الفصل الثامن

ماذا يرى الجمهور؟

كيف يميز العشرة في المائة الغثَّ من السمين

يمكنك العثور على أي شيء ترغب في معرفته عن تعهيد الأعمال للجماهير في شبكة فوكس التلفزيونية ليلتي الثلاثاء والأربعاء، هذا حين يضع برنامج «معبود أمريكا» — مسابقة الغناء التلفزيونية واسعة الشهرة التي تُبَثُّ عبر شاشات التلفزيون — أفضل (وأقل) المواهب الغنائية في الغناء العاطفي والأوبرالي والروك فوق خشبة مسرح عامة ويجعل الجمهور مسئولًا عن تحديد الأفضل. يجري آلاف المتسابقين تجارب أداء للبرنامج في كل موسم، وبعد أن تنتقي لجنة التحكيم التي تضم أشخاصًا مشهورين أفضل المواهب، يُصَوَّتُ للمواهب التي تأهلت للأدوار قبل النهائية إما بالتأييد أو بالاستبعاد عبر الرسائل النصية والمكالمات الهاتفية التي يجريها المشاهدون. يلخص برنامج «معبود أمريكا» بدقة، شأنه شأن شركة ثريدلس، أهم عنصرين في تعهيد الأعمال للجماهير؛ إذ يقدم الجمهور الموهبة الإبداعية جنبًا إلى جنب مع فطنة تصنيف تلك الموهبة.

لاقت أولى حلقات البرنامج في صيف عام ٢٠٠٠ تصنيفات ضعيفة، لكن الحلقات لم تعان الإهمال فترةً طويلة، فقد زاد عدد جمهور المشاهدين بثبات خلال الصيف؛ إذ شاهد الحلقة الأخيرة من البرنامج — التي تفوقت فيها كيلي كلاركسون على جاستن جواريني — ٢٣ مليون شخص، وهو جمهور لم يُسْمَعْ به من قبل لبرنامج صيفي. منذ ذلك الحين أصبح برنامج «معبود أمريكا» قوة تجارية ماحقة، مع عرض نسخ أخرى من البرنامج في ثلاثين دولة أخرى وعلى شاشات بعض من أهم القنوات الإعلانية التلفزيونية. لا تهتم الشبكات الأخرى بمحاولة منافسة البرنامج في الهيمنة على الجمهور خلال الليالي التي يُعْرَضُ فيها. يطلق فريق العمل بشبكة «إن بي سي» على برنامج «معبود أمريكا» «نجم الموت» وذلك لقدرته على محو أي منافسين محتملين. وفي الحلقة النهائية بالموسم السادس بلغ عدد الأصوات ٨٠ مليون صوت؛ أي تقريبًا نفس عدد الأصوات في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس عام ٢٠٠٦ في الولايات المتحدة.

أَذِنَ برنامج «معبود أمريكا» ببزوغ فجر عصر جديد،١ فلم يعد التصويت شيئًا نؤديه في الانتخابات كل عامين؛ بل صار شيئًا نؤديه كل بضعة أيام عبر الهاتف المحمول. لقد أصبح التصويت جزءًا من ثقافة الاستهلاك. لم يكن سايمون فولر أول رجل أعمال يستخدم التصويت في جذب الجمهور، بيد أنه كشف عن الرغبة الهائلة لدى الجمهور في ممارسة سيطرة أكبر على ما يمكن أن يُطْلَقُ عليه عامةً «العملية الإنتاجية». يتوفر لدى الناس الآن فرصة التصويت على أي شيء بدءًا من نكهة المقرمشات إلى غلاف هذا الكتاب وذلك في حال كنت تقرأ هذا الكتاب في المملكة المتحدة. إن ما يطبقه هذا البرنامج جزء من تحول السلطة الضئيل لكن الهام من المنتجين إلى المستهلكين.

من الواضح أن طرح مثل تلك القرارات للتصويت شكل من أشكال تعهيد الأعمال للجماهير، لكن الأهم من ذلك أن قدرة الجمهور على أداء دور أداة ترشيح أصبحت جزءًا لا يتجزأ من جهود تعهيد الأعمال للجماهير بدءًا من آي ستوك فوتو إلى اليوتيوب إلى مسابقة «أيديا ستورم» التي أطلقتها شركة ديل. بعبارة بسيطة، إن قدر الإسهامات التي يقدمها الجمهور هائل للغاية بدرجة يتعذر على أي شخص فرزها باستثناء الجمهور نفسه. على سبيل المثال، إذا بحثتُ على صور بموقع آي ستوك فوتو باستخدام كلمة مفتاحية للبحث هي «طبيب»، أحصل حينها على ما يزيد عن عشرة آلاف نتيجة. من الواضح أن آي ستوك لا تتوقع أن يتعامل عملاؤها مع آلاف الصور، فلحسن الحظ، رُتِّبَتْ بالفعل وفقًا «للتصنيفات» و«عدد مرات التنزيل»، ويمكن لأي مستخدم لموقع آي ستوك تصنيف أي صورة، ومع مرور الوقت تراكم آلاف من تلك التصنيفات، مما خلق ترتيبًا موثوقًا يسمح بوصول سهل لأفضل الصور بالموقع. إن «عدد مرات التنزيل» يقيس ببساطة الشعبية التجارية للصور الفردية، على غرار أي قائمة لأفضل الكتب مبيعًا. يخلق المقياسان معًا نظامًا فعالًا لتنظيم الأعداد الغفيرة للصور الفوتوغرافية والرسومات التوضيحية — التي يبلغ عددها مليونين وهو رقم يتغير باستمرار — بآي ستوك فوتو.

ليست آي ستوك شركة فريدة من نوعها في هذا الصدد، لكنها نموذج له؛ فموقع يوتيوب يعتمد على مزيج مماثل من «عدد مرات المشاهدة» (التي تقيس عدد الأشخاص الذين شاهدوا الفيديو) والتصنيفات. كذلك يسهم جمهور شبكة كارنت الإلكتروني في تحديد برامج الشبكة من خلال كل من التعليقات والتصويت الإلكتروني، حتى إن مشروع مراجعة النظراء لبراءات الاختراع — مشروع المراجعة الشعبية لبراءات الاختراع — يستخدم نظام تصنيفات لإبراز التعليقات الأنفع والأوثق صلةً بالموضوع في طلبات الحصول على براءة اختراع. إن هذه الخصائص حيلة أقل ذكاءً بكثير لجذب مجتمع مستخدمين (مع أنها تؤدي هذه الوظيفة بصورة رائعة) من آلية استمرار. لن يتمكن أبدًا حارس المبنى التقليدي — بعبارة أخرى موظف يتقاضى أجرًا — من معالجة وتصنيف ملايين الأغاني وأفلام الفيديو والأشعار وألعاب الفيديو وتصميمات المنتجات وبرامج العمل والصيغ العلمية التي تفيض بها الشبكات. إن الاهتمام الجماعي للجمهور وحده، واعتناقه الحماسي لنظام النجوم الخمس للتصنيف هو ما يمتلك القدرة — وهي الطاقة البشرية المطلقة — على خلق أداة ترشيح فعالة. فبدونه سيكون موقع يوتيوب شيئًا معقدًا غير مميز يحوي حيلًا للحيوانات المنزلية، وفي وجوده يمثل موقع يوتيوب أكبر تهديد لهوليوود منذ اختراع التلفزيون.

في واقع الأمر، إن أداة الترشيح الجماعية هذه تمثل قوة عاتية تُسْتَخْدَمُ فيها القرارات الجماعية، التي يضعها ملايين من مستخدمي الإنترنت، لخلق نظام تصنيف شامل يحكم الكميات الهائلة من المعلومات المتاحة على الشبكة العنكبوتية العالمية. هذا الأمر قد يأخذ شكل مواقع «إعلامية اجتماعية» على غرار موقع ديج Digg.com، حيث يصوت المستخدمون لاختيار أفضل القصص الإخبارية اليومية الجديرة بالاهتمام، أو شكل «الفهرسة الجماعية» الصاعدة، التي يطبق من خلالها المستخدمون «علامات» أو كلمات مفتاحية، على المعلومات التي يصادفونها على الإنترنت، وينشئون بهذه الطريقة تصنيفًا علميًّا قائمًا على تعهيد الأعمال للجماهير. المبدأ لم يتغير هنا: يتجاوز قدر المواد المتاحة على الإنترنت بدرجة كبيرة قدرة أي فرد على تصنيفه وترتيبه، فالجمهور يمثل كلًّا من مصدر المعلومات والقوة التي تقف وراء تنظيمه.

