الفصل السابع

ما وراء شمولية الوعي

تخيَّل أن تكون دماغًا من دون أيِّ أعضاءٍ حسية متصلة به، أو أن تكون دماغًا يطفو في الفضاء الخاوي أو في مسطحٍ مائي ضخم. ثم تخيَّل حواسَّك تُوصَّل بجسدك، واحدةً تلو الأخرى. لنبدأ بالبصر أولًا. المحتوى الوحيد المتاح لك هو خبرة بصرية طفيفة. ربما يمكنك رؤيةُ ضوء؛ ضوء نابض متفاوت السطوع يظهر ويختفي. حاول أن تتفهَّم هذا دون تضمين مفاهيم الذاكرة أو اللغة، بحيث لا يوجد أيُّ شعور بتفكيرٍ ذاتي. «يا إلهي، لقد كان الظلام حالكًا، ولكن ها قد عاد الضوء الآن مرةً أخرى!» بدلًا من ذلك، حاوِل أن تتخيَّل تدفُّقًا بسيطًا جدًّا من «الخبرات الأولى»: تعاقُب الضوء والظلام، ثم ضوء أكثر سطوعًا، ثم ضوء أكثر خفوتًا، ثم ضوء نابض. بعد ذلك، تخيَّل الضوءَ الذي يأخذ أشكالًا: ضوءًا دائريًّا، شعاعًا من الضوء، ضوءًا يمتد إلى مسافةٍ كبيرة. ربما يمكنك إضافةُ ألوان: ضوء محمرٌّ يتحوَّل إلى برتقاليٍّ، ثم أصفر، ثم أزرق. تخيَّل الشعور بانعدام الشكل وانعدام الوزن. أنت تطفو بحريةٍ في الفضاء، بلا أفكار أو مفاهيم؛ لا توجد كلمة «برتقالي» أو «أحمر»، هناك فقط الخبرة الخالصة لتلك الألوان. تصوَّر أبسطَ خبرةٍ يمكن تخيُّلها. بعد ذلك، أدخلِ الأصوات، ثم الأذواق، ثم الروائح؛ كلٌّ منها يصل تِلو الآخر في شكلٍ نقيٍّ قدْر الإمكان. أنت ببساطة تَختبر ما يصل إلى إدراكك، دون كلمات أو مفاهيم لوصف طبيعة الخبرة. وأخيرًا، تخيَّل شعورَ اللمس قد نشط في شكل ضغط أو حرارة — مغطِّيًا مناطقَ واسعةً وفي مواقعَ صغيرةٍ ومحدَّدة — ليس في «جسدك» بالطبع — فليس لديك جسد — ولكن في مواقع في الفضاء …

من الصعب الاحتفاظُ بهذا النوع من الصور الذهنية مدةً طويلة، ولكن يمكننا الحصولُ على ما يكفي من الإحساسِ بمثلِ هذه الحالةِ لتخيُّل أن شيئًا كهذا، «ممكن» على الأقل.

