الفصل الثاني

العلم والاعتقاد

رومانسية قَلِقة

لكن أفضل إثبات على الإطلاق هو التجربة.

فرانسيس بيكون1
جميلة هي المعرفة التي تأتي بها الطبيعة.
عقلنا المتطفِّل،
يشوِّه الأشكال الجميلة للأشياء.
إننا نقتل كي نُشَرِّح.
ويليام وردزوورث

***

في الفصل الأول رأينا أن تصديقنا (أو عدم تصديقنا) الأشياء يرجع جزئيًّا إلى وجود إشارات ثانوية، والصفة «ثانوية» هنا تعني أنها سمات للموقف غير ذات صلة بكون الرسالة حقيقية حقًّا (مثل جاذبية المتحدِّث أو طول الرسالة). وعلى الرغم من أننا نادرًا ما ندرك أن تلك الإشارات تؤثر علينا، فإن لها تأثيرًا علينا حتى عندما نحاول محاولةً واعية تقييمَ المنطق والأساس الحقائقي للرسالة الهادفة إلى الإقناع. كما رأينا أيضًا فإن لدينا تحيُّزًا كبيرًا إلى تصديق المعلومات الجديدة إذا كانت متفقةً مع ما نصدِّقه بالفعل، وإننا ننتقد المعلومات الجديدة غير المتَّسقة مع معتقداتنا. ولحماية أنفسنا من تصديق أمور زائفة نحتاج إلى ما يلي: (١) معرفة الإشارات الثانوية التي تقنعنا كي نتمكَّن من إسقاطها من حساباتنا. و(٢) معرفة المعتقدات التي نتبنَّاها حاليًّا لأنها سوف تجعل طريقةَ تقييمنا للمعلومات الجديدة متحيِّزةً.

بطبيعة الحال، توجد اختلافات كثيرة فيما يعتقده الأفراد، لكن في هذا الفصل، سوف نوضِّح أنه توجد أيضًا في العقل الغربي قواسم فكرية مشتركة مهمة موضَّحة في موروثين كبيرين. يشكِّل هذان الموروثان معتقدات ماورائية كما أطلقت عليها في الفصل الأول، وهي معتقدات عامة للغاية، حتى إنها تؤثِّر على كثيرٍ من المعتقدات الأخرى. إنها في حقيقتها افتراضاتٌ وطرقٌ لرؤية العالم، وهي متغلغلة للغاية حتى إننا نادرًا ما نفكِّر في التشكيك فيها.

المعتقد الماورائي الأول هو أن «أفضل طريقة لفهم العالم هي من خلال العقل». يتضمَّن هذا المعتقد الثقةَ في أن عالمنا — بدايةً من طريقة عمل المجرة وحتى طريقة عمل أجسادنا — خاضِعٌ للقوانين، وأن العقل البشري يستطيع اكتشافَ تلك القوانين ووصفها. وفقًا لهذا المعتقد الماورائي، فإن أفضل مثال للفكر العقلاني هو المنهج العلمي.

المعتقد الماورائي الثاني هو أن «أفضل طريقة لفهم العالم هي من خلال التجربة الشخصية». وفقًا لوجهة النظر تلك، فإن الموروث العلمي يبالغ في تقدير ما يمكن فهمه من خلال العقل، والأشخاص الذين يبالغون في الاعتماد عليه يفوتهم كثير من الأمور المهمة، لا سيما الاستجابات العاطفية للأفراد. وفقًا لوجهة النظر تلك، فإن الفهم الحقيقي للأمور المهمة — خاصةً في تقييم عالمنا الطبيعي — يعني فهم أن بعض الأشياء غامضة لا يمكن وصفها، وأنها ليست «متاحة» للتحليل بالعقل. إن التفكير العقلاني في هذه الأمور لا يعجز عن فهمها فحسب بل يدمِّر التجربةَ بالكامل، كما قال وردزوورث في مقدمة هذا الفصل، فعندما نحاول تحليل (أيْ تشريح) تلك الخبرات الجليلة، فإننا ندمِّرها.

نشأ المعتقد الماورائي الأول أثناء القرن السابع عشر بالتزامُن مع تطوير المنهج العلمي الحديث، ويُطلَق عادةً على هذه الفترة عصر التنوير. أما المعتقد الماورائي الثاني فقد نشأ في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، ويُطلَق على هذه الفترة عادةً فترة الرومانسية. على الرغم من أن هذين المعتقدين الماورائيين قد يكونان قديمين، فإنهما ما زالا معنا اليومَ إلى حدٍّ بعيد، فعندما يرتدي المعلِن معطفَ المختبر الأبيض الخاص بالطبيب في دعايةِ شرابٍ لعلاج السعال، أو عندما يصف موقعٌ إلكتروني يبيع برمجيةً تعليميةً أثرَها قائلًا إنها تصحِّح «الأخطاء الدماغية»، فإنهما يحاولان الاستفادةَ من الأثر المتبقِّي من تفكيرِ عصرِ التنوير.

أما عندما يَعِدُ أحدُ الكتب ﺑ «إطلاق» القدرة التعليمية الكامنة في طفلك، أو عندما يؤكِّد إعلانٌ لدواءٍ لاضطراب قصورِ الانتباه وفرط الحركة على أنه: «خالٍ من العقاقير الكيميائية وطبيعي تمامًا»، فإن هذه محاولة للاستفادة من رواسب التفكير الرومانسي.

في هذا الفصل سأوضِّح أنَّ كل معتقَد ماورائي تمثِّله عبارات شهيرة معينة، وهذه العبارات الشهيرة هي إشارات ثانوية للإقناع؛ إنها تدعونا لاستنتاجِ أن المعلومات الجديدة المقدَّمة لنا — عن شراب السعال أو عن البرمجية التعليمية — متَّسِقة مع أحد هذين المعتقدين الماورائيين أو حتى مع كليهما. العبارات الشهيرة تؤكد لنا أن الحجة قيد التقديم — «شراب السعال هذا فعَّال» — متفقةٌ مع شيء نصدِّقه بالفعل؛ ومن ثَمَّ لا تحتاج الحجة إلى التقييم بدقة شديدة.

يمكنني ببساطة أن أسرد العبارات الشهيرة مع تحذيرٍ يقول: «انتبه عندما ترى هذه العبارات!» لكن لكي نفهم على نحوٍ كامل لماذا من المحتمل أن تعمل تلك العبارات كإشارات ثانوية (وللتعرف على غيرها من العبارات التي لم أذكرها)، فإنك تحتاج إلى فهم المعتقدات الماورائية الداعمة لها، ولِفَهْم تلك المعتقدات الماورائية فهمًا كاملًا، نحتاج إلى فَهْمٍ أفضل لأصولها وتبريرها؛ وهذا يأخذنا إلى أوروبا القرن السادس عشر.

(١) انقلب العالم رأسًا على عقب

من الصعب التعرف على معتقداتنا الماورائية وتأثيرها تحديدًا لأننا غارقون فيها. تُماثِل المعتقداتُ الماورائية رؤيتَنا للعالَم، فهي عدسة تمرُّ من خلالها كلُّ تجاربنا؛ ومن ثَمَّ فإن مطالَبتَنا بتحليلها تشبه مطالَبةَ السمكة بوصف الماء. إن أفضل طريقة لتقييم رؤية العالَم هي مقارنتها بأخرى.

كانت توجُّهات الناس تجاه الأدلة — أيِ الأمور التي يجدونها مُقْنِعة — من السمات الأكثر إدهاشًا في ثقافة أوروبا القرن السادس عشر. تأمَّلْ هذا المثالَ: افترِضْ أنني أردتُ أن أقنعك بأن الزوج والزوجة اللذين لا يحب أحدهما الآخَر يمكن على الرغم من ذلك أن يكون زواجُهما سعيدًا. ما الدليل الذي يمكنك أن تخمِّن أنني سأجده مُقْنِعًا؟ ربما تروي لي قصةً عن زوجين تعرفهما؛ كانت الزوجة أجنبية تريد الحصول على الجنسية، وكان الزوج رجل أعمال يريد الزواجَ من أجل حياته المهنية؛ إنهما يعيشان معًا مثل رفقاء السكن وكلاهما سعيد لدرجةٍ كافيةٍ بهذا الترتيب. باختصارٍ، ستحاوِل إقناعي بأنكَ رأيتَ الدليلَ بأم عينيك.

