الفصل الثامن

دروس في الاقتصاد

عندما يتفاعل الاقتصادان التجاري والتشاركي معًا، ينتجان الاقتصاد الهجين. أما مسألة الحفاظ بنجاح على استدامة الهجين الناتج فهي أصعب. ونحن لم نشهد بعد ما يكفي للقول بأي استنتاج قاطع في هذا الصدد، لكننا شهدنا ما يكفي لوصف بعض الدروس والعبر المهمة.

(١) الاقتصادات المتوازية ممكنة

أبسط استنتاج، ولعله أهم استنتاج، هو أن الاقتصادات المتوازية أمر ممكن. إن العمل الذي يرخص له بنجاح في اقتصاد تجاري يمكن أيضًا إتاحته مجانًا في اقتصاد تشاركي. ولو لم يكن هذا صحيحًا، فلن تكون هناك صناعة تسجيلات تجارية على الإطلاق، فبرغم الحرب التي شنت على تبادل الملفات، فإنه من الناحية العملية كانت كل قطعة موسيقية متاحة تجاريًّا متاحة أيضًا بشكل غير شرعي على شبكات الند للند؛ ولم يُقطع سبيل هذا التشارك لا بالحرب التي شنتها صناعة التسجيلات، ولا عن طريق المحكمة العليا بإعلانها أن هذه الممارسة غير مشروعة.1
غير أنه برغم هذا التشارك الهائل، حسب الإحصائيات الخاصة بصناعة التسجيلات، فإن مبيعات الموسيقى انخفضت بنسبة ٢١٪.2 ولو لم تكن الاقتصادات المتوازية ممكنة، لكانت تلك الواحد والعشرون قد صارت مائة في المائة.

الاقتصادات المتوازية التطوعية ممكنة أيضًا وغالبًا ما تكون مربحة. عندما اكتشفت شركات التسجيلات الكبرى الفنانين في موقع سي سي ميكستر ثم وقعت معهم اتفاقات أو عقودًا لعمل ألبومات، ظل العمل الذي كان الفنان يرخص استخدامه مجانًا مجانيًّا كما هو. والحقيقة أنه في بعض الأحيان، كانت نفس الأغنية تُرخَص لكل من الأغراض التجارية وغير التجارية. وساعد ذلك النواحي التجارية. وسوف يحذو المزيد من الفنانين وشركات الأسطوانات في المستقبل هذا الحذو.

(٢) أدوات تساعد على توجيه المبدع نحو الاقتصاد الذي يبدع من أجله

أثناء مفاضلة المبدعين للاختيار من بين هذين النوعين من الاقتصاد، طورت السوق — متحررةً من التدخل الحكومي — أدوات توجههم نحو نوع الاقتصاد الذي ينوون أن يكونوا جزءًا منه. فعندما رغبوا في أن يكونوا جزءًا من الاقتصاد التجاري حصريًّا، ارتبطوا بممثليه التقليديين. تتحدث «الرابطة الأمريكية لصناعة التسجيلات»، على سبيل المثال، بشكل طيب عن أولئك الفنانين الراغبين في أن يوزع فنهم وفق قواعد السوق التجارية وحدها. عبارة «جميع الحقوق محفوظة» حظر مألوف. أما عبارة «لا تشارك» فهي شعار غير مألوف للأسف. ولكن عندما يرغب الفنانون في الإبداع من أجل اقتصاد تشاركي، فإنهم يستخدمون بصورة متزايدة لافتات تميزهم باعتبارهم أعضاء في هذا الاقتصاد. هناك أدوات مثل ترخيص المشاع الإبداعي «غير التجاري» تمكن الفنان من أن يقول «خذ عملي وشارك فيه غيرك مجانًا. دعه يكن جزءًا من اقتصاد تشاركي. لكنك إذا أردت أن تنقل هذا العمل إلى الاقتصاد التجاري، فإن عليك أن تطلب مني ذلك أولًا. وحسب العرض المطروح، قد أوافق وقد أرفض.»3

يشجع هذا النوع من الإشارات الآخرين على المساهمة في الاقتصاد التشاركي؛ مما يمنحهم الثقة في أن هديتهم لن تستغل في أغراض غير متسقة مع طبيعة الهدية. وهي بذلك تشجع هذا النوع من اقتصاد التهادي؛ لا عن طريق التقليل من شأن الاقتصاد التجاري أو تشويه صورته، وإنما ببساطة عن طريق إدراك الحقيقة البديهية القائلة بأن البشر يتصرفون بدوافع متباينة، وأن الدافع للعطاء يستحق الاحترام بنفس القدر الذي يستحقه الدافع نحو الأخذ.

(٣) المتحولون في نمو

مثلما يشير الدرس الثاني، لا شيء يمنع عمليات التحول. لا يوجد خطأ، على سبيل المثال، في أن يأخذ فنان سبق له أن أبدع شيئًا وقدمه مجانًا في نطاق اقتصاد تشاركي، عمله الإبداعي هذا ويبيعه لمحطة إن بي سي أو لشركة وارنر براذرز. والحقيقة أن هذا الأمر يحدث طوال الوقت في دنيا الأعمال المرخص بها من قبل منظمة المشاع الإبداعي. ولما كان من الممكن وجود اقتصادات متوازية، فإن الكثير من المساهمين اكتشفوا أن اللعب في نوع واحد من الاقتصاد لا يحرمهم من اللعب في النوع الثاني.