يُدرك معظم الأشخاص الذين تلقَّوا تدريبًا كافيًا على التأمُّل أن تجربة الوعي لا تتطلب بالضرورة أن تكون مصحوبةً بأفكارٍ، أو حتى أي مدخلات حسية. يبدو من الممكن أن يكون المرء على دراية تامةٍ بتجربته الذاتية في غياب الأفكار، أو المشاهد، أو الأصوات، أو أيِّ مُدرَكات أخرى. وكما رأينا، فإن الشعور الذي لدينا بأننا نفسٌ ملموسة، وما يصاحب هذ الشعور من حَدْسيات، يخلق عقباتٍ هائلةً أمام التفكير الخلَّاق في الوعي. تُسهم هذه الحَدْسيات أيضًا في ميلنا إلى الرفض الغريزي لشمولية الوعي كإحدى الفئات المحتملة من النظريات، حتى عندما تكون هناك دلالات كثيرة على منطقيتها. ولكن عندما نفحص التفاصيلَ الفعلية عن كثَب، تبدو الفكرة أقلَّ استبعادًا. توضِّح ريبيكا جولدشتاين أننا في الواقع نعرف أن الوعي جزءٌ لا يتجزأ من المادة؛ لأننا أنفسَنا مصنوعون من المادة، وهي الخاصية الوحيدة التي لدينا مدخلٌ مباشر إليها:
الوعي هو خاصيةٌ جوهرية للمادة؛ بل إنها في الواقع الخاصية الجوهرية الوحيدة التي نعرفها للمادة؛ لأننا نعرفها مباشرةً، من خلال كوننا أشياءَ ماديةً واعية. كل الخصائص الأخرى للمادة قد اكتُشِفتْ عن طريق الفيزياء الرياضية، وهذه الطريقة الرياضية للحصول على خواصِّ المادة تعني أن الخواص العلائقية للمادة هي الخصائص الوحيدة المعروفة، وليست الخواصَّ الجوهرية.1
يشير جالين ستروسون إلى نقطةٍ مماثلةٍ من خلال تناوُل لغز الوعي من منظورٍ آخرَ مختلف تمامًا. فيذهب إلى أن الوعي هو في الواقع الشيء الوحيد في الكون الذي «لا يشكِّل لغزًا»؛ بمعنى أنه الشيء الوحيد الذي نفهمه حقًّا بصورةٍ مباشرة. ويرى ستروسون أن «المادة» هي ما يشكِّل لغزًا غامضًا تمامًا؛ نظرًا لعدم فهْمنا لطبيعتها الجوهرية. وقد أُطلق على هذا الأمر اسم «المعضلة العويصة للمادة»:
تُخبرنا [الفيزياء] بالعديد من الحقائق حول تركيب الواقع المادي القابل للوصف الرياضي، وهي الحقائق التي تعبِّر عنها الفيزياء بالأرقام والمعادلات … لكنها لا تخبرنا بأيِّ شيء على الإطلاق عن الطبيعة الجوهرية للأشياء التي تُشكِّل هذا التركيب. فالفيزياء صامتة — صامتة تمامًا وإلى الأبد — بخصوص هذه المسألة … ما الأشياء الأساسية التي تشكِّل الواقع المادي، تلك الأشياء التي تنتظم بالطريقة التي تكشفها الفيزياء؟ الإجابة، مرةً أخرى، هي أننا لا نعرف، إلا بقدرِ ما تأخذ هذه الأشياء شكلَ تجربةٍ واعية.2
ومرةً أخرى، من المهم التمييز بين الوعي والفكر المعقَّد عند دراسة وجهات النظر الحديثة بشأن شمولية الوعي. فافتراضُ أن الوعيَ أمرٌ أساسي لا يعني افتراضًا بأن الأفكارَ أو الخواطر المعقَّدة أمورٌ أساسية وتؤدي بطريقة سحرية إلى تجسُّدٍ مادي لتلك الأفكار (وهو سوء فهْم شائع لشمولية الوعي). فالادعاء السائد عكس ذلك تمامًا، وهو أنه إذا كان الوعي موجودًا كخاصية أساسية، فإن الأنظمةَ المعقَّدة، التي تُبنى من الوعي المتدفِّق بالفعل، يمكن أن تؤدِّيَ في النهاية إلى نشأةِ بِنًى ماديةٍ مثل العقول البشرية. يتناول ديفيد سكربينا مشكلةَ الإسقاطات الأنثروبية أو الإنسانية، حيث «نضع متطلبات وأعباء الوعي الإنساني على كاهلِ جسيماتٍ غير حية»، ويوضِّح ضرورة التمييز بين الوعي و«الذاكرة»:
من المؤكَّد أن أيَّ شيء يشبه العقل البشري يتطلب ذاكرةً تشبه ذاكرةَ الإنسان، ولكن هذا مهمٌّ فقط للكائنات الحية المعقَّدة. فليس من المعقول أن نطالب بأن يكون للجسيمات الذرية أيُّ شيء يُشبه قدرةَ الذاكرة لدى الإنسان، أو حتى أي مثيل فيزيائي لشيءٍ يُشبه الذاكرة. قد تكون عقول الذرات، على سبيل المثال، دفقًا من ومضاتِ خبرةٍ لحظيةٍ دون ذاكرة.3
ورغم ذلك يتساءل العديد من الناس: إذا كانت المكوِّنات الأساسية للمادة تتمتَّع بمستوًى من الخبرة الواعية، فكيف يمكن لنقاط الوعي الأصغر هذه عندما تُشكِّل جسمًا أو نظامًا ماديًّا أكثرَ تعقيدًا أن تندمج لتكوينِ مجالٍ جديدٍ أكثرَ تعقيدًا للوعي؟ على سبيل المثال، إذا كانت جميع الذرات والخلايا الفردية في دماغي واعية، فكيف تندمج تلك المجالات المنفصلة للوعي لتُشكِّل الوعي الذي «أختبره»؟ وأكثر من ذلك، هل تتوقَّف كلُّ نقاط الوعي الفردية الأصغر عن الوجود بعد أن تنشئ نقطةَ وعيٍّ جديدة تمامًا؟ يُشار إلى ذلك باسم «معضلة الدَّمج»، التي تصفها «موسوعة ستانفورد للفلسفة» بأنها «أصعبُ مشكلةٍ تواجه نظرية شمولية الوعي»، مشيرة إلى أن:
المشكلة هي أنه من الصعب للغاية فَهمُ فكرةِ أن موضوعاتٍ واعية «صغيرة» ذات خبرة تتجمَّع معًا بما لديها من خبرات محدودة لتشكِّل موضوعًا واعيًا «كبيرًا» له خبراته الخاصة … وفكرة تكوين العديد من العقول عقلًا آخرَ أمرٌ أصعبُ بكثير من أن يستوعبها عقلك (إذا جاز التعبير).4
تُمثِّل مشكلة الدمج — بالنسبة إلى العديد من العلماء والفلاسفة — أكبرَ عقبةٍ أمام قَبولِ أيِّ وصفٍ للواقع يتضمَّن الوعي بوصفه سمة واسعة الانتشار. غير أن العقَبة التي نُواجهها هنا مرةً أخرى يبدو أنها حالةٌ من الخلط بين «الوعي» وبين مفهوم «الذات»؛ إذ يميل الفلاسفة والعلماء إلى التحدُّث في إطار «موضوع» الوعي. يُستخدم مصطلح «الذات» عادةً لوصفِ مجموعةٍ أكثرَ تعقيدًا من السمات النفسية — بما في ذلك صفاتٌ مثل الثقة بالنفس أو القدرة على التعاطف — أما مصطلح «موضوع» فلا يزال يصفُ خبرة الذات في أبسطِ صورها. في ورقةٍ بحثيةٍ تناقش المشكلةَ التي يشكِّلها الدَّمج، كتب ديفيد تشالمرز يقول: «كيف يمكن لأي علاقةٍ استثنائية تجمع بين موضوعات مختلفة … أن تكون كافيةً لتكوين موضوعٍ جديد كليًّا؟»5 ولكن ربما يكون من الخطأ الحديثُ عن موضوعٍ للوعي، والأدق بدلًا من ذلك هو الحديث عن «المحتوى المتاح» للتجربةِ الواعية في أيِّ مكانٍ معيَّن في الزمان والمكان، يتحدَّد وفقًا للمادة الموجودة هناك؛ أي وعي بالبيئة المحيطة لا يسري على الكائنات الحية فحسب، بل على جميع صور المادة، بكل شكلٍ لها وفي كل نقطة في الزمان والمكان.

