الفصل العاشر

أسئلة متعلِّقة بالبيتكوين

مع الأساسيات الاقتصادية لتشغيل البيتكوين التي تمَّ شرحها في الفصل الثامن، ومع الحالات الرئيسية المحتمل استخدام البيتكوين فيها والتي تمَّت مناقشتها في الفصل التاسع، سيتم فحص ومناقشة مجموعة من الأسئلة البارزة حول عمل وتشغيل البيتكوين في هذا الفصل.

(١) هل يُعدُّ تعدين البيتكوين تبذيرًا؟

عندما ينضم شخص ما إلى شبكة البيتكوين فإنه يُولِّد عنوانًا عامًّا ومفتاحًا خاصًّا، وهما يشابهان عنوان البريد الإلكتروني وكلمة السر الخاصة به، بحيث يُمكِن للناس أن ترسل لك عملات بيتكوين على عنوانك العام، بينما يمكنك إرسال عملات بيتكوين من ميزانيتك باستخدام مفتاحك الخاص، كما يمكن أيضًا عرض تلك العناوين على هيئة رمز QR سريع الاستجابة.
فعندما يتم تحويل ما، يبثُّه المُرسِل إلى جميع أعضاء الشبكة الآخرين (العُقَد) الذين بإمكانهم تأكيد أن المرسل يمتلك ما يكفي من عملات البيتكوين لإجراء ذلك التحويل، وأنه لم يقم بإنفاق تلك العُملات في تحويل آخر، وبمجرَّد المُصادقة على صحة التحويل من قِبل غالبية قوى المعالجة في الشبكة، يتم إدراجه في السِّجِل المشترك بين جميع أعضاء الشبكة، سامحًا لكل الأعضاء بتحديث ميزانية طرفَي التحويل. وفي الوقت الذي من السهل فيه على أي عضو في الشبكة تأكيد صلاحية التحويل، فإنه من الممكن لمخترق ما أن يتلاعب بنظام التصويت المبني على إعطاء كل عضو صوتًا واحدًا، وذلك عن طريق إنشائه الكثير من العُقَد لكي يُصوِّت ويصادق على التحويلات الاحتيالية والمُزَوَّرة. لكن البيتكوين يستطيع حل مشكلة الإنفاق المزدوج هذه دون الحاجة لوجود طرف ثالث موثوق؛ وذلك عبر ربط الدقة بإنفاق الأعضاء لقوة المعالجة، وبعبارة أخرى، عن طريق توظيف نظام إثبات العمل POW.
وفي جوهره، يتضمَّن نظام إثبات العمل POW أعضاءً من الشبكة يتنافسون لحل مسائل رياضية صعبة الحل، لكن التأكُّد من صحة حلها هو أمر سهل؛ ففي كل ١٠ دقائق تقريبًا تُدوَّن وتُنسَخ كل تحويلات البيتكوين المُصادَق عليها في كتلة واحدة، وتتنافس العُقَد لحل المسائل الرياضية لنظام إثبات العمل لكتلة من التحويلات، والعُقْدة التي تتوصَّل للحل أولًا تقوم ببثه لأعضاء الشبكة الذين يمكنهم التحقُّق من صحته بسرعة كبيرة. وبمجرد مصادقة غالبية عقد الشبكة على صحة التحويلات ونظام إثبات العمل، يتم مكافأة تلك العُقْدة بإصدار كمية محدَّدة من البيتكوين. تُعرف هذه المكافأة باسم «دعم الكتلة»، وتسمَّى عملية إصدار تلك العملات الجديدة ﺑ «التعدين»، مستمدَّةً من تعدين المعادن كتعدين الذهب، وهي الطريقة الوحيدة لزيادة عرض البيتكوين، تمامًا كما هي الطريقة لزيادة عرض الذهب. إضافةً إلى حصولها على دعم الكتلة، فإن العُقدة التي تحل نظام إثبات العمل بشكل صحيح تحصل أيضًا على رسوم التحويل المتضمَّنة من قبل المرسلين. ويُطلَق على مجموع كل من رسوم التحويل ودعم الكتلة اسم «مكافأة الكتلة».
ومع أن حل هذه المسائل قد يبدو في البداية إهدارًا للطاقة الكهربائية ولاستخدام الحاسوب، إلا أن نظام إثبات العمل يُعتبَر جوهريًّا لعمليات البيتكوين.١ فمن خلال تطلُّبه لصرف الكهرباء وطاقة المعالجة لإنتاج عملات جديدة، فإن نظام إثبات العمل يُعَد الطريقة الوحيدة المُكتشَفة لجعل صناعة سلعة رقمية مكلِّفةً بشكل موثوق حتى الآن؛ ممَّا يسمح لها بأن تكون عملةً صعبة. ومع ضمان جعل عملية إيجاد الحلول للمسائل الرياضية تتطلَّب إنفاق كميات كبيرة من الكهرباء وطاقة المعالجة، فإن العُقَد التي تستهلك هذه الطاقة الكبيرة للمعالجة سيتكوَّن لديها دافع قوي جدًّا كي لا تقبل ولا تضع أية تحويلات مُزوَّرة في كُتلها من أجل أن تحصل على مكافأة الكتلة. وبما أن التحقُّق من صحة التحويلات ونظام إثبات العمل أرخص بكثير من إيجاد الحل الخاص بنظام إثبات العمل، فإن العُقَد التي ستُحاول إدخال تحويلات مزوَّرة لكتلة التحويلات محكوم عليها دائمًا بالفشل، وبذلك فإنها تُبدِّد الطاقة التي أنفقتها دون الحصول على عائد.

فنظام إثبات العمل يجعل ثمن تدوين الكتلة باهظًا جدًّا، وثمن التحقُّق من صحتها زهيدًا جدًّا؛ ممَّا يكاد يقضي على الحافز لأي شخص لإنشاء تحويلات مزوَّرة. فإذا حاول أحدهم، فإنه سيقوم بإهدار الكهرباء وطاقة المعالجة دون الحصول على مكافأة الكتلة. لذلك، يمكن فهم البيتكوين على أنه تكنولوجيا تُحوِّل الكهرباء إلى سِجلات صحيحة عبر إنفاق طاقة المعالجة، ويتم مكافأة أولئك الذين يُنفقون هذه الكهرباء بعملات البيتكوين؛ ولذلك، يتولَّد لديهم دافع قوي للحفاظ على نزاهته. وكنتيجة لربط الصدق بحافز اقتصادي قوي، ظلَّ سجل البيتكوين عصيًّا على الإتلاف طوال فترة عمله حتى الآن؛ حيث إنه لم يشهد هجمة إنفاق مزدوج على تحويلة مؤكَّدة قط. وبهذا الأمر، تتحقَّق تلك النزاهة في سِجل البيتكوين دون الحاجة للاعتماد على صدق ونزاهة أي طرف في الشبكة. ومن خلال الاعتماد كليًّا على عملية التحقُّق والمصادقة، يَحكُم البيتكوين على التحويلات الاحتيالية والمزوَّرة بالفشل، ويتجنَّب الحاجة إلى الثقة في أي طرف لإتمام التحويلات.

ولكي يتمكَّن مهاجم ما من إدخال تحويلات مزوَّرة إلى سِجل البيتكوين، فهو يحتاج لأن يمتلك غالبية طاقة المعالجة المستخدَمة في الشبكة لكي يتم قَبول احتياله، ولكن العُقَد الصادقة والنزيهة والتي هي جزء من الشبكة لا تملك أي دافع لتفعل ذلك؛ لأنها وإن فعلت، فستقلِّل من نزاهة البيتكوين، وستقلِّل من قيمة العوائد التي تحصل عليها؛ ممَّا يؤدِّي إلى إهدارها للكهرباء والموارد التي تمَّ صرفها. لهذا، إن أمَلَ المهاجم الوحيد هو أن يحشد أكثر من ٥٠٪ من كمية طاقة المعالجة المستخدمة في الشبكة لكي يتم تأكيد احتياله على أنه صادق ليتمكَّن من البناء عليه. لقد كان بالإمكان الإقدام على هذه الحركة في بدايات عصر البيتكوين عندما كان إجمالي طاقة المعالجة المصروفة في الشبكة قليلًا جدًّا، لكن ولأن القيمة الاقتصادية التي حملتها الشبكة في تلك الأيام كانت ضئيلةً جدًّا وغير مهمة، لم تتحقَّق أية هجمات. ومع استمرار نمو الشبكة وتزايد عدد الأعضاء الذين يجلبون معهم المزيد من طاقة المعالجة، ارتفع ثمن الهجوم على الشبكة.

ولقد أثبتت مكافأة العُقَد، التي تؤكِّد صحة التحويلات، أنها استخدامٌ مربح لطاقة المعالجة؛ ففي يناير من عام ٢٠١٧م، كان حجم طاقة المعالجة لشبكة البيتكوين مساويًا ﻟ ٢ تريليون لابتوب، وهو أمر أكثر ﺑ ٢ مليون مرة من طاقة المعالجة لأقوى حاسوب عملاق في العالم، وأكثر من ٢٠٠٠٠٠ مرة من طاقة المعالجة لأقوى ٥٠٠ حاسوب عملاق في العالم مجتمعين. وقد أصبح البيتكوين عبر تحويل قيمة طاقة المعالجة بشكل مباشر أكبر شبكة حاسوبية بهدف موحَّد في العالم.

هناك عامل آخر ساهم في نمو طاقة المعالجة، وتمثَّل ذلك عندما انتقلت عمليات التحقُّق من صحة التحويلات وحل مسائل نظام إثبات العمل من إجرائها عبر الحواسيب الشخصية إلى إجرائها من قِبل معالجات خاصة بُنِيت بشكل خاص لتكون فعالةً في عملية إدارة برمجيات البيتكوين. وبدأ هذا مع بداية استخدام الدارات المدمجة المحدَّدة برمجيًّا (ASICs) في عام ٢٠١٢م؛ حيث إن عملية توظيفها ونشرها زادت من فعالية إضافة طاقة المُعالجة إلى شبكة البيتكوين؛ حيث إنه وبهذه الطريقة لا يتم إهدار أي كهرباء في عمليات حوسبة غير مرتبطة مباشرة بالبيتكوين، كتلك العمليات المتاحة في وحدات الحوسبة العامة. وفي الوقت الحالي، تتولَّى شبكة مُوزَّعة عالميًّا من مُعدِّنين مستقلين ومتخصِّصين حمايةَ نزاهة سِجل البيتكوين، وغايتهم الوحيدة هي التحقُّق من صحة تحويلاته وحل المسائل الرياضية لنظام إثبات العمل. وإذا فَشِل البيتكوين لأي سبب كان، ستصبح تلك الدارات المدمجة المحدَّدة برمجيًّا بلا أي فائدة، وسيفقد أصحابها استثماراتهم؛ لهذا فلديهم دافع قوي جدًّا للحفاظ على مصداقية ونزاهة الشبكة.
ولكي يتمكَّن شخص ما من تغيير سجل شبكة البيتكوين، فسيحتاج إلى استثمار مئات ملايين الدولارات، إن لم تكن مليارات الدولارات؛ وذلك لبناء دارات مدمجة محدَّدة برمجيًّا (ASICs) جديدة لتغيير السجل. ولكن من المُستبعد أن يعود الهجوم بالنفع الاقتصادي للمهاجم حتى وإن تكلَّل بالنجاح؛ وذلك لأن الإضرار بالشبكة من شأنه تقليص قيمة عُملات البيتكوين تقريبًا إلى اللاشيء. بعبارة أخرى، لتدمير البيتكوين، سيكون على المُهاجم إنفاق مبالغ كبيرة جدًّا من المال دون أي عائد على الإطلاق، والحقيقة أنه حتى وإن نجح الهجوم، فبإمكان العُقَد الصادقة والنزيهة على الشبكة العودة بفعالية إلى سجل التحويلات الذي سبق الهجوم واستكمال العمل، وسيكون على المهاجم عندها استمرار تحمُّل تكاليف تشغيل باهظة لمواصلة الهجوم على إجماع العُقد النزيهة.

وفي السنوات الأولى من عمل البيتكوين قام مستخدمو البيتكوين بتشغيل عُقَد، واستخدموها في إجراء تحويلاتهم الخاصة والتحقُّق من صحة تحويلات الآخرين في الشبكة؛ بحيث كانت كل عقدة تؤدِّي دور محفظة ومُوثِّق/مُعدِّن، لكن تمَّ فصل تلك العمليات مع مرور الوقت، فتخصَّصت الرُّقاقات المدمجة المحدَّدة برمجيًّا الآن في التوثيق والمُصادقة على التحويلات من أجل الحصول على مكافأة البيتكوين (لهذا السبب يُعرَفون بالمُعدِّنين). ويستطيع مشغِّلو العُقَد الآن إنشاء عدد غير محدود من المحافظ؛ ممَّا يسمح للشركات والأعمال والمشاريع التجارية بإتاحة محافظ مريحة ومناسبة للمستخدمين الذين سيستطيعون إرسال واستقبال البيتكوين دون الحاجة إلى إدارة عقدة التعدين أو إنفاق طاقة معالجة للمصادقة على التحويلات. وهذا الأمر، نقَلَ البيتكوين بعيدًا عن كونه شبكة نظير إلى نظير فقط بين عقد متطابقة، لكن رغم ذلك، يمكن القول إن الأهمية الوظيفية الرئيسية للطبيعة اللامركزية والمُوزَّعة للشبكة لا تزال قائمةً وسليمة؛ وذلك لأنه يوجد عدد كبير من العُقد التي ما تزال قائمة؛ بحيث لا يتم الاعتماد على أي طرف كي تعمل الشبكة. بالإضافة إلى ذلك، فقد سمح التخصُّص في التعدين بنمو طاقة المعالجة الداعمة للشبكة إلى الحجم المذهل الذي وصلت إليه.

ففي بدايات البيتكوين عندما كانت قيمة العملة صغيرةً أو معدومة، كان من الممكن سرقة الشبكة وتدميرها من قِبل المهاجمين، ولكن بما أن القيمة الاقتصادية للشبكة كانت قليلة، لم يُتعِب أحد نفسه بهذا الأمر. الآن، ومع ازدياد حجم القيمة الاقتصادية للشبكة، قد يكون ازداد معها دافع سرقة الشبكة، لكن تكلفة فعل ذلك قد ازدادت بشكل كبير أيضًا، وبسبب ذلك، لم تتحقَّق أية هجمة. ومن المرجَّح أن يكون السبب الحقيقي وراء حصانة شبكة البيتكوين هو أن قيمة العملة تعتمد كليًّا على مصداقية ونزاهة الشبكة. فنجاح أي هجوم في تغيير سلسلة الكتل أو سرقة العملات، أو إنفاقها عدة مرات فيما يُعرف باسم الإنفاق المزدوج لن يعود بفائدة كبيرة على المهاجم؛ حيث سيتضح لجميع أعضاء الشبكة أنه من الممكن تقويض الشبكة؛ ممَّا سيقلِّل بشكل كبير من الطلب على استخدامها وعلى الاحتفاظ بالعملة، وسيؤدِّي هذا إلى انهيار سعرها. بتعبير آخر، لا تقتصر دفاعات شبكة البيتكوين على ارتفاع تكلفة الهجوم فحسب، بل إن نجاح الهجوم سيجعل الغنيمة بلا قيمة؛ فكونها نظامًا طوعيًّا تمامًا، لا يمكن لشبكة البيتكوين العمل إلا إذا كانت نزيهة؛ حيث يمكن للمستخدمين مغادرتها بسهولة إذا لم تكن كذلك.

فتَوزُّع طاقة معالجة البيتكوين ومقاومته الكبيرة لتعديل شيفرته البرمجية، إضافةً إلى عناد سياسته النقدية، هي ما جعلت البيتكوين يستمر ويزداد في قيمته إلى الدرجة التي هو عليها الآن، ومن الصعب على الأشخاص الجدد على البيتكوين أن يُقدِّروا كمَّ التحديات اللوجستية والأمنية التي نجح البيتكوين بتخطيها كل هذه السنوات حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. وعند الأخذ بالحسبان أن الإنترنت قد خلق فرصًا للمخترقين لمهاجمة كافة أنواع الشبكات والمواقع بهدف التسلية والربح، فسنرى أن هذا إنجاز مذهل؛ فالعدد المتزايد للخروقات الأمنية التي تحصل لشبكات الحاسوب وخوادم البريد الإلكتروني بشكل يومي حول العالم لا تتعدَّى غنيمتها سرقة بيانات، أو تحقيق فرص لتسجيل نقاط سياسية. وفي الجهة المقابلة، يحتوي البيتكوين على مليارات الدولارات من القيمة، ولا يزال يعمل بشكل آمن وموثوق؛ حيث إنه ومنذ بداية النظام كان قد تمَّ تصميمه ليعمل في بيئة عدائية ليكون مقاومًا للهجمات القاسية. وقد حاول المخترقون والمبرمجون من كافة أنحاء العالم أن يدمِّروا البيتكوين باستعمال سائر الوسائل التكنولوجية، لكنه مع ذلك، استمرَّ بالعمل بما يتناسب مع جوهر خصائصه.

(٢) خارج السيطرة: لماذا ليس بوسع أحد تغيير البيتكوين؟

إن طبيعة البيتكوين هي طبيعة تعني أنه بمجرَّد إطلاق النسخة ٠٫١ منها، فسيعمل تصميمها الجوهري وللأبد.

ساتوشي ناكاموتو، ٦ / ١٧ / ٢٠١٠م

إن مناعة ومتانة البيتكوين لم تكن فقط سببًا في صد الهجمات على الشبكة، بل كانت قادرةً أيضًا على مقاومة كل محاولات تغييره أو تعديل خصائصه، ولكن لم يفهم معظم المشكِّكين عمقَ هذه الحقيقة وآثارها بعد. وإذا أردنا مقارنة البيتكوين ببنك مركزي، فسيكون أكثر بنك مستقل في العالم، وإذا أردنا مقارنته بدولة قومية، فسيكون أكثر دولة قومية ذات سيادة في العالم. بهذا، يمكن القول إن سيادة البيتكوين تُستمَد من الطريقة التي تعمل بها قوانين الإجماع بالرأي، جاعلةً إياه مقاومًا وبشكل كبير للتعديل من قِبل الأفراد. ولا نبالغ إن قلنا إنه لا أحد يتحكَّم بالبيتكوين، وإن الخيار الوحيد المتوفِّر أمام الأفراد هو إمَّا استخدامه كما هو أو عدم استخدامه.

فهذا الثبات لا يُعدُّ من خصائص برمجية البيتكوين؛ حيث يمكن لأي شخص بارع بالبرمجة أن يغيِّر من برمجيته، لكن يمكن القول إن البيتكوين مُقيَّد بقيمة عملته وبشبكته وصعوبة إقناع كل الأعضاء في الشبكة بتبني نفس التغيير البرمجي؛ فالتطبيق البرمجي الذي يسمح للأفراد بتشغيل عقدة متصلة بشبكة البيتكوين هو تطبيق مفتوح المصدر، أطلقه في البداية «ساتوشي ناكاموتو» بالتعاون مع الراحل «هال فيني» وآخرين. ومنذ ذلك الوقت، أصبح لأي مستخدم كان، ذكرًا أم أنثى، إمكانية تنزيل واستخدام البرنامج كما يريد، وإجراء التغييرات التي يريدها عليه. إن هذا الأمر خلق سوقًا تنافسية حرة في تطبيقات البيتكوين بحيث يمكن لأي شخص المساهمة في إجراء التغييرات أو التحسينات والتطويرات على البرنامج وتقديمها للتبني من قِبل المستخدمين.

ومع مرور الوقت، تطوَّع المئات من مبرمجي الحاسوب من جميع أنحاء العالم بأوقاتهم لتحسين برمجيات العُقَد وكنتيجة تحسين إمكانيات العُقَد الفردية، فكوَّن هؤلاء المبرمجون عدة تطبيقات مختلفةً أكبرها وأكثرها شهرةً هو Bitcoin Core. وهناك أيضًا عدة تطبيقات أخرى متواجدة، وللمستخدم الحرية الكاملة في تغيير الشيفرة الأصلية في أي وقت يشاء. لكن ولكي تكون العُقْدة جزءًا من الشبكة التي تتبعها، فلديها متطلَّب واحد فقط وهو أن تتبع القوانين المُتفق عليها بين العُقَد الأخرى؛ بحيث يؤدِّي كسر العُقَد للقوانين المُتفق والمُجمَع عليها إلى رفض تحويلاتها من قِبَل بقية العُقد، سواء أكان ذلك الخروج عن الإجماع عبر تعديل بِنية السلسلة، أو صلاحية التحويلات، أو مكافأة الكتلة، أو أي من المعايير الأخرى للنظام.
والعملية التي تحدِّد معايير البيتكوين هي مثال لِمَا أطلق عليه الفيلسوف الاسكتلندي «آدم فيرجوسن» «مُنتَج الأفعال الإنسانية، وليس التصاميم الإنسانية».٢ ومع أن ساتوشي ناكاموتو وهال فيني وآخرين قد أنشئوا نموذجًا يعمل للبرنامج في يناير عام ٢٠٠٩م، إلا أن الشيفرة البرمجية قد تطوَّرت بشكل كبير منذ ذلك الوقت من خلال مساهمات مئات المطوِّرين المُختارين من قِبَل آلاف الأعضاء الذين يُشغِّلون العُقد. يجدر الإضافة أنه ليس هناك أي سُلطة مركزية تحدِّد تطوُّر برنامج البيتكوين، كما أنه لا يوجد أي مبرمج يستطيع إملاء وفرض أي نتيجة عليه. وبهذا، تمَّ إثبات أن الطريقة لإجراء تعديلات لكي يتم تبنيها يجب أن تكون طريقةً تلتزم بمعايير التصميم الأصلية. وللدرجة التي حصلت فيها التغيُّرات على البرنامج، فإنه يمكن فهمها على أنها تطويرات للطريقة التي تتواصل فيها العُقَد مع الشبكة، وليست تبديلًا لشبكة البيتكوين أو معاييرها أو قوانينها المتفق عليها. ومع أن ماهية تلك المعايير هي أمر خارج عمَّا يقدِّمه الكتاب إلا أنه يكفينا تحديد هذا المعيار: في حال تَبَني عقدة لتغيير ما بحيث يضعها هذا التغيير خارج إجماع القوانين المُتفق عليها، فسيتوجَّب على جميع العُقَد الأخرى تَبَني نفس التغيير لكي تبقى العُقدة المبادِرة بهذا التغيير عضوًا في الشبكة، وإذا قامت مجموعة من العُقَد بتبني قوانين الإجماع الجديد، فسينتج عن ذلك ما يُعرف باسم «انقسام كلي» في العملة الرقمية.

لهذا السبب لا يمكن لمبرمجي البيتكوين مهما كانوا بارعين أن يتحكَّموا بالبيتكوين؛ حيث يتم عدُّهم فقط كمبرمجين للبيتكوين في حدود توفير البرمجيات التي يرغب مشغِّلو العُقد في تبنيها واستخدامها. وليس المبرمجون وحدهم من لا يستطيعون التحكم بالبيتكوين، فالمُعدِّنون أيضًا مع كل طاقة المعالجة التي يمكنهم حشدها، لا يمكنهم أيضًا التحكم بالبيتكوين. فلا يهم مقدار طاقة المعالجة المُنفَقة في معالجة الكتل غير الصالحة؛ وذلك لأنه لن يتم المصادقة عليها من قِبَل غالبية عُقد البيتكوين. لذلك، إن محاولات المُعدِّنين لتغيير قوانين الشبكة هي إهدار لمواردهم في حل المسائل الرياضية لإثبات العمل، ويكون هذا الإهدار مُمثَّلًا بعدم حصولهم على أي مكافأة. لهذا، فمُعدِّنو البيتكوين هم مُعدِّنون في حدود إنتاج كُتلٍ تتضمَّن تحويلات صالحة وفقًا لإجماع القوانين الحالية المُتفق عليها.

من المغري القول هنا إن مدراء العُقد يتحكَّمون بالبيتكوين، وهذا صحيح بالمعنى الجمعي، لكن بالحقيقة، إن مدراء العُقد لا يمكنهم التحكم إلا بعقدهم الخاصة واختيار قوانين الشبكة المناسبة لهم والتي يريدون الانضمام إليها، وتحديد إذا ما كانت التحويلات التي يسجِّلونها على أنها صالحة أم غير صالحة. فالعُقد محدودة بشكل كبير في اختيارها للقوانين المتفق عليها؛ حيث إن تحويلاتها سيتم رفضها إذا قامت بفرض قوانين غير متوافقة مع ما هو متفق عليه في الشبكة. ولهذا السبب، يتولَّد لدى كل عُقدة دافع قوي جدًّا للمحافظة على تطبيق القوانين المتفق عليها والبقاء على توافق مع العقد الأخرى ضمن هذه القوانين المتفق عليها. فلا تستطيع العُقدة الفردية أن تفرض على العُقد الأخرى تغيير شيفرتها البرمجية، وهذا ما يخلق اتفاقًا وتحيُّزًا جماعيًّا للبقاء ضمن القوانين الحالية المتفق عليها.

