الفصل الرابع

النقد الحكومي

شهدت الحرب العالمية الأولى نهاية عصر الوسائط النقدية بكونها خيارًا يتم تحديده بالأسواق الحرة، وبداية عصر النقد الحكومي. وبينما استمر الذهب في دعم وتعزيز النظام النقدي العالمي إلى يومنا هذا، إلا أن المراسيم والقرارات الحكومية جنبًا إلى جنب مع السياسة النقدية أصبحت تُشكِّل الواقع النقدي للعالم أكثر من أي جانب من جوانب الخيارات الفردية.

إن الاسم الشائع للنقد الحكومي هو النقود الورقية، وهو من الكلمة اللاتينية للمرسوم أو النظام أو التفويض. وبدايةً يتوجَّب فهم حقيقتَين هامتَين حول النقود الحكومية؛ الحقيقة الأولى: هناك اختلاف كبير جدًّا بين النقود الحكومية التي يمكن استبدالها بالذهب، وبين النقود الحكومية التي لا يمكن استبدالها حتى وإن كانت الحكومة تُدير كلًّا منهما. ففي ظل المعيار الذهبي، كان النقد هو الذهب، وتتحمل الحكومة مسئولية صك وحدات معيارية من المعدن أو طباعة الورق المدعوم بالذهب فقط، ولا تملك الحكومة أي سيطرة على عرض الذهب في الاقتصاد، بحيث يمكن للناس استبدال أوراقهم بالذهب المادي في أي وقت يرغبون، كما يمكنهم استخدام أشكال وصيغ أخرى من الذهب كالسبائك والقطع النقدية الأجنبية في تعاملهم مع بعضهم البعض. من جهة أخرى، ومع النقود الحكومية غير القابلة للاستبدال، فإنه يتم استخدام دَين الحكومة و/أو الأوراق الحكومية كنقود، ويمكن للحكومة زيادة عرضها بما تراه مناسبًا. وفي حال قام أي فرد باستخدام أشكال أخرى للتبادل، أو حاول صُنْع المزيد من النقود الحكومية، فسيواجه خطر تعرُّضه للعقاب والمُساءلة.

الحقيقة الثانية والتي غالبًا ما يتم تجاهلها، هي أنه خلافًا لما قد يوحي به الاسم فلم يبدأ تداول أي نوع من أنواع النقود الورقية عبر سَنِّ مراسيم الحكومة لوحدها؛ فقد كانت جميع النقود الورقية هذه بالمقام الأول قابلةً للتحويل إلى ذهب أو فضة أو إلى عملات كان بالإمكان تحويلها إلى ذهب أو فضة، ويمكن القول إنه فقط عَبْر قابلية تحويل هذه النقود الورقية إلى صيغ أخرى قابلة للبيع، اكتسبت هذه الأوراق النقدية الحكومية قابليتها للبيع. وقد تُصدر الحكومة مرسومًا يقضي بإجبار الناس على استخدام أوراقها لإجراء المدفوعات، ولكن لم تستطع أي حكومة حتى الآن فرض قابلية البيع هذه على أوراقها دون أن تكون هذه الأوراق قبل ذلك قابلةً للتحويل إلى الذهب والفضة. فحتى يومنا هذا، ما تزال جميع البنوك المركزية الحكومية تحتفظ باحتياطات؛ وذلك كي تدعم قيمة عملتها الوطنية، وغالبية الدول تحتفظ ببعض الذهب في احتياطاتها، وأما بالنسبة للدول التي لا تمتلك احتياطات من الذهب، فإنها تحافظ على احتياطاتها بصيغة النقود الورقية للبلدان الأخرى، والمدعومة بدورها باحتياطات الذهب. فلا توجد أي عملة ورقية يجري تبادلها حاليًّا دون أي شكل من أشكال الدعم لها. وخلافًا للعقيدة المركزية المغلوطة بشكل فاضح في نظرية إصدار وإدارة الدولة للنقد، لم تُصدر الحكومات مراسيم تقضي بجعل الذهب نقدًا، بل تمكَّنت هذه الحكومات من جعل نقودها مقبولةً فقط عبر عملية الاحتفاظ بالذهب.

وأقدم مثال مُسجَّل على النقود الورقية هو «جياوزي»، وهي عملة ورقية صادرة عن عائلة «سونغ» في الصين في القرن العاشر. في البداية، كانت جياوزي إيصالًا للذهب أو الفضة، ولكن بعد ذلك سيطرت الحكومة على إصدارها وعلَّقت قابلية تحويلها، ممَّا زاد من حجم العملة المطبوعة حتى انهارت. كما أصدرت عائلة «يوان» عملةً ورقية عام ١٢٦٠م سُمِّيت «تشاو»، وتجاوَز عرضها النقدي بشكل كبير الدعم المعدني لها، وبنتائج كارثية كما هو متوقع. وبانهيار قيمة النقود، أصبح الناس في فقر مدقع، حيث لجأ العديد من الفلاحين إلى بيع أطفالهم للعبودية.

إذن، فالنقود الحكومية في صيغتها تشبه الصيغ البدائية من النقد، والتي تمت مناقشتها في الفصل الثاني، كما تشبه أيضًا السلع الأخرى عدا الذهب بإمكانية زيادة عرضها بشكل سريع مقارنةً بمخزونها، ممَّا يؤدي إلى فقدان سريع لقابلية بيعها، وتدمير قوتها الشرائية وإفقار حامليها. ففي هذا الصدد، إنها تختلف عن الذهب الذي لا يمكن زيادة عرضه بسبب الخواص الكيميائية الأساسية لهذا المعدن والتي تم نقاشها سابقًا. لهذا، إن اشترطت الحكومة استخدام نقودها لدفع ضرائبها، فقد يضمن ذلك حياةً أطول لتلك النقود، لكن هذا الضمان مرهون بقدرة الحكومة على منع التوسع في العرض الجديد من هذه النقود؛ وذلك من أجل حماية قيمتها من التدهور السريع. وعند مقارنة العملات الوطنية المختلفة، سنجد أن العملات الوطنية الرئيسية المُستخدمة بشكل كبير وعلى نطاق واسع، هي تلك التي تكون زيادة عرضها السنوي أقل بالمقارنة مع العملات الثانوية الأقل قابليةً للبيع.

(١) القومية النقدية ونهاية العالم الحر

إن الكثير من أعداء النقد السليم والذين سمَّاهم «ميزس» في الاقتباس المشار إليه في نهاية الفصل السابق، قد حقَّقوا انتصارهم على المعيار الذهبي مع بداية حرب صغيرة في مركز أوروبا عام ١٩١٤م، والتي اتَّسعت بعد ذلك لتصبح الحرب العالمية الأولى في التاريخ البشري. ومن المؤكد أنه لم يتصور أحدهم مع بداية الحرب أنها ستدوم طويلًا مُنتجةً هذا العدد الهائل من الوفَيَات، ولكن هذا ما حدث بالفعل. فعلى سبيل المثال، بشَّرت الصحف البريطانية أن هذه الحرب هي بمثابة عطلة، مُتوقِّعةً بذلك أن تكون مجرد رحلة صيفية مبهجة لقواتها، وكان هناك توقُّع بأن ذلك سيكون صراعًا محدودًا، خصوصًا وأنه بعد عقود من السلام النسبي في جميع أنحاء أوروبا، نشأ جيل جديد فيها لا يُقدِّر العواقب المحتملة لإشعال فتيل الحروب. وحتى يومنا هذا فشل المؤرخون في تقديم تفسير استراتيجي أو جيوسياسي مقنع كيف أشعل صراع بين الإمبراطورية النمساوية–المجرية وبين الانفصاليين الصربيين فتيلَ حرب عالمية أودت بحياة الملايين، وأعادت تشكيل معظم حدود العالم بشكل جذري.

وبالنظر للماضي، يُمكن القول إن الاختلاف الرئيسي بين الحرب العالمية الأولى وبين الحروب المحدودة السابقة، لم يكن اختلافًا جيوسياسيًّا أو استراتيجيًّا، بل كان نقديًّا. فعندما كانت الحكومات تعمل تحت ظل المعيار الذهبي، كان لديها سيطرة مباشرة على خزائن كبيرة من الذهب، وكان مواطنوها يقومون بالتبادلات بوساطة الوصولات الورقية المدعومة بهذا الذهب. والسهولة التي يمكن فيها للحكومة إصدار المزيد من العملة الورقية كانت مغريةً للغاية، وخاصةً في أَوْج الصراع، وكانت بهذا أسهل بكثير من المطالبة بالضرائب من المواطنين. ففي غضون أسابيع قليلة من بدء الحرب، قام جميع المتحاربين الرئيسيين بتعليق قابلية تحويل الذهب؛ ممَّا أدى إلى تعطيل المعيار الذهبي فعليًّا، وإجبار السكان على الامتثال لمعايير النقود الورقية الحكومية، وبهذا كانت النقود التي استخدموها بعد ذلك هي الأوراق النقدية التي تُصدرها الحكومة، والتي لا يمكن تحويلها إلى ذهب.

ومع الاستبعاد البسيط لقابلية تحويل الذهب، لم تعد جهود الحكومة الحربية تقتصر على الأموال التي تمتلكها الحكومات في خزائنها فحسب، بل امتدت فعليًّا لثروة الشعب بأكمله. وما دامت الحكومات قادرةً على طباعة المزيد من النقود وإجبار مواطنيها والأجانب على قَبول تلك النقود، فإنه يمكنها الاستمرار في تمويل الحرب، بينما سابقًا وفي ظل نظام نقدي ساد فيه الذهب كعملة نقدية في متناول الناس، لم يكن أمام الحكومة إلا خزينتها الخاصة لتحمُّل تكاليف الحرب، إلى جانب الضرائب أو السندات لتمويل هذه الحرب، الأمر الذي جعل الصراعات محدودة، بل وأصبحت قابعةً في قلب فترة السلام الطويلة نسبيًّا، والتي شهدها العالم بأكمله قبل القرن العشرين.

لو بقيت الدول الأوروبية على المعيار الذهبي، أو لو احتفظت الشعوب الأوروبية بذهبها الخاص في يديها مُجبِرةً الحكومات على اللجوء إلى الضرائب بدلًا من التضخم، عندها لربما شهدنا تاريخًا مختلِفًا. فمن المرجَّح أنه كان من الممكن تسوية الحرب العالمية الأولى عسكريًّا في غضون بضعة أشهر من الصراع، خاصة حين بدأ تمويل إحدى الفصائل بالنفاد، وواجه هذا الفصيل صعوبات في سلب الثروة من السكان الذين لم يكونوا على استعداد للتخلِّي عن ثرواتهم للدفاع عن بقاء نظامهم، لكن مع تعليق المعيار الذهبي، فإن نفاد التمويل لم يعُد كافيًا لإنهاء الحرب، بل كان على الحاكم أن يسلب حصيلة ثروة شعبه المتراكمة من خلال التضخم.

