الفصل السابع

الخطوة الثالثة: تحليل الزعم

معظم المؤسسات تتطلَّب إيمانًا خالصًا؛ إلا مؤسسة العلم فإنها تجعل الشكَّ فضيلةً.

روبرت كيه ميرتون1

***

لنتظاهر أننا في عام ٢٠٠٥، وأنك سمعتَ عن برنامج «صالة ألعاب العقل»، وهو برنامج حركات بدنية يزعم الموقع الإلكتروني أنه «يدعم التعلم والأداء في «كل» المجالات».2 تزعم الصفحة الرئيسية للموقع الإلكتروني في عام ٢٠٠٥ أن البرنامج مستخدَم في أكثر من ثمانين دولة، وأن الشركة تعمل منذ ما يزيد عن ثلاثين سنة؛ ولذلك يبدو أنه يوجد الكثير من الأشخاص الذين يجدونه قيِّمًا. يثير العنوان الرئيسي للموقع الإلكتروني المشاعر المرتبطة بكلٍّ من التنوير والرومانسية فيقول: «يطوِّر برنامجُ صالة ألعاب العقل الممراتِ العصبيةَ للدماغ بطريقة الطبيعة …»
على الرغم من أننا في عام ٢٠٠٥؛ أيْ قبل وقتٍ طويلٍ من نَشْر هذا الكتاب، دعونا نفترض أنك ستجرد المزاعم في هذا الصدد. الفكرة الأساسية تتمثَّل في أن الطلبة الذين يؤدُّون ستة وعشرين تمرينًا بسيطًا نسبيًّا سوف يلاحظون تطوُّراتٍ أكاديميةً هائلة. الوعودُ الموجودة على الصفحة الرئيسية للموقع تزعم أن التمارين تمكِّن المرءَ ممَّا يلي:
  • تعلُّم أيِّ شيءٍ على نحوٍ أسرع وأسهل.

  • تحسين الأداء الرياضي.

  • زيادة التنظيم والتركيز.

  • بدء وإنهاء المشروعات بسهولة.

  • التغلب على صعوبات التعلم.

  • الوصول إلى مستويات جديدة من الامتياز.

قد تبدو هذه الوعود ضخمة بعض الشيء، وكما تذكر فإن الفصل الخامس نوَّهَ إلى ضرورة أن تشكَّ في أي تغييرٍ يزعم تطويرَ العمليات المعرفية في كل المجالات. لكن عندما تنقر على رابط «الأبحاث»، فإنك تجد مستندًا مكوَّنًا من واحد وعشرين صفحة يضمُّ العديدَ من الدراسات التي تبدو فنيةً متخصِّصةً. جديرٌ بالذكر أن كثيرًا من هذه الدراسات نُشِر في «دورية صالة ألعاب العقل»، والاسمُ بالتأكيد يبدو كما لو كان تربطه علاقاتٌ قوية بالشركة؛ لذلك يجب على الأرجح إسقاط تلك الدراسات من اعتبارنا. إلا أنه توجد أيضًا منشورات أخرى من دورية «المهارات الإدراكية والحركية» و«دورية تنمية البالغين».

ما زلنا في عام ٢٠٠٥، افترِضْ أنك تركتَ موقعَ «صالة ألعاب العقل» وأجريْتَ بحثًا عامًّا في الإنترنت عن مصطلح «صالة ألعاب العقل». ستجد الكثيرَ من نتائج جوجل على الموقع الإلكتروني لحكومة المملكة المتحدة، وستجد صعوبةً في فهم هل توجد علاقة رسمية بين صالة ألعاب العقل وبين مدارس المملكة المتحدة أم لا، لكنَّ الإشارات إلى البرنامج تبدو بالتأكيد إيجابيةً. يُسْفِر بحثُك أيضًا عن مقالةٍ في دورية وول ستريت جورنال3 ومقالتين قديمتين قليلًا من صحف بريطانية، كلها تذكر «صالة ألعاب العقل» بطريقة إيجابية.4 إن ذِكْرَ الاسم في بعض الدراسات العلمية، والاستحسانَ الضمني للبرنامج من حكومة المملكة المتحدة، والتقديرَ في الصحف الرائجة؛ كل ذلك قد يجعلك على الأرجح تعتقد أن «صالة ألعاب العقل» برنامج مشروع.
افترِضِ الآن أنك تُجْرِي أبحاثًا على الإنترنت عام ٢٠١١ بدلًا من عام ٢٠٠٥. على الأرجح سرعان ما ستكتشف عمودًا صحفيًّا يعود لعام ٢٠٠٦ كتَبَه بين جولديكر، الذي يكتب مقالة منتظمة بعنوان «العلم السيئ» في صحيفة «الجارديان» البريطانية. انتقَدَ جولديكر بشدةٍ «صالة ألعاب العقل»، وقال إنه «هراء» و«إمبراطورية كبيرة من العلم الزائف».5 وبعد ذلك بعامٍ، كتبَتْ جمعيتان علميتان بريطانيتان بارزتان هما «الجمعية البريطانية للعلوم العصبية والجمعية الفسيولوجية» خطابًا مشتركًا لكلِّ هيئةٍ تعليمية في المملكة المتحدة، لتحذيرها من أن برنامج «صالة ألعاب العقل» ليس له أساسٌ علميٌّ.6 بعد ذلك بأيام، وافَقَ مبتكِرُو برنامج صالة ألعاب العقل على سَحْبِ مزاعمَ علميةٍ غيرِ مثبتة الصحة من المواد التي يدرِّسونها. وفقًا لتقرير إحدى الصحف، اعترَفَ مؤلِّفُ كتابِ دليل المعلم الخاص ببرنامج صالة ألعاب العقل أن كثيرًا من المزاعم كانت قائمةً على «تخميناته» وليس على بيانات علمية.7 وعلى نحوٍ غريبٍ، لم يعترف متحدِّث عن الحكومة البريطانية بأنهم كانوا يدعمون برنامجًا ليس له أساس علمي إلا في ديسمبر ٢٠٠٩؛ أيْ بعد حوالي عشرين شهرًا.8 هذا غريب إلى حدٍّ بعيد؛ لأن برنامج صالة ألعاب العقل كان قد غيَّرَ المزاعمَ المعروضة على الصفحة الرئيسية للموقع الإلكتروني في فبراير ٢٠٠٩؛ أيْ منذ عامٍ تقريبًا.9 وقد تغيَّرَتْ قائمةُ الوعود السابقة إلى هذه المجموعة الأقل إبهارًا على نحوٍ ملحوظٍ:
  • تعزيز اللعب ومتعة التعلُّم.

  • استخراج الذكاء الفطري وتكريمه.

  • تكوين الوعي المتعلِّق بقيمة الحركة في الحياة اليومية.

  • التركيز على القدرة على ملاحظة الاحتياجات القائمة على الحركة والاستجابة لها.

  • تشجيع المسئولية عن الذات.

  • بث الشعور بالتبجيل والتقدير لدى كل مشترك.

  • تمكين كل مشترك من السيطرة على تعلُّمه على نحوٍ أفضل.

  • تشجيع الإبداع والتعبير عن الذات.

  • بث تقدير الموسيقى، والتربية البدنية، والفنون الجميلة.

من ناحيةٍ، هذه القصةُ مشجِّعةٌ. لقد بالَغَ مقدِّمو أحدِ برامج التدخُّلات التعليمية فيما يقدِّمه البرنامج، ولفَتَ العلماءُ الانتباهَ إلى هذه الحقيقة، فجرى سحب المزاعم. لكنْ هذا لا يعني وجودَ نظامٍ يحمي بفعالية من هذه المزاعم غير العلمية المقدَّمة في مجال التعليم. لقد تبنَّتْ آلاف المدارس برنامج صالة ألعاب العقل، ولفَتَ الاهتمامَ النقدي للصحفيين واثنتين من الجمعيات العلمية البريطانية فقط لأنه استُخدِم على نحوٍ واسعِ الانتشار، ونظرًا لتبنِّي حكومة المملكة المتحدة له. لو كان «النظام» فعَّالًا حقًّا، لَقُيِّمت المزاعمُ العلمية «قبل» أن تصبح البرامجُ رائجةً. وهنا يكمن التحدي. «إذا كنتَ تنظر إلى برنامج صالة ألعاب العقل عام ٢٠٠٥، فما الأدلة الموجودة التي كانت ستخبرك أن الأساس العلمي للبرنامج ضعيف؟» ماذا يجب أن يكون رأيك في الأدلة؟ في هذا الفصل، سوف نفحص ثلاثةَ موضوعات متعلِّقة بهذا الأمر وهي: كيف تستخدم خبرتَك لتقييم المزاعم الجديدة؟ وما الأمور التي تبدو كأدلةٍ لكنها ليسَتْ كذلك؟ وكيف تستخدم الكتاباتِ العلميةَ المتخصِّصة؟

(١) كيف تستخدم خبرتك

قلنا إن التغييرات التعليمية يكمن في جوهرها هذا الزعمُ: «إذا فعلت «س»، فإنه توجد احتمالية نسبتها «ص» لحدوث «ع».» من الطبيعي عندما تسمع هذا الزعم أن ينشغل عقلك تلقائيًّا بهذا الافتراض؛ فتبدأ تتخيَّل فعل «س» وتتخيَّل النتيجة، وتحكم على ما إذا كان «ع» من المحتمل حدوثه حقًّا. افترِضْ أنك سمعتَ: «تفقَّدْ هذا البرنامجَ الحاسوبي. إذا استخدمها طفلُك لخمس عشرة دقيقة فقط يوميًّا، فسوف تتحسَّن القراءة لديه بمعدل صفين دراسيين خلال ستة أشهر.» ستحكم على مدى سهولة أو صعوبة جعل طفلك يستخدم البرنامج، وستكوِّن بعضَ التوقعات حول ما إذا كان سيتعلَّم أم لا. من الواضح أن هذا التوقع متأثر إلى حد هائل بخبرتك مع طفلك، وانطباعاتك عن تعلُّم القراءة، وربما انطباعاتك عن التعلم المدعوم بالكمبيوتر.

