الفصل السادس

نوعان من الاقتصاد: تجاري وتَشاركي

«الاقتصاد» عملية ممارسة للمقايضة تمول ذاتها بذاتها، أو تموَّل بمرور الوقت؛ فهو «ممارسة للمقايضة»، بمعنى:
  • (١)

    «أ» يعطي «ب» شيئًا ما.

  • (٢)

    يعطي «ب» (بشكل مباشر أو غير مباشر) شيئًا بالمقابل ﻟ «أ».

  • (٣)

    تكرار ما سبق.

ذلك «الشيء» من الممكن أن يكون ملموسًا، أو ذا قيمة اقتصادية؛ أموالًا أو ساعات عمل. أو من الممكن أن يكون غير ملموس، وبدون قيمة اقتصادية عادية؛ صداقة أو مساعدة جار في تغيير إطار سيارته. وفي الحالتين، يحدث التبادل التجاري في إطار «اقتصاد ما» عندما يكون عبارة عن ممارسة منتظمة من التفاعل الاجتماعي. فالناس يساهمون في إطار هذا الاقتصاد طالما كانوا يحصلون على مقابل كافٍ متناسب مع ما يقدمونه. وليس معنى ذلك أن الجميع يحصلون بالضبط على مقابل معادل لما يسهمون به (أو أكثر): فمن الممكن أن تعمل محامية موهوبة لصالح مكتب محاماة متخصص في الإسكان الشعبي العام، وتمنح جهدًا يفوق ما تحصل عليه كمقابل من راتب هزيل لا يسمن ولا يغني من جوع (كزوجتي مثلًا). غير أن هذا يعني أن الناس يعملون في إطار اقتصاد يقيِّم المقابل العادل — أي مقدار ما يحصل الناس عليه مقابل ما يقدمون — وأن علينا أن نتوقع أن يواصلوا التواجد في هذا الاقتصاد طالما أنهم يحصلون على ما يكفيهم كمقابل مقارنةً بما يقدمونه.

تتفاوت «الاقتصادات» وفق هذا المفهوم بطرق عدة، غير أنه في الحكاية التي سأرويها لكم سأبسط على نحو جذري وفجٍّ تلك الاختلافات، كي أتحدث عن ثلاثة أنواع فقط من الاقتصاد: الاقتصاد التجاري، والاقتصاد التشاركي، والاقتصاد الهجين من النوعين معًا.

حسبما ورد في مؤلفات كثيرين، وتحديدًا في مؤلفات الأستاذ الجامعي يوشاي بنكلر،1 فإن ما أعنيه ﺑ «الاقتصاد التجاري» هو ذلك الاقتصاد الذي يكون فيه المال أو «السعر» المصطلح المحوري المستخدم في عملية التبادل التجاري العادي أو الطبيعي. وبهذا المفهوم، فإن متجر الأسطوانات الذي يقع في المنطقة التي تقطنها جزء من اقتصاد تجاري؛ فأنت تدلف إلى المتجر فتجد أحدث ألبوم للمطرب لايل لوفيت على أسطوانات مدمجة، وتشتريه بسعر ١٨ دولارًا، وهذا المقابل هو الذي نعرِّفه بكلمة سعر. وليس معنى هذا أن السعر هو المصطلح الوحيد، أو حتى أهم المصطلحات على الإطلاق، لكنه يعني بالفعل أنه لا يوجد شيء مميز في كون السعر مصطلحًا، وأن الإصرار على أن الدفع النقدي، أو إتاحة سبيل الحصول على المنتج بمقابل نقدي ليس فيه ما يعيب.

أما «الاقتصاد التشاركي» فهو أمر مختلف. من بين جميع المصطلحات الممكن استخدامها كمعنى للمقابل في إطار الاقتصاد التشاركي، فإن المصطلح الوحيد الذي من غير اللائق استخدامه هو المال؛ فيمكنك أن تطلب من أحد أصدقائك أن يقضي معك وقتًا أكثر، وتظل علاقة الصداقة بينكما قائمة. ولو أنك طلبت منه أن يسدد لك ثمن الوقت الذي قضاه معك، فإن علاقتكما هنا لم تعد علاقة صداقة.

إذن، مرة أخرى نؤكد أنه لا يوجد غرابة في إصرار متجر وول مارت، الذي يقع بالقرب منك، على أن تنقده دولارين ونصفًا ثمنًا لزجاجة عصير. قد لا تستهويك تلك المطالبة؛ ففي رأيك أن السعر المناسب دولاران فقط، غير أن مطالبة وول مارت لك لا تنطوي على انعدام لياقة. في ثقافتنا نحن على الأقل، هذا بالتحديد هو الأسلوب المفترض من وول مارت أن يتعامل بواسطته معنا.

كما أنه لا يوجد أي أمر شاذ في أن يطالب فريق الكرة اللينة بأن يلعب كل فرد من أفراده عشر مباريات من أصل اثنتي عشرة مباراة في الموسم الواحد. مرة أخرى، قد لا يستهويك هذا الطلب؛ ربما ترغب في الغياب عن أربع مباريات بدلًا من اثنتين فقط. غير أنه لا يوجد أمر غير لائق في طلب الفريق. الحقيقة أنها طريقة معقولة تمامًا للتأكد من أن المشاركين في هذا الاقتصاد التشاركي يساهمون بجِد.

غير أنه سيكون من المستغرب جدًّا لو أن صديقًا اعتذر لك عن عدم تناول الغداء معك ثم عرض عليك ٥٠ دولارًا تعويضًا عن ذلك. ولسوف يكون من قبيل الغرابة المتناهية أن تعرض عليك صديقتك — في نهاية موعد غرامي رائع — مبلغ ٥٠٠ دولار مقابل أن تقضي معها الليلة، أو إذا طلب وول مارت من كافة عملائه «أن يجيئوا ويقدموا العون لوول مارت في كنس ما لا يقل عن رواق واحد في كل مرة يأتون فيها للتسوق»، أو إذا طلب منك ماكدونالدز «المعاونة» بأن تعده بشراء الهامبورجر منه مرة واحدة على الأقل شهريًّا؛ فالنقود في الاقتصاد التشاركي ليست فقط أمرًا غير لائق، وإنما سام أيضًا. وتقديم «المعاونة» ليس فقط أمرًا نادر الحدوث في الاقتصاد التجاري، وإنما هو شاذ لا ريب في هذا.

وفق هذا الرأي، يمكننا أن نرى أننا جميعًا نعيش في ظل العديد من الاقتصادات التجارية والتشاركية، جميعها في آن واحد. وكل واحد من تلك الاقتصادات يكمل الآخر، وتصبح حياتنا أكثر ثراءً بسبب ذلك التنوع. ولا يمكن لمجتمع أن يكتب له البقاء بنوع واحد دون الآخر. ويجب ألا يسعى أي مجتمع لذلك.

يوجد بالإنترنت العديد من الأمثلة على كل من الاقتصاد التجاري والتشاركي. وفي هذا الفصل، نطرح أمثلة على كليهما. غير أن الهدف طيلة هذا الفصل بسيط: أن نبني مفهومًا أكثر ثراءً لظاهرة أكثر تشويقًا بكثير — الاقتصاد الهجين — وهو ما سنتدارسه خلال الفصل الذي يليه.

(١) الاقتصاد التجاري

كنت وزوجتي (وكانت وقتها لا تزال خطيبتي) نتناول طعامنا في مطعم في إيطاليا. طلبت طبقًا من المكرونة بصلصة عيش الغراب، وطلبت هي مكرونة بصلصة الطماطم، وبعد أن قدم النادل الأطباق لنا، عرض على زوجتي بعضًا من جبن البارميزان، فقبلت. فقام ببشر الجبن لها ثم شرع في مغادرة مائدتنا، فأوقفته وقلت له إنني أيضًا أريد جبن البارميزان.

فرد علي قائلًا: «كلا.»

فسألته: «كلا؟!»

فقال مجددًا: «كلا، الجبن سوف يغطي على مذاق عيش الغراب.»

فجفلت قليلًا، وقلت بعد تردد: «لكن ماذا لو أنني أريد أن أغطي على مذاقه؟»

فأجابني قائلًا: «هذا ليس من شأني.» ثم انصرف.

يدرك الإنسان الكثير عن ماهيته عندما يلاحظ الأمور التي تثير غضبه، ثم يتفكر في السبب وراء ذلك. كانت تلك واحدة من هذه اللحظات. ما «الحق» الذي امتلكه هذا النادل وجعله يتدخل في الأسلوب الذي أريد تناول المكرونة به؟ لم أكن سأشكو مذاق المكرونة إلى أهل البلدة لو لم تعجبني، ولا كان من المحتمل قط أن أعود إلى تلك القرية أو إلى ذلك المطعم مرة أخرى. والحق أنه على العكس، فإن تصرفه هذا جعلني أقرر ألا أعود مطلقًا مرة أخرى إلى ذلك المطعم. لقد تجاوز النادل حدوده، ولسوف أتناول طعامي بعد ذلك في مكان آخر.

كان رد فعلي نابعًا من رأي معين كنت أعتنقه (لم أدركه في نفسي حتى تلك اللحظة) بخصوص علاقتي بأي مطعم. كانت تلك العلاقة بالنسبة لي، بالمفهوم الذي أقصده في هذا الفصل، علاقة «تجارية». لقد كانت تلك معاملة في إطار «اقتصاد تجاري»؛ فلو أن النادل قال لي: «بالتأكيد، الجبن الإضافي يكلفك واحد يورو زيادة (لكل منا أنا وزوجتي)»، لكان هذا ملائمًا تمامًا. فالسعر هو ما نستخدمه في الاقتصادات التجارية في التفاوض حول الأشياء. فإذا كان هناك شيء أريده وهم يريدون تقييمه، فدعهم حينئذ يستخدمون الأداة الأكثر انتشارًا في السوق التي تستخدم في التقييم؛ وهي النقود. فمهمة الأعمال التجارية أن تجني المال، وليس كما اعتبرها النادل، تجنب إهانة المكرونة التي نثروا فوقها فطر عيش الغراب.

بطبيعة الحال، لا أفترض أن وجهة نظري تجاه علاقتي بهذا المطعم الإيطالي الجميل هي الصواب بالضرورة. لكنني أفترض أن أي شخص يعيش في إطار اقتصاد تجاري معاصر سوف يكون له نفس رد الفعل — أو رد فعل قريب منه. تخيل عاملًا في مغسلة يرفض تنظيف كنزة قديمة قائلًا: «لقد عفى الزمن على ذلك التصميم منذ دهور مضت.» أو عاملًا في مقهى يصر على «أن تحكي له كيف كان يومك!» حتى يمكن السماح للنادل بتلقي طلباتك (ويصر العامل على ذلك مبررًا إياه بأنه «أسلوب ودود نتبعه»). جميعنا، في مرحلة ما من حياة كل منا، نستسيغ البساطة التي يتمتع بها السوق، والبعض منا (بما فيهم أنا) يتوق إلى أساليب تجعل قدرًا أكبر من حياتنا محكومًا بالمنطق البسيط للأسواق.

لو كنا في مكان نشعر فيه بوجوب هيمنة تلك البساطة على الأمور، عندما لا نشعر بتعرضنا لإهانة عندما يذكر أحدهم مسألة النقود، وحيث نقيس العلاقة بالثمن، عندها نكون في إطار «اقتصاد تجاري». إن السوق هو المحرك الذي يوجه هذا الاقتصاد التجاري؛ ولو صمم بإتقان (ما يعني أن يكون منظمًا بحيث يحمي المساهمين فيه من البطش أو التعرض للاحتيال)، فإن السوق يكون تقنية غير عادية لإنتاج الثروة ونشرها. الاقتصاد التجاري جزء جوهري من الحياة المعاصرة؛ وقد أسهم في رفاهية الإنسان ربما أكثر من أي مؤسسة أخرى أقامتها الحضارة الإنسانية. ولقد تجاوزنا بمراحل تلك النقطة التي يكون من المنطق عندها أن نعارض ازدهار السوق.

ويمثل الإنترنت جزءًا حاسمًا بالفعل من هذا الاقتصاد التجاري. والحق أنه، بالنسبة للبعض، يمثل أهم جزء فيه. لقد فجر الإنترنت فرصًا تجارية لجني الأموال عن طريق تحسينه لأداء الشركات القديمة. كما أنه أتاح كذلك قيام شركات جديدة لم يكن قبل الإنترنت من المتصور قيامها. وبينما نحن ما زلنا في بداية استيضاح المنطق الذي يجعل العمل التجاري مزدهرًا على شبكة الإنترنت، فإنه في استطاعتنا بالفعل أن نشهد أن هذا الجزء الاجتماعي من تلك البنية التحتية يقدم مستقبلًا مذهلًا للنمو والابتكار. في عام ١٩٩٤، كان هناك ١٧٠٠ اسم نطاق على الإنترنت. وبعدها باثنتي عشرة سنة، صار هناك أكثر من ٣٠ مليون اسم.2 لم تكن هناك في عام ١٩٩٤ فئة اسمها «قطاع التجارة الإلكترونية». وفي عام ٢٠٠٥، قدرت قيمة قطاع التجارة الإلكترونية بنحو ٢٫٤ تريليون دولار أمريكي: ١٫٢٦٦ مليار للتصنيع، و٩٤٥ مليار دولار لتجارة الجملة، و٩٣ مليار دولار لتجارة التجزئة، و٩٦ مليار دولار لصناعات الخدمات المنتقاة.3

فما السبب وراء نجاح اقتصاد الإنترنت التجاري؟ ولماذا حقق هذا النجاح الهائل، أو لماذا يعمل بصورة مختلفة عن الاقتصاد التجاري الواقعي؟ خلال هذا القسم من الفصل، سوف ندرس بعضًا من السمات الرئيسية التي تفسر لنا نجاحه. وهدفي هنا مناطق التميز، لا استعراض الموضوع بشمولية. كل ما أريده أن أرسم الخطوط العريضة لبعض الخصائص التي سوف تجعل العلاقات بين كل من الاقتصاد التجاري والتشاركي واضحة للعيان.

(٢) ثلاثة أمثلة ناجحة من الاقتصاد التجاري على شبكة الإنترنت

لنبدأ ببعض الأمثلة المألوفة الدالة على نجاح الإنترنت، ومنها يمكننا أن نستقي بعض الدروس الدالة على النجاح.

(٢-١) نِت فليكس

منذ أكثر من ثلاثين عامًا، في شهر نوفمبر من عام ١٩٧٦، شنت صناعة السينما الأمريكية حربًا على تقنية كانت آخذة في الانتشار كالنار في الهشيم: (ما نسميه الآن) مسجل الفيديو. وكان مسجل الفيديو مُصممًا بحيث يسجل البرامج التلفزيونية «كي تشاهَد بعد إذاعتها». كانت معظم تلك البرامج تتمتع بحماية حقوق التأليف والنشر. وكان نسخ الأعمال المتمتعة بتلك الحماية دون تصريح من حائز حقوق التأليف والنشر يعد، حسب ادعاء يونيفرسال وديزني، جريمة. ومن ثم كان مسجل الفيديو، حسب ادعائهما، أداة مصممة بحيث تيسر سبيل ارتكاب جريمة ما.

بعدها بثماني سنوات، رفضت المحكمة العليا الدعوى.4 وبنسبة تصويت متقاربة بين المؤيدين والمعارضين، حكمت المحكمة بأن مسجل الفيديو ليس بجهاز غير قانوني؛ لأنه وإن كان في الإمكان استخدامه في خرق القانون، فإنه في الوقت ذاته «قادر على أداء وظيفة لا تمثل بالأساس تعديًا على القانون.» فعلى الأقل بعض من حائزي حقوق التأليف والنشر، حسبما ذكرت المحكمة، الذين يمكن تسجيل أعمالهم على أشرطة كانوا لا يمانعون أن تسجَّل هذه الأعمال على أشرطة. (كان السيد روجرز المثال المفضل لدى المحكمة.) وبالنسبة لأولئك الذين ليسوا سعداء بكون أعمالهم تسجل، حكمت المحكمة بأنه في بعض الأحيان على الأقل، كان هذا «التحريك الزمني» للمحتوى عبارة عن «استخدام عادل» خاضع للحماية. وهكذا أنقذت تلك الاستخدامات غير المتعدية على القانون التقنية من التعرض للحظر بموجب قانون حقوق التأليف والنشر. وصار على هوليوود أن تبحث عن سبيل لكسب المال في وجود تلك التكنولوجيا.
خلال الثلاثين عامًا التي مضت منذ خسرت هوليوود تلك القضية، صار من الواضح تمامًا كم كانت محظوظة لأنها خسرت. فمبيعات الفيديو وعائدات تأجير الشرائط فاقت بكثير ما تحققه صناعة السينما من وراء عرض الأفلام في دور السينما.5 ولو كانت الاستوديوهات كسبت القضية، فلسنا نعرف بوضوح كم كان سيبلغ حجم انتشار منصة التسجيل هذه.
كان «بلوكبَستر فيديو» سببًا رئيسيًّا في أن خسارة حرب الفيديو كانت في حقيقتها انتصارًا لهوليوود؛ إذ سرعان ما حققت محلات بيع وتأجير أشرطة الفيديو التي حذت حذو بلوكبستر في جميع أنحاء العالم؛ عائداتٍ لهوليوود تفوق ما حققته أفلامها المعروضة في دور العرض. افتتح المتجر أول فروعه في دالاس عام ١٩٨٥، بثمانية آلاف شريط فيديو و٦٥٠٠ عمل فني. ونظرًا لانتشار أجهزة الفيديو، فقد صارت هناك بنية تحتية جاهزة لدعم نشاط بلوكبستر التجاري. بعدها بعامين صار هناك خمسة عشر متجرًا وعشرون توكيلًا يحملون اسمه. وبحلول منتصف عام ١٩٨٩ صار هناك أكثر من سبعمائة متجر. وبنهاية العام صاروا ألفًا.6

كان بلوكبستر ابتكارًا عبقريًّا في توزيع الفيلم السينمائي. غير أنه كان ينطوي على عيوب خطيرة. فمهما كان مقدار السهولة التي حققها في مسألة العثور على فيلم ما، كان عليك مع ذلك أن تذهب إلى أحد متاجر بلوكبستر وتتصفح داخل ما لا حصر له من الأروقة والممرات المضاءة بالنيون المليئة بأشرطة الفيديو حتى تعثر عليه. وبرغم تلك الأعداد التي لا حصر لها من تلك الأشرطة التي تملأ الممرات، فإن كل متجر كان في حقيقة الأمر يحوي نسبيًّا عددًا قليلًا من الأفلام. ومن ثم رغم وجود خيارات تفوق ما يوجد بالتلفزيون، وقدرتك على اختيار توقيت عرضها، لكنه في النهاية ليس بالاختيار الذي لا نهاية له. وبرغم أنه كان نظامًا عمليًّا، فقد كانت له عيوب.

في عام ١٩٩٧، كانت لدى ريد هاستنجز فكرة أفضل لتوصيل أفلام الفيديو إلى المستهلكين. فعوضًا عن إقامة متجر مضاء بجنون في أحد المراكز التجارية الصغيرة، فكر هاستنجز في أن الإنترنت يمكن أن يشكل وسيلة طيبة للغاية لتصفح أسماء الأفلام. والحقيقة أنه في استطاعة الإنترنت باستخدام تقنيات مواءمة الأفضليات، أن يكون أسلوبًا أفضل في التصفح بحثًا عن فيلم معين؛ لأن تلك الآلة تساعدك في العثور على ما تريده حقًّا. وهكذا بدأ هاستنجز واحدة من أشهر قصص النجاح على شبكة الإنترنت: نِت فليكس. كان المستهلكون يسددون لنِت فليكس رسمًا شهريًّا موحدًا، وفي المقابل، كان باستطاعتهم استئجار أقراص دي في دي لأفلامهم المفضلة، وكانت تلك الأقراص ترسل إليهم بالبريد، ومعها أظرف بريد عادية لإعادة الأفلام؛ وكان الاشتراك الشهري يتيح للعميل الحق في الاحتفاظ بعدد ثابت من أفلام الدي في دي. ومن هنا يمكنك الاشتراك للحصول على ثلاثة أقراص دي في دي، وتسدد نحو ١٧ دولارًا شهريًّا. وحين تطلب ثلاثة أفلام تريد مشاهدتها، ترسل نِت فليكس الأقراص إليك. يمكنك الاحتفاظ بتلك الأفلام طالما أردت ذلك (وبالتالي لا توجد غرامات تأخير). وعندما تعيد واحدًا، يرسل إليك التالي له في الطابور. كان مبعث الضيق الوحيد من هذا النظام أنه لا بد لك من وضع خطة مسبقة قبل الاستئجار بقليل. وكانت ميزته الرائعة أنك لو خططت مسبقًا بوقت قليل، فسوف تظل الأفلام قابعة في منزلك كلما أردت مشاهدتها.