يرتبط تعهيد الأعمال للجماهير بالكم: وهو مدين في حد ذاته إلى قاعدة بديهية للمحتوى الذي ينتجه المستخدم تدعى قانون سترجيون، وتقضي هذه القاعدة بأن تسعين في المائة من أي شيء (لا سيما المحتوى الذي ينتجه المستخدم) هو بإيجاز لا معنى له. كان ثيودور سترجيون مؤلف قصص خيال علمي يحظى بالتقدير والإعجاب، وقد وضع نظريته بعد «عشرين عامًا من الدفاع المرهق عن الخيال العلمي ضد انتقادات الأشخاص الذين يستخدمون أسوأ الأمثلة بالمجال بوصفها براهين لدعم حجتهم.» استنتج سترجيون أنه في حين أنه من المؤكد أن تسعين في المائة من قصص الخيال العلمي لا تستحق حتى الورق الذي طُبِعَتْ عليه، يمكن أن تنطبق هذه القاعدة نفسها على كافة الأشياء الأخرى. توفي سترجيون عام ١٩٨٥، لكن من الواضح أنه توقع ظهور ثورة اليوتيوب.

لا شك أن الوجه الآخر من قانون سترجيون هو أن عشرة في المائة من كافة الأشياء «ليست» هراء. وفي حالة البث التدويني الجماهيري — على سبيل المثال — إذا كنت تبث مشكلة، فإن احتمالات العثور على حل تزداد جنبًا إلى جنب مع حجم المجموعة التي تعرض المشكلة عليها. تنطبق هذه المعادلة الرياضية البسيطة بالمثل في تعهيد الأعمال الإبداعية للجمهور؛ إذ كلما ازداد عدد الاقتراحات المرسلة، ازدادت معها احتمالات أن تكون قيمة (أو يمكن تسويقها أو ببساطة قابلة للتطبيق). يثير هذا بالطبع مشكلة غربلة الجيد من الرديء، هل ترغب في فرز عشرة آلاف صورة للأطباء؟ بالطبع لا؛ فمن يرغب في ذلك؟ لكن مع توزيع تلك المهمة على مجموعة كاملة من الأشخاص الذين يزورون موقع شركة آي ستوك فوتو — المطلوب منهم ببساطة تصنيف الصور التي تقابلهم — تصبح المهمة ليست ممكنة التنفيذ فحسب، بل ممتعة نوعًا ما.

هذا يقودنا إلى قاعدة أخرى صاعدة للإعلام القائم على المشاركة، وهي قاعدة ٨٩:١٠:١، التي تفيد بأنه لكل مائة شخص بموقع ما يبتكر من بينهم فرد واحد في واقع الأمر شيئًا، وعشرة في المائة منهم سيصوتون على ما ابتكره ذلك الفرد، والتسعة والثمانون في المائة الآخرون سيستهلكون ذلك الابتكار فحسب (يشار إلى هذه القاعدة أحيانًا بقاعدة ٩٠:٩:١ أيضًا، مع أن المبدأ لا يتغير). نادرًا ما تكون الأرقام اعتباطية؛ فقد اقترح برادلي هورويتز، نائب رئيس قسم التطورات المتقدمة بشركة ياهو، قاعدة ٨٩:١٠:١ بعد أن لاحظ وجود بعض الموضوعات الرئيسية الشائعة في الطرق التي يستخدم بها الناس «مجموعات الياهو» وموقع مشاركة الصور فليكرز (الذي استحوذت عليه شركة ياهو في مارس (آذار) عام ٢٠٠٥) والويكيبديا (لاحظ جيمي ويلز، مؤسس ويكيبديا أن نصف كافة التعديلات المضافة إلى موسوعة إلكترونية يصنعه ٢٫٥ في المائة من كافة المستخدمين فحسب). كان إدراك هورويتز المستنير «أننا لا نحتاج إلى تحويل المائة في المائة من الجمهور إلى مشاركين «نشطين» للحصول على منتج مزدهر يقدم فائدة لعشرة ملايين مستخدم.» إضافة إلى ذلك، كتب هورويتز أن نشاط العشرة في المائة — الذين يصوتون على المرسلات ويقيمونها، والذين يبدءون المناقشات الإلكترونية ويشاركون فيها وبوجه عام يسهمون في تنظيم الموقع ومسح المحتوى العدواني أو غير الضروري — هو على نفس القدر من أهمية أفعال «أنشط المشاركين» الذين يشكلون الواحد في المائة لأي مجتمع إلكتروني، «كان فعل الاستهلاك في حد ذاته ابتكارًا.»٢

خصصت الفصل السابق للحديث عما يفعله الواحد في المائة، أما هذا الفصل فأفحص فيه دور فئة من المشاركين على القدر نفسه من الحيوية، وهي فئة العشرة في المائة. لا يستطيع الجميع تصميم تي شيرت يكون ممتعًا ومبهجًا ويحمل دلالات ثقافية من المرة الأولى، كما لا يمتلك الجميع صوتًا عذبًا، لكنك لست مضطرًا لأن تكون مصممًا موهوبًا أو مطربًا بالفطرة لتمييز تلك السمات، ولهذا السبب يبلغ عدد مجتمع ثريدلس الإلكتروني مئات الآلاف وليس عشرات الآلاف. من الواضح أن شعبية برنامج «معبود أمريكا» تمتد إلى ما وراء المؤدين الطموحين كثيرًا. يقتضي الأمر وجود الكتلة الحرجة من الأشخاص لتقديم مساهمات كافية لتضمن أن جزءًا معينًا منها جدير بالاستخدام، لكن من الأهمية بمكان بالمثل بناء نوع آخر من الكتلة الحرجة من الأشخاص وهي مجتمع نشط من المصوتين الذين سيبذلون الجهد بحماسة للكشف عن بضع ماسات ثمينة.

(١) هل ستصدق هذا؟

هناك ميزة أخرى لوجود ١٠٪ من المجتمع الإلكتروني يتفاعل مع الموقع بنشاط. يتلقى موقع شركة ثريدلس مئات التصميمات أسبوعيًّا، لا يُطْبَعُ على التي شيرتات ويُباع للمستهلكين سوى حفنة قليلة منها. منذ تأسيس الشركة عام ٢٠٠٠ حققت ثريدلس نجاحًا باهرًا في أحد أخطر الأسواق المحتملة، وهي السوق التي تسيطر عليها أذواق شريحة شبابية تشتهر بتقلباتها المزاجية. تتميز منتجات ثريدلس بأن فيها المتميز وفيها الضعيف، وهي بذلك تتبع النوع نفسه من التوزيع القائم على قانون الاستطاعة الذي شاهدناه في مجال الموسيقى، والذي تعوض فيه بضعةُ نجاحات آلافَ الإخفاقات. مع ذلك لم تقابل شركة ثريدلس أي إخفاقات؛ فقد باعت كل الكميات من التي شيرتات التي أنتجتها.

كيف؟ تفهم شركة ثريدلس أن التصويت أمر «ممتع»، وبإتاحتها فرصة تحديد مخزون سلعها أمام عملائها، تخدم بذلك المجتمع على نحو جوهري، الذي مثل حافز الشركة حين تأسست. لكن كما أوضح كل من فرانك تي بيلر أستاذ الإدارة بكلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وسوسومو أوجاوا، الأستاذ بجامعة كاوبي في بحث نشر عام ٢٠٠٦، أن ثريدلس تقوم بشيء أذكى من تقديم وسيلة للتعبير فقط عن الرأي في العملية الإنتاجية للمجتمع الإلكتروني، وكتبا: «في واقع الأمر، تطبق ثريدلس استراتيجية تحول أبحاث السوق إلى مبيعات سريعة، وتخضع كافة المنتجات التي تبيعها ثريدلس إلى فحص وتصديق المستخدمين بإجماع الآراء قبل ضخ أي استثمارات أكبر في المنتج الجديد.»٣ تتيح شركة ثريدلس لمستخدميها تصنيف تصميمات التي شيرتات من واحد إلى خمسة، ويسمح لهم أيضًا بوضع علامة في مربع عبارة «قد أشتريه» المجاور للتصنيف. يطلق بيلر وأوجاوا على هذه الاستراتيجية «الالتزام الجماعي للعملاء»، وهي طريقة نافعة لفحص الفوائد المزدوجة لتقديم وسيلة للعملاء للتعبير عن آرائهم، فهم سعداء بالمشاركة في الأمر، ومن جانبك تعرف عدد المنتجات التي عليك صنعها. إن تميز نموذج شركة ثريدلس — الذي يتمكن في إطاره المستخدمون تقديم تصميمات للتي شيرت والتصويت على الفائز — هو أن الشركة لا تحصل فحسب على متطوعين افتراضيين لتصميم تي شيرتاتها، بل تعرف في الوقت نفسه مقدار الطلب على كل تي شيرت تنتجه، وليس من الغريب إذن أنها تبيع الكمية كاملة لكل تي شيرت تنتجه.