من ناحيةٍ، قد يُفاجِئك عنوان هذا الجزء؛ في الواقع، يمكن القول إنه يجب أن يفاجئك. لقد كانت رسالةُ هذا الكتاب: «لا يمكنك الوثوق في خبرتك. أنت في حاجةٍ إلى دليل علمي!» الهدف من المنهج العلمي هو وضع التجربة البشرية في سياق تجريبي. من ناحية أخرى، يبدو أنَّ من الحماقة التخلِّي عن كل خبراتنا غير التجريبية السابقة، من المؤكد أن مراقبة ابنتي عن كثب لمدة عشر سنوات تمنحني بعض المعلومات المفيدة عند محاولة الحكم على ما إذا كانت ستتعلم من البرنامج أم لا. أَلَا توجد طريقة لاستخدام هذه المعرفة الأقل رسميةً على نحو حكيم؟ متى تقدِّم خبراتنا دليلًا موثوقًا فيه، ومتى يُحتمَل أن تخدعنا؟

(١-١) متى تخدعنا خبرتنا؟

توجد مشكلتان شائعتان مرتبطتان باستخدام معرفتنا غير الرسمية؛ الأولى: أننا نخطئ عندما نفكِّر على نحوٍ يقيني، فنقول: «أعلم ماذا يحدث في هذا النوع من المواقف.» إنني أقول لنفسي: «تحب ابنتي اللعب على الكمبيوتر. ستعتقد أن برنامج القراءة رائع!» قد أكون محقًّا في خبرتي — حب ابنتي للكمبيوتر — لكن من المحتمل أن تكون تلك الخبرة غير معتادة؛ ربما أحَبَّتِ البرنامجين اللذين استخدمتهما، لكن المزيد من التجربة سيكشف أنها لا تحب قضاءَ الوقت على الكمبيوتر في استخدام برامج أخرى. من الأسباب الأخرى التي قد تجعل خبرتي تضلِّلني إساءةُ تذكُّر التجربة الماضية أو إساءة تفسيرها، ومن المحتمل أن يرجع ذلك إلى التحيز التأكيدي. ربما يتمثَّل الأمر في أن ابنتي لا تحب اللعبَ على الكمبيوتر، وأنني «أنا»، في واقع الأمر، مَن يحب اللعب على الكمبيوتر؛ لذلك أفسِّر محاولاتها العابرة المترددة في استخدام الإنترنت على أنها حماس. جميعنا نعرف آباءً وأمهاتٍ (ليس نحن بطبيعة الحال) يتخيَّلون أن أبناءهم لديهم الأحلام والآراء نفسها الموجودة لديهم.

يمكن أن تحدث إساءةُ تذكُّرِ الخبرات حتى عندما يكون لديك فرصٌ كافية للملاحظة؛ على سبيل المثال: عندما كنتُ في كلية الدراسات العليا، عرفتُ أستاذًا كان يعيش كمستشار في مسكن الطلبة لحوالي عشرين سنة؛ لذلك كان على دراية إلى حد بعيد بحياة الطلبة الجامعيين. وقد قادَتْه خبرتُه إلى استنتاجِ أنَّ رفْعَ سنِّ تناوُل الكحول (الذي حدث في منتصف ثمانينيات القرن العشرين) لم يُسفِر إلا عن جعل الطلبة يشربون سرًّا. في الحقيقة، لقد اعتقَدَ أن تناوُلَهم للشراب قد ازداد. لم يكن وحده من يعتقد ذلك، سواء أكان ذلك سابقًا أم حاليًّا؛ فقد وقَّعَ ما يزيد عن مائة من رؤساء الكليات والجامعات على بيانٍ عامٍّ، أعلنوا فيه أن رفع سنِّ تناوُلِ الكحول فشَلَ في تشجيع الشرب المعتدل بين الشباب الصغار، وأنه توجد حاجةٌ إلى أفكار جديدة.10 إلا أن البيانات التجريبية أوضحت أنهم مخطئون؛ على سبيل المثال: انخفَضَ معدل وفيات الحوادث المرورية الليلية للفئة العمرية ما بين ثمانية عشر إلى واحد وعشرين عامًا، عندما رُفِعت سنُّ الشراب إلى واحد وعشرين عامًا. وانخفضَتْ أيضًا المشكلاتُ الصحية المتعلِّقة بتناوُل الكحول في هذه الفئة العمرية.11

لماذا يعتقد هذا العدد الكبير من رؤساء الكليات أنَّ رفْعَ سنِّ تناوُل الكحول كان له أثر عكسي؟ أعتقد أن معظمهم لم ينظروا إلى البيانات، بل كانوا، مثل صديقي الأستاذ الجامعي، ينظرون إلى تجاربهم السابقة مع الطلبة، وهذه هي أنواع التجارب المعرَّضة إلى حد بعيد للانحياز التأكيدي. يزداد احتمال حدوث التحيز التأكيدي في الحالات التالية: (١) الحالات التي تتذكرها ولا تعايشها في الوقت الراهن. (٢) الحالات الغامضة في معناها. (٣) الحالات التي قد تكون خفية أو غير مميزة وليست واضحة إلى حد بعيد. من الواضح أن محاولة مقارنة وقائع تناول الكحول المسبِّب للمشكلات، التي يعود تاريخُها لعشر سنواتٍ مضَتْ، بالوقت الحالي؛ تتطلَّب ذاكرة. يُعتبَر أيضًا «الإسراف في الشراب» غامضًا بعض الشيء؛ فإذا تصرَّفَ أحد الطلبة بعدوانية، فمن الصعب معرفة هل قدحا الجعة اللذان احتساهما قد تسبَّبَا في هذه الحالة المزاجية، أم أنه ببساطة مرَّ بيومٍ عصيب. كذلك فإن تناول الكحول لدى الطلبة غير واضحٍ نظرًا لأن الطلبة يشربون الكحول سرًّا؛ فكان الأستاذ الجامعي يخمِّن معدلَ التناوُلِ السريِّ للكحول بين الطلبة.

لذلك من الخطير استخدام خبرتك في إصدار أحكام عامة بشأن مثل هذا النوع من الأحداث. قد يعتقد المعلم أن الطلبة يجدون صعوبةً في التركيز على المهمة أثناء العمل في مجموعات، لكن مثل حالة تناول الطلبة للكحول، فإن هذا الأمر من الصعب تقييمه. سواء أكان الطلبة يعملون جيدًا في مجموعات أم لا، هو مسألة حكم شخصي في بعض الأحيان على الأقل. وإذا كان يوجد في الفصل عدة مجموعات من الطلبة يعملون في الوقت نفسه، أَفَلَيْس من المحتمل أن تكون المجموعة أو المجموعتان اللتان تجدان صعوبةً في العمل هما الأبرز بين المجموعات الأخرى؟ أليس محتملًا أن يزيد احتمالُ تذكُّرِي لهاتين المجموعتين؟

(١-٢) التأكد من الخبرة

توجد طرق لتقييم خبرتك من أجل منحك مزيدًا من الثقة في كونك محقًّا؛ أولًا: يجب أن تدرك أنه في بعض الأوقات لا تعاني خبرتك من المشكلات التي ذكرتها؛ ولذلك تستحق الثقة الكاملة. بعضُ الخبرات واضحٌ بطبيعته؛ على سبيل المثال: إذا رسبَتِ ابنتي في الرياضيات، فإنني لستُ في حاجةٍ إلى التساؤل عمَّا إذا كان التحيُّز التأكيدي يجعلني أعتقد أنها رسبَتْ في الرياضيات. إنه حدث واضح، وحدث من غير المحتمل أن يكون خاضعًا لحِيَل الذاكرة. قد تكون خبرات أخرى غامضة في العموم، لكن يكون الاستنتاج من وجهة نظرك واضحًا لا تُخْطِئه عينٌ. «ينبهر الطلبة بالتجارب في العلوم، وينخرطون فيها «دائمًا».» أو «سيحلُّ ابني أيَّ مسألة، مهما كانت صعبة، إذا شعر أنني أعمل معه.»

يبدو الآن أنني أقدِّم نصيحة متعارضة. إنني أقول: «لا تثق في ذاكرتك إذا كان الموقف غامضًا، إلا إذا كنتَ متأكدًا حقًّا.» إلى أي مدًى بالضبط من المفترض أن تكون المسألةُ واضحةً قبل أن تثق في استنتاجك؟ توجد خطوات يمكنك اتخاذها للتأكُّد؛ على سبيل المثال: يمكنك مقارَنة «الحس العام» لديك بالحس العام لدى الآخرين. هل تشعر زوجتك أن ابنك سوف يحل أية مسألة ما دمتَ معه؟ اسألْ زملاءك من المعلمين: «هل طلابكم يشعرون بالحماس تجاه تجارب العلوم مثل طلابي؟»

لاحِظْ أنك عندما تستخدم إحدى الخبرات لتقييم تغيير مقترح، فإنك لا تتذكَّر ما حدث فحسب، بل تتوقَّع أيضًا ما سوف يحدث. إن اعتقاد أن «الطلبة يحبون تجارب العلوم» ليس فقط ملاحظةً عابرةً، بل وسيلة للحكم على احتمالية أن يحقِّق التغيير ما تتوقَّعه؛ على سبيل المثال: قد تعتقد أن التغيير سيزيد احتمالُ نجاحِه لأنه يستخدم الكثيرَ من التجارب العلمية. يمكنك اختبار بديهيات الحس العام لديك من خلال «إجبار» نفسك على الإتيان بدعمٍ منطقيٍّ للنتائج التي «لا تعتقد» أنها سوف تحدث.

على سبيل المثال: افترِضْ أنك معلم وأنك تحضر جلسةَ تنميةٍ مهنية يوصي فيها المُقْنِع بإلغاء الواجب المنزلي. سيكون ردُّ فعلك المبدئي أن تقول: «هذا جنون! لا بد أن يمارس الأطفال مهاراتٍ معينةً، وإنْ لم يمارسوها في المنزل، فسوف يُضطرون لممارستها في المدرسة، وسوف نفقد الوقتَ المفترض أن نقضيه في التفكير النقدي.» حسنًا، في هذا الصدد تتوقَّع خبرتك ما سوف يحدث. الآن تخيَّلْ أنك نفَّذْتَ التغييرَ الذي يوصي به المُقْنِع، وأن النتيجة كانت سيئة، كما توقَّعتَ. اكتبْ قائمةً بالنتائجِ السيئة التي حدثَتْ وأسبابِ تلك النتائج السيئة. والآن، تخيَّلْ أنك نفَّذْتَ التغييرَ، وأن النتيجة كانت «جيدة». اكتبْ قائمةً بالأمور الجيدة التي حدثَتْ وأسباب حدوث تلك النتائج. ابذلْ قصارى جهدك، حتى لو كنتَ تعتقد مبدئيًّا أن الفكرة غبية. إذا عجزتَ عن ذلك، فاطلبِ المساعدةَ من أحد الأصدقاء.