إذا نظرنا إلى مشكلةِ الدَّمج من هذا المنظور، يبدو لنا أنها لم تَعُد تُشكِّل عقبةً أمام جميعِ صيغ شمولية الوعي. بل قد تكون سببًا إضافيًّا لتفضيلِ منظورٍ يكون فيه الوعي سِمةً أساسية للكون، بدلًا من أن يقتصر على مستوًى معيَّن من معالجة المعلومات. فاعتبار الوعي أساسيًّا يسمح للمادة بأن يكون لها طابع داخلي معيَّن في كل مكان، وفي شتى أشكالها. ومن هذا المنظور، فإن الوعي لا يتفاعل «مع ذاته»، كما كان سيحدث في فعل «الدَّمج». وهذا الاتجاه في التفكير يُفرز أسئلةً مثيرةً للاهتمام: هل يظهر محتوًى معيَّنٌ في منطقةٍ ما من الوعي اعتمادًا على المادة الموجودة في هذا الموقع في الزمان والمكان؟ هل ثمَّة خبراتٌ متداخلة، وكذلك خبرات متَّحدة، للمحتوى؟

في محادثةٍ أجريتُها مؤخرًا مع كريستوف كوخ، ناقشنا ما قد ينجم عن تجرِبةٍ افتراضيةٍ رُبط فيها دماغَان معًا بنجاحٍ كما يرتبط نِصفا الدماغ العاديَّان. وبما أنه يبدو وكأن العقل ومحتويات الوعي يمكن تقسيمهما لدى أحد مرضى الانقسام الدماغي، فهل سيؤدي توصيلُ دماغين معًا إلى إنتاجِ عقلٍ جديد متكامل؟ على سبيل المثال، إذا رُبط دماغانا، أنا وكريستوف، معًا، فهل سيخلق هذا وعي كريستوف-آناكا جديدًا؛ هل سيخلق وجهة نظر واحدة جديدة؟ هل سيَنتج عقلٌ جديدٌ يمكنه الوصول إلى جميع المحتويات التي سبق أن اختبرَها دماغانا على نحوٍ منفصِل — كل أفكارنا، وذكرياتنا، ومخاوفنا، وقدراتنا، وما إلى ذلك — مشكِّلًا «شخصًا» جديدًا؟6 حتى إذا كان الجواب هو نعم، وهو كذلك على الأرجح، فلا أعتقد أننا نُواجه مشكلةَ دمجٍ في هذه التجربة الفكرية. نحن لا نقع في مشكلاتٍ إلا إذا رأينا تجاربي وتجاربَ كريستوف الواعية كذواتٍ أو موضوعات؛ أي بنًى دائمة للوعي بحدودٍ ثابتة. في مثال توصيل الدماغين، قد يكون لدينا ببساطة مثالٌ لوعي يُغيِّر محتواه أو طبيعته بالطريقةِ نفسِها التي يتغيَّر بها محتوى وعيِك عندما تغلق عينَيك وتفتحهما؛ فتجد الأشجار والسماء متاحةً لمجال رؤيتك ثم تُصبح غير متاحة. وعندما تحلُم، فإنك تَختبر بيئاتٍ مختلفةً تمامًا عن محيطك الفعلي، وربما حتى تشعر بأنك شخصٌ مختلفٌ تمامًا. وفي النوم العميق، تفقد الوعيَ تمامًا، ثم تستعيده مرةً أخرى. خلال فترتَي حملِي كلتيهما، وجدتُ نفسي أواجه تغيراتٍ شديدةً في محتويات وعيي؛ كان على قائمةِ الخبرات أحاسيسُ انتابت رحمي لم أعرِفْها من قبل، وهوسًا بالطماطم وصلصات الطماطم بكل أشكالها، ومشاعر ذعر وموجات انفعالية أخرى غير محدَّدة المعالم، وآلامًا جسدية وأرقًا … لم أشعر بأنني «نفسي»، وأتوقَّع أنني لن أشعر بأنني نفسي أيضًا أثناء اندماج عقلي مع عالِمِ أعصابٍ ذَكرٍ يبلغ من العمر ستِّين عامًا، لكن هذا لا يُشير بالضرورة إلى «مشكلة دمجٍ» بالنسبة إلى الوعي. حتى في حياتنا اليومية، يأتي المحتوى ويذهب، وحتى الوعي نفسه يمكن أن يبدوَ متأرجحًا بين توهُّج وخفوت.
