الفصل الأول

لماذا يصدِّق الأشخاص الأذكياء أمورًا غبية؟

من العبث أن تحاول إقناعَ شخصٍ بالتخلِّي عن أمرٍ اعتنَقَه دون سبب منطقي من الأساس.

جوناثان سويفت

***

افترِضْ أنك في مكتبةٍ ما، وتحتاج إلى تصويرِ بعض الصفحات من أحد الكتب. وجدتَ آلة تصويرِ مستندات، واكتشفْتَ على نحوٍ مثير للسعادة أن معك بعض العملات المعدنية. لكن بينما أنت على وشكِ وضعِ العملة المعدنية في الفتحة المخصَّصة، اقترَبَ منك أحدُ الغرباء، وسألك هل بإمكانه استخدام آلة التصوير. هل ستسمح للغريب باستخدام آلة التصوير، أم أنك سوف ترفض طلبَه بأدبٍ، لأنك في المقام الأول سبقْتَه في الوصول إليها؟

في هذا الفصل، سنكون أقلَّ اهتمامًا بما إذا كنتَ ستذعن لهذا الطلب أم لا، وسنكون أكثر اهتمامًا بما إذا كنتَ «ستفكِّر» قبل الإجابة أم لا. يبدو أن التفاعُل الاجتماعي — تقرير هل ستصنع هذا المعروف الصغير — سوف يتطلَّب التفكيرَ؛ لكنه في الحقيقة لا يتطلَّب ذلك، وفقًا لدراسةٍ بارزةٍ أجرَتْها ألين لانجر.1 اقترَبَ أحدُ القائمين على التجربة من أفرادٍ وهم يهمُّون باستخدامِ آلةِ تصويرٍ تعمل بالعملات المعدنية، طالبًا أحدَ الطلبات الثلاثة التالية:
  • (١)

    عفوًا، لديَّ خمسُ صفحات؛ هل يمكنني استخدام ماكينة تصوير المستندات؟

  • (٢)

    عفوًا، لديَّ خمسُ صفحات؛ هل يمكنني استخدام ماكينة تصوير المستندات، لأنني في عجلةٍ من أمري؟

  • (٣)

    عفوًا، لديَّ خمسُ صفحات؛ هل يمكنني استخدام ماكينة تصوير المستندات، لأنني يجب أن أحصل على بعض النُّسَخ؟

الطلب الأول لا يقدِّم أيَّ سبب، بينما الطلب الثاني يقدِّم سببًا مقبولًا اجتماعيًّا، أما الطلب الثالث فهو غريب؛ إنه يقدِّم سببًا ليس في حقيقته سببًا، فإذا كنتَ تطلب استخدامَ آلةِ تصويرِ المستندات، فمن الواضح أنك يجب أن تحصل على بعض النُّسَخ.

الاكتشاف المثير للدهشة هو أن الأشخاص وجدوا هذا السبب — الذي لا يُعَدُّ سببًا — أمرًا مُقْنِعًا؛ فقد أذعن ستون بالمائة من الأشخاص للطلب عند عدم تقديم سببٍ، لكن ٩٣ في المائة أذعنوا عند إضافة ذلك «السبب» غير المنطقي، وهي تقريبًا النسبة نفسها عند إضافة السبب الحقيقي. ما الذي يحدث؟

توضِّح لانجر أن الأشخاص لا يفكِّرون أثناء هذا الحوار الذي يبدو معقدًا، فالبشر مستعِدُّون لتقديم صنائع بسيطة للغرباء، خاصةً إذا طلب الغريبُ طلبَه بطريقةٍ مهذبةٍ، وقدَّمَ سببًا لطلبه المزعج. ما يبدو أن التجربة توضِّحه هو أن الشخص يسمع كلمة «لأنني» في الطلب؛ ومن ثَمَّ يعلم أن الغريب قدَّمَ سببًا، «لكن الشخص لا يكلِّف نفسه عناءَ تقييمِ جودةِ ذلك السبب.»

فكرةُ أننا نتصرَّف دون التفكير في تصرفاتنا كما لو كنا نعمل ببرنامج تشغيل آلي، حتى عند انخراطنا في سلوكيات معقَّدة، هي فكرة مألوفة لدى معظمنا. من الواضح أنك لا تحتاج إلى التوجيه الواعي لحركات يديك عند غلق أزرار القميص في الصباح أو ربط الحذاء؛ لقد سيطرْتَ «بالفعل» عن وعْيٍ على هذه الحركات في سنِّ الثانية أو الثالثة، لكنها الآن أصبحَتْ تلقائيةً. والسلوكيات الروتينية يمكن أن تكون أكثر تعقيدًا من حركات بسيطة مثل ربط الحذاء؛ فربما وجدتَ نفسك على الأرجح تقف بسيارتك عند مدخل السيارات في منزلك، وتدرك أنك كنتَ في حلمِ يقظةٍ طوال طريقك إلى المنزل — قلقتَ بشأنِ مشكلةٍ ما أو تخيَّلْتَ إحدى الرحلات — وفي الوقت نفسه التزمْتَ بقوانين المرور، وضغطْتَ على مكابح السيارة ليعبر المارة، وانعطفْتَ المنعطفاتِ الصحيحةَ، وهكذا. يبدو الأمر كما لو أنه يوجد برنامج كمبيوتر في ذهنك تشغِّله عندما تركب السيارة، ويعمل برنامج «الوصول إلى المنزل» دونَ إشرافٍ منك، ويتركك حرًّا لتفكِّر في أشياء أخرى.

يصبح برنامجُ التشغيل الآلي ملحوظًا بصفةٍ خاصةٍ عندما يعمل في لحظةٍ نتمنَّى فيها ألَّا يعمل. إذا كنتَ ترغب في المرور على المتجر الكبير في طريقك إلى المنزل، فربما تجد نفسك أمام منزلك دون أن تكون قد توقَّفْتَ عند المتجر الكبير. إن برنامج «الوصول إلى المنزل» يأمر بالانعطاف صوبَ اليسار عند شارع إيلم، وأنت لم تقاطعه لتحرص على الانعطاف يمينًا كي تذهب إلى السوق. أو لنستخدِمِ المثالَ الذي قدَّمَه ويليام جيمس، عالم النفس العظيم في القرن التاسع عشر، عندما قال: «معروف عن الأشخاص الشاردي الذهن للغاية، أنهم عندما يذهبون إلى غرف النوم لارتداء ملابسهم لتناوُل العشاء، أنهم يخلعون ملابسهم قطعةً تلو الأخرى، وفي النهاية يرقدون في الفراش ببساطةٍ لأن هذا هو الأمر المعتاد عند تأدية الحركات القليلة الأولى في ساعة لاحقة.»2
هذه الظاهرة — المتمثِّلة في أن الوعي قد يسهم قليلًا أو لا يسهم مطلقًا في بدء السلوكيات المعقدة واتخاذ القرارات المعقدة — أحدثَتْ نوعًا من الثورة في علم النفس الاجتماعي. لقد اكتشَفَ الباحثون أن المزيد والمزيد من التفكير الذي يقود حياتنا الاجتماعية يحدث خارج نطاق وعينا.
إليكم مثالًا آخَر: عندما تتحدَّث مع شخصٍ لديه لكنة، هل لاحظتَ من قبلُ أنك نفسك تقلِّد تلك اللكنة، دون أن تلاحظ تمامًا أنك تفعل ذلك؟ هذا مثال على ظاهرة أكثر عموميةً: يقلِّد البشرُ بعضهم بعضًا أثناء التفاعلات الاجتماعية.3 في إحدى التجارب التي توضح هذه الظاهرة، رافَقَ كلَّ شخص من الخاضعين للتجربة شخصٌ آخَر ظنُّوا أنه يخضع للتجربة معهم، لكنه في واقع الأمر كان مساعدَ باحثٍ. طُلِب من الثنائي وصْفُ محتويات صور فوتوغرافية غامضة، وأثناء المهمة بدأ مساعِدُ الباحث يمارس واحدةً أو اثنتين من العادات العصبية، كهَزِّ القدم أو لمس الوجه، فقلَّدَ الخاضعون للتجربة على نحوٍ غير واعٍ سلوكَ مساعد الباحث.
لماذا نقلِّد؟ التقليد يولِّد الألفة، ونحن نحب الأشخاص الذين يشبهوننا. في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس يقول بولس: «صرتُ لليهود كيهوديٍّ لأربح اليهود، وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس، وصرتُ للضعفاء كضعيفٍ لأربح الضعفاء.»4 التشابُه يساعد في الإقناع حتى عندما يكون مبنيًّا على أمر تافهٍ مثل امتلاك التشنُّج العصبي اللاإرادي نفسه، أو أخذ عينة آيس كريم من حجمٍ مشابِهٍ.5 إننا بلا وعي يقلِّد بعضنا بعضًا لتسهيل التفاعلات الاجتماعية.

يتمثَّل الأمر في أن لدينا نمطين من التفاعلات الاجتماعية: نمطًا واعيًا يتضمَّن الاستخدام المنطقي للأدلة؛ فعلى سبيل المثال: عندما يضع النادل الفاتورة على الطاولة ويقول: «آمل أن تكون قد استمتعتَ بوجبتك!» أقول لنفسي إن شريحة اللحم كانت يابسةً بعض اليُبْس، لكن السلطة أُعِدَّتْ على طريقة الخبراء. وبالمقارنة على نحوٍ واعٍ بين الجيد والسيئ، أقدِّم للنادل تعليقًا محسوبًا مثل: «أجل، كانت جيدة جدًّا.» في النمط الثاني، النمط التلقائي، ألاحظ فحسب دلالاتٍ أو إشاراتٍ معينةً تميِّز تعليقَ النادل لي على أنه ينتمي لفئة التفاعلات الاجتماعية، وهي في هذه الحالة «مُجامَلة اجتماعية». قد تكون الفئات الأخرى على هذا النحو: «أحد المعارف يطلب معروفًا صغيرًا»، أو «إنجاز مهمة مع أحد الغرباء». بمجرد أن أحدِّد الفئةَ، يمكنني التصرُّف على نحوٍ ملائم للموقف (إسداء المعروف، أو تقليد الغريب) بقليلٍ من التفكير الواعي أو دونه. في بعض الأحيان تسير هذه العملية العقلية على نحو خاطئ، فنصنِّف على نحوٍ خاطئ ما قاله الشخص، أو يكون السلوك الصادر تلقائيًّا غير مناسب بالمرة. في أكثر من مرة، وضع النادل الفاتورة على الطاولة وقال لي بنبرة وداع: «استمتِعْ ببقية الحلوى!» وأجبتُ قائلًا: «شكرًا، وأنت كذلك.» لقد حوَّلَ عقلي اللاواعي تعليقَ النادل إلى مجامَلةٍ اجتماعية، ثم ولَّدَ عقلي اللاواعي ردًّا ينفع عادةً، لكنه كان في هذه الحالة غير ملائم.