خلاصة القول، يملك مبرمجو البيتكوين دافعًا قويًّا للالتزام بالقوانين المتفق عليها لكي يتم تَبَني شيفرتهم البرمجية، كما يجب على المُعدِّنين أيضًا الالتزام بقوانين الشبكة المتفق عليها لكي يحصلوا على تعويض عن الموارد التي صرفوها على نظام إثبات العمل. وأعضاء الشبكة أيضًا يملكون دافعًا قويًّا للبقاء على تلك القوانين المتفق عليها لكي يتمكَّنوا من تصفية تحويلاتهم على الشبكة. يجب أن نُضيف هنا أنه من الممكن الاستغناء عن أي مُعدِّن أو مُبرمج، أو مدير عُقدة في الشبكة؛ حيث إنه إذا لم يلتزم أي أحد منهم بالقوانين المتفق عليها فالناتج المرجَّح هو خسارتهم لمواردهم. وطالما تُقدِّم الشبكة مكافآت إيجابيةً لمشتركيها، من المرجَّح أن يظهر مشتركون بُدلاء. لذلك، يمكن فهم معايير البيتكوين المتفق عليها بأنها ذات سيادة؛ فاستمرار وجود البيتكوين للدرجة التي يتواجد بها مرهون باستمرار وجود تلك المعايير والصفات. وهذا التحيُّز القوي للتمسُّك بالوضع الراهن في عمل البيتكوين يُصعِّب للغاية من عملية تغيير جدول العرض النقدي أو المعايير الاقتصادية المهمة. لهذا، يُعتبَر البيتكوين نقدًا سليمًا بسبب هذا التوازن المستقر فقط، وستَضعف قيمته كثيرًا كنقد سليم إذا انحاز عن ذلك الإجماع.

وإلى حد معلومات مؤلف هذا الكتاب، لم تحدث أية محاولات مهمة ومُنسَّقة لتعديل السياسة النقدية للبيتكوين؛٣ حيث إنه حتى المحاولات البسيطة لتعديل بعض المواصفات التقنية على الشيفرة باءت بالفشل؛ أي إنه حتى التغييرات البسيطة غير الضارة للبروتوكول يصعُب إجراؤها؛ وذلك بسبب طبيعة الشبكة الموزَّعة، وبسبب الحاجة إلى أن تقبل أطراف متفرِّقة وعدائية بتغييرات لا يفهمون نتائجها تمامًا، بينما الوضع الحالي الآمن والذي تمَّ تجربته مسبقًا يبقى معروفًا ويُعتمَد عليه بشكل كلي. لهذا، يمكن فهم وضع وحالة البيتكوين بأن الأعضاء قد وصلوا إلى درجة مستقرة من التفاهم والتنسيق الصامت والضمني؛٤ ممَّا يؤمِّن دافعًا مفيدًا لجميع المشاركين للتمسُّك به؛ حيث إن الابتعاد عنه سيتضمَّن دائمًا خطورة خسارة كبيرة.

فإن قرَّر بعض أعضاء شبكة البيتكوين القيام بتغيير معيارٍ في شيفرة البيتكوين البرمجية؛ وذلك عبر تقديم نسخة جديدة من البرنامج غير متوافقة مع بقية أعضاء الشبكة؛ فالنتيجة ستكون انقسامًا يُنشئ بشكل فعَّال عملتَين منفصلتَين وشبكتَين. وطالما بقي أعضاءٌ في الشبكة القديمة، فسيمكنهم الاستفادة من البنية التحتية للشبكة كما هي، ومن معدات التعدين، ومن مفعول تأثير الشبكة، وشهرة الاسم. وسيتطلَّب نجاح الانقسام الجديد هجرة الغالبية العظمى من المستخدمين، وقوى التعدين، وكل ما يتعلَّق بالبنى التحتية في نفس الوقت للعملة الجديدة. وإن لم تحصل على تلك الغالبية العظمى، فالنتيجة المتوقَّعة هي أن كلا العملتَين سيتم تبادلهما مقابل بعضهما البعض في البورصات. لهذا، إنْ أمَل الأفراد المسئولون عن الانقسام بأن ينجح انقسامهم، فسيكون عليهم بيع جميع عملاتهم القديمة على أمل أن يفعل الجميع الشيء ذاته؛ وذلك كي تنهار أسعار العملة القديمة وتصعد أسعار العملة الجديدة، جاذبةً كل طاقة التعدين والشبكة الاقتصادية إلى الشبكة الجديدة. لكن ولأن أي تغيير بأي معيار في عمل البيتكوين من المرجَّح أن يعود بمنافع على بعض أعضاء الشبكة على حساب الآخرين، فمن غير المرجَّح أن يحدث اتفاق جماعي للانتقال إلى العملة الأخرى؛ حيث إنه وبشكل عام، ينجذب غالبية حَمَلة البيتكوين إلى طبيعة قوانينه الآلية المُمانِعة لتوجيهه من قِبَل الأطراف الثالثة. ومن غير المرجَّح أن يُخاطر هؤلاء الأعضاء بمنح حرية إجراء تغييرات جوهرية بالشبكة لمجموعة جديدة تطرح شيفرةً برمجية أساسية غير متوافقة مع القوانين الحالية. ووجود هذه الغالبية أو عدم وجودها هو موضع جدل، ولكن ما يهم هو أنه دائمًا ما سيتواجد عدد كافٍ من الأعضاء، وسيستمرون باستخدام معايير النظام الحالي، إلا إذا تمَّ تقويض عملهم لأمر ما.

ففي ما عدا وجود حالة فشل كارثي في التصميم الحالي، يمكننا ضمان أن تختار نسبة كبيرة من العُقَد استمرار استخدامها للتطبيق الحالي؛ ممَّا يجعل تلقائيًّا ذلك الخيار آمنًا أكثر لأي شخص يفكِّر باتخاذ القرار بالانقسام. والمشكلة بقرار الانقسام هي أن الطريقة الوحيدة لضمان نجاحه هي عبر بيع عملاتك في السلسلة القديمة، ولكن لا أحد يريد أن يبيع عملاته في الشبكة القديمة للانتقال إلى الشبكة الجديدة ليكتشف عدم انتقال أحد، ويكتشف هبوط قيمة العملة في الشبكة الجديدة. وبشكل إجمالي، لا يتم الانتقال إلى تطبيق قوانين جديدة إلا إذا أراد غالبية أعضاء الشبكة الانتقال سويةً بعد الاتفاق على هذه القوانين، وأي انتقال لا يتضمَّن غالبية الأعضاء هو بالتأكيد أمر كارثي اقتصاديًّا على أي شخص شارك بالعملية. وبما أن أي انتقال إلى أي تطبيق جديد غالبًا ما يمنح الطرف الذي اقترح الانتقال تحكُّمًا كبيرًا بمستقبل مسار البيتكوين، فإن حمَلة البيتكوين الضروريين لنجاح هذا الانتقال يرفضونه؛ وذلك لأنهم مختلفون فكريًّا بشكل كبير لأن يكون لأي مجموعة السلطة على البيتكوين. فغالبًا لن يدعم حملة البيتكوين حركة الانقسام هذه. إن وجود هذه المجموعات التي تدعم الانقسامات تشكِّل خطرًا على الآخرين. وربما يفسِّر هذا التحليل سبب مقاومة البيتكوين لجميع محاولات تغييره بشكل كبير حتى الآن. فمشكلة التنسيق لتنظيم انتقال متزامن بين أشخاص بمطامع عدائية، لدى كثير منهم إيمان راسخ بمبدأ عدم الثبات لهدف الثبات، هي أمر صعب جدًّا فيما عدا وجود سبب ضاغط يجبر الناس على الانتقال من التطبيق الحالي.

مثلًا، سَيُسرُّ المُعدِّنون بتعديلٍ يرفع معدَّل إصدار العملة بهدف زيادة قيمة العملات التي تكافئ المُعدِّنين، لكن لن يُسرَّ حاملو العملة الحاليين بهذا التعديل؛ ولذلك لن يوافق حملة العملة على تعديل كهذا. بشكل مشابه، قد يستفيد المُعدِّنون من تعديل آخر بهدف زيادة حجم كتل شبكة البيتكوين؛ حيث إن ذلك التعديل سيسمح لهم بالقيام بتحويلات أكثر في الكتلة الواحدة؛ ممَّا يؤدِّي إلى حصولهم على أرباح أكثر من رسوم التحويلات، وسيزيد من الدخل القادم من استثمارهم لمعدات التعدين الخاصة بهم. لكن هذا لن يُرضي حَمَلة البيتكوين الذين يريدونه على المدى الطويل، والذين سيُقلقهم أن زيادة حجم الكتل ستتسبَّب في زيادة حجم سلسلة الكتل (Blockchain)؛ ممَّا سيجعل إدارة عقدة كاملة أغلى ثمنًا، الأمر الذي يؤدِّي إلى انخفاض عدد العُقد في الشبكة، ويجعلها أكثر مركزية، وبالتالي يجعلها أكثر عرضةً للهجمات. لهذا، لا يستطيع المبرمِجون الذين يُطوِّرون تطبيقات لتشغيل عُقَد البيتكوين أن يفرضوا أي تغيير على أي أحد؛ حيث إن مهمة هؤلاء المبرمجين هي عرض شيفرتهم، وللمستخدم كامل الحرية بالشيفرة التي سيحملها أو بالنسخة التي سيحملها. وغالبًا سيُحمِّل المستخدمون الشيفرة المتوافقة مع التطبيقات الحالية أكثر من أي شيفرة أخرى غير متوافقة؛ وذلك لأن نجاح الشيفرة الأخرى متعلِّق في تشغيل غالبية أعضاء الشبكة لها.

بالنتيجة، يُظهِر البيتكوين تحيُّزًا كبيرًا للوضع الراهن؛ حيث إنه إلى الآن لم يتم تطبيق إلا التغيُّرات البسيطة وغير الجدلية على شيفرته البرمجية، وانتهت جميع محاولات إجراء تعديلات كبيرة على الشبكة بفشل ذريع، ليُسرَّ بذلك مستخدمو البيتكوين القدامى الذين أكثر ما يُسعدهم في عُملتهم هو ثباتها ومقاومتها للتغيير. وأهم وأبرز المحاولات كانت تلك المهتمة بزيادة حجم الكتل المنفردة وذلك لزيادة إجمالي التحويلات، وجمعت بعض المشاريع أسماءً من أشهر وأقدم مستخدمي البيتكوين والذين أنفقوا الكثير في محاولة كسب شهرة للعملة. ويُعدُّ «جافن أندرسن» واحدًا من أكثر الوجوه شُهرة؛ حيث ارتبط اسمه بالبيتكوين، وقد قام الأخير بعدة محاولات جاهدة لعمل انقسام بالبيتكوين وذلك لكي يحتوي على كتل أكبر، إضافةً إلى الكثير من أصحاب المصالح، ومنهم بعض المبرمجين المحترفين، ورياديين بأموال طائلة.

بداية، تمَّ اقتراح «Bitcoin XT بيتكوين XT» من قِبل «أندرسن» ومبرمج اسمه «مايك هرن» في يونيو من عام ٢٠١٥م، وكان كل منهما يركِّز على زيادة حجم الكتلة من ١ ميغابايت إلى ٨ ميغابايت، لكن رفضت غالبية العُقَد تحديث نسخهم لنُسخ هؤلاء، وفضَّلت هذه العُقد البقاء على كتل اﻟ ١ ميغابايت. ثم تمَّ توظيف هرن بعد ذلك من قِبَل «اتحاد سلسلة الكتل للمؤسسات المالية» لإدخال تكنولوجيا سلسلة الكتل (Blockchain بلوك تشين) للأسواق المالية، وقام هرن بنشر مقالة بالتزامن مع اتساع شهرته في «نيويورك تايمز» التي رحَّبت به كمن يحاول ببسالة إنقاذ البيتكوين الذي كان يُصوَّر كالمحكوم عليه بالفشل، فأعلن هرن «انتهاء تجربة البيتكوين» مشيرًا إلى قلة نمو سعة التحويلات كعائق قاتل لنجاح البيتكوين، ثم أعلن هرن أنه قد باع جميع عملاته. كان سعر البيتكوين في ذلك اليوم حوالي ٣٥٠$، ومع مرور السنتيَن التاليتَين، ازداد سعر البيتكوين أربعين ضعفًا بينما لم يُنتج «اتحاد سلسلة الكتل» الذي انضمَّ إليه أي منتَج حقيقي.
غير عابئ ودون رادع، اقترح جافن أندرسن بشكل فوري محاولةً جديدة لانقسام البيتكوين تحت اسم «بيتكوين كلاسيك Bitcoin Classic» والتي كانت سترفع حجم الكتلة إلى ٨ ميغابايت، ولم تفلح هذه المحاولة أيضًا، وفي مارس من عام ٢٠١٦م بدأ عدد العُقد التي تدعمه بالانخفاض. مع هذا، وفي عام ٢٠١٧م اجتمع المؤيِّدون لزيادة حجم الكتلة في «بيتكوين أنليميتيد Bitcoin Unlimited»، وهو تحالف كبير ضمَّ أكبر صانعي شرائح تعدين البيتكوين، إضافةً إلى فرد غني جدًّا يتحكَّم باسم موقع Bitcoin.com، وقد صرف موارد هائلةً محاوِلًا الترويج لكتل أكبر. فحدث الكثير من الصخب الإعلامي وكان شعور الأزمة واضحًا عند العديد من متابعي أخبار البيتكوين على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، مع هذا، لم يحدث أي انقسام، حيث استمرَّ القسم الأكبر من العُقد باستخدام التطبيقات المتوافقة مع تلك ذات سعة ١ ميغابايت.
أخيرًا، وفي أغسطس عام ٢٠١٧م، اقترح مجموعة من المبرمجين انقسامًا جديدًا للبيتكوين تحت اسم «Bitcoin Cash بيتكوين كاش» تضمَّن نفس الدعوة القديمة لزيادة حجم الكتلة، ومصير البيتكوين كاش هو مثال واضح لِما يئول إليه انقسام عن البيتكوين دون الحصول على دعم إجماع أعضاء الشبكة؛ حيث بقيت قيمة عملة البيتكوين أعلى بكثير من البيتكوين كاش؛ وذلك لأن الغالبية قد قرَّروا البقاء على السلسلة الأصلية. وبما أن البنية الاقتصادية التحتية للتبادلات والأعمال التي تدعم البيتكوين كانت تصب تركيزها على البيتكوين الأصلي، أدَّى هذا إلى استمرار انخفاض قيمة البيتكوين كاش حتى وصلت إلى ٥٪ من قيمة البيتكوين في نوفمبر عام ٢٠١٧م. فليس فقط أنها لم تستطِع الحصول على قيمة اقتصادية، بل واجهت أيضًا مشكلةً تقنية جدية جعلتها غير قابلة للاستعمال تقريبًا. كما أنه ونظرًا إلى أن السلسلة الجديدة لديها خوارزمية الدمج والتشفير ذاتها التي يملكها البيتكوين، فيمكن للمُعدِّنين أن يستخدموا طاقة معالجتهم على السلسلتَين واكتساب المكافآت في العُملتَين. لكن ولأن قيمة البيتكوين أعلى بكثير من قيمة البيتكوين كاش، فإن طاقة المعالجة وراء البيتكوين تبقى أعلى بكثير منها في البيتكوين كاش، ويمكن لمُعدِّني البيتكوين أن ينتقلوا إلى البيتكوين كاش في أي وقت تصبح المكافآت فيها أعلى. إن هذا الأمر يضع البيتكوين كاش في مأزق كبير، فإذا كانت صعوبة التعدين كبيرةً جدًّا، سيتأخَّر إنتاج الكتل ومعالجة التحويلات، لكن إذا تمَّ تحديد صعوبة التعدين لتكون سهلةً بشكل كبير، فسيتم تعدين العملة بسرعة كبيرة وسيزداد عرض البيتكوين كاش بشكل أسرع من البيتكوين؛ ممَّا سيزيد من عرض عملات البيتكوين كاش بشكل أسرع من سلسلة البيتكوين، الأمر الذي سيؤدِّي إلى نفاد مكافآت البيتكوين كاش بشكل أسرع، مُقلِّلًا بذلك من حوافز المُعدِّنين المستقبليين لتعدينها. وهذا الأمر قد يتسبَّب في التوجُّه نحو انقسام كلي آخر لضبط معدَّل نمو العرض للاستمرار في عرض أرباح ومكافآت للمعدِّنين. وبالنسبة إلى سلسلة منقسمة عن البيتكوين فهي مشكلة فريدة، إلا أنها لم تكن يومًا كذلك بالنسبة للبيتكوين نفسه؛ فلطالما كان تعدين البيتكوين يستخدم أكبر كميات من طاقة المعالجة من أجل خوارزميته، كما وكانت الزيادة في طاقة المعالجة دائمًا تدريجية، وذلك مع توظيف المُعدِّنين سعة تعدين أكبر. لكن مع عملة منقسمة عن سلسلة البيتكوين، فإنه كلما قلَّت قيمة العملة وانخفضت الصعوبة، كانت العملة أكثر عرضةً للتعدين السريع من قِبَل سعات التعدين الأكبر للسلاسل الأكثر قيمة.

وبعد فشل هذا الانقسام بتحدي مكانة البيتكوين الرئيسية، كان هناك محاولة أخرى تمَّ التفاوض بها على الانقسام لمضاعفة حجم الكتلة بين عدة شركات ناشئة نشطة في اقتصاد البيتكوين، وقد أُلغيت في منتصف نوفمبر لإدراك مروِّجيها أنهم لن يستطيعوا غالبًا تحقيق الإجماع على حركتهم، وأنه سينتهي بهم المطاف بعملة أخرى وشبكة أخرى. وقد تعلَّم القدامى في البيتكوين ألَّا يبالوا بمحاولات كهذه، متيقِّنين أنه مهما كان الحماس وقدر الضجة الإعلامية، فإن أي محاولة لتغيير قواعد الإجماع بالبيتكوين ستؤدِّي إلى إنتاج نسخة مُقلَّدة أخرى منه، كما كل العملات البديلة المنسوخة عن البيتكوين والتي تقلِّد التفاصيل الثانوية للبيتكوين لكنها لا تملك أهم صفاته (الثبات). نستنتج ممَّا سبق أنه من الواضح أن أفضلية البيتكوين لا تكمن في سرعته، أو سهولته أو تجربة المستخدم المريحة له، بل يمكن القول إن قيمة البيتكوين تأتي من خلال امتلاكه لسياسة نقدية ثابتة، ولا يمكن لأي فرد تغييرها بسهولة. لذلك، إن أي عملة تبدأ بمجموعة من الأفراد الذين يغيِّرون خواص البيتكوين فهي من بدايتها قد خسرت الخاصية أو الصفة الوحيدة التي تعطي البيتكوين قيمته.

إن استعمال البيتكوين هو أمر سهل ومباشر، لكن تغييره مستحيل افتراضيًّا. وبما أن البيتكوين عملة طوعية، فإنه لا يتم إرغام أحدٍ على استخدامها، لكن أولئك الذين يريدون استخدامها ليس أمامهم خيار سوى اتباع قواعدها؛ فمحاولة تغيير البيتكوين بأية طريقة ليست ممكنةً فعليًّا، وإذا تمَّت المحاولة، فسينتهي الأمر بإنتاج عملة مُقلَّدة أخرى لا معنى لها تضاف إلى الآلاف من العملات الموجودة حاليًّا. لهذا، يجب أن يتم استخدام البيتكوين كما هو، ويجب قَبوله بما تقتضي قوانينه وبما يُقدَّم لنا. فالبيتكوين هو السيادة؛ وهو يعمل بقواعده الخاصة، ولا يمكن لأي دخيل خارجي تعديل قوانينه؛ ولهذا ربما من المفيد حتى أن نُفكِّر بمعايير البيتكوين على أنها مشابهة لدوران الأرض أو الشمس أو القمر أو النجوم، وهي قوًى تقع خارج سيطرتنا؛ بحيث يتوجَّب علينا أن نتقبَّلها كما هي ولا نحاول تغييرها أو تعديلها.

(٣) الأنظمة المضادة للهشاشة

إن البيتكوين هو تجسيد لفكرة الأنظمة المضادة للهشاشة، والتي تُعرف بأنها الكسب من المِحن والاضطرابات. فيمكن القول إن البيتكوين ليس عصيًّا على الهجمات فحسب، بل إنه أيضًا مضاد للهشاشة على الصعيدَين الاقتصادي والتقني. وبينما باءت محاولات قتل البيتكوين بالفشل حتى الآن، جعلته العديد من هذه المحاولات أقوى؛ ممَّا سمح للمبرمجين أن يحدِّدوا نقاط ضعفه ثم قاموا بإصلاحها. إضافةً إلى ذلك، فإن إحباط أي هجوم يشكِّل تهديدًا للبيتكوين هو نقطة إيجابية لصالحه؛ حيث إن هذا الأمر يشكِّل شهادةً ودعاية لأمن الشبكة أمام المشتركين بها وللناس خارجها.

ولقد أخذ فريق عالمي من المبرمجين، والمراجعين، والمخترقين المتطوِّعين على مسئوليتهم اهتمامًا مهنيًّا، وماليًّا، وفكريًّا في العمل على تحسين وتقوية الشيفرة البرمجية للبيتكوين والشبكة، بحيث سيجذب وجود أي خطر أو نقاط ضعف في خواص الشيفرة البرمجية بعضًا من هؤلاء المبرمجين ليُقدِّموا حلولًا للمشكلة، ولتتم مناقشة تلك الحلول، واختبارها، ومن ثم عرضها على أعضاء الشبكة لكي يتم تبنيها. ويمكن القول إن التغييرات الوحيدة التي جرت على الشبكة حتى الآن كانت تغييرات تشغيليةً تسمح للشبكة بالعمل بفعالية أكبر، وليست تغييرات تعدِّل من جوهر عمل العملة. إضافةً لهذا، يمكن لأولئك المبرمجين أن يمتلكوا عملات بيتكوين؛ ممَّا يعطيهم الدافع المالي ليعملوا على التأكُّد من نجاحه ونموه. بالمقابل، يكافئ النجاح المستمر للبيتكوين المبرمجين ماليًّا، وبالتالي يسمح لهم بأن يكرِّسوا وقتًا أكثر وجهدًا أكبر لحماية وصَون البيتكوين. وبهذا، أصبح بعض المبرمجين البارزين الذين يعملون على حماية وصون البيتكوين أغنياء بما يكفي من استثمارهم في البيتكوين، حتى استطاعوا جعله حرفتهم الأساسية دون أن يستلموا أي مقابل من أي أحد.