إنها خطوة تطورية طبيعية من عدة زوايا؛ فإذا كان العميل على حق دائمًا، فلماذا لا نقدم له أدوات أفضل للتعبير عن تفضيلاته؟ إننا ننعم الآن بتكنولوجيا قادرة على تحديد ما يريده العميل بدقة ويسر كبيرين. كذا أصبحت الفائدة التي يجنيها المصنع أو بائع التجزئة أو مزود الخدمة واضحة أيضًا: كلما فهمت طلب العميل أفضل، وفرت له طلبه على نحو أفضل. يمكن للمرء النظر إلى آليات تصويت الجمهور على أنها بحث سوقي ضخم، فلماذا تدفع مالًا لجلب مجموعات بحث باهظة التكلفة وتتطلب جهدًا شاقًّا وفي النهاية تأتي بنتائج مشكوك فيها في حين أنه يوجد قطاع أعرض من المستخدمين الذين سينقلون تفضيلاتهم بدقة أكبر كثيرًا عبر الإنترنت بكل سرور؟

في ضوء ما سبق، لم تكن أدهى خطط سايمون فولر عند إطلاق برنامج «معبود أمريكا» ترسيخ نظام التصويت الجماهيري، بل كان في الطلب من كل متسابق التوقيع على عقد يشترط أن تمثله الشركة الإدارية التي يتبعها فولر، وهي شركة ١٩ إنترتينمنت. سايمون كاول، حَكَم معروف بقسوته، يعمل لدى شركة سوني بي إم جي للإنتاج الفني التي تطبق شرطًا مشابهًا يقضي بتوقيع كل متسابق على عقد تسجيل. يربح الفائز في كل موسم عقدًا بمليون دولار جائزةً كبرى، لكن الفائزين الحقيقيين هما شركتا سوني بي إم جي و١٩ إنترتينمنت. حققت أول أغنية فردية أطلقتها الفائزة بالمسابقة — «لحظة كهذه» لكيلي كلاركسون — أكبر قفزة في تاريخ تصنيف بيلبورد عندما قفزت من رقم اثنين وخمسين إلى رقم واحد في قوائم أغاني البوب الأمريكية في أسبوع واحد، محطمةً بذلك الرقم القياسي لفريق البيتلز.

أثبت الفائزون التالون أنهم على نفس القدر من النجاح، وقدر كاول أن شركة سوني بي إم جي باعت ما يقرب من مائة مليون ألبوم لمتسابقي برنامج «معبود أمريكا» وحده، فيما باعت الشركة لكلاركسون وكاري أندروود — وهي فائزة أخرى بالبرنامج — ٢٠ مليون نسخة. ذكر كاول في حوار له ببرنامج «ستون دقيقة» في مارس (آذار) عام ٢٠٠٧ أن «اهتمامه الوحيد بمسابقة «معبود أمريكا» كان باعتباره وسيلة لإطلاق ألبومات غنائية.» إنها استراتيجية بارعة؛ فلا يلعب البرنامج دور قناة ترويجية فحسب — مع تحقيقه عدد مشاهدين يأتي بين أكبر أعداد المشاهدين الدائمين في تاريخ التلفزيون — بل يقدم التصويت أيضًا لكاول وفولر وغيرهم من المسئولين الفنيين بشركتي ١٩ إنترتينمنت وسوني بي إم جي مقياسًا مثاليًّا لطلب المستهلك للمواهب الغنائية. في ضوء ما سبق، لا يعد برنامج «معبود أمريكا» برنامجًا تلفزيونيًّا، بل يمثل أضخم مجموعة دراسة في التاريخ. إن الاستهلاك هو النتيجة المنطقية لعملية تعهيد الأعمال للجماهير، والمصوتون هم ببساطة العملاء الذين لم يفتحوا محافظهم بعد.

لم تهمل باقي الشركات بأمريكا هذا المنطق الجذاب والمُرْبِك في الوقت نفسه. كانت شركة فريتو لاي تستكشف بدأب أشكالًا عديدةً من تعهيد الأعمال للجماهير؛ إذ استغلت الجمهور عمليًّا في اقتراح أسماء نكهات جديدة، إلى جانب اختيار أي من هذه النكهات ينبغي أن يدخل في إنتاج طويل المدى. في عام ٢٠٠٦ عقدت الشركة مسابقة لعمل إعلانات تلفزيونية جديدة لمنتج دوريتوس التابع لها، ثم طلبت من زوار الموقع اختيار أفضل مقطع فيديو من بين خمسة مقاطع اختارتها شركة فريتو لاي. عرض الفيديو الأكثر شعبية — الذي يصور فأرًا ضخمًا بحجم إنسان يخترق جدارًا بعنف ليصل إلى مقرمشات دوريتوس بنكهة الجبن — في نهائي «سوبر بول» عام ٢٠٠٧، أما في نهائي «سوبر بول» عام ٢٠٠٨ فبثت الشركة مقطع فيديو مدته ستون ثانية للمغنية ومؤلفة الأغاني كينا جرانيس البالغة من العمر اثنين وعشرين عامًا، التي اعتلى الفيديو الخاص بها قمة السباق من بين عدة مشاركات. وفي وقت إرسال هذا الكتاب إلى الطباعة، هناك ما لا يقل عن سبع عشرة مسابقة على موقع يوتيوب لتصميم إعلانات لكل شيء، بدءً من شفرات حلاقة ماركة شيك إلى شيء بعيد الاحتمال قليلًا وهو برامج تيربو تاكس.

تتبع هذه الأساليب معادلة آخذة في الانتشار: سل الجمهور أن يُحَمِّلَ فيديو يوضح شغفه بالمنتج، وقدم جائزة كبرى تقدر بعدة آلاف دولار، وبالطبع خمس عشرة دقيقة من الشهرة، ثم اطلب بعد ذلك من الآخرين التصويت لاختيار الفائز. تُبْدِي شركة شيك في مسابقتها الحالية مدى إيمانها بأهمية عملية التصويت في الدعاية العامة: «ألا ترغب في تحميل فيديو، أم أنت مهتم فقط بمشاهدة المقاطع المرسلة؟ ساعدنا إذن في اختيار من سينتقل إلى النهائيات من خلال تصنيفك لمقاطع الفيديو وفقًا لمستوى إبداعها «التجريبي». ستدرج الخمسين في المائة من مقاطع الفيديو التي حصدت العدد الأكبر من الأصوات ضمن التصفيات النهائية!» وعادة ما يحتفظ الراعي بسلطة مطلقة في شأن تحديد أي مقطع فيديو سيظهر بالتلفزيون.