في عام ٢٠٠٥، على سبيل المثال، كانت إحدى الفرق الكوميدية التي تنتمي للوس أنجلوس واسمها لونلي آيلاند تسعى — مثلها مثل العديد من تلك الفرق — لأن يكتشفها أحد. فوضعت مادتها على الشبكة العنكبوتية بترخيص المشاع الإبداعي، بحيث تمكن الآخرين من التشارك في عملها ومزجه مع أعمال أخرى، طالما أنهم سيردون الفضل في النهاية لفرقة لونلي آيلاند. مثال ذلك أن الفرقة صورت عملًا قصيرًا دالًّا على موهبتها لتعرضه على شركة فوكس بعنوان «أوسمتاون». ورفضت فوكس العمل، غير أن لونلي آيلاند وضعت العمل الدعائي بأكمله على الشبكة العنكبوتية تحت ترخيص المشاع الإبداعي. واستخدمت الفرقة الترخيص سواء لترويج عملها، أو حسبما علق أعضاؤها في حوار أجري معهم، «لحماية أنفسهم وجماهيرهم. وهذا هو ما أقنعنا به. فهذا الأمر يتيح للجميع معرفة ما هو مجاني كي يتشاركوا فيه فيصنعوا توليفات من مادتنا، فجميع القواعد موجودة هناك، وهم ليسوا بحاجة لطلب تصريح.»4

وشاهد شخص ما من طاقم العمل في برنامج «ساترداي نايت لايف» عمل الفرقة وأعجب به. وفي خريف عام ٢٠٠٥، انضم أحد أعضاء الفرقة إلى طاقم عمل البرنامج كعضو طاقم، بينما انضم الآخران كمؤلفين. لا تزال أعمالهم متاحة بموجب رخصة المشاع الإبداعي، غير أن هذه الرخصة ساعدتهم أيضًا على التحول نحو الاقتصاد التجاري.

(٤) الحوافز القوية سوف توجه الكيانات التجارية نحو التهجين يومًا بعد يوم

برغم ما تطنطن به الكيانات الهجينة من بلاغة خطابية، فإنها تمارس عملها بالأساس من أجل المال. إن الكيانات التجارية التي تستفيد من الاقتصاد التشاركي تقوم بذلك لأنها تؤمن بأن منتجها أو الخدمة التي تقدمها سوف تصبح أعلى قيمة لو أن الناس استفادت منها. والاقتصادات التشاركية التي تجلب التجارة إلى الخليط تفعل ذلك لأنها تؤمن بأن عائداتها ستزداد. إن النموذج الهجين وسيلة لإنتاج القيمة. ولو لم يكن كذلك، لما اتبع أي كيان هذا النموذج الهجين.

من بين طرق إنتاج الكيان الهجين للقيمة الكشف عن المعلومات مجانًا. الكيان الهجين بطبيعته لا يمكنه التحكم تحكمًا حصريًّا في المعرفة أو الممارسة العملية للاقتصاد التشاركي الذي يعتمد عليه؛ ولهذا فإن تصميمه يترك الباب مواربًا للبحث أو للتطوير، والشركة ببساطة تتنازل عن ذلك الأصل المادي.

قد يتحير البعض من فكرة أن التنازل عن شيء ما قد يشكل استراتيجية لجلب المزيد من المال. والحقيقة أن انحيازنا الفكري بشأن مفاهيم معينة مثل الملكية يقودنا في الغالب، وبصورة غريزية، نحو الاعتقاد بأن أفضل استراتيجية لإنتاج الثروة أن تسعى لبلوغ أقصى قدر ممكن من التحكم في الأصول التي نمتلكها، بما فيها (وهو الأهم في حالتنا هذه) أصول الملكية الفكرية.