أمَّا من حيث التغطية الإعلامية، فيبدو أن البيتكوين هو تجسيد جيد للمثل القائل: «أي دعاية هي دعاية جيدة.» فالبيتكوين كان دائمًا سيتلقَّى تغطيةً إعلامية عدائية غير دقيقة؛ لأنه تكنولوجيا جديدة ليست سهلة الفهم كما هو الحال مع الكثير من التكنولوجيات. وجمعَ موقع 99bitcoin.com أكثر من ٢٠٠ مثال على مقالات شهيرة تعلن موت البيتكوين على مر السنين، ووجد بعض كاتبي هذه المقالات أن البيتكوين يخالف رؤيتهم للعالم، والتي غالبًا ما تكون متعلِّقةً بنظرية إصدار وإدارة الدولة للنقد أو المذهب الكينزي لأهمية عرض نقدي مرن، فرفض أولئك الكُتَّاب الأخذ في وضع الاعتبار باحتمالية كونهم على خطأ. بل بالمقابل، استنتجوا أن وجود البيتكوين هو الخاطئ بالضرورة؛ ولذلك تنبَّئوا أنه سيموت قريبًا. وآمن آخرون بشكل كبير بضرورة تغيُّر البيتكوين للإبقاء على نجاحه، وعندما فشلوا بتغييره بما يتناسب مع رغباتهم، استنتجوا أنه يجب أن يموت أيضًا. بالواقع، أدَّت هجمات أولئك الناس على البيتكوين إلى الكتابة عنه ووضعه كمصدر اهتمام لأكبر جمهور ممكن، وكلما ازداد عدد مرات نعي موت البيتكوين، ازدادت طاقة المعالجة الخاصة به، وتحويلاته وقيمة عملته السوقية. ولقد بدأ العديد من حَمَلة البيتكوي — بما فيهم هذا الكاتب — بتقدير أهمية البيتكوين عبر ملاحظة عدد المرات التي توقَّع الناس فيها نهاية البيتكوين، وكيف أنه استمرَّ رغم ذلك بالعمل بنجاح. فلم يستطع عدد مرات نعي البيتكوين من إيقافه، بل بالمقابل يبدو أنه ساعد البيتكوين على اكتساب شهرة أكثر، وعلى إيقاظ فضول العامة لحقيقة أنه استمرَّ بالعمل بنجاح على الرغم من كل العدائية والصحافة السيئة التي تلقَّاها.
لقد حدث مثال مهم على نظام البيتكوين المضاد للهشاشة في خريف عام ٢٠١٣م، عندما ألقى مكتب التحقيقات الفيدرالي القبض على المالك المزعوم لموقع Silk Road، والذي كان سوقًا مجانية تمامًا على الإنترنت تسمح للناس ببيع وشراء أي شيء يريدونه على الإنترنت مباشرة، بما في ذلك المخدرات غير القانونية. فتنبَّأ غالبية المحلِّلين مع ارتباط البيتكوين في عقل العامة بالمخدرات والجرائم أن إغلاق الموقع سيدمِّر استخدام البيتكوين. فانخفضت الأسعار في ذلك اليوم من مستويات ١٢٠$ إلى مستويات ١٠٠$، لكن البيتكوين عاد بسرعة كما كان وبدأ بارتفاعٍ كبير في الأسعار؛ حيث وصل سعر البيتكوين الواحد خلال عدة أشهر إلى ١٢٠٠$. فحتى وقت كتابة هذا الكتاب، لم ينخفض السعر أبدًا إلى المستويات التي كان عليها قبل إغلاق موقع «سيلك رود». ومن خلال نجاته بسلامة من إغلاق موقع سيلك رود، أظهر البيتكوين أنه أكثر من مجرَّد عملة للجريمة، واستفاد خلال تلك العملية من الدعاية المجانية بسبب التغطية الإعلامية لهذا الموقع.
ظهر مثال آخر على نظام البيتكوين المضاد للهشاشة في سبتمبر عام ٢٠١٧م بعد إعلان الحكومة الصينية إغلاق كل البورصات الصينية التي كانت تتم فيها مبادلات البيتكوين. وبينما كانت أول ردة فعل هي الذعر حيث ظهر أن سعر البيتكوين قد انخفض بنسبة ٤٠٪، إلا أنها كانت مسألة ساعات حتى تعافى سعر البيتكوين مجدَّدًا. وبعد مرور عدة أشهر على الحادثة ازداد سعره لأكثر من الضعف من الوقت الذي كان فيه قبل الحجب الحكومي عليه. وبالرغم من ظهور حجب البورصات لتبادلات البيتكوين كإعاقةٍ لتبيُّنه؛ وذلك عبر خفض سيولته، إلا أنه من الواضح أن هذا الحجب قد خدم مسألة تعزيز قيمة البيتكوين؛ فبدأت تحويلات أكثر بالظهور بعيدًا عن البورصات في الصين، بحجم كبير جدًّا في مواقع كموقع Localbitcoins.com، فكان من الواضح أن نتيجة تعليق التجارة في الصين كانت معاكسةً للتأثير المقصود؛ حيث إنها دفعت الصينيين للتمسُّك بعملات البيتكوين الخاصة بهم للمدى الطويل بدلًا من التجارة بها على المدى القصير.

(٤) هل يستطيع البيتكوين التوسُّع؟

في زمن كتابة هذا الكتاب، يُعدُّ السؤال عن توسُّع البيتكوين أو زيادة سعة التحويلات واحدًا من أهم النقاشات حول البيتكوين؛ فكتلة ١ ميغابايت من البيتكوين تعني أن سعة التحويلات هي أقل من ٥٠٠٠٠٠ تحويل في اليوم، ولقد اقترب البيتكوين إلى هذا الحد من التحويلات من قبل، وبالنتيجة ارتفعت رسوم التحويلات بشكل كبير خلال الفترة السابقة. لكن قد يؤدِّي إدخال واستعمال تكنولوجيا تسمَّى «SegWit سيغويت» إلى زيادة السعة اليومية بأربعة أضعاف، لكن بالرغم من ذلك، يبدو واضحًا أنه سيكون هناك حد صعب تخطيه لعدد التحويلات التي يمكن لسلسلة كتل البيتكوين معالجتها؛ وذلك بسبب طبيعة البيتكوين الموزَّعة وغير المركزية؛ حيث إنه يتم تسجيل كل تحويل في البيتكوين عند جميع عُقَد الشبكة المُرغَمين على إبقاء نسخة من كامل سِجل التحويلات. يعني هذا بالضرورة أن ثمن تسجيل التحويلات سيكون أكبر بكثير من أي حل مركزي يحتاج سجلًّا واحدًا وبعض النسخ الاحتياطية؛ ولهذا إن أفضل أنظمة للدفع هي أنظمة مركزية لسبب وجيه؛ فإبقاء سِجل مركزي واحد أرخص من إبقاء عدة سِجلات مُوزَّعة مع القلق الدائم حول تحديثهم ومزامنتهم، وهو عملية لا يمكن حتى الآن تنفيذها إلا عبر نظام إثبات العمل الخاص بالبيتكوين.
فحلول الدفع المركزية كالفيزا أو الماستر كارد تُوظِّف سجلًّا واحدًا مركزيًّا يضم جميع التحويلات التي تمَّت، بالإضافة لنسخة احتياطية منفصلة تمامًا، ويمكن للفيزا أن تعالج حوالي ٣٫٢٠٠ تحويل بالثانية، أو ١٠٠٫٨ مليار تحويل في السنة.٥ بينما كتل البيتكوين والتي سعتها ١ ميغابايت يمكنها أن تعالج ٤ تحويلات في الثانية كحد أقصى، أو ٣٥٠٠٠٠ تحويل في اليوم، أو حوالي ١٢٠ مليون تحويل في السنة. ولكي يعالج البيتكوين المائة مليار تحويل التي تعالجها الفيزا، فستحتاج كل كتلة منه لأن تكون حوالي ٨٠٠ ميغابايت؛ ممَّا يعني بأنه كل ١٠ دقائق تقريبًا ستحتاج كل عقدة في البيتكوين أن تضيف بيانات بحجم ٨٠٠ ميغابايت؛ بمعنى أنه ستضيف كل عقدة في البيتكوين كل سنة ما يقارب ٤٢ تيرابايت من البيانات، أو ٤٢٠٠٠ غيغابايت لسلسلة الكتل الخاصة بها. إن رقمًا كهذا سيكون خارجًا عن نطاق طاقة المعالجة الموجودة في الحواسيب المتاحة تجاريًّا الآن وحتى في المستقبل القريب؛ حيث إن الحاسوب الاستهلاكي المتوسط أو القرص الصلب الخارجي يملك سعةً متوسطة تقارب اﻟ ١ تيرابايت؛ أي ما يقارب قيمة أسبوع من التحويلات بأحجام الفيزا.
لتوضيح أكثر، إن البنية التحتية للحوسبة التي يستخدمها موظَّفو الفيزا لإجراء تلك التحويلات تستحق الدراسة؛ ففي عام ٢٠١٣م، أظهر تقرير أن الفيزا تملك مركز بيانات يتم وصفه ﺑ «قلعة رقمية محصَّنة»، محتويًا على ٣٧٦ خادمًا، ٢٧٧ جهاز تحويل، ٨٥ راوتر و٤٢ جدارًا ناريًّا.٦ وبما أن طبيعة نظام فيزا المركزي تجعل منه نظام نقطة الفشل الواحدة، فإنه يتم توظيف كميات كبيرة من التكرار والمساحة التخزينية الاحتياطية للحماية من الظروف المباغتة، بينما في حالة البيتكوين، وبسبب تواجد عدد كبير من العُقَد، فإن ذلك سيقلِّل من أهمية كل عقدة بشكل فردي؛ ممَّا يجعلها غير أساسية وغير حاسمة، الأمر الذي سيتطلَّب كميةً أقل من الحماية والسعة. مع ذلك، فستحتاج العُقد التي يمكنها أن تضيف ٤٢ تيرابايت من البيانات كل سنة حاسوبًا مُكلِّفًا جدًّا، كما أن سعة حجم الشبكة المطلوبة لمعالجة كل تلك التحويلات كل يوم ستكون كبيرة، وستتطلَّب تكلفةً باهظة؛ ممَّا سيجعل الشبكة معقدةً وغير عملية ومكلِّفةً بالنسبة لشبكة موزعة.

ولا يوجد سوى عدد قليل جدًّا من تلك المراكز في العالم؛ وهي تلك المراكز المستخدمة من قِبل الفيزا أو الماستر كارد، وبعض معالجات الدفع الأخرى. وإذا حاول البيتكوين معالجة سعة كهذه، فلن يتمكَّن من منافسة تلك الحلول المركزية وهو يمتلك آلاف المراكز الموزَّعة على مقياس مشابه، بل كان سيتوجَّب عليه أن يصبح مركزيًّا، وأن يوظِّف القليل من مراكز البيانات. ولكي يبقى البيتكوين موزَّعًا، يجب أن تكون تكلفة كل عقدة على الشبكة تكلفةً معقولة بالنسبة لآلاف الأفراد حتى تشغِّلها حواسيب شخصية متوفِّرة تجاريًّا، ويتوجَّب أن يكون تحويل البيانات بين العُقد على مستويات مدعومة من قِبَل سعة شبكة الاتصالات للمستهلكين العاديين.

فمن غير الممكن التصوُّر أن البيتكوين سيكون قادرًا على إجراء نفس سعة التحويلات داخل السلسلة كتلك التي تدعمها الأنظمة المركزية، وهذا يفسِّر سبب ارتفاع ثمن التحويلات، والتي من المرجَّح استمرار ارتفاعها مع استمرار نمو الشبكة. فغالبًا، إن أكبر مجال ونطاق لنمو سعة تحويلات البيتكوين سيكون خارج سلسلة الكتل، بينما يمكن إجراء المدفوعات الصغيرة وغير المهمة باستخدام الكثير من التقنيات الأبسط. وهذا الأمر سيضمن عدم التنازل أو المساس بأهم خاصيتَين في البيتكوين واللتَين تبرِّران استخدام طاقة معالجة كبيرة، وهما: النقد الرقمي السليم والنقود الرقمية. فلا يوجد أية تقنيات بديلة تمنح هاتَين الوظيفتَين، لكن هناك العديد من التقنيات التي يمكنها أن توفِّر مدفوعات بحجمٍ قليل وإنفاق استهلاكي بثمن منخفض، ويمكن تطبيق هذه التقنيات لهذه الخيارات بشكل سهل لتكون موثوقةً نسبيًّا؛ وذلك باستخدام التقنيات الحالية للنظام المصرفي. لهذا، إن استخدام البيتكوين بشكل واسع للمدفوعات التجارية ليس أمرًا قابلًا للتحقيق؛ حيث تحتاج التحويلات وقتًا يُقدَّر ﺑ ١ إلى ١٢ دقيقةً حتى تحصل على التأكيد الأول لها، ولا يمكن للتجار والمستهلكين الانتظار كل ذلك الوقت على المدفوعات. ومع أن خطورة هجمة إنفاق مزدوج ليست كبيرةً بما يكفي لدفعة صغيرة، إلا أنها كبيرة بما يكفي بالنسبة للتجار الذين يستلمون كميات كبيرةً من التحويلات كما في الهجمة التي حصلت على موقع المراهنات Bitcoin dice، والتي سيتم نقاشها لاحقًا في قسم الهجمات على البيتكوين.
فبالنسبة للأشخاص الذين يريدون استخدام البيتكوين كمخزن قيمة رقمي طويل الأمد أو للأشخاص الذين يريدون إتمام تحويلات مهمة دون المرور بحكومة مستبدة، فرسوم التحويلات المرتفعة الثمن هي ثمنٌ يستحق أن يُدفع. والادخار بطبيعته في البيتكوين لن يتطلَّب الكثير من التحويلات؛ لذلك يستحق أن يُدفع فيه رسومٌ مرتفعة من أجل هذه التحويلات. وبالنسبة للتحويلات التي لا يمكن أن تتم باستخدام النظام المصرفي التقليدي مثل أشخاص يريدون إخراج أموالهم من بلد يعاني تضخُّمًا اقتصاديًّا أو يعاني من وجود ضوابط على رءوس الأموال، فستكون رسوم التحويلات المرتفعة الثمن سعرًا يستحق أن يُدفع أيضًا. وحتى في هذه المراحل المنخفضة التبنِّي، زاد الطلب على النقود الرقمية والنقد الرقمي السليم من رسوم التحويلات للدرجة التي لا يمكن فيها أن تُنافس الحلول المركزية مثل PayPal وبطاقات الائتمان فيما يتعلَّق بالمدفوعات الصغيرة. ولكن كل ذلك لم يُعِق نمو البيتكوين، ويشير إلى أن طلب السوق عليه يتم دفعه وتحريكه من خلال استعماله كنقد رقمي وكمخزن رقمي للعملة، وليس من أجل المدفوعات الرقمية الصغيرة.
وإذا استمرَّت شعبية البيتكوين بالازدياد، فهناك بعض الحلول المحتمَلة لمشكلة التوسُّع والتي لا تتضمَّن أي تغيير على بنية البيتكوين، بل تستغل الطريقة التي تمَّ بها بناء التحويلات لزيادة عدد المدفوعات المحتمَلة. فيمكن لكل تحويل في البيتكوين أن يحوي عددًا من المُدخَلات والمُخرَجات. وباستخدام تكنولوجيا تسمَّى «CoinJoin كوين جوين»، يمكن تجميع عدة مدفوعات مع بعضها البعض في تحويل واحد؛ ممَّا يسمح بإجراء عدة مُدخلات ومُخرجات باستخدام جزء فقط من المساحة، والذي كان من الممكن استخدامه في الحالة الأخرى. ومن المحتمَل أن يزيد هذا من حجم تحويلات البيتكوين لِمَا يُقدَّر بملايين التحويلات في اليوم. وبازدياد ثمن التحويلات بشكل أكبر، تزداد الاحتمالية بأن يُصبح هذا الخيار هو الخيار الشائع.
توجد احتمالية أخرى لزيادة توسُّع البيتكوين، وهي عن طريق مَحافظ USB الرقمية المحمولة التي يمكن صناعتها لتكون مضادةً للتلاعب، ومن الممكن التحقُّق من ميزانيتها في أي وقت. فستَحمل محرِّكات USB تلك المفتاح الخاص لعدد محدَّد من عملات البيتكوين سامحةً لأي شخص يحملها بسحب النقود منها. ويمكن استخدامها أيضًا كنقود فعلية مادية، ويمكن لكل حامل لها أن يؤكِّد القيمة في تلك المحرِّكات؛ ففي الوقت الذي كانت تزداد فيه الرسوم على الشبكة، لم يكن هناك أي فترة من الراحة في ازدياد الطلب على البيتكوين، ويشهد على ذلك سعره المتزايد؛ ممَّا يشير إلى أن المستخدمين يُقدِّرون قيمة التحويلات بما هو أكثر من تكلفة هذه التحويلات، والتي من المُفترض عليهم دفعها. فبدلًا من أن يبطئ ازدياد ثمن الرسوم من عدد متبنِّي البيتكوين، فإن كل ما يحصل هو أنه يتم نقل التحويلات الأقل أهميةً إلى خارج السلسلة، وتزداد أهمية التحويلات التي تجري داخل السلسلة. لهذا، إن أهم حالات الاستخدام للبيتكوين كمخزن للقيمة، وللمدفوعات التي لا يمكن مُصادرتها ومنعها، تستحق رسوم التحويلات الموضوعة؛ فعندما يشتري الناس البيتكوين لتخزينه لفترة طويلة، يتم توقُّع دفع تحويل واحد صغير عادةً ما يتضاءل حجمه مقارنةً بالعمولة والعلاوة الموضوعة من قِبَل البائعين. لهذا، إن رسوم تحويلات البيتكوين تستحق أن تُدفع بالنسبة للأفراد الذين يبحثون عن طريقة للهروب من الضوابط المفروضة على رأس المال، أو للذين يريدون إرسال أموالهم لبلدانٍ تواجه صعوبات اقتصاديةً باعتبار البيتكوين البديل الوحيد لهم. ومع انتشار تبنِّي البيتكوين وازدياد رسوم التحويلات فيه إلى حدٍّ تصبح فيه مسألة مهمة للناس التي تدفع ثمنها، سيكون هناك ضغط اقتصادي لاستعمالٍ أكبر لحلول زيادة التوسُّع المذكورة فيما سبق، والتي بدورها ستسمح بزيادة سعة التحويلات دون الحاجة إلى القيام بتغييرات قد تساوم وتقوِّض قواعد الشبكة، والتي قد تؤدِّي إلى انقسام في الشبكة.

بعيدًا عن تلك الاحتمالات، إن القسم الأكبر من تحويلات البيتكوين اليوم تحصل خارج السلسلة، ويتم تسويتها داخل السلسلة فقط؛ حيث إن الأعمال القائمة على البيتكوين، كالبورصات، والكازينوهات، ومواقع الألعاب، لا تستخدم سلسلة كتل البيتكوين إلا لتسجيل إيداعات وسحوبات الزبائن، وتقوم بتسجيل كل التحويلات داخل منصاتهم على قواعد بياناتهم المحلية، والتي يتم تسعيرها بالبيتكوين. لهذا السبب، لا يمكن معرفة العدد الدقيق لتلك التحويلات بسبب عدد الأعمال الكبير جدًّا، وبسبب سرية بيانات التحويلات التي تجري على منصاتهم الحصرية، وبسبب التغيُّرات الديناميكية السريعة في اقتصاد البيتكوين. لكن قد يجعل تقدير مُحافظ عدد هذه التحويلات أكبر ﺑ ١٠ مرات من عدد التحويلات الحاصلة على سلسلة كتل البيتكوين. كنتيجة، يتم استخدام البيتكوين حاليًّا كأصول احتياطية في غالب التحويلات في اقتصاد البيتكوين، وإذا استمرَّ نمو البيتكوين، فمن الطبيعي أن نرى عدد التحويلات خارج السلسلة يزداد بشكل أسرع منه من التحويلات داخل السلسلة.

قد يناقض هذا التحليل الخطاب الذي رافق ظهور البيتكوين والذي قام بترويجه على أنه سيضع حدًّا للمصارف والأعمال المصرفية. لكن الفكرة بأن الملايين أو حتى المليارات ستستطيع استعمال شبكة البيتكوين مباشرةً من أجل القيام بجميع تحويلاتهم، هي فكرة غير واقعية؛ وذلك لأنها تستلزم على كل عضو في الشبكة أن يسجِّل كل تحويل لكل عضو آخر فيها، ومع ازدياد العدد، سيزداد حجم التسجيلات وستصبح الشبكة حاملةً لثقل كبير من الحوسبة. على الجانب الآخر، سيستمر ازدياد الطلب على خواص البيتكوين الفريدة كمخزن للقيمة؛ ممَّا سيجعل الأمر صعبًا على البيتكوين أن ينجو كشبكة نظير إلى نظير نقية تمامًا، وستُصبح حلول معالجة الدفع التي تجري خارج سلسلة كتل البيتكوين أمرًا مفروضًا ليستمر البيتكوين بالنمو، وستظهر هذه الحلول من خلال منافسة الأسواق الحرة.

فهناك سبب آخر هام لعدم التخلي عن المصارف كمؤسسة وهو أمان الوصاية المصرفية؛ فبينما يُقدِّر الأصوليون في البيتكوين قيمة الحرية الممنوحة لهم بقدرتهم على الاحتفاظ بنقودهم وعدم الاعتماد على أي مؤسسة مالية من أجل الوصول إليها، إلا أنه بالمقابل لا تريد الغالبية العظمى من الناس تلك الحرية، وتفضِّل ألَّا يكون مالها الخاص تحت مسئوليتها بسبب الخوف من السرقة أو الخطف؛ فمن السهل النسيان في هذه الأيام في خضم الخطابات الشائعة المشهورة المضادة للبنوك، وخاصةً في أوساط ودوائر حَمَلة البيتكوين، أن الإيداع المصرفي هو عمل شرعي طالب به الناس لمئات السنين حول العالم. فدفع الناس بسعادة مقابل تخزين أموالهم في مكان آمن كي يستطيعوا حمل كمية صغيرة من النقود ومواجهة خطورة فقدان كمية صغيرة منها وليس كميةً كبيرة. فاستعمال البطاقات البنكية بدلًا من النقود الحقيقية سمح للناس حَمْل مجموعات قليلة من هذه النقود معهم كل الوقت، وهو غالبًا ما جعل المجتمع الحديث أكثر أمانًا ممَّا إذا كان غير ذلك، حيث لا يتوقَّع المهاجمون المحتملون في هذه الأيام أن يقابلوا أحدًا ما يحمل معه كميةً كبيرة من النقود، لدرجة أن سرقة البطاقات البنكية أصبحت غير مثمرة لجني أرباح كبيرة؛ حيث إن الضحية ستحاول وقفها بأسرع وقت ممكن.

فحتى وإن كانت شبكة البيتكوين قادرةً على دعم مليارات التحويلات في اليوم متفاديةً الحاجة لطبقة معالجة ثانية، فسيلجأ الكثير بالنهاية، إن لم يكن معظم حَمَلة البيتكوين ذوي الرصيد الكبير، للاحتفاظ بعملات البيتكوين الخاصة بهم في واحدة من الخدمات الكثيرة من أجل الحفاظ على أمان البيتكوين. فهذا قطاع جديد كليًّا، ومن المرجَّح أن يتطوَّر بشكل هائل ليوفِّر حلولًا تقنية للمساحة التخزينية بدرجات مختلفة من الأمان والسيولة. ومهما كان الشكل الذي سيتخذه هذا القطاع، فسترسم الخدماتُ التي يقدِّمها وكيفية تطوُّرها شكلَ ومعالم النظام المصرفي المبني على البيتكوين في المستقبل. ولا يمكنني أن أتوقَّع الشكل الذي ستتخذه هذه الخدمات أو ما هي القدرات التقنية التي ستحملها، لكن يمكنني توقُّع أنها ستستخدم آليات إثبات مشفرة، إضافةً إلى تحقيق سمعة السوق كي تعمل بنجاح. ومن الممكن تحقيق ذلك باستخدام تكنولوجيا تُدعى «Lightning Network شبكة البرق»، وهي تكنولوجيا تحت التطوير تَعِد بزيادة سعة التحويلات بشكل كبير عبر السماح للعُقَد بإدارة قنوات للدفع خارج سلسلة الكتل بحيث لا تستعمل سِجل البيتكوين إلا من أجل تأكيد مصداقية الميزانيات بدلًا من النقل.

ففي ٢٠١٦ و٢٠١٧م، وبينما كان البيتكوين يقترب من الحد الأقصى للتحويلات اليومية، استمرَّت الشبكة بالنمو كما هو واضح في بيانات الفصل الثامن؛ فسعة البيتكوين تزداد بزيادة قيمة التحويلات التي تُجرى داخل سلسلة الكتل، وليس بزيادة عدد تلك التحويلات. ولهذا، فالعديد من التحويلات يتم إجراؤها خارج سلسلة الكتل؛ بحيث يتم تسويتها على البورصات أو المواقع التي تستعمل البيتكوين؛ ممَّا يُحوِّل البيتكوين إلى شبكة تسوية أكثر من كونه شبكة دفع مباشر. هذا الأمر لا يمثِّل ابتعادًا عن عمل البيتكوين كعملة نقدية كما هو الاعتقاد الشائع؛ حيث إنه وبينما يتم استعمال مصطلح نقد (كاش) في أيامنا هذه ليدل على النقود التي تُستَعمل في تحويلات استهلاكية صغيرة، إلا أن المعنى الأصلي للمصطلح يُشير إلى النقود على أنها صكوك مالية يمكن لقيمتها أن تُحَوَّل مباشرةً دون اللجوء أو الاعتماد على ضمان الأطراف الثالثة. ففي القرن التاسع عشر، أشار المصطلح نقد لاحتياطي الذهب الخاص بالبنك المركزي، وكان معنى تسوية النقد هو النقل المادي للذهب بين المصارف. فإن صحَّ هذا التحليل، واستمرَّت قيمة البيتكوين بالنمو جنبًا إلى جنب مع التحويلات التي تتم خارج السلسلة، بينما لا تزداد التحويلات التي تجري داخل السلسلة بالنسبة ذاتها، فيمكننا فهم البيتكوين كالمصطلح القديم للنقد؛ أي بشكل مشابه للاحتياطي النقدي للذهب بدلًا من المصطلح الحديث للنقد وهو عملات ورقية تُستخدم للتحويلات الصغيرة.

نستنتج ممَّا سبق أن هناك الكثير من الاحتمالات لزيادة عدد تحويلات البيتكوين دون الاضطرار لتعديل بنية البيتكوين كما هي، ودون حاجة جميع مُديري العُقَد الحاليين للقيام بالتحديث في وقت واحد متزامن. وحلول التوسعة ستأتي من مُديري العُقَد وهم يُطوِّرون الطريقة التي من خلالها يرسلون البيانات في تحويلات البيتكوين لأعضاء الشبكة الآخرين. وسيتم هذا من خلال تجميع التحويلات معًا، تلك التحويلات التي تُجرَى خارج سلسلة الكتل وقنوات الدفع. ومن المرجَّح أن حلول التوسعة داخل السلسلة لن تكون كافيةً لتواكب الطلب المستمر على البيتكوين مع مرور الزمن؛ لذا وغالبًا، ستستمر حلول الطبقات الثانية في النمو بأهميتها؛ ممَّا سيؤدِّي إلى ظهور نوع جديد من المؤسسات المالية مشابه للمصارف في يومنا الحالي تستخدم التشفير وتعمل على الإنترنت بشكل رئيسي.

