … على الرغم من أن معرفة أسلوب تعلُّم الطفل تتطلَّب غالبًا شراءَ الكتاب الذي يريدون منك شراءَه، أو حضورَ الورشة التي يُقِيمونها.

يبدو أن التكلفة الأساسية لأساليب التعلُّم هي الوقت والمال المُهْدَران، وبعض القلق من جانب المعلمين الذين يشعرون أنهم «ينبغي» أن يولُوا مزيدًا من الاهتمام لأساليب التعلم؛ إذ يبدو أن معظم المعلمين لا يستعينون بها كثيرًا. تكلفة المعتقدات الأخرى غير الدقيقة علميًّا كانت أفدحَ. تأمَّلْ هذا المثال: قبل عام ١٩٢٠ بَدَتْ طريقةُ تعليم الأطفال القراءة واضحة؛ إذ كنتَ تبدأ بتعليمهم الصوتَ المرتبط بكل حرف أو بكلِّ مجموعةِ حروفٍ (انظر الشكل ١٠).
في الربع الأول من القرن العشرين اشتُهِرَتْ نظريةٌ أخرى عن القراءة.8 في الأساس، ذهبَتْ تلك النظريةُ إلى ضرورة تعليم الأطفال القراءة بالطريقة التي يقرأ بها الكبار. يبدو أن الكبار يقرءون كلماتٍ كاملةً أو حتى جُمَلًا كاملة في الوقت نفسه. (إذا لاحظْتَ عيونَ شخصٍ يقرأ، فسترى أنه لا يتمعَّن في كل كلمة، بل يتوقَّف مرات قليلة أثناء مطالَعة كلِّ سطرٍ.) الكبارُ يقرءون في صمت، وهذه طريقة أسرع بكثير من القراءة الجهرية، وهم يقرءون ما يستهويهم؛ أما الأطفال، فعلى النقيض، فإنهم يتعلَّمون القراءة صوتًا صوتًا (ليس كلمات كاملة)، على نحو جَهْوَرِي (لا صامت)، ويتعلَّمون من كتبٍ تمهيدية مُمِلَّة (وليس من كتب ممتعة).
fig10
شكل ١٠: لسنوات عديدة كان الطلبة الذين يتعلمون القراءة يتعلمون أولًا الربط بين شكل الحروف والأصوات المرتبطة بها، كما في هذه الصورة المنسوخة من «الكتاب التمهيدي لنيو إنجلاند»، المنشور في حوالي ١٧٦٠.
وبحسب ما صار معروفًا بطريقة النظر والقول أو طريقة الكلمة الكاملة، شُجِّع الأطفال على تذكر الكلمات بأكملها. وقد استخدمت الكتبُ التي تعلِّم القراءةَ مجموعةً محدودة من الكلمات كي تجعل الحفظَ ممكنًا.9 شُجِّعَ الطلبةُ على تخمين الكلمة اعتمادًا على السياق المحيط والصور المحيطة إذا لم يتعرَّفوا على الكلمة، وأكَّدت هذه الطريقة أيضًا على أن أساليب التلقين الصوتي — حفظ الحروف والأصوات المرتبطة بها — مملةٌ، واستخدامها من المحتمل أن يجعل الأطفال يكرهون القراءة. أما طريقة قراءة الكلمة كاملة فاقترحَتْ إحاطةَ الأطفال بكتب حقيقية، وليس كتب التلقين، وأن تكون القصص قصصًا يستطيعون فهمها والتفاعل معها. أصبحت طريقة الكلمة الكاملة شائعةً في التعليم الأمريكي أثناء ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته.10

يوجد عاملان كان من الممكن أن يحذِّرَا المعلِّمين من أن هذا الأسلوب المستخدم في تعليم القراءة مشكوكٌ في فعاليته؛ أولًا: اللغة المكتوبة هي نظام يعتمد على الصوت، وليست نظامًا يعتمد على المعنى. إن رؤية الحروف الثلاثة «ك، ل، ب» لا تخبرك بالمعنى؛ فالحروف تدل على «الأصوات». إذا كان هذا غير صحيح، فعندما أُرِيكَ كلمةً غير مألوفة — مثل «ميليستا» — لن تكون غيرَ واثقٍ فقط من معناها، بل أيضًا لن تكون لديك أية فكرة عن طريقة نطقها. نظرًا لأن الكتابة تعتمد على الصوت، فإن تعليمَ القراءةِ بطريقةٍ تتجاهل الصوت يبدو خطرًا.

ثانيًا: شجَّعَتِ النظريةُ على تعليم القراءة اعتمادًا على الطريقة التي يقرأ بها الكبار. من ناحية، يمكنك أن تدرك وجاهة المنطق القائل: إذا أردتَ أن تتعلَّم شيئًا، فابحثْ عن شخصٍ ماهر فيه، ثم حاوِلْ فِعْلَ ما يفعله. من ناحية أخرى، لا يوجد ضمان على أن ذلك الخبير فعل ذلك الأمر بهذه الطريقة عندما كان مبتدئًا. إن لاعب كرة السلة الخبير لم يَعُدْ يحتاج إلى التفكير في أساسيات التحكُّم بالكرة وحركة القدمين لأنه طالما مارَسَ ذلك على نحوٍ موسعٍ. يفكِّر الخبير في صنع الألعاب والاستراتيجية، لكن المبتدئ يحتاج إلى التفكير في الأساسيات. إن تقليد القارئ الخبير ليس بالضرورة استراتيجيةً جيدة للقراء المبتدئين.