إن البلدان الأوروبية التي خفَّضَت قيمة عُملتها سمحت بمواصلة النزيف الدموي لمدة أربع سنوات دون إيجاد حل أو تقدُّم. ولم تكُن الشعوب وحدها في غفلة عن حماقة وهَوْل تلك الحرب، بل الجنود المخاطرون بأرواحهم في الصفوف الأمامية كانوا كذلك أيضًا، فلقد كان هؤلاء الجنود يموتون دون سبب واضح سوى الغرور غير المحدود والطموح لأولئك الملوك الذين كانوا عادةً أقارب وأنسابًا، وأكبر تجسيد واضح للحماقة المطلَقة لهذه الحرب كان عشية عيد الميلاد عام ١٩١٤م، وذلك عندما توقَّف الجنود الفرنسيون والإنجليز والألمان عن متابعة أوامر القتال وألقوا بأسلحتهم، وعبَروا خطوط المعركة للاختلاط والتواصل مع بعضهم البعض؛ فالعديد من الجنود الألمان كانوا قد عملوا في إنجلترا، ولذلك كانوا قادرين على التحدُّث باللغة الإنجليزية، كما أن معظم الجنود كان لديهم وَلَع بكرة القدم، فتم تنظيم العديد من المباريات بين الفِرَق بطريقة ارتجالية.١ والحقيقة المُذهِلة التي كشفتها هذه الهدنة هي أن أولئك الجنود لم يكونوا أعداءً بأي شكل من الأشكال، ولم يكن لديهم ما يكسبونه من القتال بهذه الحرب، ولم يكن هناك سبب واضح لاستمرار تلك الحرب، لهذا يمكن لكرة القدم التي لعبوها أن تكون أفضل مَخْرج لهذه الدول المتنافسة فيما بينها؛ فهي لعبة شعبية عالَمية يمكن من خلالها ممارسة الانتماءات القَبَلية والوطنية بشكل سلمي.
لقد استمرت الحرب لأربعة أعوام أخرى دون أي تقدُّم ملحوظ، إلى أن تدخَّلت الولايات المتحدة عام ١٩١٧م، وغيَّرت موازين الحرب لصالح طرف على حساب الآخر؛ وذلك بجلب كمية كبيرة من الموارد بحيث لم يستطع أعداؤهم مجاراتهم فيها. وبينما كانت جميع الحكومات تُموِّل آلات الحرب الخاصة بها عبر التضخم، بدأت ألمانيا والإمبراطورية النمساوية-المجرية تشهد انخفاضًا كبيرًا في قيمة عملتها عام ١٩١٨م؛ ممَّا جعل هزيمتها أمرًا حتميًّا. وإذا قمنا بمقارنة أسعار صرف عملات الأطراف المتنازعة بالفرنك السويسري، الذي كان لا يزال على المعيار الذهبي في ذلك الوقت، فسيُوفِّر ذلك لنا مؤشرًا مفيدًا للانخفاض الذي مرَّت به كل عملة، كما هو ظاهر في الشكل ٤-١.٢
fig5
شكل ٤-١: أسعار الصرف الوطنية الرئيسية مقابل الفرنك السويسري خلال الحرب العال مية الأولى. مُعدَّل التبادل في يونيو ١٩١٤م = ١.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها، انخفضت القيمة الحقيقية لعملات كل القوى الأوروبية. وبالنسبة للقوى الخاسرة؛ ألمانيا والنمسا، انخفض متوسط قيمة عملاتها في نوفمبر ١٩١٨م إلى ٥١٪ و٣١٪ من قيمتها التي كانت في عام ١٩١٣م. وشهدت عملة إيطاليا انخفاضًا بلغ ٧٧٪ من قيمتها الأصلية، بينما انخفضت العملة الفرنسية إلى ٩١٪، وبريطانيا إلى ٩٣٪، والعملة الأمريكية إلى ٩٦٪ من قيمتها الأصلية فقط٣ (انظر الجدول ٤-١).٤
جدول ٤-١: انخفاض قيمة العملة الوطنية بالنسبة للفرنك السويسري خلال الحرب العالمية الأولى.
انخفاض العملات في الحرب العالمية الأولى الدولة
٪٣٫٤٤ الولايات المتحدة
٪٦٫٦٣ بريطانيا
٪٩٫٠٤ فرنسا
٪٢٢٫٣ إيطاليا
٪٤٨٫٩ ألمانيا
٪٦٨٫٩ أستراليا

إن التغيرات الجغرافية التي أحدثتها الحرب بالكاد استحقت هذه المذابح، حيث إنَّ معظم الدول اكتسبت أو خسرت أراضٍ هامشية، كما أنه لا يمكن لأي منتصر أن يَدَّعي أنه سيطر على أراضٍ كبيرة تستحق التضحية من أجلها؛ فتم تقسيم الإمبراطورية النمساوية-المجرية إلى دُويلات صغيرة، ولكنها بقيت تحت حكم شعبها وليس تحت حكم المنتصرين بالحرب، أمَّا التغيير الرئيسي ما بعد الحرب كان هو زوال العديد من الأنظمة الملكية الأوروبية واستبدالها بالأنظمة الجمهورية. والسؤال عما إذا كان هذا الانتقال للأفضل ستتضاءل قيمة إجابته عند مقارنتها بالدمار والخراب الذي ألحقته الحرب بمواطني هذه الدول.

ومع تعطيل استبدال الذهب من البنوك المركزية، ومع تعليق حركة الذهب دوليًّا والتي تم تقييدها بشكل كبير في اقتصاد الدول الرئيسية، تمكنت الحكومات من الاحتفاظ بقيمة زائفة للعملات التي ثبتت صلتها بالذهب بأسعار ما قبل الحرب، وذلك رغم ارتفاع الأسعار. ومع انتهاء الحرب، لم يعد النظام النقدي الدولي الذي اعتَمد المعيار الذهبي يعمل كما كان، وكان على جميع البلدان التي نفد منها الذهب مواجهة المعضلة الكبيرة فيما إن كان ينبغي عليها العودة إلى المعيار الذهبي، وإن كان الأمر كذلك، كيف تعيد تقييم عملاتها مقارنةً بالذهب؛ فالتقييم السوقي العادل لمخزونها الحالي من العملات بالنسبة إلى مخزونها من الذهب سيكون اعترافًا غير مرغوب به بسبب الانخفاض الذي جرى للعملة، وأمَّا خيار العودة إلى أسعار الصرف القديمة فإنه سيجعل المواطنين يطالبون بامتلاك الذهب بدلًا من الحصول على إيصالات ورقية واسعة الانتشار، وسيؤدي أيضًا إلى تهريب الذهب إلى خارج البلاد إلى مكانٍ يحظى فيه بقيمته المُنصِفة.

إن هذه المعضلة أخذت الأموال بعيدًا عن الأسواق وحوَّلتها إلى قرار اقتصادي خاضع لسيطرة سياسية؛ فبدلًا من اختيار المشاركين في السوق لأكثر سلعة قابلة للبيع كوسيط للتبادل، أصبحت الآن قيمة وعرض ومعدل فائدة النقد كلها خاضعةً للتخطيط المركزي من قِبَل الحكومات الوطنية، وهذا نظام نقدي أَطلق عليه «هايك» تسمية «القومية النقدية» في كتاب قصير رائع بنفس العنوان:

القومية النقدية هي العقيدة التي تنص على أن حصة الدولة العالمية من العرض النقدي لا ينبغي أن يتم تركها لتحدِّدها المبادئ والآلية ذاتها التي تُحدِّد المبالغ النسبية للنقود في أقاليمها أو مناطقها المختلفة. ونظام النقد العالمي الفعلي سيكون هو ذلك النظام الذي يمتلك فيه العالم كله عملةً متجانسة مثل تلك العملة التي حصلت عليها دول منفصلة، بحيث كان تدفُّق هذه العملة بين الأقاليم متروكًا ليتم تحديده وفقًا لنتائج أعمال جميع الأفراد.٥

لن يعود الذهب مرةً أخرى ليكون العملة المتجانسة في العالم، خصوصًا مع موقف البنك المركزي المحتكر والمقيِّد لملكية الذهب، والذي أجبر الناس على استخدام النقود الحكومية الوطنية. ولهذا، إن وصول البيتكوين كعملة تتخذ من الإنترنت موطنًا لها، وتتجاوز الحدود الوطنية، وتقع خارج نطاق السيطرة الحكومية، سيُوفِّر إمكانيةً مثيرة للاهتمام لظهور نظام نقدي دولي جديد، سيتم تحليله في الفصل التاسع.

(٢) عصر ما بين الحربَين

في حين أنه تحت ظل المعيار الذهبي الدولي كانت الأموال تتدفق بحرية بين الدول مقابل السلع، وكان سعر الصرف بين العملات المختلفة هو مجرد تحويل الأوزان المختلفة للذهب، إلا أنه في القومية النقدية، يتم تحديد العرض النقدي للدول وأسعار الصرف بينها في الاتفاقيات والاجتماعات الدولية. فعانت ألمانيا من التضخم المُفرط بعد أن فرضت عليها معاهدة «فِرساي» تعويضات كبيرة، وقد سعت إلى سدادها باستخدام التضخم. وواجهت بريطانيا مشاكل كبيرةً بتدفق الذهب من شواطئها إلى فرنسا والولايات المتحدة؛ وذلك لأنها حاولت الحفاظ على المعيار الذهبي ولكن بمعدل يبالغ بقيمة الجنيه الإسترليني ويَنتقص من قيمة الذهب.

وكانت معاهدة «جَنوى» أول معاهدة رئيسية في قرن القومية النقدية عام ١٩٢٢م، وبموجب شروط هذه المعاهدة، فإن الدولار الأمريكي والجنيه الإسترليني سيتم اعتبارهما عملات احتياطية مماثلة للذهب في مكانتهما بالنسبة لاحتياطات الدول الأخرى.

وبهذه الحركة، كانت بريطانيا تأمل تخفيف مشاكلها مع الجنيه الإسترليني المُبالَغ في قيمته وذلك من خلال دفع بلدان أخرى لشراء كميات كبيرة منه لوضعه في احتياطاتها. وأشارت القوى الكبرى في العالم إلى خروجها عن صلابة المعيار الذهبي باتجاه التضخمية كحلٍّ للمشاكل الاقتصادية، وتَمثَّل جنون هذا الترتيب في رغبة الحكومات بالقيام بالتضخم ولكن مع المحافظة على سعر مستقر لعملاتها من حيث مستويات الذهب ما قبل الحرب، ولقد تم أخذ الحيطة والحذر بالتقدير الآتي: إذا قام الجميع بخفض قيمة عملاتهم، فلن يكون هناك مكان لإخفاء رأس المال، لكن هذا لم ينجح ولم يكن لينجح، واستمر تدفُّق الذهب من بريطانيا إلى الولايات المتحدة وفرنسا.

ويُعدُّ استنزاف الذهب من بريطانيا قصةً غير معروفة لكنها ذات عواقب وخيمة. «لياكت أحاميد» وفي كتابه «ملوك الاقتصاد» يركِّز على هذه الواقعة، ويناقش ببراعة قضية الأفراد المتورِّطين والدراما التي حدثت آنذاك، ولكنه تبنَّى المفهوم «الكينزي» السائد للموضوع، ووضع لوم الواقعة بأكملها على المعيار الذهبي؛ فعلى الرغم من بحثه المكثَّف، إلا أن أحاميد أخفق في فهم أنَّ المشكلة لم تكن في المعيار الذهبي؛ حيث إن حكومات ما بعد الحرب العالمية الأولى أرادت العودة إلى المعيار الذهبي بمعدلات ما قبل الحرب. فلو أن تلك الحكومات اعترفت لشعوبها بحجم الانخفاض الذي تم لعملاتها لتمويل الحرب، ثم أعادت ربط عملاتها بالذهب بمعدلات جديدة، فإنه غالبًا كان سيحدث ركود اقتصادي، وبعد ذلك كان الاقتصاد سيتعافى على أساس نقدي سليم.

ونستطيع إيجاد أفضل علاج لهذه الواقعة وعواقبها المروِّعة في كتاب «موراي روثبارد» «الكساد الأمريكي العظيم»؛ فبينما كانت احتياطات الذهب في بريطانيا تغادر شواطئها إلى الأماكن التي كانت تحظى فيها بقيمة أفضل، كان رئيس مصرف إنجلترا «السير مونتاجو نورمان» يعتمد بشكل كبير على نظرائه الفرنسيين، والألمان والأمريكيين لزيادة العرض النقدي في دُولِهم؛ ليُقلِّلوا بذلك من قيمة عملاتهم الورقية على أمل أن يُوقِف ذلك تدفُّق الذهب من إنجلترا. وبينما لم يكن المصرفيون الفرنسيون والألمان متعاونين، كان رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك «بنجامين سترونغ» متعاونًا، وانخرط في السياسة النقدية التضخمية طوال فترة العشرينيات. ولربما نجح ذلك في خفض تدفُّق الذهب من بريطانيا إلى حد ما، ولكن أهم الآثار المترتبة على ذلك هو أنه خلق فقاعةً أكبر في الإسكان وسوق الأوراق المالية في الولايات المتحدة. وانتهت السياسة التضخمية للاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة بنهاية عام ١٩٢٨م، وفي ذلك الوقت كان الاقتصاد الأمريكي على شفا الانهيار الحتمي المرافِق لاستبعاد التضخمية؛ فما جرى بعد ذلك كان هو انهيار سوق الأوراق المالية عام ١٩٢٩م، وأدى رد فعل الحكومة الأمريكية على هذا الانهيار إلى تحويله إلى أطول فترة كساد في التاريخ الحديث المسجَّل.

والقصة الشائعة حول الكساد العظيم تفترض أن الرئيس «هوفر» اختار أن يبقى ساكنًا في مواجهة التباطؤ الاقتصادي بسبب الإيمان الخاطئ في قدرة الأسواق الحرة على تحقيق الانتعاش والتعافي، والتزم بالمعيار الذهبي، وفقط عندما تم استبداله من قبل «فرانكلين ديلانو روزفلت»، والذي انتقل إلى دور حكومي نَشِط، وقام باستبعاد المعيار الذهبي، تعافت الولايات المتحدة. بعبارة لطيفة، هذا هراء؛ فلم يزد هوفر من الإنفاق الحكومي على مشاريع العمل العام لمكافحة الكساد فحسب، بل اعتمد أيضًا على الاحتياطي الفيدرالي لتوسيع الائتمان، وركَّز سياسته على السعي الجنوني للحفاظ على بقاء الأجور مرتفعةً في مواجهة الانخفاض في معدلات هذه الأجور. علاوةً على ذلك، تم وضع ضوابط للأسعار وذلك لإبقاء أسعار المنتجات في مستويات عالية وخصوصًا الزراعية منها، وهذا أمر مشابه للحالة التي تسبق الكساد، وهو أمر طبيعي في هذه الحالة؛ فالولايات المتحدة وجميع الاقتصادات العالمية الرئيسية بدأت في تنفيذ سياسات التجارة الوقائية التي جعلت الأمور أسوأ بكثير على مستوى الاقتصاد العالمي.٦

يُعتبَر هذا الحدث حقيقةً غير معروفة، وقد تم مسحه بعناية من كتب التاريخ، وهو أنه في فترة الانتخابات العامة للولايات المتحدة عام ١٩٣٢م، أدار هوفر منصَّةً تَدَخُّلية كبيرة، بينما أدار فرانكلين ديلانو روزفلت منصَّةً للمسئولية المالية والنقدية. وفي الواقع، قام الأمريكيون بالتصويت ضد سياسات هوفر، ولكن عندما تولَّى روزفلت السلطة، وجد أنه من الأنسب السير مع المصالح التي ألهمت هوفر، ونتيجةً لذلك، تم تضخيم السياسات التدخلية لهوفر إلى ما أصبح يُعرف باسم الصفقة الجديدة. ومن المهم إدراك أنه لم يكن هناك شيء فريد أو مستجد فيما يخص الصفقة الجديدة، حيث إنه كان تضخيمًا وتكبيرًا للسياسات التدخلية الشديدة التي وضعها هوفر.