(٥) هل البيتكوين للمجرمين؟

إن واحدةً من أكبر الاعتقادات الخاطئة والشائعة عن البيتكوين منذ بدايته هي أنه يَصلُح بشكل كبير كعملة للمجرمين والإرهابيين؛ حيث إنه تمَّ نشر لائحة طويلة من المقالات الصحفية بادعاءات لا أساس لها تفيد بأن جماعات إرهابيةً وإجرامية تستخدم البيتكوين في نشاطاتهم، ثم تمَّ سحب الكثير من تلك المقالات،٧ لكن ليس قبل أن تُطبع تلك الفكرة في عقول الكثير من الناس بما فيهم المجرمين المُضَلَّلين.
في الواقع، إن سِجلَّ البيتكوين ثابت ومتاح عالميًّا، وسيحتوي هذا السجل على كل التحويلات ما دام البيتكوين مستمرًّا بالعمل. لهذا، ليس من الدقة القول إن مستخدمي البيتكوين مجهولو الهُوية، بدلًا من القول إن هُوياتهم مُستعارة. لأنه من المحتمل، لكن ليس أكيدًا، تحقيق الربط بين شخصيات الحياة الواقعية وعناوين البيتكوين، وبالتالي السماح بتتبُّع شامل لكل التحويلات عبر العنوان عندما يتم التحقُّق من الهُوية الحقيقية وراء هذا العنوان. فعندما يتعلَّق الأمر بإخفاء الهُوية الفعلية، من العملي لنا أن نفكِّر بكَون البيتكوين مجهول الهُوية كالإنترنت؛ فيعتمد الأمر على مهارتك بالتخفي ومهارة الآخرين بالبحث. لكن سلسلة كتل البيتكوين تجعل إخفاء الهُوية صعبًا جدًّا على الشبكة؛ حيث إنه وبينما من السهل التخلُّص من جهاز ما، أو عنوان بريد إلكتروني، أو عنوان IP، ومن ثم عدم استخدامه مرةً أخرى، إلا أنه من الصعب مسح مسار الموارد المتجهة إلى عنوان بيتكوين ما بشكل تام؛ حيث إن طبيعة بنية سلسلة كتل البيتكوين لا تجعله مثاليًّا للخصوصية.

وكل هذا يعني أنه من أجل ارتكاب أي جريمة يوجد بها ضحية فعلية، فسيكون من غير العقلاني بالنسبة للمجرمين استخدام البيتكوين؛ فطبيعة الهُويات المستعارة تعني أنه من الممكن ربط العناوين بهُويات العالم الحقيقي حتى بعد سنوات كثيرة من ارتكاب الجريمة. فيمكن للشرطة أو الضحايا أو المحقِّقين الذين يتم توظيفهم أن يقوموا بإيجاد رابط يقودهم إلى هُويات أولئك المجرمين، حتى بعد مرور العديد من السنوات. لهذا، كان مسار مدفوعات البيتكوين بحد ذاته سببًا في كشف هُويات العديد من تُجَّار المخدرات على الشبكة والإمساك بهم لأنهم وقعوا في خدعة كون البيتكوين مجهول الهُوية بالكامل.

إن البيتكوين تكنولوجيا خاصة بالنقد، والنقد هو شيء يمكن استعماله من قِبَل المجرمين طوال الوقت. لهذا، يمكن لأي شكل من أشكال النقد أن يتم استعماله من قِبَل المجرمين أو من أجل إتاحة الجريمة، لكن سِجل البيتكوين الثابت يجعله غير مناسب لهؤلاء المجرمين لارتكاب جرائم مع وجود ضحايا قد تكون لديهم نية في إجراء التحقيقات. فيمكن للبيتكوين أن يكون مفيدًا بشكل كبير في إتاحة «الجرائم التي لا تحتوي على ضحايا»؛ وذلك لأن غياب الضحية يعني ألَّا أحد سيحاول كشف هُوية «المجرم». في الواقع، وفي اللحظة التي يتجاوز بها الشخص الدعاية الضخمة لحكومات القرن العشرين، فسنجد أنه ليس هناك ما يُدعى بالجريمة التي لا تحتوي على ضحية؛ لأنه إن لم يحتوِ الفعل على ضحية، فهو ليس جريمةً بغض النظر عمَّا يعتقد بعض المُصوِّتين المُعتَدِّين بأنفسهم أو البيروقراطيين بشأن حقهم في سن وتشريع الأخلاق للآخرين. فيمكن للبيتكوين أن يكون مفيدًا في تلك الأعمال غير الشرعية لكن الأخلاقية بالكامل؛ لأنه لا يوجد هناك ضحايا يحاولون الإمساك بالمجرم. فتلك النشاطات غير المؤذية التي تمَّ ارتكابها ستظهر على سلسلة الكتل كتحويل فردي قد تتعدَّد أسبابه. لذلك، إن الجرائم التي لا تحتوي على ضحايا كالمقامرة على الشبكة والتهرُّب من الضوابط المفروضة على رأس المال، من الممكن للمرء أن يتوقَّع استخدام البيتكوين فيها، ولكن لن يُتوقَّع استخدام البيتكوين لجرائم القتل والإرهاب. لهذا، يبدو أنه يتم استخدام سلسلة كتل البيتكوين لتجارة المخدرات، كما دلَّتنا الأرقام الكبيرة من أعداد أولئك الذين يشترون المخدرات عبر البيتكوين والذين تمَّ التعرُّف عليهم من تطبيق القانون، مع العلم أن تلك التجارة غالبًا تَنتج عن شهوة المدمنين وليس عن قرار عقلاني. وفي حين أنه من الصعب إيجاد الإحصائيات الكافية حول هذا الموضوع، إلا أنني لن أتفاجأ إذا اكتشفت أن شراء المخدرات باستخدام البيتكوين أخطر بكثير منه باستخدام النقود الورقية المادية الحكومية.

بكلمات أخرى، سيزيد البيتكوين غالبًا من حرية الأفراد، بينما ليس بالضرورة أن يُسهِّل عليهم ارتكاب الجرائم؛ فهو ليس أداةً لنخاف منها، بل أداة يتم تبنِّيها على أنها جزء متكامل من مستقبل مسالم ومزدهر.

إن «المطالبة بفدية» هي واحدة من أكبر وأهم أنواع الجرائم التي تمَّ استخدام البيتكوين فيها بشكل كبير، وهي طريقة لدخولٍ غيرِ مصرَّح به إلى حواسيب الضحايا، وتُشفَّر ملفات الضحايا، ولا يُطلَق سراحها إلا في حال قيام الضحية بالدفع للمستلم غالبًا باستخدام عملات البيتكوين. وفي حين كانت تلك الأنواع من الجرائم موجودةً حتى قبل البيتكوين، إلا أن تنفيذها أصبح أكثر سهولةً منذ اختراعه، وهذا بلا شك أفضل مثال على استخدام البيتكوين لتسهيل وإتاحة الجريمة. مع هذا، يمكن للشخص ببساطة أن يفهم أن جرائم طلب الفدية تلك تستفيد وتستغل الحواسيب التي تفتقر للأمن والحماية. فالشركة التي يتم تشفير كامل نظام حوسبتها من قِبَل مجموعة من المخترِقين المجهولين الذين يطالبون ببضعة آلاف من الدولارات بعملة البيتكوين، هي شركة لديها مشاكل أكبر بكثير من أولئك المخترقين. وقد يكون دافع المخترقين هو بضعة آلاف من الدولارات، لكن قد يكون دافع الشركات المنافِسة أو العملاء أو حتى المُموِّلين في جمع بيانات تلك الشركة أكبر بكثير. بالنتيجة، سمحت جرائم المطالبة بالفدية عن طريق البيتكوين بتحديد وكشف العيوب في حماية وأمن الحواسيب، فأدَّت هذه العملية بالشركات لاتخاذ تدابير وقائية أفضل، وإلى زيادةٍ في نمو حماية الحواسيب كتجارة. بكلمات أخرى، يسمح البيتكوين بتسييل سوق حماية الحواسيب. وبينما يمكن للمخترقين حاليًّا الاستفادة من ذلك، إلا أنه على المدى البعيد، ستقوم الشركات المنتِجة بتحديد الموارد الفُضلى للحماية.

(٦) كيفية قتل البيتكوين: دليل المبتدئين

طوَّر العديد من مستخدمي البيتكوين اعتقادات شبه دينية في قدرة البيتكوين في النجاة من أي شيء ممكن؛ فالكمية الكبيرة من طاقة المعالجة المخصَّصة له، وتأكيد العدد الكبير من العُقَد الموزَّعة عالميًّا للتحويلات، تعني أنه من الصعب جدًّا أن يتم تغيير البيتكوين، وعلى الأرجح سيبقى كما هو. وبينما غالبًا ما يعتقد معظم أولئك الذين لا يعرفون البيتكوين جيدًا أنه سينتهي بلا شك؛ لأنه حتمًا سيتعرَّض للاختراق كما هو مصير أي شيء رقمي، إلا أنه عندما يتم فهم عمليات البيتكوين، سيصبح من الواضح أن «الاختراق» لن يكون مهمةً سهلة؛ فهناك العديد من التهديدات الأخرى للبيتكوين، وفي حالة الحديث عن أمن الحواسيب والتي تُعد مشكلةً كبيرة، فإن الاختراق سوف يتضمَّن اكتشاف المخترقين الذين لا يمكن التنبُّؤ بأعمالهم لزوايا جديدة في البيتكوين يمكن اختراقه منها. وتفسير جميع التهديدات المحتملة للبيتكوين وتقدير كلفتها هو أمر خارج عن إطار هذا الكتاب.٨ لهذا، سيراجع هذا القسم بعضًا من أخطر وأكثر التهديدات المتعلِّقة بالبيتكوين، إضافةً للتهديدات الأكثر ارتباطًا بهذا الكتاب وتركيزه على البيتكوين كنقد سليم.

(٧) القرصنة

إن مقاومة البيتكوين للهجمات متجذِّرة بثلاث خواص؛ بساطة أساسياته، وطاقة المعالجة الخاصة به والتي شغلها الشاغل هو ضمان أمن هذا التصميم البسيط، إضافةً إلى العُقَد الموزَّعة التي تحتاج إلى الوصول إلى اتفاق على أي تغيير كي يتم إجراؤه. ولرسم صورة عن درجة تحصين البيتكوين، تخيَّل المرادف الرقمي لوضع جميع مشاة الجيش الأمريكي وأسلحته حول ساحة مدرسة ما لحمايتها من الغزو، وستكون هذه هي درجة التحصين.

ففي جوهره، البيتكوين هو دفتر وسِجل ملكية لعملات افتراضية بحيث إن هناك ٢١ مليونًا فقط من تلك العملات، بالإضافة إلى بضعة ملايين من العناوين التابعة له، وكل يوم يتم نقل بعض تلك العملات فيما لا يتعدَّى ٥٠٠ ألف تحويلة. وقوة الحوسبة اللازمة لإدارة نظام كهذا ضئيلة جدًّا، ويمكن لحاسوب محمول ﺑ ١٠٠$ إدارتها في نفس الوقت الذي يتم تصفُّح الإنترنت عليه، ولكن يرجع سبب عدم تشغيل البيتكوين على حاسوب واحد لأن ترتيبًا وعملًا كهذا سيتطلَّب ثقةً في مالك الحاسوب، وثقةً في عدم كون هذا الحاسوب سهل الاختراق نسبيًّا.

فكل الشبكات الحاسوبية تعتمد في حمايتها على جعل بعض الحواسيب محصَّنةً ضد المهاجمين واستعمالها كمرجع نهائي، أمَّا البيتكوين فهو يأخذ خُطًى مختلفة تمامًا فيما يتعلَّق بالحماية الحاسوبية؛ فلا يأخذ البيتكوين على مسئوليته حماية جميع حواسيبه بشكل فردي، بل يعمل على افتراض أن حواسيب جميع العُقَد هي هجومية عدائية. فبدلًا من الثقة في أي من أعضاء الشبكة، يقوم البيتكوين بالتحقُّق من كل حركة يفعلها الأعضاء، وعملية التحقُّق هذه عبر نظام إثبات العمل هي ما يستهلك الكمية الكبيرة من طاقة المعالجة. وقد أثبت ذلك النظام فعاليته لأنه جعل حماية البيتكوين تعتمد على ضخامة طاقة المعالجة، وبذلك يكون منيعًا ضد مشاكل الدخول وتأكيد الهُوية. فإذا تمَّ الحكم على الجميع بعدم الصدق، فعلى الجميع أن يدفع ثمنًا باهظًا لإجراء التحويلات إلى السجل العام، وكل من يتم ضبطه محاولًا الخداع والتزوير سيخسر تلك الأثمان التي دفعها. بهذه الكيفية، ستجعل الحوافزُ الاقتصادية الخداعَ في البيتكوين أمرًا مكلِّفًا جدًّا، ومن غير المرجَّح له أن ينجح.

فلكي يخترق البيتكوين عن طريق إفساد سِجل التحويلات من أجل النقل الكاذب للعملات إلى حساب معيَّن أو لجعل هذا الحساب غير قابل للاستعمال، فإن هذا سيتطلَّب من عقدة ما أن تُدخِل كتلةً غير صالحة إلى سلسلة الكتل، ويتطلَّب من الشبكة أن تتبنَّاها وتستمر بالبناء على أساسها. لكن من غير المرجَّح أن ينتصر المخترقون بتلك المعركة، بل وستتزايد صعوبة ذلك مع تزايد ثمن إضافة الكتل؛ وذلك لأن تكلفة الكشف عن احتيال ما هي تكلفة صغيرة جدًّا بالنسبة للعُقد، بينما تكلفة إضافة كتلة من التحويلات تتزايد بشكل مستمر. إضافةً إلى ذلك، تهتم معظم العُقَد في الشبكة باستمرار البيتكوين وبقائه.

فهناك عدم تماثل جوهري في قلب تصميم البيتكوين بين تكلفة إضافة كتلة جديدة من التحويلات وتكلفة التأكُّد من صلاحية تلك التحويلات. هذا الأمر يعني أنه وفي حين أن تزوير السِّجل هو أمر ممكن تقنيًّا، إلا أن الحوافز الاقتصادية تتكدَّس ضد ذلك. ونتيجة لذلك، يُشكِّل سِجل التحويلات سِجلًا لا جدال فيه لكل التحويلات الصالحة التي تمَّ تأكيدها حتى الآن.

(٨) هجمة اﻟ ٥١٪

إن هجمة اﻟ ٥١٪ هي طريقة يُستخدم فيها كميات كبيرة من طاقة المعالجة لإنتاج تحويلات احتيالية ومُزوَّرة وذلك عبر إنفاق العملة ذاتها مرتَين؛ ممَّا يؤدِّي إلى إلغاء أحد التحويلَين وسرقة المستلم. وهذا الأمر يعني أنه إذا استطاع مُعدِّن ما، لديه قدرة على التحكُّم بنسبة كبيرة من معدَّل الهاش، حلَّ مسائل نظام إثبات العمل بشكل سريع، فبإمكانه أن ينفق عملة بيتكوين على سلسلة الكتل العامة التي تحصل عليها التأكيدات، بينما وبالوقت نفسه، يقوم بتعدين سلسلة منقسمة موازية بتحويل آخر لعملة البيتكوين ذاتها لعنوان آخر يعود للمهاجم. فيحصل متلقِّي التحويل الأول على التأكيدات، لكن سيحاول المهاجم استخدام طاقة معالجته لجعل السلسلة الأخرى أطول. ويتكلَّل الهجوم بالنجاح إذا استطاع المهاجم جعل السلسلة الأخرى أطول من الأولى، وعندها سيرى مُستلم التحويل الأول أن العملات التي تلقَّاها قد اختفت.

وكلما ازداد معدَّل الهاش الذي يسيطر عليه المهاجم، ازدادت قدرته على جعل السلسلة الاحتيالية أطول من السلسلة العامة، وبالتالي سيستطيع إلغاء تحويله وكسب الربح. وبينما يبدو ذلك سهلًا في مبدئه، إلا أنه صعب جدًّا عمليًّا؛ فكلما ازدادت مدة انتظار المتلقي للتأكيدات، قلَّت احتمالية نجاح المهاجم، وإذا كان الملتقي على استعداد للانتظار للحصول على ستة تأكيدات، فسيتقلَّص احتمال نجاح الهجوم بشكل كبير جدًّا.

نظريًّا، تبدو هجمة اﻟ ٥١٪ قابلةً للتنفيذ من الناحية التقنية، لكن عمليًّا تقف الدوافع الاقتصادية عائقًا أمامها بشكل كبير. فإذا نفَّذَ مُعدِّن هجمة اﻟ ٥١٪ بنجاح، فإنه سيقلِّل بشدة من الدافع الاقتصادي لاستخدام البيتكوين، وبذلك سيقلِّل من الطلب على عملات البيتكوين. ومع تزايد تعدين البيتكوين ليصبح قطاعًا قائمًا على كثافة رأس المال باستثمارات كبيرة مكرَّسة لإنتاج العملات، ازداد معه اهتمام المُعدِّنين الطويل الأمد للمحافظة على نزاهة الشبكة؛ حيث تعتمد قيمة مكافآتهم على ذلك. كما أنه لم يتم تسجيل أي هجمة إنفاق مزدوج ناجحة على أيٍّ من تحويلات البيتكوين التي حصلت على توثيق واحد على الأقل.

وأقرب محاولة ناجحة للإنفاق المزدوج شهدها البيتكوين كانت عام ٢٠١٣م؛ حيث كان موقع مراهنة للبيتكوين يسمَّى «Bitcoin Dice بيتكوين دايس» يحوي ما يُقدَّر بمجموع ١٠٠٠ عملة بيتكوين (تقدَّر قيمتها بحوالي اﻟ ١٠٠٠٠٠$ في ذلك الوقت)، وتمَّت سرقة العملات منه في هجمة إنفاق مزدوج باستخدام مصادر تعدين هائلة. على كل حال، لم تنجح الهجمة إلا لأن موقع اﻟ «بيتكوين دايس» كان يقبل تحويلات بلا أي توثيق عليها؛ ممَّا جعل تكلفة الهجمة زهيدًا نسبيًّا. فالهجوم كان سيصبح صعبًا إنْ قَبِل الموقع تحويلات بتأكيد واحد فقط. وهذا سبب آخر من الأسباب التي تجعل سلسلة كتل البيتكوين غير مثالية لمدفوعات المستهلكين الكبيرة؛ فإنتاج كتلة جديدة يأخذ بين ١ إلى ١٢ دقيقة؛ وذلك لعمل توثيق واحد للتحويل، وإذا قَبِل مُعالج مدفوعات كبير وخاطر بقَبول تحويلات بلا أي تأكيدات، فسيشكِّل ذلك هدفًا مربحًا لهجمات الإنفاق المزدوج المنسَّقة التي تستخدم موارد تعدين كبيرة.

كنتيجة، يمكن تنفيذ هجمة اﻟ ٥١٪ نظريًّا إن لم ينتظر متلقي المدفوعات حتى يتم إنتاج كتل جديدة تؤكِّد مصداقية التحويل. أمَّا عمليًّا، فيقف الدافع الاقتصادي عائقًا وبشكل كبير أمام ممتلكي طاقة المعالجة الذين يستخدمون استثماراتهم في هذا الاتجاه. وبالنتيجة، لم يكن هناك أية هجمة ناجحة من هجمات اﻟ ٥١٪ على أي عضو من أعضاء العُقَد الذين انتظروا على الأقل توثيقًا واحدًا.

فلن تكون هجمة اﻟ ٥١٪ ناجحةً غالبًا إن حدثت بهدف دافع ربحي، لكن قد تحدث هجمة كهذه دون الحاجة لوجود دافع ربحي بل بنية القضاء على البيتكوين. فقد تُقرِّر جهة حكومية أو خاصة أن تحصل على سعة تعدين البيتكوين للاستيلاء على غالبية شبكته، ومن ثم استخدام طاقة المعالجة تلك لإجراء هجمات إنفاق مزدوج، خادعةً بذلك العديد من المستخدمين، ومدمرةً أمان الشبكة، لكن الطبيعة الاقتصادية للتعدين ستقف بشكل كبير ضد حصول ذلك الحدث. فطاقة المعالجة هي سوقٌ عالمية تنافسيةٌ بشكل كبير، ويُعد تعدين البيتكوين في العالم واحدًا من أكبر استخدامات طاقة المعالجة، وأكثرها ربحًا، وأسرعها نموًّا. وقد يبحث المهاجم عن ثمن الاستيلاء على اﻟ ٥١٪ من طاقة المعالجة المستخدمة حاليًّا؛ ليقرِّر تخصيص هذا الثمن لشراء الأجهزة المطلوبة لذلك. لكن إذا تمَّ استخدام هذا القدر الكبير من الموارد لشراء معدات تعدين البيتكوين، فسيؤدِّي ذلك إلى صعود حاد في ثمن تلك المعدات؛ ممَّا سيكافئ المعدِّنين الحاليين وسيسمح لهم للاستثمار بشكل أكبر في شراء معدات تعدين أكثر، كما أنه سيؤدِّي أيضًا إلى استثمار رأس مال أكبر في إنتاج طاقة التعدين من قِبَل منتجي معدات التعدين؛ ممَّا سيؤدِّي إلى تقليل ثمن طاقة المعالجة، وسيزيد من سرعة نمو معدَّل طاقة المعالجة للبيتكوين. وكطرفٍ خارجي يدخل السوق، فإن المهاجم سيبقى بوضع لا يحصل فيه على أفضلية؛ حيث يؤدِّي شراؤه لمعدات التعدين المطلوبة إلى نمو سريع في طاقة المعالجة المستخدمة في التعدين التي لا يمكنه التحكُّم بها. بالمقابل، كلما ازدادت الموارد المصروفة على إنتاج طاقة المعالجة لمهاجمة البيتكوين، ازدادت سرعة نمو طاقة المعالجة فيه، وازدادت صعوبة مهاجمة البيتكوين. لذلك ومرةً أخرى، بينما يمكن تقنيًّا تنفيذ هذا النوع من الهجمات، إلا أن اقتصاد الشبكة سيجعل من نجاحه أمرًا غير مرجَّح الحدوث.

فيمكن لمهاجم وخاصةً إذا كان حكوميًّا أن يحاول الهجوم على البيتكوين عبر الاستيلاء على البنية التحتية الخاصة بالتعدين واستخدامها بشكل غير ربحي؛ وذلك للتقليل من أمن وحماية الشبكة، لكن حقيقة أن عملية تعدين البيتكوين هي عملية موزَّعة جغرافيًّا بشكل كبير تجعل هذا الأمر احتمالًا صعبًا قد يحتاج تعاونًا من قِبل عدة حكومات عبر العالم. ولهذا أفضل طريقة لتنفيذ ذلك ربما لن تكون عبر الاستيلاء على معدات التعدين ماديًّا، بل عن طريق الاستيلاء عليها عبر الأبواب الخلفية للأجهزة.

(٩) الأبواب الخلفية للأجهزة

هناك احتمالية أخرى للتشويش على شبكة البيتكوين أو تدميرها، وهي عبر إفساد الأجهزة التي تشغِّل النظام البرمجي الخاص بالبيتكوين لكي تصبح متاحةً لأطراف خارجية. فعلى سبيل المثال، يمكن للعُقد التي تقوم بالتعدين أن يتم دس برمجيات خبيثة بها غير قابلة للرصد لتُمكِّن للأطراف الخارجية السيطرة على الأجهزة. وبهذا، يمكن أن يتم تعطيل تلك الأدوات أو التحكُّم بها عن بعد في الوقت الذي يتم به تنفيذ هجمة اﻟ ٥١٪.

ولدينا مثال آخر على هذه الهجمات وتتم عبر تكنولوجيا التجسُّس والتي إذا تمَّ تنصيبها على حاسوب مُستخدم ما، فسيُسمح بالدخول إلى حساب البيتكوين الخاص به عبر الحصول على مفاتيحه الخاصة. ويمكن لهذا النوع من الهجمات إذا تمَّت على نطاق واسع أن تُقلِّل الثقة في البيتكوين كنوع من الأصول بشكل حاد جدًّا، ومن الطلب على البيتكوين أيضًا.