كذلك لا تقتصر هذه الدعاية الترويجية على تصميم إعلانات تجارية فحسب؛ ففي أكتوبر (تشرين الأول) عام ٢٠٠٧ أطلقت شركة إنتل مشروع «برمجيات رائعة»، يسمح الموقع للأشخاص بتقديم وصف لشركات البرمجيات المبتدئة التي لفتت انتباههم، ويصوت باقي أفراد مجتمع «برمجيات رائعة» على الشركات، وتظهر الشركات التي تحصل على أعلى عدد أصوات في الصفحة الأمامية. حتى هذه اللحظة، تضمنت أكثر البرامج شعبية خدمة ويب تتيح للمستخدم تحويل مخططات المباني ببرنامج جوجل إيرث إلى مبانٍ ثلاثية الأبعاد، إلى جانب تطبيق يحول العروض التوضيحية ببرنامج باور بوينت إلى صفحات ويب. من المؤكد أن شركة إنتل لا تفعل هذا الأمر لجذب الزوار إلى موقعها (رغم أن ذلك ميزة إضافية) أو لإيجاد شعبية لها في أوساط مجتمع المهتمين بأحدث التطورات التكنولوجية على الويب (رغم أن ذلك نتيجة ثانوية مرغوبة بالتأكيد)، بل تحاول شركة إنتل اكتشاف فرص النمو أمام منتجاتها. قال بوب أودونيل المحلل بشركة أبحاث آي دي سي: «إن الأجهزة لا تهم في هذه المرحلة»،٤ كما أضاف أن كافة الأجهزة المحمولة المبتكرة حديثًا ستحتاج إلى رقاقات، وشركة إنتل تؤمن بشدة بقدرة الجمهور على تحديد أي من هذه الأجهزة مصيره النجاح وأي منها مصيره الإلقاء في سلة المهملات التكنولوجية المكتظة بالفعل.

بالطبع ما كان بوسعي نشر هذا الكتاب المتعلق بتعهيد الأعمال للجماهير دون ممارسة التعهيد بنفسي. ففي ديسمبر (كانون الأول) الماضي تعاونت مؤسسة راندم هاوس يو كيه للنشر وشركة آبت للتصميمات التي تتخذ من لندن مقرًّا لها لتعهيد تصميم الغلاف الورقي للجماهير وذلك في الطبعة البريطانية لكتاب «الجماهير بين المشاركة والإبداع». وبالتوافق مع النمط المتبع، لم يرسل الجمهور التصميمات فحسب بل صوت أيضًا لاختيار التصميم الفائز، أو بالأحرى، أُحْصِيَتْ الأصوات لإعداد قائمة قصيرة بعشرين تصميمًا، اختير التصميم الفائز من بينها. إن مثل هذه التجربة — أطلقت عليها دار «راندم هاوس يو كيه» اسم «تعهيد تصميم الغلاف للجماهير» وهو الاسم الملائم — نادرة في عالم نشر الكتب الذي يتسم عامةً بالتحفظ، كما أنها أدت الغاية الأساسية المرجوة منها — تصميم غلاف بارع وجذاب — بروعة. أُرسل ما يزيد عن ثلاثمائة تصميم، وبلغ عدد الأصوات عشرين ألف صوت. من خلال فتح عملية التصميم أمام الجمهور، استشففنا درجة ملحوظة من القدرة على الابتكار والأصالة نادرًا ما نجدها واضحة على أرفف محلات بيع الكتب الضخمة المحلية. لقد برهن الجمهور في الأغلب على فطنته في الحكم بتصويته على أفضل المقترحات واعتبارها ضمن أفضل عشرين تصميمًا.

(٢) التصويت بالنص التشعبي

في الأعوام العشرة الأخيرة، زادت المعلومات المتاحة عبر الإنترنت منذ ذلك الحين بمعدل سريع للغاية؛ فيوجد الآن ما يقرب من ١٥ مليار صفحة ويب، ناهيك عن الصور والموسيقى والفيديو وغير ذلك من أشكال الوسائل الإعلامية التي انتشرت بإفراط على الإنترنت. وفي واقع الأمر، نمى هذا البحر الزاخر بالمعلومات للغاية إلى حد جعل من مهمة فرز المحتويات وتنظيمها الشغل الشاغل لبعض من أبرع العقول في مجال علوم الكمبيوتر، فهي مهمة ذات ضرورة ملحة للشركات التي تعتمد على قدرتها على خلق النظام من الفوضى التي يحدثها اختيار لا محدود تقريبًا.

لا يزال تعهيد الأعمال للجماهير ظاهرة ناشئة في العموم، ومع ذلك أصبح تعهيد الأعمال للجماهير بالفعل قوة مهيمنة في ثقافتنا وهذا جانب مهم فيه. إن قدرة الجمهور على أداء دور أداة الترشيح يجعل من وجود شركة على غرار آي ستوك فوتو أو مشروع فريتو لاي الدعائي في نهائي سوبر بول أمرًا ممكنًا. لكن المبدأ نفسه ينطبق على نطاق أضخم كثيرًا وهو أن رأينا الجماعي هو القوة الأساسية عمليًّا في تنظيم محتوى الويب، أكبر مخزن معروف للمعلومات. والمحرك الذي يجعل كل ذلك ممكنًا؟ إنه محرك جوجل.

نقل محرك جوجل البحثي سلطة تحديد أهمية المعلومات — سواء أكانت في مقال صحفي أم كتابة موضوع في مدونة — إلى أيادي الجماهير. هذا يشير إلى تحول مثير للطريقة التي اعتاد بها الناس استخدام الويب؛ فقبل ظهور محرك جوجل، كان الخبراء لا الجمهور من يقرر ما يستحق الانتباه. لم يكن في نية سيرجي برين ولاري بيدج مؤسسا جوجل هدم مملكة الخبراء. في حقيقة الأمر، عندما كان الاثنان لا يزالان طالبين بالدراسات العليا بجامعة ستانفورد يعملان على نظام للحلول الحسابية سيصبح فيما بعد النواة الأساسية لتقنية بحث جوجل، استمدا إلهامهما من نظام الحواشي والاستشهاد المستخدم في النشر الأكاديمي.٥

أدت المجلات العلمية المتخصصة وظيفة أخرى بخلاف نشر التطورات العملية في مجالات على غرار الأنثروبولوجيا الطبيعية والكيمياء العضوية؛ إذ إنها الوسائل التي يضمن بها الأساتذة الجامعيون شغل منصبهم الوظيفي وتعزيز مكانتهم بين زملائهم. فعند كتابة مقال للنشر، يبني الأستاذ الجامعي فكرته التي يجادل بصحتها بعناية من خلال الاستشهاد بالمواد المطبوعة في المجال، كما يفعل المحامي عندما يعزز من موقف قضية ما من خلال الاستشهاد بحادثة سابقة مماثلة عند كتابته مرافعة قانونية. تعج المجلات العلمية المتخصصة الواحدة باستشهادات مرجعية من أبحاث علمية أخرى، وتشكل المنشورات الأكاديمية إجمالًا شبكتها الخاصة من الاستشهادات المرجعية.

ابتكر عالم لغوي أمريكي يدعى يوجين جارفيلد في الخمسينيات منهجًا لتحديد الأهمية النسبية لبحث معين. يتضمن تحليل الاستشهادات المرجعية — كما عُرِفَ هذا المنهج فيما بعد — إحصاء عدد مرات استشهاد أبحاث أخرى ببحث ما؛ من ثم، يأتي مقال أينشتاين الشهير الذي نشر عام ١٩٠٥ والذي يقدم فيه نظريته حول النسبية كخامس «أهم» بحث نُشِرَ قبل عام ١٩٣٠؛ إذ استُشهد به أربعمائة وخمسين مرة.

ظهر التقدم الهام الذي أحدثه لاري بيدج في إدراك أن الرابط التشعبي في حقيقة الأمر ليس سوى استشهاد والويب نفسه عبارة عن مجموعة أدبية كاملة يتصل بعضها ببعض بشدة لا تختلف عن تلك التي نتجت عن عقود من النشر الأكاديمي؛ فمثلما سيستشهد أستاذ جامعي ببحث أينشتاين «الديناميكا الكهربية للأجسام المتحركة»، قد يستشهد الموقع المعني بالطعام تشاوهاوند Chowhound.com بكتاب مارك بيتمان «أفضل وصفات الطعام في العالم» في مقال حول طبق سيفيتشي. لا شك أن المثال الأول قد يتضمن الحديث عن الفيزياء الكونية والآخر عن تحضير سمك نيئ، لكن وفقًا للديناميكيات النصية، فإن أوجه الصلة بين الاثنين متطابقة.