أدخلت نِت فليكس تغييرًا جذريًّا على سوق تأجير أفلام الفيديو. وأبرز دليل على تأثيرها أنه في عام ٢٠٠٤، غيرت بلوكبستر من نموذجها في إدارة الأعمال كي يحاكي نِت فليكس من أجل تحسين قدرتها على المنافسة.7 واستحوذت نِت فليكس على الخدمة التي تقدمها وول مارت في هذا المجال عام ٢٠٠٥.8 وهكذا صار نموذج هاستنجز معيارًا صناعيًّا.

(٢-٢) أمازون

لعل أول الأمثلة صارخة النجاح على التجارة على الإنترنت بدأت على هيئة متجر كتب بسيط. إن أمازون التي تأسست عام ١٩٩٤ (تحت اسم كادابرا دوت كوم) وانطلقت عام ١٩٩٥ (تحت اسم أمازون دوت كوم)، شرعت في القيام بكفاءة أكبر بما سعت متاجر الكتب دومًا نحو القيام به: أن تبيع الكتب. عندما افتتح المتجر على شبكة الإنترنت، لم يكن لديه أكثر من ألفي عنوان. لكنه خلال الشهر الأول جاءته طلبيات من جميع الولايات الخمسين ومن خمس وأربعين دولة خارج الولايات المتحدة. وبلغت المبيعات في عام ١٩٩٧ ما يقرب من ١٥٠ مليون دولار. وبعدها بعامين، بلغت المبيعات ١٫٦ مليار دولار. وبعد عامين من ذلك التاريخ، وبسبب صفقات أبرمها الغير مع شركات مثل تارجت وأمريكا أونلاين، تجاوزت المبيعات رقم ٣ مليار دولار. في عام ٢٠٠٣ جاوزت الشركة حجم ٥ مليارات دولار. وفي عام ٢٠٠٦ تجاوز إجمالي المبيعات ١٠ مليارات دولار.9

ومرة أخرى، كانت لدى هذا المتجر مزايا مشابهة للغاية لتلك التي تمتع بها نِت فليكس؛ إذ بدلًا من التجوال بين مصنفات متجر بارنز آند نوبل العملاق، كان العميل يستخدم حاسبه في مشاهدة الكتب الموجودة كي يشتريها. وبدلًا من أن يستخدم العميل سيارته في حمل الكتب التي يريدها، استعانت أمازون بمصلحة البريد الأمريكية. كان رهان مؤسس أمازون جيف بيزوس على أنَّ تيسير عملية التصفح سوف يكون ميزة تتفوق على التأخير في استلام الكتب. والأهم من ذلك، أنه كان باستطاعة أمازون أن تتفوق بمراحل على أي متجر عادي مشيد من الطوب والأسمنت في حجم ما لديها من مخزون.

إلا أن نجاح أمازون لم يأتِ من تلقاء نفسه؛ فالشركة لم تتوانَ عن تشييد الابتكارات بهدف تنشيط المبيعات؛ ففي عام ٢٠٠٣ أطلقت الشركة برنامج زمالة أمازون، الذي مكَّن مواقع مستقلة من التحول إلى بائعين لحساب أمازون. يجني برنامج الزمالة عائداته من خلال إحالة المشترين من أمازون إليه. وفي عام ٢٠٠٥ أطلقت الشركة برنامج أمازون كونكت، الذي مكَّن المؤلفين من وضع تعليقاتهم على صفحات الكتب كدعاية لكتبهم. في عام ٢٠٠٦ أطلقت الشركة خدمة أمازون إس ثري، والتي تعرض من خلالها تخزين وتوزيع عرض نطاق عالي للموجودات الرقمية الكبرى. وفي يناير من عام ٢٠٠٧ بدأت الشركة أميبيديا، وهي «ويكي تعاونية للمحتوى الذي يضعه المستخدم بنفسه والمرتبط ﺑ «المنتجات الأحب بالنسبة لك».»10 وخلال عقد من الزمان مر منذ بدأ عمل موقع أمازون، قدم للسوق مجموعة غير عادية من الابتكارات. فكل شيء يفعله أمازون يهدف لتحريك المبيعات من منتجاتها بصورة أكثر كفاءة.

من بين الأساليب الفنية التي يتبعها أمازون أسلوب يحاكي تقنية الإنترنت بصفة عامة: فقد افتتح أمازون أبواب منصته ليتيح للآخرين ابتكار أساليب جديدة لبناء القيمة باستخدام قاعدة بيانات أمازون. من خلال مجموعة من الأدوات تسمى خدمات أمازون للشبكة العنكبوتية، يمكِّن موقع أمازون المطورين من بناء منتجات تتكامل مباشرةً مع قاعدة أمازون للبيانات. على سبيل المثال، استخدم مُطور اسمه جيم بيانكولو خدمات أمازون للشبكة العنكبوتية في بناء أداة مجانية لتتبع فارق السعر بين المنتجات الجديدة والمستعملة (زائد الشحن). كما استخدمت شركة تُدعى تاتشجراف خدمات أمازون للشبكة العنكبوتية في صنع متصفح منتجات بإمكانه عرض الروابط بين المنتجات ذات الصلة بعضها ببعض. وإذا دخلت على موقع على كاس صنستين، على سبيل المثال، فسوف تشاهد جميع الكتب في أمازون التي تتعلق بكتب صنستين من حيث الموضوع والاقتباس.

يبيع أمازون بعضًا من تلك الخدمات الأمازونية العنكبوتية، ويترك البعض الآخر مجانيًّا. غير أنه يطور تلك الخدمات إذا اعتقد أن هذا التطوير سوف يحرك مبيعات منتجاته، وربما حتى يلقن هذا التطوير أمازون شيئًا عن أسلوب أفضل لعرض منتجاته. وبطبيعة الحال، هو المتحكم في المنصة في نهاية الأمر. فما يضيفه الآخرون، يمكن لأمازون أن يستبعده. إن المنصة تدعو الآخرين كي يبتكروا، وإن كان ذلك بصورة محدودة. وفي هذا الابتكار فوائد تعود سواء على الآخرين أو على أمازون.

(٢-٣) جوجل

دونما شك، تعد جوجل أشهر مثال لقصص النجاح على شبكة الإنترنت. حسنت الشركة التي أسسها طالبان في ستانفورد (كان العنوان الأول للموقع http://google.stanford.edu)، فعالية عمليات البحث على الإنترنت تحسينًا جذريًّا. وبدلًا من بيع الموضع (وهو ما يمكن في كثير من الأحيان أن يفسد النتائج) أو الاعتماد على البشر في الفهرسة (وهو ما يمكن أن يكون مستحيلًا مع اتساع نطاق الإنترنت اتساعًا هائلًا)، كانت أولى خوارزميات جوجل تقوم بترتيب نتائج البحث بناءً على مدى اتصال النت بالنتائج، وهي عملية تسمى تصنيف بيدج)، ومقطع بيدج هنا (page) ليس معناه كلمة صفحة باللغة الإنجليزية وإنما هو نسبة إلى لاري بيدج، أحد مؤسسي جوجل ومبتكر هذه التقنية.11 فإذا ارتبطت مواقع كثيرة على الشبكة بموقع معين، فإن هذا الموقع يحصل على ترتيب أعلى في القائمة مقارنة بموقع آخر ليست له سوى روابط قليلة. وهكذا بنت جوجل على المعرفة التي تكشف عنها الشبكة من أجل تقديم منتج ذي قيمة استثنائية إلى الشبكة. تأسست الشركة عام ١٩٩٨. وفي عام ٢٠٠٥ بلغت القيمة السوقية للشركة ١١٣ مليار دولار؛ وفي يوليو ٢٠٠٧ ارتفعت إلى ١٦٩ مليار دولار.12

قد يقول قائل إن كل قيمة جوجل تعتمد على إبداع أناس آخرين، إن فهرس جوجل مبني عن طريق البحث والفهرسة لمحتوى أتاحه آخرون على الشبكة العنكبوتية. لكن كما شرحت من قبل، فإن القيمة الخوارزمية الأصلية بنت توصياتها على الروابط التي عثرت عليها على الإنترنت؛ وبعدها، ضبطت الخوارزمية أيضًا توصياتها بناءً على أسلوب الناس في الاستجابة للنتائج الآتية من جوجل. وفي جميع تلك الحالات، تأتي القيمة التي تنشئها جوجل من القيمة التي أنشأها آخرون من قبل.

يصل البعض إلى استنتاج شديد الحماقة من مسألة أن قيمة جوجل مبنية على محتوى أناس آخرين. على سبيل المثال، كتب أندرو كين — كما أسلفنا بالحديث في الفصل الخامس — قائلًا: «جوجل موقع طفيلي؛ فهو لا يصنع محتوًى خاصًّا به هو.»13

غير أنه بنفس المفهوم يمكنك القول بأن كل القيمة التي تحويها لوحة الموناليزا مثلًا آتية من الطلاء الذي رسمت بها، وأن ليوناردو دافنشي ليس سوى «طفيليًّا» اعتمد على العمل الشاق الذي بذله صانعو الطلاء. وتصبح هذه العبارة صحيحة من منطلق أنه لولا الطلاء، لما كانت هناك موناليزا. لكنها عبارة خطأ إذا أوحت بأن دافنشي لم يكن مسئولًا عن القيمة العظيمة التي تحملها لوحة الموناليزا.

إن جوجل، مثلها مثل أمازون، تقدم أيضًا أدواتها كي تكون منصة يبني الآخرون عليها. سوف نشهد المزيد من هذا الأمر فيما بعد ونحن نتدارس واجهات برمجة التطبيقات التي صنعتها جوجل. والأمر الذي نجحت فيه جوجل أكثر من أي جهة أخرى، أنها شيدت شركة إعلانات في قلب تقنيتها. فصفحات الإنترنت يمكن تزويدها بإعلانات منتقاة بذكاء شديد؛ ويستطيع المستخدمون شراء عمليات بحث في جوجل من أجل الترويج لمنتجاتهم.

إن النطاق الكامل لمنتجات جوجل نطاقٌ شاسع. غير أن واحدة من بين كل تلك السمات تعد محورية بالنسبة للحجة التي أود طرحها ها هنا. فمن الوجهة العملية، كل شيء تقدمه جوجل يساعد جوجل على بناء قاعدة بيانات غير عادية من المعرفة بما يريده الناس، ومدى ارتباط تلك الرغبات بالشبكة العنكبوتية. فكل نقرة تنقرها في عالم جوجل تضيف شيئًا إلى تلك القاعدة. ومع كل نقرة، تصبح جوجل أكثر ذكاءً.

(٣) ثلاثة مفاتيح لتلك النجاحات الثلاثة

تكشف تلك القصص الثلاث المألوفة عن النجاح في الإنترنت عن ثلاثة مفاتيح للنجاح في هذا الاقتصاد الرقمي.

(٣-١) الذيول الطويلة

قد يكون أول تلك المفاتيح الثلاثة هو أشهرها جميعًا. فكل واحدة من تلك النجاحات الثلاثة على شبكة الإنترنت تستفيد من مبدأ أدركه جيف بيزوس مؤسس أمازون في عام ١٩٩٥، وصاغه كريس أندرسون، رئيس تحرير مجلة «وايرد»، في قالب رسمي عام ٢٠٠٥ في كتابه «الذيل الطويل».14
ينص مبدأ الذيل الطويل على أنه مع تدني تكلفة المخزون السلعي، يرتفع النطاق الكفء لذلك المخزون. ومع هبوط تكاليف المعاملات بصفة عامة إلى الصفر، يرتفع المخزون الكفء إلى ما لا نهاية. أو لنقلها بشكل مختلف، كلما قلَّت تكلفة الاحتفاظ بكتاب أو قرص دي في دي معين في المخزون، زاد عدد الكتب أو أقراص الدي في دي التي يمكن لشركة معينة أن تحتفظ بها بصورة مربحة. وهكذا يمكن لأمازون أن تقدم لعملائها المزيد من الكتب بما يفوق ما تستطيع أي مكتبة عادية من الموجودة في الشوارع أن تقدمه؛ حيث إن في استطاعة أمازون تخزين تلك الكتب بكفاءة في مواضع تخزين سلع موجودة في أنحاء البلاد. والأهم من ذلك، أن حصة كبيرة من أرباح أمازون مصدرها مصنفات غير متاحة في أي مكان آخر. كانت تقديرات كريس أندرسون تشير إلى أن ٢٥٪ من مبيعات أمازون مصدرها ذيلها (حيث يعبر الذيل عن منتجات غير متوفرة في المكتبات العادية). وبصورة أكثر تعميمًا، تبين البيانات الحالية لدى رابسودي، ونِت فليكس، وأمازون أن الذيل مسئول عمَّا بين ٢١٪ و٤٠٪ من السوق.15 نِت فليكس تحقق الربح بنفس الطريقة. إن نِت فليكس تقدم اليوم على موقعها على الإنترنت خمسة وسبعين ألف عنوان (حوالي اثني عشر ألفًا عام ٢٠٠٢) في أكثر من مائتي لون موسيقي. وقدمت بلوكبستر من سبعة آلاف إلى ثمانية آلاف عنوان عام ٢٠٠٢.16
يستفيد من ديناميكية الذيل الطويل أولئك الذين تتركز أعمالهم في شريحة متميزة من السوق. لقد صار متاحًا الآن نطاقٌ فسيح من الأفلام والكتب، أكثر من أي وقت مضى في تاريخ الثقافة. إن التكلفة المتدنية للمخزون السلعي معناها اختيار أوسع نطاقًا. والاختيار الأوسع نطاقًا يعد ميزة عظيمة بالنسبة لأولئك الذين تتنوع أذواقهم.17
أولئك الذين يتشككون في أهمية الذيل الطويل سرعان ما يزعمون أن حجم التجارة الذي يتحقق من خلال الذيل الطويل ضئيل مقارنة بالسوق عامةً. فوفق حسابات أندرسون تأتي ٢٥٪ من مبيعات أمازون من ذيلها؛ غير أن لي جوميز المحررَ بِوُول ستريت جورنال يعلق على ذلك قائلًا، «باستخدام تحليل آخر لتلك الأرقام … يمكنك أن تبين أن ٢٫٧٪ من المؤلفات التي تبيعها أمازون تحقق نسبة هائلة من إيراداتها تبلغ ٧٥٪.»18

غير أنه تغيب عن هذا النقد نقطتان مهمتان؛ أولاهما: أن كل الحراك الذي تتسم به السوق إنما يجري عند الهامش. فمثلما هو الحال مع العدَّائين في سباق مائة متر عدْوًا، قد لا يتجاوز الفارق بين صاحبي المركزين الأول والأخير ٠٫٢ من الثانية. لكن هذا هو الفارق الذي يعنينا، والفارق الذي تحققه مبيعات الذيل الطويل سوف يحدث تأثيرًا كبيرًا عند الشركات التي تصارع على المنافسة على المراكز الأولى.

النقطة الثانية، والأهم: أن اتساع تلك السوق سوف يدعم تنوع الإبداع الذي لن يسعه سوى أن يلهم نطاقًا أوسع من المبدعين. ولأسباب تقع في مركز القلب من هذا الكتاب، فإن إلهام الناس كي يبدعوا أكثر أهم من مسألة ما إذا كنت أنت أو أنا نهوى الإبداع الذي كنا ملهميه أم لا.

ولعل أفضل برهان على هذا يأتي من مثال آخر يزداد نجاحًا يومًا بعد يوم على اقتصاد الإنترنت هذا، وقد بدأه أحد رواد الأعمال الذين لعبوا دورًا محوريًّا في تحويل نظام تشغيل يسمى لينُكس من مجرد هواية إلى نشاط تجاري: شركة رد هات ومؤسسها روبرت يونج. بعد أن اشتهرت رد هات عام ١٩٩٩، واصل يونج مسيرته ليبدأ فكرته العظيمة التالية: مؤسسة «لولو»، شركة تكنولوجية تساعد الناس على «نشر وبيع أي نوع من المحتويات الرقمية».

تهدف لولو إلى التفوق على أمازون، لكن بطريقة مختلفة عن طريقة أمازون، فهي تهدف إلى أن «تضع كل الكتب في مكتبة لا تتواءم مع مجال عمل أمازون.»19 والسوق المستهدفة ليست ذلك القطاع المميز الذي يخدمه ذيل أمازون الطويل، ولكنها «سوق لشريحة صغيرة الحجم» ليست في متناول يد حتى أمازون نفسها. وحسبما أخبرني يونج: «نموذج أعمال أمازون مبني على نموذج الأعمال الحالي لصناعة نشر الكتب. أما نموذج أعمال لولو فنموذج مختلف تمامًا قائم على الإنترنت والذي … لا ينظر حتى إلى ما تفعله صناعة النشر.»

تقوم لولو بهذا عن طريق العمل بجد على تثقيف المؤلفين وتعليمهم أفضل الطرق لتأليف كتب قادرة على المنافسة. ويشرح يونج الأمر لي بقوله: «لو أنك تكتب رواية بوليسية بطلها مخبر بوليسي، فإنك بذلك تنافس أجاثا كريستي، فعليك أن تتبين ما طبيعة كتابك.» ويطرح لولو على مؤلفيه السؤال التالي: «ما الذي يجعل روايتك البوليسية تباع؟ هل بها شيء متميز؟»

ليس هدف لولو نشر ثقافة مجانية، لو كان معنى ذلك الثقافة التي لن تدفع مقابلها شيئًا.20 قال لي يونج: «إننا نعتقد أن التشارك يسير. أما الأمر الصعب فهو تمكين الناس من الحصول بالفعل على مال يسدد لهم مقابل المحتوى الذي أنتجوه.» إن اهتمام لولو لا ينصب على جميع «التسعة والتسعين من أصل مائة» مؤلف الذين ترفض سوق النشر التقليدية نشر مؤلفاتهم. وإنما ينصب تركيزها على «تسعة وأربعين من أصل مائة»: أي أولئك الذين «لديهم بالفعل شيء له قيمة يقولونه ويجب أن تكون لهم سوق.» أولئك أناس:

يكتبون من أجل سوق بالغة الضآلة أو يكتبون كتابًا آخر حول موضوعٍ نشر الناشرون حوله كتابًا بالفعل. في أي السبيلين، لا يرغب الناشر فيه لأنه لا يرى أنه سيحقق ربحًا من ورائه. ليس … لأنه كتاب سيئ؛ إنه يقر بأنه كتاب ذو قيمة، كل ما هنالك أنه لا يرغب في نشره لأنه نشر بالفعل كتابين آخرين [وليكن مثلًا] عن البرمجة بلغة جافا؛ لذا فإنه ليس راغبًا في نشر كتاب ثالث.

مرة أخرى، الحراك هنا يجري على الهامش، وما سيجعل لولو تحقق النجاح في مجال أخفقت فيه المطابع التي أصابها الغرور، ليس الكفاءة التي يمكن أن ينتج بها العمل الإبداعي ويوزع على امتداد الذيل الطويل. إن يونج مفتون بالتحدي الكامن في البيع على امتداد الذيل. لن يتم الأمر من تلقاء نفسه، بل الأمر يستلزم بذل عمل شاق من كل من لولو والمؤلف. إن النجاح مخلوق يُصنَع؛ فليس هناك «عصا سحرية للذيل الطويل» لتحقق النجاح لكل من هب ودب.