إذا وجدت نفسك منجذبًا إلى هذا الرأي، فحريٌّ بك أن تستطلع الكتابات المتزايدة يومًا بعد يوم عن الاستراتيجية المضادة، التي يستعين بها طواعية أولئك الساعون نحو نفس الغاية: الثروة. وعلى حد وصف إريك فون هيبل: «الابتكارات التي تم التوصل إليها بتكلفة تحَمَّلها قطاع خاص غالبًا ما يكشف عنها مجانًا، وهذا السلوك منطقي في نظر المشاركين الذين يواجهون ظروفًا مشتركة.»5 على سبيل المثال، «عقب انتهاء سريان براءة اختراع واط، ابتكر مهندس يدعى ريتشارد تريفيثيك نوعًا جديدًا من المحركات التي تعمل بالضغط العالي عام ١٨١٢. وبدلًا من أن يسجل ابتكاره في براءات الاختراع، جعل تصميمه متاحًا للجميع كي يستخدموه دون مقابل.»6 وانتشر العمل ليصبح أساسيًّا في ذلك الميدان. ويقدم فون هيبل مجموعة من الأمثلة المعاصرة التي تتبع نفس الاستراتيجية.
هؤلاء المبتكرون لا يتصرفون بناءً على وازع خيري، وإنما هي استراتيجية لتحقيق عائدات أفضل. «إن الجهود الإيجابية تجاه نشر المعلومات عن ابتكاراتهم تشير إلى وجود مكافآت إيجابية خاصة يحصلون عليها من وراء الكشف المجاني عن الابتكارات.»7 أو لنقلها بشكل مختلف، «السكب» المتعمد للمعلومات ربما يفيد في الغالب كلًّا من الكيان العام والخاص الذي يمارس هذا السكب.
ومرة أخرى نؤكد أن هذا قد يبدو في نظر الكثيرين أمرًا غير منطقي. فالاقتصاد يعلمنا أن السكب (بما يعني إتاحة الموارد لكيانات لم تسهم في إنتاجها) هو نوع من التأثير الخارجي (وإن كان هذا تأثيرًا إيجابيًّا). ويمضي الدرس فيقول إن التأثير الخارجي ينبغي أن يتم «ترسيخه». سواء كان إيجابيًّا (كالموسيقى الجميلة) أم سلبيًّا (كالتلوث مثلًا)، فإن الشخص المبدع للشيء المسكوب ينبغي أن يدفع ثمنه؛ سواء بطريقة إيجابية (عن طريق التخلص من التلوث)، أم بطريقة سلبية (بتحصيل شيء من المكافأة عن الخير الذي أنتجه لعموم الناس). ومثلما كتب هيبل:
يفترض «نموذج الاستثمار الخاص» للابتكار أن الابتكار سوف يكون مدعومًا بالاستثمار الخاص إذا تمكن المبتكرون من تحقيق أرباح جذابة عن طريق ابتكارهم. وفي هذا النموذج، أي كشف مجاني أو «سكب» بدون مقابل أو معرفة مملوكة لجهة ما تُطور عن طريق استثمار خاص؛ سوف يقلل من أرباح المبتكر؛ لهذا من المفترض أن المبتكرين سوف يناضلون من أجل تجنب حالات سكب المعلومات المتعلقة بالابتكار؛ إذن من وجهة نظر هذا النموذج، الكشف المجاني عن المعلومات يعد مفاجأة كبرى؛ إنه يبدو من غير المنطقي أن يهب المبتكرون عمدًا المعلومات مجانًا، وهي التي استثمروا فيها المال كي يبتكروها.8
لكن في حقيقة الأمر، أنتجت عمليات السكب، تاريخيًّا، قيمة عظيمة للمجتمع. وطبقًا لتقديرات ويليام بومول، فإن «عمليات سكب الابتكارات، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وفق التقديرات تشكل نسبة تفوق بكثير نصف إجمالي الناتج القومي الحالي، بل ويمكن الزعم بأن هذا الرقم متحفظ للغاية.»9 والإنترنت أبسط مثال: فقد اقتنص «مبتكرو» الإنترنت نسبة ضئيلة للغاية من قيمته؛ كان السكب حاسمًا بالنسبة لأغلب النمو الاقتصادي في أمريكا على امتداد الخمس عشرة سنة الماضية.
فالمجتمع ليس وحده من يستمتع بالخير. وإنما يستمتع به أيضًا في كثير من الأحيان (وإن كان بالتأكيد ليس دومًا) الشخص الذي يكشف عن المعلومات. إن فون هيبل يكتب واصفًا مؤلفي البرمجيات المفتوحة المصدر، فيقول:
[إذا] كشفوا عنها مجانًا، فإن باستطاعة آخرين التخلص من الفيروسات والتطوير فوق الجزئيات البرمجية التي أسهموا بها، لمنفعة الجميع. كما يحفزهم كذلك أن يتم إدماج التحسين الذي أدخلوه ضمن النسخة القياسية للبرنامج المفتوح المصدر التي توزع بصفة عامة بواسطة منظمة مستخدمي المصادر الحرة المتطوعين؛ لأنها سوف تُحدَّث ويتم الحفاظ عليها دون بذل مجهود إضافي من جانب المبتكر.10
قادت تلك الاعتبارات عديدين — ومن بينهم بومول — إلى أن يخلصوا إلى أنه «رغم عمليات السكب الكثيرة (التأثيرات الخارجية) للابتكار، فإن الإنفاق على البحث والتطوير في اقتصاد السوق الحرة ربما يكون مع ذلك أقل كفاءة بكثير.»11 أو لنقلها بشكل مختلف، من بين جميع المشكلات التي نحتاج إلى حلها، فإن حذف التأثير الخارجي الإيجابي ربما يكون بالفعل أدناها في القائمة.
إذن متى يكون من المنطقي الكشف عن معلومات من أجل بناء مشروع هجين؟ من بين العوامل تباين نوعيات العملاء. يكتب فون هيبل قائلًا: «لا تزال البيانات قليلة للغاية، لكن التباين [أو التنوع] الشديد للحاجات تفسير مباشر للغاية بسبب وجود قدر كبير جدًّا من التوفيق مع الاحتياجات من قبل المستخدمين؛ فكثير من المستخدمين لديهم احتياجات «مفصلة» للمنتجات والخدمات.»12 وهناك عامل آخر وهو الإفادة بالرأي التي تحصل عليها الشركات من هذا النوع من الابتكار التعاوني. ومرة أخرى نعود لفون هيبل الذي يقول: «زاد حجم الجاذبية التجارية للابتكارات التي يتوصل إليها المستخدمون جنبًا إلى جنب مع ارتفاع قوة مواصفات المستخدمين القادة.»13 إذن تشجيع هؤلاء «المستخدمين القادة» على الابتكار يعد وسيلة قوية لدفع مسيرة الابتكار على مستوى الشركة.14

رغم ازدياد أعداد الهجائن مع انتشار الإنترنت، فإنني لا أصف قاعدة خاصة للاقتصاد لا تعيش إلا في العالم الافتراضي وحسب. فالحقيقة أنه بالتوازي مع نشر الهجين للحق في الابتكار، فإن هذا الحراك يتتبع من جديد المبدأ بالغ القدم الذي شرحته من قبل وهو: تحويل الابتكار بعيدًا عن لب المؤسسة كلما سمحت تكاليف المعاملات بذلك.