تبدو هذه الملاحظة — أن الرابط في جوهره استشهاد مكتوب بصيغة النص التشعبي — ملاحظة عادية عند إعادة النظر إلى تلك الفترة الزمنية، إلا أنها كانت ملاحظة رائعة في ذلك الوقت. في عام ١٩٩٥ كان قد مضى على ظهور الويب عام واحد فحسب، وكانت «محركات البحث» في طور البداية. في ذلك الوقت لم يكن محرك ياهو — الذي أصبح الآن أحد أشهر المواقع على الويب — سوى دليل للمواقع التي ينشئها مؤسسا ياهو جيري يانج وديفيد فيلو. صنف فيلو ويانج والموظفون التابعون لهم محتويات الإنترنت بأنفسهم، وليس من خلال الأفعال المستقلة للمستخدمين الجماعيين للويب (أضاف موقع ياهو وظيفة بحثية منفصلة في أواخر عام ١٩٩٥). أما محركات البحث الأخرى على غرار آلتا فستا فكانت تعمل من خلال إرسال «عناكب» تزحف عبر الإنترنت وترسل قوائم من صفحات الويب، التي تنظم فيما بعد، إلى فهرس مركزي، لكن لم يكن هناك طريقة فعالة لتصنيف النتائج وفقًا لارتباطها بالموضوع وأهميتها. فإذا كان شخص ما يبحث عن «النفايات السامة»، فمن المحتمل أن يجد صفحة خاصة بالحديث عن فرقة بانك أيرلندية مجهولة تحمل ذلك الاسم جنبًا إلى جنب مع قوائم «وكالة حماية البيئة» للمواقع السامة في الولايات المتحدة، ولم تسهم هذه التكنولوجيا كثيرًا في تحجيم الفوضى التي صارت سمة أساسية للإنترنت.

تأسست شركة جوجل رسميًّا في سبتمبر (أيلول) عام ١٩٩٨، واستخدمت الشركة نظام الحلول الحسابية الذي توصل إليه المؤسسان (أُطْلِقَ على هذا النظام «بيدج رانك» — أو ترتيب الصفحة — وهو تلاعب لفظي بارع للاسم الأخير للاري بيدج) الذي فعل بالدرجة الأولى في الويب ما فعله جارفيلد في مجال النشر الأكاديمي. كان نظام الحلول الحسابية «ترتيب الصفحة» يقرر مدى علاقة الموقع بالموضوع وأهميته من خلال إحصاء عدد المواقع التي تتضمن روابط له، إضافة إلى عدد المواقع التي تتضمن روابط «لتلك» المواقع. لنقل — على سبيل البرهنة — إن لكل من صفحة «وكالة الحماية البيئية» الخاصة بالنفايات السامة وصفحة معجبي فرقة «النفايات السامة» عشرة روابط، لكن الروابط المؤدية إلى صفحة «وكالة الحماية البيئية» موجودة بمواقع العديد من الجامعات والعديد من الصحف والصفحة الرئيسية لسناتور ما، وجميع هذه المواقع بدورها لها روابط بمئات المواقع الأصغر. يحدد الرقم الإجمالي للروابط في هذه الشبكة الممتدة ترتيب الصفحة الخاص بالموقع، أو موقعه بين التصنيفات. في هذه الحالة، تتفوق الصفحة الخاصة بوكالة الحماية البيئية كثيرًا على صفحة المعجبين الخاصة بالفرقة الغنائية، التي يؤدي إليها عدد من الروابط من مواقع مجهولة مثل هذه الصفحة تمامًا. تتضمن خاصية «ترتيب الصفحة» متغيرات أخرى أيضًا — تُقَدَّرُ بما يزيد عن المائتين وفقًا لجون باتيل في كتاب «البحث: كيف أعادت جوجل ومنافسوها كتابة قواعد الأعمال وحولت ثقافتنا» — لكن يبقى مقياس الروابط هو العنصر الرئيسيّ. كانت وظيفة جوجل البحثية فعالة للغاية في تحديد مدى صلة الموقع بالموضوع — الشرط الضروري لمحرك البحث الفعال — حتى إن الموقع أصبح سريعًا الجهة المهيمنة في مجال البحث على الويب.

ما أثبتته جوجل أن القرارات الفردية للأشخاص، عند جمعها بصورة صحيحة، قادرة على تنظيم كم هائل يصعب التحكم فيه من المعلومات، وتجلت قوة صنع القرار الجماعي لدى الجماهير في صورة الروابط التي وصفها بيدج وبرين في بحثهما الأكاديمي الأساسي ﺑ «الأصوات». بالاعتماد على الأفعال غير المنسقة لملايين الأفراد — بدلًا من الخبراء — في تصنيف المحتويات على الإنترنت وترتيبها، قلبت جوجل بمفردها تقريبًا قرونًا من الحكمة التقليدية رأسًا على عقب.

تكمن روعة نظام جوجل في أنه لا يتطلب أي جهد إضافي من جانب المستخدمين الفرديين؛ فالجمهور يعبر عن حكمه كجزء من سلوكه الطبيعي، وفي غضون ذلك، تصبح تصرفاته المجمعة قاعدة بيانات معرفية في حد ذاتها، كذا لا تضطر جوجل إلى تعيين أفراد لقراءة الخمسة عشر مليار صفحة ويب وتحليلها، فالجمهور يفعل كل ذلك وحده.

في حين أن نظام ترتيب الصفحة قد يكون النظام الأوسع انتشارًا في استخدام القرارات الجماعية للجمهور كآلية تنظيمية، فهو ليس التطبيق الوحيد للفكرة، فموقعا أمازون ونتفليكس يستخدمان البيانات التي ينتجها الجمهور لترشيح كتب وأفلام لعملائهما، والمصطلح الحالي لهذه العملية هو «عملية الترشيح التعاوني»، إلا أنها عملية عتيقة الطراز. كتب مؤلفو كتاب «التسويق بالتداول عبر الإنترنت: القوة التسويقية للترشيح التعاوني»: «عملية الترشيح التعاوني في جوهرها هي أي آلية يتسنى لأفراد مجتمع ما بواسطتها التعاون معًا لتحديد الغث من السمين.» أو بصورة أدق، ما له علاقة بالموضوع وما ليس له علاقة من وجهة نظر الفرد. تسمح لنا أجهزة الكمبيوتر ببساطة بأداء هذه المهمة بقدر أضخم كثيرًا من المعلومات ولعدد أضخم كثيرًا من المستخدمين.

تطورت أول أداة ترشيح تعاونية إلكترونية على يد شركة زيروكس بارك،٦ وهي معمل أبحاث الكمبيوتر بكاليفورنيا الذي كان وراء العديد من الابتكارات على غرار الفأرة وطابعة الليزر. في أوائل التسعينيات، كان منتدى الرسائل الافتراضي، يوزنت، واسع الاستخدام بين الباحثين بمختبرات بارك، الذين كانوا يعتمدون على مقالات موقع يوزنت للتعرف على أحدث المستجدات في مجالهم. كانت تُرْسَلُ المقالات عبر البريد الإلكتروني، مما أدى إلى ضرر يصيب الآن كل من يمتلك حساب بريد إلكتروني، ألا وهو اكتظاظ صندوق الوارد. في عام ١٩٩٢ أنشأ أربعة علماء من مركز أبحاث بارك نظامًا أطلقوا عليه «تابستري» يتيح للقراء إضافة تعليق إلى كل وثيقة، أو ببساطة إضافة علامة «أحبه» أو «لا أحبه»، ونتيجة لذلك، يمكن لمستلمي البريد الإلكتروني ترشيح آلاف الرسائل والمقالات الواردة عن طريق الطلب من الخادم إرسال تلك الرسائل والمقالات ذات التعليقات الإيجابية.٧
لكن كان مشروع تابستري محدود المدى؛ إذا كان مقصورًا على الموظفين بمركز أبحاث بارك. وبعد مرور بضعة أعوام أصدرت مجموعة من علماء الحاسب الآلي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعات أخرى نظام «جروب لِنز»، الذي صنف أيضًا مقالات شبكة يوزنت. طور النظام من نظام «تابستري» من عدة أوجه؛ إذ يمكن لأي فرد استخدامه؛ مما يعني أن النظام ستتوفر له إمكانية الوصول إلى قدر أكبر من البيانات أكثر من نظام «تابستري». اعتمد النظام في عمله على تحليل التصنيفات العددية التي يحددها القراء للمقالات العديدة المنشورة، ثم وضع المستخدمين ذوي الميول المشتركة في مجموعات معًا، بافتراض أنه إذا اتفقوا في الماضي فمن الممكن أن يتفقوا في المستقبل. في عام ١٩٩٥ استخدم معمل الوسائط المتعددة التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا هذه التقنية في مجال الموسيقى عندما أطلق موقع هيلبفُل أونلاين ميوزيك ريكومنديشن Helpful Online Music Recommendation، وأعاد المعهد تسمية الموقع سريعًا إلى فاير فلاي Firefly، وجلب مستثمرين بأمل بيع تقنية الترشيح التعاوني إلى شركات أخرى. جذب موقع فاير فلاي — الذي استحوذت عليه في النهاية شركة مايكروسوفت وأغلقته — مجتمعًا متفانيًا من محبي الموسيقى، وألهم محركات ترشيح موسيقية أخرى، على غرار الخدمة الإلكترونية الرائجة لاست دوت إف إم.