ومن الممكن تنفيذ نوعَي الهجمات تلك تقنيًّا، ولكن على عكس نوعَي الهجمتَين السابقتَين، فليس من الضروري أن تنجح تلك الهجمات بشكل كامل كي تشكِّل قدرًا كافيًا من الارتباك والفوضى لتؤذي سُمعة البيتكوين ومن الطلب عليه. ومن المرجَّح أن ينجح هذا النوع من الهجمات على معدات التعدين إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه يوجد عدد قليل من مُصنِّعي معدات التعدين؛ حيث إن هذا يُشكِّل واحدةً من أكثر النقاط الحرجة للبيتكوين، والتي من الممكن أن تقوده نحو الفشل. لكن مع نمو تعدين البيتكوين، من المرجَّح أن يبدأ هذا الأمر بجذب عدد أكبر من صانعي الأجهزة لصناعة معدات التعدين؛ ممَّا سيؤدِّي إلى تقليص الأثر الكارثي على الشبكة في حال تمَّ اختراق عمليات صانع أجهزة واحد.

إن هذه الخطورة هي أقل تنظيميًّا على الشبكة مع وجود الحواسيب الشخصية؛ وذلك لأنه هناك نظريًّا عدد غير نهائي من صانعي هذه الأجهزة حول العالم، الذين لديهم معدات يمكنها الدخول إلى شبكة البيتكوين. فإذا كان أي مُنتِج لهذه الأجهزة مخترَقًا وتمَّ الكشف عن ذلك، فغالبًا سيؤدِّي ذلك إلى انتقال المستهلك إلى مُنتِج آخر. أضف إلى ذلك أنه يمكن للمستخدمين أن يُولِّدوا مفتاحًا خاصًّا لعناوينهم على الحواسيب غير المتصلة بالشبكة والتي لن يتصلوا عبرها بالشبكة أبدًا. وحتى بالنسبة للأفراد الأكثر قلقًا وارتيابًا، فيمكنهم توليد عناوينهم ومفاتيحهم الخاصة على حواسيب غير متصلة بالشبكة، ومن ثم تدميرها على الفور، وستنجو العملات المخزَّنة في تلك المفاتيح الافتراضية الخاصة من أي نوع من الهجمات التي تُشَن على الشبكة.

كما أن ميول حَمَلة البيتكوين اللاسلطوية مع تبنيهم لأفكار حركة «Cypherpunk سايفر بانق» تُعدُّ من أهم العوامل التي تحمي البيتكوين من هذه الهجمات، الأمر الذي يجعلهم يؤمنون بالتوثيق أكثر بكثير من الثقة. فمالكو البيتكوين مختصون تقنيًّا أكثر بكثير من البقية العادية، وهم دقيقون جدًّا فيما يخص فحص أجهزتهم وبرمجياتهم التي يستعملونها. كما أن ثقافة استعراض النظراء مفتوحة المصدر تعمل كآلية دفاعية هامة ضد هذا النوع من الهجمات. وبأخذ الاعتبار أن طبيعة الشبكة هي موزَّعة، فمن المرجَّح أن تؤدِّي تلك الهجمات إلى خسارات وتكاليف باهظة للأفراد، وحتى إنها قد تؤدِّي إلى أعطال في نظام الشبكة، لكن سيكون من الصعب جدًّا أن تتسبَّب في إيقاف الشبكة تمامًا أو في تدمير الطلب على البيتكوين كليًّا. وفي الحقيقة، إن الدوافع الاقتصادية للبيتكوين هي ما تجعله قَيِّمًا، وليس أي نوع من أنواع الأجهزة المستخدمة ما يفعل ذلك. فيمكن استبدال أي قطعة من المعدات بمعدات أخرى ولن تؤثِّر على عمليات البيتكوين. على الرغم من ذلك، إن استمرار وصلابة البيتكوين ستتحسَّنان إذا تمَّ تنويع مُصنِّعي الأجهزة التي يستعملها، بحيث لا يجعل أي أحد فيهم مهمًّا ومؤثِّرًا من ناحية النظام.

(١٠) هجمات الإنترنت والبنية التحتية

إن أحد أكبر أشكال سوء الفهم حول البيتكوين هو أن إيقاف وتعطيل البنية التحتية للاتصالات التي يعتمد عليها البيتكوين قد يقوم بإيقاف البيتكوين تمامًا، أو أنه يمكن إيقافه بتعطيل عمل الإنترنت. إن المشكلة في هذا النوع من الحالات أنه يتم إساءة فهم البيتكوين على أنه شبكة بالمعنى التقليدي للكلمة باحتوائه على أجهزة متخصِّصة وبنًى تحتية لديها نقاط ضعف حرجة يمكن مهاجمتها وتعطيلها. لكن البيتكوين هو بروتوكول برمجي؛ فهو عملية داخلية يمكن تشغيلها على أي حاسوب من مليارات الحواسيب الموزَّعة حول العالم. لهذا، ليس للبيتكوين نقطة الفشل الواحدة، ولا يعتمد على أي جهاز أو بنية بحيث إنه لا يمكن التخلي عنهما في أي نقطة من العالم. فيمكن لأي حاسوب يُشغِّل برمجيات البيتكوين أن يتصل بالشبكة وأن يتم إجراء العمليات عليه. بهذا المنطق، إن البيتكوين يشبه الإنترنت على أنه برتوكول يسمح للحواسيب بالاتصال ببعضها البعض، وليست البنية التحتية هي التي تصل هذه الحواسيب ببعضها. كما أن كمية البيانات المطلوبة لنقل المعلومات حول البيتكوين ليست كبيرة، وتُقدَّر هذه الكمية بجزء صغير جدًّا من كمية تدفُّق المعلومات في الإنترنت. فلا يحتاج البيتكوين إلى الحجم الكبير ذاته من البنية التحتية التي يحتاجها باقي الإنترنت؛ وذلك لأن سلسلة كتل البيتكوين تبث ١ ميغابايت فقط من البيانات كل عشر دقائق تقريبًا. وبما أنه هناك عدد غير نهائي من التقنيات السلكية واللاسلكية التي تُستعمل في نقل البيانات حول العالم، فالمستخدم يحتاج إلى واحدة فقط من تلك التقنيات كي يستطيع الولوج إلى الشبكة. ومن أجل إنشاء عالَمٍ لا يمكن فيه لأي مستخدم بيتكوين أن يتصل مع أي مستخدم آخر، فإن ذلك سيتطلَّب إحداث كمية هائلة ومدمِّرة من الضرر على معلومات العالم وبياناته وعلى البنية التحتية للاتصالات. يجدر الإشارة إلى أن حياة المجتمع الحديث تعتمد بدرجة كبيرة على الاتصالات؛ وذلك لأن العديد من الخدمات الهامة والحيوية، إضافةً لأمور حياة أو موت تعتمد على استمرار البنية التحتية لهذه الاتصالات. لهذا، إن محاولة البدء بإيقاف وتعطيل عمل كل البنية التحتية للإنترنت بشكل متزامن ستتسبَّب على الأرجح بأذًى كبير لأي مجتمع يحاول ذلك، بينما من المرجَّح أن يفشل هذا في إيقاف تدفُّق البيتكوين؛ حيث إنه يمكن دائمًا للأجهزة المتفرِّقة والمنتشرة أن تتصل ببعضها البعض باستخدام برتوكولات واتصالات مشفَّرة. ببساطة، هناك عدد كبير جدًّا من الحواسيب والاتصالات الموزَّعة حول العالم والتي يتم استخدامها من قِبَل عدد كبير من الأفراد، لدرجة أنه لا توجد أية قوة تستطيع إيقافها بشكل متزامن. لذلك، إن الحالة الوحيدة المُتصوَّرة لفعل ما سبق ستكون نوعًا من أنواع الحالات المتعلِّقة بنهاية العالم، والتي لن يفكِّر خلالها أحد فيما إن كان البيتكوين يعمل أو لا يعمل. ومن بين كل التهديدات المحيطة بالبيتكوين أجد هذا التهديد بالذات أقلها مصداقيةً وأقلها معنًى.

(١١) التزايد في تكلفة العُقَد والتناقص في عددها

بدلًا من تخيُّل حالات خيال علمي تتضمَّن دمار البنية التحتية للاتصالات البشرية في محاولة فاشلة لاستئصال برنامج ما، هناك تهديدات أكثر واقعيةً على البيتكوين تأتي من مبادئ وأساسيات في تصميمه؛ فخواص البيتكوين كنقد سليم لا يمكن التلاعب بعرضه وكعملة نقدية رقمية لا يمكن إيقافها ومُصادرتها دون تدخُّل طرف ثالث، تعتمد على أن يكون تغيير القواعد المتفق عليها للشبكة أمرًا صعبًا وتحديدًا فيما يخص العرض النقدي. وما يحقِّق تلك الحالة المستقرة التي يحافظ عليها البيتكوين، كما هو مذكور سابقًا، هو أنه سيكون من الخطر لأي فرد أن يحاول العمل خارج القواعد المشتركة الحالية خصوصًا إذا لم يتبنَّ بقية الأفراد تلك القواعد الجديدة. لكن السبب الذي يجعل تلك الخطوة خطيرةً جدًّا وغير مرجحة هو أن عدد العُقَد التي تشغِّل البرنامج كبير جدًّا إلى حدٍّ يجعل عملية التنسيق بينها غير عملي. فإن ازداد ثمن إدارة العُقَد في البيتكوين بشكل كبير، فسيجعل ذلك الأمر من إدارة عقدة ما أصعب بكثير بالنسبة للعديد من الأعضاء، وبالنتيجة سيُقلِّل من عدد العُقد في الشبكة. وإن قل عدد العُقَد في الشبكة فسيتوقَّف البيتكوين عن كونه شبكةً غير مركزية فعَّالة؛ حيث سيصبح من السهل جدًّا على العقد التي تدير الشبكة أن تتواطأ لكي تُعيد صياغة القواعد في الشبكة بما يخدم مصالحها وحتى تخريبها.

إن هذا الخطر برأيي هو الأخطر تقنيًّا؛ حيث إنه يشكِّل أكبر تهديد على البيتكوين في المدى المتوسط والبعيد. وبالحالة التي يتواجد عليها الآن، إن الأمر الوحيد الذي يحد من قدرة الأفراد على إدارة عُقَدهم الخاصة هو سعة اتصالهم بالإنترنت. فإن بقي حجم الكتل أقل من ١ ميغابايت، فإن ذلك عمليًّا سيكون ضمن قدرة واستطاعة الناس، لكن إن حدثت عملية انقسام كلية في الشبكة بغرض زيادة حجم الكتلة، فإن ذلك سيؤدِّي إلى زيادة تكلفة إدارة هذه العُقد ممَّا يُقلِّل عددها العامل على الشبكة. وكما في الأخطار السابقة، فهذا التهديد ممكن تقنيًّا، لكنه يبقى غير مرجَّح الحدوث؛ وذلك لأن الدافع الاقتصادي للنظام سيَحول دون تحقيق ذلك، والدليل على ذلك هو الرفض الواسع لمحاولات زيادة حجم الكتلة إلى الآن.

(١٢) كسر خوارزمية الدمج SHA-256

تُعد خوارزمية الدمج SHA-256 مكوِّنًا أساسيًّا لعمل نظام البيتكوين. وباختصار، عملية الدمج هي عملية تأخذ أي سلسلة من البيانات كمُدخل وتُحوِّلها إلى قاعدة بيانات بحجم ثابت (معروفة باسم الهاش) باستخدام معادلة رياضية غير قابلة للعكس. وبكلمات أخرى، من السهل استعمال هذه المعادلة لإنتاج الدمج لأي نوع من البيانات، لكن ليس من الممكن تحديد أصل سلسلة البيانات عن طريق الدمج. ولكن قد يصبح ذلك ممكنًا عن طريق بعض التحديثات والتحسينات في طاقة المعالجة، حيث قد تستطيع بعض الحواسيب عكس العملية الحسابية لعمليات الدمج تلك؛ ممَّا سيجعل جميع عناوين البيتكوين عرضةً للسرقة.
وليس من الممكن تحديد متى وإذا كان هذا السيناريو سيصبح ممكنًا، لكن إن أصبح كذلك، فإنه سيشكِّل تهديدًا تقنيًّا خطيرًا على البيتكوين. والحل التقني لمواجهته سيكون عن طريق الانتقال واعتماد تشفير أقوى، ولكن الأمر الصعب في هذه العملية سيكمن بكيفية تنسيق هذا الانقسام الكلي للشبكة، وبكيفية إقناع جميع عقد الشبكة على هجر وترك القوانين المشتركة القديمة للانتقال إلى قواعد جديدة بعملية دمج جديدة. وكل المشاكل التي تمَّت مناقشتها سابقًا عن عملية تنسيق الانقسام تنطبق على هذه الحالة أيضًا، لكن في هذه المرة ولأن التهديد حقيقي، فإن أي مالك للبيتكوين سيختار أن يبقى ضمن التطبيقات القديمة، فإنه سيكون معرَّضًا للاختراق ولهذا السبب، من المرجَّح أن تشارك الغالبية الكبرى من المستخدمين في هذا الانقسام الكلي. يبقى السؤال الأكثر أهميةً هو ما إذا كان هذا الانقسام الكلي سيكون مُنظَّمًا وسيشهد انتقال كل المستخدمين إلى السلسلة ذاتها، أو سيؤدِّي إلى انفصال السلسلة إلى عدة فروع تستخدم أنواعًا مختلفةً من التشفير؛ ففي حين أنه من الممكن جدًّا أن يتم كسر/اختراق تشفير اﻟ SHA-256، إلا أن الدافع الاقتصادي للمستخدمين عندئذٍ سيكون هو الانتقال منها إلى خوارزمية أقوى، بل والانتقال سويًّا إلى خوارزمية واحدة.

(١٣) عودة إلى النقد السليم

بينما تركِّز معظم النقاشات على الكيفية التي من الممكن أن يفشل بها البيتكوين أو على كيفية تدميره عبر الهجمات التقنية، إلا أن هناك طريقة أكثر فعاليةً في مهاجمة البيتكوين ويتم ذلك عن طريق التقليل من الدافع الاقتصادي لاستخدامه. فليس من المرجَّح نجاح محاولة الهجوم على البيتكوين بأي من الطرق المذكورة سابقًا؛ وذلك لأنها تتعارض مع الدافع الاقتصادي لاستعماله. فالوضع هنا يشبه محاولة منع العجلة أو السكين. فطالما أن هذه التكنولوجيا مفيدة للناس، فستفشل محاولات منعها؛ وذلك لأن الناس ستستمر في إيجاد طرق لاستخدامها شرعيةً كانت أم غير شرعية. لهذا، إن الطريقة المُثلى لإيقاف تقنية ما لن تكون عبر حظرها، بل عبر اختراع بديل أفضل لها أو عبر إزالة الحاجة لاستخدامها. فمثلًا لم يكن ممكنًا حظر الآلة الكاتبة أو سن تشريعات لإخراجها من هذا العالم، لكن دخول الحواسيب الشخصية قام بالقضاء عليها بفعالية.

فالطلب على البيتكوين يأتي من خلال حاجة الأفراد له حول العالم لتنفيذ تحويلاتهم وتجاوز القيود السياسية، وللحصول على مخزن للقيمة مضاد للتضخم. وفي حال استمرَّت السلطات السياسية بوضع حدود وقيود على الأفراد فيما يتعلَّق بعملية نقل الأموال، وفي حال بقيت النقود الحكومية عملةً سهلة يمكن لعرضها أن يتوسَّع بسهولة تبعًا لرغبات الحكومة، فإن الطلب على البيتكوين سيظل قائمًا. وسيؤدِّي النمو المتناقص في عرضه إلى ارتفاع قيمته مع مرور الوقت، الأمر الذي سيجذب عددًا متزايدًا من الأشخاص لاستخدامه كمخزن للقيمة.

وإن افترضنا أنه قد تمَّ استبدال كامل النظام المصرفي العالمي والنظام النقدي بتلك الأنظمة التي كانت تعتمد المعيار الذهبي في أواخر القرن التاسع عشر؛ حيث كانت الحرية الفردية والعملة الصعبة أمرًا مهمًّا وأساسيًّا، عندها سينخفض الطلب على البيتكوين بشكل كبير جدًّا. إن أمرًا كهذا قد يكون كافيًا لخفض الطلب على البيتكوين بشكل كافٍ لينخفض سعره بشكل كبير أيضًا؛ ممَّا سيؤذي حَمَلة البيتكوين الحاليين بشكل كبير، وسيزيد من عدم ثبات وتقلُّب العملة، وسيُرجع تقدُّمها إلى سنوات عديدة للخلف. فمع وجود نقد صعب بمعيار نقدي عالمي بحيث يزداد هذا النقد ثباتًا واستقرارًا ليصبح موثوقًا به نسبيًّا، سينخفض الدافع لاستعمال البيتكوين بشكل كبير جدًّا. لكن في عالم تُقيَّد فيه ميول الحكومة التضخُّمية بمعيار الذهب، قد تكون القضية هي أن أفضلية الذهب المتمثِّلة بقدرته الشرائية الثابتة نسبيًّا ستشكِّل حاجزًا مستعصيًا لا يمكن للبيتكوين تخطيه؛ وذلك عبر حرمان البيتكوين من النمو السريع في عدد مستخدميه، ممَّا سيمنعه من الوصول إلى حجمٍ كافٍ مع شكل من الثبات في سعر عملته.

عمليًّا، إن احتمالية حدوث عودة عالمية لنقد سليم ولحكومات ليبرالية غير مرجَّحة بشكل كبير؛ لأن تلك المفاهيم ستبدو غريبةً وخيالية للغالبية العظمى من السياسيين والمصوِّتين حول العالم، والذين تربَّوا لأجيال على فهم قيود الحكومة على المال والأخلاق كحاجة وكأمر ضروري لعمل أي مجتمع. إضافةً إلى ذلك، فحتى لو كان تحوُّلٌ نقدي وسياسي كهذا أمرًا محتملًا، فإن تضاؤل معدَّل نمو المخزون الخاص بالبيتكوين سيستمر بكونه رهانًا مضاربًا جذابًا للكثيرين، وهذا سيجعل البيتكوين ينمو أكثر ويكتسب دورًا نقديًّا أكبر. ففي تقديري، إن عودةً عالمية نقدية للذهب ستشكِّل أكبر تهديد للبيتكوين، ولكن من غير المرجَّح حدوثها، ومن غير المرجَّح أن تستطيع تدمير البيتكوين بشكل كلي.

هناك احتمالية أخرى لتعطيل وعرقلة البيتكوين وهي عبر اختراع شكل جديد من النقد السليم يتفوَّق عليه. ويعتقد الكثيرون أنه قد تستطيع العملات الرقمية المُشفَّرة التي تحاكي وتُقلِّد البيتكوين تحقيق ذلك، لكنني أومن بشدة بأنه لا يمكن لأيٍّ من العملات التي تقلِّد تصميم البيتكوين أن تنافسه بكونها نقدًا سليمًا لأسباب سنناقشها بشكل مطوَّل في القسم التالي من الفصل. فبالمقام الأول، إن البيتكوين هو العملة الرقمية الوحيدة غير المركزية التي نمت بشكل عَفْوي بتوازن جيد بين المُعدِّنين والمبرمجين والمستخدمين، بحيث لا يمكن لأي أحد منهم التحكُّم بالبيتكوين. وتطوير عملة رقمية تعتمد على هذا التصميم هو أمر يحدث مرةً واحدة فقط، بحيث إن اتَّضح أن هذه الطريقة تعمل جيدًا، فكل محاولة أخرى لتقليدها ستكون محاوَلةً من الأعلى للأسفل؛ أي إنها ستكون مركزيةً يتم التحكم بها ولن تتخلَّص أبدًا من سيطرة منشئيها.

لذلك عندما يعود الأمر إلى بنية البيتكوين والتكنولوجيا وراءه، فإن أي عملة تقوم بنسخه وتقليده من غير المرجَّح لها أن تستطيع استبداله؛ فقد يُنتِج تصميمٌ جديد وتقنية جديدة لتطبيقات النقد الرقمي والعملة الصعبة منافسًا للبيتكوين، ولكن لا يمكننا تنبُّؤ بروز هذا النوع من التكنولوجيا قبل أن يتم إنشاؤها، حيث إن معرفةً واطِّلاعًا على مشاكل النقود الرقمية طوال هذه السنوات ستوضِّح لنا أن هذا ليس اختراعًا يمكن ابتكاره بسهولة.

(١٤) العملات البديلة (Altcoins)

بينما كان البيتكوين أول مثال على شبكة نقد إلكتروني مبنية على أساس نظير إلى نظير، فهو حتمًا لم يكن الأخير؛ فما لبث أن انتشر تصميم ناكاموتو، ونجحت العملة في الحصول على المزيد من القيمة والمتبنِّين لها، حتى بدأ الكثيرون بتقليدها لإنتاج عملات مشابهة. وكانت «Namecoin نيمكوين» أول عملة من هذا النوع؛ حيث استَخدمت شيفرة البيتكوين البرمجية وبدأت بالعمل في أبريل عام ٢٠١١م. وحتى فبراير من عام ٢٠١٧م تمَّ ابتكار ما لا يقل عن ٧٣٢ عملةً رقمية مشابهة حسب موقع coinmarketcap.com.

وبينما هو شائع أن يتم الاعتقاد أن تلك العملات تشكِّل منافسًا للبيتكوين، وبأنه قد تتفوَّق واحدة منهن على البيتكوين في المستقبل، إلا أنه في الحقيقة إن هذه العملات ليست في مجال المنافسة مع البيتكوين؛ وذلك لأنها لا تملك الخواص التي يمتلكها البيتكوين والتي تجعله عملةً رقمية فعالة وتجعله نقدًا سليمًا. فلكي يعمل نظامٌ رقمي كنقد رقمي، يجب أن يكون خارجًا عن سيطرة أي طرف ثالث؛ فحسب البروتوكول يجب أن تتم عملياته بما يُرضي ويتفق مع مستخدميه دون وجود أي احتمال بتدخُّل طرف ثالث لإيقاف تلك المدفوعات. وبعد سنوات من مشاهدة العديد من العملات البديلة التي تمَّ إنشاؤها، يبدو أنه من المستحيل أن تستطيع أية عملة إعادة خلق المنافسة الشرسة بين الجهات المعنية بالبيتكوين وبين منع أي طرف خارجي من التحكم بمدفوعاته.

فلقد تمَّ تصميم البيتكوين من قِبَل مبرمج باسم مستعار لا تزال هُويته الحقيقية غير معروفة إلى الآن. وقام هذا المبرمج بنشر التصميم في قائمة بريد مخفية لمبرمجي الحواسيب المهتمين في التشفير، وبعد عدة أشهر من استلامه الردود عليها، قام بإطلاق الشبكة مع المبرمج هال فيني الذي تُوفي في أغسطس عام ٢٠١٤م. ثم بعد عدة أيام من التعامل مع فيني وتجربة البرنامج، بدأ أعضاء آخرون بالانضمام إلى الشبكة واستخدامها والقيام بأمور التعدين. ثم اختفى ناكاموتو في منتصف ٢٠١٠م، واضعًا عبارة «حان وقت الانتقال إلى مشاريع جديدة»، ولم يُسمع منه شيء آخر منذ ذلك الحين.٩ في جميع الأحوال، هناك ما يقارب المليون عملة بيتكوين في حساب يتم التحكم/تمَّ التحكم به من قِبل ناكاموتو، ولكن لم يتم نقل هذه العملات قط؛ فناكاموتو اتخذ تدابير احتياطيةً قاسية لكي يتأكَّد بأنه لن يتم تحديد هُويته، وحتى يومنا هذا ليس هناك دليل كافٍ لمعرفة شخصية ناكاموتو الحقيقية. فإن كان يريد أن يتم التعرف عليه، كان سيقدِّم نفسه للعامة، وإن قام بترك أثر كي يدل على هُويته، كان سيتم تعقُّب هذا الدليل وهُويته، ثم يُستخدم للكشف عنه. فتمَّ التمعُّن بكل كتاباته واتصالاته بشكل مكثَّف من قِبَل المحقِّقين والصحفيين بلا أي فائدة. وقد حان الوقت لجميع من لهم علاقة بالبيتكوين ليتوقَّفوا عن إشغال أنفسهم بهُوية ناكاموتو، وتقبُّل حقيقة أن ذلك لا يهم لعمليات البيتكوين التقنية، تمامًا كما هو الأمر بالنسبة لمخترع العجلة التي أصبحت هُويته غير مهمة.
ولم يبقَ للبيتكوين أي سلطة مركزية أو قائد يمكنه تحديد اتجاه سيره أو العمل على التأثير على مسار تطوُّره؛ وذلك لأن ناكاموتو وفيني لم يبقيا معنا. وحتى جافِن أندرسن الذي كان على تواصل مقرَّب من ناكاموتو، ومن أكثر الوجوه المألوفة في البيتكوين، قد فشل بشكل متكرِّر بالتأثير على طريق تطوُّر البيتكوين. ويُقتبَس بريد إلكتروني في الصحافة يُعتقد أنه آخر بريد أرسله ناكاموتو والذي يقول فيه: «لقد انتقلت إلى أشياء أخرى. إن البيتكوين في أيدٍ أمينة عند جافِن والبقية.»١٠ وحاول أندرسن مرارًا وتكرارًا أن يزيد من حجم الكتل في البيتكوين، لكن فشلت كل محاولاته في جذب اهتمام مشغلي العُقَد.

