مقدمة

في أوائل فبراير ٢٠٠٧، شرع هولدن — ابن ستيفاني لينز — البالغُ من العمر ثلاثة عشر شهرًا، في الرقص. كان هولدن يدفع مشايته عبر أرضية المطبخ، عندما بدأ جسده يتراقص على وقع أغنية مميزة للمغني برينس (الذي يحمل نفس الاسم الفني الذي حمله والده) بعنوان «دعْنا نُصَبْ بالجنون.» كان هولدن قد استمع للأغنية قبل ذلك بأسبوعين بينما كانت الأسرة تشاهد مباراة نهائي دوري كرة القدم الأمريكي. من الواضح أن الإيقاع علق بذاكرة الطفل، وهكذا فإنه عندما استمع للأغنية مرة أخرى، فعل ما يمكن أن نتوقعه من أي طفل طبيعي يبلغ من العمر ثلاثة عشر شهرًا. لقد قبل دعوة برينس، وأصيب بالجنون مع الإيقاع، بالطريقة الخرقاء التي لا تخلو من الجنون اللذيذ التي يتبعها أي طفل غض لم يتجاوز عمره ثلاثة عشر شهرًا.

اعتبرت أم هولدن المشهد مرحًا مثيرًا للضحك، وهذا أمر مفهوم. فأمسكت بكاميرا الفيديو وسجلت مشهد الرقصة رقميًّا. وفي خلال ٢٩ ثانية، كانت قد صورت فيلمًا قصيرًا لا يقدر بمال لهولدن وهو يرقص، بينما صوت برينس الذي لا يكاد يميَّز يخرج من المذياع الموجود بمكان ما في خلفية المشهد.

رغبت السيدة لينز في أن يشاهد أبواها الفيلم. غير أنه كان من الصعب إلى حد ما أن ترسل لأي شخص — بما في ذلك أقاربك — رسالة بالبريد الإلكتروني ملحقًا بها ملف فيديو حجمه ٢٠ ميجابايت. وهكذا قامت بما يقوم به أي مواطن عاقل يعيش في القرن الحادي والعشرين: حمَّلت الملف على موقع يوتيوب ثم أرسلت رسالة بالبريد الإلكتروني إلى أقاربها تحمل الرابط الخاص بالفيديو. شاهد هؤلاء الفيديو عشرات المرات، وما من شك أنهم تبادلوا الرابط مع أصدقائهم وزملائهم في العمل. لقد كانت لحظة رائعة من لحظات اليوتيوب؛ مجتمع تدوي ضحكاته من فيلم فيديو مصنوع منزليًّا، يجري التشارك فيه بسهولة مع أي شخص يود مشاهدته.

غير أنه في وقت ما على مدى الشهور الأربعة التالية، شاهد رقصة هولدن أيضًا شخص ليس من أصدقاء ستيفاني لينز. كان هذا الشخص يعمل في مجموعة يونيفرسال للموسيقى. تمتلك يونيفرسال بعضًا من حقوق تأليف ونشر أغنيات برينس أو تدير شئونها. ولمجموعة يونيفرسال باعٌ طويل في الدفاع الشرس عن حقوق التأليف والنشر المملوكة للمؤلفين. ففي عام ١٩٧٦، كانت واحدة من المدعين الرئيسيين الذين قاضوا شركة سوني بسبب «تكنولوجيا القرصنة» المعروفة الآن باسم مسجل الفيديو أو جهاز الفيديو. وفي عام ٢٠٠٠، كانت واحدة من حوالي عشر شركات رفعت قضية على «إريك كورلي» ومجلته ٢٠٠٦، لنشره رابطًا لموقع احتوى على شفرة تمكن البعض من تشغيل قرص دي في دي على نظام لينُكس للتشغيل. والآن، ونحن في عام ٢٠٠٧، تواصل يونيفرسال حملتها الشعواء ضد قرصنة حقوق التأليف والنشر بتهديدها لستيفاني لينز. فقد أرسلت خطابًا شديد اللهجة إلى موقع يوتيوب تطالبه فيه بمحو هذا الأداء العلني غير المرخص به لموسيقى برينس من الموقع. وحتى تتفادى يوتيوب المساءلة القانونية، أذعنت للطلب.

اليوم، صار هذا الضرب من الأمور يقع دومًا. فهناك شركات من عينة يوتيوب تنهال عليها طلبات برفع مواد فيلمية من على مواقعها. لا ريب أن نسبة كبيرة من تلك المطالبات تكون منصفة ولها ما يبررها. فإذا كنت مكان شركة فياكوم، تمول مسلسلًا تلفزيونيًّا جديدًا تصاحبه إعلانات عالية التكلفة، فمن المفهوم تمامًا أنك عندما تجد نسخة عالية الجودة من الحلقة الأخيرة مذاعة على موقع يوتيوب، فسوف تكون حريصًا على إزالتها من عليه. إن قانون حقوق التأليف والنشر يمنح فياكوم تلك السلطة بتوفير سبيل سريع وغير باهظ التكلفة لإرغام كل المواقع الشبيهة بموقع يوتيوب في جميع أنحاء العالم على معاونتها في حماية حقوقها.

غير أن أغنية برينس على فيديو لينز كانت شيئًا مختلفًا تمامًا؛ أولًا، كان مستوى جودة التسجيل رديئًا للغاية. وما من أحد مثلًا سينزل فيديو لينز من الموقع كي يعفي نفسه من سداد ثمن شراء أسطوانة موسيقى برينس. كذلك، لا برينس ولا يونيفرسال كانتا تعملان في نشاط بيع حق تصوير رضيعك بكاميرا الفيديو وهو يرقص على موسيقاهما، فلا توجد سوق لمنح تراخيص إذاعة الموسيقى على أفلام فيديو الهواة، ومن ثم لم تكن هناك من طريقة مستساغة لقبول فكرة تعرض برينس أو يونيفرسال للضرر جراء اشتراك ستيفاني لينز مع أسرتها، وأصدقائها، وأي شخص، في مشاهدة هذا الفيديو لطفلها وهو يرقص. ربما يصاب بعض أولياء الأمور أيضًا بالذعر من جراء تغلغل الثقافة التجارية في عقل طفل لم يتجاوز عمره ثلاثة عشر شهرًا، أما ستيفاني لينز فقد اعتبرته أمرًا لطيفًا.