(١) الإقناع غير الواعي

إذا كان لدينا بالفعل نمطان للتفكير الاجتماعي — النمط الواعي والنمط غير الواعي — فهل كل نمط قادر على تقييم الرسائل الهادفة للإقناع؟ هل يمكن أن يحدث الاقتناع خارج وعينا، أو على الأقل، مع قدر قليل من التفكير؟ الجواب هو نعم على نحوٍ قاطعٍ.6

أولًا: دعونا نوضِّح ما «لا» يعنيه الإقناع غير الواعي. ربما سمعتَ عن تأثيرات الإقناع اللاشعوري (أي غير الواعي) في الإعلانات؛ وتتمثَّل هذه الفكرة في أن المُعلِنين يُضَمِّنون في إعلاناتهم رسائلَ لا تُدرَك على نحوٍ واعٍ، لكنها بالرغم من ذلك تؤثِّر على السلوك. على سبيل المثال: قد تظهر كلمات «تناول الفشار» في لقطة واحدة من لقطات أحد الأفلام، على نحوٍ سريعٍ للغاية يكاد لا يدركه العقل الواعي، أو قد تُضاف صورةٌ جنسية مرسومة بطريقة فنية إلى صورة فوتوغرافية لأحد المنتجات؛ على سبيل المثال: دوامةُ الزبدة، إذا أمعنتَ النظر فيها، تبدو شبيهةً بعض الشَّبَهِ بصدر المرأة. تتمثَّل الفكرة في أن الرسالة الخفية أو الرسمة الخفية سوف تُدرَك على الرغم من ذلك على نحوٍ غيرِ واعٍ، فتترك مُشاهِد الفيلم يرغب بشدة في تناول الفشار، وتترك قارئ المجلة يفكِّر في أن نوعًا معينًا من الزبد جذَّاب لسببٍ غير معروف.

هذه الفكرة معروفة منذ خمسينيات القرن العشرين تقريبًا،7 ويبدو أنها معمرة،8 ولعل السبب راجعٌ إلى كونها احتمالية جذابة، إنْ لم تكن مرعبة. لقد وجد الباحثون أنها مثيرة أيضًا، لكن كثيرًا من الأدلة المتراكمة على مدار العقود القليلة الأخيرة تُظهِر أن هذا النوع من الإقناع اللاشعوري لا ينفع. «توجد» بعض الظروف التي يمكن أن تؤثِّر فيها المؤثراتُ التي لا تراها على نحوٍ واعٍ على سلوكك، لكن هذه السلوكيات الخاضعة لهذا المؤثِّر إنما هي مهام مختبرية قليلة الأهمية جدًّا لن يكون لها تأثيرٌ كبيرٌ على حياتك اليومية، منها مثلًا: بأيِّ سرعةٍ تستطيع التأكُّد من أن مجموعةً ما من الحروف تكوِّن كلمةً مثل «خبز» بدلًا من كلمةٍ ليس لها معنًى مثل «بلونتش». لا يمكنك إقناع الناس بشراء الفشار أو غيره من المنتجات بهذه الطريقة.

ما يُقْلِق حقيقةً ليس أنْ تقتنع بأمورٍ خارج نطاق وعيك، بل الخوف الحقيقي هو عندما تكون مُدْرِكًا لهذه الرسائل لكنك لا تدرك أنها تقنعك. إن الأشخاص الذين خضعوا للتجربة وتنازلوا عن استخدام آلة تصوير المستندات كانوا مدركين للطلب، لكنهم بالتأكيد لم يلاحظوا أن استجابتهم حفَّزَها «السبب» الوهمي الذي قدَّمَه القائمُ على التجربة. إن إشارة «السبب المقدم» تخبر العقل غير المنتبه بأن يوافق على أي طلبٍ غير ضار يقدِّمه أحدُ الغرباء. ما الإشارات التي تقول للعقل غير المنتبه: «هذه الرسالة صحيحة على الأرجح»؟

(١-١) الأفكار المألوفة أكثر قابليةً للتصديق

الألفة من أمثلة تلك الإشارات؛ فالأمور المألوفة تبدو موثوقًا فيها وآمنةً ومحبَّبةً وقابلةً للتصديق.9 في تجربة تقليدية تفحص هذه الظاهرة، استمع الخاضعون للتجربة إلى مجموعةٍ من التصريحات مقدَّمة على أنها حقائق غير مشهورة، مثل أن والد الفنان الكوميدي بوب هوب كان إطفائيًّا، أو أن الذراع اليمنى لتمثال الحرية طولها اثنتان وأربعون قدمًا.10 (هذه «الحقائق» ملفَّقة، للتأكُّد من أن الخاضعين للتجربة لا يمكن أن يكونوا قد عرفوا أيًّا منها قبل التجربة.) لاحقًا، عُرِضت عليهم مجموعة من التصريحات التافهة على هذه الشاكلة نفسها، وطُلِب منهم الحكم على احتماليةِ صدقِ كلٍّ منها. بعضُ التصريحات كانت تكرارات للمجموعة السابقة، وحكموا على هذه التصريحات بأن احتمال صدقها أكبر. وظل التأثير على القدر نفسه من الكبر عندما قِيلَ للخاضعين للتجربة أي التصريحات قُدِّمت سابقًا وحُذِّروا من أن «هذه التصريحات قد تبدو حقيقيةً فقط لأنكم سمعتموها مؤخرًا.»11
الأمر الأكثر لفتًا للانتباه هو أن الألفة تؤثِّر على المصداقية «حتى عندما يعلم الأشخاص بضرورة عدم تصديق مصدر المعلومة في ذلك الوقت.» في إحدى التجارب، قِيلَ للخاضعين للتجربة مَن قائلُ كلِّ عبارة؛ على سبيل المثال: «قال جون ييتس: إن ثلاثمائة ألف قلم رصاص يمكن صنعها من شجرة أرز متوسطة.»12 قيل للخاضعين للتجربة: إن العبارات التي قالها الرجال دقيقة دائمة، بينما العبارات التي قالتها النساء غير دقيقة دائمًا. (قيل لنصف الخاضعين للتجربة عكس هذه العلاقة بين النوع والحقيقة.) لاحقًا، قرأ الخاضعون للتجربة قائمةً من العبارات، وطُلِب منهم الحكم على مصداقية كلٍّ منها. قِيل لهم إنهم سمعوا بعض هذه العبارات سابقًا في التجربة، وذُكِّروا بأن بعض هذه العبارات كانت زائفةً. إذن ماذا حدث؟

«ظلت» احتماليةُ مصداقيةِ العبارات المألوفة أكبرَ. لماذا؟ حسنًا، أثناء اختبار الحقائق التافهة عندما يقرأ الخاضع للتجربة: «ثمانية عشر حيوانَ بوسوم حديث الولادة يمكن وضعهم في ملعقة شاي.» فإنه يقول لنفسه: «امممم … يبدو هذا مألوفًا. هل سمعت هذا أثناء التجربة، أم أنها فقط واحدة من تلك الحقائق الغريبة التي يتعلَّمها المرء في مكانٍ آخر؟» إذا لم يتذكر سماع المعلومة أثناء التجربة، فإنه سوف يحكم عليها بأنها صحيحة. لكن حتى إذا تذكَّرَ سماعها أثناء التجربة، فإنه من المحتمل ألَّا يتذكَّر قائلها؛ هل ينتمي إلى النوع الكاذب أم النوع الذي يقول الحقيقة؟

في العموم، معلومات المصدر (من أين سمعنا أحد الأمور ومتى، ومَن أخبرنا به) تكون أقلَّ رسوخًا في الذهن من معلومات المحتوى (فحوى ما سمعناه فعلًا)؛ على سبيل المثال: فكِّرْ كم مرة يحدث أن تتذكَّر أحد الأمور لكنك لا تستطيع تذكُّر مَن أخبرك إياه: «آه، «شخص ما» أخبرني أن هذا الفيلم كان فظيعًا.» ويقل إلى حد بعيد تكررِ حدوث العكس: «أخبرني سام أنه شاهَدَ هذا الفيلم، وأعلم أنه كان لديه رأي عنه … والآن ماذا كان ذلك الرأي؟»

هذا النوع من النتائج يوضِّح لنا سبب نجاح الدعاية، فمن المحتمل أن نسمع معلومة من مصدر نعلم أنه غير موثوق فيه — مثل وزير دعاية حكومة شمولية — ونستبعِد صدقَ المعلومة في ذلك الوقت. لكن لاحقًا توجد فرصة أننا سنتذكَّر المحتوى وننسى أنه جاء من مصدر غير موثوق فيه.

(١-٢) نحن نصدِّق الأمورَ التي يصدِّقها الآخرون

سمة أخرى من سمات الألفة هي معرفة أن أحد الأمور مألوفٌ — ومقبول — لدى الآخرين. يُطلَق على هذا غالبًا «الدليل الاجتماعي»؛ إذ ترى أنَّ الآخرين يجدون هذا الأمر جديرًا بالتصديق. منطق استخدام الدليل الاجتماعي من السهل إدراكه في قرارات الشراء؛ على سبيل المثال: واحدة من أنابيب التصريف في منزلي تصاب بالانسداد ربما مرةً كلَّ عامين؛ ولذلك أشتري على نحوٍ منتظم منظِّفَ أنابيب التصريف. عندما كنتُ في المتجر، وجدتُ نفسي في مواجَهةِ ست علامات تجارية، فكيف من المفترض أن أختار؟ يمكنني اختيار الأرخص، لكن أنبوب التصريف المسدود يُعَدُّ مصدرَ إزعاجٍ حقًّا، حتى إنني لا أريد المخاطرة بشراء منتج أقل جودةً. آه، يوجد ليكويد بلامر، إنها علامة تجارية مألوفة، طالما شاهدتُ إعلاناتِ هذا المنتج منذ أنْ كنتُ طفلًا؛ إنه منتج ليس مألوفًا فحسب، بل يمكنني استنتاج أن الناس يستخدمونه بالضرورة، فعلى أقل تقدير، من غير الممكن أن يكون شنيعًا، فلو كان المنتج لا ينفع لَتوقَّفَتِ الشركة عن العمل بالتأكيد؛ لذلك بدلًا من شراء علامة تجارية لم أسمع عنها مطلقًا (وهي على الأرجح على القدر نفسه من الفعالية)، فإنني أدفع المزيدَ لشراء ليكويد بلامر.

يمكن أن يصبح الدليل الاجتماعي الدقيق مقبولًا على نحوٍ واسعِ الانتشار؛ على سبيل المثال: ذكرتُ في المقدمة أن حوالي ٩٠ في المائة من الأمريكيين الناضجين يعتقدون أن الناس يتباينون من حيث أساليب التعلُّم.§ لا يوجد في واقع الأمر أية أدلة مختبرية على أن الأشخاص يتعلَّمون بأساليب مختلفة جذريًّا. لكن المدهش هو أنه لا يوجد شكٌّ تقريبًا في هذا الأمر لدى الأمريكيين. لا أعتقد أنه خطر على بال معظم الناس أن حقيقة فكرة أساليب التعلم محل للشك؛ إن الأمر أشبه بالشك في النظرية الذرية؛ فهي فحسب واحدة من تلك الأمور التي استنتج «الناس» أنها حقيقية، فإذا كان الجميع يعرفونها، فلا بد أن تكون حقيقية.