غير أن عاقبة نجاحه سوف تتمثل في ظهور نطاق أوسع كثيرًا من المبدعين. وهذه هي أهم العواقب التي يعنى بها المجتمع بشكل عام. وتمامًا مثلما أضفى جيفرسون رومانسية على المُزارع الكادح، الذي يعمل في قطعة صغيرة المساحة من الأرض يملكها في ظل اقتصاد يحكمه العمل الشاق والتخطيط المتأني، وتمامًا مثلما أضفى سوزا رومانسيته على الموسيقي الهاوي؛ قصدت أنا أن أضفي شاعرية على المبدع الكادح. في كل حالة من تلك الحالات، كان في إمكان الناقد أن يزعم بأن من الأفضل إنتاج المنتج في مكان آخر؛ أي إن المَزارع الكبرى أفضل، أو أن وضع مرشحات لفرز الأعمال المطروحة للنشر معناه ظهور أعمال منشورة أفضل. غير أنه في كل حالة من تلك، غاب عن ذهن الناقد أمر من الأهمية بمكان: مقدار ما يجريه نظام حياة الشخص الكادح من تغيير على حياته كمواطن. إن الذيل الطويل يمكِّن قطاعًا أوسع من الناس من التحدث. وأيًّا كان ما سيقولون، فهو أمر طيب للغاية؛ فالكلام يعلم المتكلم، حتى وإن كان كل ما يصدره لا يزيد عن كونه ضجيجًا.

(٤) الأخ الأصغر

إلا أن الذيل الطويل وحده ليس كافيًا لتفسير النجاح العظيم الذي حققته أمازون ونِت فليكس وجوجل عالميًّا؛ فلا يكفي أن تكون تلك الأشياء متوفرة وحسب. لا بد أيضًا من وجود أسلوب كفء للمواءمة بين العملاء وبين الأشياء الموجودة في الذيل الطويل؛ فقد أكون راغبًا بحق في الشراء، لكنني لست مستعدًّا للتنقيب في ١٠ ملايين كتاب فوق رف أمازون حتى أعثر على ما أتوق لشرائه. ينبغي على أمازون (وكذلك نِت فليكس وجوجل) أن تقوم بهذه المهمة نيابة عني. وكل واحدة من تلك الشركات تجيد القيام بذلك عن طريق التجسس على كل حركة أقوم بها. فهناك أخ أصغر (تيمنًا بالأخ الأكبر الذي ورد في رواية جورج أورويل بعنوان ١٩٨٤) يعرف ما يحتمل أن أشتريه، ومن ثم يوصيني بأشياء جديدة بناء على ما جناه من معرفة بي.

بطبيعة الحال، جمع البيانات عن العملاء ليس بالأمر المستحدث. غير أن محور كفاءة هذا الأخ الأصغر أنه يعتمد على مبدأ كان أول من وصفه دان بريكلين أحد مبتكري برنامج «فيزيكالك» في مقال بعنوان «وفرة المشاع».21

كان الملهم لمقال بريكلين مساجلة خاضها مع أولئك الذين قالوا إن نابستر حققت نجاحًا فائقًا لأنها كانت تقنية من نوع الند للند. أما حسب زعمه، فإن نجاح نابستر لم تكن له أية علاقة بمسألة الند للند. أولًا: لم تكن المنظومة في حقيقة الأمر تقنية ند للند. وثانيًا: أن عدم استخدامها لمعمار الند للند ربما كان بالفعل استراتيجية تقنية أفضل لخدمة الغايات التي سعت إليها نابستر.

دفع بريكلين بأن نجاح نابستر لم يجئ نتيجة لتصميم تقني معين، وإنما جاء نتيجة معمار أوجد القيمة ﮐ «ناتج ثانوي» لحصول الناس على ما يريدون. فعندما قمت أنت بتنصيب برنامج نابستر على حاسبك، فإنه على نحو تلقائي جعل الموسيقى الموجودة على حاسبك قابلة للتداول مع الغير. وكلما انضم مزيد من الناس للموقع، تحسنت «قاعدة البيانات». وحين يضيف مستخدم نابستر محتوًى جديدًا لمكتبته عن طريق، مثلًا، اقتطاع جزء من قرص مدمج، «فإن وضع النسخة داخل دليل الملفات الموسيقية المتشاركة مع الغير، يمكنه بذلك أن يكون منتجًا ثانويًّا طبيعيًّا لعمله العادي الذي يمارسه على الأغنيات.»22 «وزيادة قيمة قاعدة البيانات عن طريق إضافة المزيد من المعلومات ناتج ثانوي طبيعي لاستخدام الأداة لمنفعتك الخاصة.» فتفسير النجاح غير العادي لنابستر أنه «لا توجد بالضرورة دوافع إيثارية للمشاركة».

أثار بريكلين نفس النقطة عن خدمة تسمى قاعدة بيانات الأقراص المدمجة. أنشئت قاعدة بيانات الأقراص المدمجة في الأساس على يد متطوعين أرادوا الحصول على وسيلة بسيطة لتتبع المعلومات المتوفرة عن موسيقاهم. إن الأقراص المدمجة تحدد لكل مسار موسيقي رقمًا إلى جانب إجمالي زمن المسار. غير أنه باستخدام تقنيات التوقيع المشفر، يصير من السهل إلى حد ما الحصول على توقيع فريد لكل أغنية على أي قرص مدمج. وباستخدام هذا التوقيع، يمكن لقاعدة بيانات الإنترنت التعرف بسهولة على الأغنية التي فوق قرصك المدمج، إذا كان توقيع تلك الأغنية دخل بالفعل على قاعدة بياناتك بجانب معلومات عن اسم الأغنية، واسم المطرب … إلخ. ومن ثم، عن طريق جعل الناس يضيفون تلك المعلومات إلى قاعدة البيانات، تصبح قاعدة البيانات ذات قيمة أعلى للجميع.

لاحظ وجود نتيجة طبيعية لقانون تصميم بريكلين، أشار إليها أحد المعلقين على المقال الأصلي لبريكلين؛ وهو إيفان ويليامز: فأنت تصمم قاعدة البيانات بحيث يستخدم الناس البيانات التي يدخلونها، وبهذا فأنت تعظِّم الحافظ لديهم كي يضعوا البيانات الصحيحة.23 وهذا هو ما تفعله آي تيونز التابعة لأبل في الوقت الراهن. فإذا وضعت قرصًا مدمجًا داخل حاسبك الممكَّن من الدخول على متجر آي يونز، فسوف يبدأ في تشغيل برنامج آي تيونز. وإذا اتصل برنامج آي تيونز بالإنترنت، فسيقوم بعد ذلك بمقارنة معلومات المسار الآتية من القرص المدمج بقاعدة بيانات الأقراص المدمجة (التي صارت الآن تحمل اسم) «جريسنوت». وإذا عثرت القاعدة على القرص المدمج، فإنها بعد ذلك تستعيض عن أسماء المسار ١ و٢ غير المشوقة التي يحملها القرص المدمج ذاته بمعلومات عن الفنان والمسار. لكنها إذا لم تعثر على معلومات عن المسار، فإنها تبلغك، وتدعوك لإدخال البيانات بنفسك.

بمجرد إدخالك البيانات، يقدم لك آي تيونز بعد ذلك أسلوبًا مبسطًا لإرسال تلك البيانات إلى جريسنوت. وتتخير جريسنوت إما أن تقبل المعروض عليها أو لا تقبله، ولكن النقطة هنا أن جريسنوت تعلم (لأنها تقوم بترشيح المدخلات من خلال خدمات مثل تلك) أن البيانات التي أدخلتها على الأرجح سليمة. إن مهمة إدخال البيانات مهمة ثقيلة بالأساس؛ وربما كان الأشق منها هو إدخال بيانات زائفة، وتقديمها، ثم بعد ذلك إدخال البيانات الحقيقية. وما من شك أن باستطاعة جريسنوت الاحتفاظ بالمدخلات حتى تحصل على البرهان المؤكد.

النقطة الحاسمة مرة أخرى أن تصميم جريسنوت هو الذي يدفعنا إلى تقديم بيانات قيمة، وليس مجرد حبنا لجريسنوت أو آبل. إن التصميم «يضيف … قيمة إلى قاعدة البيانات بدون [إضافة] أي جهد إضافي [على عاتق المستخدم].»24

لعل أفضل مثال على هذا النوع من خلق القيمة كمنتج ثانوي (نظريًّا على الأقل؛ إذ لم يسمح المحامون مطلقًا باستمرار هذا النظام) كان طموح شركة «إم بي ثري دوت كوم»، تلك الشركة التي تعرضت لمقاضاة عنيفة. لقد أراد مايكل روبرتسون، مؤسس الشركة، أن يعيد صياغة عالم الإنتاج الموسيقي عن طريق إيجاد سبل أفضل لتسويق فرق جديدة للعملاء الحاليين. ولما كان مؤمنًا بشدة بفاعلية الأخ الأصغر، اعتقد روبرتسون أن أفضل سبل التسويق أن تفهم عملاءك فهمًا بارعًا. ومن بين سبل فهم عملائك فهمًا بارعًا (أو بأبرع ما يستطيع البشر) أن تشاهد ما لديهم بالفعل من أشياء.

كان لدى روبرتسون أسلوب عبقري لمعرفة هذا الأمر تحديدًا. لقد قدم للعملاء شيئًا كانوا يريدونه مقابل أن يقدموا هم له شيئًا كان في حاجة إليه.

كانت الخدمة التي قدمها لهم اسمها ماي إم بي ثري دوت كوم. كانت تلك الخدمة تعد بمنح العملاء إمكانية الوصول إلى «موسيقاهم» التي يهوونها أينما كانوا. ولكي يقوموا بذلك، لا يحتاج العملاء سوى أن يبينوا ﻟ «إم بي ثري دوت كوم» ما نوعية «الموسيقى التي يحبونها». كان على العميل أن يقدم قرصًا مدمجًا (من المفترض أنه) يمتلكه إلى برنامج يسمى «بيم إت». ويتعرف بيم إت على القرص المدمج ويبلغ إم بي ثري دوت كوم بهويته. وبعدها تقدم إم بي ثري دوت كوم للمستخدم طريق الوصول إلى تلك الموسيقى أينما كان (على شبكة الإنترنت على أقل تقدير). وهكذا فإنه في مقابل معرفة نوعية الموسيقى التي لدى العميل، منحت إم بي ثري دوت كوم لأولئك العملاء سبيل الوصول لموسيقاهم المفضلة أينما كانوا. وبعدها، وباستخدام مجموعة بيانات التفضيلات التي جمعتها إم بي ثري دوت كوم، يصير في إمكان الشركة التنبؤ أي من كتالوجاتها من المرجح أن تستهوي عملاءها. وهكذا فإنها إذا رأت أنني أحببت المطرب لايل لافيت، ثم رأت أنني أحب كذلك واحدًا من فنانيها الجدد، فإنه يصبح لديها حينذاك مبرر قوي لمحاولة الترويج لذلك الفنان الجديد لدى آخرين يحبون لايل لافيت. (بطبيعة الحال، أسلوب الحساب الجبري الحقيقي أكثر تعقيدًا بكثير من هذا؛ لكن تلك هي فكرته الأساسية.)

ومن جديد نؤكد أن هذا التصميم كان من شأنه أن يحقق النجاح؛ لأنه لا يطلب من عملائه شيئًا أكثر من بذل مجهودهم المعتاد الذي يبذلونه من أجل الحصول على ما يريدون. ومن هنا سوف يجمع بكفاءة البيانات الضرورية من أجل إنجاح العمل. كانت هذه القدرة على جمع البيانات بكفاءة السبب الرئيسي وراء قدرة شركات الإنترنت على هزيمة نظيراتها من الشركات المعتادة قاطنة البنايات الأسمنتية. فكر فقط في الامتعاض الذي سيصيبك لو أن متاجر بارنز آند نوبل العملاقة عينت موظفين يتتبعونك أينما ذهبت، ليدونوا أسماء الكتب التي تتطلع إليها والتي ابتعتها. غير أن هذا هو بالضبط ما تستطيع أمازون عمله ببساطة عن طريق التصميم البارع لنظامها.

الأمثلة الثلاثة التي قدمتها جميعها على نجاحات الإنترنت تعتمد على رؤية بريكلين الثاقبة في تغذية الأخ الأصغر، غير أن أيًّا منها لم يحظ بالقدر من الشمول الذي حظيت به جوجل. فكل منتج من منتجات جوجل مصمم بحيث يمنح المستخدم ما يريده، وفي الوقت نفسه، يجمع بيانات تحتاج إليها جوجل. إنك لا تملك خيارًا بشأن مساعدة جوجل كلما استخدمت محرك بحث جوجل. إن بحثك هبة تقدمها للشركة إضافة إلى كونه شيئًا ثمينًا بالنسبة لك. إن الشركة ترسل إليك منتجًا بكفاءة، وتعرف عنك معلومات من خلال ذلك بأسلوب يتسم بالكفاءة المتناهية.

هناك كثيرون أزعجهم الأخ الأصغر. وصف الأستاذ الجامعي جف روزن ذات مرة الرعب والغضب الذي شعر به لدى معرفته أن أمازون «تراقب» ما يبتاعه من كتب كي توصيه بشراء كتب جديدة. عندما استمعت إلى ذلك الوصف، أدركت أن واحدًا منا ينتمي إلى كوكب آخر. ما من شك أن أمازون ربما كانت تسيء استغلال البيانات التي تجمعها. لكن لديها في الوقت نفسه، دون شك، حافز هائل كي تقوم بذلك. (على عكس الحكومة الأمريكية، لو أن أمازون أفسدت الأمور، فإن باستطاعتي أن أتعامل مع غيرها من الشركات.) على أي الأحوال، ليس الأمر كما لو أن جيف بيزوس يقرأ طلبياتي (بشكل شبه يومي). إن بعض الحاسبات في مكان ما تستجيب ببساطة للمدخلات التي تجمعها مني. ورغم أنني قد أهتم كثيرًا بما يعتقده جيراني، أو طلبتي، أو أصدقائي بشأني، فإنني لا أهتم ولو للحظة بما تعتقده بعض الحاسبات بشأن أذواقي في الانتقاء.

ليس معنى ذلك أن نقول إنه لا ينبغي علينا الاهتمام بالكيفية التي تستخدم بها تلك البيانات. فعندما طالبت حكومة الولايات المتحدة جوجل بأن تزودها بنتائج تحريات البحث المتعلقة بالأفلام الإباحية في سياق دفاع الحكومة عن قانون حماية الطفل على شبكة الإنترنت، قاومت جوجل الطلب بضراوة في ساحات المحاكم، ولا شك أنه كان من بين دواعي ذلك أنها لم تشأ أن يعتقد مستخدموها أن كل عملية بحث سوف تكون متاحة أمام الحكومة.25 وبالمثل، اتخذت الشركة مؤخرًا خطوات نحو التجهيل الجزئي للبيانات التي تحتفظ بها؛ حتى تتجنب مطالبات مثل تلك في المستقبل، واستجابة منها لانتقادات حادة من قبل جماعات مناصرة الاحتفاظ بالخصوصية، التي تدعي أن قاعدة بيانات جوجل هي في حقيقتها قنبلة موقوتة معدة لتدمير الخصوصية.

هذه مخاوف تتسم بالأهمية، غير أنها ليست في دائرة ما أردت التركيز عليه ها هنا. غير أنها تشدد على سمة محورية في تصميم اقتصاد الإنترنت الناجح: بناء تقنية لتغذية الأخ الأصغر بفضلات البيانات التي لا يمانع العملاء في تقديمها. (لا بأس، هذا التشبيه يبدو مقيتًا، غير أنه يوضح النقطة التي أود طرحها.)

(٤-١) الابتكار بأسلوب مجزأ

السمة الأخيرة التي أود إلقاء الضوء عليها بخصوص تلك النجاحات الثلاثة على الإنترنت هي في نهاية المطاف السمة التي تعمم الإنترنت نفسه. فكل تلك الشركات الناجحة الثلاث على شبكة الإنترنت تبني قيمتها بصورة جزئية عن طريق السماح للغير بالابتكار على منصاتها. إن السمة الوظيفية تتحول إلى ما يشبه مكعبات الليجو: إنها تتحول إلى قالب يمكن للغير إضافته إلى مواقعهم على شبكة الإنترنت أو إلى أعمالهم الخاصة.

نِت فليكس تقوم بذلك بأقل قدر من بين الشركات الثلاث، لكنها مع ذلك تقوم به. (كانت الشركة موضع لوم أحد كبار المدونين على الإنترنت عام ٢٠٠٤ لإخفاقها في تقديم واجهات تطبيقات.26 وهي تستجيب لكن على نحو بطيء.) إن هدفها أن «تحسن من دقة التنبؤات بشأن قدر إعجاب شخص ما بفيلم سينمائي بناءً على الأفلام التي يفضلها.»27 ومن أجل تحقيق تلك الغاية، تدير نِت فليكس برنامج «جائزة نِت فليكس»؛ حيث تعرض جائزة كبرى قدرها ١ مليون دولار على أي شخص يطور نظامها الخاص بنسبة تزيد على ١٠٪. ولتمكين تلك المنافسة من أن تحدث، تشاركت نِت فليكس مع الغير في «الكثير من بيانات التقييم مجهولة المصدر». كذلك تقدم الشركة المزيد يومًا بعد يوم من خلال تلقيمات آر إس إس مدخلًا نحو الوصول لمعلومات التقييم المتعلقة باختيارات مستخدميها.
تقوم أمازون بذلك من خلال خدمات أمازون للشبكة العنكبوتية. كما تفعل جوجل ذلك ربما بمعدل يفوق الجميع، من خلال واجهات برمجة تطبيقات جوجل التي تشجع ما صار يعرف باسم «مزيج جوجل». ويصف دون تابسكوت وأنتوني ويليامز مثالًا على مزيج جوجل في كتابهما «ويكينوميكس» على النحو التالي:

في مايو من عام ٢٠٠٥، كان بول ريدميشر يسعى للعثور على مسكن في وادي السليكون؛ حيث حصل على وظيفة في شركة دريمووركس أنيميشن لأفلام الرسوم المتحركة. أصابه الضجر من أكوام خرائط جوجل التي جمعها لكل منزل أراد مشاهدته؛ لهذا أنشأ موقعًا جديدًا يجمع بمهارة بين قوائم خدمة الإعلانات المبوبة المعروضة على موقع كريجزليست وبين خدمة خرائط جوجل. تخير مدينة وحدد نطاق السعر، فتبرز لك خريطة مثبت فوقها دبابيس مكتب تبين لك موقع ووصف كل مكان معروض للإيجار. وأطلق على إبداعه هذا اسم خرائط الإسكان.

برغم كونها أداة نافعة لمساعدة من يبحثون عن مكان للسكنى، فإنها من الظاهر تبدو بالكاد طفرة غير مسبوقة في هذا المجال. ومع ذلك، سرعان ما صار موقع بول ريدميشر عنوانًا بارزًا لما صارت عليه الشبكة العنكبوتية الحديثة، ليس بسبب طبيعته في حد ذاتها وإنما بسبب الطريقة التي أُنشئ بها. كانت خرائط الإسكان واحدة من أولى خلطات الإنترنت.