استمرَّ البيتكوين في نموه وازدهاره بكل المقاييس التي تمَّ ذكرها في الفصل الثامن، بينما تضاءلت السلطة لأي جهة ولأي فرد بشكل كبير جدًّا. وبهذا، يمكن فهم البيتكوين على أنه قطعة برمجية ذات سيادة بسبب عدم وجود أي سلطة خارجية تستطيع التحكم بسلوكه. فلا يحكم البيتكوينَ إلا قوانينُ البيتكوين، وأصبح من غير العملي محاولة تغيير هذه القوانين بطريقة جوهرية؛ وذلك لأن التحيُّز للوضع الراهن للبيتكوين ما زال مستمرًّا بتشكيل الدوافع لأي شخص مشترك بهذا المشروع.

فما يجعل البيتكوين حلًّا فعالًا وحقيقيًّا فيما يتعلَّق بمشاكل الإنفاق المزدوج، وما يجعله نقدًا رقميًّا ناجحًا هو سيادة شيفرته البرمجية المدعومة من نظام إثبات العمل، وما لا يمكن للعملات الرقمية الأخرى تقليده هو انعدام الثقة هذه؛ فمواجهة أي من العملات الرقمية التي تمَّ إنشاؤها بعد البيتكوين ستُشكِّل أزمةً وجودية لتلك العملات؛ فبما أن البيتكوين موجود أصلًا وبحماية أكبر، وطاقة معالجة أكثر، وقاعدة مستخدمين راسخة، فأي شخص يريد دخول العملات الرقمية سيُفضِّل البيتكوين على تلك العملات البديلة الأصغر والأقل حماية. وبما أن نَسخ الشيفرة البرمجية لإنتاج عملات جديدة هو أمر غير مكلِّف تقريبًا، وبسبب تكاثر العملات الرقمية عن طريق النسخ والتقليد، فلا يمكن لأي عملة أن تُطوِّر أي شكل من أشكال النمو أو الزخم إلا إن كان هناك فريق نشط يتفانى برعاية هذه العملة، وحمايتها، وتنميتها، وبرمجتها. وبما أن البيتكوين هو الأول في هذه الاختراعات، فقد كان استعراض البيتكوين لقيمته كنقد رقمي وعملة صعبة كافيًا لتأمين الطلب المتزايد عليه؛ ممَّا تسبَّب بنجاح البيتكوين الذي يقف وراءه شخص واحد وهو مبرمج مجهول الهُوية لم يقم بإنفاق المال لترويجه. فالعملات البديلة لا تتمتَّع برفاهية أن يكون عليها طلب في العالم الحقيقي؛ وذلك لأن تلك العملات البديلة هي نُسخٌ مقلدة وأقل قيمة بجوهرها ويمكن إنتاجها بسهولة، ويجب أن تطوِّر من نفسها وتزيد من الطلب عليها.

لذلك، يوجد لجميع العملات البديلة تقريبًا فريق يديرها؛ فبدأ الفريق المشروع، وقام بتسويقه، وبتصميم مواد التسويق، وبنشرها في الصحف كما لو كانت أخبارًا، بينما كان لدى هذه الفرق الأفضلية في تعدين عدد كبير من العملات قبل أن تُعرف تلك العملات من قِبَل أحد. فتلك الفرق هي عبارة عن أفراد معروفين عالميًّا، ومهما حاولوا فلن يستطيعوا بشكل قابل للتصديق إظهار أنهم لا يملكون أي نوع من السيطرة على اتجاه العملة؛ ممَّا يُضعف أي ادعاء لأي عملة بأنها عملة رقمية لا يمكن تعديلها أو التحكم بها من قِبَل أي طرف ثالث خارجي. بكلمات أخرى، بعد خروج اختراع البيتكوين إلى النور، إن أراد أحد أن ينجح في بناء بديل للبيتكوين، فعليه أن يستثمر بشكل كبير في العملة؛ ممَّا يجعله متحكمًا بها بشكل كبير. وطالما تَواجد طرف ما لديه قوة التحكم والسيادة على العملة الرقمية، فلن يتم فهم هذه العملة كشكل من أشكال النقد الرقمي، بل كشكل من أشكال الوساطة للدفع، وحتى كشكل غير فعَّال.

وهذا الأمر يشكِّل معضلةً تواجه مصممي العملات البديلة؛ فدون الإدارة النشطة من قِبَل فريقٍ من المطوِّرين والمُسوِّقين، لن تجذب أي عملة الاهتمام أو التركيز أو رأس المال في بحر ممَّا يزيد عن ألف عملة. ولكن مع الإدارة النشطة، والتطوير، والتسويق من قِبَل فريق معيَّن، لا يمكن للعملة إلا أن تظهر بمظهر تلك العملة التي يتم التحكم بها من قِبَل أولئك الأفراد. وعندما يتحكم مجموعة من المطوِّرين بغالبية العملات وبطاقة المعالجة وبمختصي البرمجة والتشفير، فستكون تلك العملات عمليًّا عملاتٍ مركزيةً يتم تحديد مسار تطوُّرها عن طريق اهتمامات الفريق العامل عليها. وليس هناك ما هو خاطئ في عُملة رقمية مركزية، وقد نحصل يومًا ما على منافسة في سوق حرة دون قيود حكومية، لكن هناك شيء جوهري عميق خاطئ بشأن العملات المركزية التي تتبنَّى تصاميم بطيئةً وغير فعالة بشكل كبير، والتي أفضليتها الوحيدة هي إزالة نقطة الفشل الواحدة.

إن هذه المشكلة تتوضَّح بشكل أكبر فيما يخص العملات الرقمية التي تبدأ بعرض عملات أولى ICO، بحيث يشكِّل ذلك مجموعةً واضحة جدًّا من المطوِّرين الذين يتواصلون علنًا مع المستثمرين؛ ممَّا يجعل كامل المشروع مركزيًّا بامتياز. فالتجارب والمِحن في «Ethereum الإيثيريوم»، وهي أكبر عملة رقمية كقيمة سوقية بعد البيتكوين تُظهر هذه النقطة بشكل واضح.
فلقد كانت المنظمة المستقلة اللامركزية DAO أول تطبيق للعقود الذكية على شبكة الإيثيريوم، وبعد استثمار أكثر من ١٥٠ مليون دولار في العقود الذكية، استطاع مهاجم أن يُنفِّذ الشيفرة البرمجية بطريقة تمَّ بها نقل ما يقارب ثلث أصول اﻟ DAO إلى حسابه الخاص. وليس من الدقيق وصف هذا الهجوم بالسرقة؛ وذلك لأن جميع المودعين قد قبلوا بأن يتم التحكم بأموالهم من قِبل الشيفرة البرمجية ولا شيء سواها، ولم يفعل المهاجم شيئًا سوى أنه قام بتنفيذ هذه الشيفرة البرمجية، كما تمَّت الموافقة عليه من قِبَل المودعين. فكان من آثار اختراق اﻟ DAO، أنه قام مطوِّرو الإيثيريوم بإنشاء نسخة جديدة منها لم يحدث بها هذا الخطأ المزعج، ثم قاموا بمصادرة أموال المهاجم ووزَّعوها على الضحايا. إن عملية إعادة تدخُّل الإدارة البشرية غير الموضوعية هذه تتعارض مع هدف جعل الشيفرة البرمجية قانونًا، وتشكِّك في كامل منطق العقود الذكية.

فإذا كان من الممكن تعديل سلسلة كتل ثاني أكبر شبكة من حيث طاقةُ المعالجة عندما لا تسري التحويلات بما يتناسب مع مصالح فريق المطوِّرين، فإنه لا يمكن قَبول الفكرة بأن أحدًا من العملات البديلة يتم تنظيمها عن طريق طاقة المعالجة. إذن فتركيز حَمَلة العملة وطاقة المعالجة ومهارات البرمجة بين أيدي مجموعة واحدة من الناس المشتركين في مشروع ما تتعارض مع الهدف الكامل لتوظيف بنية سلسلة الكتل.

كما أنه من الصعب رؤية عملات تمَّ إصدارها بشكل خاص ترتقي لتصبح عملات عالميةً عندما يكون لدى هذه العملات فريق واضح مسئول عنها. فإن ارتفعت قيمة هذه العملات بشكل كبير، فسيصبح فريق صغير من المبتكرين غنيًّا جدًّا، وسيملك الطاقة الكافية لجمع رسوم صك العملة، وهو دَور مقصور للدول القومية في العالم الحديث. لذلك، لن تأخذ البنوك المركزية والحكومات الوطنية موضوع التقليل من سلطتها بشكل سهل، وسيكون من السهل نسبيًّا على البنوك المركزية أن تجد تلك الفرق التي تقف خلف العملات وتدمِّرها، أو حتى تعدِّل من عملياتها بطريقة تمنعها من المنافسة مع العملات الوطنية. ولم تُظهِر أية عملة بديلة صمودَ البيتكوين أمام التغيير الذي يُستمد من طبيعته اللامركزية ومن الدوافع القوية للجميع للالتزام بالقوانين الحالية المُجمع عليها للبيتكوين. وبهذا، يحق للبيتكوين الإدلاء بهذا التصريح بعد صموده ونموه في عالم الغاب بالإنترنت لمدة تسع سنوات دون أي سلطة تتحكَّم به، وبعد صدِّه باقتدار للحملات المُموَّلة والمُنسَّقة لتعديله. بينما وبالمقارنة، إن تلك العملات البديلة يوجد لديها ثقافة الصداقة الواضحة لمجموعة من الأشخاص اللطفاء الذين يعملون مع بعضهم البعض كفريق على مشروع معيَّن. وبينما يبدو ذلك رائعًا لشركة ناشئة جديدة، إلا أنه يُعد لعنةً بالنسبة لمشروع يريد أن يبرهن على التزامه بسياسة نقدية ثابتة. حيث إنه إذا قرَّرت الفِرق التي تقف خلف أي عملة بديلة تغيير سياستها النقدية، فلن يكون ذلك صعب التنفيذ. فعملة الإيثيروم مثلًا لا تملك إلى الآن رؤيةً واضحة عن الكيفية التي ستكون بها سياستها النقدية في المستقبل، تاركةً الموضوع لنقاش مجتمع الإيثيريوم. وبينما قد يفعل ذلك العجائب لروح مجتمع الإيثيريوم، إلا أن ذلك ليس طريقةً لبناء عملة عالمية صعبة، ولكي نكون عادلين، لا تَدَّعي عملة الإيثيريوم أنها تفعل ذلك. وسواء أكان ذلك لأنهم يدركون تلك النقطة، أو لأنهم يتجنَّبون الاصطدام بالسلطة السياسية، أو قد يكون خدعةً تسويقية، فإن معظم العملات البديلة لا تُسوِّق نفسها كمنافس للبيتكوين، ولكنها تُسوِّق نفسها كعملات تقوم بتنفيذ مهام مختلفة عن البيتكوين.

وليس هناك أي شيء في تصميم البيتكوين يقترح أنه سيكون فعالًا للعديد من الاستعمالات كما تَدَّعي العملات البديلة أنها قادرة على فعله، بل ولم تقدِّم أي عملة غير البيتكوين قدرات مختلفةً أو مميزات لا يملكها البيتكوين حتى الآن. ومع ذلك، فإن جميعها تمتلك عملةً تُتَداول بحرية، وهو سبب بشكل ما أساسي بالنسبة لنظامهم المعقَّد لكي تعمل بعض التطبيقات المتصلة بالإنترنت.

إن الفكرة بأن التطبيقات الشبكية الجديدة تتطلَّب وجود عملاتهم اللامركزية، هي فكرة وأمل ساذج بشكل كبير؛ لأنه وبطريقة ما، إن عدم حل مشاكل ندرة التطابق في الرغبات قد يكون مُربحًا اقتصاديًّا. فهناك سبب حقيقي وراء عدم إصدار الشركات في العالم الحقيقي عملاتها الخاصة، وهو عدم رغبة الناس بامتلاك عملة لا يمكن صرفها إلا في شركة واحدة. فالفكرة في حمل وامتلاك النقد هي حمل سيولة يمكن صرفها بأسهل ما يمكن، أمَّا حملُ أشكال من النقد يمكن صرفها عند باعة محدَّدين فقط، يعني أنها تعرض سيولةً قليلة جدًّا ولا تخدم أي هدف، وسيفضِّل الناس بالطبع أن يحملوا وسائط دفع ذي سيولة. وأي شركة تُصرُّ على مدفوعات بعملتها التجارية الخاصة، هي شركة تقوم بإدخال جانب من التكاليف العالية مع إنشاء مخاطر لزبائنها المحتمَلين.

فحتى في الأعمال والمشاريع التجارية التي تحتاج نوعًا من أنواع العملات التشغيلية كمدينة الملاهي أو الكازينوهات، فدائمًا ما تكون تلك العملات التشغيلية ثابتةً في القيمة بمقارنتها مع أي نقد ذي سيولة. لذلك يستطيع الزبائن تحديد ما سيحصلون عليه بشكل دقيق إضافةً إلى قدرتهم على القيام بعمليات حسابية اقتصادية دقيقة. فإذا قامت أيٌّ من تلك العملات البديلة التي من المفترض أنها ثورية وغير مركزية بطرح أي تطبيق ذي قيمة في الحياة الحقيقية، فمن غير المتصوَّر أن يتم الدفع لهذا التطبيق بالعملة التجارية الحرة ذاتها.

في الواقع وبعد دراسة هذا المجال لسنوات، لم أستطع تحديد ولو عملة رقمية واحدة تعرض أي مُنتَج أو خدمة عليها أي طلب من السوق؛ حيث يبدو أن تلك التطبيقات اللامركزية المتفاخرة التي تتبع المستقبل لن تصل إلينا. ولكن تلك العملات الرمزية التي من المفترض أنها أساسية لعملياتهم لا تزال مستمرةً بالازدياد بالمئات كل شهر، ولا يستطيع الفرد إلا أن يتساءل عمَّا إذا كان الاستعمال الوحيد لتلك العملات الثورية هو لإغناء أصحابها.

فلا يمكن لأي عملة عدا البيتكوين أن تَدَّعي بشكل قابل للتصديق أنها خارج سيطرة أي شخص، وبهذا، فإن كامل موضوع استخدام البنية المعقَّدة جدًّا والتي يرتكز عليها البيتكوين هو مَوضِع نقاش. فليس هناك أي شيء مُبتَكر أو صعب في نسخ تصميم البيتكوين وإنتاج نسخة مختلفة قليلًا عنه؛ فقد قام الآلاف تقريبًا بهذا الشيء حتى الآن. ومع مرور الوقت، يمكننا أن نتوقَّع دخول المزيد من تلك العملات إلى السوق؛ ممَّا سيؤدِّي إلى التخفيف من شأن العملات البديلة الباقية. لهذا، تُعتبر جميع العملات الرقمية، عدا البيتكوين، عملات سهلة، ولا يمكن النظر إلى هذه العملات البديلة على حدة وفقًا لظروفها الخاصة؛ لأنه لا يمكن التمييز بينها من خلال كيفية عملها وماهية وظيفتها، وهو الأمر الذي يؤدِّيه البيتكوين، لكن يمكن تمييز هذه العملات عن البيتكوين بأن تصميمها وعرضها يمكن تعديلهما بسهولة، بينما سياسة البيتكوين النقدية بكل أهدافها ونواياها منقوشة في الحجر.

والسؤال عمَّا إذا كانت تلك العملات ستنجح بطرح خدمة يطلبها السوق غير تلك التي يطرحها البيتكوين هو سؤال غير معروف إجابته إلى الآن، لكن يبدو بوضوح أنها لن تستطيع منافسة البيتكوين بكونها عملات رقميةً لا تعتمد على الثقة، خصوصًا أنها جميعًا اختارت تقليد طقوس البيتكوين، متظاهرةً بأنها تقوم بحل أشياء إضافية. ولكن هذا الأمر لا يزيد من الثقة بها؛ وذلك لأنها لا تنجز شيئًا سوى إغناء من صَنَعها. ومن الممكن أن تكون التصاميم التي تقلِّد تصميم ناكاموتو والتي تُقدَّر بالآلاف هي أكثر الأشكال صدقًا من أشكال الإطراء، لكن فشلها المستمر في عدم تحقيق أي شيء أكثر ممَّا قدَّمه تصميم ناكاموتو هو شهادة فخر وعظمة على هذا الإنجاز وعلى عظمة ناكاموتو. فالإضافات الوحيدة على تصميم البيتكوين والتي تستحق الاهتمام كانت من قِبَل المبرمجين البارعين المتطوِّعين الذين يكرِّسون أنفسهم بالمساهمات لساعات طويلة في جعل الشيفرة البرمجية للبيتكوين أفضل. والعديد من المبرمجين متوسطي البراعة نجحوا في الحصول على ثروة ضخمة عن طريق إعادة طرح تصميم ناكاموتو بالتسويق وبتعابير طنانة لا فائدة منها، ولكن فشل جميعهم بإضافة أي قدرات وظيفية لها أي طلب في العالم الحقيقي. لهذا، لا يمكن فهم نمو تلك العملات البديلة خارج إطار العملة الحكومية السهلة التي تبحث عن استثمار سهل؛ ممَّا يُشكِّل فقاعات كبيرةً باستثمارات ضخمة فاشلة.

(١٥) تكنولوجيا سلسلة الكتل (البلوك تشين Blockchain)١١

fig22
شكل ١٠-١: مخطَّط قرار سلسلة الكتل.
كنتيجة للارتفاع المدهش في قيمة البيتكوين وللصعوبة في فهم إجراءات وتقنيات عمله، كان هناك سوء فهم والتباس كبيرَين جدًّا فيما يتعلَّق به، وربما أهم وأشهر تلك الالتباسات هي الفكرة بأن الميكانيكية التي تضع التحويلات في كتل بحيث تكون متصلةً ببعضها كسلسلة لتُشكِّل سجلًّا — التي هي جزء من عمليات البيتكوين — هي تقنية يمكن بشكلٍ ما نشرها وتوظيفها لحل أو تحسين مشاكل اقتصادية واجتماعية، أو حتى إحداث ثورة بها، كما هو الحال مع كل لعبة مبالَغ بقيمتها تمَّ ابتكارها في أيامنا هذه. «البيتكوين غير مهم لكن تكنولوجيا سلسلة الكتل التي يستند عليها هي ما يحمل الأهمية». إن هذه نغمة قديمة تمَّ تكرارها حتى الغثيان بين عامَي ٢٠١٤ و٢٠١٧م من قِبَل مديري البنوك، والصحفيين، والسياسيين، الذين يتشاركون جميعًا بشيء واحد وهو افتقارهم لفهم طريقة عمل البيتكوين (شاهد الشكل رقم ١٠-١).

فالهوس والتركيز على تكنولوجيا سلسلة الكتل هو مثال رائع على «ادِّعاء العلم»، وهو فكرة تمَّ نشرها من قِبَل الفيزيائي «ريتشارد فاينمان». تقول القصة إن الجيش الأمريكي أنشأ مدرَّجات لهبوط الطائرات للمساعدة في العمليات العسكرية على جزيرةٍ في جنوب المحيط الهادئ خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت الطائرات غالبًا تجلب هدايا للسكان الأصليين للجزيرة الذين كانوا يستمتعون بها بشكل كبير. وبعد انتهاء الحرب وتوقُّف الطائرات عن الهبوط على هذه المدرَّجات بالجزيرة، حاول السكان المحليون بكل جهدهم إعادة الطائرات وحمولتها إلى الجزيرة. وخلال يأسهم الشديد، كانوا يقلِّدون سلوك وحدات التحكم البرية التابعة للجيش الأمريكي الذي رحل منذ زمن، معتقدين أنه وبوضعهم رجلًا في كوخ مع هوائي وإشعال نار كما اعتادت وحدات تحكم الجيش فعله، فستعود طائرات الجيش الأمريكي حاملةً لهم الهدايا. بوضوح لم تكن استراتيجية كهذه لتعمل؛ وذلك لأن الإجراءات التي اتبعتها وحدات تحكم الجيش لم تكن تخلق تلك الطائرات من العدم، بل كانت هذه الوحدات جزءًا متكاملًا لعملية تقنية دقيقة، تبدأ بتصنيع الطائرات وإقلاعها من قواعدها، وهو أمر لم يستطِع سُكَّان جزيرة المحيط الهادئ فهمه.

ومثل أولئك السكان، فالناس الذين يروِّجون تكنولوجيا سلسلة الكتل على أنها عملية يمكنها إنتاج منافع اقتصادية لوحدها، لا يفهمون العملية الكبرى، والتي تكون سلسلةُ الكتل جزءًا منها. فميكانيكية البيتكوين لترسيخ وتأسيس ثبات ومصداقية السجل هي عملية معقَّدة للغاية، لكنها تخدم هدفًا واضحًا؛ وهو إصدار عملة ونقل قيمة على الشبكة دون الحاجة لوجود طرف ثالث موثوق به. «فتكنولوجيا سلسلة الكتل»، إلى الحد التي هي موجودة به الآن، ليست طريقةً فعالة أو زهيدة الثمن أو حتى سريعةً في إجراء التحويلات على الشبكة. في الحقيقة، إنها غير فعالة بشكل كبير وبطيئة مقارنةً بالحلول المركزية، والأفضلية الوحيدة لهذه التكنولوجيا هي إلغاء الحاجة لوجود طرف ثالث موثوق به كوسيط؛ فالاستعمال الوحيد المحتمَل لهذه التكنولوجيا يكمن في المجالات التي ستنتج قيمةً مرتفعة جدًّا للمستخدمين النهائيين عند نزع توسط الطرف الثالث منها؛ ممَّا يبرِّر ارتفاع ثمنها وقلة فعاليتها. والطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها أن تنجح في إلغاء توسط الطرف الثالث هي عبر نقل العملات الأصلية للشبكة نفسها؛ وذلك لأنه لا يوجد للشيفرة البرمجية لسلسلة الكتل أي سيطرة مدمجة على أي شيء يحصل خارجها.