لكن يعود الفضل إلى شركة أمازون لبيع الكتب الإلكترونية العملاقة في نشر أدوات الترشيح التعاوني. استهدف ابتكارُ شركة أمازون تحليلَ الصلات بين العناصر بدلًا من المستخدمين، بعبارة أخرى، يمكن لشركة أمازون — من خلال تتبع ما يشتريه كل عميل بعناية — استخدام القدر الهائل من البيانات الناتجة عن ذلك في استنتاج أوجه صلة بين كتاب السيرة الذاتية لرالف إليسون التي كتبها أرنولد رامبرساد، ورواية «الحياة القصيرة الرائعة لأوسكار واو» لجونو دياز. ليس هناك أي رابط مشترك بين الكتابين، ومع ذلك من يشتري أحدهما يشتري الآخر، لماذا؟ لا تقدم شركة أمازون أي تخمينات، فهي ليست بحاجة إلى ذلك، فقد وجدت أن مجرد إبراز العلاقة بين الاثنين، يحرك عجلة المبيعات. برهنت ترشيحات أمازون على فاعليتها الشديدة حتى إن عددًا كبيرًا من المواقع تبنى نظمًا مشابهة.

مع أن أدوات الترشيح التعاونية تشير في العموم إلى نظم ترشيحات على غرار ذلك النظام الذي تستخدمه شركة أمازون، فهي تقدم سياقًا مفيدًا نفحص في إطاره كيف تُستخدم التفضيلات العامة للجمهور من حولنا كل يوم. تندرج آليات القرار الجماعي هذه ضمن فئتين إما إيجابية أو سلبية. تستخدم أمازون أداة ترشيح سلبية، وذلك لأنها تستخدم بيانات لا تتعدى كونها نتيجة ثانوية لمشتريات العملاء التي تتم عبر موقع الشركة. تأخذ عملية الترشيح السلبية البيانات التي نولدها ببساطة عن طريق التعامل مع حياتنا العصرية الرقمية، على غرار إضافة روابط إلى مدوناتنا، ومشاهدة فيديو على موقع يوتيوب، وشراء سلطانية طهو من موقع ويليامز سونوما Williams-Sonoma.com وتستخدم هذا الأمر في تنظيم المعلومات بطريقة هادفة.

على النقيض من ذلك، كان نظام بارك التجريبي أداة ترشيح إيجابية، وذلك لأنه اعتمد في تقنيته على الأفعال الواعية للمستخدمين الذين يصنفون مادة بين أيديهم. كذا استخدم نظام شركة نتفليكس أداة ترشيح إيجابية، مع أن الشركة لها نفس هدف شركة أمازون وهو بيع (أو إيجار في حالة نتفليكس) منتجات أكثر من خلال خيارات ترشيحية أُعِدَّتْ خصيصًا لملاءمة الميول الخاصة لكل مستخدم. لكن في حين أن شركة أمازون بنت أداة الترشيح التعاونية الخاصة بها على أساس أنماط شرائية لعملائها، اعتمدت شركة نتفليكس على أعضائها في تصنيف الأفلام التي يشاهدونها في سبيل تشغيل نظام الترشيحات الخاص بها «سينيماتك». بالمثل، يعتمد نظام التصنيف الذي يتبعه موقع إي باي على المشترين في تصنيف البائعين وفقًا لإمكانية الاعتماد عليهم ومصداقيتهم.

في الآونة الأخيرة، امتدت أدوات الترشيح الجماهيرية إلى مجالات أبعد من تقنيات البحث والتجارة عبر الإنترنت؛ فمثلما أنشأ أمناء المكتبات في السابق فهارس لتنظيم محتويات المكتبات تقوم على الموضوع، تتزايد فهرسة مستخدمي الويب لكل من المحتوى الذي ينشئونه ويستهلكونه باستخدام «علامات». على سبيل المثال: أحدد علامات لكل رسالة أكتبها بمدونة، وفي رسالة نشرتها عن استخدام شركة فريتو لاي لتعهيد الأعمال للجماهير في إنشاء إعلان تجاري يظهر في نهائي سوبر بول، استخدمت علامتي «دوريتوس» و«إعلان»، لذا سيعثر أي شخص يبحث عن «تعهيد الأعمال للجماهير» و«دوريتوس» على رسالتي في قمة النتائج. تسمى مثل هذه العلامات — سواء بطاقة فهرس بمكتبة من الخمسينيات أو علامات مستخدمة لوصف رسالة بمدونة — «بيانات وصفية».

بدأ استخدام العلامات مع المدونات، لكن سرعان ما اسْتُخْدِمَتْ في العديد من الأشكال الأخرى للإعلام الاجتماعي التي كانت آخذة في الظهور مع بداية القرن. ويعتمد موقع المفضلات ديليشَس Del.icio.us وموقع مشاركة الصور فليكر على العلامات للسماح للمستخدمين الفرديين بتصنيف مفضلاتهم وصورهم. لكن في المجمل، تشكل كلُّ هذه البيانات الوصفية نظامَ تصنيف يولده المستخدم، فإذا بحثت في موقع ديليشَس عن صفحات ويب متصلة برياضة «الصيد بالطُعْم الصناعي» (فكل منا يحتاج إلى راحة من التكنولوجيا)، أحصل على ٢٥٠٩ مواقع وضع عليها أفراد مختلفون علامة تشير إلى صلتها برياضة الصيد بالطُعْم الصناعي، بما في ذلك كل شيء بدءًا من دليل حول عقد الصيد المختلفة إلى موقع متخصص في صور تحت الماء لسمك السلمون.
يُطْلَقُ على هذا التصنيف الشامل «الفهرسة الجماعية»، وهو ذو أهمية قصوى لعلماء المكتبات. ورد في بحث مبكر عن الفهرسة الجماعية أن «البيانات الوصفية التي ينشئها المحترفون مكلفة من ناحية الوقت والجهد لإنتاجها، وهذا يجعل من الصعب للغاية قياسها والتواكُب مع القدر الهائل من المحتويات الجديدة التي تُنتج، لا سيما في الوسائل الجديدة على غرار الويب.»٨ في حين أن التصنيفات الجماعية بها عيوب هائلة — يشير المؤلف إلى أنها «فوضوية كسمة أساسية لها» — فهي أيضًا سريعة الاستجابة وتتجاوب على نحو لا يصدق مع احتياجات المستخدم، أما أفضل سماتها على الإطلاق فهي أنها يمكن قياسها بدرجة غير متناهية. إن الميزة التي تقدمها التصنيفات الجماعية لا تختلف عن تلك التي تقدمها تطبيقات تعهيد الأعمال للجماهير الأخرى؛ فهي تجعل من مهمةٍ شاقةٍ أمرًا يسهل التعامل معه.

تخطى تبني مثل أدوات الترشيح الجماهيرية هذه نمو أشكال أخرى من تعهيد الأعمال للجماهير، حتى إن الأخبار التي نحصل عليها تشكلت وفقًا للقرارات المجمعة لملايين القراء؛ فمعظم الوسائل الإعلامية — بدءًا من الإذاعة الوطنية العامة إلى صحيفة نيويورك تايمز — تظهر شريطًا جانبيًّا في موقعها يصنف القصص وفقًا لشعبيتها لدى القراء. ويشير ديفيد كار، كاتب عمود مختص بشئون الإعلام بصحيفة تايمز: «من الممكن المخاطرة بفعل ذلك. إن بإمكان حيوان ما — والأفضل أن يكون دولفين — أو مسلسل درامي يدور حول علاقة عاطفية، إحداث فارق ملحوظ، وحينها ينتبه المحررون إلى الأمر، ويدرك المراسلون الصحفيون عندما يتحقق النجاح.»