إن الاقتصاد الهجين يعلمنا أن هذه الاستراتيجية سوف تزداد انتشارًا كلما تكاثرت تقنيات خفض تكاليف المعاملات. وبالعكس، سوف يضيق الخناق عليها بسبب تلك التغيرات التي تزيد من تكاليف معاملات الاقتصاد الهجين.

(٥) إحساس الناس بالعدالة سوف يكون من أسباب قوة علاقة التهجين بين الاقتصادَين التشاركي والتجاري

ليس لتلك الاقتصادات الهجينة تاريخ طويل بعد. وما من شك أن الحماس المبدئي سوف يفسح الطريق في القريب العاجل لوجهة نظر محسوبة أكثر، وربما كانت متشككة. فأولئك المساهمون في الاقتصاد التشاركي في نطاق هجين ما، سوف يزداد تعجبهم يومًا بعد يوم من ذلك العالم الذي يستغل فيه العمل المجاني من قبل شخص آخر. هل يجب أن يحصلوا بدورهم على مقابل؟ وما طول المدة التي ستعيشها تلك الكيانات الهجينة؟

البعض يتخوف من ألا تعيش طويلًا. في مؤتمر عقد في سان فرانسيسكو، أعرب ريتش جرين، نائب الرئيس التنفيذي لشئون البرمجيات بشركة صن، عن تشككه قائلًا: «إنها حقًّا إنتاج بشري اجتماعي يدعو للقلق، وأعتقد أنها على المدى الطويل … ليست مستدامة. إننا ننظر عن كثب إلى إمكانية تعويض الناس عن العمل الذي يقومون به.»15

لكننا رأينا أن الاكتفاء بتعويض الناس ليس هو الحل بالضرورة. إن أخلاقيات الاقتصاد التشاركي تختلف عن تلك التي يتصف بها الاقتصاد التجاري. فلو كان عمَلُ أولئك المتطوعين بوضوح مجرد جزء من اقتصاد تجاري، لكانت الإجابة حينئذ بسيطة: بالطبع، يجب تعويضهم ماديًّا؛ وما لم يحصلوا على أجر، فإنهم لن يعملوا. ولو كان عمل المتطوعين هو مجرد جزء من الاقتصاد التشاركي، فإن الإجابة ستكون بسيطة كذلك: إنه لن يكون (لزامًا) عليك أن تدفع للمتطوعين أكثر مما تدفعه مقابل ممارسة الحب مع زوجتك.

أما لو كان عمل أولئك المتطوعين جزءًا من اقتصاد هجين، فإننا لا نملك بعدُ إجابةً واضحة على هذا السؤال. إذا شعر الكيان الهجين أنه مفرط في الاقتراب من التعامل التجاري، فإن هذا الأمر يمتص عصارة حماس المتطوعين نحو العمل. أسس بروستر كال أرشيفًا على الإنترنت لا يهدف للربح بعد أن حقق الربح من العديد من المشاريع التجارية، وحسبما أخبرني: «إذا شعرت وكأنك تعمل عند الرجل ولا تحصل منه على أجر، فإنك تشعر بالضيق … إن الناس ليست لديهم مشكلة مع التواجد داخل اقتصاد الهبات، ولكن عندما يتعلق الأمر باقتصاد سلع تباع لقاء أجر … فإن الناس يصدرون «رد فعل تلقائي». و«رد الفعل التلقائي» هنا هو الشعور بأنهم، أي المتطوعين، مجموعة حمقى؛ لأنهم يمنحون شيئًا ما «للرجل» مجانًا. ولا يوجد إحساس أكثر مرارة من ذلك الإحساس للاقتصاد الهجين، غير أنك سواء أحببت أم لا، فإن صيحات النقد تتعالى. يقول أوم ماليك، مؤسس «جيجاأومنيميديا»:
لقد تساءلت بصوت عالٍ إن كانت هذه الثقافة التشاركية على ما يبدو تساعد على بناء نشاط تجاري على أكتافنا جميعًا. إذن لو أننا وضعنا بطاقات عنونة، أو سجلنا صفحاتنا المفضلة، أو تشاركنا، أو ساعدنا مواقع ديل.يش.اس أو تكنوراتي أو ياهو على أن تتحول إلى كيانات تجارية أفضل حالًا، ألسنا نبدو بذلك كمن يحول أنفس أصوله — ألا وهو الوقت — إلى سلعة؟ إننا نتحول إلى قوة عمل يعهد إليها العمل من جهة خارجية، رغم أنه لا يزال من غير الواضح ما سيكون العائد الذي سيعود علينا. فمع أننا من الجائز (وقد لا يكون من الجائز) أن نجني شيئًا ما من الجهود الجماعية، فالأغلب أنه، بغض النظر عن طبيعة هذا «الجهد الجماعي»، سيؤدي إلى تعزيز القيمة الاقتصادية لتلك الكيانات. فهل سنتشارك نحن في تلك القيمة المتزايدة؟ هذا غير مرجح!16
طرح أنيل داش، نائب رئيس سيكس أبارت، هذا السؤال بصورة مباشرة أكثر: «هل ينبغي على فليكر أن تعوض المبدعين عن الصور التي تتمتع بأفضل شعبية على موقعها؟»17 يصف تابسكوت وويليامز الإجابة على ذلك السؤال على لسان كاترينا فيك، الشريكة في تأسيس موقع فليكر:
هناك نظم من القيمة غير المال، أو بالإضافة إلى المال، تشكل أهمية بالغة للناس: الارتباط بأناس آخرين، وإنشاء هوية على شبكة الإنترنت، والتعبير عن الذات، وأيضًا — وهو ليس أقلها أهمية — الاستحواذ على انتباه الآخرين. إن الشبكة العنكبوتية — والعالم في حقيقة الأمر — سوف تتحول إلى مكان أكثر فقرًا بكثير بدون السخاء الجماعي من المساهمين فيه. إن ثقافة السخاء تعد بالفعل العمود الفقري للإنترنت.18
من الصعب على كثيرين أن يفهموا كيف يمكن «لثقافة السخاء» أن تتعايش مع أخلاقيات الربح. إن شعار «كن كريمًا، كي أجني أنا المال» يبدو أشبه بفكرة لا يمكن لعقل أن يقبلها. وهكذا، وبصورة متزايدة، علينا أن نسأل كيف يمكن لتلك المعايير المتباينة أن تُرغم على التعايش سويًّا. يقترح جِف جارفيس، وهو صحفي ومدون، أن على الشركات أن «ترد أرباح الأسهم إلى الجمهور»، وأن تتفادى بَذْل جهد شاق في «السيطرة على الحكمة [المجمعة]، وأن تحد من استخدامها والتشارك فيها.»19 ويتقدم تابسكوت وويليامز بنفس التوصية «فمنصات المشاركة لن تظل على قيد الحياة إلا ما دام جميع من لهم مصلحة فيها ينالون المقابل العادل على نحو ملائم وكافٍ عن إسهاماتهم، فلا تتوقع أن تتربح على حسابهم إلى الأبد.»20