لكن ما لم يكن لطيفًا — على الأقل من وجهة نظر لينز — هو ذلك الإخطار الذي تلقته من يوتيوب تبلغها فيه أنها ستزيل الفيديو من على موقعها. تساءلت لينز، ما الخطأ الذي ارتكبته؟ وما القاعدة التي تسبب حنان أمومتها في خرقها؟ وذلك على افتراض أن القواعد المنظمة للثقافة وعلاقتها بها (وهو ما نسميه «حقوق التأليف والنشر») قواعد رشيدة. ألحت السيدة في تساؤلها هذا من خلال عدد من القنوات إلى أن وجد تساؤلها هذا طريقه إلى مؤسسة الحدود الإلكترونية (وكنت أنا عضوًا بمجلسها حتى بداية عام ٢٠٠٨).

إن مؤسسة الحدود الإلكترونية تتعامل مع الكثير من القضايا الشبيهة بتلك. ولقد ظن المحامون أن تلك القضية سرعان ما ستنتهي. فرفعوا دعوى معارضة مؤكدين فيها على أنه لا توجد لا ليونيفرسال ولا لبرينس حقوق اعتُدي عليها، وأنه من المؤكد أن ستيفاني لينز كانت تملك الحق في عرض فيلم طفلها وهو يرقص. كان الرد المتوقع روتينيًّا. فلم يتوقع أحد أن ينجم عنه أي شيء.

غير أن شيئًا ما نجم عنه. فلم يكن محامو يونيفرسال على استعداد للتراجع. لقد كان هناك مبدأ ما مهدد بالخطر في هذا الأمر. فالسيدة لينز لم يكن مسموحٌ لها بتبادل هذه القطعة من الثقافة الملتقطة مع أحد. وقد أصروا — الحق، أنهم هددوها بهذا الزعم بصورة مباشرة — على أن التشارك في مشاهدة هذا الفيلم المنزلي كان اعتداءً متعمدًا على حقوق التأليف والنشر. وبموجب القوانين السارية في الولايات المتحدة الأمريكية، كانت السيدة لينز مهددة بسداد غرامة قيمتها ١٥٠ ألف دولار نتيجة لتشاركها مع الغير في مشاهدة فيلمها المنزلي.

سيكون أمامنا متسع من الوقت كي نتدارس الجزئيات التفصيلية في دعوى حقوق تأليف ونشر مشابهة لتلك الدعوى في الصفحات التالية. أما الآن، فدعونا ننحي تلك التفصيلات جانبًا، وأريد منكم عوضًا عنها أن تتخيلوا معي قاعة المؤتمرات بشركة يونيفرسال، حيث اتُخِذ قرار بتهديد ستيفاني لينز برفع دعوى فيدرالية ضدها، تخيلوا صورة ذلك الاجتماع: أربعة مشاركين، وربما أكثر، معظمهم محامون، يتقاضون رواتب تبلغ مئات الدولارات في الساعة الواحدة، وقد ارتدوا جميعًا حُللًا يبلغ ثمن الواحدة منها ألف دولار، وجلسوا إلى مائدة الاجتماعات ترتسم على وجوههم نظرات جادة، يحتسون القهوة التي صنعها لهم أحد المعاونين، ويطالعون مذكرة قانونية أعدها محامي تحت التمرين عن الحقوق المتنوعة التي خرقتها القرصانة؛ ستيفاني لينز. وبعد ثلاثين دقيقة، وربما ساعة، توصل التنفيذيون إلى قرارهم الرزين. اجتماع كلف يونيفرسال ١٠ آلاف أو خمسين ألف دولار (إذا حسبت قيمة وقت المحامين، والوقت الذي استغرقه إعداد المواد القانونية). اجتماع انتهى إلى الخروج بقرار بتحريك قوانين سنها الكونجرس ضد أُمٍّ كل جريرتها ذلك الحب الجامح الذي تكنه لطفلها ابن الثلاثة عشر شهرًا.

تخيل كل هذا، ثم اطرح على نفسك هذا السؤال: كيف يتأتى لأناس عقلاء، أناس ما من شك أنهم تلقوا قدرًا من التعليم في بعض من أفضل الجامعات وكليات الحقوق في البلاد، أن ينتهوا إلى أنه من العقل استخدام موارد إحدى المؤسسات التجارية في تهديد أم لطفل راقص يبلغ من العمر ثلاثة عشر شهرًا؟ ومن ذاك الذي سمح لأولئك المحامين والتنفيذيين بأخذ قضية مثل تلك على محمل الجد، وبأن يعتقدوا جازمين بأن ثمة مبررًا مهمًّا — اجتماعيًّا كان أم تجاريًّا — يدعوهم لفرض القانون الفيدرالي المسمى بقانون حقوق التأليف والنشر من أجل إيقاف زحف تلك الصور والأعمال الموسيقية؟ «دعنا نصب بالجنون»؛ عنوان ملائم حقًّا! ما الذي أوصل المنظومة القانونية الأمريكية إلى الحد الذي جعل مؤسسة كبرى مثل تلك تسلك سلوكًا كهذا لا يمكن وصفه بشيء آخر غير «الجنون»؟ أو لِنَقُلْها من الاتجاه الآخر، ما الذي أصابنا بحيث يبدو سلوكًا كهذا عاقلًا في نظر أي شخص؟

•••

بالقرب من وسط مدينة لندن، وفي قاعة محكمة تدعى محكمة ميسون، هناك مبنى أسمنتي يشبه البنايات المعاصرة يدعى المكعب الأبيض. في عهد سابق، كان عبارة عن محطة كهرباء فرعية، أما اليوم فهو معرض للفنون.