في تفكير العصور الوسطى لم تكن رؤية أحد الأمور بعينيك هي الدليل الأفضل، بل كانت أسوأ دليل؛ فالإدراكُ يمكن أن يكون خادعًا. أَلَمْ تلاحظ أن العصِيَّ المستقيمة تبدو منحنية عند غمرها جزئيًّا في الماء؟ أَلَمْ تلاحظ أن صوت الرجل عندما يناديك وهو على صهوة حصان يقترب منك مُسرِعًا يبدو مختلفًا عن صوته وهو يُنادِيك وهو على صهوةِ حصان يجري بعيدًا عنك؟ إن الحواس غيرُ جديرةٍ بالثقة (انظر الشكل ٢-١).
fig15
شكل ٢-١: تصويرٌ جصي على سقف «غرفة الزفاف» في قصر دوكالي، مانتوفا، رسمه أندريا مانتينيا عام ١٤٧٣. في أواخر القرن الخامس عشر، كان مفهومًا أن الحواس غيرُ جديرةٍ بالثقة، وعرف الفنانون جيدًا كيف يستغِلُّون عيوبَ النظام البصري كي يجعلوا سقفًا مسطحًا يبدو ذا عمق.

وبدلًا من حواسنا غير الجديرة بالثقة، توجد لدينا الحكمة التي صمدت لسنوات طويلة، ولعل أبرزها النصوص المقدَّسة المسيحية. أتريد أن تعرف هل من الممكن للزواج أن يكون سعيدًا لو لم يحب أحد الزوجين الآخر؟ الكتاب المقدَّس لديه الجواب: «أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِهَا» (رسالة أفسس ٥: ٢٥)، فالنموذج المثالي للزواج يتضمَّن الحب.

كان الكتابُ المقدَّس هو السلطةَ الأكثرَ هيمنةً، لكن كان الفلاسفة الإغريق القدماء مهمين أيضًا، لا سيما أولئك الذين دُمِج فكرهم في الفكر المسيحي. كان أرسطو أبرز هؤلاء الفلاسفة، وكان فهم نظام الطبيعة الأرسطية تدريبًا ضروريًّا في أواخر فترة العصور الوسطى، لأولئك الذين يشرعون في تأسيسِ حياةٍ مهنية في مجال الدين أو القانون أو الطب.2 في واقع الأمر، كان لفكر أرسطو تأثيرٌ عميق، حتى إنه في عام ١٥٨٥ أقَرَّتْ جامعة أكسفورد مرسومًا هذا نصه:
كلُّ الخريجين والطلبة في نقاشاتهم الجدلية يجب أن يُنَحُّوا جانبًا مؤلفيهم المتعددين، ويتَّبِعوا فحسب أرسطو وأولئك الذين يدافعون عنه، ويأخذوا أسئلتهم عنه، وأن ينقُّوا المدارس من كلِّ الأسئلة العقيمة والغبية المتعارِضة مع الفلسفة القديمة والحقيقية …3
ومن ثَمَّ، في القرن الخامس عشر اتَّسَمَ عالَمُ الأفكار بالجمود لأن المرء لم يكن باستطاعته التفكير في الأفكار المتعارضة مع سلطات الماضي. أثَّرَتْ هذه النظرة تأثيرًا كبيرًا على طريقةِ توجيهِ الطاقة الفكرية. كان الهدف من فحص الطبيعة هو فهم الدور الذي يلعبه كل كائن في عالَم الرب، ولم يكن الهدف «تغيير» الطبيعة. هذا سبب أساسي لدراستنا للطبيعة في يومنا الحاضر؛ إذ ندرسها لنهزم المرض، ولنزيد إنتاجيةَ المحاصيل. أما بالنسبة إلى عقل العصور الوسطى، فعالَمُ الرب يجب عدم العبث به، بل فهمه كوسيلةٍ لتأمُّلِ وتقديرِ خير الرب وحكمته.
لا حاجةَ بنا للقول إن تلك المعتقدات الماورائية ليست شائعةً بين الغربيين في الوقت الحاضر، ولم تكن شائعة بين الأوروبيين المتعلِّمين بحلول نهاية القرن السابع عشر. كان التغيير نتيجةَ حركةٍ فكرية استمرَّتْ تقريبًا مائتَيْ سنة، بدايةً من أوائل القرن السابع عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر.§ وعلى الرغم من أن فكر التنوير أثَّرَ على كل جوانب شئون البشر — العلم، الحُكْم، الدين، الفنون — فإنني أركِّز هنا على التغيير في طريقة تفكير المتعلمين في المعرفة: كيف تُكتسَب المعرفة؟ وإلى أي مدًى تكون المعرفة مؤكدة؟ بالنسبة إلى عقل العصور الوسطى، فإن المرجعيات قدمت أمورًا «عرف» المرء أنها حقيقية على نحوٍ يقينيٍّ. كان التشكيك في هذه الأمور معارضًا للدين، واليومَ ننظر إلى المرجعيات القديمة باحترامٍ أقل بكثيرٍ؛ فنحن نعترف بأننا استفدنا من خبرة أسلافنا، وأننا نعلم بالفعل أكثر منهم. كيف غيَّرْنا معتقداتنا عن مصدر استقاء المعرفة؟

لنبدأ بمفهوم الشك. لماذا قرَّرَ الناس في القرن السابع عشر أنه من المقبول التشكيك في الأشياء، وطرح الأسئلة؟ ما الذي خلَّصَهم من إيمانهم بالجبرية وافتراضهم الضمني بأن لا شيء سيتغيَّر أبدًا؟ كان المسئول الأساسي عن ذلك هو رينيه ديكارت. لقد سمعتَ بالتأكيد قولَه المأثور البالغ الشهرة: «أنا أفكِّر، إذن أنا موجود.» ماذا يعني ذلك؟ كان ديكارت يردُّ على الشكوكية الفلسفية، وهو نوع من الفكر يعود إلى الإغريق، وراجَ مرةً أخرى في منتصف القرن السابع عشر، وهو يطرح السؤال الآتي: «كيف يمكننا أن نتأكد من أن أي شيء حقيقي؟» حسنًا، كي تكون متأكدًا من أن شيئًا ما حقيقي تحتاج إلى وضع معيار للحقيقة، وهذا يعني أن تقول: «إذا كان أحد التصريحات يلبِّي هذه الشروط، فإنني أقبل أنه حقيقي.» على سبيل المثال: من الممكن أن أقول: «إذا اتفق أحد التصريحات مع أمرٍ ألاحظه بعيني، فإنني أقبل كوْنَ هذا التصريح حقيقيًّا.» لكن عندها من الممكن أن أسألك: «كيف تعلم أن معيارك للحقيقة موثوقٌ به؟ كيف تعلم أن الأمور التي تراها بعينيك حقيقية؟» لذلك، ردًّا على هذا، فأنت تقدِّم سببًا لكون معيار الحقيقة ذلك موثوقًا به؛ على سبيل المثال: من الممكن أن تقول: «الأشياء التي رأيتها بعيني ثبتت صحتها في الماضي دائمًا تقريبًا.» لكن عندها من الممكن أن أسألك بدوري: «إذن هذا «سبب» معيار الحقيقة الذي تستخدمه، وأنت تقول إنه يوجد تاريخ للأمور التي رأيتها بعينيك واتضح أنها حقيقية. لكن كيف تعلم أن هذا «السبب» موثوق به؟ كيف تعلم أن تاريخ الموثوقية هذا سوف يستمر؟» وهذا يعني أنه في كل مرة تقدِّم لي معيارًا من خلاله يمكنني معرفة أن بعض المعلومات حقيقية، فإنني سوف أطلب منك معيارًا لذلك المعيار.