نحن نُواجه مشكلةَ دمجٍ فقط عندما ندرِج مفهوم «الذات» أو «الموضوع» ضمن المعادلة. لكننا نعرف أن فكرة الذات، ككِيان ملموس، هي وهْمٌ. من المسلَّم به أنه وهمٌ من الصعب للغاية التخلي عنه، لكنني أعتقد أن الحل لمشكلةِ الدمج هو ألا يوجد بالفعل «دمج» يحدث على الإطلاق فيما يتعلَّق بالوعي. يمكن أن يستمرَّ الوعي كما هو، بينما يتغيَّر الطابَع والمحتوى، حسَب ترتيب المادة المعْنيَّة بالأخص. في بعض الأحيان قد يُشَارَك المحتوى عبْر مناطقَ كبيرةٍ ومتصلة على نحوٍ معقَّد، وفي أحيانٍ أخرى يقتصر على مناطقَ صغيرةٍ جدًّا، أو حتى متداخلة. فإذا اتَّصل دماغان بشريان معًا، قد يشعر كلا الشخصين كما لو أن محتوى وعيِهما قد اتسع فقط، مع شعورِ كلِّ شخصٍ بتحوُّلٍ مستمرٍّ من محتوى شخص واحد إلى محتوى كِلَيهما، حتى اكتمال الاتصال بدرجةٍ أو بأخرى. فقط عندما تدخل مفاهيم «هو» و«هي» و«أنت» و«أنا» ككِياناتٍ منفصلة، يُصبح اتساعُ نطاق المحتوى لأي منطقةٍ من مناطق الوعي (أو حتى عدة مناطق مندمجة) مشكلةَ دمجٍ. يُذكِّرني هذا بتلك الحيلة الكلاسيكية المتمثِّلة في تبديل الأدوار بين الشخصيات في قصةٍ أو فيلم، مما يمنح كلًّا منهم تجربةَ الشعور بأن يكون المرء شخصًا آخَر. عندما ننظر عن كثَب إلى ما يستلزمه هذا بالفعل، يصبح من المستحيلِ حتى طرحُ السؤال. أين هو «أنا» الذي سيتبدَّل إذا أصبحت شخصًا آخر؟ إن كونك شخصًا آخرَ لن يختلف عما ستشعر به حين تكون ذلك الشخص الآخر بالفعل. يبدو الأمر متناقضًا، لكننا في النهاية نقول ببساطة ما هو واضح: «ذاك ما ستبدو عليه حين تكون هناك في صورة ذاك التكوين من الذرات، وهذا ما ستبدو عليه حين تكون هنا في صورة هذا التكوين من الذرات.» هذا يشبه القول إن «تكوين الذرَّات التي تُشكِّل ورقةَ نبات ينتج عنه كل الخصائص المتوقَّعة لورقة النبات، وأن مجموعة من جزيئات الماء (H2O) تكتسب كلَّ الخصائص المتوقَّعة للماء. هذا ما «تفعله» الجزيئات في هذا التكوين، وهذا ما تفعله في ذاك التكوين. وبالمثل، هذا ما تشعر به الجزيئاتُ في هذا التكوين، وهذا هو ما تشعر به في ذاك التكوين». وها قد عُدنا مرةً أخرى إلى رؤيةٍ للمفاهيم الأساسية: الوعي والمحتوى.