إن كلمة السر هنا هي «على نحو ملائم». من الواضح أنه لا بد هناك من تعويض مناسب. ولكن نوع التعويض هو الأمر المحير. ومرة أخرى، نقول إن «الاقتصاد التشاركي» لعاشقَين هو ذلك الاقتصاد الذي ينبغي أن يكون فيه كلٌّ منهما حريصًا على حصول الطرف الآخر على تعويض «كافٍ وملائم عن إسهامه». غير أن كتابة شيك بمبلغ كبير كطريقة للتعبير عن «الشكر عن الوقت الذي قضيتماه سويًّا» على الأرجح لن يكون بالفعل الصائب.

وبالمثل، هناك غموض آخر مهم يكتنف فكرة «التربح» هذه؛ إذ مرة أخرى نقول، لو أن بريكلين محق — أي إذا حقق الكيان النجاح عندما صمم كي يمنح المستخدم ما يريده، في نفس الوقت الذي يسهم فيه المستخدم بالمقابل بشيء ما لصالح الكيان التجاري، أو الاقتصاد التشاركي، أو للهجين — حينها نسأل هل يتربح الكيان من وراء المستخدم حقًّا؟ لننظر في هذين المثالين:
  • إنك تتقدم لجوجل بطلب استعلام بحثي ثم تنقر على واحدة من الروابط التي ترسلها جوجل إليك. لقد قدمت لجوجل شيئًا ذا قيمة؛ معلومة تقول أنك حكمت على الرابط بأنه يمثل الإجابة الملائمة على البحث الذي اخترته. لقد شيدت جوجل شركتها على مثل تلك الهدايا القيمة. فهل جوجل بذلك تستغلك كي تتربح من ورائك؟ أم أنت الذي تستفيد من وراء جوجل؟

  • إنك تضع مقطع فيديو على يوتيوب ثم تضمنه داخل مدونتك. لقد قدمت ليوتيوب شيئًا ذا قيمة؛ سلسلة أخرى من العملاء يزيدون من قوة حصتها السوقية، جاذبين بذلك مزيدًا من المشاهدين من خلال قناة تساعد يوتيوب على فهم ماهيتهم، ومن ثم تعرض عليهم الإعلانات الملائمة لهم فتجني المزيد من الأرباح. فهل يوتيوب بذلك تستغلك كي تتربح من ورائك؟ أم أنت الذي تستفيد من وراء يوتيوب؟

لا بد أن النقطة قد صارت واضحة: فكل من المستخدم والشركة يستفيدان من التعامل. وعندما يستفيد كلاهما، فكيف يمكننا أن نعرف من الذي يتربح على حساب الآخر؟

إلا أن تلك التساؤلات، مثلها مثل أي تساؤلات عن العدالة كما يراها الناس، لا يمكن البت فيها على أساس المنطق وحده، وإنما سوف يكون البت على أساس من التطبيقات العملية والمفاهيم. هناك حدود لا يمكن للشركات تخطيها. وتلك الحدود رسمها الفهم الخاص بأولئك الذين ينتمون لمجتمع ما. إن الهجائن سوف تحاول أن تبين لمجتمعاتها أنها تتمتع بالفضيلة، أو بعدالة المقابل الذي تقدمه. كريج نيومارك على سبيل المثال، يشدد على الاعتدال باعتباره مفتاح نجاح شركته الهجين. («إن الناس يرون أننا لا نتحين الفرصة لجني المال الوفير، ويستطيع الناس أن يروا أننا تنازلنا عن الكثير من سيطرتنا على الموقع من خلال آلية العنونة، وكيف أننا نسعى بحق للاستماع للناس من خلال مقترحاتهم ثم متابعة تنفيذها.») ويطرح تيم أوريلي نقطة مماثلة، وإن كانت لا تتعلق بالأرباح المعتدلة. فهو يؤكد على بذل جهود معتدلة في التحكم:

هناك اندماج اجتماعي … [و] الناس بمفهوم أو بآخر سوف ينظرون إلى آخرين بعينهم بوصفهم أناسًا أخيارًا؛ ولهذا سوف يواصلون العمل في صالحهم أكثر مما كانوا ليفعلوا من أجل شخص ما يعتبرونه معاديًا لهم. ولعل من الأمثلة الطيبة على ذلك حقًّا … سفاري، وهي خدمتنا لتقديم الكتب على شبكة الإنترنت. إن لدينا تكنولوجيا إدارة حقوق رقمية بالغة الخفة [لتلك الكتب، مما يجعلها] عصية على الرصد. لكنها ليست بالغة الصعوبة … فنحن نتلقى الآلاف من الرسائل الإلكترونية التي ترد إلينا من أناس يذكرون لنا ذلك. إنها عبارات على شاكلة: «مرحبًا، لقد عثرت على كتبكم على موقع في روسيا»، «لقد عثرت على كتبكم على موقع في رومانيا». أراهن أن اتحاد صناع التسجيلات الأمريكي لم يحصل على تلك الرسائل الإلكترونية.

ويؤكد فيليب روزدال صاحب «الحياة الثانية» على قيمة مختلفة؛ ألا وهي: الشفافية. شرح لي روزدال ذلك بقوله: «إنني من المؤمنين إيمانًا عظيمًا بفكرة وجود منوال جديد يمكن للنشاط التجاري من خلاله أن يتفاعل، وهو يقوم على الشفافية الكاملة»، وأضاف:

هناك ممارسة بانية للثقة لا تقع في الأحوال التقليدية؛ لأن الشركات بالفطرة شركات خاصة، ولأنه من الناحية التاريخية كانت المنافسة تقع في المرتبة الأولى في الأهمية للشركات؛ لهذا فإن الخصوصية [أو السرية]، بغرض منحك فرصة للتفوق على منافسيك، ظلت دومًا نوعًا من حجر الأساس المحوري للسلوك التجاري. ووسط عالم من المحتمل فيه أن يقرر الانفتاح وتأثيرات الشبكة من المنتصر، فإن عليك الآن أن تحطم ذلك الاعتقاد. أنت تريد بناء شركة لا تأتي قيمتها في المقام الأول من الخصوصية، وإنما من المكاشفة.

بل إن بعض الشركات تمضي لما هو أبعد من ذلك. يتحدث بروستر كال عن قرار شركة البحث أليكسا:

لقد أردنا أن نبني جيلًا جديدًا من محركات البحث، وهو نوع ناضلت كل من أليكسا وأرشيف الإنترنت من أجل القيام به عام ١٩٩٦. وتبين لنا أننا كنا على خطأ، وأن العالم لم يكن بحاجة لنوع مختلف اختلافًا جذريًّا من محركات البحث؛ لأن محركات البحث كانت تسير بصورة لا بأس بها. غير أنه كان على أليكسا أن تجمع أطراف الشبكة العنكبوتية العالمية وأن تجعل البحث مبنيًّا عليها. وهكذا كانت بمنزلة شركة تهدف للربح تستفيد من عمل الآخرين — الذي هو محتوى الشبكة العنكبوتية — كي تنتج خدمة.

غير أننا باستغلال المادة لحد يتجاوز كونها مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بإنتاج تلك الخدمة، لم نشعر في أليكسا أن هذا شيء سليم. وهكذا تبرعت أليكسا بنسخة مما جمعته لجهة لا تهدف للربح وحذفت النسخة التي لديها. وهكذا بعد ستة أشهر، استخدمت أليكسا المادة كي تؤدي الخدمة التي كان الناس، بشكل أو بآخر، يتعاونون [مع] أليكسا أو يسمحون لها ببنائها. لقد تبرعت بنسخة، وحذفت نسخهم. … لقد نظرنا لهذا بوصفه جانبًا شديد الأهمية من التوازن بين مصلحة الملكية في شركة تجارية، وبين الصالح العام الذي يمكن تقديمه بصورة أفضل داخل جهة لا تهدف للربح.

كل شركة تبني نموذجًا هجينًا سوف تواجه بالضبط نفس هذا التحدي: كيف تضع إطارًا لعملك، وللربح الذي تتوقعه، بأسلوب لا يفزع مجتمعك فيبعده عنك. عبارة «التربح المتبادل» لن نفتأ نرددها مرارًا وتكرارًا، على الأقل إذا كان من الممكن جعل القيمة العائدة على الجانبين أكثر وضوحًا.

هناك بالطبع أمثلة شهيرة على اتخاذ هذا التربح المتبادل منحًى سيئًا، كان من بينها قاعدة البيانات التي أنشأها متطوعون؛ قاعدة بيانات الأقراص المدمجة.