قد تندهش من أن النتيجة التي لا تتوقعها ليست غريبةً بالقدر الذي تخيَّلْتَه. أحيانًا يكون من شأن التمرُّن على الإتيان بأسبابٍ قويةٍ تدعم ضرورة تنفيذ الأمر الذي لا نؤمن به؛ أن يساعدنا على تجنب التحيز التأكيدي. هذا يساعدنا على رؤية أنه توجد أكثر من طريقة للنظر إلى الأمور. جرِّبْ قدرَ المستطاع، وإذا لم تستطع أن ترى طريقةً سيكون التغيير من خلالها مختلفًا عمَّا توقَّعْتَه، وجب عليك أن تكون ثقتك في أنك مُحِقٌّ أكبرَ نسبيًّا.

حتى الآن تحدَّثنا عن كيف يمكنك تجنُّب تكوين استنتاجات خاطئة بشأن الأمور التي مررْتَ بها بالفعل في الماضي. تنجم مشكلةٌ مختلفة عندما نستخدم خبراتنا لتكوين استنتاجاتٍ ليست فقط حول ما حدث (مثل حبِّ ابنتي لاستخدام الكمبيوتر)، لكنْ أيضًا حول «أسباب» حدوث الأمور. وهذا يعني أننا نستخدم خبرتنا اليومية في تكوين استنتاجات حول نظريةٍ أوسعَ نطاقًا؛ على سبيل المثال: لنفترِضْ أنني مُحِقٌّ في أن ابنتي تستمتع حقًّا باستخدام الكمبيوتر، وأنها تميل فعلًا لتعلم تصفُّح البرامج. سيكون من الخطأ استنتاج أن هذه الملاحظة توضِّح أن نظرية التفكير بالنصف الأيسر والنصف الأيمن من الدماغ لا بد أن تكون صحيحةً؛ لأن ابنتي تفكِّر بالنصف الأيسر من الدماغ على نحوٍ واضح. لماذا سيكون هذا خاطئًا؟ يرجع ذلك لسببين:

السبب الأول هو صديقنا القديم التحيُّز التأكيدي، فإذا صدَّقْتُ إحدى النظريات، فمن المحتمل أنْ ألاحظ الأمثلةَ التي يبدو فيها سلوكُ ابنتي متوافِقًا مع النظرية (فهي ماهرة في استخدام الكمبيوتر كما هو مفترض من شخصٍ يستخدم النصفَ الأيسر من الدماغ)، وأن أتجاهل أو أرفض السلوكَ الذي لا يوافِقُ النظرية. وفقًا للنظرية، فإنه من الضروري أن تُظهِر الابنةُ سلوكياتٍ أخرى من سلوكيات استخدام النصف الأيسر من الدماغ (مثل التفكير المنطقي)، و«ألَّا» تُظهِر السلوكياتِ المفترضةَ من الشخص الذي يستخدم النصف الأيمن من الدماغ (مثل أحلام اليقظة). إن الاستمرار في إحصاء كل سلوك من هذه السلوكيات أمرٌ صعب، لكنْ كي أتجنَّبَ التحيُّزَ التأكيدي فإن هذه هي الطريقة التي أحتاج إلى تطبيقها.

السبب الآخَر لضرورة عدم استخدام الملاحظات العَرَضية كدليلٍ يؤيِّد أو يعارض إحدى النظريات، هو أن كثيرًا من النظريات قد يتوقَّع الأمر نفسه، فقد تتوقَّع نظريةُ استخدام النصف الأيسر من الدماغ أو النصف الأيمن من الدماغ أن الشخص الذي يحب الرياضيات سوف يحب أيضًا أجهزة الكمبيوتر، لكن الأمر نفسه يمكن أن تتوقَّعه نظريةٌ قائمة على الملاحظة الشائعة المتمثِّلة في أن كلا الأمرين من الموضوعات التقنية.

أغلبية الملاحظات التي نكوِّنها تكون عابرةً؛ ولذلك فهي غير دقيقة. ونظرًا لكونها غير دقيقة، فكثيرٌ من النظريات يتفق معها؛ على سبيل المثال: ذكرتُ عدمَ وجود دليل على أساليب التعلم في الفصل الأول، وناقشتُ هذا الموضوعَ بإيجازٍ عندما تحدَّثْتُ مع المعلمين. وفي أكثر من مرةٍ أجبتُ عن أسئلةٍ غاضبة مقدَّمة من المعلمين الذين يعتقدون أنني أقول إن المعلم الذي يتأثَّر أسلوبه في التعليم بأساليب التعلم لا بد أن يكون معلمًا ضعيفًا. يفكِّر هؤلاء على هذا النحو: «تؤثِّر نظرية أساليب التعلم على أسلوبي في التعليم، ويتعلَّم طلابي الكثيرَ من الأمور؛ لذلك لا بد أن فكرةَ أساليب التعلم صحيحةٌ.»

إلا أنه يوجد أمر آخر يؤثر على ممارسة هؤلاء المعلمين بخلاف نظرية أساليب التعلم، وهو أن المعلم الناجح يتَّسِم بالودِّ؛ فهو يعرف مادته معرفةً تامة، ويعرف طرقًا مثيرة لشرح المفاهيم الصعبة، ويستطيع فهْمَ مشاعر الطلبة، وهكذا. قد تكون بعض هذه السمات أو كلها هي ما تجعل المعلم ناجحًا، واستخدام أساليب التعلُّم لا يسهم في شيءٍ في حقيقة الأمر. الطريق الوحيد لمعرفة ذلك على نحوٍ مؤكَّد يتمثَّل في جعل المعلم نفسه يقارن فعاليتَه عند استخدام أساليب التعلُّم وعند عدم استخدامه لها، وقياس نتائج الطلبة بعناية؛ وهذا يعني أنك تحتاج إلى إجراء تجربة.

باختصار، معرفتك يمكن أن تساعدك في توقع «ما» سوف يحدث، على الأقل في ظل ظروف معينة، لكن من الخطير استخدام خبرتك في تكوين استنتاجات عن «سبب» حدوث أحد الأمور.

(١-٣) هل التقدُّم الجذري سيئ إلى هذه الدرجة؟

ما زالَتْ توجد طريقةٌ يمكن أن تساعدك معرفتك من خلالها؛ إذ يمكنك استخدام معرفتك في تحديد إلى أي مدًى يُعتبَر التغيير ثوريًّا. إذا بَدَا التغيير كما لو كان طفرة أو تقدُّمًا جذريًّا في مواجهة مشكلة صعبة، فهو زائف على الأرجح. لماذا؟ الطفراتُ غير المتوقَّعة في مجال العلم نادرةٌ على نحوٍ متزايد. من الصور الشائعة للتقدُّم العلمي وجودُ عالِمٍ يعمل وحدَه في مختبره يكافح بلا جدوى كي يحل إحدى المشكلات، ثم في لحظةِ اكتشافٍ، يتوصَّل إلى فكرةٍ تمثِّل طفرةً، ويعلنها للعالَم الذي تصيبه الدهشة. هذه الصورة من صور التقدم العلمي تناسب بعض الحالات، أشهرها حالة نيوتن؛ إذ تحقَّقَتْ إنجازاتُه في البصريات والجاذبية كلها أثناء عمله في عزلةٍ في منزلِ عائلته الريفي في وولستروب، حيث كان قد ذهب إلى هناك هربًا من الطاعون الدبلي الذي كان يهدِّد جامعة كامبريدج في ذلك الوقت.

إلا أن هذه الصورة لا تناسب كثيرًا من الحالات، خاصةً في الوقت الحاضر. في العادة يكون التقدُّم نتيجةَ عملِ العديد من المختبرات العلمية في حلِّ المشكلة نفسها، وانخراطها أحيانًا في الانتقاد اللاذع، لكنها بطريقةٍ أو بأخرى يُحَسِّن بعضُها عملَ بعضٍ من خلال التعاون والنقد، إلا أن التاريخ يُسقِط أسماءَ المشاركين بمنتهى القسوة، وينسب الإنجازَ العلمي عادةً لشخصٍ واحدٍ أو إلى شخصين في أفضل الحالات. رأى جيمس واطسون وفرانسيس كريك أنهما ينافسان المختبرات الأخرى في الكشف عن تركيب الحمض النووي،12 لكنْ كَمْ منَّا في الوقت الحاضر يعرف الباحثين الآخرين؟ في الحقيقة، كَمْ منَّا يعرف أن واطسون وكريك تشارَكَا جائزةَ نوبل لاكتشاف الحمض النووي مع موريس ويلكنز؟ احذرْ من الطفرات التي اكتشفها عبقري منفرد، لا سيما ذلك الذي يُعلِن عن مكتشفاته على أحد مواقع الإنترنت مع ضمان استرجاع النقود.

علاوةً على ذلك، يسير العلم عادةً في مجموعة خطوات، بعضها للأمام، وبعضها للخلف، تزحف نحو أحد أوجه التقدم. وفي كل الأوقات تقريبًا يسبق الطفراتِ العلميةَ بعضُ التمهيدات، فقبلَ تطوير علاجٍ ناجحٍ لمرض ألزهايمر سوف ترى أخبارًا عن خطوات مهمة اتُّخِذت على المستوى الجزيئي، ثم ترى أخبارًا عن علاجٍ ناجحٍ لمرض ألزهايمر على نماذج حيوانية، وهكذا.

•••

أوضحتُ أن الحسَّ السليم يمكن أن يكون حليفًا، لكنْ يجب ألَّا يكون سلاحَك الوحيد. في الغالب سوف يوضِّح المُقْنِع أنه توجد أدلة بحثية تؤيد التغيير المقترح. كيف يمكنك تقييم الأدلة؟ دَعْنا نبدأ بتوضيح الدليل، والأمور التي تبدو كأدلةٍ لكنها ليست كذلك.

