الفصل الثالث

العلم الجيد من منظور العلماء

إذا كان الأمر متعارِضًا مع التجربة، فهو خاطئ. في هذه الجملة البسيطة يكمن أساسُ العلم. لا يشكِّل فارقًا مدى جمال تخمينك، لا يشكِّل فارقًا مدى ذكائك، أو مَن خمَّنَ هذا التخمين، أو ماذا يكون اسمه. إذا تعارَضَ الأمرُ مع التجربة، فهو خاطئ.

ريتشارد فاينمان1

***

تخيَّلْ أن زلزالًا ضرب بلدتك، واهتزَّ منزلك كما لو أن عملاقًا خرافيًّا أخذ يهزُّه تسليةً لنفسه. ترجرجَتِ النوافذُ، وسقطَتِ الكتب من الأرفف. قفزتَ أسفل طاولة تتساءل متى سينتهي الزلزال، وتتساءل هل سينهار المنزل فوقك. توقَّفَ الزلزال أخيرًا، وتفحَّصْتَ بيتك، واتصلتَ بأصدقائك وأسرتك فوجدتَ الجميع بخير، وسمعت في الراديو أن مركز الزلزال كان بالفعل على بعد عدة مئات من الأميال، وأن بلدات تهدَّمَتْ وتساوَتْ بالأرض هناك، ومات عشرات الآلاف من الأشخاص، وفقد مئات الآلاف منازلَهم.

كيف سيكون ردُّ فعلك؟ أعتقد أنني، بطبيعة الحال، سأشعر بالسوء على كل أولئك الأشخاص الذين يعانون، لكنني سوف أشعر أيضًا بالامتنان؛ سأكون شاكرًا لحُسْن حظي لأن الأمور لم تكن أكثر سوءًا في المكان الذي أعيش فيه. أما ما «لن أفعله»، بحسب ظني، فهو ترويجُ شائعاتٍ عن قدومِ زلزالٍ آخَر، ربما يكون أسوأ هذه المرة، مركزه بلدتي.

على الرغم من أن هذا يبدو غير مرجَّح، فإن هذه الشائعات شائعةٌ نسبيًّا بعد الزلازل الكبيرة. لُوحِظت هذه الظاهرةُ لأول مرة عقب زلزال كبير وقع عام ١٩٣٤ كان مركزه ولاية بهار في شرق الهند؛ كانت هذه الشائعات منتشرةً بصفة خاصة على مسافة أكثر بُعْدًا عن مركز الزلزال، في مناطق عانَتْ من ضررٍ أقل.2 أُصِيب علماء النفس بالحيرة؛ لماذا يروِّج الناسُ هذه الشائعاتِ التي لا تؤدِّي إلا إلى مزيدٍ من القلق؟
أثارت هذه الحيرة انتباه عالم النفس ليون فستينجر، الذي قلب المشكلة رأسًا على عقب. ربما لم تتمثَّل المشكلة في أن الناس ينشرون الشائعات ومن ثَمَّ يسبِّبون القلق؛ ربما كانوا قَلِقين بالفعل، ومنحتهم الشائعاتُ نوعًا من «التبرير» لقلقهم. وهكذا ولدت نظرية التنافُر المعرفي.3
يتمثَّل جوهرُ نظريةِ التنافُر المعرفي في أن الناس يجدون تبنِّيَ فكرتين متناقضتين في عقولهم في الوقت نفسه أمرًا مزعجًا، وهذا الانزعاجُ يقود الناس إلى تغيير إحدى هاتين الفكرتين. يشعر الناس بالقلق، على نحو مفهوم، في أعقاب الزلزال، حتى لو كان الدمار من حولهم في أدنى مستوياته. إنه لَأمرٌ مخيف أن يقف المرء بقلة حيلته أمام قوة طبيعية هائلة. إذن تبنَّى هؤلاء الأشخاصُ فكرتين متناقضتين ظاهريًّا هما: (١) أنا قَلِق، وأيضًا (٢) كل شيء على ما يرام؛ لأن الزلزال لم يتسبَّب في إصابتي. تتوقَّع نظرية فستينجر أننا عندما نعتنق فكرتين متناقضتين، فإننا نتحمَّس لتغيير إحداهما. ليس من السهل أن تقلِّل من قلقك؛ لذلك تغيِّر الفكرةَ الأخرى، فتعتقد أن كل الأمور «ليست» على ما يرام لأن زلزالًا آخَر، ربما أكبر، قادمٌ في الطريق. على النقيض من ذلك، لا يحتاج الناس الأكثر قُرْبًا من مركز الزلزال إلى تبرير قلقهم؛ لقد فقدوا بالفعل ممتلكاتهم أو أُصِيبوا، أو فُقِدَ أصدقاؤهم أو أسرتهم أو ممتلكاتهم أو تعرَّضوا للإصابة؛ ومن ثَمَّ فإن سبب شعورهم بالقلق واضحٌ إلى حدٍّ بعيد.
أخضع فستينجر فكرتَه لمزيدٍ من الاختبارات الدقيقة في المعمل، وفي إحدى تجاربه الأكثر شهرةً، طلب من الخاضعين للتجربة القيامَ بمهامَّ متكررةٍ بالغةِ الملل، مثل إزالة المشاجب الخشبية من لوح تعليق المشاجب وإعادتها إليه مرةً أخرى.4 بعد ساعةٍ من هذا الضجر، أخبَرَ المجرِّبُ الخاضعين للتجربة أن الهدف منها رؤية هل سيؤدي الأشخاصُ المهامَّ على نحو أفضل لو كان قيل لهم إن المهمة مسلية. قال القائم على التجربة إن الشخص «التالي» الذي سيأتي لا بد أن يتوقَّع أن تكون المهمة مسليةً. هل سيكون الخاضع للتجربة مستعِدًّا لإخبار القادم الجديد أنه بصدد تجربة مسلية؟ كان تقديم المال للخاضعين للتجربة لقول هذه الكذبة هو الجزء الحاسم من هذه التجربة؛ فقد عُرِض على بعضهم مبلغٌ متواضِعٌ نسبيًّا يبلغ دولارًا أمريكيًّا واحدًا، بينما عُرِضَ على الآخَرين عشرون دولارًا أمريكيًّا، وهذا مبلغ مالي كبير في خمسينيات القرن العشرين وقتَ إجراء هذه التجربة. وفي نهاية التجربة، سُئِل الخاضعون للتجربة إلى أي مدًى أعجبتهم مهمة تعليق المشاجب.

نعتقد عادةً أن دفع الأجر للناس للقيام بأحد الأمور يحقِّق نتائجَ أفضل؛ لذلك قد تتوقَّع أن الخاضعين للتجربة الذين حصلوا على عشرين دولارًا سيُقَيِّمون المهمةَ في النهاية على أنها أكثر تسليةً مقارَنةً بالأشخاص الذين حصلوا على دولارٍ واحد. لكن حدث العكس! لماذا؟ عند إجبار الحاصلين على دولارٍ واحدٍ على الكذب بشأن المهمة ضَمِنَ المختبرون أن الخاضعين للتجربة سيتبنَّوْن فكرتين متناقضتين: (١) كانت المهمة مملةً حقًّا، و(٢) لقد أخبرتُ للتوِّ أحد الأشخاص بأن المهمة كانت مسليةً. لا يستطيع الخاضِعون للتجربة إقناع أنفسهم بأنهم لم يقولوا للتوِّ إن المهمة كانت مسليةً؛ لذلك يغيِّرون الفكرةَ الأخرى، فيخبرون أنفسهم أن مهمة تعليق المشاجب لم تكن بهذا السوء. أما الحاصلون على العشرين دولارًا فهُمْ على النقيض، لم يشعروا حقًّا بهذا الصراع الذهني لأنهم يستطيعون تبريرَ الفكرة الثانية قائلين: «لقد أخبرتُ أحدَ الأشخاص للتوِّ أن المهمة كانت مسليةً «لأنني تلقَّيْتُ عشرين دولارًا لقول ذلك».» ومن ثَمَّ عندما سُئِلوا في نهاية التجربة، قالوا إن المهمة كانت مُمِلَّة، مُمِلَّة، مُمِلَّة.

(١) كيف يعمل العِلْم

توضِّح قصةُ نظرية التنافر المعرفي كيف يعمل العِلْم. يوضِّح الشكل ٣-١ أن هذه العملية دورية. (عندما أشير إلى هذا الشكل سأطلق عليه دائرة العِلْم.) نحن نبدأ من ناحية اليمين ببعض ملاحظات عن العالَم؛ لا يُشترَط أن تكون تلك الملاحظات مكتشفاتٍ مخبريةً تقنيةً، بل يمكن أن تكون ملاحظات عابرة توصَّلت لها أثناء تمشيةٍ في الحي، أو كما في حالة عالِم النفس جامونا براساد، ملاحظات عن سلوك ضحايا الزلزال الذين يروِّجون الشائعات. وبعد ذلك نحاول صياغةَ هذه الملاحظات في صورة بيان ملخص بسيط — هذه هي المرحلة المسماة مرحلة «النظرية» في دائرة العلم — وفي واقع الأمر، فإن النظريات العلمية هي حقًّا مجرد بيانات تلخِّص جانبًا ما من جوانب العالم؛ على سبيل المثال: العبارة «تدور الكواكب حول الشمس في مدارات بيضاوية» تلخِّص الكثير والكثير من الملاحظات حول مواقع الكواكب في سماء الليل. سعى ليون فستينجر إلى تلخيص جوانب كثيرة من الفكر البشري والدوافع البشرية من خلالِ زعْمِ أن الأفكار المتناقضة تسبِّب الانزعاج. أخيرًا، نختبر هل البيان الملخَّص دقيقٌ، كما في تجربة فستينجر مع مهمة تعليق المشاجب المملة. يُنتِج الاختبارُ ملاحظاتٍ جديدةً؛ ومن ثَمَّ نعود إلى قمة دائرة العلم.
fig23
شكل ٣-١: المنهج العلمي مبسطًا قدر الإمكان. تُلخَّص الملاحظات المتعلقة بالعالم في صورة نظريات تخضع للاختبار لاحقًا. وتشكِّل نتائج الاختبار ملاحظاتٍ جديدةً عن العالَم، وتستمر الدائرة.