في أواخر أغسطس ٢٠٠٧، دلفتُ إلى المعرض ومشيت باتجاه القبو. كانت هناك ستارة سوداء كبيرة تفصل السلم عن قاعة العرض. وعندما مررت من خلال الستارة، شاهدت على أحد جدران غرفة سوداء كبيرة خمسًا وعشرين شاشة بلازما، مجاورة بعضها لبعض ومتراصة على نحو عمودي. كانت كل شاشة عرض عبارة عن نافذة تطل على استوديو. وفي كل استوديو من هذه وقف أحد معجبي جون لينون. خمسة وعشرون معجبًا — ثلاث نساء، واثنان وعشرون رجلًا — خمسة عشر منهم (رجالًا ونساءً) يرتدون تي شيرتات، وأحدهم (وكان رجلًا) يرتدي ربطة عنق. كان الخمسة والعشرون فردًا جميعهم يغنون مسارًا صوتيًّا — بدءًا من أول أغنية حتى الأغنية الأخيرة دون توقف — لأول ألبوم منفرد لجون لينون بعنوان «جون لينون/فرقة بلاستيك أونو» (١٩٧٠). كان المعرض يعيد تكرار الفيديو مرة تلو مرة، طيلة ثمانية ساعات في اليوم، ستة أيام أسبوعيًّا، طيلة شهور صيف عام ٢٠٠٧.

كان هؤلاء المعجبون من عامة المواطنين البريطانيين. أشخاص عاديون للغاية. لم يكن منهم من يتمتع بالوسامة الملفتة، ولم يكن منهم من هو حديث السن، ولم يكونوا متجملين بالمساحيق. كانوا مجرد خمسة وعشرين شخصًا من أشد المعجبين بفن لينون، اختيروا من بين ما يزيد على ستمائة ممن تقدموا بطلبات للغناء تحيةً لفنانهم المفضل.

لم تكن لندن المدينة الوحيدة التي أقامت معرضًا كهذا؛ فقد أقيمت ثلاثة معارض ذات صلة بنفس الموضوع في ثلاثة بلدان مختلفة؛ ففي جامايكا، يغني ثلاثون من محبي بوب مارلي ألبومه الغنائي «ليجند»، وذلك في معرض «ليجند» (بورتريه لبوب مارلي)؛ وفي برلين، يغني ستة عشرة من محبي مايكل جاكسون بمعرض كينج ألبوم «ثريلر» بالكامل؛ وفي إيطاليا، تجمع ثلاثون من محبي المطربة مادونا في معرض باسم «كوين» (بورتريه مادونا)، تحية لملكة البوب. ولم يكن معرض «بطل الطبقة العاملة» (بورتريه جون لينون) سوى الأحدث في تلك السلسلة. وكانت الفنانة الجنوب أفريقية الشابة «كانديس برايتز» التي ابتدعته، تفكر في إقامة المزيد.

لست ممن تحرك مشاعرهم أغنية منفردة من غناء جون لينون. غير أنني جلست في تلك الغرفة الحالكة السواد، أشاهد هؤلاء المعجبين وهم يغنون موسيقاه، فتملكتني مشاعر فياضة، مثل أم تحتضن طفلها للمرة الأولى، أو صبي يمد يده ليمسك بيد أبيه، أو ابنة تلتفت لتقبل أباها مع بدء مراسم زفافها، كان كل واحد من هؤلاء ينقل مشاعر استثنائية تنتشر عدواها لغيره. لم يكونوا مطربين رائعين؛ فكثيرًا ما كان أحدهم يخطئ في توقيت إلقاء الكلمات أو ينساها، غير أنك كنت تستطيع أن ترى أن هذه الموسيقى ومبدعها كانا من بين أهم الأشياء في حياة هؤلاء الناس، فمن يعرف السبب؟ من ذا الذي يعرف ما كانت تمثله لكل واحد منهم بوجه خاص؟ غير أنه من الواضح أن هذا الألبوم كان تقريبًا أهم عمل إبداعي عرفه هؤلاء المعجبون، وكان أداؤهم بمنزلة احتفاء بذلك الجزء من حياتهم، وكان هذا هو المغزى من ورائه: لم يكن المقصود لينون تحديدًا وإنما الناس الذين مس لينون مشاعرهم.

طوال حياتها المهنية انصب اهتمام برايتز على العلاقة بين الثقافة الرائجة — من الأفلام التي أحدثت ضجة هائلة وحتى موسيقى البوب — والجماهير التي عايشتها، وحسبما شرحت لي:
الفكرة تتلخص في تحويل الاهتمام بعيدًا عن أولئك الذين عادةً ما ينظر إليهم باعتبارهم مبدعين، بحيث نمنح بعض المساحة لأولئك الذين يتلقون المنتجات الثقافية، سواء أكانت موسيقى أم أفلامًا أم غيرها. وأن نفكر قليلًا فيما يحدث بمجرد أن توزع الأعمال الموسيقية أو السينمائية: كيف تتخلل حياة من يستمعون إليها أو يشاهدونها وتتغلغل في وجدانهم.1
كل منا يرتبط بالعمل الفني بطريقته الخاصة. ويسري الارتباط لدى البعض إلى أعماقهم، بينما يمر مرور الكرام لدى البعض الآخر. وفي بعض الأحيان يمسك بتلابيبنا، ويشدنا نحوه بقوة. وفي أحيان أخرى يغيرنا تغييرًا جذريًّا. ومرة أخرى تقول برايتز:

حتى الموسيقى التي تحقق أوسع انتشار، وتحقق أعلى مبيعات بالأسواق يكون لها معنى بالغ التحديد بالنسبة للناس، وهو المعنى الذي يتوقف على الموضع الذي استمعوا فيه إليها أو اللحظة المحددة من حياتهم التي سمعوها فيها. وما يسير جنبًا إلى جنب مع لحظة الاستقبال يعد بعدًا من أبعاد الترجمة الشخصية.

وتواصل برايتز حديثها قائلة إن هذا «الاستقبال، يتضمن في طياته … تأويلًا أو ترجمة للمعنى.» وهذا العمل «إبداعي». إيجابي. ارتباطي. غير أنه من السهل أن تغيب عنا تلك الإيجابية وأن نكتفي بالمشاهدة وحسب. فمن الوقاحة أن نتلفت من حولنا ونراقب الناس وهم يشاهدون الفيلم. وإنها لجريمة أن نحاول تصويرهم وهم يغنون تحت الدش مثلًا. إننا نعيش في عالم تتخلل ثناياه الثقافة التجارية، غير أننا نادرًا ما نفهم كيف تحرك تلك الثقافة مشاعرنا، وكيف نعالجها أثناء تحريكها لمشاعرنا.

