الفصل الثاني

جذور السعادة

سنبدأ رحلتنا بالنظر إلى الماضي أولًا؛ حتى ندرك كيف وصلنا إلى موقفنا الحالي. وبذلك نستجيب للدعوة لوضع مجالات مثل علم النفس في سياق تاريخي، ليس بصفتها مجموعات من المعارف الأبدية أو العامة، وإنما بصفتها نشأت في وقت ومكان محدَّدَين، متأثرةً بعمليات ثقافية ممتدة.1 من ثَم ينظر هذا الفصل كيف كان فَهْم السعادة على مدار القرون في أنحاء العالَم؛ ليتيح لنا بذلك أن نرى كيف تأثَّرَت وجهات النظر الحالية بهذه التطورات السابقة.
بالطبع لم تُسمِّ أغلب الثقافات الظاهرة موضوع نقاشنا happiness (أي السعادة). فقد ظهر هذا المصطلح في اللغة الإنجليزية فقط في القرن السادس عشر، يسبقه happy (سعيد) في القرن الرابع عشر، وكلاهما يحمل المعنى الضمني للحظ الحسن. وهو معنًى ينعكس في جذرهما الاشتقاقي في اللغة النوردية القديمة hap، الذي يشكِّل كذلك أساس مصطلحات مثل happenstance (أي مصادفة). لكن لم تبدأ السعادة تتخذ طابعها الحالي — وفقًا للتعريف المستخدَم هنا — من الدلالة على حالة ذهنية حسنة مُستحَبة حتى تسعينيات القرن السادس عشر.

ولكن من الإنصاف أن نقول إن أغلب الثقافات — بل ربما كلها — قد اهتمَّت بالرفاه والسعادة، بتعريفهما الواسع هنا. فمنذ فجر الحضارة، والناس مشغولون بأسئلة الرفاه والسبيل الأفضل لأن يكون الإنسان على ما يُرام في كيانه وفعله وعيشه. وبصفة أدَق، استكشفت الثقافات كذلك فكرة السعادة (بتعريفها الواسع المطروح هنا).

من هذا المنطلَق، يستعرض هذا الفصل تشكيلةً من المنظورات الفلسفية والدينية والثقافية من تاريخ الإنسانية، مبيِّنًا كيف أنها استحدثت أفكارًا متعلقة بالسعادة. وشأن كل الفصول، لا يمكن أن يغطِّي الموضوع تغطيةً شاملة نظرًا لطبيعة الكتاب الموجَزة. لكنها ستكون كافية للإشارة لاتساع التفكير وعُمقه في أنحاء العالم بشأن هذه الموضوعات. لتنظيم العرض، سأطالع تاريخنا الطويل بترتيب زمني تقريبي، انطلاقًا من عصر ما قبل التاريخ وانتهاءً بعلوم الزمن الحاضر. وفي أثناء ذلك، سنرى كيف نشأت الأفكار المتعلقة بالسعادة وتطوَّرَت.

الأبورجيون (الشعوب الأسترالية الأصلية)

تمتدُّ أصول الجنس البشري لأزمان بعيدة من غياهب ما قبل التاريخ المدوَّن. إننا نعثر في أماكن مثل وادي أولدفاي في تنزانيا، على أدلة من الأدوات الحجرية التي صنعَها الأوائل من نوع البشرانيات (الهومينيد) الذي نشأ منذ مليونَي و٦٠٠ ألف سنة. أمَّا نوعنا، نوع الإنسان العاقل (الهومو سيبيانز)، فيُعتقَد عمومًا أنه نشأ منذ ٢٠٠ ألف سنة تقريبًا، وإن كان ثَمَّة اكتشافات حديثة في المغرب قد ترجعه إلى ٣٠٠ ألف سنة.2 ومنذ ذلك التاريخ، ظهرت على مدار تطوُّرنا الطويل لمحاتٌ غير مُكتمِلة لنشأة الثقافة تدريجيًّا. فعلى سبيل المثال، ثَمَّة أدلة عُثر عليها لأدوات حديثة يستخدمها الصيادون جامعو الثمار من شعب البوشمن في جنوب أفريقيا، تعود لسنة ٤٤ ألفًا قبل الميلاد.

ظلَّ الناس على مَر التاريخ يتأملون الرفاه: السبيل الأفضل لأن يكون الإنسان على ما يُرام في كيانه وفعله وعيشه. علاوةً على ذلك، نزعت الحضارات أيضًا إلى استكشاف السعادة من حيث إشارتها إلى تجربة ذهنية حسنة مُستحَبة.

من بين أقدَم الثقافات المعلومة — أي التي لها آثار محفوظة — ثقافة سكان أستراليا الأصليين، التي هاجر إليها البشر أول مرَّة قبل نحو ٥٠ ألف سنة. منذ ذلك الوقت، بدأت ثقافة غنية ومُعقَّدة في الظهور والازدهار، كما يتضح في أشكال الفنون الحجرية التي تعود لسنة ٢٦٠٠٠ قبل الميلاد، مع وجود أمثلة أخرى قد تكون أقدَم بكثير.3 على مدى ذلك المنحنى التطوُّري الكبير، شرعت تتشكَّل الأفكار والرؤى المتعلقة بالرفاه والسعادة.
أحد الأمثلة الواضحة هو الربط بين الفكر والممارسة الذي يتضمَّنه مصطلح «ألشُرينجا»، الذي يُستخدم للدلالة على نظام المعتقدات الثقافية الدينية المُعقَّد لشعب الأراندا (مع امتلاك شعوب أخرى من الأبورجيين أنظمة معرفة شبيهة لها أسماء مختلفة). أحيانًا ما تُترجَم إلى الإنجليزية بعبارة «زمن الحلم» أو «الحلم»، وهما مصطلحان وضعهما اختصاصي علم الإنسان ويليام ستانير في خمسينيات القرن العشرين.4 وقد انتُقد هذان اللفظان المستحدَثان اللذان وضعهما باعتبارهما ترجمة خطأً، أو على أقل تقدير ترجمة غير دقيقة للمصطلحَين الأصليَّين (وإن كان احترامه لهذه المفاهيم والثقافات الذي انبثقت منها مُعترَفًا به إجمالًا). بَيْد أنه فيما يبدو كان يقصد أن يسلط الضوء على المغزى الإبستيمولوجي للأحلام بصفتها وسيلة لاكتساب المعرفة، وهي تشمل تَلقِّي النصح من الأسلاف.

نستعرض هنا منظورات فلسفية ودينية وثقافية من التاريخ الحافل للبشرية؛ لنُبيِّن كيف أنها أنتجت أفكارًا وممارسات متصلة بالسعادة، وكيف أن تلك الإنجازات قد تغيَّرَت وتطوَّرَت بمرور الزمن.

بقَدْر ما يمكن استيعاب مفاهيم مثل «ألشُرينجا» وتفسيرها من منظور غربي حديث — وهو أمر مُختلَف فيه — فإنها تشير إلى طُرق كلية وشاملة لإدراك الحياة بأسرها بصفتها متداخلة. كذلك استحدث ستانير مصطلحًا يعني «كل حين» للدلالة على ذلك النَّسَق من الاستيعاب، ليشمل الماضي والحاضر والمستقبل. وهو ليس مجرَّد مرادف للأزلية، وإنما يُقرُّ ذلك المصطلح بالأهمية المستمرة للكيانات والقوى البدائية السالفة التي شكَّلَت العالَم. وهو بالإضافة إلى ذلك ليس مجرَّد أسطورة عن النشأة، وإنما واقع حي نشِط ومُعقَّد.5 تهتم شعوب الأبورجيين قديمًا وحديثًا بهذا الواقع طلبًا للإرشاد إلى أفضل السبل للعيش، بدءًا بعلاقاتهم بالأرض وانتهاءً إلى تعاملاتهم الشخصية. وبذلك تكون ألشرينجا نظرية تكوينية عن الرفاه، ورؤية لما يجدر للبشر أن يكونوا عليه، وتظل من أقدَم وجهات نظرنا الباقية عن الازدهار.