ظهر مزيج خرائط جوجل، على سبيل المثال، كي تصنع كل شيء بدءًا من التحديد الدقيق لمواقع ارتكاب جرائم بعينها، إلى التجوال حول منازل المشاهير، إلى تمكين مهووسي اللياقة البدنية من قياس المسافة التي قطعوها عدوًا يوميًّا. ولأولئك الباحثين عن أرخص الأسعار، هناك موقع تشيبجاس، وهي خدمة تمزج بين خرائط جوجل وجاسبادي كي تحدد لهم مواقع محطات البنزين التي تقدم أدنى أسعار للبنزين.28

كثيرًا ما يكون التكامل شفافًا (ما معناه، بالأسلوب العجيب الذي تعمل به الكلمات، أنك لا تستطيع أن ترى الآليات التي تربط خدمة ما بشركة أخرى). غير أنه يمكِّن العديد من المواقع المختلفة من التشارك في أداء وظيفي قوي. فلم يعد كل إنسان مضطرًّا لإعادة اختراع العجلة من جديد وحسب، وإنما هو غير مضطر لبنائها من الأساس؛ فخدمات الشبكة العنكبوتية تمكننا من الابتكار وبناء ما يمكن أن يتم التشارك فيه بين العديد من الكيانات المختلفة.

هذا النمط سوف ينمو نموًّا هائلًا مع اتباع المزيد من الشركات نفس المسار. فعندما تتجه إلى مدونة على سبيل المثال، ربما تم التعامل مع التعليقات بواسطة شركة متخصصة في التعليقات (وهو شيء يفرضه وجود مرسلي البريد المزعج الأشرار). أو عندما تجيب على أسئلة استفتاء مطروحة على أحد المواقع، سوف يكون هناك موقع آخر على الشبكة هو الذي يجري الاستفتاء بالفعل. لكن سواء كان مرئيًّا أم لا، فإن التأثير سوف يكون بالغ القوة. إن تلك التقنيات سوف تخفِّض تخفيضًا جذريًّا من تكاليف ممارسة الأعمال التجارية داخل هذا الفضاء التجاري الذي تتزايد أهميته يومًا بعد يوم.

الابتكار المجزأ ليس سوى واحد من مكونات ما كان تيم أوريلي أول من أطلق عليه اسم «الويب ٢»،29 وربما يكون هو أكثرها أهمية في نهاية الأمر؛ إذ إنه يبين كيف أن الإنترنت مؤهل بشكل فريد لاستغلال عقيدة عامة في الاقتصاد، وكيف يستفيد الإنترنت من مبدأ التحول إلى الديمقراطية الذي يعد سمة مميزة له. وسوف نتناول هذين الأمرين بالدراسة تباعًا.

(٤-٢) الاقتصاد

في عام ١٩٣٧ كان رونالد كوز الحائز على جائزة نوبل يتساءل عن سبب وجود الشركات في سوق حرة.30 فإذا كان لب السوق يقوم على أنه من الواجب تخصيص الموارد حسب السعر، فلماذا داخل الشركة لا يكون السعر هو ما يحدد من يحصل على ماذا؟ فداخل الشركة الفيصل هو أمر «المدير». ومن ثم بدت الحياة داخل الشركة أشبه ﺑ «التخطيط الاقتصادي» الذي تشتهر به الشيوعية أكثر من منافسة السوق. لماذا؟ لماذا لم تُبْنَ الشركات على نسق الأسواق الحرة؟
كانت الإجابة في «تكلفة المعاملات»؛ فالذهاب إلى السوق يكلفك الكثير: وقتًا، وتكاليف المساومة، وتكاليف رأسمالية … إلخ. وكان منطق كوز أن هذه التكلفة من شأنها أن تساعد على تفسير حجم الشركة. فالشركة سوف تتجه للسوق كي تحصل على منتج عندما يكون القيام بذلك أرخص لها من إنتاج المنتج داخلها. وسوف تنتِج المنتج بداخلها عندما تكون تكاليف السوق باهظة للغاية. ويلخص يوشاي بينكلر تلك النقطة بقوله:
يلجأ الناس إلى الأسواق عندما تكون المكاسب من وراء ذلك — أي صافي الربح بعد خصم تكلفة المعاملات — أكبر من المكاسب التي تعود عليهم من وراء صنع نفس الشيء داخل جهة عمل تابعة لهم؛ أي صافي تكلفة تنظيمها وإدارتها. إن الشركات الجديدة تظهر عندما يكون العكس هو الصحيح؛ أي إن تكلفة المعاملات يمكن خفضها بأفضل سبيل، عن طريق جعل النشاط يتم داخل ظروف خاضعة للتحكم لا تتطلب معاملات فردية من أجل تخصيص ذلك المورد أو بذل هذا الجهد.31

يستتبع تلك الرؤية التحليلية أنه مع هبوط تكلفة المعاملات، لو ظلت باقي الظروف متساوية، فإن مقدار ما يتم إنجازه داخل محيط شركة ما سوف ينخفض هو أيضًا. وسوف تعتمد الشركة على الشراء من خارجها بمعدل أكبر. سوف تركز في عملها الداخلي على الأشياء التي تبرع في أدائها (بما يعني أنها أكثر كفاءة فيها من السوق).

الابتكار المجزأ ببساطة عبارة عن تطبيق معماري فوري لتلك الفكرة الاقتصادية. فمن خلال المعمار الذي يجعل الويب ٢ ممكنًا — بما يشمل ما يطلق عليه كثيرون خدمات الشبكة العنكبوتية — تنخفض تكاليف معاملات التعهيد (أي الاعتماد على جهات خارجية) في التشغيل انخفاضًا رهيبًا. لماذا تحصل الأموال بنفسك — معرضًا نفسك وشركتك لمخاطر التعرض للاحتيال، على سبيل المثال — بينما في إمكانك ببساطة التعاقد مع باي بال؟ ولماذا تشغل الخوادم التابعة لك بينما هناك جهة يمكنها بالفعل أن تقدم هذه الخدمة طوال الوقت بأجهزتها؟ هناك بعض المجالات، كالأمن القومي مثلًا، التي تبتعد بطبيعتها عن ذلك النوع من الاعتماد على جهات خارجية. ولكن النقطة البديهية أنه من المنطقي أن عدم الاعتماد على جهات خارجية سوف يقل شيئًا فشيئًا.

(٤-٣) إضفاء الصبغة الديمقراطية

أيضًا يعلمنا الابتكار المجزأ شيئًا مهمًّا عن الابتكار على الإنترنت في حد ذاته. ففي كل مثال من تلك الأمثلة على الويب ٢، تسمح المنصة للابتكار بأن يتحول — على حد تعبير الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إريك فون هيبل — إلى «الديمقراطية». ومن جديد نقول إن هذا المصطلح ليس معناه أن يتم تنفيذ الابتكار مثلما كانت الاستراتيجية تُقرَّر في الألوية القديمة للجنود السوفييت؛ عن طريق الاجتماع والتصويت على الخطوة الاستراتيجية القادمة؛ وإنما تعني هنا أن إمكانية الوصول للموارد — الحق في الابتكار — قد صارت أكثر ديمقراطية، بمعنى أنها صارت معتمدة على عضويتك في مجتمع ما، لا على مكانة خاصة أو هرم وظيفي في شركة أو حكومة ما.

وهكذا، تضفي كل من أمازون وجوجل الصبغة الديمقراطية على الابتكار عندما تفتحان خدمات الشبكة العنكبوتية لأناس من خارج أمازون وجوجل. ولقد فعل الإنترنت نفس الشيء، ولكن بشكل أفضل. إن المعمار الأصلي للإنترنت كان يطلق عليه اسم «من الطرف إلى الطرف»؛ ما يعني أن الابتكار والذكاء في الشبكة كان من المفترض أن يكونا عند حافة الشبكة (أي الأجهزة التي ترتبط بالشبكة، لا الشبكة ذاتها)؛ فالشبكة ذاتها كان من المفترض أن تكون أبسط ما يمكن.32 ونتيجة لذلك، كان كل امرئ حرًّا من الناحية التقنية في الابتكار من أجل تلك الشبكة. كلُّ ما كنت في حاجة للقيام به حتى تبتكر للإنترنت، أن توفق تصميمك مع بروتوكولات الإنترنت. وبمجرد قيامك بهذا، صرت جزءًا من الشبكة. لم تكن هناك لجنة ولا مجموعة تصميم ولا وكالة ابتكار للإنترنت تحتاجها للتصديق على فكرتك. ولم يكن باستطاعة أحد أن يمنعك من إنشاء أي شيء تريد إنشاءَه على شبكة الإنترنت. وهذه الحرية تعد سببًا جوهريًّا في النجاح الاستثنائي الذي حققه الإنترنت.

(٥) شخصية النجاح التجاري

يمكنك أن تقول الكثير عن شخصية المرء إذا طلبت منه انتقاء الشركات العملاقة التي ميزت حقبة زمنية معينة. هل ينتقي شركات عملاقة راسخة (ديناصورات ناجحة)؟ أم يتخير شركات ناشئة جائعة؟

أنا شخصيًّا سأنتقي الشركات الناشئة الجائعة. هناك سمة رائعة في المجتمع المعاصر؛ ألا وهي الاحترام الممنهج الذي نوليه للعمليات المصممة لكي تدمر الماضي. ولعل أفضل مثال على ذلك السوقُ الحرة، والديمقراطية مثال آخر. في كلتا الحالتين، ليس الهدف وجود جريان متواصل دون انقطاع (فلدينا محاكم لحماية الملكية الخاصة؛ ولدينا دساتير تبطئ من إرادة الديمقراطية). لكن في كلتا الحالتين، يكون الهدف هو ضمان ألا يبقى الماضي على قيد الحياة إلا إذا كان قادرًا على التفوق على المستقبل.

إن الاقتصادات التجارية للإنترنت تعد مثالًا خلابًا على تلك الديناميكية تحديدًا. إن المنصة المحايدة للإنترنت عملت على إضفاء الصبغة الديمقراطية على الابتكار التقني والتجاري، ومن ثم انتقل مركز السلطة انتقالًا جذريًّا. إن من لم يكملوا تعليمهم الجامعي في أواخر التسعينيات (وأغلبهم كان من ستانفورد) هزموا من لم يكملوا تعليمهم الجامعي في منتصف السبعينيات (من هارفرد)؛ فلم يكن لجوجل وياهو أي ثقل عندما كانت مايكروسوفت هي المهيمنة. هذا النجاح للجديد في مواجهة سلطة القديم صار ممكنًا نتيجة الالتزام الدستوري في معمار الشبكة بإضفاء الصبغة الديمقراطية على الابتكار.

لم يكن باستطاعة أي حكومة أن تخطط لتلك النجاحات، وهذا ليس فقط لأن الحكومات على الأرجح لا تمتلك موهبة العباقرة الذين على شاكلة من يعملون بجوجل أو إي باي، وإنما لأن الحكومات لم تكن قادرة على التخطيط لتلك النجاحات؛ لأن الحكومات — على الأقل كما نعرفها نحن الأمريكيين — فاسدة بطببيعتها؛ ليست فاسدة بالرشوة، ولا بالجشع، وإنما من خلال واقع يفرضه تمويل الحملات الانتخابية، التي تجعل المسئولين الحكوميين لا يتفهمون سوى آراء أصحاب النجاحات العظمى الراسخة دون غيرهم من أصحاب النجاحات العظيمة المقبلة (الذين، حتى حينه لا يملكون من أرصدة المال ما يؤثرون به على الحكومة).

ولا جاءت تلك النجاحات من أنشطة تجارية مهيمنة في ذلك الزمن: فأمازون هزمت بارنز آند نوبل (الأكثر رسوخًا في السوق)، وهزمت نِت فليكس بلوكبستر (المبتكرة)، وهزمت آبل دِل. لم يحدث هذا لأن بارنز آند نوبل كانت غبية وأمازون كانت ذكية، وإنما — على حد قول كلايتون إم كريستنسن في كتابه الذي نال الاستحسان عن جدارة؛ «معضلة المبتكر»:
رغم التقدم التكنولوجي، والعلامات التجارية، والتفوق الصناعي، والخبرة الإدارية، والعضلات المفتولة في ميدان التوزيع، والتعامل النقدي المباشر؛ عانت الشركات الناجحة التي تعمل بها قيادات إدارية جيدة من أوقات عصيبة وهي تقوم بما لا يتلاءم مع نموذجها المتبع في جني المال. ولأن التقنيات المدمرة نادرًا ما تبدو منطقية خلال السنوات التي يمثل الاستثمار فيها أهمية قصوى؛ فإن الفكر الإداري التقليدي بالشركات الراسخة يشكل عائقًا أمام الدخول والحركة يعتمد عليه رواد الأعمال والمستثمرون. إنه فكر قادر ومتغلغل.33

فالذكي في وقت من الأوقات ليس بالضرورة ذكيًّا في وقت لاحق؛ ولهذا نحن في حاجة إلى شركات جديدة.

إن الذيل الطويل، والأخ الأصغر، والابتكار المجزأ تفسر قسمًا من اقتصاد الإنترنت. إنها تفسر سبب أداء التجارة في ظل اقتصاد الإنترنت بشكل أفضل (أي أكثر كفاءة) من التجارة في ظل الاقتصاد الواقعي.

غير أن قيمة الإنترنت لا تأتي كلها من هذا الاقتصاد التجاري. فالحقيقة أن هناك مصدرًا أكثر إدهاشًا ليست له علاقة البتة بالتجارة على الإطلاق. والآن ننتقل إلى ذلك الجزء.

(٦) الاقتصادات التشاركية

كان يجلس إلى جواري على الطائرة العابرة بين الساحلين الشرقي والغربي للبلاد نموذج للشباب الأمريكي. كان عمره يناهز السابعة عشرة، يرتدي مزيجًا معقدًا من اللونين الأسود والفضي (الفضة المعدن، لا اللون). كان معه حاسب آلي أكثر شبابًا بكثير من جهازي. وعندما أعلنت دقات الجرس أنه «من الآمن الآن استعمال الأجهزة الإلكترونية المسموح بها» جذب الشاب من جيب المقعد الذي أمامنا حافظة ضخمة مملوءة بأقراص الدي في دي.

كانت جميعها — لا بد أن عددها كان لا يقل عن المائتين — نسخًا. وبينما هو يتصفح محتويات الحافظة، بدأ الحسد يتملكني. كنت أريد أن أعرف المزيد عن مجموعته وعنه هو نفسه. لهذا قمت بشيء لا يمكن أن يوصف إلا بالبشاعة، شيء لا أفعله عادةً: بدأت حوارًا مع الشخص الجالس بجواري على طائرة.

سألت جوش (تبين أن هذا اسمه) عن مجموعته. هل هو من طلبة الدراسات السينمائية؟ هل يعمل في صناعة السينما؟ لم يكن لا هذا ولا ذاك. لقد كان مجرد هاوٍ لتكوين مجموعات. الحق أنه كان يهوى جمع «كل شيء» حسبما أخبرني. وكان هذا مجرد جزء من مجموعته. كانت لديه «مجموعات لا حصر لها» من الموسيقى أيضًا.

كلما امتد بنا الحديث تضاربت الأفكار بداخلي. لقد أعجبت بما لديه من معرفة. كان واعيًا بثقافته بصورة أفضل من وعيي بثقافتي. غير أنه مع ذلك كان وفق قوانين بلادي، لصًّا. أو شيئًا أشبه بذلك؛ فأثناء تكوين مجموعته هذه، تعدى على مليار حق. لا تبدأ بالحديث عن الأسلوب غير العادل الذي صيغت به تلك الحقوق، أو عن مدى كونها باهظة الثمن، أو عفى عليها الزمن. أعلم كل هذا. لقد قطعت أشواطًا طويلة في شرح كل تلك الأمور. نَحِّ كل هذا جانبًا، إن ما كان هذا الصبي يفعله جعل مهمتي أصعب. إنني أناضل من أجل «الثقافة المجانية»، وموقفي يضعف بسبب صبية يعتقدون أن كل أشكال الثقافة يجب أن تكون مجانية.

عندما صارت خيبة الأمل من وراء التناقض الذي أشعر به أكبر مما أحتمل، أخذت أبحث عن مهرب ميسور. كان لدى جوش فيلم كنت تواقًا دومًا لمشاهدته. كنت قد انتهيت من قراءة كتابي. وكان بريدي الإلكتروني يسبب لي ضيقًا شديدًا، فقررت أن أطلب منه مشاهدة واحد من أفلامه.

فقلت: «إذن، هل يمكنني استئجار واحد من تلك الأفلام منك؟ ما قولك في خمسة دولارات؟»

لا أملك من البلاغة قدرًا يمكنني من وصف النظرة التي رمقني بها جوش، وقد ارتسمت على وجهه خيبة أمل شديدة. يكفيني القول بأنني عثرت على أكبر أسلوب للإهانة يمكنني أن أوجهه إلى جوش.

خلت أنه يريد أن يبصق علي وهو يجيبني بقوله: «تبًّا، ما هذا الهراء؟ أتعتقد أنني أفعل ذلك من أجل المال؟ يسعدني أن أعيرك واحدًا من تلك. لكنني لا أتقاضى «نقودًا» مقابل ذلك.»

لقد جاوزت المدى. لكنني مع ذلك التجاوز، ازداد احترامي لجوش. لم أكن موافقًا على الأسلوب الذي اتبعه في الحصول على مجموعته. غير أن توبيخه لي ذكَّرني بنوعٍ مختلف من الاقتصاد تعيش الثقافة بداخله أيضًا. فالاقتصاد التجاري الذي يقيس القدرة على الحصول على الثقافة بمقياس بسيط؛ هو السعر، ليس موجودًا وحده. وإنما هناك أيضًا اقتصاد تشاركي؛ حيث لا يُنظَّم الحصول على الثقافة من خلال السعر، وإنما من خلال مجموعة معقدة من العلاقات الاجتماعية. هذه العلاقات الاجتماعية ليست بالبسيطة. والحقيقة أن تلك العلاقات تتعرض للإهانة بسبب تفاهة مسألة الثمن. ورغم أنني آمل ألا يكون هناك كثيرون يتاجرون برأس مال اكتُسِب مثلما اكتسب جوش رأسماله، فإن كل من يقرأ هذا الكتاب لديه حياة ثرية من العلاقات التي يحكمها الاقتصاد التشاركي، الخالي من تفاهة السعر والأسواق.

إذا لم تكن تلك النقطة واضحة تمامًا، دعونا نفكر في المزيد من الأمثلة:
  • لديك أصدقاء، وتحيا تلك الصداقة داخل إطار اقتصاد معين. إذا كنت دومًا تأخذ دون أن تعطي، فإن الصداقة سوف تتلاشى. إذا كنت تقيس كل تعامل بمقياس مادي وتطالب بتسوية بعد كل معاملة، فإن الصداقة في هذه الحالة أيضًا تزول. هناك خطوات بعينها ملائمة في بعض المواضع لكنها غير ملائمة هنا. مثالًا لذلك، «إني بحاجة للتحدث إلى شخص ما. هل يمكنني أن أعطيك ٢٠٠ دولار مقابل جلسة مدتها ساعة؟»

  • لديك من تحبهم، أو سبق لك أن أحببت، أو سوف يكون لك أحباب. وتقوم علاقة الحب داخل إطار من الاقتصاد التشاركي المعقد. فعبارة «ممتاز، كان الأمر رائعًا. هاك ٥٠٠ دولار!» لا تعبر عن العرفان في علاقات الحب. ربما تكون بمنزلة إفساد للخُلُق، وإذا لم يكن الطرف الآخر فاسد الأخلاق فإن عبارة كتلك كفيلة بإنهاء العلاقة. فالعشاق يطالبون بعضهم بعضًا بأشياء. وقد صممت تلك المطالبات بحيث تكون معقدة. واختزالها في مجرد سعر مدفوع يدمر العلاقة. (الجانب المقابل من هذه القصة يصح هو الآخر: فالدعارة عبارة عن ممارسة الجنس في إطار اقتصاد تجاري. كلا الطرفين يبحثان عن بساطة التعاملات النقدية. وعبور هذه الحدود أمر لا يحدث إلا في الروايات أو الأفلام التي تقدم نجومًا في بدء حياتهم الفنية [مثال ذلك، جوليا روبرتس في فيلم امرأة جميلة].)