كثير من المفكرين حتى ذلك الوقت كانوا ببساطة يوبِّخون الشكوكيين ناعتين إياهم بالمعارضين للدين. أوضح ديكارت ضرورة أن تؤخذ حجة الشكوكيين على محمل الجد، وكان تصريحه «أنا أفكر إذن أنا موجود» هو رده عليهم. تمثَّلَ مشروع ديكارت في إيجاد معيار موثوق فيه للحقيقية؛ أي مجموعة قواعد من خلالها يستطيع المرء «معرفة» أن أحد الأمور حقيقي، على نحو يقيني. اعتقد ديكارت أنه إذا استطاع إيجاد تصريح لا يمكنه التشكيك فيه، فإنه سيستطيع اكتشاف «سبب» عدم إمكانية التشكيك فيه؛ ومن ثَمَّ سيكون لديه معيارٌ للحقيقة، وسيعلم السمات التي لا بد أن تتوافر في التصريح كي يكون المرء متأكدًا من حقيقته.

كان تصريح «أنا أفكِّر إذن أنا موجود» تصريحًا لا يمكن التشكيك فيه. معظم التصريحات الأخرى يمكن التشكيك فيها. إنك ترى أحد الأمور بعينيك، لكن كيف تعلم أنه ليس هلوسةً أو حلمًا؟ إنك تزعم أن ٢ + ٢ = ٤ لكن لا يمكنك «حقًّا» أن تعلم أنك لم تخطئ في الحساب. لكن إذا كنتُ أفكِّر فلا بد أن توجد «نفسي» لتقوم بالتفكير، لا مهربَ من هذا.

جعل ديكارت الناس تتعامل بجدية مع سؤال «كيف أعلم أن أحد الأمور حقيقي؟» وفي فعل ذلك «شجَّعْ على الشك». تحدَّى ديكارت معاصريه في طرح هذا السؤال: «كيف نعرف أن أحد الأمور حقيقي؟» بدلًا من مجرد قبول أنه حقيقي لأن سلطةً مرجعيةً ما صرَّحَتْ به.

على النقيض من ديكارت، الذي سعى إلى المعرفة اليقينية، أوضح جون لوك على نحوٍ مُقْنِعٍ أن بعض المعرفة منقوص على نحو حتمي. على أفضل تقدير، كل ما يمكننا قوله هو أن شيئًا ما من المحتمل بشدة أن يكون حقيقيًّا، لكنْ ليس بشكلٍ مؤكَّد مطلقًا. قدَّمَ لوك سببين أساسيين لهذا؛ أولًا: أوضَحَ أن التفكير البشري ضعيف ومعرَّض للخطأ، فمن السهل إرباكُ تفكيرنا، وغالبًا أفكارنا تصاب بالتشوُّش من خلال إساءة استخدام اللغة، وذاكراتنا محدودة، بحيث لو تطلَّبَ الأمر سلسلةَ استنتاجاتٍ طويلةً للربط بين فكرتين، فمن المحتمل أن نعجز عن التتبُّع.4
السبب العام الثاني لضرورة اعتبار المعرفة محتملة على أفضل تقدير هو: أنه من الممكن دائمًا أن نكتسب معرفةً جديدةً في الغد توضِّح لنا أننا كنا مخطئين اليومَ؛ على سبيل المثال: افترِضْ أنك تشاهد فوَّارة «أولد فايثفول» الحارة في حديقة يلوستون الوطنية؛ على مدار ما يزيد عن مائة سنة، نشاهد فوارة الماء الحار تطلق عمودًا من الماء المغلي على ارتفاعٍ يزيد عن مائة قدم، مع مرور فترةٍ تتراوح ما بين خمس وخمسين دقيقة وخمس وتسعين دقيقة بين كل فوران وآخَر.5 إذن هل ستفور فوارة أولد فايثفول في وقتٍ ما من الغد؟ هذا محتمل بالتأكيد، لكن لوك يوضِّح أنه من المحتمل أن يحدث زلزالٌ الليلةَ يمنع النبع من تغذية فوارة الماء الحار، فمن الممكن أن يسعى فريق من الفوضويين الأشرار إلى سدِّ فوارة أولد فايثفول. هذا غير محتمل، أليس كذلك؟ بالطبع. إلا أننا لا يمكننا معرفة أنه لن يحدث.6 يحذِّر لوك من ضرورة عدم الانسياق وراء هذا الفكرة واستنتاج أننا لا يمكننا معرفة أي شيء، حتى إننا نصبح عاجزين ويصيبنا الجمود. («لماذا أذهب للعمل اليومَ؟ كيف أعلم أن العالَم لن ينتهي خلال ثلاثين ثانية؟») يقول لوك إن أفضل معرفةٍ ممكنة تنشأ عندما يكون لدى كل الناسِ التجربةُ نفسها، ويتفقون على طريقة تفسيرها. هذا قريب من اليقين، ويجب أن نتصرَّف كما لو كان هذا مؤكدًا.

بالنسبة إلى الناس في أواخر القرن الثامن عشر، كانت فكرة عدم وجود معرفة يقينية فكرة جديدة بالفعل. ذهبت الكنيسة بالتأكيد إلى أنه يوجد كثير من الأمور المعلومة على نحوٍ يقيني، وقالت الكنيسة أيضًا إنها، كمؤسسةٍ، تعلم هذه الحقائق. على النقيض، أوضح لوك أن المعروفَ معروفٌ بالتجربة، بل إن تلك المعرفة نفسها ناقصة.

على القدر نفسه من أهمية ديكارت ولوك، كان فرانسيس بيكون على الأرجح أهم شخصية في عصر التنوير.7 دافَعَ بيكون بقوةٍ عمَّا يمكن أن نعتبره اليومَ المنهجَ العلمي والطريقَ الملكي للمعرفة؛ إذ قال بيكون إنه بدلًا من القبول بصحة المصادر المرجعية، يجب أن نتعرَّف على الطبيعة من خلال فحص الطبيعة مباشَرةً، كما هو موصوف في مقدمة هذا الفصل. ومن خلال المراقبة الدقيقة، من المحتمل أن نستنتج تعميمًا أو قانونًا عن الظاهرة الطبيعية التي نراقبها. وأضاف بيكون الخطوةَ الحاسمة الأخيرة؛ حيث قال إنه من الضروري تجربة هذا القانون من خلال توليد توقُّعات جديدة من خلاله، ورؤية ما إذا كانت حقيقية.

تلخيصًا لما سبق، شجَّعَ ديكارت على الشك، وحثَّ الناس على أن يسألوا أنفسهم كيف هم متأكِّدون من أنهم محقُّون فيما يعتقدون أنهم على معرفةٍ به. أقنع لوك الناسَ بأن المعرفة ليست مؤكَّدة مطلقًا، لكنها دائمًا مسألةٌ احتمالية، وأوضَحَ بيكون أن أفضلَ مصدرٍ للمعرفة هو التجربة الذاتية للفرد. آخِر شخصية سوف أذكرها قدَّمَتْ مثالًا مدهشًا للعامة على نجاح الأسلوب العلمي الذي ناصَرَه هؤلاء الفلاسفة في التفكير، فقد أظهَرَ إسحاق نيوتن أن طريقة بيكون كانت أكثر نجاحًا في كشف النظام الخفي الذي يقوم عليه كون الرب مقارَنةً بدراسة الكتاب المقدس.

كان أبرز مثال لهذا العمل هو كتاب «الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية» لنيوتن، المنشور عام ١٦٨٧، الذي ضمَّ قوانين نيوتن للحركة وقانون الجذب العام. كان يوهانز كبلر قد نشر عام ١٦٠٩ قوانينَه الثلاثة التي تصف حركةَ الكواكب، وفي عام ١٦٣٨ نشر القانونَ المتعلِّق بمسافةِ وزمنِ وتسارُعِ الأجسام الصغيرة التي تتحرك على الأرض. جمع نيوتن كلَّ هذه الملاحظات وغيرها الكثير في وصفٍ رياضيٍّ متجانِسٍ لعالمنا المادي، وبَدَتِ النتيجةُ واضحةً؛ إذ تبيَّنَ أن عالمنا تحكمه قوانين ميكانيكية، وأن البشر قادرون على فهم تلك القوانين ووصفها.