عام ١٩٥٥ نُشِر كتاب «لماذا لا يستطيع جوني القراءة»،11 وقد أوضح الكتاب أنه إذا حذف التعليم المباشِر للأصوات المرتبطة بالحروف، فإنه لا يوجد تعليم للقراءة. كان هذا الكتاب تقريعًا عدوانيًّا شديد اللهجة، وحقَّقَ أفضلَ المبيعات. وعلى الرغم من ذلك، حصل الكتابُ على نقدٍ سلبيٍّ من قِبَل كثيرٍ من المتخصصين في التعليم.12 وأوضح الأساتذة الذين درسوا القراءة أن هذا الكتاب معتمد على معلومات خاطئة، وأن المؤلف كان مخطئًا فحسب. على مدار السنوات العديدة التالية، اندلعَتْ مجادلاتٌ حول طريقة تعليم القراءة، وأُطلِق عليها لاحقًا اسم: «حروب القراءة».
عام ١٩٦١، بحثَتْ مؤسسةُ كارنيجي عن باحثٍ لفحص كل الدراسات العلمية والتوصُّل إلى جواب لهذا السؤال: هل التعليم المعتمِد على الصوتيات أفضل أم التعليم المعتمِد على قراءة الكلمة الكاملة؟ واختيرت جين شول، الأستاذة في كلية هارفرد للدراسات العليا في التعليم، لإجراء هذه المراجعة؛ وقد قالت في كتابها الصادر عام ١٩٦٧ إن البحثَ المَعْنِيَّ بهذا الموضوع أوضح أن الطريقة المعتمدة على الصوتيات كانت أفضل.13
يبدو هذا واضحًا على نحو كافٍ، أليس كذلك؟ لقد خرج التعليم عن مساره الصحيح لفترة وجيزة (حسنًا، لمدة ثلاثين عامًا أو ما يقرب من ذلك في واقع الأمر)، لكن العلم أنقَذَه. على هذا النحو من الممكن أن نتوقَّع أن الفترة التي أعقبت عام ١٩٦٧ تخلَّصَتْ تمامًا من طريقة الكلمة الكاملة في تعليم القراءة. حسنًا، سنكون مخطئين في هذا الصدد؛ لقد عادت إلى السطح الفكرةُ الأساسية وراء قراءة الكلمة الكاملة في منتصف ثمانينيات القرن العشرين.14 تغيَّرَ اسمُ الطريقة ليصبح «اللغة الكاملة»، وكانت طريقةُ ترويجها مألوفةً؛ إذ قالت إن التعليم المعتمد على الصوتيات يُضعِف الشغف وغير ضروري، وقالت إن تعلُّم القراءة طبيعي مثل تعلُّم الكلام؛ كل ما عليك هو إحاطة الأطفال بكتب حقيقية، وسوف يتعلمون القراءة بأنفسهم. وبدأت حروب القراءة مرةً أخرى. تبنَّى بعض المناطق التعليمية، بل ولايات كاملة أيضًا (أبرزها كاليفورنيا)، مناهجَ دراسيةً معتمدة على طريقة اللغة الكاملة في تعليم القراءة.
عام ١٩٩٧، طلب الكونجرس الأمريكي من وزارة التعليم تشكيلَ لجنةٍ من خبراء القراءة لتفقُّد الأبحاث العلمية المتعلِّقة بتعليم القراءة. تطابَقَت النتيجة التي خلصت إليها اللجنة، والتي نُشِرت عام ٢٠٠٠، مع النتيجة التي توصَّلَتْ إليها شول عام ١٩٦٧.15 إن التعليم الصوتي جزء محوري من عملية تعلُّم القراءة، وفي غيابه سيتعرَّف بعض الأطفال من تلقاء أنفسهم على الأصوات المتوافقة مع الحروف، ومجموعات الحروف، بَيْدَ أن البعض الآخر من الأطفال لن يتمكَّنوا من ذلك. وهؤلاء الأطفال سوف ينتهي بهم الحال إلى كره القراءة، وبعضهم سوف يُصنَّفون في نهاية المطاف كمصابين بعسر القراءة.
كانت المرحلة الأولى من حروب القراءة مفهومةً في ظل تلك الظروف، فقد كان لدى أحد الأشخاص نظريةٌ خاطئةُ التصوُّر متعلقة بتعليم القراءة، وبَدَتْ تلك النظرية جيدةً، فجرَّبَها الناس. لكن الأكثر صعوبةً إلى حدٍّ ما هو فهم لماذا استغرَقَ الأمر كلَّ هذه المدة الطويلة — حوالي ثلاثين سنة — كي تؤثِّر الأدلة العلمية على الرأي العام والسياسة العامة. وبالمثل من الصعب تصوُّر ظهور الخطأ نفسه مرةً أخرى بعد عشرين عامًا، مُسفِرًا عن المرحلة الثانية من حروب القراءة.
عند استخدام العلم في حل مشكلات التعليم على نحوٍ مفتقِرٍ للحذر أو على نحوٍ مخادع، فإن أسوأ الضرر يقع على الأرجح على الأطفال ذوي الإعاقات. (نظرًا لأني والدٌ لطفلٍ مصاب بمتلازمة إدوارد — المعروفة أيضًا باسم الصبغي ١٨ — فإن لدي تجربةً شخصية في هذا الصدد.) كثيرٌ من إعاقات النمو ليس له علاجات فعَّالة، وآباء وأمهات هؤلاء الأطفال مستعِدُّون للمخاطرة. إنهم مستعِدُّون، بل متحمِّسون، لتجربة أيِّ علاجاتٍ بديلة غير مثبتة؛ أيِّ شيءٍ «من الممكن» أن ينجح، أيِّ شيءٍ يحمل بعضَ الأمل. علاوةً على ذلك، يوجد الكثير من الأطفال المعاقين في هذا البلد؛ إذ تشير التقديرات إلى أن ١٣ في المائة من الأطفال لديهم بعضُ إعاقاتٍ، تتراوح ما بين إعاقاتِ الكلام البسيطة للغاية والاضطراباتِ الصبغية التي تؤثِّر تقريبًا على كل جوانب النمو الفكري والبدني.16
يذهب المحتالون إلى حيث يوجد المال، ويُعَدُّ آباءُ وأمهاتُ الأطفالِ المصابين باضطرابِ طيفِ التوحُّدِ من أهدافهم المفضَّلة؛ إذ يوجد الكثير منهم. يُظهِر الأطفالُ المصابون باضطرابِ طيفِ التوحُّد نطاقًا عريضًا نسبيًّا من السلوكيات المميزة، لكنهم يميلون إلى إظهار تلك السلوكيات المشتركة: (١) صعوبة في التواصُل، اللفظي وأيضًا غير اللفظي (أيِ الإشارة والإيماء). وأيضًا (٢) مشكلات في العلاقات الاجتماعية، خاصةً في فهم العواطف والتفكير في الآخَرين. وكذلك (٣) سلوكيات متكررة، مثل اتِّبَاع روتينٍ صارمٍ أو تكرارِ كلماتٍ أو أفعالٍ مرارًا وتكرارًا. لقد ارتفعَتْ معدلاتُ الإصابة بالتوحُّد منذ عام ١٩٩٤ (ربما بسبب تغيُّراتٍ في معايير التشخيص)17 بحيث أصبح الآن تقريبًا طفلٌ واحد من كل ١١٠ أطفال أمريكيين مشخَّصًا بالإصابة بالتوحُّد.18

الخياراتُ العلاجية محدودةٌ، والعلاجاتُ الأكثر موثوقيةً هي علاجاتٌ سلوكية. وتعتمد تلك العلاجاتُ على تعليم الطفل السلوكيات المناسبة في موقف معين، مثل التواصُل البصري والرد عندما يقول البائع: «شكرًا لك.» وإذا كان الطفل يَعْلم السلوكيات المناسبة لكنه لا يفعلها عادةً، فإن تركيزَ المعالجة يكون على زيادةِ معدلِ تكرارِ الطفل لهذه السلوكيات.