  • لديك جيران، وهم (أو أنت) يحتاجون لمساعدة أحيانًا. طلب مني أحدهم ذات مرة مساعدتي قائلًا: «بطارية سيارتي ميتة؛ هل يمكنك إعطائي دفعة من بطارية سيارتك؟» وبعد أن دارت سيارته، حاول أن ينقدني ٥ دولارات. فقلت له: «ما هذا بحق الجحيم يا تِد، أليس هذا هو المفروض بين الجيران؟» وبعدها قلت لنفسي، لكن ليس جهرًا بالطبع: على أي حال، إذا كنت تنوي أن تسدد لي ثمن تلك المساعدة، فسوف يكون أعلى بكثير من خمسة دولارات.

مثلما هو الحال في أي نوع من أنواع الاقتصاد، يعتمد الاقتصاد التشاركي على فكرة المقابل. ومثلما هو الحال مع أي مقابل يستمر مهما طال الزمن، يجب أن يكون في مجمله مفيدًا للأطراف التي تحافظ على وجودها في ذلك الاقتصاد. وعندما لا يحقق ذلك، يترك الناس تلك العلاقة. أو على الأقل يصبح لزامًا عليهم أن يفعلوا (مثل تلك الزوجة التي يضربها زوجها).

لكن من بين أنواع المقابل الممكنة في إطار اقتصاد تشاركي قابل للتحديد — أو لنقلها بشكل مختلف، من بين جميع شروط التبادل الممكنة في إطار اقتصاد تشاركي — فإن المقابل الوحيد الذي لا يمكن استخدامه هو المال. وعلى حد تعبير يوشاي بينكلر، في الاقتصاد التجاري بأنواعه «الأسعار هي المصدر الرئيسي للمعلومات عن الموارد، أو الحافز لتخصيصها»، لكن في الاقتصادات التشاركية «تلعب العلاقات الاجتماعية غير القائمة على دفع ثمن ذلك الدور».34
الحقيقة أن المال ليس فقط غير مفيد في هذه الحالة. وإنما في حالات كثيرة، تكون إضافة المال إلى الخليط عنصرَ تدمير فوريًّا.35 ليس هذا لأن الناس ضد المال (وهذا أمر بديهي). لكنه بسبب، على حد تعبير الفيلسوف مايكل والزر العام، أن الناس يعيشون في محيطات متداخلة من التفاهم الاجتماعي. وما يكون لائقًا بصورة بديهية في محيط ما يكون غير لائق بديهيًّا في محيط آخر.36
وتمتلئ كل من الأدبيات الأكاديمية والحياة العادية بفهم ثري للاختلافات بين كل من الاقتصادين التجاري والتشاركي. وكتابي المفضل هنا ذلك الذي ألفه لويس هايد بعنوان «الهدية»، والذي يصف في تفاصيل تاريخية رائعة المفاهيم المختلفة، وإن كانت ذات صلة بعضها ببعض، التي تعتنقها الثقافات المختلفة عن «العطاء». فكر على سبيل المثال في مصطلح «المُعطي الهندي»، الذي طالما فهمته على أنه تعبير يقصد به الحط من قدر من يطلق عليه. لقد كان معناه ذلك الشخص الذي يعطيك شيئًا لكنه يأمل في استرداده مرة أخرى. غير أن أصل الكلمة يستثير فكرة الاقتصاد التشاركي بصورة مباشرة، لا بمعنى أنك ستسترد نفس الشيء مرة أخرى، وإنما بمعنى أن تفهم أنك جزء من ممارسة مبادلة شيء مقابل شيء آخر، على مدى زمن ما، حتى نكون منصفين: «في عام ١٧٦٤، عندما كتب توماس هاتشينسون تاريخه في المستعمرة، كان المصطلح بالفعل يعد من الأقوال المأثورة القديمة: إذ حكى لقرائه يقول: «الهبة الهندية تعبير من الأمثال يعني هدية تقدم»، وينتظر ردها بهدية على نفس قدرها.»37 فلماذا إذن يقدم الناس هدايا مثل تلك، هذا سؤال لا يطرحه سوى كائن من كوكب المريخ؟ لماذا يغامرون بتقديم هدية للشخص الخطأ؟ لماذا لا يكتفون ببساطة بتقديم مال، وهو أمر مضمون انتقاله بكفاءة؟
والإجابة لأن الهدية تصنع ما هو أكثر، أو ما هو مختلف عن نقل أصل مادي ببساطة من شخص لآخر. ومرة أخرى، حسبما وصفها هايد:
الفارق الجوهري بين تبادل السلع وتبادل الهدايا هو أن الهدية ترسخ رابطة من المشاعر بين الناس، في حين أن بيع سلعة ما لا يترك في قلوبهم بالضرورة رابطة ما. فأنا أذهب إلى متجر أجهزة مثلًا، وأدفع للبائع ثمن نصل منشار معادن ثم أنصرف. ربما لن أراه بعد ذلك مطلقًا. وعدم الارتباط، في حقيقة الأمر، يعد حسنة تميز أسلوب السلع. فنحن لا نريد أن يشغل بالنا شيء. فلو أن البائع يثرثر على الدوام بكلام عن العائلة، فسوف أذهب للتسوق من مكان آخر. فكل ما أريده شراء نصل منشار المعادن وكفى.38

إذن الهدايا بوجه خاص، والاقتصاد التشاركي بصفة عامة، أدوات لبناء علاقات ارتباط بين الناس. إنها ترسخ العلاقات، وتعتمد على تلك العلاقات. إنها بمنزلة الصمغ الذي يربط أجزاء المجتمع بعضها بالبعض، وهي ضرورية لأنواع معينة من العلاقات، حتى لو سممت علاقات أخرى. ليست علاقة هدية هي التي تحدد قيمة عقد وظيفتك لدى مصنع درفلة صلب. ولا يجب أن تكون كذلك، وإنما علاقة الهدية، أو الاقتصاد التشاركي، هي التي تحدد نوع حياتك مع زوجتك أو خطيبتك. وإذا لم تكن كذلك، فمن الأفضل أن تكون كذلك لو أنك أردت للعلاقة أن تدوم.

في بعض الأحيان تعتمد المؤسسات على ذلك النوع من الاقتصاد في التجارة كي تمارس التجارة مستعينة بنوع من الروابط يصنعها الاقتصاد التشاركي. ويشير هايد إلى المثال ذي النجاح الاستثنائي لمنظمة «مدمنو الكحوليات مجهولو الهوية»:
منظمة مدمنو الكحوليات مجهولو الهوية منظمة غير عادية من حيث طريقة تعاملها مع المال؛ فلا شيء يُشتَرى أو يُباع. المجموعات المحلية تتمتع بحكم ذاتي وهي تفي بأقل نفقاتها الممكنة — القهوة، المراجع — من خلال مساهمات أعضائها. والبرنامج ذاته مجاني. ولعل المنظمة ما كانت لتتمتع بالفاعلية، في الحقيقة، لو كان البرنامج يقدم من خلال آليات السوق، ليس بسبب ضرورة تغيير دروسه في هذه الحالة، وإنما لأن الروح التي ستقف وراءهم كانت ستصير مختلفة (كان جانب الإرادة في التخلص من الإدمان سيصير مشوشًا غير واضح، وكانت الفرصة ستكون متاحة أكثر للتلاعب، وحسبما أرى حاليًّا، فإن تقاضي أتعاب مقابل الخدمة يميل إلى قطع الطريق على القوة المحفزة للعرفان بالجميل، وهي مصدر طاقة المنظمة).39
وبالمثل، تتغير المجتمعات التي عرفت من قبل بأنها تتبع اقتصادًا تشاركيًّا عندما يدخل المال في الخليط. إن هايد يقتبس هنا قول جوناثان كايند عالم الجينات بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا:
في الماضي، كانت إحدى عناصر قوة العلوم الحيوية الطبية الأمريكية التشارك المجاني في المادة العلمية، وسلالات الكائنات الدقيقة، والمعلومات. لكن الآن، إذا حصلت على تصديق على إحدى النتائج الخاصة بك أو حصلت على براءة اختراع عن كائنات دقيقة اكتشفتها، فإنك لا ترسل سلالاتك للغير؛ لأنك غير راغب في أن يستولي عليها القطاع العام. وهذا ما يحدث الآن فعلًا. لم يعد الناس يتقاسمون سلالاتهم البكتيرية ولا نتائجهم التي توصلوا إليها مجانًا مثلما كانوا يفعلون في الماضي.40
في كل تلك الحالات، عمل السعر على تسميم الأجواء؛ فالمال يغير من طبيعة العلاقة؛ فهو يعيد تحديدها. والحقيقة أنه على الأرجح يهين المضيف. «الحوافز الموجهة بالمال تختلف عن الحوافز ذات التوجه الاجتماعي.»41 وعبور الخط إما أنه سيُظهِر سوء فهم عظيم للسياق، أو أنه سيوحي بأنك قد فهمت السياق، لكنك ببساطة أردت تغييره.
إن تلك الخطوط من الفهم، بالطبع، ليست قدرًا مفروضًا. إنها حالة طارئة ثقافيًّا وتاريخيًّا؛ ففي إنجلترا إبان العصر الفيكتوري، على سبيل المثال، «كان وجود المال في مجال الرياضة أو الترفيه» يقلل من قيمة تلك الرياضة أو الترفيه، على الأقل في عيون «أفراد الطبقتين الوسطى والعليا.»42 من الواضح أن الأمريكيين لديهم شعور مختلف اليوم. وفي أمريكا القرن التاسع عشر، كانت فكرة أن تحكي عن مشكلاتك الشخصية لشخص مهني تنقده أجرًا على ذلك تعد من قبيل الفعل الفاضح. واليوم، صار اسمه علاجًا، وصارت عبارة «مهلًا، اترك تلك العبارة لحين ترقد على الأريكة» إشارة إلى ازدياد حجم التقدير لأن تكون بعض الشئون الشخصية خارج نطاق الاقتصاد التشاركي. فبعض الشئون الشخصية ينبغي ببساطة طرحها على المهنيين المتخصصين فيها.
وهكذا، لا يمكن افتراض دوام أي فارق بين الاقتصاديْنِ التشاركي والتجاري، أو حتى لفترة طويلة. زعمي الوحيد أنه عندما يوجد مثل هذا الفارق، فإن «إضافة المال مقابل نشاط كان فيما مضى يجري دون مقابل سعري يقلل، لا يزيد، من مستوى ذلك النشاط.»43 كثيرًا، لكن ليس دائمًا. يصر المحافظون في أمريكا على المحافظة على عدم قانونية الدعارة؛ لأنهم يخشون أن تؤدي إضافة عنصر المال إلى اللقاء الجنسي إلى زيادة «معدل نشاط كان يتم فيما مضى دون مقابل سعري»؛ أي النشاط الجنسي الذي يمارس خارج إطار علاقة الزواج. وفي هذه الحالة، يكون الخوف من أن يعمل المال على زيادة ذلك النشاط لا الإقلال منه.

يتعايش الاقتصادان التجاري والتشاركي جنبًا إلى جنب. والحقيقة أنهما يكملان أحدهما الآخر. إن علماء النفس لا يعادون الصداقة، برغم أنه كلما قويت اقتصادات الصداقة في المجتمع، ضعف الطلب على الأطباء النفسانيين. وفرقة ويلكو لا تغبط جوقة منشدي الكنائس، برغم أن تلك الجوقة تتبرع بعملها مجانًا، في حين تتقاضى فرقة ويلكو مبلغًا طائلًا مقابل غناء واحدة من حفلاتها الغنائية (وهي كثيرة). جميعنا يفهم أنه في الإمكان تقديم أشياء متشابهة في سياقات اقتصادية متنوعة. إننا نحتفي بذاك التنوع. المتعصب وحده هو من يناصر التخلص من أحد نوعي الاقتصاد بسبب تأثيره على النوع الآخر.

غير أنه في بعض الأحيان نتحول جميعًا إلى متعصبين. لقد شن مجتمع طائفة البيوريتان حربًا ضد اقتصادات تجارة الجنس التي تتنافس مع العلاقات الزوجية الشرعية، معتقدين أن كلًّا من الزنا (وهو اقتصاد تشاركي منافس) والبغاء (اقتصاد تجاري منافس) يفرضان ضغوطًا هائلة على الاقتصاد التشاركي المثالي. وبالمثل، تشن صناعة المصنفات اليوم حربًا على اقتصادات التشارك في المحتوى المتمتع بحقوق التأليف والنشر؛ أي الاقتصادات التشاركية بين الأنداد؛ حيث لا ضرورة لأن يعرف الناس بعضهم بعضًا، وكذلك اقتصادات الصداقة القائمة على التشارك؛44 حيث توجد ضرورة لذلك. وفي كلتا الحالتين، ربما يكون الحكم على أن أحد نوعي الاقتصاد يعتبر سُمًّا زُعافًا للنوع الآخر صحيحًا حقًّا. ولكن سواء أكان صحيحًا أم لا في حالة معينة، فإن الفيصل هنا أن تلك الحالات التعصبية تمثل استثناءً للقاعدة. ففي الغالبية العظمى من الحالات نحن نسمح بازدهار هذه المنافسة بين الاقتصادين. وفي حالات كثيرة نشجعها. فلا يوصف أي شخص بأنه شيوعي مثلًا لأنه يلعب في دوري الكرة اللينة مساء الخميس (أي ينافس مباريات البيسبول للمحترفين) أو يساعد في تنظيف كنيسة محلية (أي ينافس بواب الكنيسة). بل على العكس؛ إننا نمجد ذلك الشخص الذي يمكنه ممارسة التجارة داخل نطاق من عدة مجتمعات، والذي يكون القسم الأكبر من حياته خارج نطاق مجتمع التجارة.

والآن تدبر التمييز بين الحوافز المحتملة التي من الممكن أن تفسر الإسهام داخل الاقتصاد التشاركي. في بعض الأحيان تكون تلك الحوافز «متعلقة بذاتي»؛ أي إن الفرد يساهم في الاقتصاد التشاركي لكي يفيد نفسه. وفي بعض الأحيان تكون تلك الدوافع «متعلقة بالغير»؛ أي إن الفرد يساهم في الاقتصاد التشاركي لأنه يفيد الآخرين. إذن إن أنا انضممت لدوري محلي في الكرة اللينة، فربما كان دافعي لذلك في المقام الأول استفادتي الشخصية. وإذا تطوعت لتقديم خدماتي في مطبخ حساء محلي، فلعلي مدفوع لذلك في الغالب بدوافع تتعلق بالغير.

من الواضح أن ذاتي وذوات الآخرين ليست منفصلة إحداها عن الأخرى. فالمرء يمكنه دومًا اعتبار الدوافع المتعلقة بالغير في نهاية الأمر متعلقة به هو؛ فأنا أختار مساعدة جيراني لأنني أريد أن أكون ذلك الشخص الذي يساعد جيرانه، أو أريد أن يُنظَر إلي كذلك. وهذا أسلوب معقول جدًّا لفهم الغالبية العظمى من الدوافع المتعلقة بالغير. إن هدفي هو عدم التأكيد على أن الاقتصاد التشاركي اقتصاد نكران للذات.

غير أنه حتى لو كانت الدوافع المتعلقة بالغير في النهاية متعلقة بالفرد ذاته، فهي لا تزال — من زاوية ما — أكثر تعقيدًا عند تفسيرها من الدوافع المتعلقة بالذات البسيطة التفسير التي يمكننا جميعًا بالفطرة أن نفهمها. إننا نتسامح مع الدوافع الغريبة المتعلقة بالذات (نطلق على بعضها اسم «هوس»، ونطلق على البعض الآخر «ذوق»). غير أن الغرابة في الدوافع المتعلقة بالغير تجعلنا نتساءل إن كان الشخص يفهم حتى ما يقوله أم لا. على سبيل المثال، أنا أفهم عبارة «إنني أعمل على التعريف بمناقب «الرابطة الوطنية للبنادق».» إنني أفهمها على الرغم من أنني لا أحذو حذوه. غير أن عبارة «إنني أعمل على التعريف بمناقب شركة إكسون» ليست غير عادية وحسب، بل بالنسبة لأي شخص لا يعمل فعلًا لدى إكسون، ربما تساءلنا إن كان الشخص يفهم فعلًا ما يقوله. إن الدوافع المتعلقة بالغير تتداخل مع مفاهيم قائمة تتعلق بالمجتمعات أو القضايا. أما الدوافع المتعلقة بذاتي (بالنسبة لنا في المجتمعات المعاصرة المتسامحة) فليست بهذا القدر من التقييد.45

إذن باستخدام هذا التمييز، سوف أطلق على الاقتصادات التي يكون الدافع فيها متعلقًا أساسًا بالذات اسم «الاقتصاد التشاركي الرقيق»؛ أما «الاقتصاد التشاركي الغليظ» فهو الاقتصاد الذي تكون فيه الدوافع ملتبسة على الأقل بين الذات والغير. ومن هنا، في الاقتصاد التشاركي الرقيق، لا يبني الناس عملية التبادل على السعر أو المال، لكنهم يجرون ذلك التبادل ببساطة لأنه يجعلهم أفضل حالًا، أو لأنه منتج ثانوي لا يمكن تحاشيه لشيء ما كانوا راغبين فيه على أي حال لأسباب تتعلق بالذات فقط. فالشخص لا يمانع بالضرورة في أن تساعد أفعاله شخصًا آخر. لكن لا توجد رغبة مستقلة لمساعدة شخص آخر. فالدافع هنا يتعلق بالذات.

هناك ثلاثة أمثلة كفيلة بإيضاح ما أعنيه:
  • خذ عندك مثلًا سوق الأوراق المالية (البورصة). في معظم البورصات، يتداول الناس المعلومات فيما بينهم؛ معلومات عادية عن مقدار ما ابتيع من أسهم وكم بلغ سعرها، لكن حتى لو أخفيت تلك المعلومات، فإن السوق تتداول المعلومات عن معدل التغير في الأسعار. ويمكنك أن تصف هذا التداول بأنه يشكل اقتصادًا تشاركيًّا. لكن لو حسبنا المسألة ببساطة، لوجدنا أنه من المستغرب جدًّا لذلك الشخص الذي يشتري ويبيع الأسهم أن يساعد السوق ببساطة على جمع المعلومات عن الأسعار. إن الناس يبتاعون الأسهم ويبيعونها كي يجنوا المال. ومن النواتج الثانوية لذلك السلوك تلك المعلومات التي يتبادلونها مع آخرين. فلو كان هذا اقتصادًا تشاركيًّا، فهو من النوع التشاركي الرقيق.

  • فكر مثلًا في خدمة «الصوت عبر بروتوكول الإنترنت» المسماة سكايب. فمع سكايب، يمكنك إجراء مكالمات مجانية عبر الإنترنت، ومكالمات هاتفية شديدة الرخص من الإنترنت إلى الهاتف العادي (وبالعكس). غير أن سكايب مصممة بحيث تستخدم، أو «تتشارك»، في موارد الحاسبات المتصلة بشبكة الصوت عبر بروتوكول الإنترنت (فويب). فعندما تكون على هاتف سكايب، تستخدم سكايب حاسبك في تحسين أداء شبكتها.46 الأمر أشبه بأن تسحب شركة إيه تي آند تي الكهرباء من منزلك عندما تستعمل أنت هاتفك، كوسيلة لخفض تكلفة الكهرباء الخاصة بها. لا أقصد بذلك انتقاد سكايب على ذلك؛ فمن المؤكد أنها تساعد بذلك على تحسين الخدمة. لكن عندما يساهم شخص ما في هذا «الاقتصاد التشاركي» لموارد الحاسبات، فما أبرز دوافعه نحو ذلك؟ هل هو دعم قضية سكايب؟ أم أنه ببساطة ناتج ثانوي لرغبة الناس في إجراء مكالمات رخيصة؟ أنا أقترح الإجابة الثانية، مما يجعله هو الآخر اقتصادًا تشاركيًّا رقيقًا.
  • وأخيرًا، فكر في خدمة الرسائل الفورية التابعة لشبكة أمريكا أون لاين. إن قيمة تلك الشبكة ترتفع بالنسبة للجميع. وهذا نتيجة للتأثير الشبكي: فكلما زاد عدد المنضمين إلى الشبكة، زادت قيمة المورد للجميع. هناك ظروف عديدة يصدق فيها تأثير تلك الشبكة. فكر على سبيل المثال في اللغة الإنجليزية؛ ففي كل مرة يناضل شخص من الصين من أجل تعلم اللغة الإنجليزية أو تواصل مدرسة في الهند جهودها من أجل دفع اللغة الإنجليزية كي تكون اللغة الأولى، نستفيد كلنا من الناطقين بالإنجليزية. غير أنه في أي من الحالتين — سواء مع أمريكا أون لاين أو اللغة الإنجليزية — لا ينضم الناس للحركة لأنها حركة. إن الناس ينضمون لأنها تعطيهم شيئًا يريدونه.