اعتُبِر إسهامُ نيوتن تأكيدًا هائلًا على قيمة المنهج العلمي. كان هذا المنهج ناجحًا للغاية، حتى إن المفكِّرين حاولوا تطبيقَه على مجالاتٍ أخرى غير العالَم الطبيعي؛ على سبيل المثال: جعل الفيلسوف هيوم العنوانَ الفرعي لكتابه الرائع «بحث في الطبيعة البشرية» على النحو الآتي: «محاوَلة لتطبيق المنهج التجريبي في التفكير على الموضوعات الأخلاقية». لاحقًا سوف يلخِّص فولتير تأثيرَ نيوتن قائلًا: «كان نيوتن محقًّا، وأيضًا لا بد أن يكون فِكْرُ التنوير — على الرغم من تطبيقه على مجالات أخرى؛ سياسية وأخلاقية واجتماعية — صحيحًا هو الآخَر؛ لأننا استخدمنا منهج نيوتن!»8

خلال فترة مائتَيْ سنة — من عام ١٦٠٠ إلى عام ١٨٠٠ — كان يوجد تحوُّل لافت حقًّا فيما أطلقنا عليه المعتقدات الماورائية؛ أي الافتراضات العامة التي يكونها المرء عن العالَم. عام ١٦٠٠ كان الأوروبيون الغربيون يرون أن العالَم ثابتٌ ويحكمه الرب بطريقةٍ غامضة. كان باستطاعة البشر فهم بعض هذه الأسرار، وبهذه الطريقة يقدِّرون خَلْق الرب على نحوٍ أفضل. كانت طريقة التوصُّل لهذا الفهم هي الدراسة الدقيقة للمرجعية المستلمة. لكن بحلول عام ١٨٠٠، كان الأوربيون الغربيون يرون العالَمَ متحركًا ومتغيِّرًا، وخاضعًا للقوانين الرياضية. كان باستطاعة البشر فهْمُ تلك القوانين، ولم يكن الهدفُ من هذا الفهم تقديرَ جلالِ الرب، بل تحسين رفاهة البشر. لم تكن طريقة التوصُّل لهذه المعرفة افتراضَ صحةِ المرجعية المستلمة بل ملاحظة العالم، لا سيما من خلال التجريب العلمي.

fig16
شكل ٢-٢: في هذه المطبوعة المنشورة عام ١٧٥٠، تنظر النساء والرجال المحترمون من الطرف الخطأ في التليسكوب، بينما «يفحص» الرجل الموجود في المنتصف نموذجًا لجِرْمٍ سماوي باستخدام نظارة مكبِّرة.9 كان العلم رائجًا في القرن الثامن عشر، حتى لو كان كثيرٌ من مناصِرِيه غير بارعين في ممارسته.
لكنْ إلى أي مدى كان هذا مهمًّا للحياة اليومية للمواطنين العاديين؟ أليس كل هذا مجرد حديثٍ فكري مبالَغ فيه إلى حدٍّ بعيد، إنْ جاز القول؟ نعم، كان كذلك في البداية، لكن هذه الأفكار انتقلَتْ تدريجيًّا إلى قطاع عريض من القرَّاء العوام من الطبقة الدنيا من النبلاء، وكذلك من الأطباء والمحامين والتجار. في القرن الثامن عشر، أصبح العلم رائجًا، فقد درس جورج الثالث ملك إنجلترا علْمَ النبات، ودرس جون الخامس ملك البرتغال علْمَ الفلك.10 وحذا الأشخاص الأقلُّ موهبةً وشهرةً الحذْوَ نفسه، وربما لم يقدِّموا دائمًا إسهامًا كبيرًا في الإنجازات العلمية (انظر الشكل ٢-٢)، لكنهم بالتأكيد قدَّموا إسهامًا في تغيير عقلية العوام (انظر الشكل ٢-٣). في الواقع، كتب كثيرة ممَّا نعتبرها اليومَ كتبًا أساسيةً في تطوير العقل الذي عزَّزَتْه فترةُ التنوير؛ لم تكن تُعتبَر كتبًا أكاديمية، بل كانت الكتبَ الأفضلَ مبيعًا في ذلك الوقت؛ ومن ثَمَّ لم يكن التنوير مقتصرًا على الصفوة الفكرية.
fig17
شكل ٢-٣: لوحة «تجربة على طائر في مضخة الهواء» للرسام جوزيف رايت من مدينة ديربي. في هذا المشهد العائلي، يشغل عارضُ تجاربَ متجوِّل مضخةَ تفريغٍ. يحتوي المصباح الزجاجي الموجود في الأعلى على ببغاء كوكاتو مرفرف، وهذا الطائر سوف يموت إذا استمرَّ العرض. لاحِظْ أن الترفيه المسائي لهذه الأسرة المنتمية للقرن الثامن عشر كان «مشاهدة تجربة علمية».

(٢) الدافع الرومانسي

بحلول العقود الأولى من القرن التاسع عشر، كان فِكْرُ التنوير متغلغلًا للغاية في الغرب، حتى إنه من الممكن اعتبار أنه كان العُرْفَ السائد. بدأت الرومانسية إلى حدٍّ بعيدٍ كَرَدِّ فعلٍ لبعض وجهات النظر التنويرية، لا سيما وجهات النظر المتعلقة بالطبيعة والبشرية.

في وجهة نظر التنوير، كانت الطبيعة آلية، تشبه في عملها عملَ ساعةٍ عملاقة معقَّدة على نحوٍ هائل. وكان من أساسيات فِكْر التنوير فكرةُ أن الطبيعة محكومة بقوانين، وأن العقل البشري يمكنه فهم تلك القوانين عن طريق التفكير بالطريقة التي روَّجَ لها بيكون؛ هذا ما أراه نيوتن للعالَم. على الرغم من أن استعارة آلية الساعة تجعل الطبيعة تبدو عاديةً إلى حدٍّ ما، ففي واقع الأمر كان مفكِّرو التنوير يرون الطبيعة قريبةَ الشبه للغاية من الإله. أوضَحَ كثيرون أن الرب لم يُرِدْ أن يجعل نفسه معلومًا فقط للمطَّلِعِين على الوحي؛ إذ إنه لن يحرم الناس في أراضي المعرفة «المتخلفة» من خيره وحكمته، بل جعل الربُّ نفسَه واضحًا للجميع من خلال بهاء الطبيعة.#
ربما ظلت الطبيعة الإلهية باقية، لكنَّ المفكِّرين الرومانسيين ما زالوا مشمئزين من النظرة الميكانيكية للكون. لقد كانوا يرون الطبيعة كما يراها الشاعر، لا كما يراها العالَم، واعتقدوا أن الاستجابة الصحيحة للطبيعة عاطفيةٌ لا عقلانيةٌ. إن القوة الجامحة للطبيعة — مثل قدرة العاصفة على التسبُّب في الدمار — يجب أن تملأ المرء بالفزع، وجلال الجبل المغطَّى بالضباب يجب أن يملأ المرء بالرهبة. وبمحاولة اختزال الطبيعة إلى منظومةٍ من المعادلات الرياضية، كان العلماء يغفلون عن معظم الأمور المهمة المتعلِّقة بالطبيعة، مهما قالوا إنها قريبة من الرب. وقد كانت النظرة الرومانسية للطبيعة واضحةً في رسومات هذه الفترة (انظر الشكل ٢-٤).
fig18
شكل ٢-٤: لوحة «توءم الروح» للرسام أشر دوراند، ١٨٤٩. كما هو معتاد في الأعمال الفنية الرومانسية، تُصوَّر الشخوصُ البشرية على أنها ضئيلةٌ أمامَ جمالِ وجلالِ الطبيعة الممثَّلة في الأشجار الباسقات والجبال التي يغطيها الضباب الظاهرة على مسافة بعيدة. وفي الوقت نفسه، يذكِّرنا الوادي العميق بقوة الطبيعة المروعة القادرة على شق الصخر، ويذكِّرنا جذع الشجرة بضعف الحياة.
كان المفكِّرون الرومانسيون أقلَّ تحمُّسًا لقوةِ العقل إلى حدٍّ بعيد مقارَنةً بأسلافهم في عصر التنوير. وعلى الرغم من أن العقل كان مفيدًا على نحو واضح، فقد رأوا أنه باردٌ ومحدودٌ بطريقةٍ ما، وأرادوا أن يشرِّعوا العاطفة كاستجابةٍ، أو إنْ لم تكن العاطفة الصرفة، فعلى الأقل العقل الممزوج بالعاطفة.11 أصبحت القدرة على إثارة العاطفة — لا سيما العواطف الشديدة مثل الرعب — هدفًا أساسيًّا للفن الرومانسي. قال الشاعر الرومانسي ويليام وردزوورث: «الشِّعْر هو الفيض العفوي للمشاعر القوية.»12 يمكن أن نجد هذا الاهتمامَ بالعاطفة كاستجابةٍ بشريةٍ قابلة للتنفيذ في الأنواع الفنية الأخرى، مثل الموسيقى (انظر الشكل ٢-٥).