ماذا يحدث بعد ذلك إذن؟ نقوم بجولة أخرى حول دائرة العلم، وندفع النظرية نحو مزيدٍ من التوقعات المعدلة، ونختبرها في ظروفٍ أكثر تنوُّعًا. في نهاية المطاف، سوف نواجه فشلًا؛ أيْ ظرفًا في ظله تتوقَّع النظريةُ شيئًا مختلفًا عمَّا لاحظناه. إيجاد مثل هذا الفشل هو أمر جيد في واقع الأمر. لماذا؟ لأن هذه هي الطريقة التي يتقدَّم بها العلم. إن الإخفاقات هي محفِّزات للوصول إلى نظريات محسنة، وإذا طوَّرْنا نظريةً من الصعب للغاية دحضها، حتى بعد الكثير من الاختبارات، فإننا نبدأ في الوثوق بعض الشيء في أن هذه النظرية تمثِّل وصفًا جيدًا للعالَم، وسوف تكون مفيدةً لنا إلى حدٍّ ما. (طريقة استخدام النظريات العلمية سنتناولها في الفصل الرابع.)

كيف تجد عيبًا في النظرية بحيث يمكنك حينها أن تشرع في محاولة صياغة نظرية أفضل؟ من الممكن توجيه الانتقادات في أية مرحلة من مراحل العملية العلمية الثلاث الموضَّحة في دائرة العلم: الملاحظة أو النظرية أو الاختبار.

  • (١)

    قد يوضِّح أحدهم أنه توجد مشكلةٌ في «الملاحظات» في تجربةِ تعليقِ المشاجب لفستينجر. إذا قرأتَ المقالة التي تصف التجربة، فسترى أن البيانات المأخوذة من ١٥ في المائة من الخاضعين للتجربة يجب استبعادها، فقد كان هؤلاء الأشخاص إما متشكِّكين من الهدف الحقيقي للتجربة وإما رافضين لفكرة القيام ببعض المهام. وهذه نسبة عالية جدًّا؛ لذلك قد أزعم أن هذه التجربة غير صحيحة، وأقترح أننا نحتاج إلى بيانات أفضل.

  • (٢)
    قد يعتقد أحدهم أن بيانات التجربة جيدة، لكن ينتقد «النظرية». في الواقع، انتُقِدَت نظرية التنافُر المعرفي في البداية لكونها غامضةً بعض الغموض؛5 على سبيل المثال: ما مدى التعارُض المطلوب توافُره قبل أن أتحمَّسَ لتغيير أحد أفكاري؟ هل أي نوع من التعارض يفي بالغرض؟ افترض أنني أعتقد أن أحد الأطباء كُفْءٌ إلى حدٍّ بعيد، لكنني أراه بعد ذلك في مطعم يوبخ نادلًا على نحوٍ وَقِح؟ هل سأشعر بالتنافر؟ من ناحيةٍ، من الممكن أن تكون طبيبًا جيدًا وتكون على الرغم من ذلك فظًّا وَقِحًا. ومن ناحيةٍ أخرى، أَلَا يجب أن يكون الطبيب عطوفًا وحساسًا؟ قد أنتقِدُ نظريةَ التنافر المعرفي وأقول إنها غير ناضجة على نحوٍ كافٍ إذا لم تستطع التوصُّل لتوقُّع واضح في مثل هذه الحالات.
  • (٣)
    قد يقدِّم أحد الأشخاص «اختبارًا» جديدًا للنظرية، ويستنتج من النظرية توقُّعًا جديدًا لم تفكِّر فيه النظرية بعدُ. لم تقل النظرية إلا القليل عن مدى أهمية تعارُض الأفكار بالنسبة إلي؛ فلو كان هناك تعارُض، لَوُجِد تنافُر. على هذا النحو بَدَا أن النظرية تتوقَّع نشوء التنافر حتى لو كانت الأفكار متعلِّقة بأمور بسيطة. اختبر ميريل كارلسميث وزملاؤه هذا التوقُّع من خلال إعادة تجربة المهمة المملة، وإظهار أن الأكاذيب التي تحدث «وجهًا لوجه» فقط هي التي تسبِّب التنافُر.6 وعندما كتب الخاضعون للتجربة مقالًا يصفون فيه المهمةَ بأنها مسلية، لم يحدث تنافُر، والسبب المفترض لذلك هو أنهم لم يتعامَلُوا حقًّا مع الكذبة بجديةٍ. لم يكن لدى كارلسميث مشكلة مع البيانات الحالية أو مع النظرية، لكنه قدَّمَ اختبارًا جديدًا أظهَرَ بعد ذلك أن النظريةَ ناقصةٌ.
تناولتُ هذا المثالَ لإبراز سمتين من سمات العلم الجيد؛ أولًا: العلم متغيِّر وليس ثابتًا. على الرغم من أن مفكِّري التنوير رأوا أن العالَم متغير، فإن رؤيتهم عن العلم كانت ثابتة. اعتقَدَ علماءُ القرن السابع عشر أن الطبيعةَ كتابُ الرب العظيم اللازم فك شفرته، وتوقَّعوا أن المعرفة العلمية، بمجرد اكتسابها، ستكون نهائيةً. كانوا يرون أن قوانين نيوتن قطعية، وأنهم «انتهوا من» وصف الأجرام السماوية. كثير من العلماء يحملون وجهةَ النظر تلك في وقتنا الحاضر، وفي كثيرٍ من الأحيان تُعزَّز وجهة النظر تلك من خلال طريقة تقديم العلم في المدارس. إننا نتعلَّم الحقائقَ والقوانين في الكتب الدراسية كما لو كانت غير متغيِّرة. على النقيض من ذلك، يرى العلماء النظريات على أنها مؤقتة؛ لهذا السبب يصوِّر الشكل ٣-١ المنهجَ العلمي كدائرةٍ، فهو لا يتوقَّف أبدًا، وأفضلُ النظريات التي لدينا حول أية ظاهرة نراها كذلك مجرد نظرية، لا أكثر. ومن المتوقَّع أن تفشل النظرية مستقبلًا بطريقةٍ ما، وأن تُقترَح نظريةٌ أفضل في نهاية المطاف.
من المهم أن نضع في اعتبارنا الطبيعةَ المؤقتة للنظرية العلمية عند التفكير في استخدام المعرفة العلمية لتحسين التعليم. إننا لا نستطيع تغييرَ المناهج والطرق سنويًّا، لكنْ يجب أن نُقِرَّ بأن أفضل المعلومات العملية المتاحة لنا في الوقت الحاضر حول طريقة تفكيرِ وتعلُّمِ الأطفال من المحتمل أن تصبح قديمةً في غضون عقد أو عقدين. قد تكون تبعات هذه المعرفة الجديدة على أحد البرامج التعليمية بسيطةً، ومن الممكن ألَّا تكون كذلك، وسيكون من الأفضل لنا أن نضع هذه الحقيقة في الحسبان عند التفكير في الفلسفات التعليمية التي كُتِبت منذ خمسين أو مائة سنة. مات بياجيه منذ ثلاثين عامًا، ومات فيجوتسكي منذ ثمانين عامًا تقريبًا؛ وعلى الرغم من عظمة هذه العقول، فإنهم وضعوا نظرياتهم عن تنمية الطفل دون معرفةِ بياناتٍ تراكَمَتْ على مدار عقود من الزمان.

الأمر الثاني اللازم ملاحظته حول الطبيعة الدورية للمنهج العلمي هو التصحيح الذاتي. إننا لا نفترض فحسب أن النظرية الحالية مؤقتة وسوف يَثْبُت خطؤها في نهاية المطاف، بل نفترض أيضًا إمكانيةَ وجودِ وتطويرِ نظريةٍ أفضل. إلا أن إتاحة النظرية للنقد من الأمور الجوهرية لهذه العملية، فهذه هي الطريقة التي سنجد بها أخطاءَ النظرية.

النظامُ بأكمله الذي من خلاله تُولَد النظريات العلمية مصمَّمٌ على نحوٍ يتيح للأشخاص الآخَرين فرصةً كافيةً لتقديم النقد. ونتيجةً لطبيعة العلم الجدلية بعض الشيء، فقد اعتاد معظم العلماء على كونهم مخطئين. الأمر لا يقتصر فحسب على أن العلماء يُخطِئون أكثر ممَّا يُصِيبون — فهذا يحدث على الأرجح في المجالات الأخرى أيضًا — بل إننا نُواجَه بأخطائنا على الملأ.§ وبعد فترة، يدرك معظم العلماء أن الإصرار على أنهم مُحِقُّون عند مواجهتهم بالنقد المنطقي يجعلهم يبدون أكثر غباءً فحسب. من الممكن أيضًا أن تعترف بالخطأ، وإذا وجدتَ الخطأ قبل أن يجده شخصٌ آخَر، فمن الممكن أن تعترف به أيضًا قبل أن يشير إليه أحدُ الأشخاص. يعبِّر الفلكي كارل ساجان عن هذا الأمر على نحوٍ مثيرٍ للإعجاب فيقول:
في العلم يحدث في أغلب الأحيان أن يقول العلماء: «هذه حجة جيدة حقًّا؛ وموقفي خاطئ»، وبعد ذلك يغيِّرون آراءَهم ولا تسمع مطلقًا وجهةَ النظر القديمة منهم مرةً أخرى. إنهم يفعلون ذلك حقًّا. هذا لا يحدث كثيرًا على النحو المطلوب، لكن العلماء بشرٌ، والتغيير مؤلِم في بعض الأحيان، لكنه يحدث كلَّ يوم، ولا أستطيع تذكُّرَ آخِر مرة حدث فيها شيء من هذا القبيل في السياسة أو في الدين.7

هذا ملمح يختلف فيه العلم اختلافًا جذريًّا عن الطرق الأخرى لفهم العالَم. عندما تكون مُخطِئًا، يستطيع كل شخص آخَر رؤية ذلك. أستطيع تعديل نظريتي غير الدقيقة، أو يمكنني التخلِّي عنها وتجربة شيء جديد كليًّا، لكنْ لا يمكنني أن أنكبَّ على عملي فحسب وأتظاهر بأنني لم ألاحظ المشكلة، أو أتوعَّد الآخَرين وعيدًا أجوف وأسبُّهم وآمل أن يُلهِي ذلك الناس عن خطَئِي.