كما شرحت من قبل، كانت قاعدة بيانات الأقراص المدمجة قاعدة بيانات على شبكة الإنترنت احتوت معلومات مسار عن الأقراص المدمجة. لم تكن تلك المعلومات مدرجة على القرص المدمج ذاته، وإنما كان المستخدمون هم الذين يضيفونها. وقد قال تي كان، مبتكر قاعدة بيانات الأقراص المدمجة، لنفسه: «[إذا] كتبتُ جميع هذه المعلومات عن قرص مدمج معين، فما الذي سيدفع جو الذي يقطن بجواري لكتابة نفس المعلومات»، حسبما شرح لي ديفيد مارجلين، المستشار العام للشركة الذي استحوذت في نهاية المطاف على قاعدة بيانات الأقراص المدمجة، وهي شركة جريسنوت. وهكذا بدأ كان ومعاونه ستيف شيرف «في تبين شكل الأسلوب الذي سيتبعانه في جمع مختلف التجميعات التي كتبها الآخرون. ومن ثم صار ذلك المستودع قاعدة بيانات الأقراص المدمجة.»

كانت كل هذه الطباعة تتم بصورة تطوعية. لقد أراد الناس من آلاتهم أن تتعرف على المسارات؛ وكانوا سعداء وهم يشاركون آخرين تلك المعلومات التي كتبوها على آلاتهم. وبنى كان وشيرف أدوات تستطيع تجميع نتائج هذا العمل التطوعي «بأخلص النوايا في العالم. فلم يكونوا بصدد السعي لجني أي أموال من ورائها. كان ما يريدونه بالفعل مجرد تكوين شبكة اجتماعية والحصول على كل التأثيرات التي تصنعها الشبكة.» لقد شيدوا مشاعًا للآخرين كي يضيفوا إليه؛ وقد أظهر المتطوعون «مزايا المشاع» من خلال الإسهامات التي قدموها.

لكن مارجلين شرح لي أنه مع شروع المزيد والمزيد من الناس في الاعتماد على تلك القاعدة من البيانات في التعرف على أقراصهم المدمجة، بدأ كان وشيرف يدركان «سريعًا أنهما امتلكا وحشًا بين أيديهما؛ لأنه؛ أولًا: حتى تأتي البرمجيات بأي نفع، كان عليها أن تؤدي قدرًا من التوفيق أكبر مما كان متوقعًا في بادئ الأمر … وثانيًا: إن حجم المساحة على الحاسب الخادم التي كانا في حاجة إليها حتى يستوعبا، ليس فقط جميع عمليات البحث، وإنما … جميع الطلبات، كانت على وشك أن تخرج عن سيطرتهما.»21

وهكذا بدأ مؤسسا قاعدة بيانات الأقراص المدمجة البحث عن أسلوب للتأكد من أن إبداعهما يمكنه البقاء.

كانت جريسنوت هي منقذتهما؛ فبمساعدة رائد أعمال صاحب سلسلة من المشروعات، وهو سكوت جونز، أطلق تان وشيرف مؤسسة جريسنوت الهادفة للربح، لتحقيق عائدات كان وجودها ضروريًّا لإعالة قاعدة البيانات، ولجني الربح من وراء فكرة بثَّا فيها الحياة. بدأت جريسنوت في منح رخص باستخدام قاعدة البيانات لكل من يسدد الثمن. وسرعان ما بدأ كثيرون في التساؤل عن السبب وراء السهولة الشديدة التي يباع بها هذا الشيء ذو القيمة، الذي أُبدِع من خلال عمل المتطوعين. وشكا كثيرون من أن جريسنوت أخذت «ما [كان] في الأصل قاعدة بيانات مفتوحة المصدر ومنعتها عن الناس لمصلحتها.»22 وتفجرت عاصفة من الانتقادات داخل مجتمع الإنترنت.

لم تكن جريسنوت مستعدة للنقد. أخبرني مارجلين أنه كان هناك الكثير من «السخط في الأجواء صادرًا عن أناس لم يفهموا مسألة التحول من عبارة: «ما هما إلا رجلان يعملان من مرآب المنزل» إلى: «إنها خدمة عالمية الطراز لا بد أنها قادرة على تشغيل برمجيات أبل».» كان من شأن المزيد من الشفافية أن يفيد هنا، مثلما كان سيفعل إيجاد أسلوب أوضح للمتعاونين كي يستفيدوا. ومرة أخرى يقول مارجلين: «قد لا يكون التعويض ماديًّا، غير أنه قد يكون في صورة امتنان أو تحية على شيء له قيمة بحيث يكون هناك تبادل للقيمة بين القنوات المختلفة.»

لقد كان التحول في القواعد، على خلفية من التوقعات المتباينة، هو الذي أنتج تفاعلًا قويًّا إلى حد ما ضد جريسنوت، برغم أنه حتى يومنا هذا لا تزال جريسنوت تملك «برنامجًا لو أنك كنت مبرمجًا وأردت أن تطور تطبيقًا غير إعلاني ولا تريد أن تحصل على أي عائد منه، فإنك حر في الحصول على برمجيات جريسنوت واستخدامها.»