بلاد الرافدَين

فيما كانت الثقافات الأبورجية تنمو، جعلت حركات تقدُّم مماثلة تُسرع الخُطا في أنحاء متعدِّدة من العالَم. إذ يبدو في الواقع أن ثَمَّة علامات فارقة وقعَت في أماكن عدة بشيء من التوازي، دخلت التاريخ المُدوَّن.6 أولًا: بدءًا من قرب سنة ١٢٠٠٠ قبل الميلاد، بدأت محاولات مبكِّرة للفِلاحة والزراعة، استقرَّت حولها المجتمعات. وبعد ذلك، من سنة ٥٠٠٠ قبل الميلاد فصاعدًا، نرى بوادر حضارات أكثر تعقيدًا: مجتمعات تميَّزَت بالتطور الحضاري، والابتكار الصناعي، والتواصل الرمزي المتقدِّم.

ومن المناطق التي تحتل أهميةً خاصة في تلك الناحية بلادُ الرافدَين ذات التربة الخصبة. فمن هذا المهد انبثق العديد من أقدَم إمبراطورياتنا، ومنها الأشورية والأكادية والبابلية. مع حلول سنة ٤٠٠٠ قبل الميلاد، كانت هذه المجتمعات قد حقَّقَت العديد من الإنجازات التي شكَّلَت وجه العالَم، من بناء الصروح للابتكارات في التعدين والكتابة. ومن هنا يأتينا أقدَم عمل أدبي في العالَم، «ملحمة جلجامش»، التي تعود لسنة ٢١٠٠ قبل الميلاد تقريبًا. وهي توضِّح هموم أسلافنا، كاشفةً عن مخاوف وجودية لا تزال ذات أهمية كبرى؛ أهمها هو كيف نتصالح مع الموت ونجد شيئًا من السعادة في حياتنا البالغة القِصَر.

فبطل الملحمة هو جلجامش، ملك مدينة الوركاء الطاغية شبه الأسطوري، وهي تُركِّز على وصف تزايد إدراكه لمحدوديته وعقم المساعي الدنيوية. وأثناء مغامراته، يتلقَّى النصح بشأن خَطْبه ذلك والسبيل للعثور على السعادة التي تُراوغه. فعلى سبيل المثال، على بوابات العالَم تقف ساقية الحانة التي تشجِّع اقتناص الملذات البسيطة: «إلى أن تأتي النهاية، استمتِع بحياتك، واقضِها في سعادة، لا يأس. الْتَهمْ طعامك، واجعل كل يوم من أيامك بهجة، واستحِمَّ وتطيَّب، وارتدِ ملابس زاهيةً برَّاقة، ودَعِ الموسيقى والرقص يملآن بيتك، وأَحِبَّ الطفل الذي يُمسك يدك، وامنَحْ زوجتك المتعة حين تضمها إليك.»7

وفي نهاية المطاف، يجد جلجامش بعض العزاء في السعي لأنْ يكون حاكمًا رحيمًا وفي إقامة مدينة باهرة. وبفعله ذلك، يدرك أن بإمكانه بلوغ شكل من الخلود حين يتذكَّره الناس باعتباره رجلًا عظيمًا. الأهم أنها قصة عن العثور على مغزًى في الحياة، رغم حدودها الوجودية، من خلال الْتِزام نهج الصلاح. وفي واقع الأمر، تنعكس هذه الرؤية في نظريات معاصرة عن بعض أشكال السعادة، كما سنرى.

الصين

كذلك من بين أقدَم الحضارات، وقطعًا أطوَل الحضارات المتصلة، حضارة الصين، التي ظهرت أسرة شيا الحاكمة التي أسَّسَتها نحو سنة ٢٠٧٠ قبل الميلاد. وعلى مدار تاريخها الثري، بزغَت عدة فلسفات وأفكار متصلة مباشرةً بموضوعنا الرئيسي. فلنتأمل، على سبيل المثال، المدرسة الفكرية المعروفة باسم الطاوية.

للطاوية أصول مُوغِلة في عصور قديمة غير موثقة، ويمكن العثور على آثار أحدَث لها في كتاب «آي تشينج» (التي تُترجَم إلى «كتاب التغيرات»)، الذي راح يتراكم شفهيًّا قبل أن يتبلور في شكل مكتوب نحو سنة ١١٥٠ قبل الميلاد. صِيغ النص للمساعدة على تفسير ممارسات التنجيم، وغالبًا ما تتضمَّن تكوين أشكال سداسية وتحليلها (تباديل لستة خطوط متقطِّعة ومتصلة). المهم في العملية أن الأشكال السداسية تمثل حالات من «الصيرورة» لا «الكينونة». فمحورها هو الخطوط «المتحركة»؛ أي خطوط ديناميكية أو غير مستقرة؛ ومن ثَم تُنذر بالتحوُّل لشكل سداسي مختلف.

من ثَم فإن المبدأ الجوهري في «آي تشينج» هو التغيُّر، والمفارقة أنه الشيء الوحيد الثابت في الكون. كما قال ريتشارد فيلهلم في مقدمة ترجمته: «الذي أدرك معنى التغير لا يعود يصبُّ انتباهه على الأشياء الفردية المؤقَّتة، وإنما على الشريعة الأبدية الثابتة التي ينبع منها كل تغير.» وهنا نجد أصل الطاوية، فهذه الشريعة هي «الطاو، مجرى الأشياء، مبدأ الواحد ضمن الكثير.»8 علاوةً على ذلك، لا يحدِّد «آي تشينج» شيوع التغير فحسب، وإنما الدينامية التي يحدث بها كذلك: التفاعل التنازُعي بين المتناقضات، الذي يُرمَز إليه في النهاية بموتيفة ين ويانج.
تعتقد الطاوية في الأساس أن الفهم التجريبي العميق للطاو هو السبيل إلى الرفاه. ويمتلأ بمثل ذلك التوجيه كتاب «تاو تي تشينج»، وهو نص مُقدَّس منسوب إلى لاو تسو، الذي عاش ربما في وقت بين القرن السادس والثالث قبل الميلاد. فكما يفيد المقطع ١٦ مثلًا: «أن تكون في النعيم هو أن تكون في الطاو.»9 تسلِّط الطاوية الضوء على مبادئ، على غرار «الوو وي» مثلًا، وتُترجم «انعدام الفعل»، لكنها تعني التسليم ومطاوعة الأنماط الطبيعية للحياة (مثلما يُسايِر البحَّارُ الماهر الرياحَ مثلًا). ولذلك نجد حثًّا بأن نكون «طيِّعين كالجليد حين يبدأ في الذوبان؛ ومُصمَتِين مثل قطعة من الخشب غير المنحوت؛ لكن مُتقبِّلين مثل حفرة على التلال» (المقطع ١٥). أثبتت تلك الأفكار تأثيرها حتى يومنا هذا، فقد كان من آثارها أنها ساعدت في تكوين مفاهيم أشكال شتَّى من السعادة نتأملها في الفصل التالي.

الفيدانتا

بينما كانت الطاوية تظهر في الصين، راحت تنشأ تطوُّرات شبيهة في أماكن أخرى، بالأخص شبه القارة الهندية. فنرى هناك إنجازات شكَّلت العالَم مثل «الفيدات»، وهي النصوص المُؤسِّسة لِما يُعرَف الآن بالهندوسية، والتي تألَّفت بين عامَي ١٥٠٠ و٥٠٠ قبل الميلاد. تضم الفيدات الأربع أربعة أنواع من المواد: السامافيدا (ترانيم وصلوات)، والآرانياكا (طقوس وشعائر)، والبراهمانات (تعليقات على الطقوس والشعائر)، والأوبانيشادات (تعاليم فلسفية وروحانية).