وبينما كانت برايتز تشرح لي الأمر، كنت أسأل نفسي عن المصدر الذي استقت منه ذلك. فطرحت عليها هذا السؤال، من أي مكان جاء؟ كان الجواب هو أن هذا، في جزء منه، أفريقي المصدر:

في الثقافات الأفريقية وغيرها من الثقافات الشفهية، هذا هو الأسلوب التقليدي الذي تمارس به الثقافة وظيفتها. ففي غياب لغة مكتوبة لتلك الثقافة، يتم تداول قصص وحكايات تاريخية بين المؤدين وجماهيرهم، فتتطور نسخ من تلك القصص مرة تلو أخرى، وكل نسخة جديدة تظهر تتجاوز سابقتها؛ لأنها تدمج فيها إسهامات وتقييمات آتية من الجمهور، وكل نسخة جديدة تتكون من طبقات تحمل تفاصيلَ وتعديلاتٍ وأحداثًا جديدة جراء سريانها وسط المجموع. لم يظن أحد من قبل أن هذا يمثل نَسْخًا غير مشروع أو استيلاء على الملكية الفكرية أو سرقة لها، وإنما تقبلوه باعتباره أسلوبًا طبيعيًّا تتطور الثقافة وتنمو من خلاله فتتحرك إلى الأمام. ومع كل إضافة جديدة لطبقة أخرى من التأويل للقصة أو الأغنية، يزداد العمل الفني أو الأدبي ثراءً، فهذه الطبقات تضيف إليه ولا تنتقص منه.

غير أن هذا الواقع لا يقتصر فحسب على الثقافات الشفهية. فحسب رأي برايتز، هذا هو الأسلوب «الذي تؤدي به العملية الفنية عملها» بصفة عامة:

هذه العملية المتمثلة في صناعة المعنى ربما تكون أكثر صخبًا ووضوحًا في أسلوب فنانين بعينهم عنها في أسلوب غيرهم. فالفنانون الذين يعملون باستخدام مقاطع الفيديو، على سبيل المثال، يعكسون في وضوح المنطق الاستيعابي للعملية الإبداعية. لكنني أرى أن كل عمل فني يظهر إلى الوجود يأتي من خلال عملية مشابهة، مهما كانت خفية. فلا يوجد فنان يعمل في الفراغ. وكل فنان يعكس — سواء بوعي منه أو بدون وعي — ما جاء قبله وما يحدث بالتوازي مع ممارسته.

هذا المفهوم للثقافة، وعلاقة الفنان بالثقافة، أدى مباشرةً إلى العمل الذي كنت أشاهده في المكعب الأبيض. وحسبما شرحت لي:

تقوم تلك الأعمال على فرضية شديدة البساطة: هناك عدد كافٍ من صور وتمثيلات كبار النجوم والمشاهير في العالم. فبدلًا من إنشاء المزيد من الصور لأناس نالوا بالفعل ما يكفي وأكثر من الشهرة والنجومية، وبدلًا من صنع صورة جديدة لمادونا أو جون لينون، أردت أن أعكس الجانب الآخر من المعادلة، عما يحدث أثناء صناعة واحد من المشاهير.

لقد أدركت أنني بحاجة لإدارة الكاميرا بزاوية ١٨٠ درجة، بعيدًا عن أولئك الذين اعتادوا على أن يكونوا أمام أعين الجمهور — أولئك الذين لديهم بالفعل صوت قوي وحضور طاغٍ على الشاشة أو على خشبة المسرح — لأوجهها نحو الجانب الآخر من الشاشة وخشبة المسرح، نحو أفراد الجمهور الذين يحضرون الحفلات الغنائية، أو يشاهدون الأفلام السينمائية، أو يشترون الأقراص المدمجة.

نحو أولئك الذين عادةً — وهو أمر ليس بصواب في رأيي — ما ينظر إليهم باعتبارهم مجرد متلقين للثقافة ولا يعتد بهم باعتبارهم يملكون القدرة على عكس صورة الثقافة على نحو مبدع.

قبيل إقامة معرض «بطل الطبقة العاملة»، حظيت جميع المعارض المشابهة باستقبال جيد. فبعد مشاهدة معرض ليجند، على سبيل المثال، قررت ريتا — أرملة بوب مارلي — إدراج نسخة على الدوام منه ضمن مقتنيات متحف بوب مارلي في كينجستون؛ حيث رتبت لافتتاح العرض في المتحف، ودعت جميع المؤدين الثلاثين وعائلاتهم من جميع أنحاء جامايكا كي يزوروا المتحف ليحتفلوا باحتفائها بزوجها.

لكن في حالة معرض «بورتريه جون لينون»، لم يكن الاستقبال شديد الحرارة. وبطلب من إدارة المكعب الأبيض، شرعت برايتز في الحصول على تصريح من حائزي حقوق التأليف والنشر لألبوم «جون لينون/فرقة بلاستيك أونو» قبل إقامة المعارض الأولى للعمل في متاحف لا تهدف للربح في نيوكاسل وفيينا. أرسلت برايتز خطابًا ليوكو أونو (أرملة لينون) من أجل الحصول على ذلك التصريح. وبعد شهرين أتاها الرد من أحد محامي السيدة أونو. كان نص رسالة البريد الإلكتروني «لن نتمكن من منح حق استخدام صورة السيد لينون في مشروعك.» غير أن برايتز لم تكن ترغب في التصريح باستخدام صورة لينون، بل كانت تريد التصريح بالاتفاق مع خمسة وعشرين من الجماهير كي يغنوا موسيقاه. وعندما ردت برايتز بهذا التصويب، أبلغها المحامي بأنه في حقيقة الأمر لم يطلع شخصيًّا على اقتراحها. لقد كان ببساطة ينقل لها حقيقة أن السيدة أونو لم تكن مستعدة لمنح الحقوق المطلوبة. وتدخل أحد أمناء المتاحف الدولية الكبرى وكان على معرفة بيوكو ومؤيدًا لعمل برايتز فتوسط في الأمر متحدثًا باسمها، قائلًا إنه — وفق فهمه لطبيعة الموقف — في استطاعة برايتز أن تسدد حقوق التأليف والنشر المتعلقة بالموضوع وأن تمضي قدمًا في مشروعها، بيد أنها تؤْثر — احترامًا منها لأرملة الفنان — أن تسعى للحصول على تصريح من أونو وأن تكون الأخيرة متفهمة للموقف. أرادت السيدة أونو أن تسمع المزيد، لكنها لم تتفق مع أمين المتحف في مسألة حرية برايتز في صنع غلاف بدون تصريح. وأصرت أونو قائلة: «التصريح لا مناص منه من الناحية القانونية.»