(١-٣) نحن نصدِّق الأشخاص الجذابين

أيضًا من الصحيح أن الإعجاب — أيِ الإعجاب بأحد الأشخاص — يجعل ما يقوله ذلك الشخص أكثر مصداقيةً؛ حتى إن إعجابنا السريع بأحد الغرباء يؤثِّر على مدى المصداقية التي نشعر بها نحوه. لا بد من وجود سببٍ لاستخدام المعلنين أشخاصًا جذَّابين في إعلاناتهم. بالفعل، يوجد سببان؛ أولًا، وهو ليس بالأمر المفاجئ: من المرجَّح بدرجةٍ أكبر أن يقول الأشخاص الذين عُرِضَتْ عليهم إعلاناتُ منتجاتٍ وهمية في أحد المختبرات، إنهم أكثر استعدادًا لشراء أحد المنتجات إذا كان الشخص الظاهر في إعلان المنتج جذَّابًا عمَّا إذا كان شخصًا ذا ملامح عادية.13 (يقول زميلي ديفيد دانيال إنه من السهل التمييز بين العلماء الحقيقيين الساعين إلى تطبيق الأبحاث على التعليم من مرحلة رياض الأطفال حتى المرحلة الثانوية، وبين المحتالين؛ فالمحتالون أكثر جاذبيةً وشعرُهم مصفَّفٌ على نحوٍ جميل. ونظرًا لكوني أصلع، فإنني أعتقد أن هذا التعليق يُظهِر قدرًا كبيرًا من التبصُّر.)
الطريقة الثانية للإقناع عن طريق الجاذبية ربما يستغرق تطوُّرها وقتًا أطول لكنها أيضًا أكثر قوةً؛ ففي بعض الأحيان لا يكون الهدف من وجود الشخص الجذاب إعطاء رسالةٍ لنا على الإطلاق، بل يكون سبب وجوده ببساطة أن يبدو جذَّابًا (انظر الشكل ١-١). إلى أيِّ مدًى يمكن لامرأةٍ جذَّابة أن تساعد في بيع سيارة؟ تأمَّلْ حالةَ سيارة هوندا ٦٠٠ كوبيه (انظر الشكل ١-٢)، فهي سيارة صغيرة غير باهظة الثمن، تبدو مثل الصندوق إلى حدٍّ ما كانت تباع في أوائل سبعينيات القرن العشرين. آخِر شيء يمكنك أن تقوله عنها هو أنها مثيرة.
fig11
شكل ١-١: كثير من المُعلِنين يستخدم عارضين جذَّابين بطريقة واضحة لبيع المنتجات. على الرغم من أننا نعتقد أن هذه الطريقة لا تؤثِّر علينا، فإنها تجعلنا فعلًا ننظر إلى منتجاتهم بمزيدٍ من الاستحسان.
fig12
شكل ١-٢: سيارة هوندا ٦٠٠ كوبيه التي يعتبرها معظم الأشخاص مفتقرةً إلى المظهر الجذَّاب.

تفتق ذهن هوندا عن دعاية ماهرة تبرز السعر المنخفض للسيارة. أظهرَتِ الصورة ثماني نساء جذَّابات يَقِفْنَ خلف السيارة. أوحى النصُّ الدعائي بأنه إذا أنفق الرجلُ القليلَ من المال على سيارته، فإنه سيكون معه المزيد من المال لمواعَدة تلك النساء الجميلات.

يعتقد معظم الأشخاص أن الإعلانات لا تؤثِّر عليهم إلا قليلًا … في حين أنهم يظنون أنها تؤثر «بالفعل» على الأشخاص الآخَرين.14 من المحتمل ألَّا يقنع إعلان هوندا القراءَ من خلال سلامة استراتيجية الاستثمار؛ المُواعَدة المقترَحة. في الحقيقة، أظن أن معظم الرجال سوف يرفضونها، لكنها من المحتمل أن تنجح عن طريق الإشراط، وهو نوع التعلُّم نفسه الذي جعل لعابَ كلبِ بافلوف يسيل عند سماع صوت الجرس (انظر الشكل ١-٣).
fig13
شكل ١-٣: الخطوات الثلاث للتعلُّم من خلال الإشراط الكلاسيكي.

قبل أن يبدأ بافلوف التجربة كان يوجد ارتباط طبيعي لدى الكلب بين الطعام وسيلان اللعاب، فإذا وضعت الطعام في فم الكلب، فإنه سوف يفرز اللعاب كجزء من عملية الهضم. بدأت التجربة حقًّا في الخطوة الثانية، وفيها قدَّمَ بافلوف بانتظامٍ الجرسَ والطعامَ معًا، وبعد عددٍ كافٍ من التكرارات، أصبح الجرس والطعام مرتبطين، وأصبح الجرس كافيًا لإثارة اللعاب، وهذا موضَّح بوصفه الخطوة الثالثة.

لا يهتمُّ المُعلِنون بإثارة لعابك، بل يهتمون بتغيير استجابتك العاطفية تجاه منتجاتهم، ويمكن فعل ذلك من خلال الإشراط الكلاسيكي. إن سيارة هوندا ٦٠٠ كوبيه يمكن أن تبدو مثيرةً إذا اقتُرِنت بأمرٍ يعتقد الناس بالفعل أنه مثير (انظر الشكل ١-٤).
fig14
شكل ١-٤: يمكن إحداث إشراط كلاسيكي للاستجابات العاطفية — مثل الشعور الإيجابي عند رؤية نساء جذَّابات — بالسهولة نفسها التي يمكن أن يحدث بها الإشراط الكلاسيكي للعاب.
تمثِّل الخطوة الأولى استجابةً موجودة سابقًا، وتتمثَّل في هذه الحالة في الشعور الإيجابي الذي يراوِد قارئَ المجلة عند رؤية النساء الجذابات. في الخطوة الثانية تكون رؤية سيارة هوندا ٦٠٠ كوبيه مقرونةً برؤية النساء الجذابات. إذا تكرَّرَتْ هذه الخطوة على نحوٍ كافٍ (أيْ إذا رأى الشخص إعلانَ سيارة هوندا ٦٠٠ كوبيه على نحوٍ متكرر)، ففي النهاية ستثير رؤيةُ السيارة الاستجابةَ الشعورية التي تحفِّزها رؤيةُ النساء الجذَّابات.# لذلك لستُ في حاجةٍ لتصديق المحتوى الظاهر للإعلانات كي تؤثِّر عليك تلك الإعلانات. على الأرجح لم يكن الهدف من الإعلان حث الشباب القادرين على شراء سيارة فورد15 موستانج طراز عام ١٩٧٢ (التي يبلغ ثمنها تقريبًا ٣ آلاف دولار) على شراء سيارة هوندا (التي يبلغ ثمنها تقريبًا ١٧٠٠ دولار) كي يستطيعوا استخدام المال الفائض في جذب ومواعَدة النساء الجميلات، فمن الصعب إقناعهم بذلك، بل كان الهدف هو التقليل شيئًا ما من المظهر غير الجذاب للسيارة هوندا، بحيث يفضِّل الشخص الذي يستطيع إنفاق ألفَيْ دولار فقط شراءَ سيارة هوندا بدلًا من سيارة فولكس فاجن بيتل.

لعل أفضل مثال على تأثير الإشراط العاطفي نراه في الخطأ الشهير الذي تمثَّلَ في تقديم منتج «نيو كوك». كانت أوائل ثمانينيات القرن العشرين وقتًا عصيبًا لكوكاكولا؛ فقد كانت العلامة التجارية التي طالما سيطرَتْ على أقرب منافسيها، بيبسي، تفقد حصتها السوقية. بثَّتْ بيبسي سلسلةً من الإعلانات المؤثِّرة، بها مشاهد مأخوذة بواسطة كاميرا خفية تُظهِر عملاء كوكاكولا المخلِصين يقارنون بين كوكاكولا وبين بيبسي في اختبارِ تذوُّقٍ أعمى ويفضِّلون طعم بيبسي. زعمت بيبسي أن اختبارات التذوُّق تلك أُجرِيت بطريقةٍ صارمةٍ، وأن أكثر ما يزيد عن نصف عملاء كوكاكولا المعتادين فضَّلوا بالفعل طعم بيبسي.

في حركةٍ تبدو مذعورة إذا استرجعنا الماضي، قرَّرَ المسئولون التنفيذيون في شركة كوكاكولا تغييرَ طعمِ أهم منتجاتها. قُدِّم منتج نيو كوك عام ١٩٨٥ وكرهه المستهلكون فورًا، وتمامًا، وعلى نحوٍ نهائيٍّ. جرى توجيه الانتباه إلى حقيقةِ أن اختبارات التذوُّق الشهيرة التي أجرَتْها بيبسي لم تضاهِ الطريقةَ التي يستخدم بها الناس المنتج فعليًّا؛ فعلى العموم، إنك لا ترشف رشفات قليلة من كولا، بل تشرب بالفعل ثماني أوقيات أو أكثر. وتقوم الحجة على أن بيبسي يبدو طعمها جيدًا في البداية لأن بها سكرًا أكثر بعض الشيء من كوكاكولا، لكن بعد بضعة أوقيات يفضِّل الناس كوكاكولا. ربما يكون هذا صحيحًا، لكن هذا لا يمكنه تفسير الصدمة العاطفية الغاضبة التي أعقَبَتْ تقديمَ منتج نيو كوك؛ فقد كان الخط الساخن للمستهلكين في الشركة يتلقَّى ثمانيةَ آلاف مكالمة يوميًّا، كلها تقريبًا شكاوى. وعند ظهور إعلانات نيو كوك على الشاشات في الأحداث الرياضية كانت الجماهير تصيح في ازدراءٍ.16

لم يكن سبب غضب الناس لاختفاء مشروب كوكاكولا التقليدي راجعًا فحسب إلى اعتقادِ أن طعمه كان أفضل، بل كان الناس متعلِّقين عاطفيًّا بمنتج كوكاكولا. لقد قضَتْ مؤسسةُ كوكاكولا عقودًا وأنفقَتْ ملايين لا تُعَدُّ ولا تُحصَى في تكوين ارتباطٍ في عقولِ الناس بين مشروب كوكاكولا والوطنية، بينه وبين سانتا كلوز، بينه وبين حُب الشباب، وهكذا. وبعد ذلك أخذت المؤسسة كلَّ هذه الأمور، وقدَّمت وعدًا تمثَّلَ في الطعم الأفضل لمنتج نيو كوك. الأمر أشبه بالذهاب إلى منزلِ أحدِ المراهقين وقول: «أنت تعلم كيف تلحُّ عليك والدتك دائمًا، وكيف أنها لن تشتري لك الهاتف الخلوي الجميل الذي تريده، وأنها تحرجك أمام الملأ، أليس كذلك؟ لقد وجدتُ لك شخصًا آخَر لن يفعل هذه الأمور. إليك الأم الجديدة!» ربما تكون «للأم الجديدة» سمات موضوعية لا تمتلكها «الأم القديمة»، لكن التعلُّق العاطفي «بالأم القديمة» ليس من السهل استبداله.