العلاجُ السلوكي لاضطرابِ طيفِ التوحُّد مُحْبِطٌ لكل الأطراف المَعْنِيَّة؛ فهو عمليةٌ بطيئةٌ تتطلَّب قدرًا كبيرًا من الجهد والدقة، ولا بد أن الوالدين يشعرون بأنه حلٌّ مؤقت، فهذا العلاج لا يخاطب المشكلةَ الأساسية، بل يواجِه الأعراضَ فقط. والمشكلةُ الأساسية بالتأكيد ليست سلوكيةً؛ فالأطفالُ ليسوا مصابين باضطرابِ طيفِ التوحُّد بسبب شيءٍ فعَلَه الوالدان، أو بسببِ شيءٍ لم يفعلوه. إنَّ اضطرابَ طيفِ التوحُّد لديه أساسٌ بيولوجي؛ ومن ثَمَّ يبدو أن العلاج يجب أن يكون بيولوجيًّا.§
تقدِّم جهاتٌ مخادعة مجموعةً من العلاجات البيولوجية المشبوهة لعلاجِ اضطرابِ طيف التوحُّد، ولا تحظى أيٌّ منها بموافَقةِ إدارةِ الغذاء والدواء الأمريكية، ويبدو أن جميعها يَعِدُ بعلاجِ السبب الجذري للمرض. العلاجاتُ الأقل تكلفةً والأكثر أمنًا (لكنْ بالتأكيد من غير المناسب اتباعها) تتمثَّل في الفيتامينات والمكمِّلات الغذائية أو الحميات الخاصة؛ أما العلاجاتُ الأخرى فمن الممكن أن تكون باهظةَ التكلفة إلى حد بعيد، مثل العلاج بالأكسجين العالي الضغط؛ وفي هذا النوع من العلاج يُوضَع الطفل في بيئةٍ محكمةٍ بها أكسجين مخصَّب تحت ضغط أكبر من الضغط الجوي، وهذا يساعد في نقل الدم لمزيدٍ من الأكسجين إلى الأعضاء. يمكن أن تكلِّف العلاجاتُ عدة آلاف من الدولارات شهريًّا. ومن العلاجات الأخرى غير الموافق عليها لعلاجِ اضطرابِ طيفِ التوحد الجلوبولين المناعيُّ (أجسام مضادة مصرَّح بها لعلاج سرطان الدم والإيدز)، وهذه تكلِّف حوالي عشرة آلاف دولار أمريكي. الأسوأ بكثيرٍ من التكاليف هو الآثارُ الجانبية المحتملة؛ فالعلاجُ بالأكسجين العالي الضغط يمكن أن يضغط على الرئتين والقلب وأعضاء أخرى، ويمكن أن يسبِّب الجلوبولين المناعيُّ الحمى أو الصداعَ أو التهابَ السحايا أو صدمة حساسية.19
فيمَ يفكِّر هؤلاء الآباء والأمهات؟ لماذا يُخْضِعون أطفالَهم لعلاجاتٍ غير مثبتة؟ كما هي الحالة في أغلب الأحيان، فإن العلاجات التي تبدو غريبةً في البداية، لديها «بالفعل» منطقٌ مؤكد، بمجرد فحصها على نحوٍ أعمق قليلًا ممَّا تبدو عليه ظاهريًّا. تأتي هذه البيانات من دراسةٍ منشورةٍ في الدورية العلمية المرموقة «أنالز أوف نيورولوجي» (حوليات علم الأعصاب)، على يد فريقِ أبحاثٍ من جامعة جونز هوبكنز.20 إن الفائدةَ المزعومة لمعالجة الأكسجين العالي الضغط ومعالجة الجلوبولين المناعي هي تقليلُ الالتهاب؛ ومن ثَمَّ يوجد سببٌ للعلاج.
إذا كنتَ والدًا تستمع إلى شخصٍ يحاول إقناعَك بأحد هذه العلاجات، فمن المحتمل إلى حد بعيد أنه سيخبرك عن دراسةٍ تُظهِر وجودَ التهابٍ في أدمغة الأطفال المصابين باضطرابِ طيفِ التوحُّد؛ أما ما «لن» يخبرك إياه فهو أن الباحثين توقَّعوا أنْ يندفع المعالجون المدعون إلى استخدام بحثهم كأساسٍ «لعلاجات» اضطرابِ طيفِ التوحُّد؛ ولذلك نشروا على موقعهم الإلكتروني شرحًا لنتائج البحث مكتوبًا بلغةٍ بسيطةٍ، مصحوبًا بتحذيرٍ شديدِ اللهجة ضد استخدام هذه النتائج قائلين: «لا يوجد أيُّ سببٍ لاستخدام الأدوية المضادة للالتهاب في علاجِ مرضى اضطرابِ طيفِ التوحُّد.»21 يقول الموقع الإلكتروني عن معالجة الجلوبولين المناعي بصفةٍ خاصةٍ إنه من غير المحتمل أن يكون لها تأثيرٌ كبيرٌ بسبب الآلية التي من خلالها تقلِّل الالتهاب.

عندما تقرأ عن العلاجات غير التقليدية لاضطرابِ طيفِ التوحُّد، فإنك تشعر برغبة قوية في التفكير على النحو التالي: «أنا لستُ ساذجًا، أنا لن أصدِّق أمرًا ليس له دليل.» الآباء والمعلمون والمديرون الآخَرون ليسوا أغبياء أيضًا، وكما ذكرتُ، فإن العلاجات التي يعتقدون أنها سوف تنفع وراءَها بالفعل منطقٌ مؤكَّد. لقد كان أنصار طريقة اللغة الكاملة مُحِقِّين في انتقادِ كثيرٍ من كتب التعليم الصوتي لأنها مُمِلَّة، وفكرةُ اتباعِ طريقةٍ مستخدمة من قِبَل المزيد من القراء الخبراء تبدو مقبولةً ظاهريًّا. يمكن أن يشير مروِّجُو العلاجات غير المثبتة لاضطرابِ طيفِ التوحُّد إلى دراساتٍ علميةٍ مشهورة كدليلٍ يدعمهم، وقد تتطلَّب معرفةُ أن الدراسات فُسِّرَتْ على نحوٍ خاطئ بعضَ الحنكة العلمية. إن الفحص بتعمُّقٍ كافٍ لاكتشاف إساءة التفسير قد يكون أصعبَ ممَّا قد تتخيَّل.

(٣) لماذا الحل الواضح لا ينفع

افترِضْ أنك والدٌ تبحث عن دعمٍ تكميلي لطفلك المصاب بعسر القراءة، أو أنك معلِّم لديه فضولٌ عن خطة المنطقة التعليمية حول تطبيق برنامجِ رياضياتِ جديدٍ، أو أنك مديرٌ تعليميٌّ طلَبَ منه رئيسُ المنطقة التعليمية حضورَ ندوةٍ في عطلة نهاية الأسبوع حول بناء الفريق؛ في كل حالة من الحالات المذكورة تكون متأكدًا من أن البرنامج «يستند إلى أبحاثٍ».

إذا أردتَ أن تعرف هل أحد الأمور يستند حقًّا إلى أبحاث، فكيف تستطيع أن تعرف؟ حسنًا، مصطلح «مستنِد إلى أبحاث» يعني أن شخصًا ما أجرى بعضَ الدراسات العلمية الرسمية لمعرفةِ إنْ كان البرنامج — أو المعالجة، أو الأداة — يحقِّق بالفعل ما يزعم تحقيقه. أمثال هذه الأبحاث ستكون منشورةً في دوريات متخصِّصة مخصَّصة لهذا النوع من الأمور؛ ومن ثَمَّ فهذا هو المكان الذي يجب أن تبحث فيه عن الأمر. إن مجرد محاولةِ تحديدِ مكان الدراسات العلمية الخاصة بإحدى الممارسات قد تخبرك أن هذه الدراسات لم تُجْرَ من الأساس. هذا وحده أمرٌ مفيد، ومن دواعي السرور أن معرفة هل الدراسات أُجرِيت أم لا، أصبحت الآن سهلةً إلى حدٍّ بعيدٍ باستخدام الإنترنت. لديَّ المزيد لقوله عن هذا الأمر في الفصل السابع.