ومن جديد شرح أمين المتحف العرض المقترح. فطلبت أونو رؤيته مكتوبًا. وبعد الاطلاع عليه، أبلغ محاموها برايتز أن بإمكانها الاستعانة بألبوم «جون لينون/فرقة بلاستيك أونو» في مشروعها، ولكن:
برجاء الملاحظة، أن الحصول على موافقة باستخدام مؤلفات موسيقية حقيقية يجب الحصول عليها من الناشرين ذوي الصلة.2

وبعد أن شعرت بالارتياح (وإن كانت تلك سذاجة منها)، طلبت برايتز بعد ذلك من محامي المكعب الأبيض البدء في عملية الحصول على «موافقة» من حائزي حقوق تأليف ونشر المؤلفات. وبعدها بثلاثة شهور، حدد المحامون الموكلون عن سوني (حائزة حقوق تأليف ونشر عشر من أصل إحدى عشرة أغنية يضمها الألبوم) رسمًا قياسيًّا يبلغ بالتقريب ٤٥ ألف دولار قيمة عرض لمدة شهر واحد. كانت سوني تعلم أن هذا الرقم مبالغ فيه لكنها أرادت أن تضع خطًا مبدئيًّا للمفاوضات التي ستلي ذلك. كما طلبوا من الفنانة أن تبلغهم بأكبر مبلغ يمكنها تحمله. لقد أرادوا أن يعلموا كم تبلغ ميزانية المشروع.

غير أن الوقت كان ضيقًا. وكان مقررًا للمعرض أن يُفتتح في نيوكاسل في غضون أسابيع. وبعد أن تعرض المحامون للإلحاح، وافقوا على السماح بعرض العمل في هذه المؤسسة التي لا تهدف للربح دون إبرام اتفاق. وفعلوا نفس الشيء في معرض غير هادف للربح في فيينا بعدها بثلاثة شهور، غير أنهم ذكروا أن محامي السيدة أونو رغبوا في إبرام تعاقد رسمي قبل مواصلة إقامة المزيد من تلك العروض.

بعد عام من تقديم الطلب لأول مرة، لم تحل المشكلة إلى يومنا هذا. وحتى وقت كتابة هذه السطور — أي بعد أكثر من عامين من الرد المبدئي — وبعد إضاعة مئات من الساعات من أوقات المحامين، ومديري المتحف ومن وقت برايتز، لم يتوصل حائزو الحقوق بعد إلى اتفاق نهائي. ويبدو أن أحدًا لم يلحظ أن قيمة الوقت الضائع في المساومة حول تلك الحقوق تجاوزت بكثير قيمة أي رسوم ترخيص محتملة. لم تكن الأمور الاقتصادية ذات بال بالنسبة لهم. كان المبدأ مهددًا بالخطر، وعلى حد تعبير السيدة أونو «التصريح لا مناص منه من الناحية القانونية»، قبل أن يصبح من الممكن لفنان آخر أن يستكشف علنًا مدى حب خمسة وعشرين من معجبي جون لينون له.

•••

جريج جيليس مهندس من بيتسبرج عمره خمسة وعشرون عامًا يعمل في مجال الهندسة الحيوية الطبية. وهو أيضًا من أكثر الفنانين الجدد حماسًا للون جديد من ألوان الموسيقى اسمه الخلطة أو المزيج. اسم فرقته المكونة منه وحده (ومن آلة موسيقية واحدة) «جيرل توك» (ومعناها «حديث الفتيات»). أنتجت هذه الفرقة حتى الآن ثلاثة أقراص مدمجة، كان أشهرها «نايت ريبر» ومنح لقب واحد من أفضل أعمال العام من قبل «رولنج ستونز» و«بيتشفورك». وفي مارس ٢٠٠٧، انبرى مايكل دويل النائب الديمقراطي لمنطقته في الكونجرس، في بلاط المجلس يكيل المديح «لمواطنه الذي أبلى بلاء حسنا» وللشكل الفني الجديد الذي ابتدعه.

«جديد» لأن جيرل توك في الأساس خليط من عدة مقتطفات مأخوذة من فنانين عديدين آخرين. نايت ريبر على سبيل المثال مزيج من ٢٠٠ إلى ٢٥٠ عينة مختارة من أعمال ١٦٧ فنانًا مختلفًا. شرح دويل في بلاط الكونجرس الأمر بقوله «في أحد الأمثلة، مزجت جيرل توك بين أعمال إلتون جون، ونوتوريوس بيج، وديستينيز تشايلد، جميعهم في فترة زمنية لا تتجاوز ٣٠ ثانية.» كان دويل فخورًا بهذه الأعجوبة التي صنعت في موطنه. ودعا زملاءه كي «يتراجعوا خطوة واحدة للخلف» كي يتأملوا في هذا الشكل الجديد من الفن. وعلق دويل متنبئًا: «ربما كانت موسيقى الخلطة فنًّا جديدًا تحوليًّا، يوسع من خبرة المستهلك ولا يتنافس مع ما يُعرض لفنانٍ ما على مواقع آي تيونز أو في متاجر الأسطوانات المدمجة.»

ساعدت تعليقات دويل في تغذية موجة عارمة من الاهتمام الإعلامي بجيرل توك، والذي بدوره، غذى شيئًا من التشوق الحقيقي في أوساط الموزعين. من السمات المميزة لهذا اللون الخليط أن العينات مولفة معًا بدون الحصول على أي تصريح من الفنانين الأصليين. وإذا سألت أي محامٍ ممثل لأي شركة تسجيلات في أمريكا، فسوف يرد سريعًا بإجابة تحمل طابع أونو مفادها «التصريح لا مناص منه من الناحية القانونية»، وهكذا فإن جيرل توك عبارة عن جريمة يرتكبها جيليس. سحبت آبل نايت ريبر من متجر موسيقى آي تيونز، وفعلت إي ميوزيك الشيء نفسه قبلها ببضعة أسابيع، والحقيقة أن أحد مصانع الأقراص المدمجة رفض من قبل حتى أن يطبع القرص المدمج.