إذا لم يكن الوعي بحاجةٍ إلى الاندماج بالطريقة التي افترَض الكثيرون أنها لازمةٌ كي يكون من الممكن وجودُ واقعٍ لشمولية الوعي، فإننا لا نواجه مشكلةَ دمجٍ على الإطلاق. كما رأينا، لا يجب أن تكون خبراتُ الوعي مستمرةً أو تظل بوصفها ذَواتٍ أو موضوعات فردية. كما أنها لا تحتاج بالضرورة إلى إخمادها عندما تتَّحد المكوِّنات الصُّغرى للمادة لخلقِ أنظمةٍ أكثرَ تعقيدًا، مثل الأدمغة. قد يكون وهمُ كونك ذاتًا، إلى جانب تجربة الاستمرارية مع مرور الوقت من خلال الذاكرة، في الواقع شكلًا نادرًا للغاية من الوعي. ومهما كانت الحقيقة الكبرى، فإن الخبرة الخاصة التي نملكها هي خبرةٌ تُمليها بِنْية أدمغتنا ووظائفها، وقد لا توفِّر لنا نقطةَ انطلاق مفيدةً لفهم الطبيعة الفعلية للوعي. هل يمكن أن تكون هناك تجربةٌ أخفُّ بكثير، إلى جانب التجربة الواعية ﻟ «الأنا»، لكلِّ عصبون فردي أو مجموعات مختلفة من العصبونات والخلايا في جسدي وخارجه؟ هل يمكن للكون حرفيًّا أن يزخر بوعي يتأرجح بين التوهُّج والخفوت، ويتداخل، ويندمج، وينفصل، ويتدفَّق، بطرقٍ لا يمكننا تخيلُها تمامًا اعتمادًا على قوانين الفيزياء بطريقةٍ لم نفهمها بعد؟

ربما سيظل مصطلح «شمولية الوعي»، بسبب تاريخه وارتباطاته، يضع عواقبَ أمام التقدُّم في هذا المجال، ونحن بحاجةٍ إلى تسميةٍ جديدة للعمل الذي يقوم من خلاله الفلاسفة والعلماء بالتنظير حول إمكانية أن يكون الوعيُ سِمةً أساسية من سمات المادة. كما أن لدينا فروعًا للفيزياء؛ الفيزياء النظرية والفيزياء التجريبية، قد نحتاج إلى إنشاء مصطلحٍ جديد لهذا الفرع من دراسات الوعي؛ لتمييزِه عن عمل علماء الأعصاب الذين يدرسون الارتباطات العصبية للوعي.7
إن النظريات التي تفترض حتميةَ شموليةِ الوعي ما فتئتْ تَكسِبُ احترامًا في السنوات الأخيرة، لكنها لا تزال عُرضة للاستبعاد من المشهد الأكاديمي. ففي مقالته «ملاعق واعية، حقًّا؟ معارضة لشمولية الوعي»،8 يُعبِّر أنيل سيث عن وجهةِ نظرٍ سائدةٍ بين علماء الأعصاب مفادُها أن عِلم الوعي قد «ابتعد» عن مُصارعة «المعضلة العويصة» التي طرحها تشالمرز، ومن ثَمَّ عن الحلول «المتطرفة» مثل شمولية الوعي. ويصرُّ على أنه «من خلالِ بناءِ جسورٍ متطوِّرةٍ على نحوٍ متزايدٍ بين الآلية والظواهر، قد يختفي الغموض الظاهري للمعضلة العويصة». غير أن خطَّي البحث — محاولة فهْم أيٍّ من عمليات الدماغ تؤدي إلى تكوين خبرتنا البشرية مقابل التقصِّي عن ماهية الوعي من الأساس — يُمكن أن يتوافقا، حتى لو لم يُكسِب أيٌّ منهما الآخرَ شيئًا بالضرورة. فكما هو الحال في الفيزياء، لا يحتاج علماء الأعصاب إلى إنفاقِ أيِّ وقتٍ في دراسة أفكار نظرية لا تشكِّل لهم أي أهمية. لكنهم ليسوا بحاجةٍ إلى أن يعيقوا دراسةَ هذه الأفكار أيضًا. فغالبًا ما يكون العمل النظري في العلوم نقطةَ انطلاقٍ ضروريةً كما أنه عنصرٌ حيويٌّ للتقدُّم العلمي مثل العمل التجريبي الذي يعقبه.