وَصْف وردزوورث للشِّعْر بأنه عفوي مهمٌّ أيضًا. إن التفكير العقلاني، في العموم، يستغرق وقتًا ويتطلَّب جهدًا مضنيًا. على النقيض، فإن الحدس سريع وعفوي وغير متوقَّع. في مجال الموسيقى، اتخذَتْ هذه الفكرةُ شكلًا رسميًّا تمثَّلَ في الموسيقى الارتجالية في القرن التاسع عشر، وهو نوع موسيقي «تلقائي» أو «عفوي». كان الهدف من الموسيقى «الارتجالية» أن يبدو العازف كما لو كان يخلق الموسيقى أثناء العزف.

fig19
شكل ٢-٥: رسم لجوزيف هوفمان مخصَّص لأوبرا ريتشارد فاجنر «خاتم النبلونج». لاحِظِ التجاوُر الصارخ بين الصخور المنحدرة وسحب العاصفة الذي يوحي بقوة الطبيعة. تشتهر موسيقى فاجنر بأنها تستثير لدى المستمع مشاعرَ قويةً، والخبرة البصرية تزيد من قوتها.

وتتناسب فكرة العفوية أيضًا مع فكرةٍ أخرى أساسية متغلغلة في الفكر الرومانسي؛ أَلَا وهي القدرة الكامنة أو القوة الكامنة. في الغالب تُظهِر الرسوم الرومانسية مشهدًا طبيعيًّا باعثًا على السكينة، لكنه مشهدٌ خضَعَ لتأثيرِ قوى هائلةٍ؛ فنرى جبلًا أو غورًا ونتركه لنتخيَّل أن قوى جيولوجية هائلة عكفت على صنعه، ونرى شجرة مسودَّة ونتركها لنتخيَّل العاصفةَ الهائلة التي دمَّرَ البرقُ الشجرةَ خلالها.

توجد أربعة أسطر في قصيدة «قلب الطاولات» للشاعر ويليام وردزوورث تجمع كثيرًا من موضوعات الرومانسية:

تأثير واحد من غابةٍ في الربيع
يمكنه أن يعلِّم الكثيرَ عن الإنسانية،
وعن الشر والخير الأخلاقيَّيْن،
أكثر ممَّا يستطيع كلُّ الحكماء تعليمه.

إن الحكماء الذين يفكِّرون عقلانيًّا مرفوضون. ومن الممكن فهم الأمور المهمة من خلال الانتباه الدقيق لاستجاباتنا الشخصية العفوية تجاه الطبيعة.

(٣) المعتقدات الماورائية في التعليم اليومَ

دعونا نتوقَّف لنتذكر الصورة الكاملة. كلٌّ منا يتبنَّى بالضرورة معتقداتٍ عن طبيعة العالم والبشرية، وعن طريقة معرفة الناس بالأمور. لقد وصفتُ مجموعتين بارزتين ومؤثرتين للغاية من هذه المعتقدات؛ إحداهما من عصر التنوير، والأخرى من عصر الرومانسية. بطبيعة الحال، لا أزعم أن هذه المعتقدات وحدها تسيطر على أفكار الجميع في وقتنا الحاضر. توجد معتقدات ماورائية أخرى مهمة ترجع أصولُها إلى مصادر أخرى، أبرزها الإيمان الديني، لكن عندما ننظر إلى أنفسنا اليومَ، فإننا نادرًا ما نرى الناسَ يحاوِلون استخدامَ تراث القرن التاسع عشر المتمثِّل في الشعبوية الأمريكية أو الصحوة الكبرى كأسسٍ فكريةٍ للطرق التعليمية. ومع ذلك ففي كثيرٍ من الأحيان يَبْنُون حججَهم المتعلِّقة بالتعليم على معتقدات ماورائية تعود إلى عصر التنوير وعصر الرومانسية. إذن كيف تبدو هذه الحجج؟

في الغالب تكون الحجج غير مباشِرة أو حتى مقتضبة؛ فالشخصُ الذي يقوم بالإقناع لا يرغب في أن تفكِّر بإمعانٍ في البرنامج التعليمي الجديد هل هو فكرة جيدة أم لا؛ فمن الأفضل بكثيرٍ من وجهة نظره أن يجعلك تعتقد «أنك تصدِّق الفكرة بالفعل»؛ لأننا جميعًا كما وصفنا في الفصل الأول ننحاز إلى الحفاظ على معتقداتنا؛ ومن ثَمَّ بدلًا من تقديم تبريرٍ مفصَّلٍ، فإنه يُلقِي بعض العبارات المعهودة التي تعتمد على المعتقدات الماورائية لعصر التنوير أو لعصر الرومانسية. إنه يراهن على أن تروق تلك الأفكارُ للجمهور. وحتى إذا كانت المعلومات المقدَّمة غيرَ ذات صلة بالموضوع، فإنها «تبدو» مناسِبةً لنا لأنها تنتقل عبر أنماط فكرية مألوفة. لقد فكَّرْنا باستخدام أفكارٍ مشابِهة من قبلُ (على غرار: «العلم يثبت الحقيقة»)؛ ومن ثَمَّ فإن التفكير في هذا الزعم الجديد («إنه حقيقي لأنه علمي») يبدو منطقيًّا وسهلًا؛ ولذلك هو صحيح على الأرجح.13 يشير القانون الأمريكي «عدم إهمال أي طفل» لعام ٢٠٠٢ إلى الأبحاث «المبنية على أساسٍ علميٍّ» أكثر من مائة مرة.
تقضي المعتقدات الماورائية بأن العقل هو أفضلُ طريقةٍ لفهم العالَم، وأن المنهج العلمي هو الطريقة المُثْلى لاستخدام العقل؛ لذلك يعتمد الناس على هذه الأفكار من خلال زعم أن البرنامج التعليمي الذي يناصرونه يعتمد على الأبحاث، ويستحضرون غالبًا صورةَ العلم وسلطته، ويستخدمون المصطلحاتِ التقنيةَ لتفسير لماذا سيكون البرنامج فعَّالًا. إننا مُطالَبون بتصديقِ الشخصيات المرجعية التي تخبرنا بأن هذا البرنامج سيكون فعَّالًا، لكن تلك الشخصيات المرجعية ليسَتْ رجالَ دينٍ، بل علماء يرتدون معاطفَ المختبرات البيضاء. يُظهِر الشكل ٢-٦ أشخاصًا مثل هؤلاء الموجودين على الصفحة الرئيسية لموقعٍ على الإنترنت يقدِّم علاجًا مثليًّا لاضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة. والمداواةُ المثلية هي طريقةٌ من طرق الطب البديل تفتقر إلى السند العلمي ولا تدعمها غالبية الدراسات السريرية.⋆⋆
fig20
شكل ٢-٦: صور شبيهة بالصور الموجودة على أحد مواقع الإنترنت التي تقدِّم علاجًا مثليًّا لاضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة. صورةُ الطبيب والدقة التي تُوحِي بها القطَّارةُ، الهدفُ منهما الإيحاءُ بوجودِ أساسٍ علميٍّ للمنتج، بَيْدَ أنه لا وجودَ لهذا الأساس.
يُعَدُّ أيُّ شيءٍ مرتبطٌ بالدماغ من رموز «العلم» القوية الأخرى. أطلق المشكِّكون على هذا الميل اسمَ «نيروفيليا» (مشتقة من اللفظة الإغريقية نيرو وتعني «عصب»، واللفظة «فيليا» وتعني «حب»؛ أيْ حب العلوم العصبية). توضِّح الأبحاثُ أن الناس يحبُّون الدماغَ بالفعل؛ على سبيل المثال: في إحدى الدراسات، قرأ الأشخاص الخاضعون للتجربة أوصافًا عن ظواهر نفسية راسخة،14 وبعد قراءة الأشخاص للوصف، شاهدوا تفسيرًا من تفسيرين لسببِ حدوثها؛ كان أحد التفسيرين منطقيًّا، أما الآخَر فلم يكن كذلك. علاوةً على ذلك، كان التفسير إما يحتوي على معلوماتٍ متعلِّقة بالعلوم العصبية وإما يفتقر إليها، لكنْ عند وجود تلك المعلومات، فإن هذه المعلومات المتعلِّقة بالعلوم العصبية كانت دائمًا غير ذات صلة بالتفسير.