(١-٤) نحن نصدِّق الأشخاص الذين يشبهوننا

إننا نحب (ومن ثَمَّ نصدِّق) ليس فقط الأشخاص الجذابين، بل أيضًا الأشخاص الذين نعتقد أنهم يشبهوننا. أُجرِيت التجربة الكلاسيكية التي درسَتْ هذه الظاهرةَ في ربيع عام ١٩٥٤، قُبَيْل قرارِ المحكمة العليا الأمريكية بشأن إلغاء الفصل العنصري في الكليات؛ فقد طُلِب من طلبة العام الأول الجامعي في كليةٍ للسُّودِ الاستماعَ إلى بثٍّ إذاعيٍّ قال الضيفُ خلاله إنه إذا حكمَتِ المحكمةُ العليا بعدم دستورية الفصل العنصري، فسيكون مرغوبًا على الرغم من ذلك بقاءُ بعض كليات السُّودِ الخاصة مقتصرةً على السود، حفاظًا على ثقافة وتاريخ وتراث السُّود. كان معروفًا أن أغلبية كبيرة من الخاضعين للتجربة عارَضوا تلك الفكرة، وعلى الرغم من ذلك، فلقد وجدوا هذا الحديث مُقْنِعًا إلى حدٍّ بعيدٍ عندما قُدِّم المتحدِّث بصفته شبيهًا لهم؛ إذ وُصِف بأنه رئيسُ مجلس الطلبة في إحدى كليات السُّودِ البارزة. وكان الطلاب السُّود أقلَّ اقتناعًا بكثيرٍ عندما وُصِف المتحدِّث بأنه رجلٌ أبيض بالغ.17
إن الأشخاص الذين يشبهوننا يبدون لنا أكثرَ مصداقيةً، وتقلُّ في عيوننا احتماليةُ أنْ يوجِّهونا على نحوٍ خاطئ. لكن بطبيعةِ الحال احتمالية كونهم خبراء ليست كبيرةً دائمًا. في بعض الأحيان يكونون خبراء، كما يحدث حين يجد المعلمُ رسالةً عن إحدى الممارسات الدراسية أكثرَ مصداقيةً لأنه تلقَّاها من معلمٍ آخَر. في هذه الحالة، يجد المعلم الرسالةَ أكثرَ مصداقيةً، ليس فقط لأنه يستطيع التوحُّد مع المعلم، بل أيضًا لأن خبرةَ المعلم وثيقةُ الصلة بالرسالة. ويظلُّ تأثيرُ الخبرة منطبقًا حتى في حالة غياب تأثير التشابه مع الذات. باختصارٍ، يعتقد الناسُ أن الخبراء يعرفون جيدًا ما يتحدَّثون عنه.18 هذا يبدو منطقيًّا فحسب، أَلَا يجب أن أصدِّق طبيبَ الأطفال بدلًا من صديقي مصمِّم الجرافيك عندما يقدِّم كلٌّ منهما اقتراحًا مختلفًا لعلاج السعال الجاف المصاب به طفلي؟ بالتأكيد، لكن كما سنرى في الفصل السادس، فإن موضوع الخبرة أكثر تعقيدًا ممَّا قد تظنُّ.

•••

دعونا نتوقَّف ونذكِّر أنفسَنا بالصورة كاملة؛ إننا نتحدَّث عن سبب تصديق الناس لما يصدِّقونه، ولا سيما طريقة تقييمهم المعلومات الجديدةَ. لقد أشرتُ إلى أننا في الغالب نعمل ببرنامجِ تشغيلٍ آلي، حتى عند تعرُّضنا لرسائل تهدف إلى إقناعنا. وبدلًا من التقييم الدقيق للحقيقة التي تمثِّل أساسَ الرسالة ومنطقَ الحجة، فإننا نعتمد على ما نسميه غالبًا السمات «الثانوية» للرسالة (على النقيض من الحقائق والمنطق اللذين يمثِّلان السمات الأساسية). تشمل السماتُ الثانوية أمورًا مثل ألفة الرسالة، والشعور الذي تثيره فينا، وجاذبية مصدر الرسالة، ومدى توحُّدنا معه، والخبرة الظاهرة لمصدر الرسالة.

لكننا بالتأكيد نفكِّر «لبعض» الوقت؟ حسنًا، على الأرجح لن أفكِّر بدقة كبيرة في إعلان السيارة أثناء وقوفي في الطابور في البنك. لكن ماذا لو كنتُ أرغب في شراء سيارة؟ ألن أولي مزيدًا من الانتباه إلى الإعلان؟ ألن أُقيِّم معنى عبارة: «لديها أفضل سجل إصلاح لأي سيارة أمريكية من فئتها»، وأُقيِّم ما إذا كانت السيارة حقًّا «مثال الرفاهية»؟

هذا صحيح، فمن المحتمل إلى حد بعيد أن نتحرَّر من برنامج التشغيل الآلي ونُقَيِّم الرسائلَ الهادفة للإقناع حقًّا، عندما ندرك أن المخاطر كبيرة. وتكون المخاطر كبيرة عندما تكون الرسائل الهادفة للإقناع متعلِّقةً بنا شخصيًّا (كما هو الحال عندما نكون راغبين في شراء سيارة)، أو عندما نعتقد أنه من المحتمل مطالبتنا بوصف مميزات وعيوب الحجة (مثلًا: عندما نتخذ قرارًا في العمل ويطلب منا المدير تفسيرًا له).

إلا أن الرغبة في تقييم الرسالة تختلف عن تقييمها الفعلي، وتقييمُ الرسالة فحسب يختلف عن تقييمها بكفاءة.

(٢) أنا أحاول التفكير لكن لا شيء يحدث19

لسوء الحظ، ما زلنا نقترف الكثير من الأخطاء عند تقييم الحجج، حتى عندما لا نكون تحت تأثير برنامج التشغيل الآلي، وعندما نبذل حقًّا أقصى ما في وسعنا للتفكير في الأمور؛ فما السبب؟

يلزم وجود أمرين كي نُقَيِّم إحدى الحجج على نحو ناجح: لا بد أن نكون متحمِّسين؛ فكما ذكرتُ، يحدث هذا عادةً عندما تمثِّل الحجة بعضَ المخاطرة الشخصية بالنسبة إلينا، أو عندما نعتقد أنه من المحتمل مطالبتنا لاحقًا بتلخيصها أو بتفسير أحد القرارات. إلا أنه بالإضافة إلى الرغبة في تقييم الحجة، لا بد أيضًا أن نكون «قادرين» على فعل ذلك، وهنا قد نصادِفُ بعضَ المعوقات الكبيرة:

أولى هذه المعوقات هي الانتباه. افترِضْ أنني معلم ومطلوب مني حضور عرض يقدِّمه مسئول المنطقة التعليمية الذي يصف برنامجَ جدولةٍ جديدة لمدرستي، إلا أنني لم أحصل على قسط كبير من النوم في الليلة البارحة، والجو دافئ في قاعة المحاضرات. أحاول أن أُبقِي ذهني مركزًا على ما يقوله المتحدِّث، لكن عيد ميلاد زوجتي في اليوم التالي، ولم أخطِّط لأيِّ نوعٍ من الاحتفالات، وتخطر على بالي أفكارٌ متعلقة بالأمور التي يمكن أن أشتريها في طريقي للعودة إلى المنزل. باختصارٍ، أنا «أرغب» في الاستماع، لكنني مُتعَب ومشتَّت، ولا أستطيع حقًّا التفكيرَ في حجة المتحدث فيما يخص السبب الذي يجعل هذا التغيير يوفر المال ويفيد الطلاب، دون أن يتطلَّب مزيدًا من العمل من جانب أعضاء هيئة التدريس.

قد يكون من الصعب تقييم قوة حجة المسئول والحكم على صدق الحقائق التي يقتبسها عندما أكون مُتعَبًا ومشتَّتًا، لكن ملاحظة الإشارات الثانوية للرسالة ليست أمرًا صعبًا على الإطلاق؛ إذ أستطيع فعل ذلك حتى عندما أكون مُتعَبًا ومشتَّتًا. إنني ألاحظ أن المتحدث جذَّاب، وأسلوبه وديٌّ وصادِق، وهو يذكر عدةَ مرات تجارِبَه الخاصة في الفصل؛ لذلك أعلم أنه معلم مثلي. وحتى على الرغم من أنني لا أتابع حقًّا حجته، فإنه يبدو واثقًا من نفسه إلى حدٍّ بعيد، ويبدو أنه يسرد الكثيرَ من الأسباب الدالة على كون هذه الفكرة جيدة، ومن ضمن ما يسرده اقتباساتٌ من بعض خبراء الأبحاث.

عندما يقدِّم شخصٌ ما إحدى الحجج، ونكون مُتعَبين لدرجةٍ لا تمكِّننا من فهم ما يقول في واقع الأمر، فإن معظمنا لا يُعرِض عن الحُكْم، على الرغم من معرفتنا أن من الحصافة عدم التسرُّع بالحكم الآن. أيضًا من المرجَّح أن نستخدم الإشارات الثانوية. وعلى الرغم من أنني لن أغادر قاعةَ المحاضرات كمؤيد متحمِّس للخطة الجديدة، فسوف أغادرها على الأرجح ولديَّ إحساسٌ غامض بأن الخطة ستكون لا بأسَ بها.

افترَضِ الآنَ أنني لستُ مُتعَبًا ومشتَّتًا، وأن مسئولَ المنطقة التعليمية يُلقِي حديثه، وأوليه انتباهي الكامل، إلا أنني ما زلتُ لا أفهم حديثه؛ فهو يشرح كيف أن تغيير الجدول يوفِّر المال، لكن الشرح لا يبدو مفهومًا لي. إنه يؤكِّد على أن الجميع سوف يعملون الساعات نفسها وبالمرتَّب نفسه، لكن عندما يتعلَّق الأمر بجزء المدَّخرات، فإنه يستخدم مصطلحات محاسبية لا أفهمها. والأمر نفسه يحدث عندما يتحدَّث عن البحث الذي من المفترض أنْ يوضِّح أنَّ هذا الجدول الجديد يساعد الطلبة، فهو لا يقول ببساطة: «يوضح البحث أنه فعَّال»، بل يصف في واقع الأمر البحثَ بالتفصيل، وهذا أقدِّره … لكنها تفاصيل «زائدة» عن اللازم. إنه يتحدَّث كما لو كان جميع الحضور باحثين، ومرة أخرى، أنا لا أتابعه حقًّا. وفي نهاية العرض، طرح أحدُ الأصدقاء الذين أعلم أنه متعمِّق كثيرًا في أمور الأعمال سؤالًا متعلقًا بتفاصيل المحاسبة، وأجاب المتحدِّث على الفور، وهزَّ صديقي رأسَه راضيًا على نحوٍ واضح. وبعد فترة قليلة، سأل شخصٌ لا أعرفه جيدًا سؤالًا متعلقًا بالدراسات البحثية، ومرةً أخرى أجابه المتحدِّث على الفور، وبَدَا أن السائل يعتقد أن الجواب جيد.

مثلما تفعل بالضبط عندما تكون مُتعَبًا، إذا كانت الحجة تعجُّ بالمصطلحات التقنية التي تعييك عن فهمها، فإنك تستخدم الإشارات الثانوية:20 جاذبية المتحدِّث وإعجابك به، وحقيقة توحُّدك معه وأنه يبدو واسعَ الاطِّلاع، والدليل الاجتماعي المتمثِّل في أن بقية الحاضرين للعرض يبدو عليهم الاقتناع؛ ومن ثَمَّ، فإن أول تحديات التقييم النقدي للأبحاث العلمية في التعليم واضحٌ للغاية. إننا نتحدَّث عن المعلومات التقنية الصعبة التقييم، وأنت تعلم أن المتحدِّث يستطيع التلاعب بالنتائج أو الاقتصار على اقتباس الدراسات التي تؤيِّد موقفَه والتغاضي عن الدراسات التي لا تدعمه، ومن المحتمل أن يفلت بفعلته، إلا إذا كنتَ تعرف المادةَ البحثية على نحوٍ جيد جدًّا.
ربما تعتقد أن الناس ستمتنع بالتأكيد عن استخدام الإشارات الثانوية عندما تكون المخاطرة كبيرة، إلا أنهم لا يفعلون ذلك، فحتى عندما نختار أحدَ الرؤساء، فإننا نهتم كثيرًا بجاذبية المرشح و«الشعور» الذي يثيره فينا، أكثر من اهتمامنا بأفكاره.21 مثال آخَر يأتينا من التعليم العالي: إن اختيار الكلية من المؤكَّد أنه قرار خطير، ومن المفترض أن يتفكَّر فيه الناس بعنايةٍ، إلا أن مقارنة الكليات المرشَّحة عمليةٌ معقدةٌ؛ ولذلك يستخدم الآباء والأبناء الإشاراتِ الثانويةَ التي تشمل: «السمعة» العامة (وهذا مجرد اسم آخَر للدليل الاجتماعي)، ومن الغريب أنهم يستخدمون السعرَ أيضًا، فعندما نكون غيرَ متأكِّدين من جودة المنتج، فإننا نستخدم السعرَ كدليلٍ لنا؛ فما دام باهظَ الثمن، فهو جيد بالتأكيد. قد تذهب النظريةُ الاقتصادية التقليدية إلى أن زيادة مصاريف الدراسة سوف تقلِّل عددَ الأشخاص الراغبين في الالتحاق بالكلية، إلا أن العكس هو الصحيح في حقيقة الأمر؛ فزيادةُ مصاريف الدراسة «يزيد» عدد المتقدِّمين للالتحاق بالكلية.22