العلم يتحرك للأمام — أيْ إن فهمنا للظواهر الطبيعية يزداد عمقًا — مع مزيدٍ من الدوران حول دائرة العلم. في أغلب الأحيان عندما يتحدث الناس عن «العلم الجيد»، فإنهم يتطرَّقون إلى النقاط الأساسية المتعلِّقة بطريقةِ تصميمِ التجارب، إذا كان الناس يستخدمون الإحصائيات الصحيحة في بياناتهم، وهكذا. هذا مهم، لكن كما رأينا الآن، توجد مرحلتان أُخْرَيَان، على القدر نفسه من الأهمية من الممكن أن تسلك فيهما الأمورُ مسارًا صحيحًا أو مسارًا خاطئًا، وهاتان المرحلتان هما: تكوين النظرية، وملاحظة العالَم. دَعُونا نُلْقِ نظرةً على كلِّ مرحلةٍ من هذه المراحل الثلاث بمزيدٍ من الكثب، ونفحص الأمورَ اللازم توافُرها في كل مرحلة كي تُؤدَّى على نحوٍ صحيحٍ.

(٢) ملاحظة العالَم

لماذا لا يوجد مجال علمي يُسمَّى «علم الأخلاق»؟ ألن يكون مدهشًا (أو على الأقل مثيرًا) تطبيق المنهج العلمي على دراسة الأخلاق؟ يمكننا مع مرور الوقت التركيز على مجموعة واحدة من المبادئ الأخلاقية التي ستكون مناسبةً إلى أقصى درجةٍ للبَشَر. لماذا لا توجد أقسام جامعية لعلم الأخلاق كما توجد أقسام للأحياء والكيمياء وعلم النفس؟#
يشير الجواب إلى أحد عيوب الملاحظة العلمية المتمثَّل في أن المنهج العلمي يمكن تطبيقه فقط على العالَم الطبيعي. إنها صامتة أمام الأمور المتعلِّقة بالأخلاق أو الفضائل أو الجماليات. قد يكون لديك آراء قوية عن رواية «الشفق»؛ هل هي أفضل أم رواية «البحث عن الزمن المفقود»، لكن رأيك ليس مبنيًّا على العلم. ونظرًا لأن العلم ينطبق فقط على العالَم الطبيعي، فإنه بطبيعته لا ينطبق على الأمور الخارقة للطبيعة. (كلمة «خارقة للطبيعة» تشير في الغالب إلى الأمور الغيبية، لكنني هنا أستخدِم هذا المصطلح ليشمل أيَّ شيء خارج الطبيعة، بما في ذلك الرب.) وكما قال الفيزيائي ستيفن هوكينج فإن: «المنهج العلمي المعتاد، المتمثِّل في تأسيس نموذج رياضي، لا يمكنه الإجابة عن سبب ضرورة وجود كون كي يصفه النموذجُ من الأساس.»8

إذا لم تكن كل المشكلات خاضعة للتحليل العلمي، فمن الأفضل أن نسأل هل المشكلات التي نواجهها في التعليم يمكن التعامُل معها بالمنهج العلمي. بعض هذه المشكلات على الأقل قد يبدو جزءًا من العالَم الطبيعي؛ ومن ثَمَّ فإن الإجابة ستكون «نعم» على نحوٍ غير قاطع. لا توجد قوى خارقة للطبيعة تؤثِّر على الأطفال عند تعلُّم القراءة أو حل المسائل الرياضية، وهذه القدراتُ المعرفية ليس لها مكونات أخلاقية أو جمالية مهمة. يمكن دراسة هذه العمليات علميًّا، وقد تحقَّقَ تقدُّمٌ كبيرٌ في فهم هذه العمليات خلال الخمسين سنة الماضية.

توجد أسئلة مهمة أخرى متعلِّقة بالتعليم لا يناسبها المنهج العلمي بشكل تام؛ مثلًا: هل يجب تقديم التاريخ الأمريكي من أجل الحث على الوطنية، أم من أجل غرس توجُّهٍ متشكِّك تجاه الحكومة وتجاه السلطة المؤسسية في العموم؟ ما هو دور الفنون في التعليم من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الثانوية؟ مَن المسئول مسئوليةً مطلقةً عن تعليم الأطفال: هل الوالدان أم المعلمون أم الأطفال أنفسهم؟ وهل يتغيَّر الجواب عن هذا السؤال مع تقدُّم عُمْر الأطفال؟ يثير تعليمُ الأطفال الكثيرَ من الأسئلة، وعلى الرغم من أن المنهج العلمي يمكن أن يكون قويًّا، فمن الممكن تطبيقه فقط على جزء قليل من هذه الأسئلة؛ ولذلك يجب أن نعرف على نحوٍ واضح أيَّ الأسئلة يمكن أن يعالجها العلم وكيف. سيكون لديَّ المزيد لقوله عن هذا الأمر في الفصل الرابع.

إذن أول مبادئ الملاحظة الجيدة في العلم هو اختيار مشكلة يمكن للمرء ملاحظتها. المبدأ الثاني هو أننا عندما نقول «ملاحظة» فإننا نعني «القياس». وكما يقول الفيزيائي الألماني العظيم ماكس بلانك فإن: «التجربة سؤال يطرحه العلم على الطبيعة، والقياس هو تسجيلُ إجابةِ الطبيعة.»

لماذا القياس مهم لهذه الدرجة؟ افترِضْ أنَّ لديَّ نظريةً عن اتِّباع الحِمْيَة، فأقترح وجود علاقة دائمة بين استهلاك السعرات الحرارية وبين خسارة الوزن، فأقول إنك إذا قلَّلْتَ سعراتك الحرارية بمعدل ٢٥ في المائة، فسوف تخسر ١ في المائة من وزنك كلَّ أسبوع. وفقًا لنظريتي، فإن الشخص الذي يبلغُ وزنه مائتَيْ رطلٍ ويقلِّل استهلاك سعراته الحرارية بمعدل ٢٥ في المائة؛ سوف يخسر رطلَيْن في كل أسبوع يتَّبِع فيه الحِمْية.

fig24
شكل ٣-٢: توقُّعات نظريتين لخسارة الوزن.

افترَضِ الآنَ أن لديك نظرية مختلفة؛ أنك توافِقُ على أن تقليل السعرات الحرارية بنسبة ٢٥ في المائة سوف يؤدِّي إلى خسارة ١ في المائة من الوزن كلَّ يوم، لكنك تعتقد أن هذه النسبة تعني واحدًا في المائة من وزن الشخص «عند بداية الأسبوع»، وليس عند بدء الحِمْية؛ ومن ثَمَّ سوف يخسر متَّبِع الحِمْية ٢٫٠٠ رطل في الأسبوع الأول، و١٫٩٢ رطل في الأسبوع الثاني (أيْ واحدًا في المائة من ١٩٨ رطلًا التي تمثِّل وزنَ الشخص في بداية الأسبوع الثاني)، و١٫٩٦ رطل في الأسبوع الثالث، وهكذا.

نظريتك عن خسارة الوزن مختلفةٌ كثيرًا عن نظريتي؛ فنحن نختلف بشأن أساس خسارة الوزن، إلا أن النظريتين تتوقَّعان حقًّا توقُّعات متشابهة. في نهاية الأسبوع الثاني عشر، ستختلف التوقُّعات بمعدل رطل واحد، انظرِ الشكلَ ٣-٢. لذلك من أجل تحديد هل نظريتك عن خسارة الوزن أفضل أم نظريتي، فإننا سوف نحتاج إلى مقياسٍ دقيقٍ إلى حدٍّ بعيد.

تخيَّلِ الآن أنْ ليس لدينا موازينُ على الإطلاق. تخيَّلْ أنَّ كلَّ ما بوسعنا عمله كي نحكم على الوزن هو النظر إلى الأشخاص وقول: «اممم، أعتقد أنه يبدو أنحف.» لو كانت الحال هكذا، فسيبدو مستحيلًا تقريبًا تحديدُ هل نظريتك عن خسارة الوزن أفضل أم نظريتي. في الحقيقة، إذا لم توجد أجهزةٌ لقياس الوزن، فسيكون من الصعب إلى حدٍّ بعيدٍ تجاوُز الملاحظة العامة جدًّا، والواضحة جدًّا، المتمثِّلة في: «عندما يقلِّل الناس من الطعام، فإنهم يخسرون الوزن.»

عندما يتعلَّق الأمر بكثيرٍ من الصفات التي نهتم بأمرها في أبحاث التعليم، نجد أننا في موقف مشابه؛ فليس لدينا مقاييسُ. إننا نرغب في أن يصبح الأطفال مبدعين، ومتعاوِنين جيدين، ومفكِّرين نقديين ماهرين، إلا أن قدرتنا على قياس هذه الصفات محدودةٌ إلى حدٍّ بعيد؛ وهذا يعني أنني من الممكن أن أبتكِرَ نظريةً مثيرةً حول الأمور التي تجعل الشخصَ مُبدِعًا، لكنني لا أستطيع اختبارَ نظريتي. وإذا كان لديك نظرية مختلفة، فإننا لا نستطيع تصميمَ تجربةٍ لمعرفةِ أي النظريتين أفضل.