للفيدات صِلة كبيرة بما نتداوله هنا. فبها كثير من الإشارات، على سبيل المثال، إلى «الأناندا»، وهي سعادة عميقة عارمة كثيرًا ما تُترجَم إلى نعيم. من الممكن حتى أن تعني النعيم الأبدي في سياق الإيمان بالسامسارا؛ أي الدائرة المتواصلة من الميلاد، والموت، والميلاد من جديد التي يتعرَّض لها البشر وفقًا للغيبيات الفيدانتية. وبذلك المعنى، تشير «الأناندا» إلى الانعتاق الخبراتي من «السامسارا» إلى حالة ممتدَّة من الرفاه التام الممتد، بلوغ حالة من السمو النفسي الروحاني تُعرف بمصطلحات مثل «موكسا» و«نيرفانا»، وتشترك فيها تقاليد منها الهندوسية والبوذية والجاينية والسيخية.

بالإضافة إلى ذلك، تلك الحالات ليست مجرَّد مفاهيم عقلية. فكيفية بلوغ الفيدات هو جزء جوهري منها. الأوبانيشادات بالأخص تُركِّز على التوحُّد الخبراتي بين «الأتمان» و«البراهمان». حيث تصف الأولى شيئًا مثل النفس أو الروح الداخلية، جوهر لا يتغير وراء التقلب العابر للشخصية. وكثيرًا ما تُفسر الثانية بمصطلحات مثل الألوهية أو الحقيقة المطلقة، ويأتي تصورها عادةً حلوليًّا (أي إنه ليس مجرد مُتَّحد مع الكون، كما هو مُعتقَد مذهب وحدة الوجود، وإنما يتجاوزه أيضًا). وتعبر عن اتحادهما عبارةُ «تات تفام آسي» (ذلك هو أنت)، وإن كان هناك منظورات مختلفة لطبيعته؛ إذ مالت مدرسة أدفايتا «اللاثنائية» لتأكيد المساواة المطلقة بين الأتمان والبراهمان، بينما رأت الشدادفايتا أن الأولى جزء من الثانية.10
تُوضِّح الفيدات — والتعاليم التي أعقبتها — مسارات لبلوغ مثل تلك الحالات، مثل اليوجا، التي ظهرت في النصوص الفيدية الأساسية قبل أن تجد صياغةً أكمل في أعمال كلاسيكية مثل «يوجا سوترا» لباتانجالي (في القرن الثاني قبل الميلاد).11 تشمل اليوجا سلسلة من الممارسات النفسية الروحانية، لها فروع متعدِّدة، يقدِّم كلٌّ منها طريقًا مختلفًا نحو التحرُّر، منها الهاثا (الممارسة البدنية)، والراجا (التأمل)، والمانترا (الصوت المنغم)، والجورو (التفاني)، والكارما (الخدمة)، والبهاكتي (الإخلاص)، والجنانا (الدراسة)، والتانترا (الجوانب الباطنية). إنها لشهادة على قوة هذه الأفكار والأساليب أنها ما زالت تُمارَس، إلى جانب تَبنِّيها على مستوى العالَم.

اليهودية

بينما جعلت الفيدات تظهر للوجود على مهل، أخذَت تعاليم تُعادِلها تأثيرًا تظهر تدريجيًّا في الغرب متجسِّدةً في «التناخ»، المجموعة المُعترَف بها للنصوص اليهودية المُقدَّسة، وتضم التوراة (أسفار موسى الخمسة)، ونفيئيم (أسفار الأنبياء)، وكتوفيم (أسفار الكتابات المُقدَّسة). وكما الحال مع أغلَب النصوص التأسيسية، توجد شكوك حول واضعها، وذلك محل جدل كبير. تدَّعي تعاليم الحاخامات أن موسى — الذي من الوارد أن يكون قد عاش في القرن الثالث عشر قبل الميلاد — قد تلقَّى التوراة من الرب على جبل سيناء ودوَّنَها كتابةً. ولكن الدراسات الحديثة تزعم أنه من الوارد أن تكون قد تجمَّعَت على مدار قرون قبل أن تبلغ شكلها المُعترَف به نحو القرن الخامس قبل الميلاد.12
وبعيدًا عن الوقائع التاريخية، هي تُعَد من أهم النصوص في التاريخ، بما لديها من مساهمات طائلة لتُقدِّمها بشأن موضوعنا الرئيسي. التوراة على سبيل المثال، تحتوي على أحد أقدَم الإطارات الأخلاقية المُدوَّنة للبشر: الوصايا العشر. رغم أن الشريعة البابلية لحمورابي (التي تعود للقرن السابع عشر قبل الميلاد تقريبًا) قد سبقتها وربما أثَّرَت عليها، فإنه يجوز القول بأنها أقوى الإطارات من ذلك النوع في التاريخ؛ إذ شكَّلَت العديد من الأديان العالَمية، ولا يزال الناس يسترشدون بها حتى اليوم.13
وإن ما بها من «ميتزفوت» — القوانين أو الأوامر — البارزة: من حض على عبادة إله واحد، وإجلال الوالدين، واحترام السبت، إلى جانب النهي عن عبادة الأوثان، والتجديف على المقدسات، والقتل، والزنا، والسرقة، والخيانة، والجشع. وقد زاد عليها العديد من الأوامر والقوانين الإضافية على مدار التوراة؛ إذ يصل عددها إلى ٦١٣، وفقًا لتقدير شائع.14 وتشكل هذه القوانين معًا تشريعًا للحكمة، دليلًا للعيش، فهي تقدِّم منظورًا هادفًا عن الرفاه يحمل دلالة لفهمنا للسعادة لا يزال قائمًا.
لدينا مثلًا موسى بن ميمون (المعروف أيضًا باسم ميمونيدس)، عالِم الدين اليهودي الذي بزغ نجمُه في العصور الوسطى، الذي ذهب إلى أن أداء الواجبات الدينية يؤدِّي إلى «السِّمخاه» (التي عادةً ما تُترجَم إلى بهجة أو فرح). فقد كتب في إشارة إلى سفر التثنية، السفر الخامس من التوراة، فقال: «الفرح [سِمخاه] الذي يُبديه الشخص عند طاعة أمر، وحب الرب الذي أمر بها، هو عمل عظيم من أعمال العبادة. ومَن يكبح نَفْسه هذا الفرح يستحق العقاب من الرب، كما هو مذكور [في سفر التثنية، الإصحاح ٢٨، رقم ٤٧]: «[سوف تَلقى عقابك] من أجل أنك لم تعبد الرب إلهك بفرح وطيبة قلب».»15 هكذا كانت أشكال من السعادة، قائمة في جوهر التعاليم اليهودية، في صورة تفسيرات ودلالات دينية.

البوذية

في تاريخ البشرية الطويل الكثير التحولات، حدث، فيما يبدو، تحوُّل إجمالي هائل آخَر في الفترة بين القرن الثامن والثالث قبل الميلاد. فقد اندلعت في مواقع متعددة ثوراتٌ معرفية عميقة غير مسبوقة في توازٍ نسبي. وهو ما أسماه الفيلسوف كارل ياسبرز العصر المحوري للدلالة على تحوُّل محوري في تاريخ العالَم.16
وقليل من بين أعلامه مَن له نَفْس تأثير سيدهارتا جوتاما، المعروف أكثر باللقب التبجيلي بوذا (المستنير)، الذي وُلد نحو عام ٤٨٠ قبل الميلاد (أو ربما قبل ذلك). وشأن العديد من التقاليد التراثية، تخفى عنا أصول بوذا لانعدام الدقة التأريخية في الوثائق الأصلية. ولكن القصص ذات الطابع الأسطوري تصف بوذا فتحكي أنه كان يعيش حياةً آمِنة من كل كدر حتى سن التاسعة والعشرين، حين اضطرته سلسلة من المواجهات الوجودية أن يسلك مسارًا دينيًّا مُكرَّسًا لاستكشاف الحالة البشرية.17

لما كان يعيش في سياقٍ صاغته الفيدانتا، فقد قضى بوذا في البداية خمس سنوات منخرِطًا في تمارين يوجا تقشُّفية. إلا أنه في النهاية عدَّ ذلك النوع من كبت النفس غير مُجدٍ، وعزَم على سلوك «طريق وسط» (بين الترف والزهد). تعهَّد بوذا بأن يظل يتأمل حتى يبلغ النيرفانا — المذكورة آنفًا وستُناقَش أكثر في الفصل الثالث — وجلس طوال ٤٩ يومًا حتى حقَّق إنجازه. ثم قضى ٤٥ سنةً تالية يَصُوغ رؤاه وينشرها — المعروفة باسم «دارما»، إشارةً لقوانين الطبيعة — التي تركز مباشرةً على أسئلة السعادة والرفاه.