بَيْدَ أن معرفة هل الأبحاث الوثيقة الصلة موجودةٌ أم لا، ليست كافيةً عادةً. رأينا ذلك في حالة العلاج بالأكسجين العالي الضغط الخاص باضطرابِ طيفِ التوحُّد؛ إذ توجد أدلة حقيقية محل ثقة تؤكِّد وجودَ التهاب في أدمغة الأطفال المصابين باضطرابِ طيفِ التوحُّد، وأيضًا توجد أدلة حقيقة محل ثقة تؤكِّد أن الجلوبولين المناعي يمكنه تقليل الالتهاب، إلا أن فهم سبب احتمالية عدم نفع هذا العلاج يتطلَّب منك قدرًا قليلًا من المعرفة التفصيلية أفضل من الموجود لدى معظمنا. إنني بالكاد أدرك وجود آليات عديدة يمكن بسببها أن يلتهب نسيجُ الدماغ، لكنني أشكُّ فعلًا في أنني كنتُ سأفكِّر في التساؤل عن ذلك. كذلك لم أكن لأعرف أن الالتهاب ليس دائمًا أمرًا سيئًا؛ حيث اتضح أن الالتهاب في بعض الأحيان يمكن أن يكون علامةً على أن الدماغ يحاوِل إصلاحَ نفسه. أيضًا لم أكن على الأرجح لأفكِّر في احتمالية وجود عاملٍ آخَر — فَلْنُسَمِّه العاملَ «س» — يسبِّب الإصابةَ باضطرابِ طيفِ التوحُّد، ويسبِّب «أيضًا» الالتهابَ كنتيجةٍ ثانوية. إن علاج الالتهاب قد يكون شبيهًا بعلاج الحمى التي تنتابك عندما تكون مصابًا بالإنفلونزا، فعلاجُها لا يجعل الفيروس يختفي؛ لأن الحمى عَرَضٌ وليسَتْ سببًا.

إليكم مثالًا آخَر عن الحاجة إلى معرفةٍ عميقةٍ عند محاولة تقييم أحد الأمور لمعرفة هل يستند إلى أبحاثٍ أم لا: عندما أبحث عن «توحُّد السيكريتين» في الباحث العلمي لجوجل (وهو قاعدة بيانات للأبحاث الأكاديمية)، فإنني أحصل على ٢٠١٠ نتائج.22 (السيكريتين هرمون مهم في الهضم.) عنوان المقالة الأولى كالتالي: «انعدام فائدة جرعة واحدة من السيكريتين البشري التخليقي في علاج التوحد واضطراب النمو الشامل»، أما عنوان المقالة الثانية فهو: «تحسُّن المهارات الاجتماعية واللغوية لدى مرضى اضطرابِ طيفِ التوحُّد بعد تَعاطِي السيكريتين». اممم! إذن يبدو أنه يوجد بعض الجدل.23 ولسوء الحظ، فإن هذا الأمر معتاد. إن السلوك البشري ليس نظامًا بسيطًا يقوم على السبب والنتيجة؛ فالسلوكيات (مثل السلوكيات المتكررة لدى الأطفال المصابين باضطرابِ طيفِ التوحُّد) تكون لها عادةً أسبابٌ متعدِّدة، ومن الممكن مثلًا أن يجعل التوترُ الأعراضَ أكثرَ سوءًا، كما أن المشكلات سوف تتباين بين الأطفال؛ إذن حتى إذا كان للسيكريتين بعضُ التأثيرات الإيجابية، فمن المحتمل أن تراها في بعض الدراسات ولا تراها في أخرى. الأهم من ذلك أن الدراسات سوف تختلف في جودتها؛ إذ يوجد طرق أفضل وطرق أسوأ لإجراء الأبحاث العلمية، ولا يلزم أن تكون الدراسةُ مثاليةً كي تُنشَر في إحدى الدوريات العلمية. إذن ما تحتاج حقًّا إلى فعله هو إلقاءُ نظرةٍ على كل الدراسات التي أُجرِيت، ومحاولةُ معرفةِ هل الدراسات التي توظِّف أفضلَ المنهجيات هي أيضًا التي تُظهِر التأثيرات الإيجابية للسيكريتين أم لا.

يبدو تنفيذ هذا الأمر صعبًا بما يكفي، لكن المشكلة ما زالَتْ أصعبَ من ذلك بخطوة. ليس من السهل معرفة مقومات الدراسة «الجيدة»، فمن الواضح أنه توجد مبادئ توجِّه تصميمَ الأبحاث واستخدام الإحصائيات، ومن شأن التمرُّنِ على التفكير في هذه المبادئ أنْ يساعدك على نحوٍ مؤكد. إلا أن تقييم جودة البحث يتطلَّب أيضًا معرفةَ «المحتوى العلمي» الوثيق الصلة. يرجع السبب في ذلك إلى أن المحتويات تؤثِّر على تفسيرِ ما إذا كانت الدراسة أُجرِيت على نحوٍ جيد أم لا. إليكم مثالًا بسيطًا: لنفترِضْ أنك قرأتَ دراسةً عن تأثيرِ السيكريتين على سلوك الأطفال المصابين باضطرابِ طيفِ التوحُّد، واستخلصَتِ الدراسةُ أن السيكريتين لا يساعد هؤلاء الأطفال. ربما تلاحظ أن الدراسة لم تُجْرِ اختبارات على الأولاد والبنات على نحوٍ منفصلٍ، واعتبرَتْ كلَّ الأطفال المصابين باضطرابِ طيفِ التوحُّد مجموعةً كبيرة واحدة؛ فهل هذا يجعل الدراسة سيئةً؟ الجوابُ يعتمد على الظروف؛ فإذا كانت الأبحاثُ السابقة قد أظهرَتْ أن النوع متغير مهم في آلية عمل السيكريتين، فربما يعني هذا أن الدراسةَ سيئةٌ.

أو إذا كان يوجد سببٌ للتفكير في أن النوع عاملٌ مهم في اضطرابِ طيفِ التوحُّد — سواء أكان فيما يتعلَّق بمجموعةِ أعراضه أم فيما يخصُّ علاجَه — فيجب على الأرجح أن يُلقِي الباحثون نظرةً على تأثيرِ السيكريتين على الأولاد والبنات كلٌّ على حدة. يمكنك عادةً في أية دراسةٍ أن تختلق الكثيرَ من الفروق — استخدام اليد اليمنى أم اليد اليسرى، في أي وقتٍ من اليوم أُجرِيت التجربة، الأدوية الأخرى المتناوَلة، الحمية، العلامات الوراثية — التي «من المحتمل» أن تُحدِث اختلافًا. وإذا علمنا أن أحد العوامل كان مهمًّا في إحدى الدراسات السابقة وتجاهَلَه الباحثُ، فهذا مأخذ مشروع يُؤخَذ عليه.