بدأ جيليس هوايته الموسيقية وهو في سن الخامسة عشرة، وبينما كان يستمع إلى الموسيقى الإلكترونية التجريبية على إحدى محطات الإذاعة المحلية، «اكتشف هذا العالم من الناس الذين في إمكانهم الضغط على الأزرار وإصدار الضجيج فوق البدالات وأداء الموسيقى الحية»، وأضاف قائلًا لي: «هذا الفن أحدث لي نوعًا من الانفجار في مخي.» وفي سن السادسة عشرة «كون فرقة ضوضاء؛ ضوضاء معناها موسيقى سابقة لعصرها بكثير» في ذلك الحين.3

بمرور السنوات انتقلت الصفة «سابق لعصره» من التكنولوجيا التناظرية (الأنالوج) إلى الرقمية؛ أي الحاسب الآلي. أما فرقة جيرل توك نفسها فقد ولدت في أواخر عام ٢٠٠٠ على جهاز توشيبا تم شراؤه أصلًا للكلية. حمَّل جيليس على الجهاز مسارات وحلقات تكرارية صوتية. وبعدها، وباستخدام برنامج يسمى «أوديو ملش»، صار بإمكانه طلب المسارات ومزجها معًا لإعدادها للأداء الموسيقي. وقد شاهدت جيرل توك تؤدي أداءً حيًّا؛ وعروضها تتسم بنفس القدر من العبقرية التي تميز تسجيلاتها بأسلوب «المزيج».

لم يمضِ وقت طويل من عمر جيرل توك حتى بدأ «الحديث القانوني» يزداد حولها. وأدرك جيليس أن الشكل الذي ابتدعه من الموسيقى لم يحصل بعد على مباركة من أهل القانون. غير أنه قال لي: «لم أشعر مطلقًا بالخوف … أعتقد أنني كنت ساذجًا بعض الشيء، غير أنني في الوقت نفسه كنت أشعر أن هذا هو العالم الذي نعيشه والذي نشهد فيه مثل تلك الأشياء كل يوم. [وإنك] تعلم أنك ستبيع عددًا قليلًا من الألبومات، وإنه ربما لن يلحظ أحد الأمر.» كانت هناك بالطبع حالات شهيرة «لاحظ» فيها الناس الأمر. فرقة «نيجاتيفلاند»، وهي فرقة سنقرأ اسمها كثيرًا لاحقًا في هذا الكتاب، كان لها قصة شهيرة مع فرقة «يو تو» وكاسي قاسم بعد أن مزجت بين تسجيل لقاسم أثناء تقديمه للفرقة على برنامج «أمريكان توب فورتي». علم جيليس بشأن هذه القصة، غير أنه شرح لي بأسلوب ذكرني بالأيام التي كنت أظن أنا فيها كذلك أن القانون مجرد عدالة مكتوبة بأسلوب لطيف:

يخامرني الشعور نفسه الذي أحسست به وقتها. أعتقد، فقط من الناحية الأخلاقية، أن الموسيقى بحق لم تكن لتؤذي أحدًا. وما من سبيل لدفع أي شخص لشراء أسطوانتي بدلًا من شراء أسطوانة شخص آخر [ممن استخدمت مقتطفات من أعمالهم]. و… من الواضح أنها لن تؤثر على السوق. لم تكن مثلًا أشبه بقضية بيع سلع مغشوشة. كنت أشعر أنه لو كانت لدى أحد ما مشكلة مع هذا الأمر، فإننا من الممكن أن نتوقف عن القيام به. لكنني لم أفهم سببًا لوجود مثل تلك المشكلة مع أي شخص.

لماذا «يجب» أن يكون لدى أي شخص مشكلة مع هذا الأمر؟ هذا سؤال لم أستطع الإجابة عليه. من البديهي أن شخصًا ما من الممكن أن يسبب له هذا العمل مشكلة. لم تكن «المشكلة» لتطرح بصورة مباشرة وإنما بصورة غير مباشرة؛ لا عن طريق رفع دعوى قضائية ضد جيرل توك، وإنما بالاتصال بآي تيونز أو غيرها من الموزعين وطرح تساؤلات تجعل الموزع يتوقف عن توزيعها، ومن ثم ترغم هذا الفنان، وهذا الشكل الفني، على الاختفاء. كان من الممكن حل «مشكلة» جيرل توك عن طريق التأكد من أن أي نجاح حققته كان نجاحًا محدودًا. فلتحصره داخل محيط بيتسبرج، ولتخفض الطلب عليه كلما أمكنك ذلك، وربما ستزول «المشكلة» ولا يعود لها وجود.

يوافق جيليس على أن المشكلة كانت في طريقها إلى الزوال. ولكن لسبب مختلف تمامًا. فحسبما شرح جيليس لي، سرعان ما سيبادر الجميع إلى محاكاة ما يفعله. الجميع، على الأقل من هم مغرمون بالموسيقى، أو على الأقل كل من هم مغرمون بالموسيقى وأعمارهم دون الثلاثين:

إننا نعيش وسط هذه الثقافة القائمة على المزج. هذا الزمن المتميز بعملية الانتحال، والذي فيه يمكن لطفل في سن الدراسة أن يحصل على نسخة من برنامج فوتوشوب، وأن يقوم بتنزيل صورة لجورج بوش، وأن يتلاعب بوجهه بالكيفية التي يرغب فيها ثم يرسلها إلى أصدقائه. وهذا بالضبط هو ما يفعلونه. حسنًا، لقد لاحظ المزيد والمزيد من الناس حدوث زيادة هائلة في أعداد من يقومون بعملية المزج والخلط بين الأغنيات المختلفة. كل أغنية تدخل ضمن أفضل أربعين أغنية في سباق الأغنيات وتذاع في الراديو، يلتقطها الكثيرون من صغار الأطفال ثم يمزجونها مع غيرها. لقد صار الأمر أشبه ببرنامج فوتوشوب الموجود على جميع أجهزة الكمبيوتر. وكل أغنية يغنيها المطرب بي ديدي، هناك أطفال في سن العاشرة سيمزجونها مع غيرها ثم يضعون تلك «الخلطة» على شبكة الإنترنت.