جوهر الدارما هو الحقائق الأربعة النبيلة. وأولها أن الحياة يعمُّها «الدوكها»، وهي كثيرًا ما تُترجَم إلى معاناة، إلا أنه ربما من الأدق أن تُترجَم إلى عدم الرضا (بما أن البوذية تُقر بأن ثَمَّة مباهج في الحياة، لكن حتى المباهج غير كاملة). إلا أنه يخفِّف من وطأتها الحقيقةُ الثانية، وهي أنه من الممكن التعرُّف على سبب الدوكها؛ إذ تُعزى إلى حد كبير لنزوع الناس إلى الاشتهاء والتعلق. علاوةً على ذلك، فإنه، وقد فُهمت هذه الأسباب، تمنحنا الحقيقة الثالثة الأمل بأنه من الممكن الحد من الدوكها. وتعطينا الحقيقة الرابعة خارطة لهذا الهدف: الطريق النبيل الثماني.18

والطريق هو وصف مفصَّل ﻟ «العيش الصحيح». وهدفه الأسمى هو بلوغ ذروة النيرفانا، لكن حتى إن كانت هذه القمة الخارقة لقوى البشر تتعذَّر على أغلب الناس، فالطريق نفسه يقدِّم فرصًا للتقليل من الدوكها والشعور بالمزيد من «السوكها» (نقيضها) باطمئنان أكثر. للطريق ثمانية عناصر، تُصوَّر في كثير من الأحيان في شكل برامق العجل، من حيث يدعم كلٌّ منها الآخَر، ولا بد من الاهتمام بها معًا. هذه العناصر، التي تسبقها الصفة «ساميك» (الصحيح أو أفضل)، تغطِّي ثلاثة أبعاد عريضة من الحياة: الحكمة (في الرؤية والعزم)، والسلوك الأخلاقي (في الحديث والسلوك والعيش)، والتأمل (بالجهد واليقظة الذهنية والتركيز). ثم تتناول مجموعة عريضة من التعاليم المعاني الدقيقة لهذه العناصر وإمكانية تيسيرها للسعادة (كما سنكتشف أكثر في الفصل التالي).

الحضارة الهلنستية

يُقال إنه لم يترك عصر من العصور تأثيرًا على التفكير المعاصر عن السعادة يفوق تأثير العصر الهلنستي في بلاد الإغريق. فحتى اليوم ما زال العديد من أعلامها أسماءً متداولة، ولا تزال تعاليمهم هي الأساس لجوانب عدَّة من الحياة الحديثة؛ إذ لا تزال العديد من المفاهيم تحمل بصمة الاشتقاق من اللغة الإغريقية، بدءًا من الديمقراطية (حُكم الشعب) وصولًا إلى الفلسفة (حُب الحكمة). ووسط هذه الأعمال الفكرية الجزلة، نجد لدى الإغريقين آراءً مستفيضة عن السعادة والرفاه.

من هؤلاء الروَّاد الفكريين، كان لأرسطو بلا ريبٍ الأثر الأقوى على الفكر المعاصر. ومن إسهاماته العديدة التفرقةُ المحورية بين شكلَين من السعادة: المتعة واليودايمونيا. فالأولى تشير أساسًا إلى اللذة، في حين تعكس الثانية أشكالًا أعمق من السعادة تنشأ من خلال تنمية الذات، الذي عرَّفه بأنه «سلوك النفس الموافق للفضيلة.»19 وهي تشير اشتقاقيًّا إلى امتلاك المرء «ديمون» طيبًا؛ أي روح مرشدة أو ربما، من المنظور الحديث، الضمير. وهي فكرة معقَّدة؛ إذ تشمل تنمية الشخصية، والسعي وراء المعرفة، والالتزام بالنمو الأخلاقي.
كان أرسطو يحتقر المتعة، وكذلك يحتقر أغلَب الناس، الذين كان يشكو من أنهم «خاضعون لشهواتهم» مشغولون بالمتع السطحية.20 ما إذا كان ذلك التحليل منصفًا أم لا هو مسألة أخرى، لا سيَّما أن مواقفه الأخلاقية عامَّةً (بخصوص النساء مثلًا) صارت محل نقد وفقًا للمعايير الحديثة. إلا أن هذا التمييز بين المتعة واليودايمونيا ما زال يُثبِت تأثيره حتى يومنا هذا — حتى إذا كانت الأولى تلقى نقدًا أقل قسوةً الآن — وهو يكمُن في صميم التفكير المعاصر عن السعادة.
ولهذا العصر العديد من الإسهامات الأخرى في موضوعنا الرئيسي بالطبع. على غرار الرواقية مثلًا، التي وضعها زينون الرواقي قرب عام ٣٠٠ قبل الميلاد. وكان من أتباعها سينيكا الروماني الذي تتضمَّن أعماله محاورة «عن الحياة السعيدة»، وبها عبارات من قبيل «الرجل السعيد هو الراضي بنصيبه، مهما كان.»21 وقد ذهب إبكتيتوس بهذه الفكرة إلى حدٍّ متطرِّف، فادَّعى أنه من الممكن أن يكون المرء «مريضًا لكنه سعيد، في خطر لكنه سعيد، يحتضر لكنه سعيد، في منفًى لكنه سعيد.»22 لكن ليس المقصود هنا سعادة المتعة أو حتى سعادة اليودايمونيا، وإنما شكلٌ منها أكثر قناعةً، يتسم بالطمأنينة، وهي انعزال صافٍ هادئ ساكِن عن تقلبات الحياة.

المسيحية

«طوبى للمساكين بالروح؛ لأن لهم ملكوت السموات» (إنجيل متى، الإصحاح الخامس، من ٣ إلى ١١). هكذا يبدأ أحد أشهَر الفقرات في التاريخ، الموعظة على الجبل. هذه الخطبة التي ألقاها المسيح قرب نهاية دعوته، كثيرًا ما تُعَد أسمى تعاليمه، «جوهر المسيحية».23 ومثل الموروثات الأخرى، لدى المسيحية الكثير لتُدلي به بشأن السعادة.
بنا ننظر الكلمة المتكرِّرة بأسلوب شعري في الخطبة: طوبى. كانت هذه الكلمة باللغة اليونانية القديمة التي كُتب بها العهد الجديد makários «مكاريوس»، ولاحقًا تُرجمت إلى beātitūdō «بيتيتودو» في اللغة اللاتينية، ثم béatitude «بيتيتود» في الفرنسية. وصارت أخيرًا blessed (مبارك أو طوبى) في الإنجليزية، المشتقة من كلمة blodison «بلوديسون» باللغة الجرمانية البدائية، أي جعل الشيء مُقدَّسًا (وكان يتم في الأصل بالدم، كما يظهر من اشتقاقه). بَيْد أنه من الترجمات المناسبة أيضًا — بل الأدق لكلمة makários — وفقًا لما ذكره دارين ماكمان، في كتابه النموذجي «تاريخ السعادة»، هي الصفة «سعيد».24 من ثَم فإنه من الجائز أن تكون صياغة الخطبة أيضًا: «سعداء هم أنقياء القلب؛ لأنهم سوف يرون الرب.»
وتلك ليست مجرَّد لذة، وإنما هي أحد أعمق — أو أسمى — أشكال السعادة على الإطلاق. وهنا نصطدم بحدود اللغة، حيث يمكن لكلمة «سعادة» أن تشمل عدة حالات شعورية من العادية للسامية. وفي ذلك الصدد، من الممكن لمصطلحات دقيقة مثل «طوبى» أن تشير لأشكالها الأعمق. وكما قال المؤرخ توماس كارليل: «ثَمَّة شيء أرفَع من السعادة، وهو النعيم.»25 لكنه قد يكون من الأفضل أن نتسع بمفهومنا عن السعادة نفسها لتضم مدلولات مثل النعيم، وسوف أضمِّن تلك الحالات في الفصل الثالث تحت تبويب سعادة السكينة.

