الفصل الرابع

رفيقٌ في الرحلة

يمكن العثور على عددٍ هائلٍ من الأمثلة التي من شأنها أن تقلب حَدْسنا رأسًا على عقب، وتتحدَّى المفهوم النمطي للإرادة الحرة، في دراسة الطفيليات وكيفية تأثيرها على سلوكيات عوائلها. «التوكسوبلازما جوندي» هو طفيل مِجهري يُمكنه أن يُصيب جميع الحيوانات ذات الدم الحار، لكنه لا يستطيع التكاثر الجنسي إلا في أمعاء القطط. ورغم أنه يمكن أن يعيش في أي حيوان ثديي، إلا أنه يجب أن يعود في النهاية إلى قطةٍ لإكمال دورة حياته. عادة ما يصيب طفيل التوكسوبلازما الفئران؛ لأنها توجد في كثير من الأماكن التي توجد فيها القطط، وقد طوَّر هذا الطفيل آليةً بارعة ومخيفة للغاية للتغلب على التحدي المتمثِّل في الانتقال من الفئران — التي تشعر بخوفٍ غريزي عميق من القطط — ليعود إلى المكان الذي يستطيع أن يتكاثر فيه؛ أي القطط. فمن خلال آلية عصبية لا يزال العلماء لا يفهمونها تمامًا بعدُ، يؤثِّر طفيل التوكسوبلازما على سلوك الفئران المصابة، فتتسبَّب في تخلي الفئران عن خوفها من القطط، لدرجة أنه في كثير من الحالات تسير الفئران (أو حتى تركض) باتجاه عدوِّها مباشرةً. يخلق التوكسوبلازما مئاتٍ من الأكياس في دماغ مضيفه، مما يؤدي إلى ارتفاع مستويات الدوبامين. والدوبامين هو ناقل عصبي يلعب دورًا في استثارة مشاعرَ قويةٍ مثل الرغبة والخوف، وهو ما يساعد في تفسير الكثير من السلوكيات التي نراها في الثدييات المصابة بهذا الطفيل. من المحتمل أن هذه الفئران تشعر بطريقةٍ أو بأخرى أنه يتم التلاعبُ بها رغم إرادتها بواسطة قوة خارجية، ولكن يبدو من المرجَّح أكثر أن الكيمياء العصبية لديها تتغير، ومن ثم تتغير رغباتها ومخاوفها: إنها لم تَعُد تشعر بالخوف من القطط، بل على العكس، تشعر الآن أنها منجذبة إليها.1
يمكن أن يُصاب البشر بهذا الطفيلي بالطريقة نفسِها التي تُصاب بها الثدييات الأخرى — عن طريق استهلاك اللحوم غير المطهية جيدًا للحيوانات المصابة، أو عن طريق الاتصال المباشر مع البيئات الملوَّثة بفضلات القطط، مثل مياه الشرب أو تربة الحديقة أو صناديق القمامة — وقد تبيَّن أن طفيل التوكسوبلازما له أيضًا تأثير على أدمغة البشر. وقد أشارت الصحفية العِلمية كاثلين ماكوليف إلى الملاحظات التي أبداها علماءُ الطفيليات قائلةً إن «الخلايا العصبية التي تُؤوي الطفيلي تصنع الدوبامين بكمياتٍ تفوق تلك التي تصنعها الخلايا الطبيعية بثلاثة أضعاف ونصف. ويمكن في الواقع رؤية المادة الكيميائية وهي تتجمَّع داخل خلايا الدماغ المصابة». ويمكن أن تُسبِّب التوكسوبلازما مجموعةً متنوعة من التغيرات السلوكية في البشر، ويُعتقَد أنها تسبِّب حدوث انفصام الشخصية وغيره من الأمراض العقلية لدى كثير من الناس. ووفقًا لما ذكرته ماكوليف فإن «الأشخاص المصابين بالفصام تزداد احتمالات أنْ تكون نتائج اختبارات وجود أجسام مضادة للطفيلي لديهم إيجابيةً بمرتين إلى ثلاث مرات مقارنةً بأولئك الذين لا يُعانون هذا الاضطراب.»2
في مقالها الرائع الماتع في «نيويورك تايمز» الذي جاء بعنوان «كيف تتلاعب الطفيليات للحصول على المساعدة من عائلها للبقاء على قيد الحياة»، تقول ناتالي أنجيير:

عندما أجَرى ياروسلاف فليجر من جامعة تشارلز في براغ اختباراتٍ شخصية على مجموعتين من الناس، إحداهما تظهر عليها علاماتٌ مناعية لعدوى سابقة بالتوكسوبلازما، والأخرى لا تظهر عليها هذه العلامات؛ سجَّل الرجال المصابون درجاتٍ أعلى نسبيًّا من الرجال غير المصابين في سِماتٍ مثل الشك في السلطة والميل لكسر القواعد، في حين أن النساء المصابات سجَّلنَ ترتيبًا أعلى نسبيًّا من النساء غير المصابات على مقاييس الحنان، والثقة بالنفس، والثرثرة.

وثمَّة أمثلةٌ لا حصر لها على طفيلياتٍ أخرى تؤثِّر على سلوكيات عائلها. فتتسبَّب الديدان الشعرية مثلًا في جعل الصراصير المصابة — التي تحافظ عادةً على مسافة آمنة من المسطحات المائية الكبيرة — تَعْدو نحو أقرب بحيرة أو مجرًى مائي. فعن طريق إطلاق مواد كيميائية عصبية تُحاكي تلك الموجودةَ في الصراصير، تحثُّ الدودة الصراصيرَ على الغرق في الوقت المناسب لمشاركة الدودة في موسم التزاوج، الذي لا بد أن يحدث في الماء.3 وبالمثل، على الرغم من أن حشرة قمل الخشب عادةً ما تختبئُ خلال ساعات النهار لتجنُّب أن تأكلها الطيور، فإن الحشرات المصابة بالديدان شائكة الرءوس ترغب بشدة في الخروج لقضاء ظهيرة لطيفة للاستجمام في الشمس — على سطحٍ فاتح اللون، بدون مبالغة، حيث تُسهِّل البيئةُ العاليةُ التباين على الطيور التي تُحلِّق فوقها اكتشافَها بسهولة. وهكذا تقوم الديدان بالعودة إلى الجهاز الهضمي للطائر لوضع بيضها.4 وتملك يرقاتُ فراشة ألكون الزرقاء كيمياء سطحيةً تُحاكي المواد الكيميائية الموجودة على سطح نوعَين على الأقل من يرقات النمل، ممَّا يتسبَّب في حمل النمل ليرقات الفراشة ذات الرائحة المألوفة إلى عُشِّها لإطعامها ورعايتها، غالبًا على حساب ذرية النمل ذاتها.5 وتتسبَّب الدبابير الطفيلية في جعْل العناكب الغازلة المَداريَّة تقوم ببناء شبكاتٍ تختلف اختلافًا جذريًّا عن تصميماتها المعتادة. فبعد حقن يرقات الزنبور مادةً كيميائية في العنكبوت، يبدأ العنكبوت في غزلِ شبكةٍ أكثرَ ملاءمة لاحتياجات اليرقة من احتياجاته هو، والحفاظ على اليرقة في مأمنٍ من الحيوانات المفترسة القريبة وتوفير شبكة مثالية لبناء شرنقتها.6 والقائمة تطول وتطول.

وعند استعراضِ أمثلةٍ كهذه، يذهلنا على الفور كثرةُ غفلتنا عن رؤية مجموعة القُوى المعقَّدة التي تؤثِّر في السلوكيات التي تحدث في كل مكان حولنا. ولا يسَعُ المرءَ إلا أن يتساءل عما يدفع حقًّا كلَّ رغباتنا وسِماتنا الشخصية؛ لا سيما تلك التي نميل إلى التوحُّد معها بقوة.