تتضح هذه المشكلة بصورة خاصة في ضوء الاتجاهات الحالية التي تؤكِّد على «مهارات القرن الواحد والعشرين» في التعليم المدرسي. يأتي هذا الدافع من الزعم المُقدَّم من قِبَل بعض علماء الاقتصاد الذين يقولون إن طبيعة سوق العمل آخِذة في التغيُّر؛9 ففي حين أن معظم الوظائف في الجزء الأخير من القرن العشرين كان يستلزم العملَ البدني المتكرِّر (مثل العمل في خط التجميع في أحد المصانع)، أو العملَ المعرفي المتكرِّر (مثل المبيعات عبر الهاتف)، فإن الوظائف العالية الأجر في القرن الواحد والعشرين من المحتمل إلى حدٍّ أكبر أن تستلزم عملًا معرفيًّا غير متكرِّر؛ أيْ وظائفَ يواجِهُ فيها الناسُ في الغالب مشكلاتٍ لم يحلُّوها في الماضي. علاوةً على ذلك، من المحتمل أن يتطلَّب حلُّ هذه المشكلات أنواعًا مختلفة من الخبرة؛ ولذلك سوف يحتاج الناس إلى تجميع خبراتهم؛ أيْ سيحتاجون إلى التعاون؛ ومن ثَمَّ فإن العامل الذي يحظى ببالغ التقدير لا بد أن يكون: (١) مبتكِرًا، و(٢) ماهِرًا في حل المشكلات، و(٣) عضوَ فريقٍ جيدًا. لذلك، قد يذهب البعض إلى أن التعليم المدرسي يجب أن يرسِّخ هذه المهارات كي يؤهِّل الطلبةَ لهذه الوظائف.
إلا أننا إذا كنا نأمل في أن يستطيع العلم مساعدتنا في معرفة طريقة تعليم أطفالنا هذه الصفات، فسوف نحتاج إلى التحلِّي بالصبر. يعكف الباحثون على إيجاد طرقٍ لقياس الابتكار،10 والتعاون الجماعي،11 لكن مشكلة القياس تلك ليس من السهل حلها. كما هو واضح، إن حقيقة أننا لسنا ماهِرين للغاية بعدُ في قياس أمورٍ مثل الابتكار أو الأخلاق أو المُواطَنة؛ لا تعني بالضرورة عدمَ محاوَلة تعليم الأطفال أن يكونوا مُواطِنين مبتكِرين خَلُوقِين شرفاء؛ إنها تعني أننا لا يمكننا توقُّع أن يساعد العلم كثيرًا في تعزيز جهودنا في تعليم هذه الأمور. لكنْ مرةً أخرى، يجب ألَّا نتوقَّع أن يكون لدى العلم كلُّ الأجوبة، المهمُّ أنْ تكون واضحةً في أذهاننا الأمورُ التي يستطيع العلم فِعْلَها والأمورُ التي لا يستطيع فعلها. إن قابليةَ القياس عاملٌ مهم في مدى خضوع أحد الأمور للفحص العلمي من عدمه، لكن قابلية القياس لا تدل وحدها على الأهمية، فالأهميةُ تحدِّدها قِيَمُنا.

(٣) الحديث من الناحية النظرية

أنا متأكد من أنك تساءلت عن تأثير إخوتك عليك، لا سيما تأثير ترتيب الميلاد (أو كونك طفلًا وحيدًا). إذا كنتَ الأصغر في أسرتك، مثلي أنا، فربما شعرتَ أن إخوتك الأكبر يتقدَّمون عليك في الأهمية؛ فهؤلاء هم الإخوة الذين كانت لهم ميزة التقدُّم عنك بسنوات قلائل، وسيظلون كذلك للأبد. أما من جانب شقيقاتي الأكبر مني سنًّا، فطالما شعرْنَ أن والديَّ يتساهلان معي فيما يتعلَّق بالتأديب، وطالما قالت شقيقاتي لوالديَّ: «لقد أدَّبْناه لكما.»

افترِضْ أنني أخبرتُك أن لديَّ نظريةً عن ترتيب الميلاد، فأزعم أن الطفل الأكبر في الأسرة يكون عادةً جادًّا من الناحية الأكاديمية، ويكون الأكثر تفوُّقًا في المدرسة. أفسِّر ذلك بأن أول الأطفال ميلادًا في الأسرة يتحدَّثون مع الكبار أكثر من إخوتهم الأصغر، ويكونون تحت ضغط أكبر من الوالدين كي يتصرَّفوا مثل الكبار منذ سن صغيرة؛ فتُجِيب بذِكْر مثالٍ عن الأخ الأكبر لزوجتك الذي رُفِد من المدرسة، وهو الآن في سن الثانية والثلاثين، يعيش في قبو منزل والديه، ويحتسي الجعة ويلعب على جهاز إكس بوكس؛ فأشرح لك بصبرٍ أنه في بعض الأحيان سوف يشعر الطفل بتوقُّعات والديه ويتمرَّد عليها، فيُلقِي وراء ظهره علاماتِ النجاح التقليدية ويتبنَّى أفكارًا خاصةً به، وأحيانًا من الممكن أيضًا أن يتمرَّد الطفل في بعض جوانب حياته ويحاول أن يعيش وفقًا لتوقُّعات والدَيْه في جوانب أخرى.

تبدو الآن نظريتي رائعة جدًّا من إحدى النواحي، فهي تقدِّم توقُّعات، لكن عندما تصبح التوقعات خاطئة، تغيِّر نظريتي اتجاهَها سريعًا وتستطيع «في الوقت نفسه» تفسير البيانات. في الواقع، إن النظرية التي تستطيع تفسيرَ كل البيانات ليسَتْ رائعة؛ في الحقيقة، القدرةُ على تفسير كل البيانات ليست سمةً غيرَ مرغوب فيها فحسب، بل هي عيب قاتل. يبدو هذا غريبًا؛ ألن تكون النظريةُ التي تستطيع تفسيرَ كلِّ شيءٍ مرغوبًا فيها؟

المنطق هنا غامض بعض الغموض؛ لذلك دعونا نبدأ بمثال شهير اقترَحَه كارل بوبر، الفيلسوف الذي أوضَحَ هذه النقطة.12 أنا أبدأ بملاحظة العالَم؛ لذلك لِنفترِضْ أنني ألاحظ البجع، فأرى الكثير من البجع الأبيض ولا أرى أي واحدة بلون آخَر؛ لذلك أقدِّم نظرية تقول: «كل البجع أبيض.» وفقًا لدائرة العلم، من المفترض أن أختبر النظرية. كيف يمكنني إثبات صحتها؟ لن أحرز تقدُّمًا حقًّا من أخذك إلى حديقة حيوان أو إلى بحيرة محلية والإشارة إلى البجع الأبيض. إن إيجاد «بعض» الأدلة الداعمة للنظرية سهلٌ جدًّا عادةً، فعلى أية حال، إنني على الأرجح لم أكن لأضع نظريةً في المقام الأول لو أنني لم أرَ بعضَ البجع الأبيض؛ لذلك أريك فحسب البجع الذي رأيتُه بالفعل. لكن مهما كان عدد البجع الأبيض الذي أُرِيك إياه، لا يمكن إثبات النظرية حقًّا؛ فربما يوجد بجع غير أبيض في منطقةٍ ما لم أبحث بها بعدُ. على الرغم من أن إثباتَ صحة النظرية مستحيلٌ، فإن إثبات عدم صحتها سهل؛ كل ما يلزم هو إيجاد بجعة واحدة سوداء وسنعلم أنني مخطئ.

مشكلة نظرية ترتيب الميلاد هي أنني لا أستطيع اختبارها. من المتوقَّع أن يكون أول المواليد في الأسرة من المتفوقين … إلا عندما يكونون غير متفوقين. إذا أَرَيْتَني أول مولود في الأسرة، فلن أستطيع حقًّا معرفة هل سيكون متفوقًا أم لا. هذا يعني أنني لا أستطيع عمل اختبار للنظرية ولذلك لا يمكنني الدوران حول دائرة العلم؛ أنا عالق. وإذا لم أستطع اختبارَ النظرية، فلن يمكنني دحضها، «وإثباتُ خطأ النظريات هو الطريقة الأساسية للوصول إلى نظريات أحدث وأفضل.»

لقد جعلتُ العملية تبدو كما لو كانت توجد قاعدة «الخطأ مرة واحدة يعني الاستبعاد»؛ أي إنني أستطيع الاستمرار في تجميع أدلة مؤكدة — وهي البجع الأبيض — دون أن يعني هذا الكثير، لكن عندما أرى بجعة سوداء، انتهى الأمر؛ سأعود حينها إلى نقطة البداية. في الحقيقة، يُقتبَس في أغلب الأحيان قولٌ منسوبٌ إلى أينشتاين يقول: «لا يمكن لأي عددٍ من التجارب إثبات أنني على صواب، ويمكن لتجربة واحدة إثبات أنني مخطئ.»13

في الواقع ليس الأمر بهذه البساطة؛ على سبيل المثال: عندما سُئِل عالم الأحياء جيه بي إس هالدين عن نوع الأدلة الذي من الممكن أن يهزَّ ثقتَه في نظرية التطوُّر، رُوِي عنه أنه قال: «حفرية أرنبٍ موجودة في صخرة تعود لعصرِ ما قبل الكمبري.» انتهَتْ فترة عصر ما قبل الكمبري منذ حوالي ٥٧٠ مليون سنة، وهو وقتٌ كانت الحيوانات الوحيدة فيه تبدو أكثرَ شبهًا بالإسفنجيات أو قناديل البحر أو الديدان، التي منها تطوَّرَتِ الثدييات بعد ذلك بكثيرٍ.

لكنِ افترِضْ أننا «وجدنا» حفرية الأرنب المنتمي لعصر ما قبل الكمبري؛ هل حقًّا سيستنتج علماءُ الأحياء أن نظرية التطور أصبحَتْ باطلة؟ الإجابة هي «لا» على نحوٍ شبه مؤكَّد. إن نظرية التطور مناسبةٌ بشكل طيب لكثيرٍ من الملاحظات في علم الأحياء لدرجةٍ تجعل من المجازَفة التخلِّي عن هذه النظرية. وبدلًا من ذلك سيحاول علماء الأحياء التوصُّل لطريقةٍ للاحتفاظ بأهم سمات التطوُّر التي تجعلها نظريةً ناجحةً، وفي الوقت نفسه يفسِّرون وجودَ الأرنب المنتمي لعصر ما قبل الكمبري.