من المهم توضيحُ بضع نقاط فيما يتعلَّق بالتمييز الذي أُواصل رسمه بين فئتَين من الأسئلة — تلك المتعلِّقة بمدى عُمق الوعي في الكون وتلك المتعلِّقة بعمليات الدماغ التي تؤدي إلى تكوين خبرتنا البشرية — إلى جانب القيمة التي أضفيها على كل واحدة منهما. أولًا، على الرغم من دفاعي عن شمولية الوعي باعتبارها فئةً مشروعة من النظريات المتعلِّقة بالوعي بِناءً على ما نعرفه حاليًّا، فلستُ مقتنعةً بإمكانيةِ أننا قد نكتشف، من خلال طريقة علمية في المستقبل، أن الوعيَ في الواقع موجودٌ فقط في الأدمغة. من الصعب بالنسبة إليَّ أن أدرك كيف تمكنَّا من الوصول إلى هذا الفهْم بأي قدرٍ من اليقين، لكنني لا أستبعده. كما أنني لا أستبعد إمكانية أن يكون الوعي شيئًا لن نفهمه بصورةٍ كاملةٍ أبدًا. من المحتمل أن تكون ريبيكا جولدشتاين مُحقَّةً في إشارتها إلى أن لغز الوعي مستعصٍ على الأساليب العلمية:
من المحبِط نوعًا ما التفكيرُ في وجودِ حدٍّ مطلَقٍ لعِلمنا؛ أن نعرف أنَّ هناك أشياءَ لا يمكننا أن نعرفها أبدًا … لقد أسفرت الفيزياء الرياضية عن معرفةِ الكثير من خصائص المادة. غير أنَّ حقيقةَ أننا كأشياءَ ماديةٍ لنا خبراتٌ، يجب أن تُقنعنا أنها لا يمكن، للأسف، أن تُسفِر عن معرفةِ هذه الخصائصِ جميعًا. وما لم يَظهر جاليليو جديدٌ، ويُقدِّم لنا طريقةً للوصول إلى خصائصَ للمادة لا تحتاج إلى أن تكون قابلةً للتعبير عنها رياضيًّا، فلن نُحرِز أيَّ تقدُّم علمي بشأن المعضلة العويصة للوعي.9

علاوةً على ذلك، فإن تركيزي ينصبُّ على اللغز الذي تُثيره المعضلة العويصة للوعي؛ لأنني أعتقد أنها غيرُ مُقدَّرة حقَّ قدْرها وتحتاج إلى انتباهنا، لا سيما عندما نُواجه تلك المجموعة الكبيرة من العقول الاصطناعية التي ستكون بيننا قريبًا. إنَّ فهْمَ ما إذا كان الذكاء الاصطناعيُّ المتقدِّم واعيًا أم لا هو أمرٌ مهمٌّ كشأن أي سؤال أخلاقي آخر. إن لديك التزامًا أخلاقيًّا باستدعاء سيارةِ الإسعاف إذا وجدتَ جارك مصابًا بجروحٍ خطيرة، وسوف يتعيَّن عليك فجأةً التزاماتٌ مماثلةٌ تجاه كائناتٍ ذكيةٍ اصطنَاعيةٍ إذا كنت تعرف أنها كائنات واعية. ولكن في النقاشات حول أشكالِ الوعي الأقلِّ تعقيدًا التي تشير إليها بعضُ صيغِ نظريةِ شموليةِ الوعي — كتلك التي قد توجد في ترموستات أو إلكترون — لا تنطبِق مفاهيمُ مثل السعادة والمعاناة، وأيُّ أفكارٍ حَدْسيةٍ عن أن نِطاقَ أخلاقياتِنا يمتدُّ ليشملَ أنظمةً مختلفةً اختلافًا شاسعًا عن أنفسنا تبدو سابقةً لأوانها. إن الأسئلة التي تتعلَّق بالمعاناة البشرية في مجالِ علم الأعصاب («هل تم إيقاف خبرة المريض بنجاح وهو تحت تأثير التخدير؟» على سبيل المثال) هي أكثرُ الأسئلة إلحاحًا التي يجب على العلماء التصدي لها حاليًّا.