إن الفهم العابر والأولي للاقتصاد سيجعل الأمر واضحًا من أن وَضْع ضوابط للأسعار يؤدي دائمًا إلى نتائج عكسية، ينتج عنها وجود فائض وعجز، والمشاكل التي واجهها الاقتصاد الأمريكي في ثلاثينيات القرن العشرين كانت مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بتثبيت الأجور والأسعار؛ حيث إنه تم تثبيت الأجور بشكل مرتفع جدًّا؛ ممَّا أدى إلى معدل بطالة مرتفع جدًّا بلغ ٢٥٪ في بعض الأحيان، في حين أدت الضوابط المفروضة على الأسعار إلى خلق حالات فائض وعجز في سلع مختلفة، حتى إنه تم حرق بعض المنتجات الزراعية من أجل الحفاظ على أسعارها المرتفعة؛ ممَّا أدى إلى الوصول لحال كارثي، والذي كان فيه الناس جياعًا وفي حاجة ماسَّة للعمل، في حين لم يستطع المنتجون من توظيفهم لأنهم لم يستطيعوا تحمُّل تكلفة أجورهم، بينما كان على المنتجين الذين بإمكانهم إنتاج بعض المحاصيل أن يحرقوا جزءًا منها للمحافظة على ارتفاع السعر. وقد تم القيام بكل هذا للحفاظ على الأسعار عند مستويات الازدهار الذي حصل قبل ١٩٢٩م، مع التمسك بالوهم بأن الدولار لم يزل يحافظ على قيمته مقارنةً بالذهب. فتَضخُّم عشرينيات القرن العشرين تَسبَّب في ظهور فقاعاتِ أصولٍ كبيرة في أسواق الإسكان وأسواق الأوراق المالية، ممَّا أدى إلى ارتفاعٍ مُصطَنع في الأجور والأسعار. وبعد انفجار الفقاعة، اتجهت أسعار السوق لعمل تعديلاتٍ من خلال خفض قيمة الدولار مقارنةً بالذهب، ومن خلال انخفاض حقيقي للأجور والأسعار. وعِنادُ المخطِّطين المركزيين الواهمين الذين أرادوا منع الثلاثة من الحدوث، أدَّوا بذلك إلى شلل الاقتصاد؛ فقد كان هناك مبالغة في تقدير قيمة الدولار، والأجور والأسعار؛ ممَّا أدى بالناس إلى رغبتهم بالتخلي عن دولاراتهم لصالح الذهب، فضلًا عن وجود البطالة الهائلة وفشل الإنتاج.

بطبيعة الحال، لا شيء من هذا سيكون ممكنًا مع النقد السليم؛ حيث إنه وفقط من خلال تضخيم العرض النقدي يمكن حدوث مثل هذه المشاكل. وحتى بعد حدوث التضخم، فإن التأثيرات ستكون أقل ضررًا لو أنهم أعادوا تقييم الدولار بالنسبة للذهب بسعر يحدِّده السوق، ثم القيام بترك الأجور والأسعار لتتعدَّل بشكل حر. لكن بدلًا من تعلُّم هذا الدرس، صمَّم اقتصاديو الحكومة بتلك الحقبة على أن الخطأ لم يكن في التضخمية، بل بالأحرى كان في المعيار الذهبي الذي يحدُّ من تضخمية الحكومة. لذلك، ومن أجل إزالة هذه القيود الذهبية من على التضخم، أصدر الرئيس روزفلت أمرًا تنفيذيًّا يحظر فيه المِلكية الخاصة للذهب، مُجبرًا الأمريكيين على بيع ذهبهم إلى الخزانة الأمريكية بمعدل ٢٠٫٦٧ دولارًا للأونصة. ومع حرمان السكان من النقد السليم وإجبارهم على التعامل بالدولار، قام روزفلت بعد ذلك بإعادة تقييم الدولار في السوق الدولية من ٢٠٫٦٧ دولارًا للأونصة إلى ٣٥ دولارًا للأونصة، وهو انخفاض قدره ٤١٪ في الدولار بالقيمة الحقيقية (الذهب). فكان ذلك هو الواقع الحتمي لسنوات من التضخم والذي بدأ عام ١٩١٤م مع إنشاء الاحتياطي الفيدرالي، ومع تمويل دخول أمريكا للحرب العالمية الثانية.

إن التخلي عن النقد السليم واستبداله بالنقود الورقية التي أصدرتها الحكومة هو ما قام بتحويل الاقتصادات الرائدة في العالم إلى إخفاقات مُخطَّطة مركزيًّا ومُوجَّهة حكوميًّا. وبينما كانت الحكومات تسيطر على النقود، سيطرت أيضًا على معظم الأنشطة الاقتصادية، والسياسية، والثقافية والتعليمية؛ فبالرغم من عدم دراسة كينز الاقتصاد أو الاستقصاء عنه بشكل احترافي، تمكَّن كينز من الاستحواذ على روح هذه الحكومات المُطلَقة السلطة من أجل التوصل إلى المسار النهائي الذي يمنح الحكومات ما تريد سماعه. فلقد اختفت جميع أُسس المعرفة الاقتصادية المكتسبة على مدى قرون من العلوم الدراسية حول العالم، ليحل مكانها الإيمان الجديد مع الاستنتاجات الملائمة دائمًا والتي تناسب السياسيين ذوي التفضيل الزمني المرتفع والحكومات الاستبدادية؛ بحيث يتم تحديد حالة الاقتصاد بوساطة عامل الإنفاق الكلي، وأي ارتفاع في البطالة أو تباطؤ في الإنتاج، ليس له أي سبب ضمني في هيكل الإنتاج أو في تشوُّهات الأسواق بسبب المخطِّطين المركزيين، فسيكون ذلك كله بسبب نقص الإنفاق، والعلاج سيكون عن طريق إفساد العملة وزيادة الإنفاق الحكومي. ووفقًا لذلك فالادخار يقلِّل الإنفاق، ولأن الإنفاق هو كل ما يهم، يجب على الحكومة أن تفعل كل ما في وسعها لردع مواطنيها من الادِّخار. أضِف لهذا أن الاستيراد يؤدي إلى تسريح العمال من عملهم؛ ولهذا، يجب على الزيادات بالإنفاق أن تذهب إلى السلع المحلية. لقد حظيت هذه الرسالة بإعجاب الحكومة، وكان كينز على علم بذلك، وتمت ترجمة كتابه إلى الألمانية عام ١٩٣٧م في ذروة العصر «النازي»، وفي مقدمة الطبعة الألمانية كتب كينز:

إن نظرية الإنتاج الكلي وهي نقطة الكتاب التالي، يمكن تبنيها في كل الأحوال بسهولة أكثر في نظام شمولي من تبني نظرية الإنتاج وتوزيع هذا الإنتاج في ظروف المنافسة الحرة والاقتصادات الحرة.٧

وعند بدء الطوفان الكينزي الذي لا يزال العالم يتعافى منه، فقدت الجامعات استقلاليتها وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من الجهاز الحكومي الحاكم، وتوقفت علوم الاقتصاد الأكاديمية عن كونها نظامًا فكريًّا يركِّز على فهم الخيارات الإنسانية من أجل تحسين الظروف في حالات الشُّح والندرة، وعوضًا عن ذلك، أصبحت هذه الجامعات بمثابة ذراع للحكومة بحيث تهدف إلى توجيه صُنَّاع السياسة نحو أفضل السياسات لإدارة الأنشطة الاقتصادية. فالفكرة بأن إدارة الحكومات للاقتصاد هو أمر ضروري، أصبحت فكرةً ليست محل نقاش في جميع التعاليم الاقتصادية الحديثة، كما يمكن استخلاصه بالنظر إلى أي كتاب اقتصادي حديث، حيث تؤدي الحكومة الدور نفسه الذي يؤديه البطل الخارق في المجلات التصويرية والأفلام؛ فهو كلي الوجود، وكلي العلم، وهو القوة القاهرة التي تحتاج فقط تحديد المشاكل لمعالجتها على نحو مُرضٍ. لهذا، إن الحكومة ليست مشمولةً بمفهوم تكاليف الفرصة البديلة، ونادرًا ما يتم النظر في النتائج السلبية للتدخل الحكومي في النشاطات الاقتصادية، وحتى إن تم النظر فيها، فإن ذلك يحصل فقط لتبرير المزيد من التدخل الحكومي. لهذا، فقد تم تنحية التقاليد الليبرالية الكلاسيكية التي اعتبرت الحرية الاقتصادية أساسَ الازدهار الاقتصادي، في حين أن المروِّجين الحكوميين المتنكِّرين على هيئة الاقتصاديين قاموا بتقديم الكساد العظيم، والذي كانت القيود الحكومية سببَ تفاقمه، كدحض للأسواق الحرة. فكان الليبراليون الكلاسيكيون أعداءً مع الأنظمة السياسية في الثلاثينيات، وقد تم قتلهم ومطاردتهم من روسيا، وإيطاليا، وألمانيا والنمسا، ولحسن حظِّهم أنه تم اضطهادهم بشكل أكاديمي فقط في الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث كافح أولئك العمالقة في سبيل العثور على العمالة، في حين ملأ البيروقراطيون متوسطو الفهم والإحصائيون الفشلة أقسام الاقتصاد في جميع الجامعات بعلمهم الزائف وإيمانهم الوهمي.

إن المناهج الاقتصادية المعتمدة اليوم من الحكومة لا تزال تلوم المعيار الذهبي في موضوع الكساد العظيم. ذلك المعيار الذهبي نفسه الذي أَنتج أكثر من أربعة عقود من النمو والازدهار العالمي غير المنقطع بين ١٨٧٠ و١٩١٤م قد توقف فجأةً عن العمل في الثلاثينات؛ لأنه لم يسمح للحكومات بتوسيع عرضها النقدي لمكافحة الكساد الذي لم يتمكَّن هؤلاء الاقتصاديون من تفسير أسبابه إلا عبر إيحاءات كينزية ﻟ «أرواح الحيوانات» التي لا معنى لها. ولا يبدو أنَّ أيًّا من هؤلاء الاقتصاديين قد لاحظ أنه إذا كانت المشكلة هي بالمعيار الذهبي، فإن استبعاده كان من شأنه أن يتسبب ببداية التعافي والانتعاش. عوضًا عن ذلك، استغرق الأمر أكثر من عقد بعد استبعاده لاستئناف النمو. إن النتيجة الجليَّة لأي شخص لديه فهم أساسي للنقد والاقتصاد هي أن الانهيار العظيم عام ١٩٢٩م نتج بسبب الابتعاد عن المعيار الذهبي في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، وأن زيادة عمق الكساد كان سببه سيطرة الحكومة وإضفاء الطابع الاجتماعي على الاقتصاد في سنوات هوفر وروزفليت. ولم يكن لاستبعاد وتعليق المعيار الذهبي أو للإنفاق في زمن الحرب أي صلة بالتخفيف من حدة الكساد العظيم.