(٢) الأمور التي تتخفَّى في صورة أدلة

عند تقييم الدليل، أول شيء يلزم فعله هو التأكُّد من فهم الدليل المقدَّم لك، فعلى أي حال، لماذا ستتبنَّى تغييرًا لا تفهم الدليلَ الذي يدعمه؟ حتى الآن أفضلُ طريقةٍ للحصول على هذا الفهم تكون من خلال الحوار مع المُقْنِع، في مقابل قراءة إحدى المطبوعات، مثلًا، عن هذا الأمر. عادةً يكون من الأسهل الاستماع إلى أحد التفسيرات لأنك تستطيع إيقاف المتحدِّث عندما يبدو أمرًا ما غير منطقي، ومطالبته بتفسيرٍ آخَر.

السرُّ هنا أنك عندما تضغط على المُقْنِع لتفسير التغيير، فإنك لا تسعى فحسب إلى فهم الدليل، لكنك أيضًا تُقنِع نفسك بأن المُقْنِع يفهم الدليل. نظرياتُ أينشتاين صعبةُ الفهم لتعقيدها من الناحية الرياضية، ومعارضتها للحدس من الناحية المفاهيمية؛ لذلك يلزم الالتفات إلى ما قاله أينشتاين: «إذا لم تستطع أن تشرح الأمرَ ببساطةٍ، فإنك لا تفهمه على نحوٍ كافٍ.» في كثيرٍ من الأحيان يحدث أن يمتلك المُقْنِع مجموعةً من العبارات المعهودة المتعلقة «بأحدث أبحاث الدماغ» التي تدعم التغيير، إلا أنك إذا طرحتَ بعض الأسئلة، فسوف تنخفض ثقةُ المُقْنِع على نحوٍ ملحوظ، وسوف يكرِّر العبارات نفسها، ولن يبدو التفسيرُ متماسِكًا جيدًا. لستُ في حاجةٍ إلى خبرة علمية لاكتشاف هذه الظاهرة، ولا تعني هذه الظاهرة أن التغيير لن يكون فعَّالًا، لكنها علامةٌ جيدة على أن الشخص الذي يحاول إقناعَك باستخدامه لا يفهم الدليلَ المزعوم الذي يدعم التغيير.

إذا كانت الحجج المقدَّمة واضحةً بالنسبة إليك، فإنه يوجد اختباران يلزم خضوعها لهما؛ الاختبار الأول: يهدف إلى التأكُّد من أن المُقْنِع لا يخلط بين الصفة والدليل. المثال التقليدي على ذلك يأتي من مسرحية «المريض الوهمي»، وهي مسرحية تعود لعام ١٦٧٣ سخر فيها موليير من الأطباء، وفي أحد المشاهد، يخضع البطلُ لاختبارٍ لقبوله في مهنة الطب على يد مجموعة من الأطباء المتفاخرين، وعندما يسألونه لماذا المخدِّر يجعل الناسَ يشعرون بالنعاس، يُجِيب ذلك الطالبُ قائلًا: إنه يفعل ذلك بسبب «صفته المسبِّبة للنعاس». فيهزُّ الأطباء رءوسَهم في حكمةٍ ويقولون: «تفسير جيد. تفسير جيد. إنه يستحقُّ الانضمام إلى هيئتنا المثقفة.»

بالتأكيد القول إن المخدر يجعل الناس ينامون بسبب «صفته المسبِّبة للنعاس» ليس تفسيرًا على الإطلاق، بل هو مجرد إضفاء وصفٍ معقَّدٍ على الشيء اللازم شرحه، ثم التظاهُر بأنك قد شرحتَ طريقةَ عمله. للأسف، يرى المرء هذا النوع من «التفسير» في أغلب الأحيان مطبَّقًا على المنتجات التعليمية، فيقال إن الطلبة الذين يجدون صعوبةً في القراءة يعانون من «معيقات صوتية»، أو يُطلِق المُقْنِعُ على التعلُّم «إعادةَ التنميط» كي يجعل الكلمة تبدو تقنيةً ومن ثَمَّ غامضة. سواء أكان المصطلح مصطنعًا أم حقيقيًّا؛ فإنه مستخدَم فقط لوصفِ الشيء الذي تعرفه باسمٍ آخَر، ولا يسهم بأي عمل أكاديمي. لا بد أن ترفضه، ويجب أن يثير في نفسك الريبة. إن إضفاء مصطلحاتٍ تبدو تقنيةً على مفاهيم عادية يُستخدَم فقط لإثارة إعجابك.

يجب أن تضع في اعتبارك أيضًا أسلوبَ إلقاء الطُّعْم وتغييره الشائع في بيع منتجات التعليم. سوف يستشهد المُقْنِع بأوراقٍ بحثيةٍ سليمة تمامًا، لكن ليست لها علاقةٌ بالتغيير إلا من ناحيةٍ ثانويةٍ فقط، هذا لو كانت لها علاقةٌ به من الأساس. تأمَّلْ، على سبيل المثال، برنامج دور (http://www.dore.co.uk/). إنه دورة علاجية تهدف إلى علاج التوحُّد (يتمثَّل الزعم في أنه من الممكن استخدامها في علاج أمراضٍ أخرى أيضًا، لكنْ تبسيطًا للأمور، سوف أناقش التوحُّدَ فقط). المنطق الداعم للبرنامج هو الآتي:

المنطق الداعم لبرنامج «دور» لعلاج التوحُّد

(١) المخيخ (تكوين كبير يوجد أسفل الدماغ) هو السبب في التوحُّد.

(٢) لذلك يمكن علاج التوحُّد من خلال تحسين وظيفة المخيخ.

(٣) معروفٌ أن المخيخ يدعم التوازُنَ واكتسابَ المهارات.

(٤) لذلك سوف تحسِّن التمارين البدنية وظائف المخيخ.

(٥) ومن ثَمَّ سوف تساعد التمارين البدنية الأطفال المصابين بالتوحُّد.

إذا جرَّدْتَ زعْمَ برنامج دور، فسوف تركِّز على النقطة الخامسة التي تقول: إذا مارَسَ طفلُك التمارينَ البدنية، فسوف تتحسَّن الأعراض. لا توجد دراساتٌ علمية على الموقع الإلكتروني لبرنامج دور متعلِّقة بهذه الزعم. على الرغم من ذلك، يوجد الكثيرُ من الروابط لمقالات في دورياتٍ علميةٍ ثبت فيها وجودُ علاقةٍ بين المخيخ والتوحُّد (النقطة الأولى)، وعلاقة بين المخيخ والمهارات (النقطة الثالثة)، وعلاقة بين المخيخ والتمارين البدنية (النقطة الرابعة). تمثِّل كل هذه المقالات أساسًا علميًّا جيدًا، لكنها لا تدعم مباشَرةً برنامجَ دور (أو تكذب بخصوصه).13 على سبيل المثال: هل تعتقد أن التمرين البدني والتوحُّد يؤثِّران على «أجزاء مختلفة» من المخيخ؟ في واقع الأمر، المخيخ حجمه ضخم، ويُستخدَم في الكثير من الوظائف.
الشهاداتُ من مصادر «الأدلة» الأخرى التي يجب ألَّا تقنعك، وهي روايات على لسان الشخص صاحب التجربة يقدِّمها أشخاصٌ استخدموا المنتجَ ويُقْسِمون على أنه ساعَدَهم. الشهاداتُ، بطبيعتها، أكثرُ إقناعًا من الإحصائيات الجافة. قارِنِ التصريحَيْن الآتيين من حيث قيمتهما الإقناعية:
  • (١)

    في ٢٨ في المائة من الحالات، يفيد الآباء والمعلمون بتحسُّن السلوك والتركيز بعد ثلاثة أسابيع من العلاج السلوكي «جامبوري» الخاص باضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة.

  • (٢)

    كنتُ أبكي كلَّ يوم تقريبًا. لم يكن من الممكن السيطرة على ابني تقريبًا، لكن بعد ثلاثة أسابيع فقط من العلاج السلوكي «جامبوري»، بَدَا كما لو أنه أصبح طفلًا جديدًا! أصبح الآن مهذَّبًا مع الجميع، وينجز واجبَه المنزلي دون إلحاحٍ مني، و«بمفرده». ولأول مرة، سيصبح ضمن لوحة الشرف!

كتبت الشاعرة ميريل روكايزر: «يتكوَّن الكون من قصصٍ، لا من ذرات.»14 ربما قصدَتْ أننا نشعر أن الأحداث مترابطة، وأنها تؤدي إلى نهايةٍ. من المؤكد أن القصص أكثر إثارةً من الإحصائيات وإمكانية تذكُّرها أكبر، حتى إن علماء علم النفس المعرفي يصفون القصص أحيانًا بأنها «مفضَّلة من الناحية النفسية».15 ولا عجب في أن المُقْنِعين يستخدمون القصص، إلا أنه يجب أن تتجاهل تلك القصص. في العادة، يوجد شخص مستعد للشهادة على كفاءةِ أيِّ شيءٍ تقريبًا، ومن الأمثلة المتطرفة لذلك ما حدث عام ١٩٩٧ حين أقدَمَ أعضاءُ الطائفة الدينية «بوابة السماء» على الانتحار مقدِّمين بذلك شهادةً طوعية تفيد بأن العالَم كان على وشك الانتهاء، وأنهم سيُنقَذون على يد كائنات فضائية في سفينة فضائية تتبع المذنب هالي-بوب.16
توجد آليتان يمكن أن تقوداك إلى اعتقادِ أن تغييرًا فاشلًا ما قد حقَّقَ لك معجزة، وتجعلا منك مرشحًا جيدًا لتقديم شهادة بكفاءة التغيير؛ أولًا: يوجد تأثير العلاج الوهمي، وفي هذه الحالة يمكن أن يحقِّق إخبارُك بأنك خاضع لنوعٍ من العلاج دعمًا نفسيًّا حقيقيًّا تمامًا. وقد تعرَّضَتِ العارضة إيل ماكفيرسون للانتقادات عندما اعترفَتْ باستخدام مسحوق قرن الكركدن المهدَّد بالانقراض لأغراض «طبية»، على الرغم من عدم وجود دليلٍ على تحقيقِ القرن لأية فوائد. وكان جواب ماكفيرسون: «لقد حقَّقَ لي فوائد.»17 لا تتحقَّق الفائدة من العلاج، بل من الاعتقاد. لقد سمعت على الأرجح عن علاجاتٍ وهميةٍ تقلِّل الألم،18 لكن اتضح أيضًا أنها تقلِّل حِدَّةَ الأعراض لدى الأطفال المصابين باضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة،19 أو المصابين بالتوحُّد.20