قيَّمَ الأشخاصُ التفسيراتِ على أنها أكثرُ إقناعًا عند احتوائها على أدلةٍ من العلوم العصبية، حتى إن كانت غيرَ وثيقةِ الصلة بالموضوع. ومن دون وجود الحشو المتعلِّق بالعلوم العصبية رأى الخاضعون للتجربة على نحوٍ صحيح أن التفسيرَ السيئ غيرُ منطقي، وقيَّموه على أنه ضعيف. إلا أن الهراء المتعلِّق بالعلوم العصبية أخفى سوءَ التفسير، وقيَّمَ الخاضعون للتجربة التفسيرَ السيئ على أنه لا بأسَ به (على الرغم من أنه ليس بجودة التفسير الجيد).

حتى صور الدماغ تجعل المعلومات تبدو علميةً إلى حدٍّ أكبر؛ على سبيل المثال: في إحدى الدراسات جعل الباحثون الأشخاصَ يقرءون وصفًا لدراسةٍ بعنوان: «مشاهدة التليفزيون مرتبطة بالقدرة الحسابية». أعلنَتِ الدراسةُ عن النتيجة (المزيفة) القائلة إن الجزء نفسه من الدماغ يُستخدَم عند مشاهدة الأشخاص للتليفزيون وعند حل المسائل الحسابية، وخلصت الدراسة إلى أن مشاهدة التليفزيون تساعد في تعلُّم الرياضيات. حتى إذا كانت النتيجةُ حقيقيةً، فإن الاستنتاج لا ينبع منها على نحوٍ منطقي. ربما الجزء من الدماغ المستخدَم أثناء حل المسائل الرياضية وأثناء مشاهدة التليفزيون هو الجزء من الدماغ الذي يدعم تسليط الانتباه، فأنت تسلِّط انتباهك عند فعلِ أيٍّ من المهمتين. لكن الاستنتاج «بَدَا» أكثرَ منطقيةً للناس عندما رأوا صورة الدماغ، كما هو موضَّح في الشكل ٢-٧.15

ومن ثَمَّ ليس من المفاجئ أن الأشخاص الذين يحاولون بيع منتجات تعليمية يحاولون الاستفادة من حب العلوم العصبية «نيروفيليا»، من خلال وصف المنتجات بأنها «معتمِدة على طريقة عمل الدماغ» وباستخدام صور الدماغ. سيكون لديَّ مزيدٌ من الكلام لقوله عن علاقةِ العلوم العصبية بالتعليم في الفصل الرابع.

fig21
شكل ٢-٧: (أ) قرأ الأشخاص الوصفَ نفسه لدراسةٍ علميةٍ متخيَّلة. رأى بعضُ الأشخاص أيضًا مخطَّطَ رسمٍ بياني للنتيجة الرئيسية المتمثلة في تنشيطٍ مكافئٍ في جزءٍ من الدماغ عند مشاهدة الأشخاص للتليفزيون، أو عند حل المسائل الحسابية. شاهَدَ أشخاصٌ آخَرون خاضعون للتجربة البياناتِ نفسَها، لكن ليس في صورةِ مخطَّطِ رسمٍ بيانيٍّ، بل في صورة تنشيط دماغي. (في النسخة الأصلية، كان التنشيط الدماغي موضَّحًا باللون الأحمر.) لم يَرَ الأشخاص الخاضعون للتجربة المحكمة أيًّا من الصورتين. (ب) يُظهِر مخطَّطُ الرسم البياني الموجود في الأسفل أن الأشخاص الخاضعين للتجربة الذين رأوا صورةَ الدماغ قيَّمُوا الاستدلالَ العلمي في الدراسة تقييمًا أعلى مقارَنةً بغيرهم من الأشخاص الخاضعين للتجربة.
ماذا عن المعتقدات الماورائية الرومانسية؟ تعبِّر هذه المعتقدات الماورائية عن نفسها بطرق قليلة: أولى هذه الطرق هي التأكيد على الأمور الطبيعية. تذكَّروا أن الرومانسيين كانوا يبجِّلون الطبيعة تبجيلًا دينيًّا تقريبًا، ونرى هذا التبجيل في الثقافة الأمريكية في وقتنا الحاضر في تقديرنا للمنتجات الطبيعية. إننا نعتقد أن مياه النبع ليست نظيفةً بالضرورة فحسب، بل هي أيضًا أفضلُ من ماء الصنبور لأنها تأتي مباشَرةً من الأرض وليست مُعالَجة.16 يعتقد الناس أن العلاجات العشبية أقل احتمالًا في التسبُّب في آثارٍ جانبيةٍ مقارَنةً بالمستحضرات الدوائية المصنَّعة،17 وأن تناولها أقل خطورةً في العموم.18 بطبيعة الحال، كون أحد الأمور موجودًا في الطبيعة لا يعني أنه مفيد للصحة. إن نبات عنب الثعلب طبيعيٌّ تمامًا، لكنك سوف تموت إذا تناولتَ توتَه الأرجواني الجميل.

الاعتقاد الماورائي القائل إن «الطبيعي جيد» متغلغل في التعليم. بالنسبة إلى الأطفال الذين يعانون من اضطرابِ قصورِ الانتباه وفرط الحركة أو غيره من الاضطرابات المتاحة لها الأدوية، فإنه توجد مجموعة كبيرة من العلاجات «الطبيعية» من حميات بديلة، وتمارين، ومداواة مثلية، وغيرها، وكلها تتفاخر بإمكانياتها «الطبيعية». ومن المظاهر الأخرى الأكثر خفاءً لتبجيل الرومانسية للطبيعة وجهةُ النظر التي ترى أن التعلُّم أمرٌ طبيعي، وهذا يعني أن الحالة العادية للأطفال هي الفضول والتعلُّم. فكِّرْ في الفضول الطبيعي للطفل الرضيع وقارِنْه بفضول المراهق؛ أَلَا يبدو واضحًا أن المدرسة تُضعِف من الفضول الطبيعي للطفل؟ يستخدم هذا الاعتقاد الماورائي الرومانسي من خلال الاستعانة بالإشارات الثانوية مثل عبارة «تعلم بالطريقة الطبيعية»، وعبارة «يعتمد على الفضول الطبيعي للطفل».

وفي أحيانٍ أقل يُوصَف الجانب السلبي للتعليم المدرسي، من خلال التأكيد على أن مطالَبةَ الأطفال بالجلوس على مقاعد في صفوفٍ أمرٌ غيرُ طبيعي، أو تشبيه المدرسة بالمصنع (والطلبة هم المنتج)، أو تشبيه المدرسة بالسجن من حيث الروتين المضجر نفسه والافتقار إلى الحرية، فالتعلُّمُ أمرٌ طبيعي وسوف يحدث على نحوٍ صحيٍّ ووافرٍ إذا سُمِح للطبيعة بأنْ تسلك مسارها المعتاد. يمثِّل التعليم المدرسي، كبنيةٍ نظاميةٍ وضَعَها الكبار، إعاقةً لهذه العملية؛ فالمدرسة هي المشكلة، وليست الحل. إن جوهر الحجة يتمثَّل في ضرورة إفساحِ مجالٍ جيد للطلبة كي يُعْرِبوا عن رأيهم فيما يرغبون في تعلُّمه. مثل هذه الحجج طالما كانت أساسًا لمجموعة من المدارس غير التقليدية. تعود الأفكارُ الأساسية إلى أعمالٍ فلسفية تنتمي إلى القرن الثامن عشر، من بينها كتاب «إميل» لجان جاك روسو (١٧٦٢)، وكتاب «ليونارد وجيرترود» لبيستالوتسي (١٧٨١)، لكنها تعاوِدُ الظهورَ على نحوٍ متكرِّر، مرتديةً غالبًا ثيابَ التنوير. إن الفكرة القائلة بأن الأطفال حكماءُ بالفطرة، وأن التعليمَ هو مجرد كشفٍ للقدرات الكامنة؛ تُقدَّم كاكتشافٍ علميٍّ يعتمد على أبحاث حديثة، مثلما حدث في ستينيات القرن العشرين في كتاب «مدرسة سامرهيل»، ومرةً أخرى في ثمانينيات القرن العشرين في كتاب «علِّمْ طفلَك بنفسك».19