فلقد تحطَّمت سفينة التجارة العالمية على شواطئ النقود الورقية المتذبذبة سرعان خروج الاقتصادات الرئيسية في العالم عن المعيار الذهبي؛ حيث إنه في ظل عدم وجود قيمة معيارية تسمح بوجود آلية أسعار دولية، ومع تزايد الدوافع الاستبدادية والانعزالية للحكومات، ظهر التلاعب بالعملة كأداة من أدوات السياسة التجارية؛ فَسَعت الدول إلى خفض قيمة عملاتها من أجل منح ميزة لصادراتها، وبهذا تم تشييد المزيد من الحواجز التجارية، وأصبحت القومية الاقتصادية من أخلاقيات تلك الحقبة لكن بالطبع مع وجود عواقب وخيمة مُتوَقَّعة. وبهذا الأمر، أصبح لدى الدول التي ازدهرت سويةً قبل أربعين عامًا بممارسة العمل التجاري تحت ظل المعيار الذهبي العالمي الواحد، أصبح لديها حواجز نقدية وتجارية كبيرة فيما بينها، وقادة شعبويون صاخبون ألقَوا اللوم لجميع إخفاقاتهم على دول أخرى؛ ممَّا تسبَّب بموجة متصاعدة من القومية الحاقدة التي سرعان ما حقَّقت نبوءة «أوتو ماليري»: «إذا لم يتجاوز الجنود الحدود الدولية، يجب على السلع أن تتجاوزها، وإذا لم يتم إسقاط القيود عن التجارة، سيتم إسقاط القنابل من السماء.»٨

(٣) الحرب العالمية الثانية و«برايتون وودز»

بالفعل، لقد سقطت القنابل من السماء، وسقط معها عدد لا يُحصى من القتل والرعب الذي لا يمكن تصورهما. فآلات الحرب التي بَنتها الاقتصادات الموجَّهة من قِبل الحكومة كانت أكثر تقدُّمًا من أي وقت شَهِده العالم، وكان هذا بفضل شعبية أخطر وأسخف المغالطات الكينزية، والتي تعتقد أن الإنفاق الحكومي على الجهود العسكرية سوف يساعد على التعافي الاقتصادي، حيث إن الإنفاق بجميع أشكاله يتساوى في اقتصاديات الكينزيين الساذجة، ولذلك لا يهم إذا كان هذا الإنفاق يأتي من أفراد يُعيلون أُسرَهم أو من حكومات تقتل الأجانب؛ فكلها تصب في الطلب الكلي وكلها تُقلِّل من البطالة! ومع تزايد عدد الأشخاص الذين عانَوا من الجوع خلال فترة الكساد، قامت كل الحكومات الرئيسية بالإنفاق وبشكل سَخَي على تسليح نفسها، والنتيجة كانت هي العودة إلى الدمار الذي لا معنى له في العقود الثلاثة السابقة.

بالنسبة لخبراء الاقتصاد الكينزيين، كانت الحرب هي سبب الانتعاش الاقتصادي، وإذا نظرنا إلى الحياة من خلال عدسة الإحصائيات التي جمعها البيروقراطيون الحكوميون، فإن فكرةً سخيفة كهذه يمكن القَبول والتمسك بها. فمع ارتفاع درجة الإنفاق الحكومي والتجنيد الإجباري في الحرب، ارتفع الإنفاق الإجمالي، بينما تراجعت معدلات البطالة بشكل سريع؛ لذلك تعافت جميع الدول المشاركة في الحرب العالمية الثانية بسبب مشاركتها في هذه الحرب. يمكن لأي شخص غير مُبتلًى بداء الاقتصاد الكينزي إدراك أن الحياة خلال الحرب العالمية الثانية، لا يمكن وصفها بأي شكل من أشكال الخيال بأنها «انتعاش اقتصادي» حتى في الدول التي لم تشهد حربًا على أراضيها مثل الولايات المتحدة؛ فإضافةً إلى الموت والدمار، فإن عملية تكريس الكثير من رءوس الأموال وموارد اليد العاملة في الدول المتحاربة لصالح المجهود الحربي أدَّت إلى نقص حاد في الإنتاج داخل حدود الوطن، ممَّا أدى إلى تخصيص وتقنين الأسعار والتحكم فيها؛ ففي الولايات المتحدة، تم حظر بناء مساكن جديدة، وتم حظر إصلاح المساكن القائمة.٩ وبشكل أوضح، لا يمكن للمرء أن يَدَّعي أن الجنود الذين يقاتلون في الصفوف الأمامية في الحرب ويموتون، وهم يُشكِّلون نسبةً كبيرة من سكان الدول المتحاربة، هم جنود يستمتعون بأي شكل من أشكال الانتعاش الاقتصادي، بغض النظر عن مقدار الإنفاق الكلي الذي تم إنفاقه على صنع الأسلحة التي كانوا يحملونها.

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، جاءت إحدى أكثر الضربات المدمرة للنظريات الكينزية والتي تَدَّعي أن الطلب الكلي هو مُحدِّدٌ لحالة الاقتصاد، وقد كان هذا الأمر في الولايات المتحدة بالتحديد؛ حيث التقت مجموعة من العوامل و«تآمرت» لتُقلِّص من الإنفاق الحكومي بشكل كبير، الأمر الذي دفع بالاقتصاديين الكينزيين في تلك الحقبة إلى توقُّع الموت والظلام للفترة التي ستتبع الحرب؛ حيث إن نهاية الأعمال العسكرية قامت بتقليل الإنفاق العسكري الحكومي بشكل كبير، ثم إن موت «روزفلت» القوي والشعبوي، واستبداله بعد ذلك من قِبل الأكثر وداعةً والأقل رمزيةً «ترومان» لمواجهة الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون، قام بإنشاء جمود وأزمة سياسية حالت دون تجديد قوانين الصفقة الجديدة. وعند تحليل كل هذه العوامل مجتمعةً من قِبَل الاقتصاديين الكينزيين، فإنها تشير إلى كارثة وشيكة تمامًا كما طرح «بول سامويلسون»، الرجل الذي كتب الكتب الدراسية للتعليم الاقتصادي في فترة ما بعد الحرب عام ١٩٤٣م:

الاستنتاج النهائي الذي تم استخلاصه من تجربتنا في نهاية الحرب الأخيرة لا مفر منه؛ فإذا انتهت الحرب فجأةً في غضون الأشهر الستة المقبلة، وإذا قمنا بإنهاء مجهوداتنا الحربية بلا تخطيط مسبق وبتسرُّع كبير؛ وذلك عن طريق تسريح قواتنا المسلَّحة، وتصفية ضوابط الأسعار من أجل أن ننتقل من عجز فلكي إلى عجز أكبر في الثلاثينيات، عندئذٍ، سنشهد أكبر فترة من البطالة والتفكُّك الصناعي سيواجهها أي اقتصاد على الإطلاق.١٠

فنهاية الحرب العالمية الثانية وتفكيك الصفقة الجديدة كانت تعني أنَّ الحكومة الأمريكية قامت بخفض إنفاقها بنسبة مذهلة بلغت ٧٥٪ بين عامَي ١٩٤٤ و١٩٤٨م، كما أنها أزالت معظم ضوابط الأسعار كإجراء احتياطي. مع ذلك، شهد الاقتصاد الأمريكي ازدهارًا غير اعتيادي خلال هذه السنوات؛ حيث عاد ما يقارب اﻟ ١٠ مليون رجل إلى ديارهم بعد أن تم حشدهم للحرب، وتم استيعابهم بسلاسة في القوى العاملة، وازدهر الإنتاج الاقتصادي وحلَّق في وجه جميع التنبؤات الكينزية، وقام بسحق وتدمير الفكرة السخيفة بشكل كلي، تلك الفكرة التي تدَّعي أن مستوى الإنفاق هو ما يحدِّد الناتج في الاقتصاد. فحالما انحسر التخطيط المركزي الحكومي لأول مرة منذ انهيار عام ١٩٢٩م، وبمجرد أن تم السماح للأسعار بأن تتعدَّل بشكل حر، قامت هذه الأسعار بتأدية دورها كآلية تنسيق للنشاط الاقتصادي، وقامت بمطابقة البائعين والمشترين، وأدت إلى تحفيز إنتاج السلع المطلوبة من قِبل المستهلكين، وإلى تعويض العمال على جهودهم. لكن يجب الإضافة أنه مع ذلك، فلم يكن الوضع مثاليًّا؛ فبقاء العالم بعيدًا عن المعيار الذهبي أدى إلى اختلالات دائمة في العرض النقدي قد تستمر في مطاردة الاقتصاد العالمي اليوم بأزمة تِلو الأخرى.

التاريخ يكتبه المنتصرون هي حقيقة مُسلَّم بها، لكن وفي عصر النقود الحكومية، يَحِق للمنتصرين تقرير الأنظمة النقدية أيضًا، حيث قامت الولايات المتحدة باستدعاء ممثِّلي حلفائها إلى برايتون وودز في «نيو هامبشر» لمناقشة صياغة نظام تجاري عالمي جديد. ويمكن القول إن التاريخ لم يكن لطيفًا جدًّا مع مهندسي هذا النظام؛ حيث كان ممثِّل بريطانيا لهذا النظام بالطبع هو «جون ماينارد كينز»، والذي كان من المفترض أن يتم تدمير تعاليمه الاقتصادية على شواطئ الواقع في العقود التي أعقبت الحرب. كما تم الكشف لاحقًا بأن ممثِّل الولايات المتحدة، «هاري ديكستر وايت»، هو شيوعي كان على اتصال مع النظام السوفييتي لسنوات عديدة.١١ ففي المعركة على النظام النقدي العالمي المخطَّط مركزيًّا، كان من المفترض أن يخرج وايت منتصرًا بخطة تجعل كينز لا يبدو معتوهًا كليًّا؛ فالولايات المتحدة ستصبح مركز النظام النقدي العالمي، وستستخدم دولاراتها كعملة احتياطية عالمية من قِبَل البنوك المركزية، والتي ستكون عملاتها قابلةً للتحويل إلى الدولار بأسعار صرف ثابتة، بينما سيكون الدولار نفسه قابلًا للتحويل إلى الذهب بسعر صرف ثابت. ولتسهيل هذا النظام، ستأخذ الولايات المتحدة الذهبَ من البنوك المركزية في الدول الأخرى.
وفي حين كان ممنوعًا على الشعب الأمريكي امتلاك الذهب، وعدت الحكومة الأمريكية بتبديل الدولار بالذهب للبنوك المركزية في الدول الأخرى بسعر ثابت، مبتدئةً بما كان يُعرف باسم نافذة صرف الذهب. فمن الناحية النظرية، النظام النقدي العالمي كان لا يزال قائمًا على الذهب، وإذا قامت الحكومة الأمريكية بالمحافظة على قابلية التحويل إلى الذهب بعدم تضخيمها لعرض الدولار بما يتجاوز احتياطاتها من الذهب، وبنفس الوقت إذا لم تقم الدول الأخرى بتضخيم عرض نقودها بما يتجاوز احتياطاتها من الدولار، فالنظام النقدي بهذه الصورة كان سيقترب بشكل فعال من المعيار الذهبي في حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى. لم تلتزم الدول بهذا بالطبع، بل وفي الواقع، لم تكن أسعار الصرف ثابتةً على الإطلاق، وتم اتخاذ إجراءات تسمح للحكومات بتعديل هذه النِّسب المعالجة «الاختلال الأساسي».١٢

ولإدارة هذا النظام العالمي من أسعار الصرف المأمول ثباتها، ولمعالجة أي اختلال أساسي محتمل، أنشأ مؤتمر برايتون وودز صندوق النقد الدولي الذي عمل كهيئة تنسيق عالمية بين البنوك المركزية بهدفٍ واضح وهو تحقيق استقرار في أسعار الصرف والتدفقات المالية؛ أي إن برايتون وودز حاول بالأساس تحقيق ما حقَّقه المعيار الذهبي الدولي في القرن التاسع عشر بشكل تلقائي، ولكن هنا من خلال التخطيط المركزي، حيث إنه في ظل المعيار الذهبي الكلاسيكي، كانت الوحدة النقدية هي الذهب، وتَدفَّق رأس المال والسلع بحرية بين الدول، وتعدَّل تدفُّقهما بصورة تلقائية دون حاجة للتحكم المركزي أو التوجيه، ولم ينتج عن ذلك يومًا أزمات في ميزان المدفوعات؛ بحيث كان يتم نقل أي مبلغ من المال أو أي كمية من السلع عبر الحدود وفقًا لتوجيهات مالكيها، ولم تظهر مشاكل في الاقتصاد الكلي.

لكن في نظام برايتون وودز، كانت الحكومات تحت سيطرة الاقتصاديين الكينزيين الذين اعتبروا السياسة المالية والنقدية النشطة جزءًا طبيعيًّا ومهمًّا من سياسة الحكومة. وبشكل طبيعي ستؤدي الإدارة النقدية والمالية المستمرة إلى تذبذب قيمة العملات الوطنية، مُؤديةً إلى عدم توازن التجارة وتدفقات رأس المال؛ حيث إنه عندما تنخفض قيمة عملة دولة ما، تصبح منتجاتها أرخص بالنسبة إلى الأجانب، مما يؤدي إلى مغادرة المزيد من السلع من هذه الدولة، فيسعى حاملو هذه العملة إلى شراء عملات أجنبية لحماية أنفسهم من انخفاض قيمة عملتهم. وبما أن تخفيض قيمة العملة عادةً ما يكون مصحوبًا بأسعار فائدة منخفضة صُنعيًّا (زائفة)، فإن رأس المال سيسعى إلى مغادرة البلاد ليجد مكانًا مُجزيًا أكثر، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم انخفاض قيمة العملة.