من الممكن أيضًا أن يتحسَّن أيُّ أمرٍ من الأمور الخاضعة للعلاج، لكن هذا التحسُّن لا تكون له علاقةٌ بالعلاج؛ على سبيل المثال: تأمَّلْ مائة طفل من تلاميذ الصف الثاني في فصل الخريف وهم يجدون صعوبةً في القراءة. والآن، تأمَّلْ هؤلاء الأطفال مرةً أخرى في الربيع. من بين هؤلاء المائة، ستوجد على الأرجح قلةٌ منهم — خمسة وربما عشرة — نجَحَ شيءٌ ما معهم، وتحسَّنَتْ قراءتهم على نحوٍ هائل. ربما تواصلوا فعلًا مع المعلمة وعملوا بمزيدٍ من الجهد لإرضائها، وربما وجدوا كتابًا أرادوا أن يكونوا قادرين على قراءته بمفردهم، وربما تراكَمَ لديهم ببساطةٍ قدرٌ كافٍ من الممارسة، حتى إنهم تعلَّموا كيفيةَ القراءة. إذا كنتَ والدَ أحد هؤلاء الأطفال فسوف تقول: «أنا سعيد جدًّا بتحسُّن قراءة روبرت!» لكن إذا كنتَ تعطي روبرت مكمِّلًا عشبيًّا مضمونًا لتحسين القراءة، فمن المحتمل إلى حدٍّ بعيد أن تعزو هذا التحسُّنَ إلى تدخُّلك العلاجي، وإذا طُلِب منك الإدلاء بشهادة، فمن المحتمل أن تذعن للطلب ببساطة. وماذا عن الآباء الذين تناوَلَ أطفالهم المكمِّل العشبي ولم يحقِّق لهم أية نتائج؟ هؤلاء لن تظهر شهاداتُهم على الموقع الإلكتروني.

تدعوك الشهاداتُ إلى التوصُّل لهذا الاستنتاج: «هذا ما ينتظرني إذا قبلتُ التغيير.» إلا أنك لكي تتوصَّل إلى تنبُّؤٍ عن النتيجة التي يمكن أن تتوقَّعها حقًّا، فإنك تحتاج إلى معلوماتٍ أكثر ممَّا يمكن أن تقدِّمه الشهادة. في الفصل الثالث أوضحتُ أن الدليل الإيجابي ليس حاسمًا بالنسبة إلى النظرية؛ على سبيل المثال: لقد وضعت نظريةً تقول إن كل البجع أبيض، ولكي أثبت ذلك اصطحبتُك إلى بعض المتنزهات وحدائق الحيوانات وأريتك «بعض» البجع الأبيض. حسنًا، لقد استنتجت على الأرجح أنه يوجد «بعض» البجع الأبيض، وإلا لما كنتُ قدَّمت النظرية في المقام الأول.

الشهادات تُظهِر البجع الأبيض فتقول: «انظرْ، توجد واحدة!» إنك لا تحتاج فقط إلى سماع قصص النجاح من الأشخاص الذين تبنَّوا التغييرَ، لكنْ تحتاج أيضًا إلى قصص الفشل، وتحتاج كذلك إلى قصص النجاح وقصص الفشل من الأشخاص الذين «لم يتبنَّوا» التغيير. يبيِّن الشكل ٧-١ صُلْبَ مشكلةِ الشهادات.
fig40
شكل ٧-١: تحتاج إلى أربعة أنواعٍ من المعلومات لتقييم التغيير على نحوٍ كافٍ. تقدِّم الشهادةُ نوعًا واحدًا فحسب من الأنواع الأربعة.

تقدِّم الشهاداتُ معلوماتٍ فقط من الأشخاص الذين تبنَّوا التغييرَ وتحسَّنَتْ لديهم الأمور، ولتقييم تأثيرِ التغيير فإنك تحتاج إلى معلوماتٍ من كل الأنواع الأربعة.

(٣) العثور على الدراسات البحثية وتفسيرها

ما فعلته حتى الآن هو فقط الاستماع إلى حجج المُقْنِع ومحاولة تقييمها نقديًّا، إلا أن الحجة المنطقية الداعمة للتغيير تختلف عن البيانات العلمية التي توضِّح فعاليته. أنت في حاجةٍ إلى معرفةِ هل تلك البيانات موجودةٌ من الأساس؛ فأين يمكنك العثور على تلك البيانات؟

يجب أن توجِّه طلبَك الأول إلى المُقْنِع. إذا أخبرني أحدُ الأشخاص أن التغييرَ «قائمٌ على أبحاث»، فإنني أقول له مبتهجًا: «رائع! هل يمكنك أن ترسل لي البحث؟ أودُّ حقًّا رؤيةَ البحث الأصلي «الذي يورد هذه البيانات».» دائمًا ما يقول المُقْنِع: «بالتأكيد!» وأحيانًا أحصل على شيء، لكن في أغلب الأحيان لا أحصل على شيء. وأرى أنني سواء أحصلتُ على شيءٍ أم لم أحصل، فقد اكتسبتُ شيئًا: إما حصولي على الأوراق البحثية، وإما معرفة أن المُقْنِع لا يعرف شيئًا عن البحث أو أنه لا يسعه إزعاج نفسه بالمتابعة وإرسال البحث لي.

بطبيعة الحال لا أتوقَّع حقًّا أن يرسل المُقْنِع «كلَّ» الأوراق البحثية المتاحة، لا سيما تلك التي تنتقد التغيير. ما يرسله هو مجرد بداية، لكني أحتاج إلى القيام بقليلٍ من البحث بنفسي. تتطلَّب هذه العملية قدرًا من العمل؛ ولهذا السبب تركتُها للنهاية. أنا لا أنصحك بالمضي قدمًا في هذا الأمر إلا إذا كان ما سمعتَه عن التغيير حتى هذه المرحلة يبدو جيدًا، وكنتَ تتأمَّله بجديةٍ إلى حدٍّ بعيد.

(٣-١) أين تجد الأبحاث

يوجد نوعان من الأبحاث يمكنك البحث عنهما؛ الأول: يمثِّل اختبارًا مباشرًا للتغيير. على سبيل المثال، يحثُّك المُقْنِع على استخدام برنامج «تعليم القراءة السريعة» (http://www.renlearn.com/ar/)، وهو برنامج خاص بالقراءة لطلبة الصفوف الابتدائية. يمكنك البحث عن الدراسات البحثية التي تقارن كيف يقرأ الأطفال عند استخدام البرنامج مقابل طريقة قراءتهم عند عدم استخدام البرنامج. النوعُ الآخَر من الأدلة الذي قد تبحث عنه لا يختبر التغييرَ المحدد، بل يتعلَّق بزعمٍ أكثر عموميةً متعلِّقٍ بطريقةِ تعلُّم الأطفال؛ على سبيل المثال: افترضْ أن المُقْنِع يحثُّك على استخدام برنامج «تعليم القراءة السريعة» لأنه يؤكِّد على ممارسة القراءة. من الممكن أن تبحث عن دليلٍ متعلِّق بأهمية ممارسة القراءة في العموم إلى حدٍّ بعيد، وليس فقط بالطريقة المطبَّقة بها في برنامج «تعليم القراءة السريعة». لِنبدَأْ بالعثور على الأبحاث التي تختبر التغييرَ المحدد.

الهدف هنا هو العثور على البحث الأصلي، وليس على ما قاله شخصٌ آخَر عن البحث الأصلي؛ ولذلك، فإن كثيرًا مما تجده في بحث الويب العادي لن يوصلك إليه؛ حيث إن مواقع الإنترنت (حتى مواقع المؤسسات الحسنة السمعة)، والمدوَّنات، ومقالات الصحف، وويكيبيديا؛ كلها مصادرُ فرعيةٌ. على الرغم من ذلك؛ فإنها من الممكن أن تكون مفيدةً إذا كانت تقتبس من مقالات البحث الأصلي.

لحسن الحظ، يوجد طريق آخَر مباشِر للعثور على هذه المادة؛ إذ يوجد العديد من محركات البحث المتوافرة على الإنترنت التي سوف تساعدك في العثور على مقالات بحثية وثيقة الصلة. من أفضل محركات البحث تلك محركُ مركزِ معلومات الموارد التعليمية «إريك» (www.eric.ed.gov)، الذي تديره وزارة التعليم الأمريكية؛ إنه يقدِّم بحثًا شاملًا تمامًا عن المقالات المتعلِّقة بالتعليم. هناك أيضًا محرك المنشورات الطبية «بابميد» (http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/)، الذي تديره المكتبة الطبية القومية الأمريكية ومعاهد الصحة الأمريكية. إن قاعدة البيانات تلك مفيدة في المقالات ذات التوجُّه الطبي إلى حدٍّ بعيد (على سبيل المثال: المقالات التي تتناول التوحد أو اضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة).