طرحت على جيليس السؤال التالي: «لكن لماذا هذا أمر طيب؟»

إنه أمر طيب لأنه، باختصار، مجرد ثقافة حرة. فالأفكار تؤثر على البيانات، ثم تعالَج ويجري التلاعب فيها وتمريرها للغير. أعتقد أن هذا أمر رائع على المستوى الإبداعي؛ أن يكون الجميع منخرطون بهذا القدر في الموسيقى التي يحبونها … فليس من الضروري أن تكون موسيقيًّا تقليديًّا. إنك تحصل على الكثير من الأفكار والمواد الخام، من أناس خارج الصندوق ممن لم يتلقوا أي دروس في العزف على الجيتار طيلة حياتهم. أعتقد حقًّا أن هذا الأمر رائع بالنسبة للموسيقى.

كما يعتقد جيليس أنه رائع أيضًا بالنسبة لصناعة التسجيلات: «من وجهة النظر المالية، هذا هو السبيل الذي يمكن لصناعة الموسيقى أن تزدهر من خلاله في المستقبل … هذه التفاعلية مع الألبومات الموسيقية، أن تعامل بطريقة أقرب إلى كونها لعبة، لا باعتبارها منتَجًا.»

النقطة التي طرحها جيليس في النهاية على أي حال لم تكن تتعلق بالأسباب، بل كانت تتعلق بالتطبيق العملي، أو بالتطبيق الذي يمارسه هذا الجيل. «سوف يضطر الناس — المحامون … وقدامى السياسيين — لمواجهة هذا الأمر، الواقع: أن الجميع يصنعون هذه الموسيقى، وأن معظم القطع الموسيقية مأخوذة من أفكار سابقة، وأن الغالبية العظمى من موسيقى البوب مصنوعة من مادة خام مصدرها أناس غيرهم، وأن هذا ليس بالأمر السيئ؛ فهو لا يعني أنه ليس باستطاعتك صنع محتوى أصلي.»

ما يعنيه هذا — اليوم، على الأقل — أنه ليس بإمكانك صنع هذا المحتوى بشكل قانوني. «التصريح لا مناص منه من الناحية القانونية»، حتى إذا كان من المستحيل الحصول عليه في أيامنا هذه.

•••

سيلفيا أو فنانة كولومبية ناجحة. لفترة من الوقت كانت مؤلفة للأغاني ونجمة من نجوم التسجيلات الموسيقية، وكانت تصنع أقراصًا مدمجة تباع عبر القنوات الطبيعية لموسيقى البوب الكولومبية. وفي أواخر تسعينيات القرن الماضي، عانت من خسارة مأساوية على المستوى الشخصي، وابتعدت لبعض الوقت عن الأداء. وعندما عادت لإبداع الموسيقى، أقنعها صديق مقرب وواحد من مطوري برامج أدوبي بتجربة شيء مختلف.

رأيتها تصف تجربتها خارج متحف جميل بالقرب من بوجوتا على مائدة غداء أقامتها منظمة المشاع الإبداعي بكولومبيا. (سوف نتعرض بمزيد من الإيضاح لتلك المنظمة لاحقًا. يكفي الآن أن نقول إن تلك المنظمة التي لا تهدف للربح توفر رخص حقوق تأليف ونشر مجانية؛ كي تمكن الفنانين من تمييز أعمالهم الإبداعية بالحريات الذين يريدون لها أن تحملها. تتم بعد ذلك ترجمة أو «نقل» تلك الرخص إلى الولايات القضائية في جميع أنحاء العالم. وعند اكتمال هذا النقل، «يُطْلقها» البلد المعني مما يجعل الرخص المحلية الجديدة متاحة.) تجمَّع ما يقرب من مائة فرد — معظمهم فنانون وشباب في العشرينيات من العمر — في مسرح عائم مجاور للمتحف، وألقت سيلفيا أو كلمة باللغة الإسبانية، وترجم أحد المترجمين الجالسين إلى جوارها كلماتها إلى الإنجليزية.

حكت سيلفيا قصة عن التبرع بمسار موسيقي لمقطوعة من لون «إيه كابيلا» بعنوان «نادا نادا» (أي «لا شيء لا شيء») لموقع تديره منظمة المشاع الإبداعي اسمه سي سي ميكستر. كان المقصد من موقع سي سي ميكستر أن يكون بمنزلة صديق للموسيقى. كان يُطلب من زواره تحميل مسارات موسيقية عليه. وبعد أن يتم استخدام تلك المسارات في عمل توليفات موسيقية، تظل المسارات الجديدة مراجع للقديمة. وهكذا يمكنك أن ترى، على سبيل المثال، أن هناك مسارًا معينًا صُنِع من الجمع بين مسارين آخرين مختلفين. ويمكنك أن ترى أن أربعة أشخاص اشتركوا معًا في صنع هذا المسار الممتزج.

كان مسار سيلفيا أو الموسيقي عبارة عن عزف لأغنية تغنى بالإسبانية، وصفت على موقع سي سي ميكستر بأنها قصة «لفتاة لا تبدل أفكارها أو أحلامها أو أسلوب حياتها بعد الارتباط بعلاقة.» غير أنه بعد مرور بضعة أيام من تحميل المسار على الموقع، قام أحد مشاهير مواطني موقع ميكستر بعمل مزيج مستخدمًا إياه؛ فحوَّل اللغة الإسبانية إلى لغة غير مفهومة (وإن كانت جميلة)، وأعاد تسمية المزيج فأسماه «معالجة للتشويه».

وبينما هي واقفة أمام أولئك الذين جاءوا للاحتفال بمنظمة المشاع الإبداعي بكولومبيا تصف هذا «التشويه»، بدأت أنا — رئيس مجلس إدارة منظمة المشاع الإبداعي — أتصبب عرقًا. كنت على يقين من أنها على وشك مهاجمة إبداع المزج؛ فهناك مازج دمر بالكامل معنى إسهامها. كنت على يقين من أن الأمر على وشك أن يتحول إلى صب اللعنات على الحرية التي كنت أظن أننا جئنا إلى هناك جميعًا كي نحتفي بها.