هذا كله تحول جوهري في كيفية تعاملنا مع العالم من حولنا. إذا حدث أن كان هناك مجال هيمن عليه الخبراء في السابق دون منافس، فهو اختيار المعرفة العالمية وتنظيمها. ومع ذلك وفي غضون بضع سنوات وجيزة، عُممت هذه الوظيفة بدرجة كبيرة، وكما في كافة أشكال الديموقراطية، لا تأتي النتائج الإيجابية دون بعض العواقب المزعجة.

(٣) اضطرابات موقع ديج الكبرى عام ٢٠٠٧

تمتلك صحيفة نيويورك تايمز أشهر المواقع الصحفية الإلكترونية في العالم، إذ يزور موقعها نيتايمز NYTimes.com ١٢ مليون فرد شهريًّا. ومع ذلك فإن ما يزيد عن نصف هذا العدد يستمد أخباره من موقع آخر لا يوظف مراسلًا صحفيًّا واحدًا وهو موقع ديج Digg.com. تأسس موقع ديج عام ٢٠٠٤، وهو واحد من مواقع «الأخبار الاجتماعية» التي تلعب دورًا بارزًا آخذًا في التزايد في بيئة المعلومات المعقدة للويب. وعلى غرار موقعي ديليشَس وفليكر، يؤدي موقع ديج مهمة واحدة بإتقان شديد. يرسل المستخدمون مقالًا صحفيًّا أو رسالة بمدونة أو أي رابط آخر، ويصوت مستخدمون آخرون، أو ينقرون فوق كلمة «ديج» على المقال المرسل. تظهر الموضوعات التي تحصد أعلى الأصوات في الصفحة الرئيسية للموقع، وتكون النتيجة مزيجًا من أفضل مقال رأي في اليوم ومقاطع من برنامج «البرنامج اليومي» وأخبار من عالم ألعاب الفيديو، مما يعكس خصائص القطاع الذي يشكل جمهور قراء الموقع.

ليست شعبية الموقع وحدها ما تجعل منه موقعًا مهمًّا، بل حقيقة أن الروابط التي تنجح في الوصول إلى الصفحة الرئيسية لموقع ديج تنعم بحياة أخرى في أخبار ورسائل بمدونات أخرى. بعبارة أخرى، لموقع ديج تأثير تضخيميّ كما للمواقع المنافِسة ردِت وستَمْبل أب أون. يمكن لهذا التأثير المتضاعف أن يحقق النجاحَ أو الفشلَ لفرد أو شركة؛ وهو سلطة كانت مقصورة في السابق على وسائل الإعلام العامة.

منذ عدة سنوات بدأت في استلام إصدارات صحفية لموقع تواصل اجتماعي يدعى فامستَر. كانت الغاية من الموقع أن يكون بمنزلة موقع ماي سبيس لكن في نطاق العائلات، إلا أنني تجاهلتها باعتبار أن هذا الموقع ليس سوى محاكاة مثيرة للضجر مصيرها غياهب المجهول. وكما توقعت، واجه موقع فامستَر لدى بدء تشغيله في ٧ أغسطس (آب) عام ٢٠٠٦ صعوبة شديدة في جذب اهتمام العملاء. بعد ذلك في ١٣ أغسطس (آب) نشر هنري وانج — وهو فتى في السابعة عشرة من عمره من مدينة أروروا — بولاية إلينوي، رابطًا من موقع فامستَر بموقع ديج يقول فيه: «لا أصدق أن هذا الموقع لا يتمتع بشهرة واسعة، بما يقدمه من مزايا: مشاركة الصور وأفلام الفيديو التي تبث على الويب وإنشاء مدونات وتحميل ملفات … مجانًا؟ يا للهول.» صَوَّتَ ما يزيد عن ١٧٠٠ شخص على رسالة وانج، وتلقى موقع فامستَر ما يقرب من ٥٠٠٠٠ زائر فردي يوميًّا خلال الأسبوع الذي ظلت فيه رسالة وانج بالصفحة الرئيسية لموقع ديج، مما ضمن بقاء موقع فامستَر فعليًّا ضمن أحد أكثر الساحات التسويقية تنافسية — في الشبكات الاجتماعية — على الشبكة العنكبوتية العالمية.٩

من يمتلك هذه السلطة؟ ليس كيفن روز أو جاي أديلسون، مؤسسا موقع ديج. يظهر بموقع ديج الكلمات التالية: «لن تجد محررين بالموقع؛ فهدفنا خلق مساحة للناس حيث يمكنهم تحديد قيمة المحتوى معًا. إننا نغير طريقة استهلاك الأفراد للمعلومات إلكترونيًّا.» لكن التغيير سلاح ذو حدين، كما اكتشف روز وأديلسون.

قد تبدو عبارة 09-f9-11-02-9d-74-e3-5b-d8-41-56-c5-63-56-88-c0 سلسلة عشوائية من الحروف والأرقام فقط، لكن هذا التسلسل الذي يبدو في ظاهره أنه لا يشكل خطرًا كاد أن يدمر موقع ديج. فهذا التسلسل هو شفرة فك التشفير التي سمحت لأحد المستخدمين بإلغاء الحماية ضد النسخ لأسطوانات الفيديو الرقمية فائقة الدقة، وفي الأول من مايو (أيار) عام ٢٠٠٧ نُشرت هذه الشفرة في رسالة بمدونة انتهت بموقع ديج، سرعان ما صَوَّتَ قراء الموقع على التدوينة مما قادها إلى الظهور في الصفحة الأمامية. وفي غضون ساعات تلقى الموقع أمرًا بالتوقف وتعليق النشاط من الشركة المنتجة للأسطوانات، فاستجاب الموقع على الفور، وأزيل المقال المثير للاستياء، ومن هنا بدأت اضطرابات موقع ديج الكبرى عام ٢٠٠٧.

فسر جمهور موقع ديج الإلكتروني قرار روز على أنه نوع من الرقابة، وأعيد إرسال الشفرة، وأزيلت من الموقع مرة أخرى، وأرسلت ثانية وأعيد إزالتها مرارًا وتكرارًا، وسرعان ما اتحد أفراد المجتمع معًا للتصويت على الرسالة التي تحتوي على الشفرة المثيرة للاستياء. لقد نظم جمهور الموقع انقلابًا. ونظرًا لأن المجتمع هو الذي يحدد ما يظهر بالصفحة الرئيسية، فهو يملك بذلك سيطرة مطلقة على ما ينشر. لم يتمكن روز وطاقم العمل من مسح الرسائل بسرعة كافية، وفي غضون بضع ساعات امتلأت أهم خمس صفحات بالموقع بالمقالات التي تحوي الشفرة. لقد أراد جمهور الموقع أن يعرف: هل سيقف روز في صفهم أم في صف مصالح شركة أسطوانات الفيديو الرقمية فائقة الدقة؟

وطيلة فترات اليوم، ظل موقع ديج يلعب في المنطقة الآمنة، كما أشار جاي أديلسون الرئيس التنفيذي لموقع ديج في رسالة بمدونة: «سواء اتفقتم أم لم تتفقوا مع سياسات أصحاب وجمعيات الملكية الفكرية، فلا بد أن يلتزم الموقع بالقوانين من أجل أن يستمر. إن شروط الاستخدام الخاصة بالموقع — وشروط استخدام أغلب المواقع الشائعة — تقضي بموجب القانون أن تتضمن سياسات ضد انتهاكات الملكية الفكرية.» كان ذلك مناشدة منطقية للغاية، لكنها لم تلفت انتباه مجتمع الموقع، الذين استمروا في التصويت للرسائل التي تحوي الشفرة، في النهاية، أجبر روز وأديلسون ذلك المساء على إيقاف موقعهما الإلكتروني.