استخدام أي من هذين المحركين سيكون سهلًا بشكلٍ ما للأشخاص المعتادين على محركاتِ بحثٍ مثل جوجل أو ياهو. يوجد في المحرك صندوقُ بحثٍ يمكنك أن تكتب فيه بعض الكلمات المفتاحية. إنك تبحث عن أبحاث تختبر فعاليةَ التغيير؛ لذلك يجب أن يكون المصطلح الذي تبحث عنه فقط اسم البرنامج. إذا أردتَ معرفة هل «برنامج دور» يساعد الأطفال المصابين باضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة، فابحثْ عن «برنامج دور». إذا أردتَ أن تعرف هل برنامج «رياضيات سنغافورة» يعزِّز إنجازَ الطلبة في الرياضيات، فابحثْ عن «رياضيات سنغافورة». «يجب» أن تستخدم علامتَيِ التنصيص، فهذا سوف يجعل البحثَ قاصرًا على المقالات التي تحتوي على هذه العبارة بالضبط «رياضيات سنغافورة». إذا كتبتَ: رياضيات سنغافورة، فسوف يُسفِر البحث عن مقالاتٍ تحتوي على كلمة «سنغافورة» وعلى كلمة «رياضيات»، وسينتهي بك المطاف بمقالات، على سبيل المثال، تقارن بين إنجاز الطلبة في الرياضيات في البلدان المختلفة، لكنها لا تحتوي على أي شيء متعلِّق ببرنامج الرياضيات. قد لا يكون لهذا الفرق أهميةٌ كبيرة في بحوث أخرى، لكن من الجيد تبنِّي عادةِ وضْعِ الكلمة المفتاحية بين علامتَيْ تنصيص.

إذا كنتَ تجد صعوبةً في العثور على المقالات، فحاوِلِ التفكيرَ فيما إذا كان يوجد أكثر من مصطلحٍ للموضوع محل الاهتمام؛ على سبيل المثال: يمكن أن تظهر قراءة «الكلمة الواحدة» تحت مصطلحات أخرى مثل «اللغة الكاملة»، أو «كلمات البصر»، أو «انظرْ وقُلْ». قد يكون محرك جوجل مفيدًا في العثور على تلك المرادفات، ويمتلك محركُ مركز معلومات الموارد التعليمية قاموسَ مرادفاتٍ يمكنك الاستعانة به كي تتمتَّع بقدرٍ أكبر من الثقة في أنك تستخدم مصطلحَ البحث الصحيح.

يلزم أيضًا أن تقتصر على الأبحاث التي خضعَتْ لمراجعة الأقران. تحدَّثْتُ عن مراجعة الأقران في الفصل الثالث؛ هل تتذكَّر مناقشةَ عالِمَي «الاندماج البارد» اللذين عقدَا مؤتمرًا للإعلان عن نتائجهما، بدلًا من إخضاع المكتشفات لنقد الأقران؟ أتوقَّع أنك مع الوصول إلى هذه المرحلة في الكتاب تكون قد كوَّنْتَ فهمًا أفضل لسبب كون مراجعة الأقران بهذه الأهمية. من الأفكار المتكررة في مناقشاتنا أن حكمنا يخضع لمجموعة كبيرة من التحيُّزات، لا سيما تلك التي تؤكِّد تصوُّراتنا السابقة وتُرضِي غرورنا. إن قدرًا كبيرًا مما نطلق عليه المنهجَ العلمي يتكوَّن من وسائل وقائيةٍ تهدف إلى زيادةِ موضوعيةِ تلك الأحكام. إن تخطيط إحدى التجارب وتنفيذها، وتحليل البيانات، وكتابة التقرير، هي عملية يمكن أن تستغرق سنةً على الأقل. ولا عجبَ في أنه بمجرد الانتهاء من هذه العملية يكون الباحث مقتنعًا إلى حدٍّ بعيد أنها جيدة «حقًّا». لسنا في حاجةٍ إلى أن نقول إن الدراسة قد تحتوي على أخطاء مهما كان الباحث دقيقًا. ونحن في حاجةٍ إلى خبيرٍ متجرِّد من المشاعر الشخصية ليقرأ البحث قراءة دقيقة، ويحدِّد هل هو سليم من الناحية العلمية أم لا؛ وهذا هو الهدف من مراجعة الأقران.

عندما تُجْرِي بحثًا على محرك بحث «بابميد» الطبي، فإن كل المقالات التي تظهر، تقريبًا، تكون خاضعةً لمراجعة الأقران. قلةٌ من الدوريات الطبية قد تنشر مقالةً لم تخضع لمراجعة الأقران، ولا يصنع محرك «بابميد» قائمةً بمقالات من تلك الدوريات. التعليم أمر مختلف؛ إذ إن «كثيرًا» من الدوريات لا تخضع لمراجعة الأقران، ويصنع محركُ بحث «إريك» قائمةً بتلك الدوريات. لحسن الحظ، يسهِّل أيضًا محركُ «إريك» حصرَ البحث على المقالات الخاضعة لمراجعة الأقران، فكلُّ ما تحتاجه فقط هو تحديد إحدى الخانات. وفعْلُ ذلك يحقِّق فارقًا كبيرًا في عدد المقالات التي تظهر في نتائج البحث؛ على سبيل المثال: عندما أبحث عن «أورتون جيلينجهام» (وهي طريقة لتعليم القراءة)، فإنني أحصل على اقتباساتٍ من تسعٍ وثلاثين مقالة، وعندما أحصر بحثي على المقالات الخاضعة لمراجعة الأقران، فإنني أحصل على ستة اقتباسات. إذا بحثتُ عن «برايت بيجينينجز» (منهج لطلبة ما قبل المرحلة الابتدائية)، أحصل على اثنتي عشرة مقالة، وعندما أحصر البحثَ على المقالات الخاضعة لمراجعة الأقران، فإنني أحصل على مقالة واحدة.

(٣-٢) أبسط رؤية لمكتشفات الأبحاث

إذا اتخذتَ الإجراء البسيط المتمثِّل في البحث عن مقالات بحثية، فقد أحرزتَ تقدُّمًا كبيرًا، حتى إنْ كنتَ لم تقرأ أيَّ شيء بعدُ. الحقيقةُ هي أنه عندما يقول معظم المُقْنِعين إنه توجد أدلةٌ علمية تؤيد التغيير، فإنهم يخدعونك، فليس ثمة أية أدلة علمية.

وإذا وجدتَ بالفعل بعضَ مقالاتٍ عن التغيير، فلا توافِقْ على التغيير عند هذه المرحلة؛ سوف تحتاج إلى إلقاءِ نظرةٍ على محتوى تلك المقالات. لحسن الحظ، يسرد موقع «إريك» وموقع «بابميد» ملخصاتٍ لكل المقالات المسرودة كتَبَها مؤلِّفو الدراسة. إن هدفك الأساسي، بطبيعة الحال، هو معرفة هل التغيير فعَّال، وهذا عادةً من السهل جدًّا معرفته من الملخص؛ فهذا ما يرغب الجميع في معرفته، ولذلك فمن المحتمل جدًّا أن يكون في الملخص.

الآن يمكنك أن تتوقَّف عند هذا الحد، يمكنك فحسب أن تعدَّ عددَ المقالات التي تخلص إلى أن «التغيير قدَّمَ المساعدة»، أو أن «التغيير لم يقدِّم المساعدة»، وهذه هي البداية. إلا أنه من الأفضل أن تبحث بمزيدٍ من التعمُّق بعض الشيء من خلال إضافة بعض المعلومات التي سوف تحدِّد طريقةَ تفكيرك في النتائج. ولكي تفعل ذلك، ستحتاج على الأرجح إلى المقالات الكاملة، وليس فقط إلى الملخصات. في بعض الأحيان يكون من المتاح تنزيل المقالة الكاملة مباشَرةً من موقع «بابميد» أو موقع «إريك»، وإذا لم تكن كذلك، فاستخدِمْ محركَ بحث ويب (جوجل، وياهو، وما شابَهَ ذلك) للبحث عن اسم المؤلف. في كثيرٍ من الأحيان يكون للباحثين — لا سيما أولئك الذين يكونون أساتذة في الكليات أيضًا — مواقع ويب شخصية يمكنك من خلالها تنزيلُ المقالات التي كتبوها. وإذا لم يكن الوضع كذلك، فمن المحتمل أن تجد البريد الإلكتروني للباحث، وبإمكانك أن تطلب منه نسخةً من المقالة، وهذا ليس بطلبٍ غريب أو غير مهذَّب؛ فالباحثون معتادون على ذلك. وإذا كان يوجد أكثر من مؤلِّف مسرود في القائمة، فإنك تستطيع الكتابة لأيٍّ منهم.

(٣-٣) رؤية دقيقة لمكتشفات الأبحاث

بمجرد أن تحصل على المقالة الكاملة، ما الذي تريد معرفته بالضبط؟ أقترح أن تصنع بطاقةَ نتائج (انظر الجدول ٧-١).
جدول ٧-١: «بطاقة نتائج» مقترَحة لمتابعة مكتشفات الأبحاث.*
ما الأمر الخاضع للقياس؟ المقارنة؟ ما عدد الأطفال؟ ما مدى المساعدة المقدَّمة؟
المقالة ١
المقالة ٢
المقالة ٣
© Daniel Willingham
سيقول المؤلفون بوضوحٍ عادةً في الملخص هل التغيير «فعَّال» أم لا، إلا أن تعريف المؤلفين للنجاح قد يختلف عن تعريفك له؛ على سبيل المثال: في بداية هذا الفصل ذكرتُ أن موقع برنامج «صالة ألعاب العقل» لعام ٢٠٠٥ سرَدَ بعضَ المقالات البحثية الخاضعة لمراجعة الأقران. هذا حقيقي، لكنْ إذا قرأتَ المقتطف الخاص بإحدى هذه المقالات المسرودة، فسوف ترى أن النتيجة التي قاسها الباحثون كانت وقتَ الاستجابة؛ أيْ إنهم قاسوا مدى سرعة تحقيق الخاضعين للتجربة للهدف المطلوب استجابةً للإشارة.21 إن الخاضعين لتدريب صالة ألعاب العقل كانوا أسرع من أولئك الذين لم يخضعوا لتدريب صالة ألعاب العقل. إن لم يكن هدفك الحصول على طلبة يتَّسِمون باستجابات سريعة حقًّا، فإن هذه المقالة لن تكون وثيقةَ الصلة بقرارِ استخدامِ برنامج صالة ألعاب العقل.
استخدمَتْ مقالةٌ أخرى من المقالات الخاضعة لمراجعة الأقران، التي بَدَتْ مؤيِّدةً لفعالية برنامج صالة ألعاب العقل، نتيجةً مختلفةً تُعلَن على نحوٍ أكثر شيوعًا في الأبحاث التعلمية.22 يقول الباحثون إن الطلاب الخمسة في معهد الموسيقى قيَّموا برنامجَ صالة ألعاب العقل بأنه كان له تأثير إيجابي على عزفهم. كذلك كان توجُّه المشتركين تجاهَ برنامج صالة ألعاب العقل أكثرَ إيجابيةً في نهاية التجربة مقارَنةً ببداية التجربة. إلا أنك ترغب في معرفة هل برنامج صالة ألعاب العقل قد حقَّقَ مساعَدةً بالفعل أم لا، وليس معرفة هل «يعتقد» الناس أنه ساعَدَهم أم لا. وكما رأينا، فإن الأشخاص الذين استثمروا وقتَهم في أحد التغييرات يكونون متحمِّسين لاعتقاد أنهم قضوا وقتهم في شيءٍ يوجد طائل جيد من ورائه، فهنا يؤثِّر التنافر المعرفي؛ لذلك يجب ألَّا تقتنع بالبيانات التي توضِّح أن الناس أحبُّوا التغيير، أو بالبيانات الأخرى القريبة الشبه التي تعلن نتائجها في أغلب الأحيان على النحو الآتي: «٩٤ في المائة من الأشخاص الذين استخدموا المنتجَ يقولون إنهم سيوصون الأصدقاء باستخدامه!»