هذا المعتقد الماورائي الرومانسي صحيحٌ جزئيًّا، لكنْ يُقصَد به باطل. ثمة أمورٌ البشرُ مؤهَّلون لتعلُّمها، لا سيما كيفية المشي، وكيفية التحدُّث، وكيفية التواصل الاجتماعي. يمثِّل كلٌّ منها مهارةً معقَّدةً للغاية يتعلَّمها معظم الأطفال دون توجيه، بل فقط من خلال مشاهدة الآخرين؛ ومن ثَمَّ فإن مثل هذا النوع من التعلُّم يمكن نعتُه إلى حدٍّ بعيدٍ بأنه طبيعي وبلا مجهود. إلا أن معظم ما نرغب في أن يتعلَّمه الأطفالُ في المدرسة مختلفٌ من الناحية الكيفية، فالأطفالُ لا يتعلَّمون القراءةَ طبيعيًّا من خلال فرصة ملاحظة الآخَرين وهم يقرءون فحسب، على الرغم من أن هذه الفكرة طُرِحت أكثر من مرة في تاريخ التعليم.

إذن من الأفكار الرومانسية أن الطفل لديه ميلٌ طبيعي للتعلُّم، لكن هذا الحافز يحطِّمه الروتينُ المدرسي المضجر غير الطبيعي. إن هذه الفكرة — المتمثِّلة في التوافق السيئ بين الميول الطبيعية للطفل وبين الإجراءات في المدرسة — مرتبطةٌ أيضًا بفكرة رومانسية أخرى. تذكَّرْ أن المفكرين الرومانسيين كانوا مبهورين بالقوى أو القدرات الكامنة في الفرد أو في الطبيعة. في التعليم تتمثَّل هذه الفكرةُ في صورةِ إمكانيةِ «إطلاقِ» التعلُّم أو «فتح» آفاق التعلم. إن القدرةَ الفكرية للطفل، كما يُقال لنا، أكبرُ بكثيرٍ ممَّا نراه، ومن شأن الوسائل التعليمية الصحيحة أن تُطلِق هذه القدرة الكامنة، وحينها سوف نرى أمورًا رائعةً من الطفل.

من الناحية المعرفية هذه الفكرة خاطئة على نحوٍ مؤكد تقريبًا، فلا شيء في العقل مغلق أو مطلق. حقًّا نحن نتعلَّم أسرع كثيرًا، وبمزيدٍ من المرح والحماس، عندما تكون تجربةُ التعلُّم لطيفةً، أو عندما تُقدَّم لنا الأمورُ بوضوحٍ وضمن سياقٍ بدلًا من التلقين الممل. لكنْ ماذا عن فكرة القوى القوية التي تكمن ساكنةً داخلَنا، وإمكانية استغلال هذه القوى؟ هذا خيال، إنه حلم جميل. يمكن لأيِّ شخصٍ التحسُّن في أية مهارةٍ يمارسها، لكن هذا الأمر يتطلَّب العملَ، ولا يتطلَّب تدويرًا بسيطًا لمفتاحٍ في قفلٍ.

من السمات الأخرى للرومانسية الظاهرة في البرامج التعليمية التأكيد على الفرد. إذا كانت الفردية بالغةَ الأهمية في ذهنك، فمن الممكن بسهولة أن تستنتج أن المعلم مهما كان ماهرًا لا يمكنه أبدًا احترام اهتمامات وقدرات ثلاثين طالبًا مختلفًا. في الغالب تُستخدَم مصطلحاتٌ مثل «مقاس واحد يناسب الجميع» و«القولبة» على نحوٍ ازدرائيٍّ في هذا السياق. إن تسويق المنتج على أنه يحترم الفردَ يَلْقَى استحسانَ الوالد الذي يشعر أن ابنه لا يتوافق جيدًا مع التعليم المدرسي المعتاد. ومن المحتمل أن تتفاخر المنتجات بأنها «مصمَّمة وفقًا لاحتياجات الفرد»، أو أنها «تحترم أسلوبَ التعلُّم الخاص بطفلك».

توجد وجهة نظر منطقية في هذا الصدد، وتتناقض تناقُضًا حادًّا مع وجهةِ نظرِ التنوير ومع وجهةِ النظر العلمية في العموم. دَعُوني أوضِّح هذه النقطة من خلال ذِكْر موقفَيْن متطرِّفَيْن، لا يمكن أن يتبنَّى كثيرٌ من الناس أيًّا منهما.

موقف التنوير: لا توجد فروق مهمة بين الأطفال؛ لذلك يجب أن يكون الهدفُ إيجادَ أفضلِ طريقةٍ لتعليم القراءة (على سبيل المثال)؛ ومن ثَمَّ استخدامها مع كل الأطفال.

موقف الرومانسية: كلُّ طفلٍ فريدٌ؛ لذلك لا طائلَ من محاوَلةِ تحديدِ «أفضل الممارسات» التعليمية.

fig22
شكل ٢-٨: في إعلان الشامبو هذا لا يحتاج المرء إلى الاختيار بين العلم والطبيعة. إننا نرى رموزَ العلم المعتادة — أنبوب الاختبار والكأس الزجاجية — مرتَّبةً على نحوٍ متناسقٍ مع أوراق الشجر والزهور المأخوذة من الطبيعة.

لابد أن توجد الحقيقة في مكانٍ ما في المنتصف. إن معظم الأطفال متشابهون على نحوٍ كافٍ، حتى إن الحديث عن «طريقة تعلُّم الأطفال» هدفٌ علمي واقعي تمامًا مثل إمكانية الحديث عن «طريقة هضم الأطفال للطعام» و«طريقة تنفُّس الأطفال»؛ وهذا لا يعني أن استنتاجاتنا سوف تنطبق على كلِّ طفلٍ — بعض الأطفال لديهم اضطرابات هضمية على سبيل المثال — لكن يجب أن تنطبق على كثيرٍ من الأطفال. على الرغم من ذلك، من المؤكَّد أن التعليم المدرسي أكثرُ تعقيدًا من الهضم. قد تكون عملياتُ الذاكرة الأساسية متشابِهةً إلى حدٍّ كبيرٍ بين الأطفال، لكن توجد بالتأكيد اختلافاتٌ في دوافع الأطفال للمدرسة والتفاصيل المتعلِّقة بما يحفِّزهم، وهذا مجرد أحد الأمثلة. سيكون لديَّ المزيد حول دور العلم في التعليم — ما يمكن أن يسهم به وما لا يمكن أن يسهم به — في الفصل الرابع، أما الآن فدَعُوني فقط أوضِّح أن الموقفَيْن المتطرِّفَيْن — المتمثِّلَيْن في أن المدارس يمكنها أن تتجاهل على نحوٍ آمِن أي اختلافاتٍ وكل الاختلافات بين الأطفال، «أو» أن المدارس يجب أن تقدِّم تعليمًا مختلفًا من الناحية الكيفية لكلِّ طفلٍ — ليسا متفقَيْن مع ما نعرفه عن العقل.

على الرغم من أنني قدَّمْتُ فِكْرَ الرومانسية كَرَدِّ فعلٍ لفِكْر التنوير، فإن كلَيْهما يعيشان اليومَ في سلامٍ جنبًا إلى جنب، على الأقل في الثقافة الشعبية؛ على سبيل المثال: يعرض أحدُ إعلانات شامبو بانتين (انظر الشكل ٢-٨) صورةً من وجهة نظر كلٍّ من الرومانسية والتنوير، ويقول التعليق الصوتي أن الشامبو يستطيع أن «يُطلِق قدرةَ الطبيعة» من خلال استخدام «علم شامبو بانتين برو في».