أو افترِضْ أن نتائج الدراسة بَدَتْ متعارضةً على نحوٍ مباشِر مع نتائج دراسات سابقة. يجب على المؤلف على الأقل أن يناقش الأسبابَ المحتملة لهذا التعارُض، إنْ لم يتناول الموضوعَ في دراسة جديدة. أو افترِضْ أنَّ الدراسات السابقة أظهرَتْ أن الطريقة الإحصائية التي يمكن أن يستخدمها المرء عادةً في موقف معين لا تنفع في هذه القضية المتخصصة. دائمًا ما تعتمد الأساليبُ الإحصائية على افتراضاتٍ حول البيانات، وَلْنَقُلْ إنه معروفٌ أنَّ افتراضًا مهمًّا من تلك الافتراضات لا ينطبق على اختبارِ قراءةٍ معينٍ، إذا كان الأطفال تحت عمر الثانية عشرة قد خضعوا للاختبار مقيَّدِين بمدة زمنية محدودة. من الصعب أن تكون قارئَ مقالاتٍ علمية ذكيًّا إذا لم تكن بالفعل متبحِّرًا إلى حدٍّ بعيد في المحتوى.

كلُّ التفاصيل التي أسردُها هنا تهدف ببساطةٍ إلى التأكيد على ما يلي: (١) قول «مدعوم بالأبحاث» يجب أن يعني أن البحث أُجرِي بالطريقة الصحيحة. و(٢) أن معرفة هل البحث أُجرِي بالطريقة الصحيحة ليس بالأمر الهيِّن. هذا لا يعني أن الباحثين المحترفين فقط هم مَن يستطيعون تقييمَ الجودة العلمية؛ فلقد قابلتُ أشخاصًا أصبحوا خبراءَ في موضوعات كثيرة وكانوا مجرد متابِعِي أبحاثٍ مثقفين، إلا أنهم استغرقوا وقتًا طويلًا للوصول لهذا المستوى. إن الخبرة في الأبحاث تشبه بالضبط أيَّ نوعٍ آخَر من الخبرات؛ إذ يتطلَّب اكتسابُها الكثيرَ من العمل الجاد والممارسة، ومعظمُ الأشخاص الذين لديهم أُسَرٌ ووظائفُ وغيرهما من المسئوليات لا يستطيعون بذْلَ هذا القدر من الوقت. هل توجد طريقةٌ لتقييم الأبحاث لا تتطلَّب أن يصبح المرءُ خبيرًا؟

جدول ٢: مثال على طريقةٍ «منطقيةٍ» لاختيارِ سيارةٍ لشرائها.
الأهمية فورد توروس بورش ٩١١ دودج رام بيك أب
الإجمالي (الإعجاب) ١٣٫٨٩ ١٩٫١٠ ١٥٫٨
ارتفاع السقف ٠٫٢ ٧ ٢ ٨
نظام الصوت ٠٫٤ ٥ ٩ ٤
الموثوقية ٠٫٨ ٦ ٦ ٥
كفاءة استهلاك الوقود ٠٫٥ ٦ ٣ ٢
مساحة صندوق السيارة ٠٫٢ ٥ ١ ١٠
الاحتكاك على الجليد ٠٫٣ ٣ ٢ ٨
التصميم ٠٫٨ ٢ ١٠ ٤
إننا نقوم بمهامَّ أخرى، إذا لم نُنْجِزْها على النحو الصائب، فمن الممكن أن تصبح معقدةً ومستهلكةً للوقت للغاية؛ والحلُّ التقليدي هو ألَّا نبذل هذا الوقتَ وهذا الجهدَ في القيام بمهمة محكمة، بل نجد بدلًا من ذلك طرقًا مختصرةً تَفِي بالغرض، حتى إنْ كانت غيرَ مثالية. تأمَّلْ عمليةَ شراء سيارة؛ إنها عملية شراء كبيرة، وتريد أن تكون متأكِّدًا من الحصول على أقصى استفادةٍ مقابل مالك، أليس صحيحًا؟ إذا أردتَ حقًّا أن تجعل هذا القرارَ أفضلَ قرارٍ ممكن، فإليك ما يجب أن تفعله؛ أولًا: صنِّفْ أهميةَ كلِّ صفات السيارة بالنسبة إليك، بدايةً مثلًا من ٠ إلى ١ صحيح؛ ومن ثَمَّ، يمكنك أن تمنح صفةَ «الموثوقية» ٠٫٨، في حين تمنح صفة «المقاعد المُدفَّأة» ٠٫٢ فقط. ثانيًا: صنِّفْ كلَّ طرازات السيارات لكل صفة من هذه الصفات، باستخدام مقياسٍ من ١ إلى ١٠، فتحصل السيارةُ البورش ٩١١ على ١٠ في التصميم، وتحصل السيارةُ توروس على ٣، وهكذا. ثالثًا: اضربِ التقديرات من الخطوة الثانية في قِيَم الأهمية من الخطوة الأولى، واجمَعِ النواتج. والآن لديك قيمةٌ شاملة لكل سيارة تمثِّل مدى إعجابك بها. يوضِّح الجدول ٢ مثالًا لمجموعةٍ صغيرة من السمات لثلاث سيارات.

الآن وقد صرتَ تَعْلَم مدى إعجابك بكل سيارة، فإنك تحتاج إلى أن تضيف التكلفة إلى اعتباراتك. في الخطوة الثالثة، سوف تبحث عن تكاليف صيانةِ كلِّ سيارة، بالإضافة إلى الإهلاك. في الخطوة الرابعة، سوف تزور وكالةَ بيعِ كلِّ سيارة وتتفاوض على سعرِ كلِّ طراز معروض للبيع. في الخطوة الخامسة، سوف تكرِّر الخطوات من الأولى حتى الرابعة مع السيارات المستعمَلة. في الخطوة السادسة، سوف تجمع كلَّ المعلومات المتعلِّقة بالإعجاب بالسيارة والتكلفة لاختيار أفضل سيارة.

من الواضح أن لا أحد يختار سيارةً بهذه الطريقة؛ إنها طريقة مستنزفة للوقت على نحوٍ بالغٍ. إننا نواجه الكثير من المهام ذات الخواص المشابهة، وتوجد طريقةٌ لإنجاز المهمة قد تكون هي الأفضل، لكننا نفتقر إلى الوقت أو المعرفة لإنجازِ المهمة بتلك الطريقة، فماذا نفعل بدلًا منها؟ إننا نستخدم طريقةً غيرَ مثالية تُسمَّى «الحدس التجريبي». الطريقة التجريبية هي طريق مختصر؛ إنها ليست «أفضل» طريقةٍ لفعل أحد الأمور، لكنها تؤدِّي إلى حلٍّ يكون جيدًا جدًّا عادةً، وتمتاز بفائدة كبيرة تتمثَّل في العملية؛ إذ إنها سهلة الحساب. عندما اشتريتُ سيارةً مؤخرًا، كانت طريقتي «الحدسية التجريبية» كالتالي: «اشتَرِ أولَ سيارة تجدها موثوقًا فيها إلى حدٍّ بعيد، ولديها أربعة أبواب، وصندوق كبير، ومساحةٌ لوضْعِ مقعدَيْ سيارة في الخلف، وتكلِّف أقل من ١٨ ألف دولار أمريكي.» ربما لا ينتهي بي المطاف إلى شراء أفضل سيارة، لكن عندما أعطي الأولويةَ للسمات التي أعلم أنني أهتمُّ لأمرها كثيرًا، فعلى على الأرجح سوف أكون راضيًا، فضلًا عن أنني جعلتُ المشكلةَ من السهل التعامُل معها.