من ناحية أخرى، فالدول التي حافظت على عملاتها بشكل أفضل من غيرها كانت تشهد تدفُّق رءوس الأموال إليها كلما قامت دول الجوار بالتخفيض، ممَّا أدى إلى ارتفاع قيمة عملتها أكثر. بمعنًى آخر، إن تخفيض قيمة العملة يزرع بذور المزيد من تخفيض قيمة العملة، في حين أن ارتفاع قيمة العملة يؤدي إلى ارتفاع أكثر للقيمة، الأمر الذي يخلق إشكاليةً ديناميكية للحكومَتَين المعنيَّتَين. ولا يمكن أن تتواجد مثل هذه المشاكل مع المعيار الذهبي؛ وذلك لأن قيمة العملة كانت ثابتةً في كلتا الدولتَين لأنها كانت ذهبية، كما أن حركة السلع ورءوس المال لم تقم بالتأثير على قيمة العملة.

فآليات التعديل التلقائية للمعيار الذهبي أَمَّنَت وبشكل دائم أداة قياس ثابتة يُمكن بوساطتها قياس كل النشاطات الاقتصادية، لكن وجود العملات ذات سعر الصرف العائم سبَّبت اختلالات في الاقتصاد العالمي، وكان دور صندوق النقد الدولي هو القيام بموازنة مستحيلة بين جميع حكومات العالم في محاولةٍ لإيجاد شكل ما من الاستقرار أو «التوازن» في هذه الفوضى، للحفاظ على أسعار الصرف ضمن نطاق تقديري من القيم المحدَّدة مسبقًا، بينما تدفُّق وحركة التجارة ورأس المال قاما بتغييرها؛ حيث إنه ومن دون وجود وحدة حسابية مستقرة للاقتصاد العالمي، كانت هذه مهمةً يائسة مثل محاولة بناء منزل بشريط قياس مرن يتباين طوله كلما يتم استخدامه.

وفضلًا عن إنشاء المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي في برايتون وودز، أرادت الولايات المتحدة وحلفاؤها إنشاء مؤسسة مالية دولية أخرى تتخصَّص في تنظيم السياسة التجارية. والمحاولة الأولية لإنشاء منظمة التجارة الدولية فشلت بعد أن رفض الكونجرس الأمريكي المصادقة على المعاهدة، ولكن بعد ذلك تم البحث عن بديل في الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارية والتي بدأت عام ١٩٤٨م، بحيث كان هدف الاتفاقية هو مساعدة صندوق النقد الدولي في المهمة المستحيلة لموازنة الميزانيات والتجارة لضمان الاستقرار المالي. بكلمات أخرى، القيام بالتخطيط المركزي للتجارة العالمية وللسياسة المالية والنقدية؛ وذلك من أجل الحفاظ على توازنها، وكأن هذا شيء يمكن تحقيقه.

إن أحد الجوانب المهمة والذي كان غالبًا يتم إغفاله في نظام برايتون وودز هو أن معظم الدول الأعضاء قامت بنقل كميات كبيرة من احتياطاتها من الذهب إلى الولايات المتحدة، واستلمت دولارات لقاءً له بمعدل ٣٥ دولارًا للأونصة الواحدة، وكان التبرير المنطقي لذلك هو أن الدولار الأمريكي سيصبح العملة العالمية للتجارة، وأن البنوك المركزية ستستخدمه للتداول ولتسوية حساباتها، مُتجنِّبين بذلك الحاجة إلى النقل المادي للذهب. فكان هذا النظام في جوهره أشبه بإدارة كامل الاقتصاد العالمي كدولة واحدة تعمل وفقًا للمعيار الذهبي؛ حيث أدى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي دور البنك المركزي العالمي، وأدَّت جميع البنوك المركزية العالمية دور المصارف الإقليمية، وكان الفارق الأساسي هو فقدان الانضباط النقدي للمعيار الذهبي بشكل كامل تقريبًا في هذا العالم؛ حيث لم يكن هناك ضوابط فعالة على توسيع العرض النقدي في جميع البنوك المركزية؛ لأنه لم يكن هناك إمكانية للمواطنين لاستبدال نقودهم الحكومية بالذهب، وكان بإمكان الحكومات وحدها استبدال دولاراتها بالذهب من الولايات المتحدة، لكن اتَّضح أن هذا الأمر أكثر تعقيدًا ممَّا كان متوقَّعًا؛ فقيمة كل أونصة ذهب تقاضت البنوكُ المركزية الأجنبية ٣٥ دولارًا لقاءها في ذلك الوقت، تبلغ اليوم حوالي ١٢٠٠ دولار.

فالتَّوسُّعية النقدية أصبحت هي النهج العالمي الجديد، وأثبتت الصلة الهشة للنظام بالذهب أنها عاجزة عن وَقْف إفساد العملات العالمية ووقف أزمات ميزان المدفوعات المستمرة والتي تؤثِّر على معظم الدول؛ فوُضعت الولايات المتحدة في موضع مميَّز مشابه للإمبراطورية الرومانية لنهب وتضخيم العرض النقدي الذي استخدمه معظم العالم القديم، مع اعتبار أن الموضع هنا أوسع نطاقًا وبشكل كبير، فبفضل انتشار عملتها في جميع أنحاء العالم، واضطرار البنوك المركزية للاحتفاظ بدولاراتها كاحتياطي للتداول بها فيما بينها، أمكن للحكومة الأمريكية جمع رسوم صك العملة بشكل كبير من توسيع عرض الدولار، كما لم يكن لديها سبب للقلق بشأن مواجهة أي عجز في ميزان المدفوعات؛ ولهذا، صاغ الاقتصادي الفرنسي «جاك روف» عبارة «عجز من غير دموع»، لوصف الواقع الاقتصادي الجديد الذي تعيشه الولايات المتحدة، حيث كان بإمكانها شراء كل ما رغبت به من العالم؛ وذلك من خلال تمويله عن طريق دَيْن يُحوَّل إلى نقد من خلال تضخيم العملة التي يستخدمها العالم بأسره.

إن القيود المالية النسبية في السنوات القليلة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية سرعان ما أفسحت المجال أمام الإغراء السياسي الذي لا يمكن مقاومته وسمحت له بشراء وجبات الغداء المجانية من خلال التضخم، وخاصةً للصناعة الحربية ونُظم الرفاه الاجتماعي، فنَمَت الصناعة العسكرية التي ازدهرت خلال الحرب العالمية الثانية إلى ما أطلق عليه الرئيس «إيزنهاور» «المُجمَّع الصناعي العسكري»، وهو تَكتُّل هائل من الصناعات التي كانت قويةً بما يكفي لطلب تمويل متزايد من الحكومة، ودَفْع السياسة الخارجية الأمريكية نحو سلسلة لا نهاية لها من النزاعات الباهظة الثمن، دون هدف نهائي عقلاني أو هدف واضح. وقد ادَّعت العقيدة الكينزية المتشدِّدة أن هذا الإنفاق سيكون نافعًا للاقتصاد، الأمر الذي جعل ملايين الأرواح التي تم تدميرها مستساغًا أكثر بالنسبة للناخبين الأمريكيين.

يمكن الإضافة أيضًا أن الشعب الأمريكي استساغ آلة الحرب هذه بشكل كبير؛ وذلك لأنها جاءت من نفس السياسيين الذين وسَّعوا نظام الرفاه الاجتماعي ليكون بأشكال وصيغ مختلفة. فابتداءً من مشروع المجتمع العظيم وانتهاءً بالإسكان، والتعليم والرعاية الصحية، سمحت النقود الورقية للناخبين الأمريكيين بتجاهل قوانين الاقتصاد، وبالاعتقاد أنه من الممكن توفير وجبة غداء مجانية، أو على الأقل توفير وجبة عليها حسم دائم. ففي غياب قابلية التحويل إلى الذهب وحضور القدرة على توزيع تكاليف التضخم على بقية العالم، تشكَّلت الصيغة السياسية الرابحة الوحيدة من زيادة الإنفاق الحكومي المُموَّل من التضخم، حيث شهدت كل فترة رئاسة بعد الحرب نموًّا في الإنفاق الحكومي والدَّين الوطني، وخسارةً في القوة الشرائية للدولار، حيث إنه وفي ظل النقود الورقية التي تُموِّل الحكومة، تختفي الاختلافات السياسية بين الأحزاب، بحيث إن السياسة لم تعد تحتوي على المقايضات، ويمكن بذلك لكل مرشح أن يناصر كل القضايا.

(٤) السجل التاريخي للنقد الحكومي

إن الرابط الضعيف للقدرة على تبديل الذهب كان تفصيلًا مزعجًا بالنسبة إلى السياسة التضخمية لحكومة الولايات المتحدة، وقد تَجلَّى ذلك في عَرَضَين؛ أولًا: سوق الذهب العالمي كان يسعى دائمًا إلى عكس واقع التضخم من خلال سعر أعلى للذهب، وقد تم تَناول ذلك عن طريق إنشاء مُجمَّع الذهب في لندن، والذي سعى إلى تخفيض سعر الذهب عن طريق طرح بعض احتياطاته التي تحتفظ بها الحكومات في السوق. ولقد نجح هذا بشكل مؤقت فقط، ولكن في عام ١٩٦٨م كان لا بُدَّ من إعادة تقييم قيمة الدولار الأمريكي مقارنةً بالذهب؛ وذلك للإقرار بسنوات التضخم التي عانى فيها. ثانيًا: إن بعض الدول بدأت بمحاولة استرداد احتياطي الذهب الخاص بها من الولايات المتحدة لأنها بدأت تُدرك القدرة الشرائية المتناقصة لنقودها الورقية، لدرجة أن الرئيس الفرنسي «شارل ديغول» أرسل حاملةً عسكرية فرنسية إلى نيويورك لاستعادة ذهب بلاده، لكن عندما حاول الألمان استرداد ذهبهم، اتخذت الولايات المتحدة قرارًا بعدم إرجاع الذهب؛ فاحتياطات الذهب كانت تتناقص، وفي ١٥ أغسطس ١٩٧١م، أعلن الرئيس «ريتشارد نيكسون» نهاية قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، الأمر الذي سمح لسعر الذهب بأن يعوم في السوق بشكل حر. نتيجةً لذلك، تخَلَّفت الولايات المتحدة عن الوفاء بالتزامها بتحويل دولاراتها للذهب، وأما أسعار الصرف الثابتة بين عملات العالم والتي تم تكليف صندوق النقد الدولي بالمحافظة عليها، فقد تُركت ليتم تحديدها من قِبَل حركة السلع ورءوس الأموال عبر الحدود، وفي أسواق الصرف الأجنبي التي تزداد تعقيدًا.

وبعد أن تحرَّرت الولايات المتحدة من آخر قيود التظاهر بِرَد الذهب، وسَّعَت الحكومة الأمريكية سياستها النقدية بنطاق غير مسبوق، مُسبِّبةً انخفاضًا كبيرًا في القوة الشرائية للدولار، وارتفاعًا شاملًا في الأسعار في جميع المجالات، ثم ألقت الحكومة الأمريكية واقتصاديوها اللَّوم على كل شيء وعلى كل فرد، باستثناء المنشأ الفعلي الوحيد لارتفاع الأسعار، وهو زيادة العرض النقدي للدولار الأمريكي. وكانت معظم العملات الأخرى أسوأ حالًا، حيث كانت هذه العملات ضحية تضخم الدولار الأمريكي الذي يدعمها، إضافةً إلى التضخم من قِبَل البنوك المركزية التي تُصدرها.

وخطوة الرئيس نيكسون أتمَّت هذه العملية التي بدأت مع الحرب العالمية الأولى؛ وذلك بتحويل الاقتصاد العالمي من معيار ذهبي عالمي إلى معيار يستند على عدة عملات تُصدرها الحكومات. فبالنسبة إلى عالَمٍ كان يزداد عولمةً جنبًا إلى جنب مع التقدم في مجال النقل والاتصالات، شكَّلَت أسعار الصرف المتقلِّبة بشكل حر ما وصفه «هوبه» بأنه «نظام من المقايضة الجزئية».١٣ فشراء الأشياء من الأفراد الذين يعيشون على الجانب الآخر من الخطوط الوهمية المرسومة في الرمال، أصبح يتطلَّب أكثر من وسيط تبادل واحد، وأعاد إثارة مشكلة الزمن القديم بِنُدرة تطابق الرغبات. وفي هذه المشكلة لا يرغب البائع بالعملة التي يمتلكها المشتري، وبهذا يتوجَّب على المشتري شراء عملة أخرى أولًا وتحمُّل تكاليف التحويل. وبينما يستمر التقدم في مجال النقل والاتصالات في زيادة التكامل الاقتصادي العالمي، إلا أن الارتفاع في تكلفة عدم الكفاءة الحاصلة يستمر بالازدياد؛ فوجود سوق الصرف الأجنبي الذي يبلغ حجمه خمسة تريليونات دولار من حجم التداول اليومي، نتج فقط بسبب غياب الكفاءة من عدم وجود عملة دولية واحدة متجانسة عالمية.