يوجد معوق آخَر من معوقات محاولة تقييم قوة الحجة، وربما يكون أكثر المعوقات إزعاجًا. إن كلَّ شخصٍ منا يتردَّد كثيرًا في تغيير معتقداته؛ إننا نحب تخيُّلَ أنفسنا قضاةً غير متحيِّزين، يَزِنون الأدلةَ بعقلانيةٍ، ومستعِدِّين لقبول أي استنتاجٍ تشير إليه الحقائق؛ لكننا لسنا كذلك. يُظهِر قدرٌ هائل من الأبحاث أننا نميل إلى استنتاجِ أنَّ الأدلة الجديدة تدعم ما نعتقده بالفعل، وإذا وسَّعنا نطاقَ التشبيه، فإننا لسنا قضاةً يَزِنون الأدلةَ، بل نحن محامون يجمعون أدلةً تخدم قضيتهم، ونحن لا نبني قضيتَنا لإقناع أحدِ المحلفين، بل لإقناع أنفسنا. إننا نسعى لإقناع أنفسنا بأن معتقداتنا طالما كانت صحيحةً، وأن المعلومات الجديدة الماثلة بين أيدينا تؤكِّد فحسب ما علمناه بالفعل؛ ويُطلَق على هذا الميل «التحيُّز التأكيدي»، ويؤثِّر على كل مراحل التفكير المتمثِّلة في: المعلوماتِ التي نسعى للحصول عليها، وطريقةِ تفسيرنا للمعلومات التي نجدها، وطريقةِ تذكُّرنا لها فيما بعدُ.

إليكم مثالًا بسيطًا عن تحيُّزنا عندما نجمع المعلومات: افترِضْ أنني تحدَّيْتُك في تخمين الرقم الموجود في بالي، وأخبرتُك أنه ما بين الواحد والعشرة، لكنْ بدلًا من جعلك تخمِّن تخمينًا مباشِرًا، سأطلبُ منك توجيه أسئلة بنعم أو لا لاستنتاج الرقم. افترِضْ أنك تعلم أنني أعتقد أن سبعة هو رقم حظِّي؛ لذلك ستخمِّن أنني اخترتُ الرقم سبعة. لديك افتراضٌ، والآن يجب أن تجمع بعض المعلومات لاختبار هل الافتراض صحيح. فكِّرْ في ذلك: يمكنك أن تسألني: «هل الرقم فردي؟» أو يمكنك أن تسألني أيضًا: «هل الرقم زوجي؟» يشير التحيُّز التأكيدي إلى ميلنا للحصول على المعلومات التي تؤكِّد افتراضنا، فإذا كنتَ تفترض أن الرقم فردي، فإن احتمال أن تسأل: «هل الرقم فردي؟» أكبر من احتمال سؤالك: «هل الرقم زوجي؟»23
إن التحيُّز في ممارسةِ لعبةِ تخمينٍ لا يضرُّ، لكنَّ السعي للحصول فقط على تأكيدٍ للمعلومات في سياقاتٍ أخرى قد يؤدِّي إلى مشكلةٍ، فمن الممكن أن يكون افتراضك خاطئًا — بل هو خاطئ جدًّا — لكنك على الرغم من ذلك قد تجد بعضَ الأمثلة الإيجابية، وتلك الأمثلة قد تجعلك تعتقد أنك محق. افترِضْ أنني أُجرِي مقابلاتِ عملٍ، وأحاوِر متقدِّمًا للوظيفة يعرفه أحدُ العاملين في المكتب. أخبَرَني زميلُ العمل أن المتقدِّم شخصيةٌ منطوية بعض الانطواء. إن التحيُّز التأكيدي سيزيد من احتمال توجيه أسئلة «تفترض» أن المتقدِّم للوظيفة انطوائي، وسيبدو الشخص على هذا النحو.24 ويوجد ما أهو أسوأ من ذلك. افترِضْ مثلًا أنني طبيب، ويوجد بعض أعراضٍ تقودني إلى الاشتباه في أن أحد المرضى مصابٌ بمرضٍ معين؛ أليس من المحتمل أن يقودني التحيُّز التأكيدي إلى طلب فحصوات ربما تؤكِّد تشخيصي، بدلًا من طلب فحوصاتٍ أخرى؟ الجواب هو نعم،25 على الرغم من أن الأطباء الأكثر خبرةً ربما يبلون بلاءً أفضل في مقاوَمة هذا الميل.26
لا يقتصر التحيُّز التأكيدي على طريقة سعينا للحصول على المعلومات؛ فمن المحتمل إلى حدٍّ بعيد أن «نلاحظ» الأدلة التأكيدية، ونتجاهل الأدلة النافية أو نرفضها. أثبتَتْ هذه الظاهرة لأول مرة في تجربة بارعة بالاستعانة بقاعات محاضرات إحدى الكليات.27 ظهر أحد القائمين على إجراء التجربة في دورة دراسية في إحدى الكليات، وأخبر الطلبة أن أستاذهم المعتاد سافَرَ خارج البلدة، وسيصل أستاذٌ بديل له قريبًا. كان الأستاذُ المعتاد قد أعطى الإذنَ (لمُجْرِي التجربة) بجَمْع آراء الطلبة حول الأستاذ البديل كجزءٍ من دراسةٍ بحثيةٍ تُجرَى حاليًّا، ولتوفيرِ قليلٍ من المعلومات عن خلفية البديل، قال مُجْرِي التجربة إنَّ كلَّ طالبٍ يمكنه قراءةُ سيرةٍ مختصرةٍ للأستاذ البديل. استلَمَ كلُّ طالب فقرةً مكتوبة، وكانت السِّيَر كلها متطابقةً، مع وجود استثناءٍ واحدٍ حاسم؛ أَلَا وهو أن نصف الطلبة رأوا هذه الجملة كجزءٍ من السِّيرة: «الناس الذين يعرفونه يعتبرونه شخصًا قاسيًا نسبيًّا، ومجتهدًا، ونقديًّا، وعمليًّا، وحازمًا.» وبالنسبة إلى الطلبة الآخَرين، تبدَّلَتْ عبارةُ «قاسيًا نسبيًّا» لتصبح «ودودًا جدًّا». بطبيعة الحال، لم يكن الأستاذ البديل يعرف مَن شاهَدَ السيرة الذاتية من الطلاب؛ وبعد المحاضرة، شعر الطلبة الذين توقَّعوا رؤيةَ شخصٍ ودودٍ بأنهم رأوا شخصًا ودودًا بالفعل، وقيَّمُوا الأستاذَ البديل على أنه أكثرُ مراعاةً للمشاعر، وأكثرُ دماثةً، وأكثرُ خفةَ ظلٍّ مقارَنةً بالطلبة الذين توقَّعوا أنْ يكون الأستاذُ البديلُ متبلِّدَ العواطف.
إننا نرى ما نعتقد أننا سنراه، وهذا يساعدنا في فهم كيف يمكن أن تستمر التصوُّرات النمطية؛ على سبيل المثال: المتعصِّب الذي يعتقد أن الأمريكيين ذوي الأصل الأفريقي كسالى، سوف يميل إلى ملاحَظةِ وتذكُّرِ أيِّ مثالٍ على الكسل يلاحظه في الأمريكيين ذوي الأصل الأفريقي؛ ومن ثَمَّ، سوف يلاحِظ المتعصِّب (ويتذكَّر) أي مصادمة مع موظف متجر متكاسِل أسود، لكن المعاملة نفسها مع موظف أبيض سوف تمرُّ دون ملاحظة، أو سوف يفترض المتعصِّب أن الموظف لديه عذْرٌ مشروع لكونه بطيئًا نسبيًّا.28
ينطبق التحيُّز التأكيدي أيضًا على طريقة تفسيرنا للمعلومات الغامضة؛ إذ نفسرها على أنها متوافقة مع معتقداتنا؛ على سبيل المثال: في إحدى الدراسات، عُرِض على الخاضعين للتجربة حقائق صحيحة كانت متعلِّقة بالسياسيين، أظهرَتْ أنهم يناقضون أنفسهم، وهكذا قرأ الخاضعون للتجربة أنه عام ١٩٩٦ قال جون كيري إن نظام الضمان الاجتماعي لا بد من إصلاحه بما في ذلك من خفض الاستحقاقات ورفع سن التقاعد، ثم قِيل للخاضعين للتجربة إنه خلال الحملة الرئاسية عام ٢٠٠٤ وعَدَ كيري بأنه لن يخفِّض أبدًا استحقاقات الضمان الاجتماعي أو يرفع سنَّ التقاعُد. عندما سُئِل الخاضعون للتجربة عن رأيهم في ذلك، عابوا جميعهم تقريبًا على كيري تناقُضَه. هذا ليس مفاجئًا إلى حد بعيد، بل الأمر المثير حقًّا في التجربة هو ما يلي: أُعطِي الخاضعون للتجربة تفسيرًا محتملًا لتناقُض كيري؛ إذ قيل لهم إنه عام ١٩٩٦ كان علماء الاقتصاد يعتقدون أن نظام الضمان الاجتماعي سوف يفلس عام ٢٠٢٠، وأن هذا الإجراء العاجل كان ضروريًّا لإنقاذه، أما في وقت بيان حملته الانتخابية، فقد عدَلَ علماءُ الاقتصاد عن رأيهم، وبَدَا أن النظام لم يَعُدْ في خطر محدق. هذا التصريح الثالث جعل عدولَ كيري الظاهر عن رأيه يبدو غامضًا؛ هل استجاب عقلانيًّا للظروف الاقتصادية المتغيرة، أم عدَلَ عن رأيه كي يستطيع أن يَلْقَى استحسانَ قطاعٍ سياسيٍّ مهم من المؤيدين؟ بمجرد أن كانت المعلومات غامضة، ظهَرَ التحيُّزُ التأكيدي في أكمل صوره. بعض الخاضعين للتجربة الذين عرفوا أنفسهم كديموقراطيين اعتقدوا أن تغيُّر موقف كيري كان مبرَّرًا على نحوٍ كامل، في حين اعتقد الجمهوريون أن كيري كان يستخدِم التوقُّعات الاقتصادية كذريعةٍ، وأنه مخادع على نحوٍ واضح.29
حتى لو «أُجبِرنا» على الاعتراف بأن بعض الأدلة تعارض معتقداتنا، وحتى لو كانت هذه الأدلة من غير الممكن تغييرها في عقولنا كي تبدو غامضة، فإن لدينا على الرغم من ذلك طريقةً أخرى للحفاظ على معتقداتنا، أَلَا وهي: وضْعُ معيارٍ لأدلة النفي أعلى من المعيار الذي نضعه لأدلة التأكيد.30 في إحدى الدراسات، خضعت توجُّهات الخاضعين للتجربة للقياس حول موضوعين مثيرين للجدل: مراقبة الأسلحة والتمييز الإيجابي.31 بعد ذلك قرءوا حججًا لكلا الجانبين عن كل موضوع، وطُلِب منهم تقييم قوة الحجج، وحُثَّ الخاضعون للتجربة على تنحيةِ أيِّ آراء شخصية جانبًا ومحاولة التزام الموضوعية قدرَ الإمكان. اعتقَدَ كلُّ الخاضعين للتجربة أنهم يفعلون ذلك … لكن — كما خمَّنت — كانت تقييماتهم متأثِّرة بمعتقداتهم. اعتقَدَ الأشخاص المفضِّلون لمراقبة الأسلحة أن الحجج المؤيدة لمراقبة الأسلحة كانت قوية جدًّا، وأن الحجج المناهِضة لمراقبة الأسلحة كانت ضعيفة. والأشخاص الذين لم يفضِّلوا مراقبةَ الأسلحة أظهروا نمطَ تقييمات مناقِضًا. يبدو أننا عندما نواجه استنتاجًا نختلف معه، فإن عقولنا تبدأ في العمل فجأةً، فتبحث عن العيوب في الحجج؛ إلا أننا عندما نتفق في الرأي مع أحد الأشخاص، فإنه من المحتمل إلى حدٍّ بعيدٍ أن نقول لأنفسنا: «نعم، نعم، أعلم هذا بالفعل. أنا مسرور لأنك متفق معي.»32