فإذا قمنا بعمل مقارنة، فإن هذه المقارنة ستساعدنا على تقديم صورة على عدم فعالية البيتكوين فيما يخص عملية تنفيذ التحويلات؛ حيث إننا وإذا قمنا بنزع كلٍّ من زخارف اللامركزية، وإثباتات نظام إثبات العمل، والتعدين، وانعدام الثقة، ثم قمنا بتشغيل نسخة مركزية من البيتكوين، عندها سيتكوَّن بشكل أساسي من خوارزمية لإنتاج العملات، وقاعدة بيانات لملكية العملات التي تعالج ما يقارب ٣٠٠٠٠٠ تحويل في اليوم. ويُعد هذا الأمر سهلًا للغاية، ويمكن لأي حاسوب شخصي حديث القيام به بشكل فعَّال. في الحقيقة، يمكن لحواسيب محمولة استهلاكية قديمة أن تؤدِّي ما يقارب ١٤٠٠٠ تحويل في الثانية، أو تؤدِّي كامل حجم تحويلات البيتكوين اليومية في ٢٠ ثانية.١٢ ولإنجاز حجم تحويلات سنة كاملة للبيتكوين فسيحتاج الحاسوب المحمول الشخصي لأكثر من ساعتَين بقليل.
إن المشكلة في تشغيل هذا النوع من العملات على حاسوب شخصي محمول هي أن ذلك يتطلَّب الثقة في مالك هذا الحاسوب، والثقة بحماية وأمن الحاسوب أمام المهاجمين. والطريقة والتصميم الوحيد الموجود لتشغيل هذه البرمجية البسيطة دون الحاجة لطرف واحد موثوق به حتى لا يتم تزوير سِجل التحويلات أو تغيير معدَّل إصدار العملة، هو تصميم شبكة البيتكوين اللامركزية المعتمِدة على مبدأ نظير إلى نظير بتأكيد نظام إثبات العمل. فهذا الأمر ليس مشكلةً برمجية بسيطة؛ حيث استغرق عقودًا من الزمن من محاولات مبرمجي الحواسيب إيجاد التصميم الأفضل لها قبل أن يستطيعوا ابتكار هذا التصميم الذي يحقِّق ذلك. وفي حين أنه لدى الحاسوب الشخصي المحمول معدَّل هاش يُقدَّر بحوالي ١٠ ميغاهاش في الثانية، فإن شبكة البيتكوين تعالج بالإجمال ما يقارب ٢٠ إكساهاش في الثانية، أو ما يساوي ٢ تريليون حاسوب محمول. بكلمات أخرى، لإزالة الحاجة للثقة، يجب أن تزداد طاقة المعالجة المستخدمة لتشغيل عملة بسيطة وبرنامج قاعدة بيانات بعامل يصل إلى ٢ تريليون تقريبًا. وليست العملة أو تحويلاتها هي ما يحتاج كل تلك الطاقة من المعالجة، بل جَعلُ النظام غير قائم على الثقة هو ما يحتاج ذلك. ولهذا، إن أي معالجة حاسوبية يتم تشغيلها من قِبل تكنولوجيا سلسلة الكتل يجب أن تحقِّق معيارَين:
  • أولًا: يجب أن تكون المكاسب من اللامركزية مُقنعةً بما فيه الكفاية لكي تبرِّر ثمنها المرتفع؛ فلا يمكن تبرير الثمن المرتفع للامركزية لأي عملية تحتاج شكلًا من أشكال الطرف الثالث الموثوق لتطبيق جزء صغير منها. فلتطبيق العقود التي تتعامل مع الأعمال والمشاريع التجارية للعالم الحقيقي والتي تقع تحت إدارة سلطات قضائية شرعية، ستبقى هناك رقابة قانونية متعلِّقة بتطبيق تلك العقود في العالم الحقيقي، حيث يمكن تجاوز قواعد الشبكة المتفق عليها؛ ممَّا سيجعل التكلفة الباهظة للامركزية بلا أي فائدة. والأمر ذاته ينطبق على قاعدة البيانات غير المركزية الخاصة بالمؤسسات المالية؛ حيث ستبقى تلك المؤسسات المالية كطرف ثالث موثوق بها في عملياتها الخاصة مع بعضها البعض أو بينها وبين العملاء.
  • ثانيًا: إن العملية الأولية نفسها يجب أن تكون بسيطةً بما فيه الكفاية لكي تضمن القدرة على تشغيل السجل المُوزَّع من قِبَل العديد من العُقد، دون جعل سلسلة الكتل ثقيلةً وكبيرة جدًّا، على أن يتم توزيعها. لأنه ومع تكرار العملية بمرور الوقت، سيكبر حجم سلسلة الكتل، وسيصبح صعبًا بشكل متصاعد على العُقَد الموزَّعة أن تحتفظ بنسخة كاملة من سلسلة الكتل؛ ممَّا يعني أن قلةً فقط من الحواسيب العملاقة ستكون قادرةً على تشغيل سلسلة الكتل، جاعلةً اللامركزية شيئًا قديمًا وباليًا. لاحظ هنا الاختلاف بين العُقَد التي تحتوي وتحتفظ بالسجل وبين المُعدِّنين المُكَرَّسين الذين يقومون بحل مسائل نظام إثبات العمل، كما تمَّ النقاش في الفصل الثامن؛ حيث إن المعدِّنين يحتاجون صَرْف كميات هائلة من طاقة المعالجة لإتمام التحويلات في السجل المشترك، بينما تحتاج العُقد لقدر قليل جدًّا من طاقة المعالجة للاحتفاظ بنسخة من السِّجل، والذي من خلاله تستطيع التأكيد على دقة تحويلات المعدِّنين. لهذا السبب، يمكن أن تُدار العُقَد عن طريق حواسيب شخصية، بينما يملك المعدِّنون الفرديون طاقة معالجة مئات الحواسيب الشخصية. وإذا أصبحت العملية المتعلِّقة بالسجل معقدةً جدًّا، فستحتاج العُقد لأن تكوِّن خوادم كبيرةً بدلًا من أن تكوِّن حواسيب شخصية؛ ممَّا سيدمِّر احتمالية اللامركزية.

وقد وضعت سلسلة كتل البيتكوين حدًّا على حجم كل كتلة يُقدَّر ﺑ ١ ميغابايت؛ ممَّا حدَّ من سرعة نمو سلسلة الكتل. لكن هذا الحد سيسمح للحواسيب البسيطة بإدارة العُقَد والإبقاء عليها. فإذا ازداد حجم كل كتلة، أو إذا تمَّ استعمال سلسلة الكتل لعمليات معقَّدة أكثر كتلك العمليات التي يتم الترويج لها من قِبَل أولئك المتحمِّسين لسلسلة الكتل، فإن ذلك سيجعلها أكبر حجمًا وأصعب من أن يتم إدارتها من قِبَل حواسيب شخصية؛ بحيث إن تركيز الشبكة في عدة عقد كبيرة تملكها وتُديرها مؤسسات كبيرة، سيهدم كامل فكرة اللامركزية.

إن العملات النقدية الرقمية غير المبنية على الثقة حتى الآن كانت التطبيق الوحيد الناجح لتكنولوجيا سلسلة الكتل؛ وذلك لأن هذه التكنولوجيا سهلة وبسيطة التشغيل؛ ممَّا أدَّى إلى نمو بطيء نسبيًّا لسجلها على مدى الزمن. وهذا يعني أنه من الممكن لأي حاسوب محلي وأي شبكة اتصال في جميع أنحاء العالم أن يكون عضوًا في شبكة البيتكوين. فالتضخم المتوقَّع والمُسيطر عليه يحتاج أيضًا كميةً صغيرة من طاقة المعالجة، ولكنه عملية تَعرِض فيها اللامركزية وانعدام الثقة قيمةً هائلة للمستخدمين النهائيين، كما شُرح في الفصل الثامن. وكل وسائل الإعلام النقدية يتم التحكم بها في أيامنا هذه من قِبل أطراف يمكنها أن تقوم بتضخيم العرض من أجل الربح من الطلب المتزايد. وهذا الأمر صحيح بالنسبة للعملات الورقية والمعادن غير الثمينة، لكنه صحيح أيضًا بالنسبة للذهب، الذي تخزِّنه البنوك المركزية بكميات كبيرة مستعدين لبيعه في السوق لمنعه من الازدياد في القيمة بسرعة كبيرة وبهذا تَستبدل العملات الورقية. فلأول مرة منذ إلغاء المعيار الذهبي، استطاع البيتكوين جعل النقد السليم في متناول الجميع من مختلِف أنحاء العالم وبشكل سهل. وهذه التوافقية غير المتوقَّعة بين حِمْل خفيف من الحوسبة وقيمة اقتصادية كبيرة هي السبب في نمو حجم طاقة معالجة شبكة البيتكوين إلى أكبر شبكة في التاريخ. ولقد أثبت البيتكوين خلال الثماني سنوات التي مرَّ بها أنه من المستحيل إيجاد حالة قيِّمة أخرى للاستعمال قد تكفي لتبرير توزُّعه على آلاف العُقد الأعضاء، بينما يكون وبالوقت نفسه خفيفًا لدرجة تسمح بتلك اللامركزية التي يتصف بها.

وأول أثر لهذا التحليل هو أنه من المرجَّح عدم نجاح أي تغيير في برتوكول البيتكوين إذا كان هدفه زيادة حجم سلسلة الكتل، ليس فقط بسبب الثبات المذكور سابقًا، ولكن لأن ذلك غالبًا سيمنع معظم مُديري العُقد من تشغيل عُقَدهم الخاصة. وبما أن هذه العُقَد هي من تقرِّر أي برنامج يتم تشغيله، فمن الآمن التنبُّؤ بأنه ستستمر أقلية متشدِّدة من العُقَد في العمل على النظام البرمجي الحالي، حاملين عملات البيتكوين الخاصة بهم؛ بحيث إن أي محاولة لتحديث برنامج البيتكوين ستُحوِّله إلى عملة بديلة بلا قيمة كمئات العملات الموجودة حاليًّا.

الأثر الثاني هو أن جميع تطبيقات «تكنولوجيا سلسلة الكتل» التي يتم الترويج لها على أنها ثورة في عالم المعاملات المصرفية أو تكنولوجيا قواعد البيانات، هي تطبيقات محكوم عليها بالفشل في عدم تحقيق أكثر من نماذج تجريبية لن يتم نقلها أبدًا إلى العالم الحقيقي؛ وذلك لأنها ستبقى دائمًا طريقةً غير فعالة أبدًا للأطراف الثالثة الموثوقة التي تديرها لإجراء أعمالهم. فمن غير المنطقي أن تكنولوجيا صُمِّمت خصوصًا لإزالة وساطة الأطراف الثالثة أن ينتهي بها الأمر بتأدية هدف مفيد للجهات الوسيطة والتي تمَّ إنشاء تلك التكنولوجيا لاستبدالها.

فهناك العديد من الطرق الأسهل والأسرع لتسجيل التحويلات، لكن هذه هي الطريقة الوحيدة لإزالة الحاجة لوجود طرف ثالث موثوق؛ حيث إنه يتم الالتزام بإجراء التحويل على سلسلة الكتل؛ وذلك لأن الكثير من الموثِّقين يتنافسون لتأكيد هذه التحويلات من أجل الربح. ومع هذا، لا يوجد واحد منهم يمكن الاعتماد عليه أو يمكن إعطاؤه الثقة لإقرار ما إذا كان ذلك التحويل سيسير أم لا. في الواقع، يتم كشف الاحتيال على الفور ثم يتم إلغاؤه من قِبَل أعضاء الشبكة الآخرين الذين يملكون دافعًا قويًّا للحفاظ على مصداقية ونزاهة الشبكة. بكلمات أخرى، إن البيتكوين هو نظام بُني بأكمله على التصديقات المرتفعة الثمن والبطيئة لكي يكون قادرًا على إزالة الحاجة لوجود كل من الثقة والمساءلة بين الأطراف؛ أي إنه ١٠٠٪ تأكيد و٠٪ ثقة.

وعلى عكس الحماس والضجة الإعلامية المحيطة بالبيتكوين، فإن إزالة الحاجة للثقة في الأطراف الثالثة ليس أمرًا جيدًا بشكل مطلق في جميع مجالات الحياة والأعمال، وبعدما يفهم الشخص ميكانيكية عمليات البيتكوين، فسيكون واضحًا له أن هناك مقايضةً تتم عند الانتقال إلى نظام لا يعتمد على طرف ثالث موثوق. فالأفضلية بهذا الانتقال تكمن في السيادة الفردية على البروتوكول، ومقاومة والرقابة، وثبات نمو العرض النقدي، ووجود المعايير التقنية، أمَّا السلبيات فتتلخَّص في الحاجة لصرف طاقة معالجة كبيرة جدًّا لإتمام الكمية ذاتها من العمل. فليس هناك سبب خارج نطاق الدعاية والحماس المستقبلي الساذج للاعتقاد بأن تلك مقايضة مفيدة جدًّا. ومن المحتمل أن يكون المكان الوحيد الذي تكون فيه هذه المقايضة مفيدةً هو بإدارة نقد عالمي سليم وموحَّد لسببَين هامَّين للغاية؛ الأول: يمكن تعويض التكاليف الباهظة المدفوعة على تشغيل وإدارة النظام عن طريق الاستيلاء ببطء على أجزاء من سوق العملات العالمي، الذي يعمل بما يُقدَّر بقيمة ٨٠ ترليون دولار أمريكي. الثاني: إن طبيعة النقد السليم كما شُرح سابقًا تكمن وبشكل دقيق في حقيقة أنه لا يوجد إنسان قادر على التحكم بها، وبالتالي، فوجود خوارزمية ثابتة بشكل متوقَّع تتناسب بشكل كبير مع هذه المهمة. وبعد التفكير بهذا السؤال لعدة سنوات، لم أتمكَّن من إيجاد عملية مشابهة على درجة عالية من الأهمية في كل مجالات الأعمال والمشاريع الأخرى، لدرجةٍ تستحق القيمة الإضافية لقاء عدم وجود وسطاء موثوقين، وفي نفس الوقت تكون بسيطةً وشفافة بشكل كبير جدًّا؛ بحيث إن إزالة السلطة البشرية تكون ذات فائدة ومنفعة عظيمة.

إن مثالًا مشابهًا بقطاع السيارات سيكون مفيدًا وتعليميًّا هنا؛ ففي عام ١٨٨٥م، أضاف «كارل بنز» محرك احتراق داخلي للعربة وذلك لإنتاج أول آلية تمد نفسها بالطاقة بشكل آلي، وكان الهدف الأساسي من ذلك هو إزالة الأحصنة من العربات وتحرير الناس من التعامل الدائم مع مفرزات الأحصنة. فلم يكن بنز يحاول جعل الأحصنة أسرع؛ حيث إن تحميل الحصان بمحرك حديدي ثقيل لن يجعل الأحصنة تركض بشكل أسرع؛ بل سيبطئها الأمر أكثر بينما لن يفعل شيئًا حيال الحد من كمية المفرزات التي تنتجها تلك الأحصنة. بشكل مشابه وكما شُرح في الفصل الثامن، إن طاقة المعالجة الهائلة المطلوبة لكي تعمل شبكة البيتكوين تقضي على الحاجة لوجود طرف ثالث موثوق لإجراء مدفوعاتها أو تُحدِّد العرض النقدي الخاص بها. فإن ظلَّ الطرف الثالث موجودًا، فإن كل طاقة المعالجة تلك لا هدف لها وتُعدُّ إهدارًا للكهرباء.

والوقت وحده سيخبرنا عمَّا إذا كان هذا النموذج من البيتكوين سيستمر بالنمو في شعبيته ودرجة تبنيه؛ فمن الممكن أن ينمو البيتكوين ليستبدل الكثير من الوسطاء الماليين، لكن من الممكن أيضًا أن يظل ثابتًا في حالته الحالية أو حتى أن يفشل ويختفي، ولكن ما لا يمكن حدوثه أبدًا هو أن تَخدم سلسلة كتل البيتكوين وسطاء، صُمِّمت خصوصًا لاستبدالهم.

فسلسلة الكتل بالنسبة لأي طرف ثالث موثوق يقوم بإجراء المدفوعات أو التجارة، أو يقوم بالحفاظ على السجلات، هي تكنولوجيا باهظة الثمن وغير فعالة للاستخدام. وبهذا، تجمع سلسلة الكتل لغير البيتكوين أسوأ ما في العالمَين؛ البنية الباهظة لسلسلة الكتل إضافةً للخطورة الأمنية المتعلِّقة بالأطراف الثالثة. فليس من الغريب بأنه بعد ثماني سنوات من ابتكارها، لم تستطع تكنولوجيا سلسلة الكتل أن تنتشر بنجاح أو أن تُطلق تطبيقات تجاريةً جاهزة للسوق عدا المجال الذي تمَّ ابتكاره خصوصًا من أجله؛ ألَا وهو البيتكوين.

بالمقابل، كان هناك حماس وفير حول قدرات وإمكانيات تكنولوجيا سلسلة الكتل في كل من المؤتمرات، والنقاشات على مستوًى رفيع في وسائل الإعلام، والحكومات، والأكاديميات، والمؤسسات، ومنتدى الاقتصاد العالمي. وتمَّ استثمار ملايين الدولارات كرءوس أموال استثمارية، وفي الأبحاث والتسويق من قِبَل الحكومات والمؤسسات التي تمَّ إغراؤها في هذا الحماس، ولكن بلا أي نتيجة عملية تُذكر.

ولقد قام مستشارو سلسلة الكتل ببناء نماذج لتداول الأسهم، وإدراج الأصول، والتصويت، وتخليص المدفوعات، لكن لم تتطوَّر أيٌّ منها لتُوَظَّف تجاريًّا؛ حيث إنها كانت أكثر تكلفةً من الطرق البسيطة التي تعتمد على قواعد البيانات المُنشأة والحزم البرمجية، كما استنتجت حكومة «فيرمونت» مؤخَّرًا.١٣
وفي الوقت نفسه، لا تملك المصارف تاريخًا جيدًا فيما يتعلَّق بتطبيق التطورات التكنولوجية لاستعمالها الشخصي؛ فبينما كان «جيمي ديمون» المدير التنفيذي ﻟ JPMorgan Chase يروِّج لتكنولوجيا سلسلة الكتل في «دافوس» في يناير من عام ٢٠١٦م، قام مصرفه بافتتاح واجهات للبورصات المالية — وهي تكنولوجيا من عام ١٩٩٧م توفِّر للجهات المعنية قاعدة بيانات مركزية تحتوي على معلومات العملاء — ولم تعمل حتى كتابة هذا الكتاب.

بالمقابل، وُلدت شبكة البيتكوين من تصميم سلسلة الكتل بعد شهرَين من طرح ناكاموتو لتلك التقنية. وحتى يومنا هذا، لا تزال تعمل بشكل متواصل دون تقطُّعات، ونمت إلى ما يزيد على قيمة ١٥٠ مليار دولار من عملات البيتكوين. فسلسلة الكتل كانت هي الحل لمشكلة النقد الإلكتروني؛ فبسبب هذا ولأنها عملت، فقد نمت بسرعة في الوقت الذي عمل فيه ناكاموتو بشكل متخفٍّ حيث كان يتواصل عبر البريد الإلكتروني فقط وباقتضاب لِمَا يقارب السنتَين، ولم تحتَج إلى الاستثمارات، ورءوس الأموال الاستثمارية، والمؤتمرات، أو الدعاية.

بهذا الشرح، أصبح واضحًا أن الادِّعاء القائل بأن «تكنولوجيا سلسلة الكتل» موجودة ويمكن نشرها وتوظيفها لحل أي مشكلة هو ادعاء مشبوه. وسيكون الأمر أكثر دقةً في حال تمَّ فهم بنية سلسلة الكتل كقسم أساسي ومتكامل من عملية البيتكوين ومن النُّسخ والتي تقلِّد البيتكوين والنُّسخ التي يتم التجربة عليها. مع هذا، يتم استخدام مصطلح تكنولوجيا سلسلة الكتل من أجل البساطة في التوضيح. والقسم التالي من الفصل سيبحث أشهر حالات استعمال تكنولوجيا سلسلة الكتل التي تمَّ الترويج لها، بينما يحدِّد القسم الذي يليه المصاعب الرئيسية التي تواجه تطبيق سلسلة الكتل لتلك المشاكل.

(١٦) التطبيقات المحتمَلة لتكنولوجيا سلسلة الكتل

من لمحة عامة على الشركات الناشئة ومشاريع البحث المتعلِّقة بتكنولوجيا سلسلة الكتل، يمكننا أن نصل للنتيجة أنه يمكن تقسيم تطبيقات سلسلة الكتل المحتمَلة إلى ثلاثة مجالات رئيسية:

(١٦-١) تسديد الدفعات بشكل رقمي

تعتمد الآليات التجارية الحالية لتصفية الدفعات على سجلات مركزية لكي تُسجِّل جميع التحويلات وتصون أرصدة الحسابات. وبشكل أساسي، يتم نقل التحويلات من أطراف المعاملة إلى الوسيط ثم يتم التأكُّد من صحتها، وبعدها يتم تعديل كلا الحسابَين وفقًا لذلك. أمَّا في سلسلة الكتل، فإنه يتم نقل التحويلة إلى كل عقد الشبكة التي تحتوي على الكثير من التحويلات وقوة المعالجة والوقت، بحيث تُصبح هذه التحويلة جزءًا من سلسلة الكتل ويتم نسخها إلى حواسيب كل الأعضاء. إن هذه العملية أبطأ وأغلى ثمنًا من التصفية المركزية، وهذا يساعدنا على فهم قدرة بطاقتَي فيزا وماستركارد على تصفية ٢٠٠٠ تحويلة في الثانية، في حين يُصفِّي البيتكوين أربعةً بأفضل الأحوال. فالبيتكوين لديه سلسلة كتل ليس لأنه يسمح بتحويلات أسرع وأرخص، بل لأنه يلغي الحاجة لأن نثق بوساطة الأطراف الثالثة، فيتم تصفية التحويلات بحيث تتنافس العُقد على تأكيدها وتوثيقها، ومع ذلك فإنه لا حاجة للوثوق بأية عقدة. لذلك، من غير العملي للأطراف الثالثة الوسيطة أن تتخيَّل أنه بإمكانها تطوير أدائها بتوظيف تقنية تُضحي بالفعالية والسرعة بالذات من أجل إزالة الأطراف الثالثة الوسيطة. ولهذا، بالنسبة إلى أية عملة يُسيطِر عليها طرف مركزي، فإن الأمر دائمًا سيكون أكثر فعاليةً إذا تمَّت عملية تسجيل التحويلات مركزيًّا. وما يُمكن رؤيته بوضوح هو أن تطبيقات تسديد الدفعات على سلسلة الكتل يجب أن تكون بعملة سلسلة الكتل ذاتها وغير المركزية، وليس بعملات يتم السيطرة عليها بشكل مركزي.

(١٦-٢) العقود

يصيغ المحامون العقود حاليًّا، وتحكُم عليها المحاكم، وتفرض الشرطة تطبيقها. أمَّا في عالم النظام الرقمي، فتُشفِّر أنظمةُ تشفيرِ العقود الحديثة العقودَ مثل الإيثيروم وتضعها على سلسلة الكتل ليتم تنفيذها دون تدخُّل خارجي ودون إمكانية الاستئناف أو الإبطال؛ وبذلك تكون بعيدةً عن سلطة المحاكم والشرطة. «الشيفرة البرمجية هي القانون»، هذا هو الشعار الذي يستخدمه مبرمجو العقود الذكية. إن المشكلة في هذا المفهوم هي أن اللغة التي يستخدمها المحامون لصياغة العقود يفهمها عدد أكبر بكثير من الناس مقارَنةً بلغة الشيفرة البرمجية التي يستخدمها من يصيغون العقود الذكية. وعلى الأغلب، يوجد بضع مئات فقط من الأفراد في كل أنحاء العالم ممن يمتلكون الخبرات التقنية اللازمة لفهمٍ كاملٍ لأثر وتعقيدات العَقد الذكي، وحتى هم قد يرتكبون ويُفوِّتون أخطاءً برمجية فادحة؛ فرغم تزايد عدد الأفراد الذين يُتقنون لغات البرمجة الضرورية لتشغيل تلك العقود، إلا أن القلة الأكثر إتقانًا لهذه اللغات، وحسب التعريف، سيكون لهم أفضلية على البقية. فكفاءة كتابة الشيفرة البرمجية ستعطي دومًا أفضليةً استراتيجية لأولئك الأكثر إتقانًا لها على الآخرين.

وقد أصبح كل هذا واضحًا في أول تطبيق للعقود الذكية على شبكة الإيثيريوم من خلال العَقد الخاص بالمنظَّمة المستقلَّة واللامركزية DAO. فبعد استثمار أكثر من ١٥٠ مليون دولار في هذا العَقد الذكي، تمكَّن مهاجم من تنفيذ الشيفرة بطريقة حوَّلت حوالي ثُلث ممتلكات المنظَّمة المستقلة واللامركزية إلى حسابه. ولا يمكن بشكل دقيق تسمية هذا الهجوم بالسرقة؛ لأن كل المُودِعين وافقوا على أن تتحكَّم الشيفرة فقط بنقودهم، ولم يفعل المهاجم شيئًا سوى أنه نفَّذ الشيفرة بحسب ما وافق عليه المودعون. ونتيجةً لاختراق المنظمة المستقلة واللامركزية، قام مطوِّرو الإيثيريوم بابتكار نسخة جديدة منها لم يحدث فيها هذا الخطأ المزعج. وبهذا الأمر، إن عملية إعادة تدخُّل الإدارة البشرية غير الموضوعية التي تمَّت، تتعارض مع هدف جعل الشيفرة قانونًا، وتُشكِّك في كامل منطق العقود الذكية.

فسلسلة كتل الإيثيريوم هي ثاني أكبر سلسلة كتل بعد البيتكوين من ناحية قوة المعالجة الخاصة بها، وفي حين لا يمكن بشكل فعَّال التراجع وإلغاء العمليات في سلسلة كتل البيتكوين، إلا أن إمكانية التراجع في الإيثيريوم تعني أن كل سلسلة كتل أصغر من سلسلة كتل البيتكوين هي عبارة عن قواعد بيانات مركزية تقع تحت سيطرة مشغِّليها. فتبيَّن أن الشيفرة البرمجية ليست قانونًا حقًّا؛ وذلك لأن مشغلي تلك العقود يستطيعون تجاوز ما ينفِّذه العقد. وبهذا، لم تقم العقود الذكية باستبدال المحاكم بالشيفرة البرمجية، بل قامت باستبدال المحاكم بمطوِّري برمجيات قليلي الخبرة، والمعرفة، والمسئولية في التحكيم. والوقت وحده سيكشف لنا إن كانت المحاكم والمحامون سيبقَون على الحياد في هذا الشأن؛ حيث إننا ما زلنا نكتشف تداعيات تلك الانقسامات. فالمنظمة المستقلَّة واللامركزية كانت أول تطبيق مُعقَّد بعقد ذكي على سلسلة الكتل وحتى الآن الوحيد. وتُوحي التجربة أن التطبيقات على نطاق واسع لا تزال بعيدة، هذا إن حدثت. فالتطبيقات الحالية الأخرى جميعها موجودة على شكل نماذج فقط، وربما في مستقبل افتراضي يكون فيه تعليم الشيفرة البرمجية أكثر شيوعًا، وتكون الشيفرة البرمجية فيه قابلةً للتنبُّؤ وموثوقةً أكثر، قد تصبح تلك العقود أكثر شيوعًا. لكن إن كان تشغيل عقود كهذه لا يفعل شيئًا سوى زيادة متطلَّبات طاقة المعالجة في حين تبقى هذه العقود عرضةً للتعديل، والانقسام، والإلغاء، من قِبَل مهندسي سلسلة الكتل، فإن هذا العمل بأكمله لن يفيد في شيء سوى توليد الدعاية والتعابير الطنانة. ومن المحتمَل وبشكل كبير أن يكون مستقبل العقود الذكية بتواجدها على حواسيب مركزية محمية تُشغِّلها أطراف ثالثة موثوقة قادرة على التحكُّم فيها وإلغائها. إن هذا يُشكِّل واقع العقود الذكية على سلسلة الكتل بأن تكون قابلةً للتعديل، في حين يتم تقليل متطلَّبات طاقة المعالجة وتقليل القوى المهاجِمة المحتمَلة التي تُعرِّضها للخطر.