لذلك تمهَّلْ لحظةً، أَلَا يجعل ذلك التطور نظريةً غير قابلة للدحض؟ لقد وجدتُ بيانات لا تعجبني؛ لذا أبدأ في البحث بحثًا حثيثًا عن وسيلة للتحايل؟ ليس حقًّا. سيدرك علماء الأحياء أن الأرنب المنتمي لعصر ما قبل الكمبري يمثِّل مشكلةً كبيرةً، لكنهم سوف يبقون على التطوُّر بصفته «أفضل نظرية متاحة». في بعض الأحيان يتضح لاحقًا أن إحدى الملاحظات الصعبةُ التفسير تقع ضمن توقُّعات النظرية على الرغم من كل شيء. من الأمثلة التقليدية ملاحظةُ وجود اختلافات في مدار كوكب أورانوس عام ١٨٤٥. ببساطة لم يكن الكوكب يتصرَّف كما توقَّعَتْ نظرية نيوتن. في ضوء هذه البيانات كان التخلِّي عن نظرية نيوتن من الاحتمالات المتاحة، إلا أن النظرية أصابَتْ في الكثير من الأمور لدرجةٍ جعلَتْ التخلِّي عنها يبدو أمرًا متهورًا. بدلًا من ذلك، افترَضَ علماءُ الفلك أن هذه الاختلافات لا بد أن يكون سببها جرمًا آخَر تؤثِّر قوةُ جذبه على أورانوس. وتأكَّدَ هذا التوقع لاحقًا، وأدَّى إلى اكتشافِ كوكبٍ جديد هو نبتون.14

كيف تعرف إنْ كان عليك أن تتمسَّك بالنظرية وتأمل تفسير الانحرافات لاحقًا، أم تتخلَّى عن النظرية؟ لا توجد قواعد واضحة لاتخاذ هذا القرار. في العموم، كلما زادت البيانات التي تفسِّرها النظرية، زاد استعداد العلماء لتحمُّل الأمور القليلة التي تخطئ فيها. إذا كانت النظرية غير ناجحة للغاية من البداية، ثم رأيتَ ملاحظةً تتعارض معها، يقل احتمال استمرار تصديقك لها. في النهاية، إنه قرار متوقِّف على حكمك، فمن الممكن أن يختلف الأشخاص العقلاء حول وجوب التخلِّي عن النظرية أو الاحتفاظ بها.

عندما تختلط البيانات تصبح مثل بقعة حبر اختبار رورشاخ، فتكشف عن المعتقدات السابقة للمشاهد. ولا يوجد جانب من جوانب أبحاث التعليم في وقتنا الحاضر يتضح فيه هذا الأمر أكثر من جانب تقييم المدارس المستقلة. المدارسُ المستقلة هي مدارس حكومية لديها اتفاق خاص مع الولاية، فهي تخضع لِلَوائح تنظيمية أقل مقارَنةً بالمدارس الحكومية الأخرى؛ ومن ثَمَّ يتمتَّع المعلِّمون والمديرون بقدرٍ أكبر من الحرية في إدارة المدرسة على النحو الذي يرونه مناسبًا. وفي المقابل، تخضع المدرسة لمزيدٍ من المساءَلة أمام الولاية. يجب أن تظهر المدرسة أن الطلبة يتعلَّمون. (كما تتلقَّى هذه المدارس أيضًا قدرًا أقل من المال مقارَنةً بالمدارس الحكومية الأخرى، في المتوسط.)

والآن إذا كنتَ تعتقد أن الحكومة في أغلب الأحيان تكون جزءًا من المشكلة أكثر من كونها جزءًا من الحل، فأنت على الأرجح تعتقد أن اللوائح التنظيمية الحكومية لا يمكن أن تكون مفيدة للتعليم؛ ولذلك سوف تستنتج أن المدارس المستقلة — نظرًا لتحرُّرها على الأقل من بعض اللوائح التنظيمية — سوف تتفوَّق على المدارس الحكومية الأخرى. يُظهِر بعض الدراسات أن الأطفال الملتحقين بالمدارس المستقلة يتعلَّمون أكثر من الأطفال نظرائهم الملتحقين بالمدارس الحكومية الأخرى،15 لكن ثمة دراسات أخرى لا تُظهِر ذلك.16 مثل هذه المقارنات من الصعب إجراؤها، ولن أخوض فيها هنا لأسباب تقنية، لكن هذه الفنيات تمنح الناسَ ذريعةً ينتقدون بها الدراسات التي تتوصَّل لاستنتاجاتٍ لا تعجبهم؛ لذلك يستنتج الأشخاصُ الذين يُطالِعون الدراسات نفسها — التي يزيد عددها عن عشر دراسات — استنتاجاتٍ متناقضةً تمامًا، ويعتقدون أن «الآخرين» يجب أن يتخلوا عن نظريتهم.
توجد صفة أخيرة مهمة بصفة خاصة عند التفكير في رفض نظرية قديمة لصالح نظرية أخرى جديدة، وهذه الصفة هي أن العلم الجيد تراكمي؛ هذا يعني أنه من أجل أن تحل نظرية جديدة محل نظرية قديمة، فإنها لا بد أن تفعل ما فعلته النظرية القديمة وأكثر منه. من المفترض دائمًا أن يتحرَّك العلم للأمام. طالما كانت هذه النقطة من الانتقادات الموجَّهة للعلوم الزائفة مثل التنجيم.17 عيوب التنجيم معروفة جيدًا، وطالما كانت موجودة منذ وقت طويل، وعلى الرغم من ذلك لا توجد محاوَلة لاستخدام تلك الملاحظات الفاشلة لتحسين النظرية. كانت محاولاتُ تطوير التنجيم مفتقِرةً إلى الحماسة، ولا تبدو النظرية مختلفة كثيرًا عمَّا كانت عليه منذ مئات السنوات.
تتفشَّى مشكلةٌ مشابهة في نظريات التعليم الأمريكي. أشار المؤرِّخون إلى وجود نمط متكرِّر يتمثَّل في تجربة النظريات واكتشاف نقصها، ثم ظهورها مرةً أخرى تحت اسم آخَر بعد عقد أو عقدين.18 في المقدمة اقتبستُ حالةَ أسلوب الكلمة الواحدة في تعلُّم القراءة، الذي قُدِّم في عشرينيات القرن العشرين ثم دُحِض على نحوٍ متأخر جدًّا في ستينيات القرن العشرين. عندما عاودَتِ النظريةُ الظهورَ في ثمانينيات القرن العشرين تحت اسم أسلوب «اللغة الكاملة» في تعلُّم القراءة، كانت توجد بالفعل بياناتٌ كافية إلى حدٍّ بعيدٍ لإظهار أن هذه النظرية «الجديدة» خاطئة. من المفترض أن تكون النظريةُ العلمية تراكميةً، والنظريةُ الجديدة — التي زعمَتْ طريقةُ اللغة الكاملة لتعلُّم القراءة أنها تمثِّلها — كان يجب أن يكون متوقَّعًا منها تفسير البيانات الحالية التي كانت وثيقةَ الصلة بالنظرية على نحوٍ واضح.

سابقًا في هذا الفصل ذكرتُ حركةَ مهارات القرن الواحد والعشرين. إنها تقدِّم مثالًا أكثر حداثةً على إعادة قولبة النظريات. تبدو الحجة معقولة على نحو مثالي؛ إذ تقول إن الطلبة يقضون الكثيرَ من الوقت في حفظ معلومات غامضة. إنهم لا يتعلَّمون كيف يحلون المشكلات، وكيف يكونون مُبدِعين، وكيف «يفكِّرون». علاوةً على ذلك، أَلَمْ يلاحظ أي أحد أن التعليم المدرسي لم يتغيَّر على مدار مائة سنة؟ فالأطفالُ يجلسون على مقاعد في صفوفٍ تواجِه المعلمَ الواقف أمامهم. اليومَ يحتاج الأطفالُ إلى تعليمٍ وثيقِ الصلة بعالَم جوجل والهواتف الذكية.

هذه الاهتمامات نفسها — المتمثِّلة في ضرورة أن يكون التعليم المدرسي مناسبًا للحياة والعمل — أُعلِن عنها منذ ما يزيد عن مائة سنة.19 في عشرينيات القرن العشرين أُطلِق على هذه الفكرة اسم التعليم التقدُّمي، وفي خمسينيات القرن العشرين أُطلِق عليها حركة التكيُّف مع الحياة. في تسعينيات القرن العشرين، كان اسمها اللجنة الوزارية لتحقيق المهارات الضرورية، ونتيجةً لكل حركة من هذه الحركات، أصبحَتِ المناهجُ الدراسية تعجُّ بالمشروعات التي بَدَتْ ممكنةَ التطبيق في العالَم الواقعي، وذهب الأطفال إلى المزيد من الرحلات الميدانية، وهكذا. وبعد حوالي عقد، بدأ الناس يلاحظون أن الطلبة مفتقرون إلى معرفة الحقائق. لقد زاروا محطةَ معالجة مياه الصرف وصنعوا حديقةً للمدرسة، لكنهم عجزوا عن تخمين تواريخ الحرب الأهلية الأمريكية، ولم يقتربوا منها ولو بخمسين عامًا. أعقب ذلك حركة «العودة إلى الأساسيات» التي أكَّدَتْ على أهمية معرفة الحقائق، وقلَّلَتْ من مهارات التفكير واصفةً إياها بأنها تفاهات إلى حد بعيد. بعد عقدٍ سيزعم الناس أن المنهج الدراسي يركِّز على الحقائق حصريًّا، وأن الأطفال لا يعرفون كيفيةَ استخدام الحقائق في حلِّ مشكلات العالَم الواقعي. وتبدأ الدائرة مرةً أخرى.