في بعض الأحيان يمكن أن تكون المعتقدات التي نسعى لتأكيدها أكثر غموضًا، فهي لا تخص موضوعًا معينًا أو حقيقةً معينةً عن العالَم، بل تشكِّل إحساسًا أكثر عموميةً نشعر به تجاه طبيعة الأشياء. ربما نطلق على تلك المعتقدات معتقداتٍ ماورائيةً؛ لأن عموميتها تعني أنها سوف تؤثِّر على كثير من المعتقدات الأخرى. قد يكون من أمثلتها الاعتقاد بأن «الأشياء الطبيعية جيدة في العموم، وأفضل من الأشياء المشابهة لها الصناعية». بعض الانحيازات التأكيدية قد تكون نتيجة واضحة لهذا المعتقد؛ فعلى سبيل المثال: الشخص الذي يؤمن بهذا المعتقد قد يضع معيارًا منخفضًا للأدلة القائلة بأن المُحَليات الصناعية مثل الأسبارتام تسبِّب السرطان. إلا أن هذا المعتقد الماورائي يمكن أن يكون له أيضًا نتائج أكثر غموضًا؛ على سبيل المثال: إذا كنتَ تعتقد أن الأشياء الطبيعية جيدة، فمن المحتمل أن تكون ميَّالًا لفكرةِ أنَّ البشر إذا تُرِكوا في حالة طبيعية أكثر، فإنه من المحتمل على نحو أكبر أن يكونوا أصحاء، وأتقياء، ومستقيمين أخلاقيًّا، وأن المجتمع الحضري العصري — ذلك البنيان البشري غير الطبيعي — هو ما يقود إلى الجريمة والحرمان والشر.

حدَّدَ العلماء بضعة معتقدات ماورائية يشترك فيها كثيرٌ منا، من أمثلتها «معتقد العالم العادل»، وهو إحساس يقضي بأن العالم منصِف في جوهره. وفقًا لهذا المعتقد، فإن عيش حياة عادلة أخلاقية يجلب السعادةَ والحظَّ السعيد، بينما السلوكُ غير الأخلاقي يُعاقِبه القَدَرُ في نهاية المطاف.33 يمكن تقييم غموض وأهمية هذا المعتقد في عملية الإقناع من خلال هذه التجربة.34 في البداية قاس الباحثون مستوى معرفة طلبة إحدى الكليات بالاحترار العالمي وتوجهاتهم تجاه الموضوع، بمعنى إلى أيِّ مدًى كان الخطر حقيقيًّا، وما المحتمل حدوثه للمناخ في المستقبل، وهكذا. بعد ذلك، قرأ الخاضعون للتجربة مقالًا يصف مخاطر الاحترار العالمي، وانتهى المقال بإحدى طريقتين. اختُتِمت نسخة من المقالة بتحذيرٍ من الخطر الداهم المحدق بالأجيال المستقبلية، وكان التحذير يتنبَّأ بدمارِ العالَم؛ أما النسخةُ الثانية فاختُتِمت بحقائق مشابهة لكن مع وجود رسالة أكثر تفاؤلًا تناولَتِ الحلولَ الممكنة من خلال التكنولوجيات الجديدة. أصبح الخاضعون للتجربة الذين قرءوا رسالةَ فناء العالم أكثر تشكُّكًا في وجود الاحترار العالمي، وافترض الباحثون أن ذلك كان نتيجةً لمعتقد العالم العادل؛ فإذا كان العالم عادلًا، فالأشخاص الأبرياء لا يستحقون أن يموتوا من جرَّاء الاحترار العالمي؛ ومن ثَمَّ قلتُ باحتمالية كونه مشكلةً من وجهة نظرهم.
يبدو التحيُّز التأكيدي … حسنًا … غبيًّا، فعند مواجهتنا بالدليل على أننا مخطئون، فإننا نوجِّه كلَّ طاقتنا المعرفية إلى معرفةِ سببِ ضرورة أن نكون مُحِقِّين. لا يبدو هذا سلوكًا يتَّسِم بالمرونة، لكن عندما نفكِّر في الأمر، فإنه لا يبدو بهذا القدر الكبير من الغباء. سيكون الأمر مسبِّبًا للاضطراب بالفعل إذا غيَّرْتَ معتقداتك في كل مرة تصادف فيها دليلًا جديدًا. أقول «مسبِّبًا للاضطراب» لأن قليلًا جدًّا من معتقداتنا منعزِلٌ بالكامل؛ على سبيل المثال: اعتقادي بأن الاحترار العالمي مشكلةٌ خطيرة مرتبطٌ أيضًا باعتقادِ أنني كنتُ ذكيًّا وفاضِلًا عندما اشتريتُ سيارةً هجينةً، كما أنه مرتبط أيضًا بكرهي لزميل العمل الذي يزدري كثيرًا الاحترار العالمي؛ ومن ثَمَّ إذا غيَّرْتُ اعتقادي حول الاحترار العالمي، فهذا سيؤثِّر على اعتقادي المتعلِّق بسيارتي (لقد كنتُ مغفَّلًا عندما دفعتُ المزيد من المال لشراءِ سيارةٍ «صديقةٍ للبيئة»)، وعلى اعتقادي المتعلِّق بزميل العمل (لقد كان هذا الثرثارُ مُحِقًّا منذ البداية).35
من التشبيهات المفيدة اعتبارُ أن المعتقد يشبه الشبكة، وأنَّ كل حقيقة نؤمن بها تختلف في مدى ارتباطها بالحقائق الأخرى.36 كلما زاد هذا الارتباط، زادَتْ إمكانية توقُّع المقاوَمة من جانبي من أجل الحفاظ على هذا المعتقد؛ لأن تغيير المعتقَد ستكون له عواقبُ بعيدةُ المدى على كافة أنحاء شبكة معتقداتي. المعتقداتُ المكتسبة حديثًا لم يكن متاحًا أمامها كثيرٌ من الوقت لتندمج بالكامل في هذه الشبكة؛ ومن ثَمَّ فإنها منعزِلة نسبيًّا عن بقية المعتقدات، وهذه المعتقداتُ أستطيع تغييرَها دون حدوثِ اضطرابٍ لبقية المعتقدات؛ ومن ثَمَّ سأكون أكثرَ استعدادًا لفعل ذلك. وقد عبَّرَ تولستوي بعبارات بليغة، مثلما يفعل غالبًا، عن هذه الحقيقة البشرية قائلًا: «إن أصعب الموضوعات يمكن تفسيرها لأقل الأشخاص ذكاءً إذا لم يكن قد كوَّنَ أية فكرة عنها بالفعل، لكنَّ أبسطَ الأمور لا يمكن توضيحُها لأكثر الأشخاص ذكاءً إذا كان مقتنِعًا اقتناعًا راسخًا بأنه يعلم بالفعل، دون أدنى شكٍّ، حقيقةَ الأمور المقدَّمة له.»37

المعتقدات ليسَتْ مجرد حقائق عملية. إن العاطفةَ متداخِلةٌ مع المعتقد، وهي عاملٌ تجاهَلْناه حتى هذه اللحظة، ويجب أن نلتفت له الآن.

(٣) نحن لسنا بهذه الرزانة

لقد جعلتُ الأمرَ يبدو كما لو كان الناس محكومين بالمنطق وغير منطقيين تمامًا في الوقت ذاته. من ناحيةٍ، قلتُ إننا في بعض الأحيان لا نكلِّف أنفسَنا مشقةَ التفكير بمنطقية، بل حتى عندما نحاوِل فعلَ ذلك، فإننا نتأثَّر على الرغم من ذلك بإشاراتٍ ثانويةٍ على شاكلة جاذبية المتحدِّث، ونلفِّق الأدلةَ بطريقةٍ تجعلنا نحافظ على معتقداتنا الحالية. لكن من ناحيةٍ أخرى، جعلتُ الأمرَ يبدو كما لو أن الدافع المقبول الوحيد للتصديق هو الدقة؛ أيْ أن كل ما يجب أن نهتمَّ به عند اختيار ما نصدِّقه أو ما لا نصدِّقه هو اتفاقُ المعتقَد مع العالَم الحقيقي، أو عدمه.

يهتم الناس «حقًّا» بالدقة،38 لكننا لسنا بهذه الدرجة من الرزانة التي تجعلنا نهتمُّ بالدقة ولا نلتفت إلى كلِّ الأمور الأخرى. للناس دوافعُ أخرى للتصديق أو لعدم التصديق:

معتقداتنا تساعدنا في الحفاظ على هُوِيَّتنا الذاتية.

معتقداتنا تساعد في حماية قِيَمنا.

معتقداتنا تساعد في الحفاظ على الروابط الاجتماعية.

معتقداتنا تساعدنا في السيطرة على مشاعرنا.

(٣-١) معتقداتنا تساعدنا في الحفاظ على هويتنا الذاتية

بعض المعتقدات قد تكون مرتبطةً بجوانب مهمة من هُوِيَّتنا وبتصوُّراتنا لذواتنا؛ على سبيل المثال: افترِضْ أنك تعتبر نفسك ليبراليًّا من حيث الآراء السياسية. أنت تدوِّر المخلفات من منطلق ضميرك، وتدعم المرشحين السياسيين التقدُّميين، وتعتقد أن الحكومة تلعب دورًا مهمًّا وفعالًا في تصحيح المظالم الاجتماعية، ولا تثق نسبيًّا في المؤسسات الكبرى. كما تعتقد أن المؤسسات تقدِّم الربحَ على القِيَم الإنسانية، وأن المسئولين التنفيذيين في المؤسسات الكبرى يفعلون الأمرَ عينَه حتمًا. علاوةً على ذلك، أنت تعتقد أن القِيَم الليبرالية جزءٌ مهم من شخصيتك، وعندما يطلب منك أحدهم هذا الطلب: «أخبرني عن نفسك»، يتصدَّر هذا الأمرُ وصفَك لنفسك.