ومن أجل تواجد سلاسل كتل تكون جاهزةً للعمل، فإن الطلب على العقود البسيطة سيكون على الأغلب بتلك العقود التي يمكن فهم شيفرتها البرمجية والتحقُّق منها بسهولة. والسبب المنطقي الوحيد لاستخدام هذه العقود على سلسلة الكتل بدلًا من نظام حاسوبي مركزي سيكون من أجل العقود التي تَستخدم عملة سلسلة الكتل الأصلية بشكل ما، بحيث يتم تطبيق كل العقود الأخرى والإشراف عليها بشكل أفضل دون وجود العبء الإضافي لنظام سلسلة الكتل الموزَّع. والتطبيق الوحيد الموجود والذي له معنًى لتطبيقات عقود سلسلة الكتل هو ذلك التطبيق الموجود من أجل تسديد الدفعات البسيطة المبرمجة حسب الوقت، ومن أجل المَحافظ العديدة التواقيع، التي تُجرى كلها باستخدام عملة سلسلة الكتل ذاتها، وغالبًا على شبكة البيتكوين.

(١٦-٣) إدارة قواعد البيانات والسِّجِل

إن سلسلة الكتل هي عبارة عن قاعدة بيانات موثوقة ومنيعة ضد التزوير، وهي أيضًا سجل للأصول، ولكنها منيعة فقط بالنسبة لعملة سلسلة الكتل الأصلية. وينطبق هذا الأمر فقط إذا كانت العملة ذات قيمة كافية لتكون للشبكة طاقة معالجة قوية تكفي لمقاومة الهجمات. أمَّا بالنسبة إلى أي أصول أخرى مادية أو رقمية، فالثقة في سلسلة الكتل تكون على قدر الثقة بالمسئولين الذين يشكِّلون الصلة بين الأصول وما يشير إليها على سلسلة الكتل. ولن نحصل على فوائد من ناحية الفعالية أو الشفافية في استخدام سلسلة كتل مُرخَّصة هنا؛ حيث إن مدى الثقة بها تكمن في الثقة بالطرف الذي يمنح الإذن بالكتابة فيها. فإدراج سلسلة الكتل إلى أرشيف ذلك الطرف سيجعله أبطأ دون إضافة حماية أو ثبات، لعدم وجود إثبات عمل. وبهذا، يجب أن تبقى الثقة في وسطاء الأطراف الثالثة، بينما وبالوقت نفسه تزداد طاقة المعالجة ويزداد الوقت الذي يتطلَّبه تشغيل قاعدة البيانات. فيمكن استخدام سلسلة كتل محمية وعملتها كخدمة مُوثَّقة ومُصدَّقة، حيث تكون العقود والوثائق مدمجةً في كتلة تحويلات؛ ممَّا يسمح لأي طرف بالوصول إلى العَقد والتأكُّد من أن النسخة المعروضة هي فعلًا النسخة التي تمَّ دمجها في ذلك الوقت. إن خدمةً كهذه ستوفِّر سوقًا لمساحة قليلة من الكتلة، لكن لن تعمل مع أية سلسلة كتل دون وجود عملة.

(١٧) العوائق الاقتصادية لتكنولوجيا سلسلة الكتل

بالنظر إلى التطبيقات الثلاثة المحتمَلة السابقة لتكنولوجيا سلسلة الكتل، فإننا نستطيع تمييز خمسة عوائق أساسية أمام عملية تبنٍّ كبرى.

(١٧-١) التكرار

إن تسجيل كل تحويل من قِبل كل عضو من أعضاء الشبكة هو تكرار مكلِّف جدًّا هدفه الوحيد هو إزالة الوساطة. وبالنسبة لأي وسيط مالي أو قانوني، لا يوجد منطق بإضافة مثل هذا التكرار مع الاستمرار بالبقاء وسيطًا. فليس هناك أي سبب مقنع لقيام مصرف ما بمشاركة السجل الخاص به لجميع تحويلاته المشتركة بينه وبين المصارف الأخرى، وليس هناك أي سبب مقنع لرغبة المصرف في صرف موارد هائلة على الكهرباء وطاقة المعالجة لتسجيل التحويلات الخاصة لمؤسسة مالية مع أخرى. وبالتالي، يؤدِّي هذا التكرار إلى زيادة التكلفة دون أي فائدة تُرتجى.

(١٧-٢) زيادة السعة

إن شبكةً مُوزَّعة تُسجِّل فيها جميع العُقَد كل التحويلات هي شبكة سينمو سِجل تحويلاتها بشكل ضخم جدًّا وبشكل أسرع من نمو عدد أعضاء الشبكة. وبهذا، فإن ثقل وعبء العمليات الحاسوبية مع المساحة التخزينية بالنسبة لأعضاء الشبكة الموزَّعة، سيكون أكبر بكثير منه في شبكة مركزية بالحجم ذاته. فسلسلة الكتل ستواجه دائمًا هذا العائق الذي يمنع التوسع الناجح، وهذا يشرح لنا لماذا يتحرَّك مطوِّرو البيتكوين باتجاهٍ يتم فيه تصفية المدفوعات على طبقة ثانية، كما في «الشبكة البرق»، أو خارج سلسلة الكتل عبر وسطاء، خلال بحثهم عن حلول للتوسعة بعيدًا عن نموذج سلسلة كتل نقية غير مركزية. فهناك مقايَضة واضحة بين الحجم واللامركزية، وإذا أصبحت سلسلة الكتل قادرةً على استيعاب أحجام أكبر من التحويلات، فعندها يجب أن يزداد معها حجم الكتل؛ ممَّا سيرفع من تكلفة الانضمام للشبكة، الأمر الذي سيقلِّل من عدد العُقد، وكنتيجة، ستميل الشبكة باتجاه المركزية. الخلاصة، إن أكثر طريقة اقتصادية للحصول على حجم أكبر من التحويلات هو عن طريق المركزية في عقدة واحدة.

(١٧-٣) الامتثال للأنظمة

إن سلاسل الكتل بعملاتها الخاصة مثل البيتكوين لا علاقة لها بالقانون؛ فليس هناك أي أمر يمكن لأي سلطة حكومية أن تفعله بهدف التأثير والتعديل على عمليات سلسلة الكتل. حتى إن رئيس الاحتياطي الفيدرالي قال: «لا يوجد أية سلطة لإدارة وتنظيم البيتكوين على الإطلاق».١٤. فيتم إنتاج كتلة كل عشر دقائق تقريبًا على شبكة البيتكوين بحيث تحتوي هذه الكتلة على جميع التحويلات الصالحة المُنتجة خلال العشر دقائق التقريبية تلك، ولا شيء آخر. ويتم قَبول وتصفية التحويلات إذا كانت صالحة، ولا يتم تصفيتها إذا لم تكن كذلك، ولا يمكن للمديرين والمنظِّمين الحكوميين أن يفعلوا شيئًا لإلغاء القواعد المشتركة لطاقة معالجة الشبكة. لهذا، إن تطبيق تكنولوجيا سلسلة الكتل في القطاعات التي تخضع بشكل كبير لإدارةٍ وتنظيم حكومي كالمؤسسات القانونية والمالية مع عملاتٍ غير البيتكوين، سيُنتِج مشاكل إداريةً وتنظيمية وتعقيدات قانونية؛ فالقوانين والتنظيمات تمَّ تصميمها لبنياتٍ تحتية تختلف بشكل كبير عن بنية سلسلة الكتل، ولا يمكن ضبط هذه القوانين لتتلاءم مع عمليات سلسلة الكتل بشكل سهل، خصوصًا مع وجود الشفافية الكاملة من امتلاك جميع أعضاء الشبكة لنسخةٍ من السجل المشترك. إضافةً لهذا، إن سلسلة الكتل تعمل على الشبكة عبر السلطات القضائية بقوانين إدارية وتنظيمية مختلفة، لذلك إن الامتثال لكل القوانين هو أمر يصعب ضمانه.

(١٧-٤) اللارجوع

مع إدارة الوسطاء للمدفوعات والعقود وقواعد البيانات، فإنه يمكن التراجع وإلغاء الأخطاء البشرية أو البرمجية التي تحصل عن طريق الاستعانة بالوساطة، أمَّا في سلسلة الكتل، فتلك الأمور معقَّدة بشكل كبير جدًّا؛ ففي الوقت الذي يتم فيه قَبول كتلة ما ويتم ربط الكتل الأخرى بها، فإنه يمكن التراجع عن التحويلات الخاصة بها فقط عن طريق توجيه ٥١٪ من طاقة المعالجة الخاصة بالشبكة لإرجاع الشبكة كما كانت، بحيث توافق كل العُقَد على الانتقال وبشكل متزامن إلى سلسلة كتل مُعدَّلة، آملين بأن اﻟ ٤٩٪ الآخرين لن يريدوا إنشاء شبكتهم الخاصة، وسينضمون إلى الشبكة الجديدة. وكلما يزداد حجم الشبكة، يزداد معها صعوبة إلغاء وإرجاع أي تحويل مغلوط بها. لكن بالنهاية تمَّ إنشاء تكنولوجيا سلسلة الكتل لمحاكاة التحويلات النقدية ولكن هنا على الشبكة، بحيث لا يكون هناك تراجع بالتحويلات النقدية مع عدم القدرة على الاستفادة من الوساطة الوصية في المراجعة والتعويض. فالمشاكل البشرية والبرمجية تَظهر دائمًا في القطاع المصرفي، ولن ينتج عن توظيف بنية سلسلة الكتل إلا جعل تلك الأخطاء أكبر ثمنًا من أن يتم إصلاحها. فكشفت حادثة اﻟ DAO عن الثمن الباهظ والممتد لعكس وإلغاء مشكلة كهذه في سلسلة الكتل حيث تطلَّب أسابيع من البرمجة وحملات العلاقات العامة لنَيل موافقة أعضاء الشبكة على تبني البرنامج الجديد. وحتى بعد كل ذلك، استمرَّت السلسلة القديمة بالتواجد، وأخذت معها كميةً كبيرة من قيمة وطاقة الشبكة القديمة. فهذه الخسارة شكَّلت وأنشأت وضعًا يتواجد فيه نسختان من التحويل السابق؛ تحويل نجح فيه هجوم اﻟ DAO، وآخر لم ينجح به.

فإذا كان من الممكن استبدال سجل ثاني أكبر شبكة من حيث طاقة المعالجة عندما لا تسير التحويلات في الطريق الذي يناسب مصالح فريق التطوير، فلا يمكن قَبول الاعتبار والفكرة القائلة بأنه يتم تنظيم سلاسل الكتل الأخرى عبر طاقة معالجتها. فتركيز حَمَلة العملة، وطاقة المعالجة ومهارات البرمجة في أيدي مجموعة من الناس الذين هم بالواقع زملاء في مشاريع خاصة يُقوِّض الهدف من تطبيق هذه البنية الدقيقة.

إن تراجعًا وإلغاءً كهذا غير عملي أبدًا وغير مرجَّح الحدوث في البيتكوين للأسباب التي تمَّت مناقشتها في الفصل التاسع بشكل خاص؛ لأنه لا يتاح لأي طرف في شبكة البيتكوين الانضمام إلى الشبكة إلا إذا وافق على القوانين الموجودة والمتفق عليها. فالمصالح العدائية للأعضاء المختلفين للنظام المتكامل تعني وبشكل دائم أن الشبكة لن تنمو إلا عبر جذب المساهمات التطوُّعية للأفراد الراغبين في قَبول القواعد المتفق عليها. ففي البيتكوين، تبقى القواعد المشتركة ثابتة، أمَّا المستخدم فهو من يختار البقاء أو الذهاب. لكن تواجد دائمًا مجموعة واحدة مسئولة عن وضع قواعد أي مشروع سلسلة كتل آخر تمَّ تأسيسه بتقليد تصميم البيتكوين، وبالتالي كان لتلك المجموعة القدرة على تغيير تلك القواعد. فبينما نما البيتكوين تحت ظل القواعد المشتركة المُؤسَّسة عبر التصرُّفات البشرية، نمت جميع المشاريع الأخرى عبر التصاميم البشرية والإدارة البشرية النشِطة. لهذا، اكتسب البيتكوين سمعته عن طريق كونه ثابتًا بعد سنوات من مقاومته للتغيير، ولا يمكن لأي مشروع سلسلة كتل آخر أن يُدلي بهذا الادِّعاء.

فسلسلة الكتل القابلة للتبديل تُعد تطبيقًا نافعًا عمليًّا في هندسة المغالطات والأمور السخيفة؛ فهي تستخدم طرقًا معقَّدة وباهظة الثمن من أجل إزالة الوساطة وتأسيس الثبات، لكنها بعد ذلك تمنح الوسيط القدرة على قلب وإلغاء ذلك الثبات. وأفضل التطبيقات الموجودة حاليًّا في هذه المجالات هي تلك التي لديها القدرة على التراجع والإلغاء بالإضافة إلى الرقابة من قِبل السلطات الشرعية والتنظيمية؛ حيث إن هذه السلطات توظِّف طرقًا أرخص، وأكثر سرعةً وفعالية.

(١٧-٥) الحماية

تعتمد حصانة قاعدة بيانات سلسلة الكتل بأكملها على إنفاق طاقة المعالجة لتصديق التحويلات ونظام إثبات العمل. ويمكن فهم تكنولوجيا سلسلة الكتل بشكل جيد على أنها تحويل الطاقة الكهربائية إلى سجلات موثَّقة بشكل قاطع تتضمَّن الملكية والتحويلات. ولكي يكون هذا النظام محميًّا، يجب أن يتم تعويض المُوثِّقين الذين يصرفون طاقة المعالجة بعملة نظام الدفع نفسه لضمان مواءمة دافعهم مع صحة ودوام الشبكة. لكن إذا تمَّ جعل مدفوعات طاقة المعالجة بعملة أخرى، فعندها سيتم اعتبار سلسلة الكتل على أنها سِجل خاص يُحافَظ عليها من قِبَل أي شخص يدفع ثمن طاقة المعالجة. وتعتمد حصانة النظام على حضانة الطرف المركزي الذي يدعم المُعدِّنين، لكنه سيكون محفوفًا بالمخاطر إذا عمل عبر سجل مشترك؛ لأنه يزيد من احتمال حدوث خروقات أمنية. فكلما ازداد انفتاح النظام وازداد عدد أعضاء الشبكة الذين يصرفون طاقة المعالجة على التأكيد والتوثيق، تزداد حصانة النظام المفتوح غير المركزي المبني على التصديق عبر طاقة المعالجة. أمَّا بالنسبة للنظام المركزي الذي يعتمد على نقطةٍ واحدة من الفشل، فإنه سيكون أقل حصانةً إذا كان لعدد كبير من أعضاء الشبكة القدرة على الكتابة على سلسلة الكتل. وفي كل مرة ينضم فيها عضو جديد للشبكة فإن ذلك سيشكِّل احتماليةً جديدة لحدوث خرق أمني.

(١٨) تكنولوجيا سلسلة الكتل كآلية لإنتاج النقد الإلكتروني

إن التطبيق التجاري الناجح الوحيد لتكنولوجيا سلسلة الكتل إلى حد الآن هو النقد الإلكتروني، وتحديدًا البيتكوين. ومعظم التطبيقات المحتمَلة التي تمَّ الترويج لها لتكنولوجيا سلسلة الكتل — كالمدفوعات، والعقود، وسجلات الأصول — ستعمل فقط إذا تمَّ استعمال العملة الرقمية غير المركزية الخاصة بسلسلة الكتل. لهذا، إن سلاسل الكتل جميعها التي لا تستند على عملات رقمية هي سلاسل لم تنتقل من مرحلة النموذج البدائي إلى التطبيق التجاري؛ وذلك لأنها لا تستطيع التنافس مع أفضل تطبيق حالي في سوقهم. فتصميم البيتكوين كان ولا يزال متوفِّرًا بشكل مجاني لمدة تسع سنوات الآن، ويمكن للمطوِّرين النَّسخ منه وتطويره لتقديم منتجات تجارية، لكن لم يظهر هذا النوع من المنتجات بعد.

ويُظهر اختبار السوق أن تكرار تسجيل التحويلات ونظام إثبات العمل يمكن تبريرهما فقط بهدف إنتاج نقد إلكتروني وشبكة مدفوعات دون وجود وساطة طرف ثالث، بحيث يمكن التعامل مع ملكية النقد الإلكتروني والتحويلات عبر كميات صغيرة جدًّا من البيانات. لكن الحالات الاقتصادية الأخرى التي تحتاج متطلَّبات بيانات أكبر كالمدفوعات والعقود الكبيرة تصبح باهظة الثمن بشكل غير عملي في نموذج سلسلة الكتل. فبالنسبة لأي تطبيق يحتاج وجود الوسطاء، لن تُقدِّم سلسلة الكتل حلولًا منافسة، ولهذا لا يمكن أن يكون هناك تبنٍّ كبير لتكنولوجيا سلسلة الكتل في القطاعات المعتمدة على الثقة بالوسطاء؛ فتواجد الوسطاء ولو بشكل بسيط يجعل من جميع الأثمان المتعلِّقة بتشغيل سلسلة الكتل أمرًا غير ضروري. لهذا، لن يكون تطبيق تكنولوجيا سلسلة الكتل ذا معنًى إلا إذا كان عمله قائمًا على النقد الإلكتروني، وفقط إذا قدَّم النقد الإلكتروني غير القائم على الوساطة منافعَ اقتصاديةً تفوق تلك التي تأتي من استخدام العملات العادية وقنوات الدفع.

فالهندسة الجيدة تبدأ بمشكلة واضحة محاوِلةً إيجاد الحل الأمثل لها؛ بحيث إن هذا الحل الأمثل لا يحل المشكلة فقط، بل وحسب التعريف لا يحمل أيَّ جهد إضافي غير ضروري. فمُنشئ البيتكوين كان متحفِّزًا لإنتاج شبكة «نقدٍ إلكتروني قائمة على نظام نظير إلى نظير»، وقد صنع تصميمًا لذلك، وليس هناك أي داعٍ، إلا الجهل بتقنية عمله، لتوقُّع أنه قد يناسب أعمالًا واحتياجات أخرى. فبعد تسع سنوات وملايين المستخدمين، يمكننا القول إن تصميمه قد نجح في إنتاج نقد رقمي، وكما هو متوقَّع لا شيء سواه. ويمكن أن يحتوي هذا النقد الإلكتروني على تطبيقات تجارية ورقمية، لكن قضية مناقشة تكنولوجيا سلسلة الكتل على أنها ابتكار تكنولوجي في حد ذاتها مع تطبيقات في مجالات وحقول مختلفة هي أمر لا يحمل أي معنًى. فيمكن فهم سلسلة الكتل بشكل أفضل على أنها جزء لا يتجزَّأ من الآلة التي تصنع نقدًا إلكترونيًّا مبنيًّا على نظام نظير إلى نظير بتضخم يمكن التنبؤ به.

١  السؤال عمَّا إذا كان البيتكوين هو إهدار للكهرباء هو بحد ذاته سوء فهم لأساس الطبيعة غير الموضوعية للقيمة. يتم توليد الكهرباء حول العالم بكميات كبيرة لإرضاء احتياجات المستهلكين، أمَّا موضوع إهدار الكهرباء من عدمه فهو يقع على عاتق المستهلك الذي يدفع ثمن هذه الكهرباء. فالأفراد الذين ينوون أن يدفعوا ثمن عملية شبكة البيتكوين من أجل تحويلاهم هم أفراد يستثمرون استهلاكهم للكهرباء بشكل فعَّال؛ ممَّا يعني أن إنتاج الكهرباء يتم بما يرضي احتياجات المستهلك ولا يضيع سدًى. عمليًّا إن نظام إثبات العمل هو الطريقة الوحيدة التي اخترعها البشر لإنشاء نقد صعب رقمي. لذلك فإن الكهرباء لا يتم إهدارها إن رأى الناس أن ذلك يستحق الدفع من أجله.
٢  آدم فيرجوسن، مقالة عن تاريخ المجتمع المتحضِّر (لندن، T. Cadell, 1782).
٣  بعد الانتصاف الأول لعوائد العُملات في ٢٠١٢م، حاول بعض المُعدِّنين الاستمرار في تعدين كتل المعاملات بأرباح ٥٠ عملة، إلا أنه تمَّ إيقاف تلك المحاولات بشكل سريع بسبب رفض العُقد لتلك الكتل التي تمَّ تعدينها من قِبَل أولئك المُعدِّنين؛ ممَّا أجبرهم على الرجوع إلى جدول التضخم الأصلي.
٤  إن «نقطة شيلينج»: هي استراتيجية يستعملها الأفراد في غياب التواصل مع الآخرين؛ لأن هذه النقطة تظهر بشكل طبيعي، ولأنهم يتوقَّعون من الآخرين اختيار هذه الاستراتيجية. وبما أنه لا يوجد أي طريقة رسمية لتقييم كمية عُقَد البيتكوين الموجودة، فإن «نقطة شيلينج» لكل عقدة متعلِّقة بالالتزام بمجموعة القوانين المتفق عليها حاليًّا، مع تجنُّب الاتجاه نحو مجموعات القوانين الجديدة.
٥  فيزا، بإمكانكم إلقاء نظرة على: https://usa.visa.com/dam/VCOM/download/corporate/media/visa-fact-sheet-Jun2015.pdf.
٦  توني كونزير، «من داخل مركز بيانات فيزا»، معالجة الشبكة، متوفِّر على: http://www.networkcomputing.com/networking/inside-visas-data-center/1599285558.
٧  ستين، مارا ليموس، «تقرير الخطورة الصباحي: تمويل الإرهاب عن طريق البيتكوين قد يكون مبالغًا به» صحيفة وال ستريت، ٢٠١٧م.
٨  بدأ جي. دبليو. ويذرمان مشروعًا ذا مصدر مفتوح لتقييم التهديدات على شبكة البيتكوين، يمكن إيجاد المشروع على BTCthreats.com.
٩  تمَّ التواصل مع ناكاموتو مرتَين منذ ذلك الوقت؛ مرةً قام بها بإنكار هُويته التي كانت المهندس الأمريكي الياباني دوريان برينتيك ساتوشي ناكاموتو؛ حيث تمَّ التعرُّف على صاحب الاسم الحقيقي من قِبَل مجلة نيوزويك؛ حيث لم يكن الاسم ناكاموتو مبنيًّا إلا على صدفة أسماء ومعرفة في الحاسوب. أمَّا التواصل الآخر فهو من أجل طرح رأي عن الكيفية التي كانت تسير بها أمور توسعة البيتكوين. لم يكن من الواضح إن تمَّ نشر تلك المنشورات من قِبَل ناكاموتو نفسه أو من قِبَل شخص آخر اخترق حسابه. وخاصةً كما هو معروف بأن الإيميل الذي استخدمه كان مُخترَقًا.
١٠  لا يستطيع الكاتب أن يحدِّد دقة البريد الإلكتروني، لكن يمكننا أن نقول إن هذا البريد الإلكتروني قد تمَّ اقتباسه كثيرًا، إلى مرحلة أن المراجعة التكنولوجية في معهد ماستشوسس التقني قامت بنشر ورقة بحث طويلة عن أندرسن بعنوان «الرجل الذي بنى البيتكوين في الحقيقة»، بادعائهم أن أندرسن كان له دور أهم في تطوير البيتكوين من ناكاموتو.
١١  يعتمد هذا القسم بشكل كبير على مقالتي «تكنولوجيا سلسلة الكتل: ما فائدتها؟» المنشورة في مراجعة قوانين النقد والخدمات المصرفية، القضية الأولى، القسم ٣٣٫٣، ٢٠١٨م.
١٢  اقرأ مدوَّنة بيتر جيوجان التي توضِّح كيف استطاع تحقيق ذلك عن طريق حاسوبه الشخصي على: http://pgeoghegan.blogspot.com/2012/06/towards-14000-write-transactions-on-my.html.
١٣  ستان هيغينز: «تقول فيرمونت إن سجل سلسلة الكتل يجعل النظام مكلِّفًا جدًّا. موقع coinbase.com في ٢٠ يناير عام ٢٠١٦م.
١٤  س. روسوليلو: «ييلن يقول في البيتكوين: لا تملك الفيدرالية أي سلطة لإدارة البيتكوين بأي شكل من الأشكال»، صحيفة وول ستريت، فبراير ٢٧، ٢٠١٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