تقييمُ البحث يشبه شراءَ السيارة؛ يوجد حلٌّ مثالي للمشكلة، وهذا الحل يتمثَّل في قراءةِ واستيعابِ كلِّ الأبحاث الوثيقة الصلة، لكن معظمنا لا يمتلك الوقتَ لتنفيذِ ذلك الحل المثالي. تقول المقولة الافتتاحية لهذا الفصل: «قبل الوصول إلى اليقين، علينا أن نقنع غالبًا بتخمينٍ معقولٍ إلى حدٍّ ما.» بالفعل عندما يكون اليقينُ غيرَ متوافر، يكون التخمينُ المعقول هو أفضلَ ما نفعله، فما نحتاج إليه هو طريقٌ مختصرٌ جيد.

(٤) حل الطريق المختصر

لنظامنا التعليمي مستويات متعددة. تحاول الحكومةُ الفيدرالية التأثيرَ على السياسة التعليمية لحكومات الولايات، ويوجد حوالي ثلاثة عشر ألفَ منطقةٍ تعليمية محلية،24 لكلٍّ منها إدارتُها الخاصة، تتَّخِذ قراراتٍ داخل إطار العمل الموضوع من قِبَل الولايات، ومديرو المدارس يُدِيرون مدارسَهم داخلَ إطارِ العمل الموضوع من قِبَل إدارة المنطقة، ويُدِير المعلمون فصولَهم داخل إطار العمل الموضوع من قِبَل المديرين. وإذا لم يتلقَّ الأطفالُ تعليمًا كافيًا في تلك الفصول، فإن الوالدين يحاولان تكملةَ ما يتعلَّمه أبناؤهما.
في كلِّ مستوًى من هذا النظام، يحاول الناس — بدافع السياسة أو المال أو الإيثار — التأثيرَ على مجريات الأمور، وأحدُ أساليب الإقناع الأكثر استخدامًا في أغلب الأحيان هو ارتداءُ المعطف العلمي الأبيض والقول بجديةٍ: «تقول الأبحاث …» لقد قلتُ إن الطريق المختصر هو أفضلُ الطرق للحُكْم على أحدِ المزاعم هل هو مدعوم علميًّا حقًّا أم لا، لكنْ قبلَ تقديم الطريق المختصر، أحتاجُ إلى إقناعكم بأنه منطقي. إن السبب وراء الطريق المختصر الذي وصفتُه لشراءِ السيارة واضحٌ إلى حدٍّ بعيد؛ فالسياراتُ لديها الكثير من السمات التي لا يمكنك على الأرجح تقييمها كلها؛ ومن ثَمَّ بدلًا من ذلك تركِّز اهتمامَك فقط على السمات الأكثر أهميةً. ومن أجل أن يبدو الطريقُ المختصر للأبحاث منطقيًّا، نحتاج إلى توضيح بعض الأمور:
  • أولًا: «نحتاج إلى فهم أنواع الأمور التي يجدها الناس مُقْنِعةً.» قلتُ بالفعل إن الأشخاص الذين يجرِّبون علاجات تعليمية تبدو غريبة — مثل: أولئك الذين يضعون أطفالَهم في حاويات الأكسجين العالي الضغط، أو الذين يعتقدون أن الأطفال سوف يتعلَّمون القراءةَ من خلال تذكُّرِ كيف يبدو شكل الكلمات — ليسوا مجانين ولا أغبياء؛ لقد كان هؤلاء الناس مُدْرِكين أن المخاطر كبيرةٌ عندما اتخذوا تلك القرارات، وأنا مستعِدٌّ إلى حدٍّ بعيد أن أصدِّق أنهم اتخذوا تلك القرارات من منطلق تفكيرٍ مدروس. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان الناس مقتنعين بأن أحد التدخُّلات التعليمية مدعومٌ علميًّا، في حين أنه كان من الضروري ألَّا يقتنعوا بذلك. ما الذي يؤثِّر على قرارِ التصديق أو عدم التصديق؟ في الفصل الأول، سوف ألخِّص أبحاثًا أُجرِيت على مدار ما يقرب من خمسين سنة حول هذا الموضوع، وسوف نرى كيف أن العقل مزوَّد سابقًا في واقع الأمر بطرق مختصرة؛ فهناك سمات معينة للرسائل يفسِّرها العقل على أنها إشاراتٌ دالة على الحقيقة؛ على سبيل المثال: تُعتبَر الرسائل الطويلة أكثر مصداقيةً من الرسائل القصيرة. ربما لا تكون مُدرِكًا لسمات الرسائل التي يركِّز عليها عقلُك، لكنَّ موظفِي المبيعات والسياسيين ومَن يستغلون الناس لتحقيقِ مآربهم في حنكةٍ يدركون ذلك. حان الوقت لتعرف تلك السمات أنت أيضًا، وسوف أصف هذه السمات في الفصل الأول.
  • ثانيًا: «نحتاج إلى فهم كيف يفكِّر العوام — غير العلماء — في الأدلة العلمية.» تُظهِر الاستقصاءات أن العلماء محلُّ ثقةٍ أكثر من غيرهم من الأشخاص في أية مهنة أخرى، فالناس يعتقدون أن الأبحاث العلمية هي أكثر أنواع الأدلة موثوقيةً. لماذا؟ لماذا هذه الثقة الضمنية في العلم؟ بدأَتْ هذه القصةُ في أوروبا القرن السادس عشر، في زمانٍ ومكانٍ كانت فيهما ملاحظةُ العالم — حَجَر الأساس في العلم — تُعتبَر «أقلَّ» أنواعِ الأدلة إقناعًا. كانت المرجعيةُ هي أكثرَ أنواعِ الأدلة إقناعًا؛ فإذا قال الكتاب المقدس (أو المفكِّرون القدماء لا سيما أرسطو) أمرًا ما، فلا بد أن يكون صحيحًا. شهدَتِ السنواتُ المائة التالية تحوُّلًا كاملًا عن هذا التوجُّه، وأصبحَتِ الملاحظةُ — لا سيما الملاحظة المحكومة مثل الموجودة في التجارب — تحظى بأعلى مراتب التقدير. كان التغيُّر في تقدير الأدلة راجعًا في الأساس إلى النجاح الهائل لهذه الطريقة في تفسير العالَم وتحسين ظروف البشر. لقد جاء العلم ليؤثِّر في كل جانب تقريبًا من جوانب شئون البشر — ويحسِّنه عادةً — وهذا يعني أن المظهر البسيط المتمثِّل في الأدلة العلمية يمثِّل عاملَ إقناعٍ مهمًّا. هذا النوعُ من الأدلة قويٌّ للغاية، حتى إنه في مجالات أخرى (مثل الطب والهندسة) لدينا مؤسسات قوية تراقِب وتتحكَّم في استخدامه، فمن غير القانوني أن تقول إن أحد الأدوية اختُبِر علميًّا في حين أنه ليس كذلك. أما التعليمُ فليس لديه مثل هذه القيود؛ فأيُّ شخصٍ يستطيع أن يقول إن أحد الحلول التعليمية «مستنِدٌ إلى أبحاث»، ولهذا السبب يكرِّر موظَّفُو المبيعات هذه الجملةَ مثل الببغاوات؛ وهذا هو السبب الذي يجعل الطريقَ المختصر لتقييم الأبحاث مطلوبًا. في الفصل الثاني سوف نُلقِي نظرةً حول الكيفية التي وصل بها الموقفُ إلى هذه المرحلة.
  • ثالثًا: «إذا كان لنا أن نجد طريقًا مختصرًا لتقييم الأبحاث، فإننا في حاجةٍ إلى فهم الطريق الذي سوف نختصره.» يهدف الطريق المختصر إلى توفيرِ مَمَرٍّ سهلٍ إلى الهدف الذي سنصل إليه إذا سلكنا الطريق الطويل. الهدف هو «العلم الجيد»؛ فكيف يبدو ذلك العلم الجيد؟ من المثير على نحوٍ كافٍ أنه اتضح أن توصيفَ العلم الجيد على القدر نفسه من صعوبةِ توصيفِ المواد الإباحية، لكننا لا نستطيع أن نُرضِي أنفسنا بأن نحذو حذْوَ بوتر ستيوارد قاضي المحكمة العليا الأمريكية عندما قال جملته الشهيرة في توصيف المواد الإباحية: «أعرفها عندما أراها.» فلا نستطيع توصيفَ العلم الجيد على هذا النحو. في الفصل الثالث سوف أتناول سبعةَ مبادئ يتفق معظمُ الخبراء على كونها أساسيات علمية.