وفي حين تُنتج معظم الحكومات عملاتها الخاصة، أنتجت الحكومة الأمريكية العملة الاحتياطية الرئيسية التي استخدمتها الحكومات الأخرى لدعم عملتها، وكانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ البشرية التي يستخدم فيها الكوكب بأكمله النقد الحكومي. وبينما يتم اعتبار هذه الفكرة بأنها طبيعية وغير قابلة للشك في معظم الدوائر الأكاديمية، إلا أنه من الجدير بنا أن نتفحَّص سلامة هذا الشكل السائد من النقد.

فنظريًّا، يمكننا استحداث أصول نادرة صناعيًّا لإكسابها دورًا نقديًّا، وهذا ما فعلته حكومات هذا العالم بعد التخلي عن المعيار الذهبي كما فعل مؤسس البيتكوين أيضًا، ولكن كانت النتائج متناقضة. فبعد قطع الرابط بين النقود الورقية والذهب، كانت سرعة نمو العرض النقدي الورقي أكبر منه مقارنةً بالذهب، وكنتيجة لذلك، شهدت العملات انهيارًا في قيمتها مقارنةً بالذهب. حيث بلغ مجموع مقياس العرض النقدي M2 في الولايات عام ١٩٧١م حوالي ٦٠٠ مليار دولار، في حين أنه يتجاوز اليوم ١٢ تريليون دولار بمعدل نمو سنوي يبلغ ٦٫٧٪. بالمقابل، وفي عام ١٩٧١م، كان سعر أونصة واحدة من الذهب ٣٥ دولارًا، وتبلغ قيمتها اليوم أكثر من ١٢٠٠ دولار.
إن النظر إلى السجل التاريخي للنقود الحكومية سيرسم لنا صورةً مختلطة عن نسبة المخزون إلى التدفُّق للعملات المختلفة عبر الوقت؛ فالعملات المستقرة والقوية نسبيًّا في البلدان المتقدمة شهدت عادةً معدلات نمو في عرضها من أرقام فردية، ولكن بتباين كبير، ويشمل ذلك تقليص العرض أثناء فترات الركود.١٤ أما عملات البلدان النامية فقد شهدت في كثير من الأحيان معدلات نمو في عرضها أقرب إلى السلع الاستهلاكية، ممَّا أدى إلى تضخم كارثي ودمار ثروة المالكين. ويُقدِّم لنا المصرف الدولي بيانات عن نمو النقود بالمعنى الواسع في ١٦٧ بلدًا في الفترة بين عامَي ١٩٦٠ و٢٠١٥م. وبيانات المعدل السنوي لجميع الدول موضَّحة في الشكل رقم ٤-٢. وفي حين أن هذه البيانات ليست كاملةً لجميع البلدان وجميع السنوات، إلا أن متوسط نمو العرض النقدي هو ٣٢٫١٦٪ سنويًّا لكل بلد.
fig6
شكل ٤-٢: متوسط معدل النمو السنوي للنقد بالمعنى الواسع ﻟ ١٦٧ عملة، ١٩٦٠–٢٠١٥م.
إن الرقم ٣٢٫١٦٪ لا يتضمَّن العديد من سنوات التضخم المفرط والتي دُمِّرت خلالها العملة بالكامل واستُبدلت بعملة جديدة، وبهذا فإن نتائج هذا التحليل لا يمكن أن تُثبت لنا بشكل قاطع أيًّا من العملات كانت الأسوأ حالًا؛ وذلك لأن بعضًا من أهم البيانات لا يمكن مقارنتها؛ فبالنظر إلى البلدان التي حقَّقت أعلى متوسط زيادة في عرضها النقدي، سيظهر لنا قائمة البلدان التي شهدت عدة حوادث من العناء التضخمي، وحظيت بتغطية إعلامية واسعة خلال الفترة المشمولة. ويبيِّن الجدول رقم ٤-٢١٥ البلدان العشرة التي لديها أعلى زيادة بالمعدل السنوي في العرض النقدي.
جدول ٤-٢: البلدان العشرة ذات أعلى معدل سنوي للنقد بالمعنى الواسع، ١٩٦٠–٢٠١٥م.
المعدل البلد
٤٨٠٫٢٤ نيكاراغوا
٤١٠٫٩٢ جمهورية الكونغو الديمقراطية
٢٩٣٫٧٩ أنغولا
٢٦٦٫٥٧ البرازيل
١٩٨٫٠٠ البيرو
١٨٤٫٢٨ بوليفيا
١٤٨٫١٧ الأرجنتين
١٣٣٫٨٤ أوكرانيا
١٠٩٫٢٥ أذربيجان
١٠٠٫٦٧ أرمينيا
وخلال فترات التضخم المفرط، يقوم الناس في البلدان النامية ببيع عملتهم الوطنية ويشترون سلعًا متينة وأساسية، وذهبًا، وعملات أجنبية. والعملات الاحتياطية الدولية مثل الدولار، واليورو، والين، والفرنك السويسري هي عملات متوافرة في معظم أنحاء العالم، وحتى في الأسواق السوداء، وتُلبِّي جزءًا كبيرًا من الطلب العالمي على مخازن القيمة. يصبح السبب في ذلك واضحًا عندما يدرس المرء معدل نمو عرضها النقدي، والذي كان منخفضًا نسبيًّا عبر الزمن. ونظرًا إلى أنها تُشكِّل الخيارات الرئيسية المتاحة لمعظم الناس في جميع أنحاء العالم كمخازن للقيمة، يَجدر بنا تفحُّص معدلات نمو عرضها بشكل منفصل عن العملات الأقل استقرارًا. فيحتوي الجدول ٤-٣ قائمةً بأكبر عشر عملات في أسواق الصرف الأجنبية، إلى جانب الزيادة السنوية في العرض النقدي بمعناه الواسع في الفترات بين ١٩٦٠–٢٠١٥ و١٩٩٠–٢٠١٥م. ومتوسط معدل العملات العشر الأكثر سيولةً دوليًّا هو ١١٫١٣٪ في الفترة الممتدة بين عامَي ١٩٦٠ و٢٠١٥م، و٧٫٧٩٪ فقط في الفترة بين ١٩٩٠ و٢٠١٥م. ويُظهر هذا أن العملات الأكثر قَبولًا في العالم، والتي تتمتَّع بأعلى قابلية للبيع على مستوى العالم، هي تلك العملات التي لديها نسبة مخزون إلى تدفق أعلى من العملات الأخرى، كما يتوقَّع تحليل هذا الكتاب. وفترة السبعينيات والثمانينيات التي احتوت على بداية عصر العملات الوطنية العائمة كانت فترةً شهدت فيها معظم البلدان تضخُّمًا شديدًا، لكن تحسَّنت الأمور بعد عام ١٩٩٠م، وانخفض متوسط معدلات نمو العرض. وتُظهر بيانات OECD أنه بالنسبة لدول OECD بلغ معدل نمو العرض النقدي السنوي بمعناه الواسع ٧٫١٧٪ خلال الفترة ما بين ١٩٩٠ و٢٠١٥م.
جدول ٤-٣: النسبة المئوية لمعدل الزيادة السنوية في عرض النقد بمعناه الواسع لأكبر عشر عملات عالمية.
١٩٩٠–٢٠١٥م ١٩٦٠–٢٠١٥م البلد/المنطقة
٥٫٤٥ ٧٫٤٢ الولايات المتحدة
٥٫٥٥ منطقة اليورو (١٩ دولة)
١٫٩١ ١٠٫٢٧ اليابان
٧٫٢٨ ١١٫٣٠ بريطانيا
٩٫١١ ١٠٫٦٧ أستراليا
١٠٫٤١ ١١٫٩٢ كندا
٤٫٨٨ ٦٫٥٠ سويسرا
٢٠٫٥٦ ٢١٫٨٢ الصين
٦ ٧٫٩٤ السويد
٦٫٧٨ ١٢٫٣٠ نيوزيلاندا
يمكننا ملاحظة أن العملات الوطنية الرئيسية في العالم ينمو عرضها بشكل عام بمعدلات منخفضة متوقَّعة؛ ولهذا شهدت الاقتصادات المتقدمة ازديادًا بطيئًا في عرض عملاتها مقارنةً بالاقتصادات النامية، والتي شهدت ارتفاعًا أسرع في الأسعار والعديد من حالات التضخم المفرط في التاريخ الحديث؛ فمعدلات نمو النقد بمعناه الواسع في الاقتصادات المتطورة كانت تتراوح ما بين ٢٪ و٨٪، بمتوسط ٥٪ تقريبًا، ونادرًا ما تصل إلى أرقام مزدوجة أو تنخفض إلى مناطق سلبية. أما معدلات النمو في البلدان النامية فكانت أكثر تذبذبًا؛ حيث إنها كانت تتأرجح في خانة الأرقام المزدوجة، والأرقام الثلاثية الخانة أحيانًا، وحتى الأرقام الرباعية أحيانًا، بينما تنخفض في بعض الأحيان إلى المناطق السلبية، لتعكس عدم الاستقرار المالي الكبير في هذه البلدان والعملات (انظر الشكل ٤-٣).١٦
fig7
شكل ٤-٣: معدل نمو النقد بمعناه الواسع في اليابان، بريطانيا، الولايات المتحدة ومنطقة اليورو.

فالنمو بنسبة ٥٪ في السنة قد لا يبدو كبيرًا، لكنه سيُضاعف العرض النقدي لأي بلد خلال ١٥ عامًا فقط، وهذا الأمر كان هو السبب في خسارة الفضة للسباق النقدي مقابل الذهب، والذي أدَّى معدل نمو عرضه المنخفض إلى انخفاض وتآكل قوته الشرائية بشكل أبطأ بكثير.

فالتضخم المفرط هو شكل من أشكال الكوارث الاقتصادية الفريدة بالنقد الحكومي، فلم يكن هناك أبدًا مثال على التضخم المفرط في الاقتصادات التي استخدمت المعيار الذهبي أو الفضي. وحتى عندما فقد النقد الصُّنعي الشكل كالأصداف والخرز الزجاجي دوره النقدي مع الزمن، فإنه كان يفقده عادةً بشكل بطيء؛ حيث كانت بدائل هذا النقد تستولي على القوة الشرائية للنقد السابق بشكل تدريجي. لكن مع النقود الحكومية التي تميل تكلفة إنتاجها إلى الصفر، أصبح من الممكن وبشكل كبير أن يشهد مجتمع بكامله اختفاء كامل مدخراته الموجودة على شكل هذا النقد في غضون أشهر أو حتى أسابيع.

فالتضخم المفرط هو أكثر من مجرد ظاهرة تُسبِّب ضررًا وخسارة الكثير من القيمة الاقتصادية للعديد من الناس؛ بل إنه يشكِّل انهيارًا تامًّا لبنية الإنتاج الاقتصادي لمجتمع تمَّ بناؤه على مدى قرون وآلاف السنين. فعند انهيار النقد، يُصبح من المستحيل التداول أو الإنتاج أو الانخراط في أي شيء عدا تأمين أساسيات الحياة الضرورية. وعند انهيار هياكل الإنتاج والتجارة التي طوَّرتها المجتمعات عبر قرون بسبب عدم قدرة المستهلكين والمنتجين والعاملين على الدفع لبعضهم البعض، تبدأ السلع التي تُعتبَر من المُسلَّمات بالنسبة إلى البشر بالاختفاء، فيُدمَّر رأسُ المال ويُباع لتمويل الاستهلاك. بالبداية، تختفي السلع الكمالية، ولكن سرعان ما تتبعها أساسيات البقاء حتى يعود البشر إلى حالة بربرية يحتاجون فيها إلى تدبُّر أمورهم والنضال لتأمين الاحتياجات الأساسية للبقاء. عندها ومع تدهور نوعية حياة الفرد بصورة ملحوظة، يبدأ اليأس بالتحوُّل إلى غضب، ويُبحث عن أكباش فداء، ويَستغل هذا الوضع أكثر السياسيين مراوغةً وانتهازًا، مُؤجِّجين غضبَ الناس للوصول إلى السلطة. إن المثال الأكثر وضوحًا على هذا هو تضخُّم جمهورية «فايمار» في العشرينيات؛ حيث إن التضخم المفرط لم يُؤدِّ فقط إلى تدمير وانهيار أحد أكثر اقتصادات العالم تقدُّمًا وازدهارًا فحسب، بل عَزَّز وصول «أدولف هتلر» إلى السلطة.

لهذا، حتى وإن كانت الكتب المرجعية صادقةً بخصوص فوائد الإدارة الحكومية للعرض النقدي، إلا أن الضرر الناجم عن حادثة واحدة من التضخم المُفرط في أي مكان في العالم يفوق هذه الفوائد بشكل كبير، وفي هذا القرن الذي تمَّ فيه استخدام النقود الحكومية، يوجد لدينا أكثر من مجرد حادثة فاجعة واحدة.