يجب أن تحرص أيضًا على وجود مجموعة للمقارنة؛ أيْ يجب أن يوجد على الأقل نوعان من الطلبة خاضعان للقياس: أولئك الذين اشتركوا في التغيير، ومجموعة أخرى فعلت شيئًا آخَر. لماذا؟ حسنًا، افترِضْ أنني أخبرتُك أنني قستُ مهاراتِ حلِّ المسائل الرياضية لدى عشرة فصول في الصف الثالث، مرةً في الخريف ثم مرةً أخرى في الربيع. استخدمَتْ كلُّ الفصول برنامجَ الرياضيات الفائقة الذي أعَدَّه دان، وارتفعَتِ الدرجات في امتحان الرياضيات الموحد من ٦٩ في المائة في الخريف إلى ٩٢ في المائة في الربيع. لكنْ أَلَنْ نتوقَّع أن تكون الدرجاتُ أعلى بعد سنةٍ من التعليم؟ ليس السؤال الحقيقي هو: هل طلبة الصف الثالث أفضل في الرياضيات في الربيع ممَّا كانوا عليه في الخريف؟ فنحن نفترض أنهم سيكونون كذلك بطبيعة الحال. السؤال هو: هل برنامج الرياضيات الفائقة لصاحبه دان قد ساعَدَ الأطفالَ في تعلُّم «المزيد» من الرياضيات مقارَنةً بأية طريقة مستخدَمة في الوقت الحالي؟ يبدو الأمر واضحًا جدًّا عندما نتناوله بالتفصيل، لكنْ من المدهش أن المقالة تزعم في أغلب الأحيان أن «الأطفال تعلَّموا أكثر!» دون الإجابة عن هذا السؤال: «مقارَنةً بماذا؟»

بالإضافة إلى ذلك، فإن عدد الأطفال الذين خضعوا للتجربة مهم أيضًا. إليكم مثالًا بسيطًا: افترِضْ أنني أريد أن أعلم مدى الودِّ الذي يتَّسِم به طلبةُ جامعة فيرجينيا، فوقفتُ في الساحة الرئيسية، وأوقفتُ عشوائيًّا أحدَ الطلاب، وأخضعْتُه لاختبارٍ من اختبارات الشخصية. سنفترض أنه مقياسٌ مشروعٌ للوُدِّ. إذا فعلتُ ذلك مع خمسة طلاب مثلًا، فهل سيكون لديَّ تقديرٌ جيد لِوُدِّ طلبة جامعة فيرجينيا؟ بالطبع لا. لقد اختبرتُ خمسة فحسب؛ ولذلك فمن الممكن أن أكون اخترتُ، مصادَفةً، خمسةً من الطلبة الانبساطيين، أو خمسة من غرباء الأطوار، أو أيِّ شيءٍ من هذا القبيل. إلا أنني إذا اختبرتُ مجموعةً أكبر من الطلبة، فإنه سيزيد احتمالُ أن تكون المجموعةُ التي أختبرها ممثِّلةً لطلبة جامعة فيرجينيا ككلٍّ. في أقصى الحالات، إذا اختبرتُ كلَّ الطلبة البالغ عددهم ١٤٢٩٧ طالبًا، فسوف أعلم «بالضبط» مدى وُدِّ الطالب العادي في جامعة فيرجينيا، على الأقل وفقًا للاختبار الذي أستخدمه. إذا اخترت عشوائيًّا ١٤ ألفًا من ١٤٢٩٧ طالبًا، فمن الواضح أنني ما زلتُ قريبًا جدًّا من المتوسط الحقيقي؛ حيث ما زلتُ أختبر معظمَ الطلبة. إلى أيِّ مدًى يمكن أن يصبح الرقم صغيرًا ويسمح لي في الوقت نفسه بالوثوق في أن النتيجة التي توصَّلْتُ إليها ليسَتْ قاصرةً؟ هذا يعتمد على عوامل عديدة تقنية إلى حدٍّ بعيد يصعب الخوض فيه هنا، لكن توجد قاعدة عامة تقول: إنه من الأفضل أن ترى «على الأقل» عشرين طفلًا خضعوا للتغيير، وعشرين طفلًا لم يخضعوا للتغيير.

ستجد الكثير من الدراسات الخاضعة لمراجعة الأقران يختبر عددًا أقل من ذلك. هذه الدراسات قيِّمة «بالفعل»، لكنْ لأسبابٍ مختلفة. يوجد دائمًا تقريبًا مقايضة ما بين عدد الأشخاص الخاضعين للتجربة وبين ثراء وتفصيل المقاييس المستخدمة. على الأرجح تستخدم الدراساتُ التي تتضمَّن مئاتِ الأطفال اختبارًا تحريريًّا، ولن يكون لدى المختبرين أية معلومات عن طريقة تفكير الأطفال في الأسئلة. عندما ترى دراسةً أُجرِيت على ستة أطفال، فإن المختبرين يكونون على الأغلب قد أجروا محادثات طويلة مع كل طفل حول التغيير، ولديهم مقاييس متعددة لعواقب التغيير، وغير ذلك. يمكن أن يكون هذا النوع من الدراسات مفيدًا جدًّا للباحثين، لكنه أقل فائدةً للأشخاص الراغبين في معرفة هل التغيير يساعد الأطفال على نحوٍ موثوقٍ فيه أم لا.

أخيرًا، يجب الانتباه إلى مدى المساعدة التي قدَّمَها التغيير. من المهم فهم المنطق وراء هذا السؤال: «هل حقَّقَ التغيير فارقًا؟» ذلك السؤال الذي سترى قريبًا جدًّا أنه غير دقيق بعض الشيء.

الإجراءات الإحصائية المستخدَمة للإجابة عن ذلك السؤال تتبع المنطق الآتي: لديَّ مجموعتان، إحداهما تعرَّضَتْ للتغيير، والأخرى لا. سنُطلِق على الأخيرة مجموعة اللاتغيير. لنَقُلْ إن التغيير من المفترض أن يساعد الأطفال على فهم ما يقرءون. إذا «لم ينجح» التغيير، فإن كلتا المجموعتين يجب أن تحرزا الدرجةَ نفسها في اختبار فهم القراءة في نهاية التجربة. والآن بطبيعة الحال من الممكن أن تُحرِز مجموعةُ التغيير درجةً أعلى بمحض الصدفة فحسب. إن الاختبار ليس مثاليًّا، فهو على أية حال لديه «قيمة ثابتة»، ومن الممكن أن تحابي الصدفةُ مجموعةَ التغيير، أو من الممكن أن يصادف أن تحتوي مجموعة التغيير على الكثير من الأطفال الذين يجيدون القراءة، على الرغم من أنني اخترتُ الأطفال الذين سيكونون في مجموعة التغيير والأطفال الذين سيكونون في مجموعة اللاتغيير اختيارًا عشوائيًّا.

إذا أحرزَتْ مجموعةُ التغيير درجةً أعلى بعض الشيء من مجموعة اللاتغيير عن طريق الصدفة فحسب، فسوف استنتج استنتاجًا خاطئًا، فسوف أعتقد أن برنامج القراءة نجح. كيف يمكن أن نحمي أنفسنا من هذه الحوادث العَرَضية الممكنة؟ نقول لأنفسنا: «حسنًا، من الممكن أن تحقِّق مجموعةُ التغيير أداءً أفضلَ قليلًا في اختبار فهم القراءة في نهاية التجربة بمحض الصدفة، إلا أنهم لن يحقِّقوا أداءً أفضل «إلى حد بعيد» بمحض الصدفة فحسب. إذن فماذا عن ذلك: إذا حقَّقوا أداءً أفضل قليلًا، فسوف أتجاهله؛ أيْ سأقول: «الاختلاف في الدرجات قد يكون راجعًا فحسب إلى الصدفة؛ ولذلك أستنتج أن التغيير لم ينجح.» إلا أنه لو وُجِد اختلافٌ «كبير» بين المجموعتين، فسأكون «مضطرًّا» لاستنتاج أن ذلك لا يمكن أن يكون راجعًا للصدفة. إن الاختلاف الكبير في درجات فهم القراءة يجب أن يكون راجعًا إلى التغيير».

حتى هذه المرحلة ما زال الأمر جيدًا، إلا أنه هنا يكمن التعقيد. لقد لاحظنا ببساطة كيف أن مدى «الثبات» الموجود في المعيار يعتمد على عدد الأشخاص الموجودين في المجموعة. إذا اختبرتُ ودَّ خمسة طلاب فحسب، فسأعلم أنني من المحتمل، من قبيل الصدفة، أن أكون اخترتُ مجموعةً غريبةَ الأطوار، في حين أنني لو اختبرتُ مائةَ طالب، فإن احتمال أن تكون المجموعة غريبةَ الأطوار يصبح أقلَّ بكثيرٍ؛ لذلك دعونا نطبِّق ذلك على مقارَنة مجموعة التغيير ومجموعة اللاتغيير. إذا كانت كلُّ مجموعة تضم مائة شخص، ورأيت أن درجات اختبار فهم القراءة للمجموعتين مختلفة، أَفَلَا يجب أن يقلَّ قلقي من أن يكون الاختلاف راجعًا إلى أمر غريب في إحدى المجموعتين؟ وأَلَا يجب أن يزيد قلقي من أن يكون ذلك الاختلاف بين المجموعتين غريبًا إذا كان لديَّ خمسة أشخاص فحسب في كل مجموعة؟

الجواب هو: «بالتأكيد!» وهذا العامل موجود في كل الاختبارات الإحصائية التي يستخدمها الجميع تقريبًا. كلما زاد عدد الأشخاص في كل مجموعة، وضعت حدًّا أقل وأقل لمدى كبر الاختلاف بين المجموعتين اللازم وجوده قبل أن تتوصَّل للاستنتاج الآتي: «رائع، ذلك الاختلاف أكبر من أن يكون قد حدث من قبيل الصدفة. لا بد أن المجموعتين مختلفتان، وهذا يعني أن التغيير حقَّقَ شيئًا بالفعل.»