وما ينطبق على منتجات الجمال ينطبق على البرامج التعليمية. برامج كثيرة لديها منظور رومانسي لكنها تزعم أنها تقدِّم دليلًا علميًّا على غرار أسلوب التنوير؛ على سبيل المثال: تزعم غالبًا مواقع الإنترنت التي تَعِدُ بإطلاقِ القدرة الكامنة لدى طفلك أن أساليبها معتمدةٌ على طريقةِ عملِ الدماغ ومثبتةٌ علميًّا. وتؤكِّد الجهاتُ المقدِّمة لعلاجاتٍ «طبيعيةٍ» لعسر القراءة على أنها مدعومةٌ بالدليل العلمي.

•••

في هذا الفصل، تناولتُ بعضَ الإشارات الثانوية المستخدَمة على نحوٍ متكرِّرٍ لدعم مصداقية البرامج التعليمية، وقد لخَّصْتُها في الجدول ٢-١. معظمُ هذه الإشارات يتَّسِم بالحيادية من حيث كونها أدلة؛ وهذا يعني أن مجرد وجود هذه الإشارات لا يعني أن أحد البرامج أو المناهج التعليمية سيئ أو ضعيف الدعم؛ فليس كل منتج يفخر بأنه «طبيعي تمامًا» مضيعةً للمال. كل ما أزعمه هو أن وجود هذه الإشارات يجب ألَّا يسهم في إقناعك بأن الأمر فكرةٌ جيدة. الاستثناءُ الوحيد، كما أزعم، هو أيُّ برامج تَعِدُ بفتح آفاق أو إطلاق القدرة المعرفية، فهذا الوعد لن يتحقَّق. بالنسبة إلى البرامج الأخرى، نحتاج فقط إلى صرف النظر عن الإشارات الثانوية لضمان عدم الانخراط في اعتقادِ أن البرنامج يتوافق مع المعتقدات الشديدة العمق التي نعتنقها، سواء أكانت معتقدات رومانسية أم تنويرية.

حسنًا، إذن نحن نعلم الأمورَ اللازم تجاهُلها. لكن ما الأمور التي علينا البحث عنها؟ كيف يمكننا إدراك أن أحدَ البرامج التعليمية لديه بالفعل سندٌ علمي؟ في الفصل التالي، سوف نناقش كيف يبدو العلم الحقيقي.

جدول ٢-١: عبارات معهودة تعتمد على الأفكار التنويرية أو الرومانسية.
فكرة تنويرية الإشارات الثانوية فكرة رومانسية الإشارات الثانوية
العلم هو الطريقة الأفضل لفهم العالم.

«معتمد على الأبحاث»،

«تُظهِر الأبحاث أن»،

«معتمد على طريقةِ عملِ الدماغ»،

«العلوم العصبية»

أية مصطلحات تبدو تقنية

ترويج العلماء المعتمدين صور الدماغ

الحدس طريقة مشروعة لفهم العالم.

«ذلك الصوت الصغير الموجود داخلنا»،

«الأمهات تعرف بالضبط»،

«ما قاله الطبيب (المعلِّم) لم يَبْدُ منطقيًّا بالنسبة إليَّ فحسب»

التعلُّم محكومٌ بقوانين تنطبق على الأطفال كافة.

الإشارة إلى طريقة واحدة لتعليم كل الطلبة،

«أفضل الممارسات»

الخبرة الفردية هي الطريقة الأكثر صحةً لفهم العالم.

«قولبة» (سياق سلبي)،

«مقاس واحد يناسب الجميع» (سياق سلبي)،

«مصمَّم وفقًا لأسلوب التعلُّم الخاص بطفلك»

تحتوي الطبيعة على الكثير من القوى الخفية والقدرة الكامنة.

«إطلاق التعلُّم»،

«فتح آفاق القدرة»،

«تعلم بالأسلوب الطبيعي»،

«دون أدوية»

هوامش

دُمِج نظام الطبيعة الأرسطية مع الكتاب المقدس المسيحي على يد توما الأكويني في كتاب «الخلاصة اللاهوتية» في القرن الثالث عشر.
النقاش الجدلي المذكور في الفقرة له معنًى رسمي. كانت النقاشات الجدلية مناقشاتٍ عامةً، الهدفُ منها استيضاح أسئلة معقَّدة ذات طبيعة دينية غالبًا مثل: كيف يبدو المطهر؟ ما طبيعة الإرادة الحرة؟ كيف يُعبَّر عن نعمة الرب على الأرض؟ وهكذا. كان للنقاشات الجدلية قواعد رسمية صارمة، وترتيبُ وزن الأدلة الذي ذكرتُه مثالًا عليها هو: القول المقتبس المباشِر للحجة أولًا، ثم الاستدلال المنطقي المأخوذ من الحجة، وأخيرًا الخبرة البشرية.
كما قال فرانسيس بيكون عام ١٦٢٠، فإن أعظم عقبة في طريق الإنجازات العلمية «تكمن في فقدان الناس للأمل، وفي افتراض أن ذلك مستحيل» فرانسيس بيكون (٢٠٠٠). «الأورجانون الجديد» (الكتاب ١، قول مأثور ٩٢؛ طبعة إل جاردين وطبعة سيلفيرثورن). كامبريدج: مطبعة كامبريدج (نُشِر العمل الأصلي عام ١٦٢٠).
§ على الرغم من أنني كنت أتحدَّث عن «فكر العصور الوسطى»، فإنه بطبيعة الحال تصوير ساخر. لقد كانت توجد مدارس كثيرة لفكر العصور الوسطى، والأمر نفسه ينطبق أيضًا على فترة التنوير؛ ومن ثَمَّ فأنا لا أقصد أيضًا الإيحاء بأنه لا أحدَ استخدَمَ العقلَ قبل القرن السابع عشر في أوروبا؛ أنا أتتبَّعُ فحسب التوجُّهَ الغربي الحالي الذي يقدِّم العقلَ على بقية الطرق الأخرى لفهم العالَم.
# «الربوبية» مصطلح لوجهة نظر ترى أن العقل وملاحظة الطبيعة كافيان لفهم عمل الرب وتقديره، وأن الأديان المؤسسية غيرُ ضرورية. يُعتقَد أن عددًا من مؤسِّسي أمريكا، مثل جيفرسون وماديسون وفرانكلين، كانوا ربوبيِّين. إنهم لم يَصِفُوا أنفسهم بأنهم كذلك، ولو أنهم فعلوا ذلك لَكان ذلك تصرُّفًا يفتقر إلى الحصافة، وما زالَتِ الطبيعةُ الحقيقية لمعتقداتهم محلَّ جدلٍ.
نصُّ قانونِ «عدم إهمال أي طفل» متاحٌ عبر هذا الموقع: http://www2.ed.gov/policy/elsec/leg/esea02/107-110.pdf.
⋆⋆ في المداواة المثلية تُقدَّم المادة التي تجعلك مريضًا في المعتاد كعلاجٍ لك، لكنْ بكمية ضئيلة جدًّا جدًّا. وتتمثَّل الاستراتيجية في أخذ محلول من المادة ثم تخفيفه، فتجعله قطرة في مائة قطرة. بعد ذلك تأخذ قطرةً واحدة من ذلك المحلول وتخفِّفها في تسع وتسعين قطرة من الماء النقي. في المعتاد، سوف تُجرَى عمليةُ التخفيف ثلاثين مرةً في المجمل. إذن ما الذي ستحصل عليه في النهاية؟ الماء. لقد خُفِّفَ المكون الفعَّال مراتٍ كثيرةً، حتى إن نسبته لم تَعُدْ جُزَيْئًا واحدًا في المليون أو حتى في المليار. عددُ جزيئات الماء هو واحد يليه ستة أصفار. توضِّح التحاليل أن العلاجات المثلية لا تتعدَّى فعاليتُها فعاليةَ حبوبِ العلاج الوهمي، ويجب ألَّا يكون هذا مفاجئًا لأننا في هذه الحالة نتوقَّع أن الماء له تقريبًا نفسَ فعاليةِ حبوبِ العلاج الوهمي في مقاومة المرض. عرض جيمس راندي الذي قضى عقودًا في فضح كذب العلم الزائف مليونَ دولار لأيِّ شخصٍ يستطيع أن يُظهِر فعاليةَ المداواة المثلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