في كل حالة من تلك الحالات، هناك مورد يتقاسمه الجميع داخل المجتمع؛ معلومات عن السوق، موارد الحاسب الآلي لجعل خدمة الفويب تعمل بشكل أفضل، تأثير شبكي ناتج عن شبكة شعبية. هذا المورد يتم تقاسمه بصرف النظر عن السعر. لكن لم يكن في أي حالة من تلك من الواقعي أن نتخيل أناسًا ينضمون أو يشاركون في تلك الشبكات لأسباب تتعلق بالغير. إنها مجتمعات تنظر للذات. إنها اقتصادات تشاركية رقيقة.

على النقيض من ذلك، في الاقتصاد التشاركي الغليظ، تكون الدوافع أكثر تعقيدًا. فهناك أب بإحدى الكنائس قد يقضي أوقات الأحد الصباحية في تدريس فصل الإنجيل. هناك جزء من ذلك الدافع يتعلق بالذات، لكن من المؤكد، أن هناك جزءًا آخرَ يتعلق بتحسين أحوال المجتمع التابع لكنيسته؛ وهذا دافع يتعلق بالغير. وما نحتاج لتحديده هنا هي النسبة. النقطة المهمة الوحيدة هنا أن كلا الأمرين موجودان، وأنه كلما كان اعتقادنا أقوى في وجود دافع يتعلق بالغير، صار اقتصاد المجتمع أكثر غلظة.

سيكون التمييز بين الغليظ والرقيق مهمًّا عند النظر إلى الفروق بين الاقتصادات التشاركية. وسيكون مهمًّا أيضًا في فهم احتمال بقاء أي اقتصاد بعينه مع مرور الوقت؛ إذ برغم أن اسمَي الاقتصاد يشيران بداهةً إلى عكس معنيهما، فإن الاقتصاد التشاركي الرقيق غالبًا ما يكون أيسر في دعمه من الغليظ؛ وهذا لأن الإيحاء بالدوافع المتعلقة بالغير أو استدامتها لا يخلو من نفقات. أو على الأقل، لو ظلت جميع العناصر ثابتة، فإن الدافع المتعلق بالذات (وقد صار الآن «نحن») يتحقق على نحو أيسر لمعظمنا. ومن هنا فإن تمييز الحالات التي يكون فيها الدافع المتعلق بالغير ضروريًّا عن الحالات التي لا يكون فيها ضروريًّا؛ سوف يكون مفيدًا في التنبؤ بما إذا كان هناك اقتصاد تشاركي معين سيظل على قيد الحياة أم لا.

(٧) اقتصادات الإنترنت التشاركية

تسبب الإنترنت أيضًا في زيادة مهولة في نطاق وغلظة الاقتصادات التشاركية. وكما حدث مع الاقتصادات التجارية، تقدم قابلية تصميم الإنترنت للتشكل، ونطاق وصوله للناس، مدًى شاسعًا لفرص جديدة للاقتصادات التشاركية في جميع الأنحاء.

كما هو الحال في الاقتصادات التجارية، تزدهر أحوال تلك الاقتصادات التشاركية بسبب تصميمها. فهنا أيضًا على سبيل المثال، يتبع الأفضل منها مبدأ أشبه بمبدأ بريكلين: إذ يساهم الناس في الصالح العام كناتج ثانوي للقيام بما كانوا على أي الأحوال يريدون القيام به. غير أن بعض المجتمعات تطالب أعضاءها بما هو أكثر؛ فالبعض يدعي، على سبيل المثال، أن الأعضاء مدينون بعضهم لبعض بشيء ما. وحسب نوع المجتمع، غالبًا ما تصبح تلك المطالبة دائمة. فإذا قلت لي إن لدي واجبًا تجاه أمازون، لاعتقدت أنها دعابة. إنني أحب أمازون مثلما أحب أصدقائي، لكن ولائي لها لن يتجاوز حجم النفع الذي تقدمه لي بالمقابل. غير أن هناك الكثير من الكيانات داخل اقتصاد الإنترنت التشاركي لا يعد من قبيل الدعابة أن تقول عنها إنني أدين لذلك المجتمع بشيء ما. أفضل تلك المجتمعات ربما لا يعتمد على ذلك النوع من الدَّيْن. ربما كان كل ما هنالك أنها تستمتع بعمل الخير. لكن في بعض المجتمعات، يفهم جميع المساهمين فيها أن عليهم أن «يؤدوا دورهم». وإخفاق العضو في القيام بدوره يفتح الباب أمام النقد. بالنسبة لتلك الاقتصادات التشاركية الغليظة، تكون دوافع المساهمة أكثر تعقيدًا.

أبرز أنواع اقتصاد الإنترنت التشاركي اليوم، وهو يمثل نموذجًا لذلك النوع، اقتصاد لم يكن موجودًا قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر: ويكيبيديا. غير أن ويكيبيديا ليست أول اقتصاد إنترنت تشاركي. لهذا فإننا بعد أن نغطي المألوف والسائد، سوف نعود القهقرى قليلًا؛ كي نقيم بصورة أفضل مسألة استمرارية «جمع التبرعات لإنشاء صومعة غلال»، الذي تمارسه ويكيبيديا — وهو تعبير ذكره مايك جودوين أحد المنظرين القانونيين الأوائل للإنترنت — مقارنة بالعديد من حالات جمع التبرعات لإنشاء صوامع الغلال التي وقعت قبل أن تولد ويكيبيديا.

(٨) الحالة النموذج: ويكيبيديا

في عام ٢٠٠٠، كان جيمي «جيمبو» ويلز يبحث من حوله عن شيء أفضل يقوم به. فبعد أن عمل في البيع الآجل وخيارات الأسهم في شركة بشيكاجو خلال معظم سنوات تسعينيات القرن العشرين حقق ما يكفيه من المال، حسبما حكى لمجلة «وايرد»، كي «يعول نفسه وزوجته طيلة ما تبقى من عمرهما.»47 وكان يرغب في عمل شيء مشوق حقًّا.

فكر في بادئ الأمر في تأليف موسوعة، أو على الأقل تكليف أناس بتأليف موسوعة على شبكة الإنترنت. وبالاستعانة بجزء من أرباح حققها من وراء أحد المواقع الإباحية كان ساعد في إنشائه (بوميس)، أطلق ويلز نيوبيديا. كانت الفكرة — ومن الواضح أنها كانت الفكرة الوحيدة التي يمكن للعقل قبولها لكتابة موسوعة في ذلك الحين — عبارة عن بناء موسوعة يراجعها نظراء لمن يكتب. فاستعان بخدمات لاري سانجر، الحاصل على الدكتوراه في الفلسفة، ليكون رئيسًا للتحرير. وأخذ كلاهما يراقبان ذلك القِدر الذي لم يشأ له القَدَر أن يصل إلى درجة الغليان.

لما أصابها الإحباط بسبب نموها البطيء، أطلقت نيوبيديا موقع «ويكي» كي تشجع على تطوير مقالات نيوبيديا. الويكي عبارة عن منصة تتيح لأي شخص أن يكتب أو يحرر موضوعًا في ميدان عام. كان برنامج ويكي موجودًا بالفعل منذ أكثر من عقد من الزمان. كان المقصود من ورائه بالأساس تمكين فريق ما من العمل في أحد المشاريع بطريقة تعاونية. وقصد ويلز وسانجر أن يكون الويكي بمنزلة صندوق الرمال المخصص لتأليف تعاوني لمسودات مقالات لصالح نيوبيديا. إلا أنه سرعان ما تحول صندوق الرمال لما هو أكثر بكثير من مجرد مسودة. جعل نمو مقالات هذه الويكيبيديا (بعد أن صار يطلق عليها هذا الاسم) أي شيء على نيوبيديا يبدو قزمًا مقارنة بها. بعدها صار صندوق الرمال المسرح الرئيسي للأحداث.

لكن ويكيبيديا لا تتألف من برمجيات وحسب. فهي بالإضافة لذلك مجموعة من المعايير المبنية داخل ممارسة استخدام تلك البرمجيات. كان الهدف إنشاء موسوعة. وكان معنى ذلك أنه كان يُشترط أن تُكتب المقالات من «وجهة نظر محايدة». وكان من الواجب أن تكون إدارة المشروع في أيدي مجتمع متطوع (رغم أن سانجر كان في الأصل محررًا يحصل على أجر طيلة استمرار التمويل من بوميس). ومن أجل ضمان إحساس المتطوعين بأنهم جزء من مجتمع، كان من الواجب أن تكون القواعد هي قواعد أي شخص يعيش فيه. وهكذا ولدت قاعدة «تجاهل كل القواعد»، والتي شرحها لي جيمي ويلز على النحو التالي:
«تجاهل كل القواعد» … ليست دعوى للفوضى. إنها بحق أقرب إلى أن تكون فكرة تقول: «انظر، مهما كانت القواعد التي نتبعها في ويكيبيديا، يجب أن تكون — بصورة أو بأخرى — واضحة لأي شخص بالغ طبيعي ملم بالنواحي الاجتماعية يفكر فيما يمكن أن يمثل الأمر الأخلاقي الواجب عمله في هذا الموقف. وهذه هي القاعدة الواجب اتباعها.» يجب أن تكون بديهية بجلاء. وإذا كان هناك شيء ما مناقض للبديهة، فلا ينبغي حقًّا أن يكون هو القاعدة. ربما كان توجيهًا أو ربما كان شيئًا نلتف حوله ونحاول تشجيع الناس على فعله. لكنك لن تقع في مأزق نتيجة عدم قيامك به.48
وأخيرًا، كان هناك عرف خاص بالملكية: لا يوجد من يمتلك ويكيبيديا حصريًّا. فقد أُنشِئ محتوى ويكيبيديا بموجب رخصة حقوق تأليف ونشر تضمن أن يظل مجانيًّا دائمًا يمكن لأي شخص أن ينسخ منه، وأن أي تعديلات يجب أن تكون مجانية هي الأخرى. هذا الترخيص «يساري الطبع» (بالإنجليزية copyleft وهو التعبير المقابل لكلمة حق التأليف والنشر copyright) — وهو تعبير من بنات أفكار ريتشارد ستُلمان — وضع العُرف النهائي المؤسس لهذه التجربة الفريدة من التعاون.
لو أنك من بين سبعة الأشخاص على مستوى العالم الذين لم يستخدموا ويكيبيديا بعد، فلا بد أنك ستسأل نفسك عما إذا كانت تلك التجربة في التعاون يمكنها أن تنجح أم لا. والإجابة أنها تنجح بالفعل، والمدهش أنها تحقق نجاحًا رائعًا، ولقد كان هذا أمرًا مفاجئًا حتى لمؤسس ويكيبيديا ذاته، جيمي ويلز. حسبما شرح لي بقوله:

مع ازدياد خبرة الناس في استخدام ويكيبيديا وقراءتهم لها كثيرًا، يبدءون في امتلاك هذا الإحساس البديهي بأن ويكيبيديا رائعة للغاية في كونها محايدة بشأن مواضيع تثير جدلًا شديدًا. وهذا شيء مذهل بعض الشيء. إنني أعرف على وجه اليقين أنك لو سألتني قبل ظهور ويكيبيديا ما المشكلة الكبرى التي يمكن أن تواجهها، لقلت لك: «يا للهول، إني آمل ألا تصبح شديدة الانحياز حول المواضيع الخلافية. إنني آمل ألا يحدث ذلك.» وقد تبين أنه لا يحدث، وأن هذا المجتمع رائع بالفعل … من أسباب ذلك العرف الاجتماعي الذي كان لدينا منذ البداية فيما يتعلق بالحيادية وفيما يتعلق بالتواصل.

ليس كل العمل داخل ويكيبيديا كتابة مقالات أصلية. الحقيقة أن الغالبية العظمى من العمل عبارة عن تنقيح، أو تحرير، للمحتوى؛ أي تصويب للأخطاء الإملائية أو أخطاء الصياغة، وإعادة كتابة الأطروحات المقدمة كي تتوافق مع معيار «وجهة النظر المحايدة»، أو ببساطة «تلطيف الرأي [حسب زعم ما] حتى يصير مقبولًا لدى قطاع أعرض من الناس.» ووفقًا لأحد التقديرات، فإن عشرة في المائة فقط من إجمالي عمليات التحرير تضيف محتوًى أصليًّا للموقع.49 أما الباقي فإنه عبارة عن عملية تنقيح لتلك الإضافات. وحتى هنا، فإن قدرًا أكبر من العمل يجري بواسطة عدد صغير نسبيًّا من المستخدمين. ووفق ما ذكره جيمي ويلز، فإن ٥٠٪ من جميع المحررات تتم على يد ٠٫٧٪ من المستخدمين؛ ما يعني حوالي ٥٢٤ شخصًا فقط من المستخدمين في عينته. وأنشط ٢٪ (١٤٠٠) في المستخدمين أنجزوا ٧٣٫٤٪ من جميع المحررات. ولدى حسابه للمحتوى، وجد آرون شفارتز أن «الغالبية العظمى من كبار المساهمين غير مسجلة، وأن معظمهم لم يقدم لويكيبيديا سوى حفنة من الإسهامات.»50
هذا التقسيم للعمل ليس موجهًا. فلا يوجد عرف «للعمل الروتيني» في ويكيبيديا. على حد وصف ويلز:

لو قال أحدهم: «حسنًا، إن لدي معلومات عن الطيور وسوف أدخل وأراقب بضعة مئات من المقالات عن الطيور، وسوف أقوم بين الحين والآخر بتحديثها عندما أشعر برغبة في ذلك، لكنني لست موجودًا طوال الوقت، ولست بحق واحدًا من الأعضاء المحوريين في المجتمع. بصراحة، ليس لدي وقت حقًّا، أو أشعر أن التعامل مع الجدل يستهويني، ولن أشغل خدمة تصحيح الأخطاء الإملائية، وكل ما سأفعله هو تلك الأجزاء التي أستمتع بها»؛ فهذا القول مقبول للغاية.

هؤلاء متطوعون يقومون بما يستهويهم. كل ما هنالك أنه يتبين أنك عندما تدعو العالم للمشاركة، فإن هناك متطوعين بأعداد كافية في نطاق من فئات العمل كفيلون بجعل الأمر برمته يعمل على أفضل نحو.

أول سؤال يطرحه كثيرون عن تلك الآلاف من المتطوعين هو: لماذا يقومون بهذا؟ (ومرة أخرى، هذا عالم من المتطوعين. فحتى فبراير من عام ٢٠٠٥، لم يكن هناك سوى موظف واحد فقط يعمل بدوام جزئي).51 «ولماذا يلعب الناس الكرة اللينة؟» هذا هو الرد التقليدي من ويلز.52 والإجابة بالطبع ببساطة لأنها تستهويهم أكثر من جميع الأشياء الأخرى التي يمكنهم القيام بها في نفس ذلك الوقت. لكن لماذا تستهويهم؟ من بين الأسباب أن هناك أيضًا بالفعل حافزًا جاهزًا وجذابًا، «يتعلق بالغير» يحيط بالمشروع. حسبما حكى ويلز لتابسكوت وويليامز: «إننا نتجمع سويًّا كي نبني هذا المورد الذي سوف يتاح لكل الناس في جميع أنحاء العالم مجانًا. وهذا هدف يمكن للناس أن يقفوا وراءه ويؤازرونه.»53
إن هذا الهدف يجعل الويكيبيديين (حسبما يطلقون على أنفسهم) مجتمعًا، ليس بالمفهوم المجرد لرهط من الناس لهم اهتمامات أو مصالح مشتركة، وإنما بالمفهوم شديد التميز لأناس عملوا سويًّا في حل مشكلة مشتركة. وعلى حد وصف ويلز:

في بعض الأحيان تكون كلمة المجتمع بلا معنى تقريبًا؛ إنها كلمة لا تعني سوى أن هناك أناسًا موجودين يقومون بأمر ما. غير أنه في ويكيبيديا، فإن المعنى من وراء كلمة مجتمع أن هناك أناسًا التقوا بعضهم ببعض؛ وهم يعرفون بعضهم بعضًا؛ وكانت لديهم دفوع وحجج؛ لقد اقتنعوا بها؛ كانت لديهم ضروب شتى من المجادلات؛ ولقد اجتمعوا سويًّا كي يعتنوا ببعض المشكلات؛ وهم يحبون بعضهم بعضًا؛ وهم لا يحبون بعضهم بعضًا؛ في بعض الأحيان يتواعد الناس على اللقاء وبعدها ينفصلون بعضهم عن بعض، وبعدها تسري بعض الشائعات وتقع بعض الفضائح، وكل الأمور التي تصنع مجتمعًا إنسانيًّا ثريًّا هي ما يحدث داخل ويكيبيديا. إنها ملحمة إنسانية مكتملة تقع أحداثها بالفعل داخل مجتمعنا.

من المرجح أن يلتقط هؤلاء الناس أي قمامة يجدونها في شوارعهم.

والمدهش، أن ويكيبيديا تتسم بالجودة حتى في أمور لا يسعك أن تربطها بأي موسوعة تقليدية؛ على غرار عرض تقارير إخبارية وتحليل الأحداث الإخبارية مثل مذبحة فيرجينيا تك وإعصار كاترينا. وحسبما يشرح ويلز:

من بين الأمور التي نتفوق فيها على الآخرين، حسب اعتقادي، أنه عندما يكون لدينا حدث جماهيري أو خبر عاجل، فإن من بين الأمور التي شهدناها أنه، لا سيما على المدى القصير، تقوم يكيبيديا بشيء غاية في التشويق صرت أقدره أكثر وأكثر بمرور الأيام؛ ألا وهو تجميع الأنباء التي تذاع. وهكذا عندما يكون لديك حدث كبير مثل هذا، سوف يكون لديك عشرة، أو عشرين، أو ثلاثين أو خمسين مراسلًا هناك، يجمعون المعلومات من مسرح الأحداث. غير أن كلًّا منهم لا يشاهد سوى الجزء الذي يتمكن من مشاهدته، وحتى إذا كانوا جميعهم صحفيين ممتازين إلى أقصى درجة ممن يبذلون قصارى جهدهم للحصول على القصة كاملة، فإن كلًّا منهم جاء من منظور معين، وكل واحد منهم يلتقي بأناس معينين لديهم آراؤهم الخاصة بهم. وبعدها تخرج تلك الآراء إلى النور على الشبكة العنكبوتية؛ حيث يصبح في استطاعة الناس قراءتها كلها.