كلٌّ مِن معرفة الحقائق ومهارات التفكير ضروريةٌ كي يتمكَّن الطلبة من حل المشكلات المهمة. وإعطاءُ الأمرين للطلبة أمرٌ صعب بلا شك. وللأسف، نستمر في الحديث عن هذه المشكلة بالطريقة غير الفعَّالة نفسها. إننا نواجِه نصفَها، ونيأس لاحقًا من النصف الآخَر، ثم نتجاهل ما أَصَبْنا فيه أثناء اندفاعنا لتصحيح الأمور التي تدمَّرَتْ. وإذا تحدَّثْنا بصراحةٍ، فإن هذا الأمر يبدو من غير الممكن تصديقه؛ لكن كان هناك نمط متكرِّر على الدوام.

(٤) الاختبار، الاختبار

الجانب الثالث والأخير من العملية العلمية هو اختبار النظرية. إننا نبدأ بملاحظات عن العالَم، ثم نستخلص بيانات ملخصة من تلك الملاحظات، ثم نتوصَّل إلى توقُّعات جديدة؛ أيْ أمورٌ نعتقد أننا سوف نشاهدها في العالَم في ظل ظروف معينة. في القول المأثور المذكور في بداية هذا الفصل، يقول الفيزيائي ريتشارد فاينمان إن هذه الخطوة هي التي تميِّز العلم عن الطرق الأخرى لفهم العالَم. إذن ما الصفات التي نبحث عنها في الاختبار العلمي؟

يعتمد تمييزُ الدراسة الجيدة من السيئة على الوضع في الاعتبار قائمة بالأمور التي الممكن أن تسير على نحوٍ خاطئ، والنجاح في اكتشاف وجود أيٍّ من هذه الفخاخ أو المصائد. يمثِّل الجدول ٣-١ قائمةً بأنواع الأمور المُقْلِقة التي قد تراود المرء حيال إحدى الدراسات في مجال أبحاث التعليم. يمكنك تخطِّي هذه القائمة إذا أردتَ ذلك. الهدف الحقيقي منها هو فقط توضيح وجود طرق كثيرة تمكِّنك من إفساد إحدى التجارب، وهذه القائمة تكاد تتناول على نحوٍ سطحي نوعَ المعرفة المنهجية والإحصائية التي يحتاجها المرء لإجراء البحث التعليمي على نحوٍ جيد.
جدول ٣-١: بعض المشكلات اللازم الانتباه لها في الدراسات البحثية التعليمية.
المشكلة المثال
تناقُص تمايُزي (انخفاض) في المعدلات بين المجموعات من الممكن أن أقارن بين طريقتين لتعليم الرياضيات، وبعد ستة أسابيع أجد أن الأطفال الذين يتعلَّمون بالطريقة «أ» أفضل أداءً في الرياضيات من الأطفال الذين يتعلَّمون بالطريقة «ب»؛ ومن ثَمَّ يبدو كما لو أن الطريقة «أ» هي الفائزة. إلا أن نظرةً أكثر قُرْبًا على البيانات سوف تُظهِر أن كثيرًا من الأطفال الذين يتعلَّمون بالطريقة «أ» تركوا التجربةَ خلال الأسابيع الستة، وقليلًا جدًّا من الأطفال انسحبوا من الطريقة «ب»؛ ومن ثَمَّ ربما يكون هؤلاء الأطفال القليلون الذين أكملوا الطريقة «أ» مجموعةً منتقاةً على نحوٍ خاص، ولم يكونوا محلَّ مقارَنةٍ حقًّا بالأطفال الذين يتعلَّمون بالطريقة «ب».
مفارقة سيمبسون افترِضْ أن مدينة كبيرة كانت تستخدم برنامجًا للقراءة على مدار عشر سنوات، وبفرض أنني فحصتُ معدلات إنجاز القراءة ووجدتُ أنها انخفضَتْ انخفاضًا كبيرًا خلال هذا الوقت، من المحتمل أن أستنتج أن هذا البرنامج كان فاشلًا. لكنني بعد ذلك نظرتُ إلى معدلات الأطفال الأغنياء، وأطفال الطبقة الوسطى، والأطفال الفقراء؛ كلٌّ على حدة، ووجدتُ أن معدلات القراءة ارتفعَتْ في كل مجموعة من هذه المجموعات الثلاث! كيف يمكن للمعدلات الإجمالية أن تنخفض إذا كانت كل مجموعة تتحسَّن؟ لا يحقِّق الأطفالُ الفقراء معدلاتٍ جيدةً مثل الأطفال الأغنياء؛ ولذلك إذا زادَتْ نسبةُ الأطفال الفقراء في المدينة خلال ذلك العقد، فقد ينخفض المعدلُ المتوسط حتى لو كانت كلُّ مجموعة على حدة تحقِّق تحسُّنًا.
تأثيرات توقُّع صاحب التجربة عندما يكون لصاحب التجربة توقُّعٌ عن الأمر المحتمل أن يفعله الخاضع للتجربة، فمن الممكن أن يعبِّر عنه صاحبُ التجربة من خلال لغةِ الجسد أو من خلال نبرات صوته على نحوٍ غيرِ مباشِر أثناء إعطاء التعليمات دون أن يقصد. وسوف يدرك كثير من الخاضعين للتجربة هذا التوقُّع، وسيحاولون تحقيقَه إما في محاولةٍ ليكونوا متعاوِنين، وإما في محاولة ليبدوا «طبيعيين».
متطوِّعون غير ممثِّلين للفئة محل الدراسة إذا كنتَ تُجرِي تجربةً على أطفالٍ في أحد المختبرات، فيجب أن تسأل نفسك: «مَن لديه الوقت والرغبة في إحضار طفله إلى مختبري خلال ساعات العمل في يومِ عملٍ؟ هل هذه الأسرة مختلفة عن الأُسَر الأخرى بطريقةٍ ما؟»
الارتباط مقابل السببية حقيقة أنك تلاحظ ارتباطَ عامِلَيْن لا يعني أن بإمكانك استنتاج وجود علاقة سببية بينهما؛ على سبيل المثال: يرتبط استهلاكُ الآيس كريم بالجريمة، لكن الآيس كريم لا يجعل الناس يرتكبون أعمالًا إجرامية. الطقس الحار يجعل الأشخاصَ يرغبون في تناوُل الآيس كريم، ويجعلهم أيضًا يُصابَون بسرعةِ الغضب، التي تزيد بدورها من الجرائم العنيفة. وعلى نحوٍ مثيرٍ للدهشة غالبًا، فإن الناس يستنتجون وجودَ علاقةِ سببٍ ونتيجةٍ من الارتباط، مثل العلاقة بين العِرْق والأداء الأكاديمي.
نهاية التجربة إذا أدرك الخاضعون للتجربة أنها على وشك النهاية، فإنهم يحاولون عادةً بذلَ جهدٍ أكبر بعض الشيء كي «يتركوا أثرًا طيبًا». لن تكون هذه البياناتُ ممثِّلةً لبقية أداء الشخص الخاضع للتجربة.
أنواع العينات (كيف تختار الأشخاصَ لتجري عليهم إحدى التجارب)

«العينات العشوائية»: من مجموعة كبيرة تختار مجموعة أصغر، على نحوٍ عشوائي، من أجل إجراء التجربة.

«العينة الطبقية»: أقسِّم في البداية مجموعتي الشاملة إلى مجموعاتٍ فرعية (مثلًا: الرجال والنساء)، ثم آخذ عينة على نحو عشوائي من كلِّ مجموعة فرعية. يتم ذلك لضمان التمثيل النسبي للمجموعات الفرعية عندما تكون لهذا أهميةٌ.

«عينات الصدفة (أو الملائمة)»: تختار أشخاصًا لإجراء التجربة اعتمادًا على مَن تستطيع تجنيدهم. من المحتمل إلى حدٍّ بعيد أن تجعل هذه الطريقةُ نتائجَك متحيِّزة.

«أنواعٌ أخرى من العينات»: العينات العنقودية والعَمْدية والحصصية.

التأثيرات الممتدة المفعول في التجارب المتكررة إذا جرَّبَ صاحبُ التجربة أكثرَ من تدخُّل واحد، فإن تأثير التدخُّل الأول يمكن بسهولةٍ أنْ «يمتد مفعوله» إلى التدخُّل التالي؛ على سبيل المثال: قد يجرِّب أحدُ المعلمين طريقةً لإدارة الفصل، ثم بعد أربعة أسابيع يجرِّب طريقةً أخرى. يجب أن يدرك أن طلبة الفصل قد يستجيبون للطريقة الثانية استجابةً مختلفة عمَّا كان سيحدث إذا لم يكونوا قد خضعوا للطريقة الأولى لإدارة الفصل.
الانحدار نحو المتوسط افترِضْ أنَّ أحد الأشخاص حصل على معدل منخفض للغاية في الاختبار الموحد للقبول بالكليات، وبعد ذلك التحَقَ هذا الشخص بدورة مؤهلة لخوض الاختبار، وتحسَّنَ معدله. من المحتمل أن نعتقد أن المعدل ارتفَعَ بسبب هذه الدورة. ربما لا. إذا خضعتُ للاختبار الموحد للقبول بالكليات فإن معدلي سوف يختلف اعتمادًا على مجموعة الأسئلة المعينة التي ستظهر في الاختبار الذي آخذه، وعلى ما إذا كنتُ أشعر بالانتباه الشديد في ذلك اليوم، وهكذا. إذا حصلتُ حقًّا على معدل منخفض، فهذا يعني على الأرجح أنني في العموم لن أحصل على معدلٍ جيد في الاختبار الموحد للقبول بالكليات، لكنه يعني «أنني لم يحالفني الحظ في ذلك اليوم أيضًا». لذلك إذا خضعتُ للاختبار مرةً أخرى، فمن المحتمل أن يحالفني الحظُّ في ذلك اليوم، وسيكون معدلي أعلى نسبيًّا على الأقل. (المنطق نفسه ينطبق على الأشخاص الذين يحصلون على معدلٍ مرتفعٍ للغاية، فمن المحتمل أن ينخفض معدلُهم إذا أخذوا الاختبارَ مرةً أخرى.)