بعيدًا عن الدلالات اللفظية، كانت رسالة المسيح ثورية. فقد كانت الأفكار السائدة عن السعادة في العالَم الروماني تجنح إما لجعلها خاضعة لحكم القدر (ومن ثَم خارج سيطرة الناس) وإما أنها طوع بنان فئة مختارة (مثل الأثرياء وذوي النفوذ). وعلى النقيض، لم يكتفِ المسيح بالتبشير بأن بإمكان الفقراء والمضطهَدين إدراك السعادة، بل إنه أمعَن فقال إن أولئك الناس مُبارَكون أكثر من الأثرياء وذوي النفوذ. ولم تكُن هذه الرؤية المذهلة مُضاهية تمامًا لتمكين الذات لدى الرواقيين؛ إذ أبقَت الناس تحت رحمة لطف الرب. بَيْد أنها كانت فكرة خلاصيَّة ساعدت على تشكيل العالَم الحديث.

الإسلام

من المجادلات المحورية في المسيحية الجدال بشأن ما إذا كان بلوغ حالة المباركة التي وصفها المسيح على الأرض أم في الحياة الآخرة. ونجد اعتبارات شبيهة في الإسلام، آخِر عقائد التوحيد الكبرى ظهورًا، والذي نشأ في مكة في القرن السابع بعد الميلاد. فهناك وُلد النبي محمد سنة ٥٧٠، وتلقَّى الوحي عن الله (الإله)، والذي يعد القسم الذي يُتلى منه هو القرآن الكريم. واليوم يحتل الإسلام المركز الثاني من حيث عدد معتنقيه على مستوى العالم (نحو مليارَين)، بينما يُعَد القرآن من أكثر النصوص المكتوبة تأثيرًا على الإطلاق. ومرَّةً أخرى نجد من تعاليمه تعليقات عميقة عن موضوعاتنا الرئيسية هنا.

فهو يفرِّق بين أشكال السعادة، فيضمِّن مثلًا «المتعة» و«السعادة». إذ تشير الأولى للذة الحسية، الشبيهة بالهيدونية أو المتعة التي احتقرها أرسطو، فحطَّ من قدرها كذلك باعتبارها مجرد متاع دنيوي. رغم ذلك، فإنه بالنظر للفرح المتاح في هذه الحياة، يفرِّق القرآن بين الأشكال «المذمومة»، التي تتضمَّن الفرح ﺑ الحياة الدنيا (سورة الرعد، الآية ٢٦)، والأشكال «المحمودة» منه وهي الفرح بفضل الله وبرحمته (سورة يونس، الآية ٥٨). وعلى أي حال، تُعَد «السعادة» الشكل الأسمى والأقصى من أشكال الفرح، ولا ينالها إلا أولئك المؤمنون بالحياة الآخِرة. وهي الصورة المقصودة في عنوان العمل التراثي «كيمياء السعادة»، لعالِم الدِّين الفارسي العظيم أبي حامد محمد الغزالي، الذي عاش في القرن الحادي عشر.

ويُولي الإسلام اهتمامًا كبيرًا لطبيعة هذا الثواب؛ إذ يعرض القرآن تصورات بديعة التفاصيل للجنَّة.26 فهي تُصوَّر بأنها فردوس عدني شاسع زاخر بالمكافآت والمباهج، ولها مناطق ودرجات عدة، يدخلها الناس كلٌّ حسب عمله في الدنيا. والحديث عنها ينصَبُّ بعضه على المُتَع الحسية (مثل المناظر البديعة)، وبعضه على تجليات أسمى مقامًا (مثل رؤية الله).

إلا أن استحضار تلك المعاني لا يعني أن المنظورات الإسلامية للسعادة تركِّز على الحياة الآخرة وحدها. فمن ناحية المباهج المحمودة، توضِّح تعاليمه ما تنطوي عليه الحياة الصالحة في الدنيا. فهي تشمل تنمية الشخصية — بما تشمل من تهذيب الطبع والتواضع وضبط النفس — وهو ما يتصل باليودايمونيا. لا شك أن كلًّا من العلماء الإغريقيين والإسلاميين ساهموا في الرؤية المتقدِّمة للبشرية في عصر النهضة.

عصر النهضة

السياق الذي مهَّد لعصرنا التالي هو ما يُسمَّى بالعصور المظلمة، وهي فترة من التاريخ الأوروبي تمتد بالتقريب من سنة ٥٠٠ إلى ١٢٠٠ ميلادية. وقد صاغ له تلك التسميةَ المهينة فرانشيسكو بتراركا (١٣٠٤–١٣٧٤)؛ ليعكس ما غلب عليه من شِبه انعدام للفكر المستقل، وهو ما يقابل «النور» الذي تلاه في عصره. لكنه مصطلح مُضلِّل، فقد اشتمل هذا العصر على انفتاح وابتكار. غير أن الكنيسة كانت متسلِّطة على رؤية الغربيين للحياة، وقد تبنَّت نظرة قاتمة، فكانت في أغلب الأحوال قانطة من الأمل في نيل السعادة الدنيوية. مثال على ذلك، نرى مؤلف كتاب «عن بؤس حال البشر»، الذي صار فيما بعد البابا إنوسنت الثالث (١١٦١–١٢١٦)، وقد كتب فيه بنبرة كئيبة: «أيام الناس جميعًا تملؤها المشقة والعناء … أغنياءً كانوا أو فقراء، أسيادًا أو عبيدًا، متزوجين أو عُزَّابًا، صالحين أو أرذالًا على حدٍّ سواء، كلهم يعانون من تباريح الحياة، وكلهم تعذِّبهم مكدِّراتُ الدنيا.»27

لكن ظهر نقيضٌ جدلي مقابل لذلك التشاؤم من خلال توجُّه إنساني متفائل، يحتفي بالبشرية والأمل في العثور على السعادة على الأرض (وليس في الحياة الآخرة فقط). ترسَّخَت هذه الحركة في القرن الثاني عشر مع تكوُّن أوائل الجامعات في أوروبا؛ ممَّا أدَّى بالمؤرخ جول ميشليه إلى سك مصطلح «النهضة» لوصف ما تلا ذلك من ميلاد جديد للتعلم، التي كان أهم محرك لها هو إعادة اكتشاف العالم القديم، مع زيادة توافر الأعمال الإغريقية والرومانية. من خلال هذه القوى المحركة، رحَّبَت أوروبا بمنظورات حديثة العهد عن الحياة الطيبة.

في البداية، ظلَّت أغلب الدراسات منحصِرة في قالب مسيحي، في تآلُف جسَّده القديس توما الأكويني (١٢٢٥–١٢٧٤)، الذي دمج بين تعاليم الكنيسة والفلسفة الكلاسيكية، بأنْ ناظرَ مثلًا بين نظرية أرسطو عن المحرك الأول وبين الرب. لكن مع حلول القرن الرابع عشر، بدأت بعض خيوط النزعة الإنسانية تتحرَّر رُوَيدًا، بروح مستقلة جسَّدها بتراركا، كما عكسها تسلقُه جبل فينتو لمجرد تقدير الطبيعة. وكانت الكنيسة تميل إلى التحقير من تلك المتع باعتبارها استغراقًا في الملذات. غير أن النزعة الإنسانية أذنت برؤًى علمانية للحياة الطيبة، شملت حض الناس على الانخراط في سعيهم وراء الحقيقة والجمال.