من المهم أيضًا أن نقول، مرةً أخرى، إن خطَّي البحث المختلفَين اللذَين أوضحتهما لا يستبعد أحدهما الآخر، لكن ربما سيبقيان دائمًا معزولَين أحدهما عن الآخر إلى درجةٍ كبيرة. على سبيل المثال، يمكن أن نكتشف أن الوعيَ موجودٌ في كل مكان، ولكننا نعرف في الوقتِ نفسِه أن «التجربة الخاصة» للفرد لا يعود لها وجود في ظلِّ ظروفٍ عصبيةٍ معيَّنةٍ عندما يكون ذلك الشخصُ غيرَ واعٍ، كأن يكون في غيبوبةٍ أو تحتَ التخدير. بالإضافة إلى ذلك، يبدو من المحتمل أن العقولَ المعقَّدة فقط هي القادرةُ على اختبارِ السعادة الشديدة والمعاناة الشديدة. في تلك الحالة، حتى لو كانت ثمَّة نسخةٌ من شمولية العقل صحيحة، لن تكون جميعُ جزر الوعي متساويةً أو لن يكون فهْمها على القدرِ نفسِه من الأهميَّة. تظلُّ الحقيقة أن العقولَ المتكاملة والمعقَّدة مثل عقولنا قادرةٌ على اختبار المعاناة الهائلة، ويجب أن نكون متحمِّسين لمساعدة جميع الكائنات على تجنُّبِ هذه المعاناة كلما كان ذلك ممكنًا. ولو اقتصرنا على البحثِ في مسارٍ واحدٍ فقط لحلِّ لغز الوعي (وهو ما لم يحدث لحسن الحظ!)، لمنحت الأولوية لأعمالٍ مثل أعمالِ أنيل سيث وجوليو تونوني. ومع ذلك، فمن الواضح أن الألغازَ الأعمقَ تستحقُّ دراسةً عِلميةً متواصلة وتحتاج حاليًّا إلى الدفاع؛ لحماية قيم الفضول والبحث في خِضم سعينا إلى المعرفة. وأنا أتفق مع الاستنتاج الذي توصَّل إليه موراي شاناهان، أستاذ علم الروبوتات المعرفية في كلية إمبريال كوليدج في لندن، حين قال:
إن وضع الوعي الإنساني ضِمن فضاءٍ أكبرَ من الاحتمالات، يدهشني كواحدٍ من أعمقِ المشروعات الفلسفية التي يمكننا القيامُ بها. وهو أيضًا من المشروعات الفلسفية المهمَلة. وفي ظل عدم وجودِ عمالقةٍ لنقفَ على أكتافهم، فإن أفضلَ ما يُمكننا فعْله هو أن نوقد بِضع شموع في هذا الظلام.10

يبدو واضحًا أن الصورةَ الكُليةَ التي لدينا حاليًّا، جنبًا إلى جنبٍ مع القائمة الطويلة من الأسئلة التي تفتقر إلى إجابات قطعية، تمنحنا سببًا وجيهًا لمواصلة التفكير في الوعي بطرقٍ أكثرَ إبداعًا، وعلى وجه الخصوص لمواصلةِ الاعتبار لفكرةِ أن الوعي متغلغلٌ لأغوارٍ أعمقَ مما جعلَنا حَدْسُنا نعتقد. غير أن البحث في طبيعة الوعي سوف يتقدَّم إلى الأمام فقط إذا اعتُبر لغزًا جديرًا بفضولنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