في الفصل الثالث سوف أتحدَّث عن كيف يبدو العلم الجيد، لكنني لن أصف كيفيةَ استخدامه. إن كيفيةَ استخدام العلم الجيد هي موضوع الفصل الرابع الذي يصف الفرق بين العلوم الأساسية (مثل: الكيمياء، والأحياء، وعلم النفس) وبين مجالاتٍ مثل التعليم الذي «يستخدم» الاكتشافات التي توفِّرها العلومُ الأساسية؛ على سبيل المثال: إذا اكتشف متخصِّصو علم النفس حقيقةً جديدةً عن طريقة تفكير الأطفال، فهل تلك الفكرةُ الجديدة جاهزةٌ لاستخدامها في الفصل الدراسي؟ سأوضِّح طريقتين لاستخدام الاكتشافات العلمية في التعليم؛ الطريقة الأولى باهظة التكلفة وتتطلَّب دقةً بالغةً، لكنها تحقِّق معرفةً موثوقًا فيها إلى حد بعيد، أما الطريقة الثانية فغير مكلِّفة، وتتطلَّب دقةً بالغةً أيضًا عند تطبيقها على نحوٍ جيد، لكن من السهل أيضًا تطبيقها على نحوٍ غير متقن. إنها تقدِّم معرفةً عن الممارسة التعليمية يجب أن تُعتبَر غير قاطعة. وكما سأوضِّح، فإن الطريقة الصعبة الباهظة نادرةٌ في التعليم الأمريكي، بينما الطريقةُ الرخيصة غير المتقنة هي الشائعةُ. إن جزءًا من الطريق المختصر يكمن في إدراك هذا الفرق.

في الجزء الأول، سأبيِّن أن الناس يقتنعون بحجج ضعيفة (الفصل الأول) لا سيما تلك الحجج التي تبدو علمية (الفصل الثاني). لسوء الحظ، الناسُ غير قادرين على التمييز بين العلم الجيد والعلم السيئ (الفصل الثالث)، ولديهم التباسٌ عادةً حول كيفية استخدام المكتشفات العلمية في حلِّ مشكلات التعليم (الفصل الرابع). يقدِّم الجزءُ الثاني الطريقَ المختصر؛ إذ يتكوَّن من أربع عمليات تُطبَّق على البرنامج التعليمي المرشَّح، وهذه العمليات هي: تجريد الزعم، وقلب الزعم، وتتبُّع الزعم، وتحليل الزعم، وفي الخطوة الرابعة ستتخذ قرارًا بشأن هل ستطبق الزعم أم لا.

«تجريد الزعم» يعني الكشف عن الزعم، خاليًا من اللغة العاطفية والزخارف الأخرى التي يستخدمها الناسُ لإخفاء الزعم العلمي الفعلي. إن فحصَ الزعم في أبسط صوره يمكن أن يوضِّح لك الكثيرَ من المشكلات؛ كأنْ يكون الزعمُ حقيقيًّا لكنه مجرد أمرٍ بديهي، أو أنْ تكون النتيجة المزعومة غامضةً، أو ألَّا يكون ثمة أحدٌ يحدِّد الرابطَ بين المفترض منك فعله والمفترض تَحَسُّنه. يتناول «قلب الزعم» طريقةَ تأثُّر النتائج الموعودة بالوصف المقدَّم؛ على سبيل المثال: إن قول إن لحم الخنزير «خالٍ من الدهون بنسبة ٩٠ في المائة!» يبدو مختلفًا إلى حد بعيد عن القول إنه: «يحتوي على دهونٍ بنسبة ١٠ في المائة!» سوف نفحص الطرقَ المختلفة التي يجرِّبها الناس لجعل المنتجات التعليمية تبدو جيدة، والكيفية التي يمكنك بها رؤية ما وراء تلك المزاعم.

«تتبُّع الزعم» لا ينطبق على البرنامج التعليمي بل على مُبتكِره. معظمنا يستخدم هذه الخطوة بالفعل، وفي حقيقة الأمر، يفرط في استخدامها. إن المقصود بها الانتباه إلى مؤهلات ودوافع الشخص الذي يحاول إقناعنا. إننا نقتنع إلى أقصى درجة بالأشخاص الذين يتمتعون بالمعرفة وعدم التحيُّز؛ لكنْ لسوء الحظ، من الصعب الحكم على الشخص بأنه يتمتَّع بالمعرفة حول موضوعٍ ما، إذا لم نكن نحن نمتلك بعض الخبرة؛ ولذلك فإننا نميل إلى الاعتماد على الشهادات؛ فنحن نصدِّق الأطباءَ عندما يتحدَّثون عن الطب، والكهربائيين عندما يتحدَّثون عن صندوق الصمامات الكهربية. بطبيعة الحال، يمكن أن تكون الشهاداتُ مزوَّرةً، لكنني سأقول إنه حتى في حالة كونها أصليةً، فالشهاداتُ ليست دليلًا موثوقًا فيه على المصداقية في مجال التعليم. في الحقيقة، إن هذه العلامة المميزة الأكثر شيوعًا في الاستخدام للمصداقية هي «أقل» العلامات نفعًا.

«تحليل الزعم» هو الخطوة الثالثة في الطريق المختصر؛ ويعني التفكيرَ في السبب الذي يدعوك إلى تصديقِ أحدِ الأمور. سوف نتناول موضوعين أَلَا وهما: كيف تستخدم (وكيف لا تستخدم) خبرتَك الخاصة، بالإضافة إلى طُرُقٍ بسيطةٍ لتقييم الأبحاث. سأوضِّح أن خبرتك مهمة بالفعل؛ فإذا كانت المزاعمُ المتعلقة بالمنتج التعليمي تتعارض مع ما تعرف أنه حقيقي، ففي هذه الحالة توجد مشكلةٌ ما. في الوقت نفسه، إن خبرتك ليست دليلًا لا يخطئ، ولو كانت كذلك، لَمَا كانت توجد حاجةٌ للبحث العلمي. إذن بمجرد الاتفاق على أن المعتقدات السابقة مهمة لكنها ليست قاطعة، فإننا نحتاج إلى تحديد الظروف التي في ظلها تكون جديرةً بالثقة، وتحديد متى يكون من المحتمل أن تضلك. «تحليل الزعم» يعني أيضًا تطبيقَ بعض التعليمات البسيطة لتقييم مزاعم البحث. الهدفُ من الطريق المختصر هو إنقاذُك من الحاجة إلى تقييم البحث؛ ومن ثَمَّ فإننا لن نطبِّق أساليبَ شديدةَ التخصص في هذا الصدد. إلا أنه يوجد بعض القواعد العامة المجرَّبة اللازم تطبيقها.