تخيَّلِ الآنَ أن المنطقة التعليمية تفكِّر في توظيفِ رئيسٍ للمنطقة التعليمية ليس لديه أي خبرة في التعليم، لكنه عمل على مدار الثلاثين سنة الأخيرة كمديرٍ رفيعِ المستوى في عالم المؤسسات. تقرِّر أنت مطالعةَ الأبحاث المنشورة حول إنجازات قادة الأعمال الذين أداروا مناطقَ تعليميةً دون أي خبرة في مجال التعليم. هنا بين يدينا حالةٌ لديك فيها دافعان لتبنِّي معتقدِك؛ فمن ناحيةٍ، أنت متحمِّس لالتزامِ الدقة في تقييمِ مدى احتمالية نجاح المرشَّح؛ من ناحيةٍ أخرى، أنت متحمِّس لتصديق أنه لن ينجح. الأمرُ لا يقتصر فقط على الحفاظ على معتقداتك الحالية؛ إن جزءًا من «هُوِيَّتك الذاتية» كليبراليٍّ يتمثَّل في أنك ترى فروقًا مهمة بينك وبين المسئولين التنفيذيين للمؤسسات؛ أولئك الأشخاص الذين لا يعتنقون القِيَم الصحيحة ولا يمتلكون الحسَّ المجتمعي ولا الفهم الجيد للأطفال. إن اكتشاف أن مسئولِي المؤسسات كانوا رؤساءَ مناطق تعليمية ممتازين سوف يشكِّك في دقة نظرتك لعالم المؤسسات، فضلًا عن أن استنتاج أن عالَم المؤسسات قد لا يكون سيئًا لهذه الدرجة يهدِّد صورتَك الذاتية كشخصٍ ليبراليٍّ.⋆⋆ «إذن أنا الآن أعتقد أن المؤسسات الكبرى جيدة حقًّا، وأن المستغلين الذين يبيعوننا أشياء لا نحتاج إليها ويلوِّثون بيئتنا ويسحقون الفقراء، يجب أن يتولوا مسئولية أبنائنا؟ مَن «أكون» حقًّا، على أية حال؟»

(٣-٢) معتقداتنا تساعد في حماية قِيَمنا

الدافع الثاني لتبنِّي المعتقدات هو حماية القِيَم التي نرى أنها مقدَّسة. قد تشمل أمثلة هذه القِيَم ما يلي: «أعتقد أن الناس يجب أن يكونوا أحرارًا»، أو «أومن بقدسية الحياة البشرية»، أو «مقصدُ الرب هو أن يكون الجنس بين الرجل والمرأة.» المثال الأخير من هذه الأمثلة يثير جدلًا في المجتمع الأمريكي في الوقت الحاضر، لكن حتى المعتقدات غير المثيرة للجدل تصبح مثيرةً للجدل عندما نبدأ في تفسيرها وتطبيقها. يعتقد الجميع أن الحياة البشرية مقدَّسة، ويؤمن الجميع بالحرية، والجدلُ المثار حول الإجهاض راجعٌ إلى حدٍّ بعيد إلى تصارُع هاتين القيمتين إحداهما مع الأخرى؛ فإذا كانت اللاقحةُ التي عمرُها ساعاتٌ حياةً بشريةً، يصبح إذن الإجهاض أمرًا يَعافُه الضمير، لكنْ إنْ لم تكن كذلك، فإن تقييد حق الفرد في الإجهاض يُعَدُّ تدخُّلًا من جانب الحكومة في حريات الفرد. هل يمكن أن يقدِّم العلماءُ جوابًا حاسمًا حول ما إذا كانت الحياة تبدأ بالفعل في لحظة الإخصاب، أشكُّ في ذلك، لكنْ حتى إذا استطاع العلماء فعل ذلك، «فإن معظم الناس لن يرغبوا في سماع الجواب». إن موقفَهم من الإجهاض ليس مبنيًّا على الحقائق، بل على القِيَم.

كما هو الحال مع الحفاظ على صورة الذات، فإن حماية القِيَم المقدَّسة يمكن أن تكون لها نتائج بعيدة المدى، اعتمادًا على طريقة تفسير القِيمَة؛ على سبيل المثال: تأمَّلْ معتقدَ «كلُّ الناس متساوون». يفسِّر معظم الأشخاص هذه الفكرة بمعنى أن الناس «متساوون أمام القانون»، وأنهم «متساوون في الكرامة»، وأنهم «متساوون في الأهمية ككائنات حية.» لكن من المحتمل أيضًا أن يشعر أحد الأشخاص أن كلمة «متساوون» تمتد لتشمل القدرات. وفي هذه الحالة، قد ينزعج من فكرة أن الاختلافات الظاهرة في الذكاء راجعةٌ إلى حدٍّ بعيد إلى العوامل الوراثية، ومن أن بعض الناس ليسوا أذكياء للغاية فعلًا، وأنه لا توجد أمور كثيرة يمكنهم فعلها حيال ذلك. قد يبدو هذا انتهاكًا كونيًّا لإحدى قِيَمه الأساسية، فيبدو أن الطبيعة أو الرب لا يقصد أن يكون الناس متساوين.

إذن كيف يُحَلُّ هذا الصراع؟ يتمثَّل أحد الخيارات في إنكارِ دليلِ أن الذكاء تحدِّده العواملُ الوراثية؛ فالأشخاص يُولَدون بقدرات متساوية نسبيًّا، لكن بعضهم يعيش في الفقر، أو يكون لديه والدان مهملان، أو يأتي من أحياء تعجُّ بالجريمة؛ ومن ثَمَّ فالمجتمع يجعلهم غير متساوين. أو من الممكن القول بأن الذكاء فعلًا تحدِّده العوامل الوراثية إلى حد بعيد، لكن عندما يكون لدى الإنسان نقصٌ في الذكاء، فإن الطبيعة تعوِّض ذلك بمَنْح الشخص قدرًا أكبر من الحساسية العاطفية أو القدرة الرياضية أو غيرها من المهارات. إن التوصُّل إلى أيٍّ من هذين الاستنتاجين يمكن بدوره أنْ يؤثِّر على وجهات نظر الشخص عن أمورٍ سياسيةٍ أخرى واسعةِ النطاق. تأمَّلْ كيف ستختلف آراؤك حول تمويل التعليم العام، وحول برامج الدعم العام مثل الرعاية الاجتماعية، وحول سياسات العدالة الجنائية، اعتمادًا على ما إذا كنتَ تعتقد أن ذكاء الأشخاص المرتفع أو المتواضِع راجِعٌ إلى عوامل وراثية، أم راجِعٌ إلى أن المجتمع جعلهم على هذا النحو. ما أقصده ليس متعلِّقًا بالدعم العلمي لأيٍّ من هذين المعتقدين.†† ما أقصده هو أن تكوين مثل هذه المعتقدات لا يعتمد فحسب على الحاجة الماسة إلى دقة الحقائق المتعلقة بطبيعة العالم، بل إن قِيَم الناس هي ما يشكِّل معتقداتهم عن أمور علمية مثل الإسهام النسبي للجينات والبيئة في الذكاء، وبعد ذلك يفسِّر الناسُ البياناتِ لتأكيدِ هذه المعتقدات.

(٣-٣) معتقداتنا تساعد في الحفاظ على الروابط الاجتماعية

السبب الثالث لتبنِّي المعتقدات هو أنها تساعد في خلق نوعٍ من الهُوِيَّة الاجتماعية، والتضامن مع الجماعة. بعضُ المعتقدات والسلوكيات التي نتبنَّاها لهذا الغرض واضحًا إلى حد بعيد. عندما وصلتُ إلى الكلية، لم أكن قد حضرتُ مطلقًا أية مباراةٍ لكرة السلة. أشكُّ في أنني كنتُ على علم بكيفية ممارسة هذه اللعبة، باستثناء معرفتي البسيطة بقواعدها، لكنني كنتُ أدرس في جامعة ديوك، معقل كرة السلة، وكانت الجامعة تتحلَّى بالحكمة، أو التهوُّر، بحيث تخصِّص أفضلَ مقاعد صالة كاميرون المغطَّاة للطلاب الجامعيين الذين يُسَمُّون باسم «مجانين كاميرون»، بدلًا من تخصيصها لكبار المتبرِّعين. ومثل كثيرٍ من زملائي الطلبة، كنتُ أنتظر لساعاتٍ في طقس عاصف للحصول على التذاكر، وكنتُ أعلم كلَّ الإحصائيات، وكنتُ أصيح بصوتٍ أجشَّ في المباريات. لم أَسْتَقِ من أقراني الشغفَ فحسب، بل المعتقدات أيضًا؛ فاستقيتُ على سبيل المثال معتقداتٍ عن قيمة الألعاب الرياضية الباهظة الثمن للروح المعنوية الجامعة، ومعتقداتٍ عن الفوائد غير المباشرة للألعاب الرياضية المتمثِّلة في تحقيق منفعة عامة للجامعة من خلال تحسين جمع التبرعات. وقد اكتسبتُ هذه المعتقدات بمفردي بسبب البيئة الاجتماعية، وبسبب رغبتي في التضامن مع أقراني. لو كنتُ قد التحقتُ بجامعةٍ ذات فِرَق رياضية ضعيفة، لَأصبحَتْ معتقداتي مختلفةً على الأرجح.

من الصعب عدم التأثُّر بالجماعة الاجتماعية للمرء؛ على سبيل المثال: تتكوَّن جماعتي الاجتماعية من أساتذة جامعيين، والأساتذةُ الجامعيون مقارَنةً ببقية الأمريكيين يتَّسِمون بالليبرالية السياسية. لِنفترِضْ أنني بدأتُ وظيفتي بأفكارٍ محافِظةٍ نسبيًّا؛ لم يكن من الضروري أن تتمثَّل استجابتي لتيار الرأي القوي ذلك في التشرُّب بآراء الجماعة، كما فعلتُ مع كرة السلة عندما كنتُ طالبًا، فهذا الأمرُ أقلُّ احتماليةً لأن آرائي السياسية أكثر رسوخًا من وجهات نظري حول كرة السلة. لكنني على أقل تقديرٍ سوف أقابِلُ عددًا من الأشخاص اللطفاء المتعاوِنين الذين يحملون وجهاتِ نظرٍ سياسية ليبرالية. ونظرًا لأنني محاط بأشخاص يساريين، فسوف يكون لديَّ اطِّلاعٌ على وجهاتِ نظرٍ ليبرالية في الأحداث الجارية أكثر ممَّا كان عليه الوضع في الماضي. وسواء أأعجبني هذا أم لم يعجبني، فإنني سوف أستوعِب فكرةَ أن وجهات النظر الليبرالية جزءٌ ممَّا يعنيه كون المرء أستاذًا جامعيًّا، مثلما كان كون المرء مشجِّعًا لكرة السلة جزءًا ممَّا يعنيه كونه طالبًا في جامعة ديوك.

(٣-٤) معتقداتنا تساعدنا في السيطرة على مشاعرنا

آخِر العوامل المساهِمة في معتقداتي قد يكون المشاعرَ الراسخة بقوةٍ. تأمَّلِ المثالَ التالي: في صيف ٢٠١٠ ثار جدل غاضب في أمريكا حول بناء مسجد ومركز ثقافي بالقرب من موقع هجمات الحادي عشر من سبتمبر في مدينة نيويورك، لم تكن كلُّ المعلومات الواردة في هذا الجدل دقيقةً، ومن الشائعات التي تردَّدَتْ في أغلب الأحيان شائعةٌ تقول إن الإمام الذي قدَّمَ هذه الخطة، فيصل عبد الرءوف، كان متعاطِفًا مع الإرهاب. وقد حقَّقَتْ في صحة تلك الشائعة منظمتان معنِيَّتان بالتحقُّق من الحقائق، هما «منظمة فاكت تشيك دوت أورج ومنظمة بوليتيفاكت»، ووجدتا أن الشائعة زائفة، وهاتان المنظمتان معروفتان بالموضوعية ويحظيان بالاحترام بسبب تلك الموضوعية. وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت الشائعة تحظى بتصديقٍ واسعِ الانتشار، وقرَّرَ اثنان من أساتذة علم النفس في جامعة أوهايو الحكومية معرفةَ إنْ كان بإمكانهما إقناعُ الناسِ بأن الشائعةَ زائفةٌ.39 ولم تكن المهمة سهلة. عند عرض المعلومة من منظمتَيِ التحقُّق من الحقائق على الأشخاص الذين كانوا مصدِّقين للشائعة أو كانوا غير متأكدين منها، فإن حوالي ٢٥ في المائة منهم خلصوا إلى أن الشائعة كانت زائفةً. علاوة على ذلك، وجد الباحثون أنه كان من السهل نسبيًّا إبطالُ قوةِ الحقائق المُقْنِعة، فلو كان النص مصحوبًا بصورةِ الإمام مرتديًا الزيَّ العربي التقليدي، لَانخفضَتْ نسبةُ الأشخاص المقتنعين، والسبب المفترض لذلك هو أن هذا الزي يجعله أقلَّ شبهًا بالرجل الأمريكي، وربما أقل ولاءً لدولته وأقل استجابةً تجاه الحساسيات الأمريكية.