تحديد نقاط القوة ونقاط الضعف في الأبحاث مهارةٌ محدودة؛ فالشخصُ الذي يُجِيد نسبيًّا تقييمَ أحد أنواع التجارب لن يكون على القدر نفسه تقريبًا من المهارة في تقييم التجارب الأخرى؛ على سبيل المثال: أكتب تقييمات عن مقالات في علم النفس المعرفي منذ حوالي عشرين عامًا، ومعظم هذه المقالات كانت دراسات عن جوانب معينة من التعلُّم والسيطرة الحركية. عندما أصبحت محرِّرًا مساعِدًا لإحدى دوريات علم النفس المعرفي، تناولتُ نطاقًا أوسع من الموضوعات، لكنني على الرغم من ذلك كنتُ واحدًا من ستة محرِّرين مساعدين، كلٌّ منهم له تخصُّص مستقل، فضلًا عن أن الدورية لم تكن تتناول كل جوانب علم النفس المعرفي!

هذه المشكلة — الطرق الكثيرة التي يمكن أن تخطئ فيها الدراسات العلمية — تذكِّرني بلحظةٍ من فيلم «بودي هيت» (حرارة الجسد). ثمة مُشعِل حرائق (يلعب دوره ميكي روك)، يزوره المحامي (يلعب دوره ويليام هيرت) الذي ساعَدَه في الخروج من مشكلاتٍ صعبةٍ من قبلُ. والآن انقلبت الأدوار، وأصبح المحامي يخطِّط لجريمةٍ، فيطلب نصيحةَ مُشعِل الحرائق، فيقول له: «في أي مرة تحاول فيها ارتكابَ جريمة جيدة المستوى، يكون لديك خمسون طريقة ممكنة (للخطأ). إذا فكَّرْتَ في خمسٍ وعشرين طريقة منها، فأنت عبقري. وأنت لستَ عبقريًّا.» العلم، مثل الجريمة، معقَّد، وتوجد طرق كثيرة ممكنة لخطأ العلم.

الميزة التي يتميَّز بها العلماء عن المجرمين هي أنهم لا يحتاجون إلى التكتُّم على عملهم؛ في الحقيقة، إنهم ممنوعون من فعل ذلك. من المفهوم جيدًا أن العلماء يمكنهم الخطأ في الأمور، حتى إنهم «مُطالَبون» بجعل عملهم متاحًا للفحص، كي يستطيع الآخَرون نقدَه وتحسينَه. وتقديرًا لطبيعةِ وأهميةِ هذه السمة، دعونا نفحص واحدًا من إخفاقاتها الأكثر احتفاءً؛ أَلَا وهي: قصة الاندماج البارد.

سيكون عظيمًا لو تمكَّنَتْ محطاتُ الطاقة النووية من استخدام الاندماج بدلًا من الانشطار الذي تستخدمه حاليًّا، فالطاقةُ التي يُصدِرها الاندماج هائلةٌ، والوقودُ المطلوب — نظائر الهيدروجين — يمكن أن نجده في الماء، والإشعاعُ الناتج عن التفاعل قصيرُ المدة وغيرُ مُضِر. للأسف، يحدث الاندماج تحت ظروفٍ من الحرارة والضغط الهائلين؛ وهذا يعني أن إحداث التفاعل يتطلَّب قدرًا أكبر من الطاقة التي تنتج عنه؛ ومن ثَمَّ لم يكن مصدرَ طاقة عمليًّا.

تخيَّلِ الإثارة، في ذلك الحين، عندما أعلَنَ عالمان — كلٌّ منهما أستاذ في جامعة محترمة — أنهما صنعا تفاعُلًا اندماجيًّا في درجة حرارة الغرفة، فقد أعلن ستانلي بونز ومارتن فلايشمان ذلك بالضبط في مؤتمر صحفي في ٢٣ مارس عام ١٩٨٩. على الرغم من ذلك، فالأمر الغريب في هذا الإعلان هو أنهما عقدا المؤتمر الصحفي قبل نَشْر التجارب في دوريةٍ علميةٍ. النشرُ في دورية علمية هو أول معاني ضرورة إجراء العلم «علنًا». قبل أن تنشر عملك، فإنه يُرسَل إلى علماء يتراوح عددهم بين اثنين وخمسة من العلماء، ممَّنْ لديهم معرفة بموضوع بحثك. ستكون قد وصفت بالضبط كيف أجريتَ العمل، وسوف يتأكَّدون من أن منطق التجربة والاستنتاجات سليمة، وسوف يقيِّمون أهميةَ مكتشفاتك. هذه هي العملية التي يُطلَق عليها عادةً «مراجعة الأقران».

عقد بونز وفلايشمان المؤتمر الصحفي قبل أن تتسنَّى للآخرين فرصةُ النظر عن كثب فيما فعلاه. وكانت تفاصيل الطرق التي قدَّماها في المؤتمر الصحفي سطحيةً، حتى إن العلماء الآخرين أُصِيبوا بالإحباط لأنهم لم يستطيعوا فهْمَ طبيعة التجربة فهمًا كاملًا.20 في النهاية، «نُشِرت» تفاصيلُ طريقة التجربة، وحاوَلَ كثير من العلماء إعادةَ إنتاجِ نتائج الاندماج البارد وفشلوا؛21 لذلك يمكنك القول إن الحقيقة انتصرت في النهاية.

انتصرت الحقيقة في النهاية، لكنْ بعد إهدار الكثير من الوقت والجهد في هذه الأثناء. انظرْ إلى عناوين الصحف في الأيام التالية للمؤتمر الصحفي:

اندماج نووي في أنبوب اختبار من تطوير أستاذين من جامعة يوتا.

فاينانشال تايمز

اثنان من العلماء يزعمان وجود أسلوب للسيطرة على الاندماج النووي.

داو جونز للخدمات الإخبارية

اثنان من العلماء يسعيان وراء الحصول على مصدرِ طاقةٍ لا نهائي.

ذا تايمز أوف لندن

ترويض القنابل الهيدروجينية؟ اثنان من العلماء يزعمان التوصُّل لطفرة.

وول ستريت جورنال

اندماج نووي في أنبوب اختبار يستخدم طاقةَ القنبلة الهيدروجينية.

تورنتو ستار

الإعلان عن طفرة في الاندماج النووي.

بوسطن جلوب
أوقَفَ الباحثون حول العالم ما كانوا يقومون به وهرعوا إلى دراسة تجارب بونز وفلايشمان وإعادة تنفيذها، واتَّضَحَ أن أهم جزء من الاكتشاف — الملاحظات التي أشارت إلى حدوث تفاعُل اندماجي — كانت ناجمةً عن أخطاءٍ ارتكباها في تجاربهما.22

إذن الجانب الأهم لكون العلم «علنيًّا» هو عملية مراجَعة الأقران؛ فلا بد أن يقيِّم عملَك أشخاصٌ آخرون قبل نشره. يوجد معنًى آخَر لكون العلم علنيًّا يتعلَّق بأسلوب الإعلان؛ فلا يمكنك تقديم استعراض مختصر عن كيف بَدَتِ التجربة، بل يجب أن تصف كلَّ شيء: سمات الخاضعين للتجربة، وأرقام نماذج معدات المختبر، وما حدث «بالضبط» في التجربة، وطريقة تحليل البيانات، وهكذا. والهدف هو كتابة وصفٍ للإجراء يكون كاملًا للغاية حتى يتمكَّن باحثٌ آخَر من القيام بالتجربة بنفسه.

التزامُ العلانية فيما يخص الطرقَ العلمية مهمٌّ لأنه من الصعب التفكير في كل اعتراض ممكن على عملك، وليس مهمًّا لذلك فحسب، بل أيضًا لأن العلماء معرَّضون للوقوع في فخِّ الانحياز التأكيدي أيضًا.23 عندما نُجرِي تجربة فإننا نعلم ما نتوقَّع أن نكتشفه، ومن المحتمل (دون وعي منَّا) أن نشوِّه انطباعنا عن النتائج كي نؤكِّد توقُّعنا. مرةً أخرى يقول ريتشارد فاينمان الذي يستحق أن نقتبس أقوالَه دائمًا: «المبدأُ الأول هو ضرورةُ ألَّا تخدع نفسك، وأنت أسهلُ شخصٍ يمكنك خداعه.»24