ثم ازدهرت النهضة في القرن الخامس عشر، مع انتشار الصحوة الإيطالية شمالًا. وكان من ضمن الأحداث البارزة اكتشاف قصيدة لوكريتيوس «في طبيعة الأشياء»، التي ظلَّت مفقودة زمنًا طويلًا عام ١٤١٧.28 وفيها ناقَش أفكار إبيقور (٣٤١–٢٧٠ قبل الميلاد)، الذي رأى البشر باعتبارهم محض منتجات مادية للكون لا يبقى لهم وجود بعد الموت. ومن هذا المنطلَق، حاجَج إبيقور بأن الهدف من الحياة لا بد أن يكون السعادة، لكن ليس بمعنى الانغماس المتعي الهيدوني في الملذات الذي كثيرًا ما يرتبط باسمه بالخطأ هذه الأيام، وإنما بالمعنى الرواقي للطمأنينة. وهكذا رغم أن المسيحية ظلَّت مهيمِنة على أوروبا، فقد راحت رؤًى علمانية للسعادة تبرز أكثر فأكثر.

عصر التنوير

مع التقدم في القرن السادس عشر، شرعت هذه العلمانية المتنامية تُنتج أساليب جديدة من البحث. كان أبرزها تأثيرًا البوادر الرئيسية للعلم التجريبي، التي أطلقها أشباه السير فرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦) وجاليليو جاليلي (١٥٦٤–١٦٤٢). وقد دشنت مجهوداتهم حسًّا جديدًا مُقنعًا بأن الرفاه من الممكن أن يتأثر بدراسة التفكير الحر وقياس العالَم الطبيعي. بالتوازي مع هذا المذهب التجريبي، بدأت رؤية وسردية جريئة تُسيطِر على الخيال الجَمْعي، ألَا وهي «التقدم»، والرأي السائد أن نشأة هذا التوجُّه الفكري الانتقالي هي التي تميِّز التحوُّل إلى الحداثة.29

فيما مضى، كان التوجُّه المسيحي المُهيمِن توليفةً قوية من التوق الرجعي لعصر ذهبي (عصر جنات عدن) وأمل أُخروي في خلاص مستقبلي (الفردوس). لكن نتيجة التطورات في العلوم والتكنولوجيا، بزغ إيمان قوي بتحسُّن الحياة تحسنًا خطيًّا وحتميًّا، كما انعكس في رواية بيكون اليوتوبية «أطلانتس الجديدة». وقد ترسَّخ هذا الإيمان بحق في القرن الثامن عشر، والشاهد على ذلك موسوعة «إنسيكلوبيدي»، وقد أشرف عليها دنيس ديدرو، وضمَّت أكثر من ١٥٠ عالمًا، والتي كانت تروِّج للتقدم العلمي والعلمانية والتسامح والعقلانية وتفتُّح الذهن. ومن ثَم عُرف ذلك العصر باسم عصر التنوير، وكانت رسالته المهيمِنة هي أنه من الممكن العثور على السعادة على الأرض، لا سيَّما من خلال تنمية الشخصية والسعي وراء الحقيقة.

علاوةً على ذلك، لم يكُن ثَمَّة تشجيع للناس على السعي وراء الحياة الطيِّبة فُرادى فحسب، وإنما صاحَبَته جهودٌ منهجية لبلوغ تلك الغاية. فقد وُلِدت فكرة قوية، وهي أن المجتمع نَفْسه يمكن إعادة تنظيمه ليتمكَّن من الازدهار بصورة أفضل. وساعدت هذه الرؤية على اندلاع الثورات بالمُثل التي قامت عليها، سواء كانت الحياة والحرية في الولايات المتحدة (١٧٧٦) أو السعي وراء السعادة والحرية والمساوة والإخاء في فرنسا (١٧٨٩). لكن كان من الصعب تحقيق هذه المُثل على أرض الواقع، بل كان يُخَل بها أحيانًا. لكن رغم ذلك، صار الإيمان بتهذيب المجتمع باعتباره سبيلًا إلى السعادة جذَّابًا لدرجة آسِرة.

وإلى يومنا هذا، لا يزال العالَم يحمل بصمات هذا العصر في جوانب شتَّى. فالفكر السياسي، على سبيل المثال، تشكِّله مُثُل التنوير على غرار مذهب المنفعة الذي وضعه فرانسيس هاتشيسون (١٦٩٤–١٧٤٦)، ولاحقًا جيرمي بنتام (١٧٤٢–١٨٣٢) ثم جون ستيوارت ميل (١٨٠٦–١٨٧٣). وهذه أسرة من النظريات الأخلاقية التبعية — أي تعُدُّ الحَكَم النهائي على العمل هو تبعاته لا المبادئ المجرَّدة — وهي تهدف إلى الوصول بالرفاه إلى أقصاه. وعلى حدِّ قول هاتشيسون: «أفضل الأعمال هو الذي يحقِّق أكبر قَدْر من السعادة لأكبر عدد من الناس.»30 بهذا الفكر، ندخل الحقبة المعاصرة، التي صارت فيها السعادة من الاهتمامات الأكاديمية.

الطب والعلاج

في عصرنا الحديث حيث الأبحاث العلمية عن السعادة والرفاه، يمكن تحديد أربع موجات رئيسية. بدأت الأولى جديًّا منذ مائتَي عام تقريبًا مع اكتساب الطب النفسي والعلاج النفسي صفةً رسمية. وتمتد أصولهما إلى ماضٍ أبعَد بالطبع. فعلى مدار التاريخ حدَّدَت الثقافات وعالجت المشكلات التي تُسمِّيها هذه الفروع المعرفية اليوم أمراضًا أو «اضطرابات» عقلية. ثم نشأ هذان المجالان في شكلهما الأوَّلي على مدار قرون عديدة.

كانت من المراحل البارزة المبكرة في الغرب إنشاء دير في لندن عام ١٢٤٧ لإيواء المرضى والعجزة، بدأ يعالج «الخبل» منذ عام ١٤٠٣، ثم صار مقتصِرًا على تلك الغاية من ١٦٧٦ فصاعدًا. ثم شرعت بريطانيا عام ١٨٠٨ في إنشاء مستشفيات الأمراض العقلية المماثلة على نطاق واسع، في العام نفسه الذي سكَّ فيه يوهان ريل مصطلح الطب النفسي، من الكلمة اليونانية psyche (نفس أو عقل) وiatros (معالج). ثم أعلنت المهنة عن نفسها مع أول عمل هام لإميل كريبلين، الذائع الصيت بصفته أبا المجال. في هذا الوقت تقريبًا بدأ العلاج النفسي يظهر للوجود — وهو مصطلح سكَّه والتر دندي عام ١٨٥٣ — وإنْ كان في البداية مجرد جزء من الطب النفسي نفسه.

رغم أن هذه المجالات كانت مهتمة بالرفاه، فقد كانت من نوع محدود، وإن لم تُدرَك هذه المحدودية نفسها حتى جاءت الموجة الثانية. كما سنُوضِّح فيما يلي، كان الاكتشاف المحوري للموجة المقبلة الأحدث هو رؤيتها الرفاه الذهني في صورة مقياس — كما ناقشنا في المقدمة — يمتد من قطب سالب (وجود الاعتلال)، مرورًا بالصفر (غياب الاعتلال)، حتى القطب الموجب (توفر الصحة). غير أن هذه الموجة الأولى كادت لا تركِّز إلا على حيِّزه السلبي.

هذا ولم تعترف حتى العديد من الشخصيات الرئيسية بالحيِّز الموجب له، وكانوا إذا فعلوا لم يعُدُّوه متصلًا بمساعيهم أو متأثرًا بها. كانت صلاحياتهم تقتصر على مساعدة الناس على بلوغ منطقة الصفر المحايدة نسبيًّا، وهو ما تعبِّر عنه ملحوظة فرويد المقتبَسة آنِفًا عن كون هدف العلاج النفسي مقتصرًا على تحويل «البؤس الهستيري إلى حزن عادي.» لكن كان ثَمَّة استثناءات لذلك، مثل العمل الرائد لويليام جيمس، «تنويعات التجربة الدينية» الذي لامس أفكارًا وتجارب يجوز أن نضعها في الحيِّز الموجب من المقياس. غير أن التركيز في العموم كان على التخفيف من المرض العقلي.