بعد مرور دقائق على ذلك عاود الموقع الظهور، وظهرت رسالة جديدة بالصفحة الأمامية، كانت هذه الرسالة من المدونة الرسمية لموقع ديج كتبها روز وأديلسون، يقول عنوانها: «صوت لهذا: 09-f9-11-02-9d-74-e3-5b-d8-41-56-c5-63-56-88-c0»، اتخذ روز قرار الوقوف إلى جانب مجتمعه من خلال انتهاك القانون بنفسه وإرسال الشفرة المثيرة للاستياء في رسالته الخاصة، كتب روز: «بعد الاطلاع على مئات القصص وقراءة آلاف التعليقات، لقد أوضحتم وجهة نظركم؛ فأنتم تفضلون مشاهدة الموقع وهو يناضل وينهار عن مشاهدته وهو يذعن لشركة أكبر. نحن نفهمكم، ولن نزيل من الآن أي تدوينات أو تعليقات تحوي الشفرة وسنتعامل مع أي عواقب تواجهنا. إذا خسرنا المعركة، فلا بأس، فقد اكتسبنا شرف المحاولة على الأقل.»

وبوقوفه إلى جانب مجتمعه الإلكتروني، اتخذ روز بذلك موقفًا أخلاقيًّا، وحسب موقفك من حقوق النشر، لعله بطولي. غير أن اضطرابات موقع ديج تشكل أيضًا درسًا عمليًّا للوقائع الجديدة للإعلام الذي يحركه الجمهور: عندما «يحدد الناس قيمة المحتوى معًا»، يمتلكون أيضًا سلطة اتخاذ القرارات التحريرية المهمة التي ظلت فيما سبق في أيادي القليل من الصحفيين المتميزين بالفكر الجاد والخبرة العالية. إن محرر الصحيفة هو جدارها الواقي الأخير، فهو الشخص الذي يقرر هل سينشر موضوعًا يثير ضجة كبيرة كما في فضيحة تقارير البنتاجون، ومن ثم يُعرض الصحيفة لدعاوى قضائية تلحق بها الكثير من الضرر أم لا. كما اكتشف روزين وأديلسون، لا يتمتع موقع ديج بهذا الجدار الواقي، فلم يكن هدفهما جعل الجمهور يحدد نشر شفرة فك تشفير أسطوانات الفيديو الرقمية فائقة الدقة من عدمه، لكن من ناحية أخرى، لم يكن لديهما خيار، فقد اتخذ الجمهور القرار نيابة عنهما.

إن موقعي ديج وإي باي — وغيرهما من المواقع الإلكترونية التي تعتمد على أدوات الترشيح الجماهيرية في استخلاص النظام من الفوضى — معرضة أيضًا للتلاعب بها من الأشرار. فمع ازدياد قوة ونفوذ موقع ديج، ابُتلي الموقع بهؤلاء الأشخاص الذين تاجروا بأصواتهم في مقابل المال؛ فقد يؤدي السعي إلى إظهار الرسالة في الصفحة الأمامية إلى ملايين من مشاهدات الصفحة، وإلى عائدات الإعلانات والمبيعات التي يمكن أن تنتج عن هذه الحركة بالموقع. نتيجة لذلك نشأت شركات تعد بإظهار المواقع الإلكترونية الخاصة بعملائها في الصفحة الأمامية لموقع ديج مقابل رسوم. أجرى ديريك بوازيك أحد المشتركين في مشروع «المهمة صفر» حوارًا مع راجنر دانيسكجولد مؤسس إحدى هذه الشركات،١٠ وهي شركة سَبفيرت آند بروفت، الذي برر ما تفعله شركته بأن هذه الشركة «تملأ السوق المتخصصة في التعهيد للجماهير بأعمال «أقذر».» لكن مع إطلاقه على شركته اسم سَبفيرت آند بروفت — أي الخراب والربح — لا يسعنا سوى وصفه بالوقاحة، وفي واقع الأمر، دانيسكجولد هو اسم مستعار. إن معظم وظائف تعهيد الأعمال للجماهير لن تؤمن لك حياة رغدة، وكما اتضح فإن الجانب المظلم لا يعد بالكثير أيضًا؛ إذ يتلقى دانيسكجولد ٢ دولار مقابل الصوت، ويوزع نصف هذا المبلغ على أعضاء مجتمعه.

بذل موقع ديج ما في وسعه لإنشاء نظم حلول حسابية من شأنها إدراك الأنماط المتشابهة المتكررة من التصويت ومنع مستخدمين بعينهم إذا شكت في تبعيتهم لشركات مثل سَبفيرت آند بروفت، لكنها معركة لا تنتهي.

وكل هذا يتجاهل خطرًا آخر، ولعله أسوأ، فمن خلال تعميم أدوار حارس الموقع والمحرر، نثق بأن الجمهور يمكنه أن يقرر أهمية خبر ما (أو عمل فني من وجهة النظر هذه) على نحو أفضل من المحترفين الذين يملكون خبرات مديدة من لعب دور المحكم الثقافي. لا يثق الجميع في تلك الفكرة، ويقول الناقد أندرو كين في كتابه «عقيدة الهواة» الصادر عام ٢٠٠٧: «بينما أؤلف هذا الكتاب، هناك حرب دموية دائرة في لبنان بين إسرائيل وحزب الله، لكن مستخدم موقع ردِت لن يعرف هذا الأمر، لأنه لا يوجد شيء متعلق بإسرائيل أو لبنان أو حزب الله ضمن أفضل عشرين موضوع بالموقع. ولكن بدلًا من ذلك، يتسنى للمشتركين قراءة موضوعات حول ممثلة إنجليزية نحيفة القوام، وعادات السير عند الأفيال، والأنفاق الأرضية في اليابان. إن موقع ردِت هو مرآة تعكس أكثر اهتماماتنا تفاهة.»١١

يكره كين موقع ويكيبديا، ويمقت كذلك عالم المدونات، ويرى أن موقع يوتيوب يدمر الفن السينمائي، ويؤكد كين في كتابه بأننا نتجه بسرعة البرق نحو عصر من ضعف الجودة الجماعية تحل فيه الجماهير الغوغائية محل الخبراء ونصبح جميعًا حينها أكثر حماقة. أتفق مع كين في مخاوفه، ولكن ليس في إدانته العامة للإعلام الاجتماعي. إن مواقع جوجل ويوتيوب وديج شكل من قاعدة الجماهير الغوغائية، وبينما تزداد أهميتها، يزداد من ثم نفوذ الجماهير، إلا أن هناك فارقًا طفيفًا بين حكم الغوغاء والديمقراطية، فتحقيق الديمقراطية يتطلب قدرًا من التساهل مع حكم الغوغاء. إن تعهيد الأعمال للجماهير — وآليات التصويت الجماهيري بالأخص — يصحح وضعًا مُجحفًا امتد فترة طويلة من الزمن؛ إذ تحكمت في المجال الثقافي فترةً طويلة نخبةٌ — وهو ما يمكن للمرء أن يكتشفه من خلال جولة في القنوات التلفزيونية وقت ذروة المشاهدة — لم يجد أفرادها أي صعوبة في إرضاء الذوق العام بأيسر الطرق. على أي حال قد يمثل قدر من الديمقراطية العنصر المنشط الذي يحتاجه المجال الثقافي.

ولكن على النقيض من ذلك تقف الرؤية القائلة إن هناك ارتباكًا في الوضع، وإن تلاشي دور الخبراء ليس وشيكًا. حقًّا إن الجمهور الآن يهدد النخبة، لكنني على قناعة من أن هذا الموقف سوف يتوازن، مما سيؤدي إلى نظام أعقد يتعايش فيه الإعلام الاجتماعي جنبًا إلى جنب مع الإعلام التقليدي في تآلف وانسجام. أما وجهة النظر التي يذكرها كين الخاصة بمواقع على غرار ديج وردِت ويوتيوب فهي غير محتملة تقريبًا؛ فخلال الأعوام التي عملت فيها لدى مجلة وايرد، رأيت أن مصادر الحصول على المعلومات أو وجبات المعلومات أصبحت أشد تنوعًا، وأزعم أنها أصح. وفيما يخص الغالبية العظمى من المستخدمين، فإن كلًّا من موقعي يوتيوب وديج أطباق جانبية جذابة وإن كانت حريفة المذاق أحيانًا. وبعد، فإن لحكم الغوغاء ميزته، فهو يتيح للناس الاستغناء عن استخدام الوسطاء، وهذا ليس بالأمر السيئ، حتى عندما يتصل الأمر — بوجه خاص — بتوحيد سلطة القرار الجماعي مع السلطة المالية الجماعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