(٣-٤) الأهمية الإحصائية في مقابل الأهمية العملية

هذا هو سبب أهمية هذا الأمر بالنسبة إليك. عندما تتفقَّد هذه المقالات، فإنه من الطبيعي أن تصنف ذهنيًّا كلَّ دراسةٍ على أنها تُظهِر أن «التغيير نجح»، أو أن «التغيير لم ينجح». هذا جيد، لكنْ لاحِظْ أنَّ كونه «نجح» يعني فعلًا أن المؤلفين كان لديهم مبرِّر في استنتاج أن «الاختلاف بين مجموعة التغيير ومجموعة اللاتغيير كان كبيرًا جدًّا، حتى إنه كان من غير المحتمل إلى حدٍّ بعيد أن يكون قد حدث بمحض الصدفة»، وأن الاستنتاج يعتمد حقًّا على عاملَيْن أَلَا وهما: مدى كبر الاختلاف بين المجموعتين، وعدد الأشخاص الذين كانوا موجودين في كل مجموعة. «لذلك إذا وُجِد الكثير والكثير من الأشخاص في المجموعتين، فإن من شأن وجود اختلافٍ معقولٍ نسبيًّا في الدرجات أن يؤدِّي أيضًا إلى استنتاج أن «التغيير نجح».»

يطلق علماء النفس على هذا الأمر الاختلاف بين «الأهمية الإحصائية» و«الأهمية العملية». تعني الأهمية الإحصائية أن لديك مبررًا في استنتاج أن الاختلاف بين مجموعة التغيير ومجموعة اللاتغيير حقيقي، وليس ناجمًا عن صدفةٍ. أما الأهمية العملية فتشير إلى الاختلاف وهل تهتم به أم لا. وكما يوحي الاسم، فإن القرار راجعٌ إليك؛ على سبيل المثال: افترِضْ أن التغيير هو طريقةٌ جديدة لتعليم التاريخ، وأنه في نهاية برنامجٍ مدته اثنان وثلاثون أسبوعًا، كان أداءُ الأطفال في مجموعة التغيير في اختبار التاريخ أفضلَ من أداء مجموعة اللاتغيير بمعدلِ واحدٍ في المائة. إذا وجد الكثير من الأطفال في كل مجموعة، فمن المحتمل أن يكون هذا الاختلاف مهمًّا من الناحية الإحصائية، لكن من غير المحتمل أن تعتقد أنه مهم من الناحية العملية. (لاحِظْ أن الحالةَ النقيضة غير ممكنة، فلا يمكن أن تُظهِر التجربةُ اختلافًا مهمًّا عمليًّا بين مجموعة التغيير ومجموعة اللاتغيير ويكون في الوقت نفسه غير مهم من الناحية الإحصائية.)

كيف يمكن أن تحكم على إحدى النتائج بأنها مهمة من الناحية العملية أو غير مهمة؟ يمكن أن يكون من الصعب معرفة ذلك إذا لم تكن على معرفة بالمقياس. إذا كان المقياس اختبار تاريخٍ وضَعَه المختبرون بأنفسهم، فمن الصعب معرفةُ ماذا يعني وجود تحسُّن في الاختبار بنسبة ٥ في المائة أو ١٥ في المائة. إذا لم تستطع أن تكوِّن انطباعًا جيدًا عمَّا إذا كان التحسُّن له أهمية عملية، فاحرِصْ على تذكُّر هذه الحقيقة، وإذا سنحَتْ لك الفرصةُ فناقِشْ هذه النقطةَ مع المُقْنِع. أنت تحتاج إلى أن تعرف بأسلوبٍ مألوفٍ بالنسبة إليك قدْرَ التحسُّن المفترض أن يحقِّقه ابنك أو طلابك.

أكثر الأمور أهميةً هو أنك في حاجةٍ إلى التفكير في الأهمية العملية في ضوء أهدافك. قد يعرض التغييرُ تحسُّنًا «مضمونًا» في قدرة الطلبة على الخطابة على سبيل المثال. السؤال هو: إلى أيِّ مدًى تحتاج إلى استثمارِ الوقت والموارد لاكتساب هذا التحسُّن المضمون؟ في التعليم، يرتبط التغييرُ في الغالب بتكلفة الفرصة، وهذا يعني أنك عندما تبذل الوقتَ والجهدَ في أحد الأمور، سيكون لديك بالضرورة قدرٌ أقل من الوقت والجهد لشيءٍ آخَر؛ لذلك تحتاج إلى أن تقرِّر هل هذا التحسُّن في القدرة على الخطابة يستحقُّ هذا الاستثمار. هذا قرارٌ شخصي، والجواب يعتمد على أهدافك التي تنشد تحقيقَها في التعليم.

•••

لقد لخَّصْتُ الخطواتِ المقترحةَ لتقييم الأدلة في الجدول ٧-٢. وكما فعلتُ في الفصل الخامس، فإنني أحثُّكَ بشدةٍ على عدم الاكتفاء بتنفيذ كل إجراءٍ، بل الاحتفاظ بسجلٍّ تحريريٍّ للنتائج.

لقد تناوَلْنا ثلاثَ خطوات في بحثنا المختصر، وهي: تجريد الزعم وقلبه، وتتبُّع الزعم، وتحليل الزعم. والآن حان وقت الخطوة الرابعة والأخيرة المتمثِّلة في اتخاذ القرار.

جدول ٧-٢: ملخص للإجراءات المقترَحة في هذا الفصل.
الإجراء المقترح سبب القيام بذلك
قارِنِ الآثارَ المتوقَّعة للتغيير بخبرتك، لكنْ ضَعْ في اعتبارك ألَّا تكون النتائج التي تفكِّر فيها غامضة، واسألْ أشخاصًا آخَرين هل لديهم الانطباع نفسه. خبرتك المتراكمة قد تكون قيِّمة بالنسبة إليك، لكنها خاضعةٌ لسوء التفسير وتحيُّزات الذاكرة.
قيِّمْ هل التغيير يمكن اعتباره تقدُّمًا بالغًا أم لا. إذا بَدَا ثوريًّا، فهو خاطئ على الأرجح. الطفراتُ غير المتوقَّعة التي لا يسبقها شيءٌ يمهِّد لها نادرةٌ في العلم على نحوٍ متزايد.
تخيَّلِ النتيجةَ المناقضة للتغيُّر الذي تتوقَّعه. أحيانًا عندما تتخيَّل طرقَ حدوث النتيجة المتوقَّعة يكون من الأسهل رؤية أن توقُّعَك كان قصيرَ النظر. هذه طريقةٌ لمقاوَمة التحيُّز التأكيدي.
تأكَّدْ من أن «الدليل» ليس مجرد وصفٍ معقدٍ. من الممكن أن تنبهر بمصطلحٍ يبدو تقنيًّا، لكنه ربما لا يعني شيئًا أكثر من المصطلح العادي غير الرسمي.
تأكَّدْ من أن الدليل الأصلي يرتبط بالتغيير لا بشيءٍ له علاقة بالتغيير. الدليل الجيد على ظاهرة «مرتبطة» بالتغيير سوف يُستشهَد به في بعض الأحيان كما لو كان يُثبِت التغيير.
تجاهَلِ الشهادات. يعتقد الشخص أن التغيير نجح، لكنْ يمكن بسهولةٍ أن يكون مخطئًا. يمكن العثور على شخصٍ يشهد على أيِّ شيءٍ تقريبًا.
اطلبْ من المُقْنِع أبحاثًا وثيقةَ الصلة بالتغيير. هذه هي نقطة البداية للحصول على مقالات بحثية، ومن المفيد معرفة هل المُقْنِع على دراية بالأبحاث أم لا.
ابحثْ عن الأبحاث على الإنترنت. لن يمنحك المُقْنِع كلَّ شيء.
قيِّمِ الأمرَ الذي خضع للقياس، والأمرَ الذي خضع للمقارَنة، وعددَ الأطفال الذين خضعوا للاختبار، ومدى المساعدة التي قدَّمَها التغيير. أول عنصرين يبيِّنان إلى أيِّ مدًى البحثُ مرتبطٌ حقًّا بأهدافك. وثاني عنصرين يبيِّنان إلى أيِّ مدًى النتائجُ مهمةٌ.

هوامش

هذا الجزء من المسرحية مكتوبٌ في واقع الأمر بمحاكاة ساخرة للغة اللاتينية، لزيادة السخرية من مجتمع الأطباء المتعلم في القرن السابع عشر؛ لذلك فأية ترجمة لا يمكن أن تكون إلا تقريبية.
إذا كان العلاج الوهمي فعَّالًا، فلماذا لا نعطي الجميعَ علاجاتٍ وهميةً ببساطة؟ إن العلاجات الوهمية لا تنفع مع الجميع. في الحقيقة، إنها تنفع مع قلةٍ من الناس. وبطبيعة الحال أنت لا تحتاج إلا عددًا قليلًا من الشهادات لتجعل التغييرَ يبدو جيدًا!
خضوعُ المقالة لمراجعة الأقران من عدمه أمرٌ يختلف باختلاف الدورية؛ فإما أن يرسل محرِّر الدورية المقالات دائمًا لمراجعة الأقران، أو لا يرسلها مطلقًا. الأمرُ لا يُحدَّد على أساسِ كلِّ حالةٍ على حدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