ذكرت صحيفة نيويورك تايمز نفس النقطة بعد مذبحة فيرجينيا تك. فحسبما ورد في مقال نقدي: «من إسهامات ٢٠٧٤ محررًا، حسب آخر إحصاء، أنشأ الموقع مقالًا منمقًا وتفصيليًّا عن المذبحة، مصحوبًا بما يزيد عن ١٤٠ هامشًا منفصلًا، علاوة على أعمدة جانبية تحكي جوانب من حياة مطلق الرصاص — سيونج هوي تشو — كما قدمت خطًّا زمنيًّا للهجمات.»54 طالع هذا المقال أكثر من ٧٥٠ ألف شخص خلال اليومين الأولين. حتى الجريدة المحلية، روانوك تايمز، علقت بقولها إن ويكيبيديا «برزت باعتبارها الجهة المعنية بالمعلومات التفصيلية عن الواقعة.»55

لقد اعتبَرتُ ويكيبيديا جزءًا من «الاقتصاد التشاركي» برغم أنه، من الناحية الفنية، يسمح الترخيص الذي يحكم عمل ويكيبيديا لأي شخص بالنسخ من ويكيبيديا أيًّا كان الغرض الذي يسعى إليه، بما فيه بيع النسخ. فلا يوجد أي خطأ، على الأقل وفق الترخيص، في تشغيل موقع مدعوم إعلانيًّا يحمل نسخة مأخوذة من ويكيبيديا. لا توجد مشكلة في طبع نسخة مادية من المقالات المائة الأكثر جماهيرية وبيع تلك النسخ مقابل المال. إن القيد الوحيد في الترخيص أنك إذا أجريت تغييرات على ويكيبيديا، فإن عليك أن تحصل على ترخيص للنسخة الجديدة تحت نفس ترخيص النسخة القديمة. غير مسموح لأي شخص بإدخال تحسينات ثم إغلاق الباب على تلك التحسينات. فلا بد أن تُترَك هي الأخرى متاحة للتغيير.

غير أن ويكيبيديا لا تزال جزءًا من الاقتصاد التشاركي؛ لأن دخول الشخص عليها، أو حقه في تحريرها، يجعل قياس نجاحها بمقياس المال أمرًا غير ممكن. الأكثر طرافة من ذلك أن الموقع نفسه — ذلك الموقع المملوك لمؤسسة ويكيميديا — لا يضع إعلانات بهدف دعم إنفاقه. وهذا القرار مؤثر إلى أقصى درجة. فباعتباره واحدًا من المواقع العشرة الأولى على مستوى العالم، كان قرار عدم عرض إعلانات معناه تخلي ويكيبيديا عن ١٠٠ مليون دولار كان من الممكن أن تحققها كل عام. فلماذا؟ ما الذي يدفع هذا الموقع لتجاهل تلك الثروة الهائلة المتوقعة؟

أحد الأسباب التي تهم ويلز يتعلق مباشرةً بأهمية «وجهة النظر المحايدة». فحسبما شرح لي: «إننا نهتم بالفعل بأن تتطلع عامة الجماهير إلى ويكيبيديا في جميع أمجادها وفي جميع زلاتها، وهي عديدة بطبيعة الحال. غير أن الأمر الذي لا يقولونه هو: «حسنًا، إنني لا أثق في ويكيبيديا؛ لأنها في الأساس ليست سوى شيء تافه مملوء بالإعلانات».» إن التخلي عن الإعلانات أسلوب لشراء المصداقية، تمامًا مثلما يكون رفض أحد القضاة للرُّشَا وسيلة لشراء مصداقيته. ففي الحالتين، يمكننا أن نتخيل أن الكيان الذي يحصل على المال لن يتأثر بذلك المال. غير أنه لا يوجد سبيل ميسور للتأكد من أنه لم يتأثر. وهكذا وحتى تتحقق القيمة المنشودة — الحيادية، أو الإنصاف — يجب حذف المال من المعادلة.

إن ويكيبيديا نموذجي المفضل للاقتصاد التشاركي. فالمساهمين فيها لا تحركهم الأموال، وإنما هي المتعة أو البهجة مما يفعلونه. البعض يجد تلك البهجة لأن النتيجة شيء قيم للمجتمع. ويجد البعض الآخر البهجة لأنه لا يوجد شيء أفضل معروض على شاشة التلفزيون. وأيًّا كان السبب، فإن هناك دافعًا كافيًا موزعًا في أرجاء العالم لبناء موسوعة مجانية تجتذب في كل يوم المزيد من الاهتمام، تتفوق به على باقي الموسوعات الأخرى التي ظهرت على مر التاريخ مجتمعة. إن ويكيبيديا بالنسبة للثقافة تشبه نظام تشغيل جي إن يو/لينُكس بالنسبة للبرمجيات: شيء لم يكن أحد ليتوقع إنجازه، غير أنه شيء بناه قائد ملهم وأتباعه المخلصون مجانًا، ولكي يظل مجانيًّا.

(٩) ما بعد ويكيبيديا

غير أن شبكة الإنترنت تعلمت التشارك قبل ويكيبيديا بوقت طويل. والحقيقة أنه بسبب أن التجارة ظلت محظورة على الإنترنت حتى عام ١٩٩١، فإنه يمكن للمرء أن يقول بملء فِيه إن شبكة الإنترنت ولدت على هيئة اقتصاد تشاركي؛ ولم تلحق بها التجارة إلا لاحقًا. وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك. فلنبحث بعضها فحسب:
  • «جاء الكود الذي بنى الإنترنت من اقتصاد تشاركي»: كانت البرمجيات التي شيدت الإنترنت الأصلي نتاج تعاون مجاني. تم توزيع برنامج حاسب مفتوح المصدر، أو مجاني، على نطاق واسع لتمكين الحاسبات الخادمة وبروتوكولات الإنترنت من أداء وظائفها. وكان أشهر تلك المشاريع مشروع جي إن يو، الذي بدأه ريتشارد ستُلمان عام ١٩٨٣ بهدف بناء نظام تشغيل مجاني، مصمم بناءً على نموذج من يونيكس الذي كان مهيمنًا وقتها. وطيلة السنوات الست الأولى أو نحوها، عمل ستُلمان وأتباعه الأوفياء بعيدًا في تشييد البنية التحتية التي تجعل نظام تشغيل يعمل. وبحلول بداية التسعينيات، كان الجزء الرئيسي الغائب هو نواة نظام التشغيل، والذي بدونه لا يمكن لنظام التشغيل ككل أن يعمل.

    قرر أحد الطلاب الجامعيين الفنلنديين محاولة بناء تلك النواة. وبعد إجراء عدد من التجارب المبدئية على إحدى النسخ، أطلقها على شبكة الإنترنت متيحًا إياها للآخرين كي يضيفوا إليها. كان هذا الطالب الجامعي يدعى لينوس تورفالدس، وأطلق على تلك النواة اسم لينُكس. وسرعان ما تقدم متطوعون من جميع أنحاء العالم للمساعدة في تحسين النواة بقدر كان كافيًا، بعد أن أضيفت له مكونات أخرى من نظام جي إن يو، لبناء نظام تشغيل قوي ومتمتع بقدرة عالية أطلق عليه إما اسم لينُكس، أو الأفضل من هذا جي إن يو/لينُكس. سوف نرى المزيد عن هذا النظام التشغيلي في الفصل المقبل. والنقطة التي أود التعليق عليها الآن هنا أنه شُيد على يد آلاف المتطوعين الذين كتبوا كود البرنامج الذي ضمن في نهاية الأمر قدرة الناس على البناء عليه والمشاركة معًا في نظام تشغيل.

    الأقل شهرة من جي إن يو/لينُكس، لكنه في نفس درجة أهميته لتاريخ الإنترنت، تلك البرمجيات المجانية الكثيرة التي بنيت للربط بين أوصال شبكة الإنترنت. على حد تعبير روبرت يونج وويندي جولدمان في كتابيهما، تحت الرادار (١٩٩٩):
    في عام ١٩٨١، أنشأ إريك أولمان «سِندميل»، وهو برنامج مفتوح المصدر مسئول عن توجيه ٨٠٪ من البريد الإلكتروني الذي يرتحل عبر شبكة الإنترنت. وهو لا يزال حاليًّا يتمتع بصيانة الآلاف من المبرمجين على شبكة الإنترنت عبر الموقع sendmail.org. علاوة على ذلك، أنشأ أولمان مؤسسة سِندميل كنشاط تجاري في نوفمبر ١٩٩٨. ومن أجل تحقيق الربح، يقوم ببيع نسخ سهلة الاستخدام من البرمجيات المفتوحة المصدر، بجانب الدعم الفني والصيانة، للشركات المساهمة. هناك قوة أخرى مهمة في عالم المصادر المفتوحة؛ ألا وهي برنامج بيرل. أنشئ البرنامج على يد لاري وول الذي يبلغ من العمر ٤٣ عامًا، وهو عالم لغويات سابق. وقد أنشا بيرل أثناء عمله في «بوروز كورب» في مشروع ممول من الحكومة. البرنامج مجاني، مع أن وول باع ٥٠٠ ألف نسخة من كتيبات بيرل التي وضعها. وهناك برنامج آخر مفتوح المصدر، وهو بايند، ابتُكِر أصلًا في جامعة كاليفورنيا ببيركلي على صورة برنامج مجاني. وهو يتيح إدخال أسماء نطاق مثل لينُكس دوت كوم على هيئة عناوين اسمية نصية بدلًا من أن تكون على هيئة أرقام ماكينة (والتي تسمى عناوين بروتوكول الإنترنت، على غرار ٤٣.٧٢.٦٦.٢٠٩)، مما يسهل كثيرًا على الناس العاديين تصفح الإنترنت. كانت بداية أباتشي — وهي المجموعة التي أسسها بريان بيليندورف البالغ من العمر ٢٥ عامًا — عندما تمت الاستعانة بخدمات بيليندورف في بناء الموقع الخاص بمجلة وايرد. من أجل تطوير برمجيات حاسبات الشبكة العنكبوتية الخادمة، برمج بيليندورف تحسيناته الخاصة به ووزع نتائجه في جميع الأنحاء، مصحوبة بالكود الأصلي للبرنامج، على الإنترنت. ثم أضاف مساهمون آخرون برامجهم، وهكذا ولد البرنامج أباتشي. جاء الاسم Apache من حقيقة أن البرنامج عبارة عن مجموعة من «الرقع» patches من برامج جاءت من مساهمين عديدين. وفي الوقت الراهن، تستخدم أكثر من نصف مواقع الإنترنت البرنامج أباتشي. وقد اختارته آي بي إم — مفضلة إياه على برامج نتسكيب ومايكروسوفت مغلقة المصدر للخوادم — كي يكون أساسًا للبرمجيات التي تستخدمها آي بي إم في التجارة على الإنترنت.56
وتواصل أباتشي هيمنتها على خوادم الإنترنت: فطيلة معظم سنوات النصف الأول من العقد، كانت حصتها السوقية تربو على ستين بالمائة، واليوم، وبرغم المنافسة الشرسة من شركات الخوادم المملوكة كمايكروسوفت وأبل، لا تزال حصتها السوقية في حدود الخمسة والخمسين بالمائة.57 كل تلك المنتجات صُنِعت في البداية بأيدي أناس عاشوا داخل اقتصاد التبادل. غير أن تفاعلاتهم داخل ذلك النوع من الاقتصاد لم تكن تقاس بالنقود. كان البعض منهم يحصل على أجر من آخرين حتى يتمكن من تحمل تكلفة كتابة برنامج حاسب يمكن إتاحته ليكون مجانيًّا. غير أنه كان من المحظور في شروط التبادل الخاصة بإضافة وتغيير الأكواد أن يكون تجاريًّا. فترخيص البرمجيات المجانية الجوهري يسمح للمطورين ببيع برنامجهم، غير أنه لا يمكنك أبدًا أن تبيع الحق في تعديل أو تغيير الكود الذي يبنونه على البرمجيات المجانية. فالاقتصاد يجب أن يظل دومًا اقتصادًا تشاركيًّا.

لماذا ينجح هذا النوع من تطوير البرمجيات؟ أو الأفضل أن نسأل، لماذا ينجح في الغالب بصورة تفوق كثيرًا البرمجيات المملوكة لجهات معينة؟

من بين أسباب ذلك سبب يتعلق بالمعمار: فعندما تكتب برنامجًا سيعمل عليه آخرون، عليك أن تكون أكثر انضباطًا في برمجتك. فيجب أن تكون التعليقات متكررة كثيرًا. ويجب أن يكون البرنامج أكثر تقسيمًا إلى وحدات مستقلة. هذا البنيان يساعد على تقييم الثغرات. كما أنه يدعو أيضًا عددًا أكبر من الناس للاطلاع على عمل المبرمج: «مع وجود عدد كافٍ من العيون المحدقة تصبح الثغرات في خبر كان.»58
غير أن هناك سببًا ثالثًا كثيرًا ما يتجاهله الناس. إن البرامج المجانية والمفتوحة المصدر تستفيد من العائدات الآتية من التنوع على نحو لا تملكه البرمجيات المملوكة حصريًّا. وكما أوضح الاقتصادي سكوت بيدج في دراسة تأسيسية أجريت على كفاءة التنوع، لا يعتمد نجاح المشروع في حل مشكلة عويصة على «قدرة» الناس على حل المشكلة وحسب.59 فقد بين بيدج، من خلال استخدامه للاقتصاد الرياضي، أن النجاح يعتمد كذلك على «تنوع» الأشخاص الذين يحلون المشكلة. وما نحتاج إليه ليس فقط — أو ليس بالضرورة — تنوعًا عرقيًّا، وإنما تنوع في الخبرة والآراء المنتمية إلى جميع أنحاء العالم، بحيث يساعد ذلك التنوع المشروع على ملء البقاع العمياء التي لا بد وأن تتصف بها أي وجهة نظر بعينها.

قد لا تبدو هذه النقطة من الوهلة الأولى مفاجئة: بالتأكيد التنوع مفيد، تمامًا مثلما أن القدرة مفيدة. غير أن الجزء المدهش حقًّا في تحليل بيدج هو العلاقة بين الإسهام القادم من القدرة وذلك القادم من التنوع: إنهما متعادلان. وبهذا المفهوم فإن زيادة حجم التنوع، لها بالضبط نفس قيمة زيادة القدرة.

وهكذا، لو قورن بين مشروعين، أحدهما يكون العاملون فيه شديدي الذكاء لكن عددهم قليل للغاية، وآخر لا يتمتع العاملون فيه بنفس القدر من ذكاء سابقيهم لكنهم أكثر تنوعًا في الفكر بكثير؛ فإن المشروع الثاني يمكنه بيسر وسهولة التفوق على الأول في مستوى الأداء. وهكذا فإنه حتى إذا كنت تؤمن بأن الشركات المالكة للبرمجيات في استطاعتها الاستعانة بخدمات أفضل المبرمجين وأعظمهم، فإن أي مشروع مفتوح المصدر (به تنوع أوسع من المبرمجين) يمكنه بسهولة أن يتفوق في أدائه على المشروع المقيد بقيد الملكية لجهة ما.

وأنا أرى أن هذه الديناميكية تفسر قدرًا هائلًا من نجاح الاقتصاد التشاركي في مجال البرمجيات. ويمكنني بالمثل تفسير نجاح اقتصادات الإنترنت التشاركية كذلك:
  • «مشروع جوتنبرج اقتصاد تشاركي»: يعد مشروع جوتنبرج الذي تأسس عام ١٩٧١ (نعم، ١٩٧١) أقدم مكتبة رقمية. بدأ مؤسسه، مايكل هارت، المشروع من أجل تحويل الأعمال الثقافية إلى صيغة رقمية وتوزيعها. كان أول نص عمل عليه المشروع «إعلان الاستقلال». واليوم، هناك أكثر من اثنين وعشرين ألف كتاب ضمن المجموعة، بمتوسط خمسين كتابًا تضاف أسبوعيًّا.60 الغالبية العظمى من الكتب في المجموعة عبارة عن أعمال في المجال العام، أكثرها أعمال أدبية. ومعظم الأعمال باللغة الإنجليزية، ومعظمها متاحة في نصوص تحريرية فقط.61 ويصف هارت رسالته على نحو غاية في البساطة فيقول: «من أجل تشجيع إنشاء الكتب الإلكترونية وتوزيعها.» إن اقتصاد مشروع جوتنبرج من النوع التشاركي؛ فالمتطوعون يضيفون الأعمال إلى المجموعة، وينزل الناس الأعمال مجانًا من المجموعة. فالسعر، أو النقود، لا تُعيق الوصول للمجموعة. والإسهامات التطوعية هي كل ما يمكن للداعمين أن يعتمدوا عليه من أجل المحافظة على حياة العمل.
  • «المصححون المطبعيون الموزَّعون اقتصاد تشاركي»: اعتُبر مشروع المصححون المطبعيون الموزَّعون الذي كان الملهم له مشروع جوتنبرج لمايكل هارت وأسسه تشارلز فرانكس عام ٢٠٠٠، معاونًا على تصحيح الأخطاء المطبعية مجانًا للكتب التي أتاحها هارت مجانًا للناس. فمن أجل تصويب أخطاء تقنية التعرف على الحروف بصريًّا، يأخذ مشروع المصححون المطبعيون الموزعون صفحات من الكتب الممسوحة بالماسحات الضوئية ويقدمها لأفراد، بجانب النص الأصلي. وبعدها يقوم المتطوعون بتصحيح النص من خلال نوع من مشاريع الحوسبة الموزعة. (انظر البند التالي لمزيد من المعلومات عن الحوسبة الموزعة.) وقد أسهم مشروع المصححون المطبعيون الموزعون في مراجعة أكثر من عشرة آلاف كتاب موجودة على مشروع جوتنبرج. وفي عام ٢٠٠٤، كان هناك ما بين ثلاثمائة وأربعمائة مصحح يشاركون كل يوم؛ وكان المشروع ينهي ما بين أربعة وسبعة آلاف صفحة يوميًّا، وهو ما يبلغ معدله في المتوسط أربع صفحات في الدقيقة الواحدة.62 وكل هذا العمل تطوعي.
  • «مشاريع الحوسبة الموزَّعة اقتصادات تشاركية»: يعني مصطلح الحوسبة الموزعة الجهود المبذولة للاستعانة بالحاسبات الشخصية غير المستخدمة والمتصلة بشبكة الإنترنت في دعم قضية ما جديرة بالاهتمام (جديرة بالاهتمام من وجهة نظر المتطوع، على الأقل). كان أشهر هذه المشاريع مشروع سيتي آت هوم، الذي بدأ العمل به عام ١٩٩٩ وكان مصممًا بحيث يتم تقاسم القدرات الحاسبية بهدف اكتشاف الحياة خارج كوكب الأرض (أو على الأقل النوع الذي يستخدم موجات الراديو). شارك أكثر من ٥ ملايين متطوع بالفعل بأجهزتهم في هذا المشروع.63 ولكن هناك العديد من مشاريع الحوسبة بخلاف مشروع سيتي آت هوم، والمشروع الذي أفضله شخصيًّا هو أينشتاين آت هوم. وحسبما وصفته ويكيبيديا:
    أينشتاين آت هوم (أينشتاين في المنزل) مصمم بحيث يمحص البيانات التي يجمعها مرصد موجات الجاذبية بمقياس التداخل الليزري ومرصد جيو ٦٠٠ لموجات الجاذبية. بدأ المشروع رسميًّا في التاسع عشر من فبراير ٢٠٠٥ باعتباره جزءًا من إسهام الجمعية الفيزيائية الأمريكية في العام العالمي للفيزياء ٢٠٠٥. وهو يستعين بقدرة الحوسبة الموزعة الموجهة بأيدي متطوعين في حل المشكلة الحوسبية المكثفة الخاصة بتحليل قدر هائل من البيانات … وبحلول الثالث من يونيو ٢٠٠٦، أسهم أكثر من ١٢٠ ألف متطوع ينتمون لمائة وستة وثمانين بلدًا في المشروع.64
إن الإسهامات في مشاريع الحوسبة الموزعة تطوعية. إن السعر ليس مقياسًا للقدرة على المشاركة في المشاريع أو الاطلاع على نتائجها:
  • «أرشيف الإنترنت اقتصاد تشاركي»: يسعى مشروع أرشيف الإنترنت الذي بدأه عام ١٩٩٦ رائد الأعمال في مجال التكنولوجيا التسلسلية (وواحد من الناجحين في هذا المجال) بروستر كال، نحو تقديم «مدخل دائم للباحثين، والمؤرخين والدارسين كي يصلوا من خلاله إلى مجموعات تاريخية موجودة في صيغة رقمية.»65 ولكن من أجل القيام بذلك، يعتمد كال على ما هو أكثر من الدعم المالي السخي غير العادي الذي يقدمه للمشروع. فهو يعتمد بشدة على جهد تطوعي هائل من أجل التعرف على المحتوى الذي ينبغي أرشفته ورفعه على الشبكة. يوظف الأرشيف «ربما ما هو أقل من عُشر جهد شخص واحد» حسبما أخبرني. كما أن «أكثر من ألف شخص تقريبًا قاموا بتحميل ملفات على الشبكة» لأعمال إبداعية كي تحفظ.66 المحتوى بأسره متاح على الأرشيف. ولا يوجد شيء يقاس بسعر.
  • «مشروع رسم خريطة كوكب المريخ اقتصاد تشاركي»: العلماء في ناسا يستبد بهم الشوق نحو رسم خريطة لسطح كوكب المريخ. ورسم خريطة معناه التعرف على مواقع فوهات البراكين وتمييزها بعلامات، وكذا معرفة عمر الفوهات وغيرها من التكوينات الجيولوجية المهمة الأخرى. طيلة سنوات، أنجزت ناسا وغيرها هذه المهمة عن طريق الاستعانة بخدمات محترفين. لكن طيلة أحد عشر شهرًا بدأت في نوفمبر ٢٠٠٠، جربت ناسا أن تطلب من هواة أن يقوموا بما قام به محترفون.