بعد تقييم الجدارة العلمية لفكرةٍ ما، تحتاج إلى أن تقرِّر هل يلزم تطبيقها أم لا. على الرغم من أنني أؤيِّد سلوكَ إحدى الطرق المختصرة في هذا الصدد، فإنني لا أناصِر التسرُّعَ في اتخاذ القرار. لا أقول إن المرء يجب ألَّا يتبنَّى مطلقًا أحدَ البرامج التعليمية التي تفتقر إلى السند العملي؛ فكما سنرى، معظمُ تلك البرامج يفتقر إلى ذلك السند. ما أدافِع عنه هو تبنِّي أحد البرامج فقط عندما يكون في متناولك كل المعلومات المتعلقة به. والخطوة الأخيرة تتمثَّل في تجميعِ كلِّ ما تعرفه في مكانٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ كي تتمكَّن من التفكير فيه.

•••

سيكون هذا الكتاب مفيدًا بصفة خاصة في موقفين؛ في الموقف الأول: يتخذ شخصٌ آخَر القرار، وتتأثَّر أنت به، كأنْ يتخذ رئيسُ المنطقة التعليمية قرارًا بتبنِّي أحد برامج القراءة، وتكون أنت معلِّمًا يجب أن يطبِّق هذا البرنامج، أو والدًا لأحدِ أطفالِ هذه المنطقة التعليمية، أو ربما تكون مديرًا في المنطقة التعليمية قِيلَ له للتوِّ أنْ يبلِّغ أولياء الأمور هذا الخبرَ في اجتماعِ رابطةِ الآباء والمعلمين القادم؛ في كلِّ حالةٍ من هذه الحالات يوجد شخصٌ آخَر قرَّرَ أن أحد البرامج التعليمية فكرةٌ جيدة. يمكن أن يدلَّكَ هذا الكتابُ على الأسئلة التي قد تطرحها على صانع القرار. يُجِيب صنَّاعُ القرار غالبًا على أيِّ سؤالٍ قائلين: «كل الأبحاث تؤيده.» أو «هذا البرنامج صمَّمَه الأستاذ فلان من جامعة [اكتب هنا اسم جامعة مرموقة].» سوف يُرِيك هذا الكتابُ لماذا هذه الإجابات غير كافية، وسوف يقدِّم لك أسئلةً أفضلَ لتطرحها.

في الموقف الثاني: تكون أنت نفسك صانع القرار؛ كأنْ تكون والدًا يبحث عن خدمات تعليمية مكملة لطفلك الذي يعاني من صعوباتٍ في مادة الرياضيات، أو تكون معلِّمًا طُلِب منه ترشيح أحد منتجات البرمجيات الخاصة بالألواح البيضاء التفاعلية لتطبيقها على نطاق المدرسة ككلٍّ، أو تكون مديرًا يفكِّر فيما لو كان من المفيد تخصيص نصفِ يومِ عملٍ لأحد المدرسين من أجل تطبيق برنامجٍ عن التنمُّر رشَّحَه مديرٌ في مدرسة أخرى، أو ربما أنت عضو في مجلس إحدى المدارس في منطقتك وتتساءل حول إنْ كان من المُجْدِي إرسال كل مديري المدارس في منطقتك التعليمية إلى مؤتمرٍ على مستوى الدولة. في كل حالةٍ من هذه الحالات، يوجد منتج مطروح للبيع، وأنت تتساءل عن قيمته التعليمية. سوف يساعدك هذا الكتاب على معرفة الأسئلة اللازم طرحها، وكيف يبدو الجواب الجيد.

لن يحوِّلك هذا الكتاب إلى خبير في الأبحاث. في الحقيقة، الهدف من هذا الكتاب هو التخلص من الحاجة إلى الخبرة، والطريقةُ التي أقدِّمها ليست مثاليةً، شأنها شأن كلِّ الطرق الحدسية التجريبية؛ فمن المحتمل أن تطبِّق هذه الطرق وتتوصَّل بالرغم من ذلك إلى الاستنتاج الخاطئ.

إلا أنني أستطيع أن أَعِدَكَ بما يلي: مهما كان مستواك الحالي في المهارة البحثية، فإن هذا الكتاب سوف يساعدك على طرح أسئلةٍ أفضل متعلِّقة بالأساس البحثي القائم عليه أحد المنتجات، وسوف يساعدك في التفكير بدقةٍ في الحكمة من شراءِ واستخدامِ أحد المنتجات في فصلك، أو في منطقتك التعليمية، أو في منزلك.

هوامش

كنتُ أُجْرِي دراساتي العليا، حين أوضَحَ الأستاذُ أدلةَ النسبة الذهبية بوجهٍ خالٍ من الابتسامة، ولم أكن مهتمًّا فحسب، بل كنت مندهشًا أيضًا. لقد كنت متأكدًا من أن الرب نفسه قد وضع هذا الرقم في الطبيعة كنوعٍ من الشفرة كي نحلَّها، وعندما أوضح الأستاذ كلَّ العيوب في حجةِ النسبة الذهبية، شعرتُ أنني تعرَّضْتُ للخداع.
إذا كنتَ تصدِّق أيًّا من هذه الأمور، فمن فضلك لا تشعر بالإهانة من رفضي المزدري لها. أنا لستُ هنا لأخبرك بالأمور الواجب تصديقها، لكنني أؤكِّد على نحوٍ قاطعٍ أنه لا يوجد دليلٌ علمي يدعم هذه المعتقدات.
على الأقل مؤرخة واحدة (دي رافيتش، ٢٠٠٠، «قرن وراء ظهورنا» نيويورك: سايمون آند شوستر) قالت: إن سببَ رواجِ طريقةِ اللغة الكاملة هو أن التعليم المعتمِد على الصوتيات كان يجري بطريقةٍ مفرطةٍ في الحماس، وأصبح تعليمُ القراءة مُمِلًّا بالنسبة إلى الأطفال من خلال فرط استخدام أوراق التدريبات وما شابَهَ ذلك. إن تأكيدي على أهمية التعليم بالصوتيات لا يعني عدم وجود قيمةٍ في أي جانبٍ من جوانب أسلوب الكلمة الكاملة أو أسلوب اللغة الكاملة. لقد أصابَ مناصِرو الأسلوبين بالتأكيد فيما يخصُّ أهميةَ شغفِ الطفل، إلا أن التعليم بالصوتيات أمرٌ غيرُ قابلٍ للتفاوُض.
§ في بعض الأحيان تُوصَف أدويةٌ مطوَّرةٌ لعلاج أمراض أخرى (مثل مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية) للأشخاص المصابين باضطرابِ طيفِ التوحُّد. بعضُ الأدوية تساعد في علاج الأعراض لدى بعض الأشخاص، لكن لا توجد أدويةٌ تقدِّم علاجًا كاملًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