وكان ما تلا ذلك من انفتاح على استكشاف مساحات أكبر من الحيِّز الموجب هو ما أنذَر بموجة ثانية جديدة. وبالطبع لم تتوقف الموجة الأولى؛ فما زال الطب النفسي والعلاج النفسي حتى اليوم في حركة نمو. فالواقع أن موجات البحث لا تتبدَّد غالبًا، وإنما تظل طاقتها متفجرة باستمرار؛ كذلك، عادةً، لا تحل الموجات الجديدة مكان السابقة وإنما تعزِّزها. من ثَم فإنه بينما واصلت هذه المجالات لعب دور حيوي حيالَ الرفاه، فقد ظلَّ ينضم إليها من عشرينيات القرن العشرين فصاعدًا جيلٌ جديد من الدارسين والممارسين ذوي النزعة الإنسانية.

المذهب الإنساني

في عملية شد وجذب، ما لبث تركيز الموجة الأولى على السلبي أنْ أرغمَ البعض على التركيز على الإمكانات الإيجابية لدى الجنس البشري. وكان من أوائل هؤلاء أوتو رانك، الذي كان في بادئ الأمر تلميذًا لفرويد، لكنه انفصل عنه في عشرينيات القرن العشرين ليركِّز على عمليات النمو الصحي (في مقابل اهتمام فرويد بعلم الأمراض النفسية). مثال على ذلك أن كتاب رانك، «العلاج بالإرادة»، بحث «الإرادة الإبداعية» البدائية؛ فمع انتقاده لفرويد لاختزاله الإبداع إلى مجرد نتاج ثانوي للرغبة الجنسية، راح يتأمل الوعي الذاتي وفاعلية البشر في عملية الإبداع، وبوجه خاص تفرُّدهم؛ إذ ينتقلون من «مخلوقين إلى خالقين، وفي الحالة المُثلى خالقين لأنفسهم ولشخصياتهم.»31 من ثَم فإن العلاج النفسي، من وجهة نظر رانك، لا بد أن يخلق مساحات دعم للعملاء لاستكشاف تلك العمليات الكاشفة عن تفرُّدهم.
وقد أثَّر بدوره على أبراهام مازلو وكارل روجرز، اللذَين يُعَدان التوءم المؤسِّس لعلم النفس الإنساني. وكما قال روجرز: «لقد صرتُ متأثِّرًا بأفكار رانك، وبدأتُ أدرك احتمالات توجيه الفرد لذاته.»32 وقد مضى لابتكار نهجه العلاجي المتمركز حول شخص المريض، في صورة مساعدة الناس على «تحقيق الذات» — وهو ما يكون في الأساس بتحقيق الإمكانات البشرية، وهو تجسيد حديث لمفهوم اليودايمونيا الأرسطي — مشتملًا من بين أشياء أخرى على الوصول لانسجام بين ذاتهم الفعلية والمُثلى.
وقد أكمل مازلو جهود روجرز؛ إذ ساعد أيضًا على تطوير فكرة تحقيق الذات. فلِكي يوضح تلك الإمكانات، قدَّم مفهومه الهرمي المعروف — وإنْ كان يُساء فهمه بعض الشيء — للحاجات البشرية لشرح كيف لهذه العملية أن تتكشف، كما سنكتشف في الفصل الخامس. علاوةً على ذلك، فإنه عبَّر بأسلوب جميل عن روح هذه الموجة الجديدة بإرساء استعارة المقياس التي أسَّسَت لها: «كأن فرويد قد منحنا النصف المريض من النفس البشرية، وعلينا الآن أن نتمِّمه بالنصف المُعافى.»33

وهذا يأتي بنا إلى محور اهتمام هذا الكتاب، فهذا «النصف المُعافى» يشير إلى المساحة الموجبة من مقياس الرفاه الذهني، للمساحة العريضة التي يغطِّيها مصطلح السعادة. بالإضافة إلى ذلك، فإنه منذ بادر روجرز ومازلو بالتشديد على أهمية هذه المنطقة، وما زالت الأبحاث والنظريات تتراكم باطراد، مع تركيز على المناهج «العلمية» التي دشنت موجةً ثالثة.

الاتجاه العلمي

رغم أن أول موجتَين قد استخدمتا المنهج العلمي — إذ اختبرتا النظريات من خلال البحث التجريبي — فقد كانتا متأصِّلتَين إلى حد بعيد في إطار «علاجي». لكن، تدريجيًّا، بدأ الاهتمام بالرفاه يطغى على المساحات التطبيقية، وبدأ يجذب الاهتمام العلمي في شتَّى المجالات، مؤذِنًا بموجة جديدة.

وقد بدأت هذه الطاقات تتنامى في ستينيات القرن العشرين، مدفوعةً بمحاولات لقياس الرفاه (لما كان التقدير الكمي من السمات المميزة للعلم). فعلى سبيل المثال، من المفاهيم المهمة في مجال أبحاث السعادة مفهوم تقييم الحياة، وهو الذي ابتُكرت أداة قياسه الرئيسية عام ١٩٦٥: مقياس التقييم الذاتي للازدهار لعالِم النفس هادلي كانتريل، الذي يطلب من المستجيبين تحديد أين يقفون في الوقت الراهن على سُلَّم من عشر درجات تمثِّل قاعدته وقمته، على الترتيب، أسوأ وأفضل حالاتهم في الحياة على الإطلاق.34 وهو ما زال يُستخدم على نطاق واسع؛ إذ يُستخدم في الاستطلاع العالَمي العظيم التأثير لمؤسسة جالوب، الذي تشكِّل نتائجه الأساس لتقرير السعادة العالَمي البارز، الذي يُرتِّب سنويًّا الدول وفق هذا العنصر.35 وبحلول ثمانينيات القرن العشرين، كانت قد وُضعت عدة مقاييس مهمة أخرى غيره.

ثم بلغت هذه الموجة ذروتها مع نهاية الألفية، متمثِّلةً ومدفوعةً بإنشاء مارتن سليجمان لتخصُّص علم النفس الإيجابي (عند تَولِّيه رئاسة الجمعية الأمريكية لعلم النفس عام ١٩٩٨). رغم أن الأبحاث العلمية عن الرفاه ظلَّت تتراكم لسنوات، فقد جمع علم النفس الإيجابي أجزاءه المتباينة، ووضع الصورة الناتجة في موقع الصدارة من علم النفس. يُقال إنه قبل ظهور علم النفس الإيجابي كان التركيز العام للمجال على الاضطراب والاختلال. صحيح أن بعض المناطق كانت تهتم بالرفاه، مثل التراث المستمر لعلم النفس الإنساني والمقاييس المنبثِقة منه المذكورة آنفًا. لكن في العموم، كان علم النفس يميل لغضِّ الطرف عن أفكار مثل السعادة باعتبارها ليست جادة بدرجة كبيرة أو جديرة بالاهتمام العلمي.

من ثَم فقد كان استغلال سليجمان تَولِّيه رئاسة الجمعية لإعطاء هذه الموضوعات الوزن والأهمية التي تستحقها موقفًا بارزًا. وفي الواقع، يعتمد جزء كبير من هذا الكتاب على الأبحاث العلمية المرتبطة بعلم النفس الإيجابي أو المستلهمة منه. ولكن تطور علم الرفاه ظلَّ يخطو سريعًا، حتى بدأت تنبثق الآن موجةٌ رابعة استجابةً للمشكلات التي ظهرت في ذلك الأساس العلمي.