(٥) حماية العلم

إذن ما مقومات العلم الجيد؟ لقد ذكرتُ سبعةَ مبادئ (انظر الجدول ٣-٢)، وكان من الممكن أن يكون الجدول ٣-٢ أطول مما هو عليه بمرتين. تذكَّرْ أنَّ أحد هذه المبادئ فحسب — «الاختبارات العلمية تجريبية» — كان أساسَ قائمةٍ «أخرى» تناولَتِ المشكلات المحتملة اللازم الانتباه لها (الجدول ٣-١)، ذلك المبدأ نفسه الذي كان من الممكن أن يصبح أطولَ ممَّا هو عليه بثلاثة أضعاف. والنتيجة واضحة: إن الحكم على أحد المزاعم العلمية بأنه قائم على أساس صحيح، يتطلَّب الكثيرَ من التفكير والكثير من الخبرة؛ وهذا الأمر يسبِّب مشكلاتٍ للأفراد وللممارِسين.
جدول ٣-٢: المبادئ السبعة للعلم الجيد.
المرحلة المتأثِّرة من المنهج العلمي المبدأ الأثر على التعليم
الدورة بأكملها العلم متغير ويصحح نفسه ذاتيًّا. إذا استخدمنا المنهج العلمي فمن الممكن أن نتوقَّع على نحوٍ معقول اكتسابَ فهمٍ أعمق للتعلُّم في المدرسة.
الملاحظة ينطبق المنهج العلمي على العالَم الطبيعي فقط. بعض الأسئلة المهمة في التعليم لا تتعلَّق بالعالَم الطبيعي، بل تتعلَّق بالقِيَم.
الملاحظة ينفع المنهج العلمي فقط إذا كانت الظاهرة قيد الدراسة يمكن قياسها. بعض السمات المهمة في التعليم تتعلَّق بالفعل بالعالَم الطبيعي، لكن هذه الظواهر صعبة القياس.
النظرية لا يمكن إثبات صحة النظريات. يمكن فقط دحض النظريات، أما عن تحديد وقت نبذ النظرية لأنها زائفة فهو قرارٌ متروكٌ لحكمة المرء. حقيقة أن القرار متروك لحكمة المرء يجب ألَّا تمنعنا من رفض النظريات التعليمية غير المدعومة على نحوٍ جيدٍ كي نتمكَّن من البحث عن نظريات أفضل.
النظرية النظريات الجيدة تراكُمية. يتمتَّع التعليمُ بتاريخٍ من إعادة تقديم النظريات تحت أسماء مختلفة، حتى لو كانت النظريات قد خضعَتْ للتجربة وثبت نقصها.
الاختبار الاختبارات العلمية تجريبية. تفسيرُ الاختبارات التجريبية صعبٌ دائمًا، وفعل ذلك أكثر صعوبةً في التعليم؛ حيث يوجد الكثير من العوامل التي قد تكون سببيةً. تقييمُ هذه الاختبارات يتطلَّب خبرةً كبيرةً.
الاختبار الاختبارات العلمية علنية. نظرًا لأن العلم صعبُ التقييم للغاية، فمن الضروري أن يُجرَى العلم بطريقةٍ تسمح للجميع بتقييمه. بعضُ الأبحاث التعليمية تخضع لمراجعة الأقران، لكن ليس كلها.
بالنسبة إلى الفرد فإن المشكلة الواضحة تتمثَّل في معرفةِ ما يقوله «حقًّا» الدليلُ العلمي حول الأمور المعقدة. في أمثلة قليلة — أبرزها سلامة الأدوية — نحن محمِيُّون بالقوانين؛ فالدواء الجديد لا بد أن يمر بعمليةِ فحصٍ علمي صارمة (في الولايات المتحدة، يخضع الدواء لإشراف إدارة الغذاء والدواء) قبل إمكانية بيعه في الأسواق. توجد ثغرات يمكن من خلالها أن يدخل الدجَّالون إلى السوق بعلاجات زائفة، لكن إذا أراد غيرُ المتخصِّص في العلم معرفةَ رأي العلماء في أحد الموضوعات، فليس من الصعب تعلُّم ذلك. تُنشَر وجهاتُ النظر التي أجمَعَ عليها العلماءُ بصفةٍ دورية على يد المؤسسات التي أنشأها العلماء. إذا أردتَ معرفةَ رأيِ المجتمع الطبي في الرابط بين اللقاحات والتوحُّد، فإنه توجد مواقع عبر الإنترنت (مثل موقع www.healthfinder.gov الذي تديره وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية) تنشر بيانات الإجماع العلمي. إذا أردتَ معرفةَ إنْ كان نوع معين من العلاجات النفسية يحظى بدعم علمي، يمكنك زيارة موقع جمعية علم النفس السريري.25 إذا أردتَ معرفةَ رأي علماء الفيزياء في التغيُّر المناخي، فسوف تجد بيانًا على موقع الجمعية الفيزيائية الأمريكية (ومجموعات مشابهة في الأمم الأخرى). أعلم أن بعض الناس لا يثقون حقًّا في المجتمع العلمي، وهذا موضوع مختلف. أنا أتحدَّث عن الاطِّلَاع على وجهة النظر الجماعية لذلك المجتمع، وفي معظم الحالات، يمكنك الحصول على وجهة النظر تلك بسهولة بالغة.
يواجِه الممارِسون مشكلةً مختلفةً. افترِضْ أنك طبيبٌ، وأنك خضتَ مرحلةَ الدراسة في كلية الطب ومرحلة الإقامة التخصصية، وتعلَّمْتَ أحدثَ الأساليب والعلاجات، وبعد ذلك انطلقتَ إلى ممارسةِ طبِّ الأسرة، وأنت طبيب ماهر. إلا أن الطب لا يظل على حاله بمجرد إنهائك للتدريب. لقد كنتَ مطَّلِعًا على أحدث الأساليب والعلاجات في سنة تخرُّجك، لكن الباحثين مستمرون في اكتشاف الأمور الجديدة. كيف يمكن أن تتمكَّن من مواكَبة أحدث التطورات في حين أنه وفقًا لموقع www.PubMed.gov يُنشَر ما يزيد عن تسعمائة ألف مقالة في الدوريات الطبية كلَّ سنة؟26 حلَّ الطب هذه المشكلة للممارسين من خلال نشر ملخصات سنوية للأبحاث تلخِّص المكتشفات في صورة توصياتٍ بالتغييرات اللازمة في الممارسة. يمكن للأطباء شراء كتب ملخصة تمكِّنهم من معرفة هل يوجد دليل علمي حقيقي يوضِّح ضرورة تغيير علاجهم لإحدى الحالات المرضية أم لا؛ وهذا يعني أن مهنة الطب لا تتوقع أن يظل الممارسون متابعين للأعمال البحثية بأنفسهم؛ فهذه المهمة تخصُّ مجموعةً صغيرة من الأشخاص الذين يستطيعون تخصيصَ الوقت اللازم لذلك.

على صعيد التعليم، لا توجد أية قوانين فيدرالية أو ولاياتية تحمي المستهلكين من الممارسات التعليمية السيئة. بالإضافة إلى ذلك، فإن باحثي التعليم لم يجتمعوا مطلقًا على صورة مجال موحَّد للاتفاق على الطرق أو المناهج أو الممارسات التي تستند إلى أساس علمي سليم؛ وهذا يجعل مجرد البحث عن هيئة من الخبراء في أحدث الأبحاث التعليمية صعبًا للغاية على الشخص غير الخبير، فلا يوجد خبراء معترَف بهم عالميًّا، وهذا الموضوع سوف أناقشه ببعض التفصيل في الفصل السادس.

كل والد، وكل مدير، وكل معلم يتخذ قرارَه على نحوٍ مستقل؛ ولهذا السبب كتبتُ هذا الكتاب. لكن قبل أن نستطيع التحدُّث عن الفصل بين العلم الجيد وهذه العلوم المحتالة، يجب أن نتناول موضوعًا آخر. لقد تحدَّثنا عن الصفات التي يبحث عنها العلماء عند تحديد هل العلم أُنجِز على نحوٍ جيد، لكننا لم نتحدث بعدُ عمَّا نفعله بالمكتشفات العلمية الجيدة؛ فالمختبر، بالرغم من كل شيء، ليس فصلًا، وطريقة الانتقال من المختبر إلى الفصل ليست واضحة. وهذا هو موضوع الفصل الرابع.

هوامش

عايشتُ هذا القلق حين وقع زلزال بقوة ٥٫٨ في مينرال بولاية فيرجينيا، في ٢٣ أغسطس ٢٠١١، على بُعْد حوالي ثلاثين ميلًا من منزلي.
يُطلَق على هذا نموذج العلم الافتراضي الاستنتاجي؛ لأنك تستخدم نظريةً من أجل استنتاجِ فرضيةٍ تختبرها فيما بعدُ. سريعًا ما تبيَّنَ لفلاسفة العلم أنه توجد مشكلاتٌ منطقية في هذا النموذج، من بينها أن عددًا كبيرًا للغاية من النظريات يمكن أن يتوصَّل للتوقعات نفسها. والنسخة الأكثر تقييدًا من هذا النموذج يُطلَق عليها «الاستدلال القائم على أفضل التفسيرات»؛ وفيها لا تقنع بمجرد أنَّ نموذجًا ما يوافق البيانات، بل تقنع بالنموذج الأبسط الذي من شأنه — لو كان صحيحًا — أن يفسِّر البيانات. هذه التخوفات بعيدة عن أهدافنا في هذا الصدد، وفي الحقيقة، غالبًا لا يفكر معظم العلماء في النتائج المنطقية للنماذج التي يستخدمونها. لكن يجب على الأقل الاعتراف بوجود مشكلةٍ منطقيةٍ هنا. لمقدمة سهلة القراءة نسبيًّا حول هذه المشكلات المعقَّدة للغاية، انظرْ كتاب دبليو إتش نيوتن-سميث (٢٠٠١)، «دليل إلى فلسفة العلم»، مولدن، إم إيه: بلاكويل.
بطبيعة الحال لا يعني قدمها أنها خاطئة؛ فقد أوضحَتْ زميلتي أنجلين ليلارد أنه منذ مائة عام توقَّعت ماريا مونتيسوري كثيرًا من مكتشفات العلم الحديث فيما يخص التنمية المعرفية للأطفال. أنجلين ليلارد (٢٠٠٥)، «مونتيسوري: العلم المؤدِّي إلى العبقرية»، نيويورك: مطبعة أكسفورد.
§ على سبيل المثال: نشرت فيليس بيدفورد، صديقتي وزميلتي في جامعة أريزونا مقالًا عام ١٩٩٧، ذهب في معظمه إلى أنني ارتكبتُ مغالَطةً منطقية عند تقديم زعمٍ معينٍ متعلِّق بالتعلُّم. أعتقد أن الزعم ثبت في النهاية أنه مدعوم جيدًا لأسباب أخرى، لكنها كانت مُحِقَّة بشأن المغالطة. إف إل بيدفورد (١٩٩٧)، فئات خاطئة في الإدراك: مغالطة أعضاء غير الكبد، دورية «كوجنيشن»، ٦٤، ٢٣١–٢٤٨.
# خضَعَ للتجربة تطبيقُ المنهج العلمي على أسئلة متعلِّقة بالأخلاق، وأُجرِيت أشهر هذه التجارب على يد جون ديوي. انظرْ على سبيل المثال: جيه ديوي (١٩٠٣)، الشروط المنطقية لمعالجة علمية للأخلاق، «المطبوعات العشرية لجامعة شيكاجو» (السلسلة الأولى)، ٣، ١١٥–١٣٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