ثمَّة أيضًا حالاتٌ من العدوى البكتيرية التي تُسبِّب تغيراتٍ سلوكيةً في البشر، والعلماء مستمرون في اكتشاف الروابط بين الأمراض المعدية والاضطرابات النفسية البشرية.7 فقد طوَّرت البكتيريا العقدية، على سبيل المثال، آليةً دفاعية تُمكِّنها من الاختفاء بنجاح من الجهاز المناعي للأطفال لبعض الوقت. فالجزيئات الموجودة على جدران خلاياها تجعلها لا يمكن تمييزها عن الأنسجة الموجودة في قلب الطفل، ومفاصله، وجِلده، ودماغه. وفي نهاية المطاف، يتعرَّف جهاز المناعة لدى الطفل على وجود بكتيريا غريبةٍ في الجسم، ولكن عندما يشنُّ هجومه، قد يستهدف عن طريق الخطأ الأنسجةَ السليمة في الجسم أيضًا. ووفقًا للدراسات التي أجراها المعهد الوطني للصحة العقلية، ففي هذه الحالات فإن «بعض الأجسام المضادة التفاعلية المتصالبة والمضادة للدماغ [قد] تستهدف الدماغ، مسببةً الوسواس القهري، والتشنجات اللاإرادية، وأعراضًا عصبية ونفسية أخرى تُعرف اختصارًا ﺑ PANDAS [اضطرابات المناعة الذاتية النفسية العصبية عند الأطفال المصاحبة لالتهابات العقديات]».8 هنا، سلوك العائل لا يدعم أهداف الطفيلي؛ وبدلًا من ذلك، ينتج عن العدوى البكتيرية ظاهرةٌ ذات تأثيرات «غير مقصودة». لكن كلا النوعين من الأمثلة يكشف عن الواقع ذاته حول تجربتنا الواعية، وتبدأ فكرة أن «أنا» هي المصدر النهائي لرغباتي وأفعالي في الانهيار.

ومع وجود العديد من القُوى التي تعمل من وراء الكواليس — بدءًا من العمليات العصبية الأساسية التي ذكرناها سابقًا وحتى العدوى البكتيرية والطفيليات — يصعب أن نرى كيف يمكن أن تكون سلوكياتنا، وتفضيلاتنا، وحتى خياراتنا، واقعة تحت سيطرة إرادتنا الواعية بأي معنًى واقعي. ويبدو من الأكثرِ دقةً بكثير أن نقول إن الوعي مجردُ رفيقٍ في الرحلة؛ يشاهد العرض، ولكن لا يصنعه أو يتحكَّم فيه. من الناحية النظرية، يمكننا أن نذهب إلى حد القول بأن قلةً قليلة (إن وُجدت) من سلوكياتنا تحتاج إلى الوعي من أجل تنفيذها. ولكن على مستوًى حَدْسيٍّ، فإننا نفترض أنه نظرًا إلى أن البشر يتصرَّفون بطرقٍ معينة ويكونون واعين — ولأن تجارب مثل الخوف، والحب، والألم، تبدو كأنها محفِّزاتٌ قوية داخل الوعي — فإن سلوكياتنا يحفِّزها «وعيُنا بها» وما كانت ستحدث بخلاف ذلك. غير أنه صار من الواضح الآن أن العديد من السلوكيات التي نعزوها عادةً إلى الوعي، ونُفكِّر بها كدليل على الوعي، يمكن أن توجد بالفعل دون وعي، على الأقل من الناحية النظرية. ويعيدنا هذا إلى السؤالَين اللَّذين طرحناهما. ومرةً أخرى، من الصعب أن نرى كيف تلعب التجربة الواعيةُ دورًا في السلوك. هذا لا يعني عدم وجود دور لها، لكن يكاد يكون من المستحيل الإشارةُ إلى طرق محدَّدة تلعب بها هذا الدور.