وبالتزامن مع كتابة هذه السطور، حان دور فنزويلا لتمر بهذه المهزلة وتشهد وَيلات الدمار الناتجة عن تدمير النقد، ويجدر بنا الإشارة أن هذه العملية حدثت ٥٦ مرةً منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. ووفقًا لبحث «ستيف هانكي» و«تشارلز بوشنل» اللذان يُعرِّفان التضخم المفرط بأنه زيادة بنسبة ٥٠٪ في مستوى السعر خلال فترة شهر، تمكَّن هانكي وبوشنيل من التحقق من ٥٧ حادثةً من التضخم المفرط في التاريخ،١٧ وقعت حادثة واحدة منها فقط قبل عصر القومية النقدية، وكان ذلك التضخم في فرنسا عام ١٧٩٥م، على أعقاب فقاعة «المسيسيبي»، والتي نتجت أيضًا من خلال النقود الحكومية، وصَمَّمَها الأب الفخري للنقود الحكومية الحديثة، «جون لو».
فمشكلة النقد الذي تؤمِّنه الحكومة هي أن صعوبته تعتمد بشكل كلي على قدرة أولئك المسئولين عنه بعدم تضخيم عرضه؛ وذلك لأن القيود السياسية وحدها هي التي توفِّر هذه الصعوبة حاليًّا، ولا توجد أي قيود مادية، أو اقتصادية أو طبيعية على حجم النقود التي يمكن أن تُنتجها الحكومة. فبينما تتطلَّب كلٌّ من الماشية، والفضة، والذهب والأصداف البحرية؛ جهدًا حقيقيًّا لإنتاجها، بجانب أنه لا يمكن أبدًا إنتاجها بكميات كبيرة بسرعة وسهولة، إلا أن النقد الحكومي يحتاج أمرًا من الحكومة فقط. وزيادة العرض المستمرة تؤدي إلى انخفاض مستمر لقيمة العملة، فيتم بذلك مصادرة ثروات المالكين لصالح أولئك الذين يطبعون العملة، ولصالح أولئك الذين يحصلون عليها باكرًا.١٨ ولقد أظهر التاريخ أن الحكومات ستستسلم حتمًا لإغراء تضخيم العرض النقدي، سواء أكان ذلك بسبب السرقة أو بسبب «الطوارئ الوطنية» أو غزو المدارس الاقتصادية التضخمية للعقول، فستجد الحكومةُ دائمًا أسبابًا وطُرقًا لطباعة المزيد من النقود، مُوسِّعة سُلطتها ومُقلِّصَةً ثروة مالكي العملة. إن هذا الأمر لا يختلف عن منتجي النحاس الذين يستخرجون المزيد منه استجابةً للطلب النقدي عليه؛ فهو يكافئ منتجي السلعة النقدية، لكنه يعاقب أولئك الذين يختارون حفظ مُدَّخراتهم بالنحاس.
لهذا، إذا أثبتت عملة ما وبشكل موثوق أنه من غير الممكن توسيع عرضها، فستزداد قيمتها كثيرًا وبشكل فوري؛ ففي عام ٢٠٠٣م، عندما غزت الولايات المتحدة العراق، دمَّرَ القصف الجوي البنك المركزي العراقي، ودمرَ معه قدرة الحكومة العراقية على طباعة دنانير عراقية جديدة؛ فأدَّى ذلك إلى ارتفاع قيمة الدينار بشكل كبير خلال ليلة وضحاها؛ حيث أصبح العراقيون أكثر ثقةً في العملة نظرًا لعدم قدرة أي بنك مركزي على طباعتها بعد الآن.١٩ لقد حدثت قصة مشابهة للشِّلنات الصومالية بعد تدمير بنكها المركزي.٢٠ لهذا، لا يُرغب بالنقد عندما يكون عرضةً لأن تُخفَّض قيمته بقدر ما يُرغب فيه، عندما يكون نادرًا.

وإليكم بعضًا من الأسباب التي قد تجعل النقد الحكومي هو النقد الأساسي في عصرنا. أولًا، تفرض الحكومات دفع الضرائب بالنقد الحكومي، وهذا يعني ترجيح قَبوله من الأفراد، ممَّا يعطيه ميزةً في قابلية بيعه. ثانيًا، إن رقابة الحكومة وتحكُّمها بالنظام المصرفي تعني أنه لا يمكن للمصارف فتح الحسابات والقيام بالتبادلات إلا بالنقد الذي تُقرُّه الحكومة؛ ممَّا يمنح النقد الحكومي درجةً أعلى من قابلية البيع أكثر من أي منافس محتمَل آخر. ثالثًا، قوانين العُملة الرسمية في العديد من البلدان تجعل الأمر غير قانوني باستخدام أشكال أخرى من النقد للقيام بالمدفوعات. رابعًا، لا تزال جميع النقود الحكومية مدعومةً باحتياطات الذهب، أو مدعومةً بعملات مدعومة بالاحتياطات الذهبية. فوفقًا للبيانات الصادرة عن مجمع الذهب العالمي، تمتلك البنوك المركزية حاليًّا حوالي ٣٣ ألف طن من الذهب في مخزونها الاحتياطي؛ حيث إن احتياطات الذهب لدى البنوك المركزية ارتفعت بشكل سريع في أوائل القرن العشرين، حيث صادرت العديد من الحكومات ذهبَ شعبها ومصارفها وأجبرتهم على استخدام نقودها. وفي أواخر الستينيات، ومع إنهاك نظام برايتون وودز الذي يرزح تحت ضغط زيادة العرض النقدي، بدأت الحكومات في إفراغ بعضٍ من احتياطاتها من الذهب. لكن في عام ٢٠٠٨م، انعكس هذا الاتجاه، وعادت البنوك المركزية لشراء الذهب، وازداد العرض العالمي. إنه لأمر مثير للسخرية والدهشة أنه في عصر النقود الحكومية، تمتلك الحكومات نفسُها كَميةً من الذهب في احتياطاتها الرسمية أكثر ممَّا كانت تمتلكه تحت ظل المعيار الذهبي الدولي في الفترة ما بين ١٨٧١–١٩١٤م. فمن الواضح أن الذهب لم يفقد دوره النقدي؛ حيث إنه سيبقى المَطفأة الأخيرة والوحيدة للدَّين، وهو النقد الوحيد الذي لا تقع قيمته تحت مسئولية أحد، وهو الأصل العالمي الأساسي الذي لا يوجد به مخاطر تَخلُّف الطرف المقابل، لكن تمَّ حظر الوصول إلى دَوره النقدي، بحيث اقتصر ذلك على البنوك المركزية، بينما تمَّ توجيه الناس لاستخدام النقود الحكومية.

ويمكن استخدام احتياطات البنوك المركزية الكبيرة من الذهب كعرض طارئ للبيع أو التأجير في سوق الذهب؛ وذلك لمنع ارتفاع سعر الذهب خلال الفترات التي يزداد فيها الطلب عليه؛ وذلك لحماية الدور الاحتكاري للنقود الحكومية، وكما شرح آلان غرينسبان ذات مرة: «البنوك المركزية على أُهبة الاستعداد لتأجير الذهب بكميات متزايدة في حال ارتفع السعر»٢١ (انظر الشكل ٣-٤).٢٢

ومع تقدُّم التكنولوجيا التي سمحت بوجود أشكال مُتعدِّدة من النقد أكثر تعقيدًا من ضمنها النقود الورقية التي يسهل حملها، تمَّ اختلاق مشكلة جديدة بخصوص قابلية بيعها، وهي قُدرة البائع على بيع سلعته دون تدخُّل أي طرف ثالث قد يضع قيودًا على قابلية بيع هذا النقد. فهذه مشكلة لم تكن متواجدةً في النقود السلعية، التي تنشأ قيمتها السوقية من السوق ولا يمكن أن تفرضها أطراف ثالثة على المبادلة؛ فالماشية، والملح، والذهب والفضة؛ لكل منها أسواقها ومشتروها الجاهزون، ولكن مع النقود التي تُصدرها الحكومة والتي لديها قيمة متدنية كسلعة، يمكن لقابلية البيع هذه أن تتعرَّض لخطر كبير من قِبل الحكومة التي تُصدرها، معلِنةً أنها لم تعد مناسبةً كعملة قانونية. فعلى سبيل المثال، يمكن للهنود الذين استيقظوا في ٨ نوفمبر ٢٠١٦م أن يسمعوا خبرًا مفاده أن حكومتهم قد استبعدت العملة الرسمية من فئة ٥٠٠ و١٠٠٠ روبية، وسيدركون هذا الأمر جيدًا. ففي طرفة عين، خسرت النقودُ التي كانت قابلةً للبيع بشكل كبير قيمَتها، وأصبح لا بد من الوقوف في طوابير طويلة للغاية لدى المصارف لاستبدالها. ومع توجُّه نسبة كبيرة من العالم نحو تقليل اعتمادها على النقد الورقي، يتم وضع المزيد من أموال الناس في المصارف الخاضعة لإشراف الحكومة، ممَّا يجعلها عُرضةً للمصادَرة أو التحكُّم برأس المال. وحقيقة أن هذه الإجراءات تحدث عادةً في أوقات الأزمات الاقتصادية، وعندما يكون الفرد في أقصى حاجته للمال، هي عائق رئيسي لقابلية بيع النقود الصادرة من الحكومة.

فسيطرة الحكومة على النقد حوَّلته من كونه مكافأةً لإنتاج قيمة إلى مكافأة لطاعة المسئولين الحكوميين. فمن غير العملي لأي شخص أن يجمع ثروةً بالنقود الحكومية دون موافقة هذه الحكومة؛ لأنه بإمكان الحكومة مصادرة هذه الأموال من المصارف الاحتكارية التي تسيطر عليها، وذلك عبر تضخيم العُملة لتخفيض قيمة ثروة المالكين، ولمكافأة رعاياها الأكثر ولاءً، ولفرض ضرائب قاسية، ولمعاقبة أولئك الذين يتجنَّبونها، وحتى لمصادرة الأوراق النقدية.

ففي زمن عالِم الاقتصاد النمساوي «مينجر»، كانت المعايير التي تُحدِّد أفضل شكل للنقد تدور حول فهم قابلية بيعه، وعلى ما يختاره السوق كنقد. أما في القرن العشرين، فقد قامت سيطرة الحكومة على النقد بإضافة معيارٍ مهمٍّ جديد يُضاف إلى قابلية بيعه، وهو قابلية بيع النقد بِناءً على رغبة مالكيه وليس أي طرف آخر. وبِجمع هذَين المعيارَين سويًّا، فإنه سيتم تشكيل فهمٍ كامل لمصطلح «النقد السليم» كالنقد الذي يتم اختياره بالسوق بحريَّة، وكالنقد الذي يقع بشكل كامل تحت سيطرة الشخص الذي اكتسبه بشكل قانوني في السوق الحرة، وليس أي طرف آخر ثالث.

وعلى الرغم من أن «لودفيج فون ميزس» كان مدافعًا صلبًا عن دور الذهب كنقد في عصره، إلا أن ميزس أدرك أن هذا الدور النقدي ليس شيئًا متأصِّلًا أو جوهريًّا للذهب. فباعتباره واحدًا من عمداء التقاليد النمساوية في الاقتصاد، أدرك ميزس جيدًا أنه لا وجود للقيمة خارج الوعي البشري، وأن المعادن والمواد لا تملك أي شيء متأصل فيها يمكنه أن يعطيها دورًا نقديًّا. فبالنسبة إلى ميزس، إن مكانة الذهب النقدية كانت تعتمد على تحقيق المعايير الخاصة بالنقد السليم كما فهمها:

مبدأ النقد السليم له جانبان؛ جانب إيجابي في المصادقة على اختيار السوق لوسيط تبادل شائع الاستخدام، وجانب سلبي في عرقلة نزعة الحكومة بالتدخُّل في نظام العملات.٢٣

فوفقًا لميزس، النقد السليم هو ما يختاره السوق بحرية ليكون نقدًا، وهو ما يبقى تحت سيطرة مالكه، وفي مأمن عن التدخل القسري. فطالما أن النقد يقع تحت سيطرة أي أحد باستثناء المالك، أيًّا كان مَن يسيطر عليه، فإنه سيواجه حافزًا قويًّا للغاية لسرقة قيمة هذا النقد من خلال التضخم أو المصادرة، ولاستخدامه أيضًا كأداة لتحقيق أهداف سياسية على حساب المالكين. وفي الواقع، هذا الأمر سيسلب الثروة من الناس الذين يُنتجونها وسيعطيها إلى الأشخاص المتخصِّصين في السيطرة على النقود دون أن يُنتجوا أشياء ذات قيمة للمجتمع، تمامًا كما تمكَّن التجار الأوروبيون من سرقة المجتمع الأفريقي عن طريق إغراقهم بالخرز الرخيص، كما تمَّ ذكره في الفصل الثاني. وبهذا، لا يمكن لأي مجتمع أن يزدهر طالما بقي هذا الطريق مفتوحًا للكسب السريع على حساب إفقار أولئك الذين يسعَون للحصول على الثروات عبر الطرق الإنتاجية. من ناحية أخرى، إن النقد السليم يجعل الخدمات قيِّمةً بالنسبة للآخرين وهو الطريق الوحيد المتاح لازدهار أي شخص، وبهذا يتم تركيز جهود المجتمع على الإنتاج، والتعاون، وجمع رأس المال والتجارة.