لكنها، لدهشتي العارمة وارتياحي طبعًا، لم تصبَّ لعناتها مطلقًا على الأمر، وإنما شرعت تصف كيف غيرت التجربة تغييرًا جذريًّا من رأيها في إبداع الموسيقى. بالتأكيد لم تعد الكلمات مفهومة، ولكن الصوت اتخذ معنًى جديدًا. وحسبما قالت لي بعدها: «صارت الأغنية أقرب إلى موسيقى الجاز، وفتحت الباب نحو فهم أنها ربما كانت أقرب إلى معاملة صوتي باعتباره آلة موسيقية، وجعله شيئًا مستقلًّا تمامًا عن كلمات الأغنية بصورة لم أعهدها من قبل.»4

وبوحي من هذا المزيج، كتبَت مسارًا آخر لكي يوضع كطبقة فوق المسار الأول. ومنذ ذلك الحين، ظلت تضيف أغنية تلو الأخرى لمجموعة سي سي ميكستر. وعلى العكس من عمل برايتز أو جيرل توك، كانت كل عمليات المزج تلك مشروعة. فلو أن «التصريح لا مناص منه من الناحية القانونية»، فإنه بالنسبة لهذا العمل، تم بالفعل الحصول على تصريح به. لقد حركت رخصة منظمة المشاع الإبداعي خط بداية حقوق التأليف والنشر عبر إجراءات تتم طواعية من قبل حائزي حقوق التأليف والنشر.

أما بالنسبة لسيلفيا أو، فإن عملية الإبداع طرأ عليها تغيير. فقبل ذلك، كانت تجلس في أحد الاستوديوهات، وتنحت العمل الذي سوف تذيعه، عملًا واحدًا متاحًا لكثيرين. أما الآن فإنها في حالة حوار مع الفنانين الآخرين، تقدم المحتوى الذين سيضيفون إليه، ثم يعيدون إضافة المحتوى من جديد. قالت لي سيلفيا: «إنني أقرب إلى من تجري حوارًا مع الموسيقيين في التو واللحظة؛ لأنني أطلق عملي وأعلم عن يقين أن كثيرين منهم لن يفهموا كلمة مما أقوله. [ولكن] صوتي ليس أكثر من مجرد آلة موسيقية تضاف إلى باقي الآلات، وهكذا فإن جميع الخيارات التي يعزفون بها صارت الآن ملكًا لهم بالكامل. وهكذا صارت هناك حرية أكثر …» وتكمل شرحها للأمر بقولها: «صوتي لم يمثل سوى شيء ضئيل؛ لقد كان مجرد جزء صغير من عملية ضخمة تحدث الآن باستخدام هذا النوع من الإبداع. لقد صرت أكثر حرية بعض الشيء؛ لأنني لم أكن أعرف كيف سيتفاعلون معه.»

وهمست لي مضيفة: «لقد أصبحت أكثر شجاعة بعض الشيء.»

•••

لو أنني طلبت منك أن تغمض عينيك وأن تفكر في «حروب حقوق التأليف والنشر»، فإن ذهنك على الأرجح لن يتجه نحو فنانين أو مبدعين من أمثال هؤلاء. إن تشارُك الملفات من ند إلى آخر هو العدو في «حروب حقوق التأليف والنشر.» الأطفال الذين «يستولون» على المادة من على الكمبيوتر هم الهدف. فالحرب لا تدور حول أشكال جديدة من الإبداع، ولا تدور حول فنانين يصنعون فنًّا جديدًا. ولم يُدفَع الكونجرس نحو تجريم جيرل توك.

لكن لكل حرب خسائرها غير المقصودة. فهؤلاء المبدعون ليسوا سوى واحد من أنماط الخسائر غير المقصودة التي تقع جراء هذه الحرب. إن التطرف التنظيمي الذي صار عليه قانون حقوق التأليف والنشر يجعل من الصعب — بل ومن المستحيل في بعض الأحيان — لنطاق عريض من الإبداع أن يوجد على نحو قانوني، ذلك النطاق الذي سيسمح به أي مجتمع حر لو أنه فكر في الأمر ولو لثانية. غير أنه في حالات الحرب على أية حال، لا يمكننا أن نسترخي. فلا يمكننا التسامح مع حالات الخروج عن القانون التي ربما تمر من وقت لآخر دون أن يلحظها أحد. فكر في «الجدة التي تبلغ من العمر ثمانين عامًا، التي جرى التعامل معها بخشونة فظة من قبل عملاء إدارة سلامة النقل»؛ وستدرك أنت أيضًا معنى هذه الحرب.

الخسائر غير المقصودة هي بؤرة اهتمام هذا الكتاب. أود إلقاء الضوء على الشيء الذي لا يرغب أينا في الخلاص منه؛ أكثر الأمور تشويقًا، وأفضل ما مكنتنا التكنولوجيا الجديدة من تحقيقه. ولو انتهت الحرب ببساطة غدًا مثلًا، فما أشكال الإبداع التي يمكننا أن نتوقعها؟ وما الخير الذي يمكننا أن نحققه، ونشجعه، ونتعلم منه؟

بعدها أود إلقاء الضوء على الأضرار التي لم نفكر فيها بقدر كافٍ؛ الضرر الذي سيلحق بجيل ما من وراء تجريم سلوكهم الطبيعي. ما الذي يصنعه هذا بهم؟ وما الذي سيفعلونه بنا بعد ذلك؟

ولسوف أجيب عن تلك التساؤلات عن طريق رسم خريطة للتغيير فيما يمكن أن نسميه ثقافات الإبداع. تبدأ تلك الخريطة مع مطلع القرن الماضي. إنها مطلية بالمخاوف مما كان يمكن وقتها أن تصبح عليه ثقافتنا. معظم تلك المخاوف ثبت أنه صحيح، لكنها تساعدنا على فهم السبب في أن الكثير مما يبدو أننا نخشاه اليوم ليس بالشيء الذي يُخشى منه على الإطلاق. إننا نشهد عودة شيء كنا عليه من قبل، وعلينا أن نحتفي بتلك العودة، وبالرخاء الذي تعد به، وعلينا أن نستعين به ليكون مدعاة لإصلاح القواعد التي تجرم ما يفعله معظم أطفالنا باستخدام حواسبهم الآلية. وأهم شيء، علينا أن نتعلم منه شيئًا ما؛ عن أنفسنا، وعن طبيعة الإبداع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