ومع ذلك، أثناء تأملاتي الشخصية، تعثَّرت فيما قد يكون استثناءً مثيرًا للاهتمام: يبدو أن الوعي يلعب دورًا في السلوك «عندما نفكِّر في سر الوعي ونتحدَّث عنه». فعندما أتأمَّل في «معنى» أن أكون شيئًا، فمن المفترض أنَّ تجربة الوعي هذه تؤثِّر على المعالجة التي تحدث في دماغي لاحقًا. وكل شيء تقريبًا أفكِّر فيه أو أقوله عندما أتفكَّر في الوعي لن يكون له أيُّ معنًى إذا صدر عن نظامٍ بدون وعي. كيف يمكن لروبوتٍ فاقدِ الوعي (أو زومبي فلسفيًّا) أن يتفكَّر في تجربةٍ واعية بنفسه دون أن تكون له تجربة واعية أصلًا؟ تخيَّل للحظة أن ديفيد تشالمرز نفسَه زومبي، يفتقر تمامًا للتجربة الداخلية، ثم فكِّر في الأشياء التي يقولها في كتابه «العقل الواعي» عند شرح مفهوم الزومبي:
ونظرًا إلى أن توءمي الزومبي يفتقر إلى التجارب الواعية، فهو في وضعٍ معرفي مختلف تمامًا عني، وأحكامه تفتقر إلى المُبررات اللازمة لها … إنني أعلم أنني واعٍ، وهذه المعرفة تعتمد فقط على تجربتي المباشرة … ومن وجهة نظر المتكلم، أنا وتوءمي الزومبي مختلفان تمامًا: فأنا لديَّ تجارب واعية، وهو ليس لديه.9

لست أدري كيف يمكن لأي نظام غيرِ واعٍ أن يكون لديه أيُّ سبب لإنتاج هذه الأفكار من الأساس، فضلًا عن الكيفية التي يستطيع بها نظامٌ ذكي أن يفهمها. فدون أن يختبر توءم تشالمرز الزومبي تجربة الوعي، لا يكون ثمَّة ذلك الفارق الذي يُشير إليه. إن تفسير تشالمرز لكيفية استمرار تصور الزومبي من الناحية النظرية هو أنه من الممكن دمجُ لغة الوعي ومفاهيمه في برنامج الزومبي. فيمكن بالتأكيد برمجةُ الروبوت لوصفِ عملياتٍ محدَّدة مثل «رؤية اللون الأصفر» عند اكتشاف بعض الأطوال الموجية للضوء، أو حتى التحدُّث عن «الشعور بالغضب» في ظل ظروفٍ محدَّدة، دون أن يرى أي شيء أو يشعر بأي شيء فعليًّا. ولكن يبدو أنه من المستحيل على أي نظام أن يميِّز بين التجربة الواعية واللاواعية بشكل عام دون أن يكون لديه تجربة واعية فعلية كنقطة مرجعية. عندما أتحدَّث عن لغز الوعي — مشيرًا إلى شيءٍ يمكنني تمييزه والتعجُّب بشأنه ونسبه (أو عدم نسبه) إلى كِياناتٍ أخرى — يبدو من المستبعد كثيرًا أن أتمكَّن من فِعل ذلك — فضلًا عن تكريس الكثير من الوقت لذلك — دون شعور بالتجربة التي أتكلَّم عنها (لأن التجربة النوعية هي الموضوع برُمَّته، ودونها لا يمكنني معرفةُ أيِّ شيء عنها على الإطلاق). وعندما أقلِّب هذه الأفكارَ في ذهني، فإن حقيقة أن أفكاري تدور «حول تجربة الوعي» تُشير إلى أن ثمَّة حَلْقة تغذية مرتدَّة من نوعٍ ما، وأن الوعي يؤثِّر على معالجة دماغي. ففي نهاية المطاف، لا يمكن لدماغي التفكير في الوعي إلا بعد عيش تجربة الوعي (كما يمكن أن يفترض المرء).

لكن بخلاف هذا المثال الواحد الذي غالبًا ما أقنع نفسي به، فإن معظم حَدْسياتنا حولَ ما يمكن اعتباره دليلًا على وجود وعي يؤثِّر في نظامٍ ما تتداعى عند تمحيصها. لذا، يجب علينا إعادةُ تقييم الافتراضات التي نفترضها حول الدور الذي يلعبه الوعي في توجيه السلوك؛ لأن هذه الافتراضات تؤدي بطبيعة الحال إلى الاستنتاجات التي نستخلصها بشأن ماهيَّة الوعي، وما الذي جعله ينشأ في الطبيعة. إن كل ما نأمُل في اكتشافه من خلال دراسات الوعي — بداية من تحديدِ ما إذا كان شخصٌ ما في حالة واعية أم لا، إلى تحديدِ أين نشأ الوعي أولًا أثناء تطوُّر الحياة، إلى فهْم العملية المادية المحدَّدة التي تُنتِج التجربة الواعية — موجَّه بواسطة حَدْسنا حول وظيفة الوعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