لاحِظْ أن الباحثين لم يكونوا يحاولون إقناع الناس بأن بناء المسجد فكرة جيدة، لقد كانوا يطلبون منهم ببساطة إعادةَ تقييم شائعةٍ مفادُها أن مروِّج الفكرة كان متعاطفًا مع الإرهاب في السابق. إذا كان الناس يرغبون في أن تكون معتقداتهم دقيقة، فلماذا لا يغيِّرونها عند مواجهتهم بالحقائق الوثيقة الصلة؟ المشاعرُ من العوامل التي لعبت دورًا على الأرجح في هذه القضية. بالنسبة إلى الأمريكيين، فإن أي فكرة مرتبطة بهجمات الحادي عشر من سبتمبر تستدعي الغضبَ والخوفَ، ومن الصعب أن يكون للحقائق موطئُ قدمٍ في ظل تلك الظروف.

إليكم مثالًا آخَر: لِنفرِضْ أنني متحفِّظ بعض التحفظ تجاه كل الأمور الجنسية، لكنني أجد فكرةَ التصرفات المِثْلِيَّة مقزِّزةً تمامًا، في الحقيقة، إن هذا الشعور قوي حتى إنني متردِّد في الحديث عن أي جانب من جوانب المِثْلِيَّة الجنسية على الإطلاق؛ لأن فعل ذلك يثير حتمًا ذلك الشعور المقزِّز القوي. افترِضِ الآن أنك تحاول إقناعي بأنه لا ضررَ في تدريس رجلٍ يجاهِر بمِثْلِيَّته الرياضيات لطلبة الصف السابع. من الممكن أن تخبرني بحجج حقيقية مثيرة، مثل عدم وجود دليلٍ على أن التوجُّه الجنسي للمعلِّم يؤثِّر على الطلبة، بَيْدَ أن الحجج المتعلِّقة بالحقائق لن تُجْدِي كثيرًا لأن السبب في اعتراضي ليس حقيقةً بل هو شعور؛ شعور بالاشمئزاز من فكرة المِثْلِيَّة الجنسية.

من غير المحتمل أنْ أدرك العامل الذي يوجِّه رأيي؛ ومن ثَمَّ فمن المحتمل أن أجيبك بحقائق خاصة بي، أو بمحاولة التشكيك في حجتك. إلا أن المناقشة برمتها هي في واقع الأمر مراوَغةٌ لصرف النظر عن الموضوع الأصلي.40

•••

كان هذا الفصل عرضًا لحقائق مُحْبِطة، يمكن تلخيصها ببساطةٍ على النحو التالي: عندما لا نقيِّم الأدلةَ بدقةٍ فإننا نميل إلى تصديقِ أو عدمِ تصديق الأمور لأسبابٍ تافهة، وحتى عندما نقيِّم الأدلةَ بدقة فإننا نظل معرَّضين لتلك المؤثرات التافهة. إذا كنا مهتمِّين حقًّا بالتمسُّك بمعتقدات دقيقة، ومهتمين بصفة خاصة بمعرفة أي الممارسات أو الإصلاحات التعليمية «يستند إلى أساس علمي»، فماذا عسانا أن نفعل؟ جزء من الإجابة يتمثَّل في اكتسابِ فهمٍ أفضل للطبيعة الدقيقة لهذه «المؤثرات التافهة» المعرَّضين لها إلى حدٍّ بالغ، وذلك كي نتجنَّبها على نحوٍ أفضل؛ وهذا هو موضوع الفصل الثاني.

هوامش

يعبِّر آب ديكستيرهاوس، وهو عالم نفس اجتماعي هولندي بارز، عن هذا الأمر على النحو التالي: «لو كان أحد المحرِّرين قد طلب منَّا الكتابةَ عن التلقائية في السلوك الاجتماعي منذ ٢٥ سنة، لَنظرنا إليه نظرةً خاويةً … حيث إن مفهوم التلقائية أو السلوك اللاواعي برمته كان سيبدو غريبًا في نظر أيِّ شخصٍ في ذلك الوقت … [واليوم] لو أردنا كتابةَ فصل قصير، ربما من الضروري أن نطلب من المحرِّر تخصيصَ فصلٍ لنا للتحدُّث عن العمليات الواعية في السلوك الاجتماعي.» إيه ديكستيرهاوس، تي إل تشارتراند، وإتش آرتس (٢٠٠٧). تأثيرات الذاكرة الكامنة والإدراك على السلوك الاجتماعي والسعي لتحقيق الهدف. من كتاب «علم النفس الاجتماعي واللاوعي: تلقائية العمليات العقلية العليا» (الصفحات ٥٠–١٣١) (تحرير) جيه إيه بارج، نيويورك: سيكولوجي برِس.
توضِّح الدراسات أنك إذا كنتَ تجد صعوبةً في فهم أحد الأشخاص الذين يتحدَّثون بلكنة قوية، فإن تقليد تلك اللكنة يمكنه حقًّا أن يحسِّن الفهم. بي آدنك، بي هاجوورت وإتش بيكيرينج (٢٠١٠). التقليد يحسِّن فهم اللغة، دورية «سيكولوجيكال ساينس»، ٢١، ١٩٠٣–١٩٠٩.
الفكرة سهلة الاختبار، ومن طرق اختبارِها عرْضُ إعلانِ الزبدة على مجموعة من الأشخاص، ومطالبتهم بتقييم إلى أيِّ مدًى يجدون الإعلان جذابًا، ومعرفة إنْ كانوا يعتقدون أن هذا الإعلان يزيد بعض الشيء من احتمال شرائهم لهذه العلامة التجارية، وهكذا. اعرضْ على مجموعة أخرى من الأشخاصِ الإعلانَ نفسه مضافةً إليه الصورة الإباحية المرسومة بالفرشاة على الصورة، وقارِنِ التقييمات. لمراجعةِ مثل هذا النوع من الأبحاث، انظرْ مراجعةَ كيه تي ثيوس (١٩٩٤)؛ الدعاية اللاشعورية وسيكولوجية معالجة المؤثرات اللاواعية: مراجعة، دورية «سيكولوجي آند ماركتينج»، ١١، ٢٧١–٢٩٠.
§ الفكرة وراء أساليب التعلم ليست أن الأشخاص يختلفون في القدرة العقلية، بل المقصود أن أي شخصين لديهما المقدرة نفسها تكون لديهما تفضيلات متعلقة بالطريقة الأسهل لهما في الفهم والتعلم، وهذه التفضيلات تؤثر على كفاءة التعلم. لمزيدٍ من المعلومات عن أساليب التعلم، انظرْ سي راينر ودي تي ويلينجهام (٢٠١٠)؛ أسطورة أساليب التعلم، مجلة «تشينج»، ٤٢، ٣٢–٣٥.
# نادرًا ما تكون الاستجابة الصادرة عن الإشراط بقوة الاستجابة الصادرة عن المؤثر الحقيقي؛ أيْ إن الكلب لا يسيل لعابه استجابةً للجرس بالقدر نفسه الذي يسيل به اللعاب استجابةً للطعام، والشعور الإيجابي المتولِّد عن رؤية سيارة هوندا لا يماثل الشعور المتولد من رؤية النساء الجذابات، لكن يوجد تأثيرٌ ملحوظٌ.
العلماء ليسوا محصنين ضد هذا الاستدلال المدفوع. عندما تأتي نتيجةُ إحدى التجارب على النحو المتوقَّع، فإننا نقبلها على ظاهرها؛ لكنْ عندما تكون نتيجتها عكسَ ما توقَّعناه، فإننا نفحص البيانات للتأكُّد من تسجيلها على نحوٍ صحيحٍ، ونُعِيد النظرَ فيما إذا كنَّا طبَّقْنا المتغيِّرات على نحوٍ ملائمٍ أم لا، ونعيد التحقُّق من المعدات، وهكذا. إننا ننتقد الأدلة النافية على نحوٍ أكبر من انتقادنا للأدلة التأكيدية. للحصول على أمثلة على التحيُّز التأكيدي في العلم، انظر جيه جيه كولر (١٩٩٣)، تأثير المعتقدات السابقة على الأحكام العلمية المتعلِّقة بجودة الأدلة، دورية «أورجانيزشونال بيهيفور آند هيومان ديسيشن بروسيسيز»، ٥٦، ٢٨–٥٥؛ إم جيه ماهوني (١٩٧٧)، تحيُّزات النشر: دراسة تجريبية عن التحيز التأكيدي في نظام مراجعة الأقران، دورية «كوجنيتيف ثيرابي آند ريسيرتش»، ١، ١٦١–١٧٥.
⋆⋆ لا أقصد هنا أن أوحي أن الليبراليين وحدهم يهتمون بالحفاظ على الصورة الذاتية؛ فقد كان ممكنًا بالسهولة نفسها أن يتحدَّث المثالُ عن المحافظين سياسيًّا الذين سيكونون متحمسين لرؤية أن المدارس المستقلة ناجحةٌ لأن سياساتها في الحكم تبدو متفقةً مع الآراء المحافظة المتعلِّقة بأدوار المنافسة.
†† إذا كان الأمر يثير فضولك، فإن الفرضيةَ نفسها القائلة إن الذكاء يرجع في الغالب إلى عوامل وراثية؛ تخضع للنقد. أثناء تسعينيات القرن العشرين، كان معظم علماء النفس مستعِدِّين للقول بأنه ربما نسبةُ سبعين في المائة من الذكاء (وفقًا لقياسه باختبارات معتدلة لتحديد مستوى الذكاء) تحدِّدها الجينات، وربما نسبةُ ثلاثين في المائة تحدِّدها البيئة؛ واليومَ، قد يعكس معظمُهم هاتين النسبتين. للاطِّلاع على ملخصٍ سهلِ القراءة، انظر آر إي نيسبيت (٢٠٠٩)، «الذكاء: ما هو وكيف تحصل عليه»، نيويورك: نورتون. لا يوجد دليل على الإطلاق على فكرة أن الناس المنخفضي مستوى الذكاء يعوِّضون ذلك ببعض القدرات الأخرى. في الحقيقة، تميل القدرات إلى الارتباط الإيجابي، وهذه العلاقة تكون أقوى لدى الأشخاص أصحاب مستويات القدرات المنخفضة؛ انظر دي كيه ديترمان وإم إتش دانيال (١٩٨٩)، ارتباطات الاختبارات العقلية بعضها مع بعض وبالمتغيرات المعرفية تكون أعلى لدى المجموعات المنخفضة مستوى الذكاء، دورية «إنتليجانس»، ١٣، ٣٤٩–٣٥٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