نحو العالَمية

رغم أن دراسات الرفاه كانت مُثمِرة ومبتكَرة على مدار العقود الأخيرة، فقد واجهت عدة انتقادات. لكنه من حسن الحظ أن تلك الانتقادات تساعد على تحسين مناهجها وفهمها مع رد العلماء على الاتهامات الموجَّهة إليهم. بعض المسائل خطيرة، لكنها رغم ذلك يمكن حلها من دون تغيير المجال تغييرًا جذريًّا؛ من ثَم يُعَد حلها «تنقيحًا» للموجات الثلاثة المذكورة آنِفًا. فعند تقييم العوامل المؤثرة على السعادة، على سبيل المثال، نجد أغلب الأبحاث الحالية ارتباطية، مما يحدُّ من درجة التأكد من السببية. في تلك الحالة، يكون الحل إجراء مزيد من الدراسات الطولية، وهو ما يحدث الآن بالفعل. لكن الإقدام على ذلك لا يُحدِث ثورة في العلم، وإنما ينقِّحه بالأحرى.

إلا أنه من الانتقادات والاستجابات الأكاديمية ما هو جذري للغاية حتى إنه يشكِّل تحولًا حقيقيًّا للنموذج الفكري — باصطلاح توماس كون — ويؤذِن بموجة جديدة. الأمر كذلك مع أحد أصعب الادعاءات التي يواجهها علم الرفاه المعاصر: وهو كونه متمحوِرًا حول الغرب؛ ومن ثَم يفتقر للصلاحية والمجال العالميَّين اللذين يسعى نحوهما.

لا شك أن تدريس علم النفس وممارسته طالما كانا في شتَّى أنحاء العالَم منذ زمن طويل. لكن يظلُّ مركز جاذبيته، بصفته جهدًا عالميًّا، هو الغرب — من بعد الحرب العالمية الثانية — لا سيَّما أمريكا الشمالية، نظرًا للهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية الشاملة للولايات المتحدة.36 وقد أدَّت هذه الديناميات إلى ما صار من سيطرة المفاهيم والأولويات والمناهج المرتبِطة بعلم نفس الولايات المتحدة على المجال. وملامح علم النفس الأمريكي بدورها شكَّلتها القيم والتقاليد السائدة في الولايات المتحدة. وعند تتبُّع الأنساق مُتوغِّلين أكثر في الماضي، نرى أن الولايات المتحدة نفسها تأثَّرَت بالتيارات التاريخية المذكورة سالفًا، وخاصةً ذات الأصول الغربية، بدايةً من الفلسفة الإغريقية، مرورًا بالمسيحية وعصر النهضة، ووصولًا إلى عصر التنوير.
من الأمثلة على تلك الديناميات نزوع الولايات المتحدة نحو الفردية. فكما زعم باحثون نظريون، مثل ديفيد باكان، لدى البشر نمطان أساسيان من الوجود: الفاعلية (بصفتهم ذوات منفردة مستقلة) والمشاركة (بصفتهم أجزاءً لا تتجزَّأ أيضًا من شبكات مكوَّنة من بشر آخَرين وعمليات أخرى).37 ويبدو أن الثقافات تختلف في اهتمامها بهذين النمطين: فعقب نظريات جيرت هوفستيد وهاري تريانديس، أفادت الأبحاث على مدى عقود بأن الغرب عمومًا يميل نحو الفردية، ويميل الشرق نحو روح الجماعة (وإنْ كانت هذه التعميمات الواسعة لا توحي بالديناميات المُعقَّدة لهذه المناطق، كما سنكتشف في فصول لاحقة).38
يمكن تتبع أصول هذه النزعة الفردية إلى عصور غربية مثل عصر التنوير، وهي تمتاز بتركيز على الفاعلية والحقوق الشخصية (على النقيض من النزعة الجماعية، التي تعطي الأولوية للجماعة).39 تؤثِّر تلك الموروثات على طريقة إدراك الناس في تلك الثقافات للعالَم وفهمهم له، بما في ذلك العلماء أنفسهم. وقد أشار مقال مؤثِّر عام ٢٠١٠ بوضوح إلى أن الغالبية العظمى من الأبحاث في علم النفس — ما يصل إلى ٩٦ في المائة وفقًا لبعض التقديرات — كان مَن أجراها ومن خضع لها أُناسًا في المجتمعات التي توصف بالمصطلح «ويرد» WEIRD (وهو الاختصار الإنجليزي المعبِّر عن المجتمعات الغربية المتعلمة الصناعية الغنية الديمقراطية).40 لكن ممَّا يهمُّ أن أغلب مجتمعات العالَم لا تتوافر فيها تلك الصفات بالقَدْر نَفْسه، وهو ما يثير أسئلة بخصوص سلامة تلك الأبحاث وعالميتها. فعلى سبيل المثال، سنجد العلماء الغربيين الذين شكَّلهم انغراسهم في بيئتهم الثقافية، عُرضة للتركيز على السعادة باعتبارها ظاهرةً فردية (مستفيضين في تناول مَواطن القوة الشخصية مثلًا)، بدلًا من الاهتمام بأبعادها الجماعية (جوانبها الاجتماعية الثقافية مثلًا).

إلا أن تلك الاتجاهات بدأت تتحوَّل في سياق الديناميات الأعم للعولمة. رغم استمرار إجراء الأبحاث العابرة للثقافات في علم النفس ما يزيد على قرن، فقد ظلَّت محدودة النطاق، ولا تحظى بالتقدير الواجب في المجال إجمالًا. إلا أن الحال الآن تحسَّنَت بالعلماء؛ إذ إنهم لا يُجْرون الأبحاث عالَميًّا فحسب — بدلًا من حصرها في سياق المجتمعات الغربية المتعلمة الصناعية الغنية الديمقراطية — وإنما يهتمون كذلك بالمنظورات الثقافية المختلفة بشأن السعادة. ويشمل هذا، على سبيل المثال، عدم الاكتفاء بإجراء تقييمات عابرة للثقافات مستخدمين مفاهيم غربية المنشأ مثل سُلَّم كانتريل — الذي يظل أداةً قيمة ومفيدة جدًّا — وإنما استكشاف التباينات في «المعنى» الفعلي للسعادة في أماكن مختلفة.

وفي الواقع، كان ذلك هو محور اهتمام أبحاثي على مدار السنوات الأخيرة (ومن ثَم اهتمامي الخاص بهذه الديناميات العالَمية): وضع قاموس للكلمات المتعلقة بالرفاه «غير القابلة للترجمة».41 وهي كلمات ليس لها مقابل دقيق في اللغة الإنجليزية؛ ومن ثَم فإنها تشير إلى ظواهر غفلت عنها المجتمعات الناطقة بالإنجليزية — وكذلك علم النفس لما كانت لغته الافتراضية هي الإنجليزية — لكن ميَّزتها ثقافة أخرى.42 وقد سعيتُ من خلال هذا المشروع إلى إثراء خريطة المفاهيم المتعلقة بالرفاه بضم أفكار من ثقافات أخرى.
وكان المنهج الذي اتبعته هو تحليل هذه الكلمات باحثًا عن أفكار مشتركة، صنَّفتها إلى ١٢ فئة حتى الآن، تندرج تحت ٣ فئات عُليا: الكيفيات المحسوسة (تضم العواطف الإيجابية، والعواطف المتضاربة، والتجسد، والإدراك)، والعلاقات (الحب والنزعة الاجتماعية والعلاقة بالبيئة، والجماليات)، والتنمية (الشخصية والكفاءة والفهم والروحانية).43 رغم أنه لا يزال عملًا غير مكتمل، فإن المشروع يوحي بأن المفاهيم الغربية الحالية عن الرفاه غافلة عن أفكار ومنظورات مهمة لدى الثقافات الأخرى.

من ثَم فإن ذلك العمل يعكس الموجة الرابعة من الأبحاث العالَمية ويستلهم منها، مثل العديد من الجهود البحثية التي سنلقاها على مدار الكتاب. وتسعى الفصول التالية بفعلها ذلك إلى تقديم لقطة لمشهد عالَمي ديناميكي وسريع الحركة ومثير بحق، مستهلةً ذلك بأفكار معاصرة عن مبدأ السعادة نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