والقرن العشرون هو قرن النقد غير السليم وقرن الدولة ذات السلطة المطلقة، حيث تمَّ رفض خيار السوق من النقد بالإملاءات الحكومية، وتمَّ فرض النقود الورقية الحكومية بتهديد العنف. ومع مرور الوقت، ابتعدت الحكومات عن النقد السليم أكثر من أي وقت مضى وذلك بالتزامن مع زيادة إنفاقها وعجزها، وتخفيض قيمة عملاتها باستمرار، فتم السيطرة على أكبر حصة من الدخل القومي من قِبَل الحكومة. ومع زيادة تدخل الحكومة في جميع جوانب الحياة، فقد سيطرت بشكل متزايد على النظام التعليمي واستخدمته لختم عقول الناس بالفكرة الخيالية التي مفادها أن قواعد الاقتصاد لا تنطبق على الحكومات، وبأنه كلما أنفقت الحكومات أكثر، ازداد الازدهار. إن أعمال فاقدي العقل بالنقد مثل أعمال جون ماينارد كينز، يتم تدريسها الآن في الجامعات الحديثة والتي تقول إن الإنفاق الحكومي ينجم عنه فوائد فقط، وليس له أي تكاليف. ففي نهاية المطاف، تستطيع الحكومة دائمًا طباعة المزيد من النقود، ولن تُواجه أي قيود حقيقية على إنفاقها، ويمكنها بالتالي استخدام هذه النقود لأي هدف يضعه لها الناخبون.

فبالنسبة لأولئك الذين يعبدون السلطة الحكومية ويستمتعون بالسيطرة الشمولية، كالعديد من أنظمة القرن العشرين الشمولية والدموية، يُعتبر هذا النظام النقدي هبةً من السماء. ولكن بالنسبة لأولئك الذين يُقدِّرون حرية الإنسان، والسلام والتعاون بين البشر، كان ذلك وقتًا محبطًا خصوصًا مع تراجع احتمالات الإصلاح الاقتصادي كلما مرَّ الوقت، وأن احتمالات عودة العملية السياسية إلى عالم نقدي سليم أصبحت حلمًا خياليًّا يتزايد يومًا بعد يوم. كما وضح «فريدريك هايك»:

لا أعتقد أننا سنحصل على أموال جيدة من جديد قبل أن نستعيد زمام الأمور من أيدي الحكومة؛ أي إننا لا نستطيع الحصول على ما نريد من الحكومة باستخدام العنف، لذلك كل ما يمكننا القيام به هو العمل وفق بعض الطرق الملتوية، بتقديم شيء يتعذَّر عليهم إيقافه.٢٤

متحدِّثًا عام ١٩٨٤م مع جهل تام للشكل الحقيقي لهذا «الشيء الذي لا يستطيعون إيقافه»، تبدو بصيرة فريدريك هايك مذهلةً حتى يومنا هذا؛ حيث إنه وبعد مرور ثلاثين عامًا من نطقه بهذه الكلمات، وبعد قرن كامل من تدمير الحكومات لآخر بقايا النقد السليم الذي كان هو المعيار الذهبي، أصبح لدى الأفراد في جميع أنحاء العالم فرصة للادخار والتبادل بوساطة شكل جديد من النقد تمَّ اختياره بحرية في السوق، ويقع خارج السيطرة الحكومية. ففي بداية ظهوره، يبدو أن البيتكوين قد استوفى بالفعل جميع مُتطلَّبات مينجر، وميزس، وهايك؛ فهو خيار قابل للبيع بشكل كبير في السوق الحرة ومقاوم للتدخل الحكومي.

١  مالكوم براون وشيرلي سيتون، هدنة عيد الميلاد: الجبهة الغربية ديسمبر ١٩١٤م (لندن: بان ماكميلان، ٢٠١٤م).
٢  المصدر: جورج هال، «معدلات أسعار الصرف والوَفَيَات خلال الحرب العالمية الأولى»، مجلة الاقتصاد النقدي.
٣  لقد تساءلتُ عما إذا كان قربُ ألمانيا والنمسا من سويسرا، والعلاقة الوثيقة بين هؤلاء السكان، قد أدت بالألمان والنمساويين إلى تبديل عملاتهم بالفرنك السويسري، الأمر الذي سرَّع بسقوط هذه العملات، ممَّا أدى إلى زيادة الموارد الاقتصادية الحكومية، وأدى دورًا حاسمًا في نتائج الحرب العالمية الأولى. لم أصادف أبدًا أي بحث حول هذه المسألة، ولكن إن صادفتَ عزيزي القارئ، فالرجاء الاتصال بنا.
٤  من يوليو ١٩١٤م إلى نوفمبر ١٩١٨م. المصدر: جورج هول، «أسعار الصرف والوَفَيَات خلال الحرب العالمية الأولى»، مجلة الاقتصاد النقدي.
٥  فريدريك هايك، القومية النقدية والثبات العالمي (فايرفيلد، إن جي: أغسطس كيلي، ١٨٩٨م (١٩٣٧م)).
٦  يمكن إيجاد سياسات هوفر التدخلية في كتاب موري روثبارد «الكساد الأمريكي العظيم».
٧  مُقتبس في هينري هازلت، فشل الاقتصاد الجديد، صفحة ٢٧٧.
٨  أوتو ماليري، الاتحاد الاقتصادي والسلام الدائم (هاربر والإخوة، ١٩٤٣م)، الصفحة ١٠.
٩  روبرت هيغز «الحرب العالمية الثانية وانتصار الكينزية» ٢٠٠١م، مقالة بحثية تابعة لمؤسسة مستقلة. متوفرة على http://www.independent.org/publications/article.asp?id=317.
١٠  بول سامويلسون، «العمالة الكاملة بعد الحرب»، في سيمور هاريس، المشاكل الاقتصادية التي تبعت الحرب (نيويورك: ماكغراي-هيل، ١٩٤٣م).
١١  بعد أن تم التحقيق معه وأدلى بشهادته أمام الكونغرس، عانى وايت من نوبتَين قلبيتَين وتُوفي بسبب جرعة زائدة من الدواء، والتي من الممكن أن تكون جرعةً انتحارية. يمكن العثور على نقاش مناسب لهذه الحادثة في كتاب بن ستيل «معركة برايتون وودز»، ممَّا يؤكِّد وجهة النظر التي تقول إن وايت كان جاسوسًا سوفييتيًّا. وهناك قراءة بديلة للوضع يُمكن أن تؤدي إلى منظور أكثر دقة، على الرغم من أنها لن تكون أكثر من مجرد تملُّق؛ فالروابط بين التقدميين الأمريكيين والشيوعيين الروس سبقت الانقلاب الروسي عام ١٩١٧م، وتضمَّنت تمويلًا كبيرًا من الولايات المتحدة للبلاشفة وذلك لعزل الملكية الروسية، كما فصَّل ذلك المؤرخ البريطاني الأمريكي أنتوني سوتون. فالتقدميون اﻟ «ويلسيون» الأمريكيون، الذين كانوا وراء عُصبة الأمم ولاحقًا الأمم المتحدة، قد بحثوا عن حكومة إدارية تكنوقراطية ديمقراطية تقدمية، وقد سعَوا إلى التعاون بين القوى العالمية التي ستدعم هذا الهدف، وإلى خلع كل الأنظمة والملكيات الرجعية التي لن تتعاون مع هذا النظام العالمي. لذلك، أدت المصالح الأمريكية دورًا قياديًّا في ترويج البلاشفة ومساعدتهم لأخذ السلطة، وخاصة عبر «ليون تروتسكي»، الذي كان في نيويورك أثناء الثورة، ويبحث عن دعم وعتاد لرفقائه في روسيا. وبينما كان تروتسكي اشتراكيًّا أمميًّا قد يتعاون مع المصالح الأمريكية، إلا أنه لم يكن ليحصل على السلطة في روسيا. وبدلًا من ذلك نجح بذلك ستالين وأخذ السلطة من لينين، وذهب باتجاه المزيد من «الأبرشية»، وأعطى الأولوية للاشتراكية في الوطن على حساب التعاون العالمي. منذ ذلك الوقت وصاعدًا حافظ الأمريكيون التقدميون على اتصالهم مع المصالح الروسية، محاولين أخذ روسيا للتعاون مع المصالح التقدمية الأمريكية، ولكن عبثًا. لهذا، نستطيع فهم وايت ليس بكونه جاسوسًا شيوعيًّا، ولكن بكونه أمريكيًّا تقدميًّا يحث على التعاون مع البلاشفة الروس للمشروع العظيم الذي يتمثل بالنظام الاقتصادي ما بعد الحرب الذي بحث عنه الأمريكيون التقدميون.
١٢  وزارة الخارجية الأمريكية، «المجلد ١»، إجراءات ووثائق المؤتمر النقدي والمالي للأمم المتحدة، برايتون وودز، نيوهامبشير، يوليو ١–٢٢، ١٩٤٤م.
١٣  هانز هرمان هوبه، «كيف تكون العملة الورقية ممكنة؟» مراجعة الاقتصاد النمساوي، المجلد ٧، رقم ٢ (١٩٩٤م).
١٤  هذه ميزة هامة للنقد الحكومي، لكنها لا تحظى عادةً بتقدير كافٍ. ينخفض العرض النقدي عند سداد الديون أو إفلاس المقترض بسبب استحداث البنوك للنقد عند إصدار القروض. ويمكن أن يزداد أو ينقص العرض النقدي اعتمادًا على مجموعة متنوِّعة من قرارات الحكومة والبنوك المركزية.
١٥  المصدر: المصرف العالمي.
١٦  المصدر: OECD.Stat.
١٧  ستيف هانكي وتشارلز بوشنيل، «فنزويلا تدخل سِجل التاريخ: المدخل رقم ٥٧ في جدول هانكي-كروس لجدول التضخم المفرط العالمي»، «دراسات في الاقتصاد التطبيقي»، رقم ٦٩ (ديسمبر ٢٠١٦م).
١٨  يُطلَق على هذا الأمر «تأثير الكانتيلون»، تيمُّنًا بالاقتصادي الأيرلندي-الفرنسي ريتشارد كانتيلون، الذي وضَّحه في القرن الثامن عشر. وفقًا لكانتيلون، إن المستفيدين من التوسع في العرض النقدي هم أول الحاصلين على النقد الجديد، والذين يستطيعون إنفاقه قبل أن يتسبب بارتفاع الأسعار. فكل من يستلمه منهم يستطيع إنفاقه مع زيادة صغيرة في مستوى السعر. ومع إنفاق أكثر للنقود، يرتفع مستوى السعر، إلى أن يعاني آخر المستلمين من انخفاض قوتهم الشرائية الحقيقية. هذا هو أفضل تفسير للسؤال القائل: لماذا يؤذي التضخم أفقر الناس ويساعد الأغنياءَ في الاقتصاد الحديث. إن أكثر من يستفيد من هذا هم الذين لديهم أفضل وصول إلى ائتمان الحكومة، وأكثر من يتضرَّر من هذا هم أصحاب الدخل الثابت والحد الأدنى من الأجور.
١٩  «الدولار أو الدينار؟»، مجلة «ميس ديلي»، متوفِّر على الرابط: https://mises.org/library/dollar-or-dinar.
٢٠  جي بي كونينغ، «عملة يتيمة: قضية الشلنات الصومالية الغريبة». متوفِّر https://jpkoning.blogspot.ca/2013/03/orphaned-currency-odd-case-of-somali.html?m=1.
٢١  «تنظيم المشتقات خارج البورصة». شهادة الرئيس آلان غرينسبان أمام لجنة الخدمات المصرفية والمالية، مجلس النواب الأمريكي، ٢٤ يوليو ١٩٩٨م.
٢٢  المصدر: مجمع الذهب العالمي، إحصائيات الاحتياطات. متاح على: https://www.gold.org/data/goldreserve.
٢٣  نظرية النقود والائتمان، الطبعة الثانية (لودويغ فون ميزس إيرفنغتون على موقع هدسون، نيويورك: مؤسسة التعليم الاقتصادي، ١٩٧١م)، صفحات من ٤١٤ إلى ٤١٦.
٢٤  تمَّ استخراجه من مقابلة فيديو أُجريت عام ١٩٨٤م مع جيمس يو بلانشارد في جامعة فرايبورغ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