    كانت النظرية التي تقوم عليها التجربة أن «هناك الكثير من المهام العلمية التي تتطلب الإدراك الإنساني والحس المنطقي، غير أنها قد لا تتطلب الكثير من التدريب العلمي.» وهكذا أعدت ناسا موقعًا يمكن فيه للمتطوعين من «العاملين بالنقر» أن يمضوا «بضع دقائق هنا وهناك»، وقد يعمل البعض منهم «فترة أطول» في أداء «تحليل علمي روتيني عادةً ما يجريه» محترف متخصص.67 على سبيل المثال، ضم هذا الموقع «واجهة تفاعلية ينقر فيها المساهم … على أربعة نقاط فوق حافة فوهة البركان فيشاهد دائرة تُرسم تلقائيًّا فوق الحافة … إن الضغط على زر يعرض مجموعة من خطوط العرض، والطول، وأرقام الأقطار وينقلها إلى قاعدة البيانات.»68
    كانت النتائج مذهلة. فبمجرد أن ذاع صيت المشروع، كان هناك «ما يزيد على ٨٠٠ مساهم صنعوا ما يربو على ٣٠ ألف مدخل لتمييز فوهات البراكين بالدوائر خلال أربعة أيام.»69 وحتى بعد تصحيح الأخطاء، تم هذا العمل «بسرعة تفوق ما يمكن لخريج واحد عمله، وكذلك بسرعة تفوق كثيرًا سرعة عودة البيانات الأصلية إلى الأرض بواسطة مركبة الفضاء.» قدم مساهمون عملوا لمرة واحدة ما نسبته سبعة وثلاثون بالمائة من النتائج. وعندما قورنت النتائج من حيث الفائض عن الحاجة، كانت الدقة بالغة الارتفاع. وحسبما خلصت دراسة النتائج فإنه «حتى إذا ارتكب المتطوعون معدلات أعلى من الأخطاء …، فإن تحليلًا رخيص الثمن يتم في الوقت المناسب يمكن أن يظل مفيدًا. وفي بعض التطبيقات، لا يزال في استطاعة البيانات المزدحمة الخروج بنتيجة إحصائية سليمة.»70 وعلى حد وصف يوشاي بينكلر: «ما تمكن علماء ناسا الذين أجروا تلك التجربة من سبر غوره كان عبارة عن بحر هائل من الإضافات مدة كل منها خمس دقائق من الأحكام البشرية، طبقت بدافع المساهمة في مهمة لا تتعلق ﺑ «كسب العيش».»71
  • «علم الفلك يزداد اعتماده يومًا بعد يوم على الاقتصاد التشاركي»: تاريخيًّا، اعتمد علم الفلك دومًا على الهواة. ولكن مع إتاحة التقنيات الرقمية الفرصة لجمع كميات هائلة من البيانات، هناك دفعة قوية داخل المجال لتشجيع التشارك في تلك البيانات في أوساط الفلكيين. وعلى حسب تعليق محرري مجلة نيتشر:
    إن تقنيات الشبكة العنكبوتية … تدفع شخصية الشبكة من كونها مكتبة كبرى نحو تقديم مساحة عمل تعاوني موجهة عن طريق المستخدم … منذ عقد مضى من السنوات، على سبيل المثال، كان علم الفلك لا يزال مكونًا بصورة كبيرة من جماعات تحتفظ بملكية بيانات مشاهداتها وتنشر نتائج فردية. والآن صار منظمًّا حول مجموعات كبيرة من البيانات؛ حيث يتم تبادل البيانات وترميزها وجعلها متاحة للمجتمع بأسره. التشارك المنظم في البيانات داخل نطاق مجتمعات بحثية أصغر حجمًا وأكثر تنوعًا أمر ينطوي على قدر أعظم من التحدي، ويعود ذلك إلى عدد لا يحصى ولا يعد من أنواع البيانات وصيغها المختلفة. كان التحول التقني الرئيسي الذي تمكن من تغيير كل ذلك ممثلًا في الابتعاد عن قواعد البيانات المركزية والتحول نحو ما يعرف باسم «خدمات الشبكة العنكبوتية.»72
حدود هذا التشارك إذن ليست تقنية. إنها «ثقافية». «سوف تظل روح التنافس العلمي دائمًا بداخلنا. غير أن تطوير ثقة ذات معنى لأولئك الذين يتشاركون في تلك البيانات أمر جوهري لتشجيع مجموعة متنوعة من الوسائل التي يستطيع الباحثون الآن من خلالها الإسهام في الأكاديمية العالمية.»73
هناك بعض الأدلة القوية على أن هذا العرف في حالة تطور. فمشروع السماء الرقمية على سبيل المثال، والممول من خلال المؤسسة الوطنية للعلوم، «يتيح إمكانية الدخول التلقائي على كتالوجات وبيانات صور، بجانب إمكانيات حوسبية كافية تتيح إجراء دراسات مترابطة وتفصيلية عبر سائر مجموعة البيانات.»74 وبالمثل في حالة المرصد الافتراضي الوطني الأمريكي، وهو مشروع آخر تموله المؤسسة الوطنية للعلوم يهدف إلى تطوير «مجموعة من الأدوات المتصلة بالإنترنت للربط بين جميع البيانات الفلكية العالمية، وإتاحة سبيل الدخول الميسور لكافة مواطني العالم بأسره على بيانات واردة من العديد من الآلات المختلفة، عند جميع الأطوال الموجية للطيف الكهرومغناطيسي من موجات الراديو وحتى أشعة جاما.»75 ويكون التركيز في كل تلك الأحوال على توفير الاقتصاد التشاركي في البيانات، وتمكين الباحثين من الاعتماد على البيانات في تحليل النتائج والتوصل للاستنتاجات التي تنهض بميدان علم الفلك:
  • «مشروع الدليل الحر اقتصاد تشاركي»: باعتباره مكملًا للخوارزميات البحثية التي تستخدمها كُبريات محركات البحث، يُعد مشروع الدليل الحر «أضخم، وأشمل دليل حرره البشر على شبكة الإنترنت. لقد أنشئ وتتم صيانته على يد مجتمع عالمي مترامي الأطراف من المحررين المتطوعين.» يُطلب من المتطوعين تسجيل الاشتراك في مجال بعينه من مجالات المعرفة. ثم تقدم لهم أدوات تساعدهم في تحرير وتعديل الروابط داخل الدليل. ويطلب الدليل من الناس منحه «بضع دقائق» من أوقاتهم «للمساعدة في جعل الإنترنت مكانًا أفضل مما هو عليه.»76 لا يُطلب مال للحصول على نتائج هذا المشروع، ولا نظير المساهمة فيه.
  • «الطعام المفتوح المصدر اقتصاد تشاركي»: حسبما وصفه مؤسسه: «ظهر الطعام المفتوح المصدر إلى الوجود؛ لأنني أردت أنا وأبي أن ننشئ مكانًا لأناس مثلنا. إننا لسنا بطهاة محترفين، نحن فقط نحب الطعام. إننا نريد التشارك والتعلم وتطوير أنفسنا بمساعدة محبي الطعام الذين يتشابهون معنا في عقليتانا. الطعام المفتوح المصدر منصة لهذا.» يسهم المستخدمون في قاعدة بيانات وصفات الطهي بوصفات يعرفونها. ومع أن الوصفات على ما هي عليه لا يمكن أن تكون متمتعة بحقوق التأليف والنشر في الولايات المتحدة، فإن الموقع يستخدم رخص المشاع الإبداعي للتأكد من إتاحة النص الوصفي والصور المصاحبة له مجانًا أيضًا.77 لا يطلب مال مقابل الدخول على هذا الموقع. والمساهمون فيه كلهم متطوعون.
قد تطول القائمة بلا نهاية. فالإنترنت مليء باقتصادات التشارك الناجحة، وفيها يساهم الناس لأسباب أخرى غير المال. وعلى حد زعم بينكلر، فإنهم يساهمون لا لأننا «نعيش لحظة فريدة من التشارك الإنساني»، وإنما السبب وراء كل هذا التشارك أن «الحالة التكنولوجية لمجتمع ما … تؤثر على الفرص المتاحة أمام … الجوانب الاجتماعية … وعلى أنماط إنتاج السوق والدولة.»78 إننا نعيش في زمن تحبذ فيه التكنولوجيا الجوانب الاجتماعية. ونتاج ذلك اقتصادات تشاركية أكثر تألقًا.

(١٠) ما يتشارك فيه الاقتصاد التشاركي

في كل تلك الحالات السابقة، يتشارك المساهمون في إنشاء شيء له قيمة، وهم يتشاركون تلك القيمة بمعزل عن المال. ليس معنى ذلك أنهم لا يشاركون في الأمر من أجل صالحهم، ولا معناه القول إنهم لا يحصلون على المال. (فالمبرمج العامل لصالح آي بي إم قد يحصل على مقابل مجزٍ لإضافته جزءًا من كود البرنامج لمشروع برمجيات مجانية. غير أن الحريات التي يتشارك فيها أولئك من خلال البرمجيات المجانية ليست مرتبطة بالمال.) ومن المؤكد أنه لا يعني القول إنهم مشاركون في الأمر فقط من أجل إفادة الآخرين وحسب. إن كل ما تتطلبه فئة «الاقتصاد التشاركي» أن تكون الشروط التي يساهم الناس بناء عليها في هذا الاقتصاد لا يشكل المال محورًا لها. ففي كل منها، لم يكن الهدف من تبادل العمل الذي تشارك فيه الناس هو مالًا قط.

إذن لماذا يفعل الناس ذلك؟ ما الذي يستفيدونه منه؟ وما دافعهم نحو القيام به؟

خضع ذلك التساؤل لدراسة مستفيضة في سياق البرمجيات المجانية والمفتوحة المصدر. وتبدأ الإجابة عليه بالإقرار بمدى صغر حجم «الدافع» بحيث إنه لا يحتاج لأي نوع خاص من التفسير. ففي شكل موازٍ لوفرة المشاع التي نادى بها دان بريكلين،79 نحن بحاجة لأن نتذكر أن قسمًا كبيرًا من الدافع للمساهمة في تلك الاقتصادات التشاركية مصدره أناس يصنعون من أجل أنفسهم ما يريدون أن يصنعوه على أية حال.
ففي البرمجيات المجانية والمفتوحة المصدر، على سبيل المثال، كثيرًا ما يكون العمل بدافع ذاتي: يواجه أحد المبرمجين مشكلة ما ويكون عليه علاجها (على حد تعبير إريك رايموند «يهرش مكان حكة جلدية»). حسب تقدير إريك فون هيبل في إحدى الدراسات فإن «ثمانية وخمسين في المائة من المجيبين على استطلاع الرأي قالوا إن الدافع المهم الذي دفعهم لكتابة برامجهم هو أنهم كانت لديهم حاجة متعلقة بالعمل (٣٣٪)، أو حاجة لا تتعلق بالعمل (٣٠٪)، أو كلتاهما (٥٪) للبرنامج ذاته.»80 بالنسبة لهؤلاء، لم يعد السؤال، لماذا يُقْدم شخص ما على كتابة البرمجيات؟ لكن بالنسبة للِّغز الأقل إلحاحًا بكثير والمتمثل في السؤال: لماذا يسهم شخص ما في تقديم الحل مجانًا للآخرين؟ فهذا، مثلما كتب ريشاب جوش، أبسط بكثير في الإجابة عليه. إنك لا تخسر أي شيء بالتنازل عن سلعة غير مادية قمت بإنشائها فعلًا؛ ولا سيما إذا كنت قد نلت أجرًا مقابل إنشائها بالفعل، وهذا مبرر كافٍ للمساهمة بها لآخرين.81
إذا تجاوزنا مسألة الإسهامات التي فُسِّرت بأن المساهم كان عليه أن يحل المشكلة بنفسه على أية حال، لوجدنا أن المنظرين تعرفوا على عدد من الأسباب الأخرى التي تفسر تلك الإسهامات في الاقتصادات التشاركية. ومرة أخرى نأخذ البرمجيات مثلًا؛ إذ تبين إحدى الدراسات التطوعية أن هناك نسبة لا بأس بها من المساهمين تحركهم دوافع الاستثارة الذهنية الخالصة (٤٥٪) أو تحسين مهاراتهم البرمجية التي يتمتعون بها (٤١٪ أدرجوا ذلك الدافع باعتباره واحدًا من أقوى ثلاثة مبررات).82
ويشير مبرر آخر إلى الحجة المتعلقة بالتنوع التي حددتها عليها في عمل سكوت بيدج الذي ذكرته من قبل. على حد تعبير ستيفن ويبر في كتابه «نجاح المصدر المفتوح»:
في ظل ظروف من معاداة الروح التنافسية، ومع ازدياد حجم جماعة الإنترنت المترابطة، ووجود توزيع غير متجانس للدوافع لدى أناس لديهم مستوًى مرتفع من الاهتمام وبعض الموارد التي يريدون استثمارها؛ فإن الجماعة الكبيرة تكون أقرب إلى تقديم الخير من الجماعة الصغيرة، مع تساويهما في باقي العوامل الأخرى.83

وهذا معناه أن مطوري مشاريع برمجيات المصادر المفتوحة والبرمجيات المجانية لديهم اهتمام قوي بأن يتشارك كثيرون في المشاريع؛ إذ كلما زاد عدد من يتشاركون فيها، زاد احتمال أن يكون لدى شخص ما دافع لتطويرها.

ويتعرف بيتر كولوك على دافع محتمل آخر؛ ألا وهو «توقع … التبادلية. كل من التبادلية الخاصة والمعممة يمكنها أن تجزي عن تقديم شيء له قيمة لشخص آخر. عندما لا يكون مقدمو المعلومة على معرفة بعضهم ببعض، كما هو الحال غالبًا لدى المساهمين في مشاريع برمجيات المصدر المفتوح، يطلق على نوع التبادلية المتعلق بهذا اسم تبادل «معمم».»84
وهكذا نرى أن هناك وفرة، لا فقرًا، في الدوافع. وكما كتب ويبر:
يوضح نجاح المصدر المفتوح أهمية وجود حل مختلف اختلافًا جذريًّا، مبني على فهم غير تقليدي لحقوق الملكية يدور حول فكرة التوزيع. إن المصدر المفتوح يستعين بهذا المفهوم في الغوص بداخل نطاق عريض من الدوافع والمشاعر الإنسانية، تتجاوز الحسابات المباشرة لأجور العمالة. كما أنه يعتمد على مجموعة من الهياكل التنظيمية لتنسيق السلوكيات حول مشكلة إدارة الابتكار الموزَّع، والتي تختلف عن تقسيم العمل. لا يوجد من تلك السمات ما هو مستحدث بالكامل، أو قاصر فقط على مجال المصادر المفتوحة أو الإنترنت دون غيره. لكن تلك السمات إذا جمعت معًا، تعد مكونات عامة لأحد أساليب إنجاز الأمور التي لها نتائج واسعة مرتقبة قد تؤثر على الاقتصاد والسياسة.85

من وجهة نظري، فإن أيسر إجابة على سؤال الدافع تأتي من صياغته في إطار سؤال أكثر تعميمًا: لماذا يفعل الناس تلك الأشياء مجانًا بدلًا من أن يشاهدوا التلفزيون مثلًا؟

في بعض الحالات، يكون الرد ببساطة أن دافع النشاط التشاركي أكثر إلحاحًا. هذا دافع «متعلق بالذات» بصورة بحتة. فأنا أود أن ألعب لعبة (في أحد عوالم إم يو دي وإم أو أو الافتراضية)، أو أكتب مقالًا (ويكيبيديا)، أو أيًّا كان، لأنني أهوى ذلك.

في بعض الحالات، تكون الإجابة أقرب إلى دافع يتعلق بالغير: كان من بين دوافع الكتابة من أجل ويكيبيديا مساعدتها على إتمام رسالتها على أكمل وجه: «ويكيبيديا مشروع لبناء موسوعات حرة بجميع لغات العالم. والواقع أن أي امرئ يمكنه الدخول على الإنترنت يملك حرية المشاركة، بإسهامه بمعلومات محايدة مأخوذة عن مراجع.» يساهم الناس لأنهم يرغبون في أن يشعروا بأنهم يقدمون العون للآخرين. بعض الناس يقدم العون في أرشيف الإنترنت أو مشروع جوتنبرج لأنه يريد أن يكون جزءًا من رسالتهما: تقديم «مدخل دائم متاح للباحثين، والمؤرخين، والدارسين للحصول على مجموعات تاريخية موجودة في صيغة رقمية» (أرشيف الإنترنت) أو «تشجيع إنشاء كتب إلكترونية وتوزيعها» (مشروع جوتنبرج).

ولكن من جديد، حتى الدوافع المتعلقة بالغير لا تعني بالضرورة أن هناك تضحية بالنفس. فأنا أشك في أن يتقدم أي شخص للمساهمة في ويكيبيديا وهو يكره ما يفعل، أو لمجرد إيمانه بأن من واجبه المعاونة في خلق معرفة مجانية. يمكننا جميعًا أن نتفهم في ظل الاقتصاد التجاري سلوك الأشخاص الذين يكرهون ما يفعلونه لكنهم يفعلونه على أي حال («إنه يؤدي عمله فقط من أجل المال»). هذا الدافع يصعب جدًّا تخيله في نطاق الاقتصاد التشاركي. ففي الاقتصاد التشاركي، يسهم الناس فيه من أجل الشيء الذي يصنعونه؛ سواء لأنهم يهوون العمل، أو لأنهم يهوون صنع تلك الأشياء. في أي الحالين، تلك الأماكن تملؤها السعادة. فالناس يتواجدون هناك لأنهم راغبون في ذلك.

أو حتى نعرض الفكرة بصورة أكثر اكتمالا؛ لأنهم «يرغبون في أن يكونوا» هناك بعد علمهم بالخيارات التي تقدمها التكنولوجيا. حسبما أوضح بينكلر هذه النقطة على أفضل ما يكون، التكنولوجيا لا تحدد أي نتيجة.86 لكن التقنيات المختلفة تدعو لاتباع سلوكيات مختلفة. لقد عملت التغيرات التي طرأت على التكنولوجيا والتي قدمت لها وصفًا ها هنا «على زيادة حجم دور الإنتاج [التشاركي].»87 وإذا واصلت النمو، فإن الطريق سيصير ممهدًا أمامها كي تصبح جزءًا من «اللب، بدلًا من أن تكون عند حافة الاقتصادات الأكثر تقدمًا.»88 ولقد أنجزَت بالفعل ما هو أكثر بكثير من قدرة أي امرئ على التنبؤ منذ عشر سنوات مضت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