يؤمن كثيرون بأن هذا التحول نحو الناحية التجارية لمشروع مجاني يضعف الحافز لدى المتطوعين ويبعدهم عن المساهمة فيه. بروستر كال، على سبيل المثال، يعتنق هذا الرأي. وقد صارت جريسنوت أقل شأنًا بعد أن جنى مؤسسوها مالًا أكثر. ويصدق نفس الشيء على قاعدة بيانات موازية، وكانت هي أيضًا في بادئ الأمر مشيدة من أجل المستخدمين مجانًا، وهي قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت. وحسبما شرح لي بروستر:

كلٌّ من [قاعدة بيانات الأقراص المدمجة وقاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت] تحولت إلى شكل المنظمات التجارية. وكان هناك شعور بالخيانة من جانب أولئك الذين أسهموا بجهودهم مجانًا؛ لأن شخصًا آخر بدا وكأنه يستفيد من ورائهم ولا يعيده لعموم الناس مرة أخرى.

الآن في ظل وجود قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت، تشعر أمازون بالحبور؛ لأنها تسدد فواتيرها بناء على منتجاتها القيمة من الدعاية القائمة على الاشتراكات … ولكن هل انتهى الأمر بقاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت إلى ما كانت يمكن أن تكون عليه؟ لا أظن ذلك.

إن الصراع هنا أعمق من الإنترنت. ولن تحل مشكلته في الاقتصاد الهجين إلا عندما يمنح كل اقتصاد منهما — أي التجاري والتشاركي — التصديق بصلاحية الآخر. لو أن أولئك الذين ينتمون لاقتصاد تشاركي يمقتون التجارة — إذا كانوا يشمئزون من فكرة حصول أي شخص على ربح، في أي مكان — فإن إمكانية ظهور كيانات هجينة ليست قوية. وبالمثل، لو أن أولئك الذين ينتمون للاقتصاد التجاري يتجاهلون أخلاقيات التشارك — إذا كانوا يعاملون أعضاء الاقتصاد التشاركي على أنهم زبائن، أو أطفال — فإن هذا لا يبشر بقيام اقتصاد هجين سليم.

فلا غرابة إذن أن حقوق التأليف والنشر أداة مهمة في التوسط في تلك التوقعات. حسبما يزعم تقرير رائع للمحللين بايك وفيشر:
التطبيق الصارم لحقوق التأليف والنشر على المحتوى المقدم/المنتج بواسطة المستخدم ربما يؤدي كذلك إلى تحول سلبي في الموقف داخل المجتمعات التي تبنى حول تلك المواقع. إن الجاذبية واسعة الانتشار للمحتوى المقدم/المنتج بواسطة المستخدم، لا سيما داخل إطار مواقع الشبكات الاجتماعية، تعتمد اعتمادًا قويًّا على حرية التعبير، التي كثيرًا ما تلتف حول قانون حقوق التأليف والنشر. وأي قدر إضافي من التقييد لهذا التعبير من الجائز أن يؤدي إلى تقليص لنموذج النشاط التجاري القائم على نشاط المستخدم، هو شريان حياة العائد من الإعلانات. وفي النهاية، ربما يضطر حائزو حقوق التأليف والنشر ومواقع الشبكات الاجتماعية إلى محاولة تحقيق التوازن من أجل المحافظة على مصلحة المستخدم.23

إن أكبر معيار كفيل بتشجيع قيام اقتصاد هجين هو العرف الذي يتبعه كثيرون داخل مجتمع جي إن يو/لينُكس: أن أي استخدام، بما فيه الاستخدام التجاري، هو استخدام عادل. والمشكلة في ذلك العرف في مجال الثقافة (على عكس الحال في البرمجيات) أن المنتجات الثقافية لا تكون تعاونية بمثل هذا القدر من الوضوح. ومن ثم فإن الشعور باستغلال الفرد يكون أقرب كثيرًا جدًّا إلى أن يكون واقعيًّا. عندما تأخذ جوجل عمالة مجانية من مجتمع جي إن يو/لينُكس وتستغلها لتحقيق أنجح نشاط تجاري على شبكة الإنترنت على مستوى العالم، فلن يكون من المنطقي أن تجد فردًا في ذلك المجتمع يقول «جوجل استغلتني!» ولكن إذا أخذت سوني أغنية ما مرخصة بطريقة مجانية مشابهة وباعت منها مليون قرص مدمج دون أن تعطي المبدع مليمًا (مرة أخرى، هذا ممكن تمامًا بموجب ترخيص التغاضي عن حق التأليف والنشر)، فمن شبه المؤكد أن شخصًا ما ستكون لديه ذريعة قوية للادعاء بأنه تعرض للاستغلال.

هناك أمر ينطوي على مشكلة أكبر؛ أن البرمجيات المجانية تقوم في نهاية المطاف على أساس اقتصادي مرتعش. يشرح روبرت يونج على سبيل المثال، في أعقاب بيان رسمي صدر عن جي إن يو،24 أخلاقيات البرمجيات المجانية باعتبارها نسخة من القاعدة الذهبية: «لا توجد أيديولوجية. لا يوجد تعقيد. إنه مبدأ عامِل الآخرين مثلما تحب أن يعاملوك. وإذا كانوا يعاملونك بمثل ما تعاملهم به، فإنهم يكونون محل ترحاب لكي يستخدموا تقنيتك في أي غرض يشاءون لأنك تحصل على منفعة منهم.» إن هذا الأمر يقرر مبدأً أخلاقيًّا جميلًا. غير أنه لا يشكل حافزًا اقتصاديًّا تمامًا. لا شك أنك «تحصل على منفعة من ورائهم». غير أنه كان بإمكانك الحصول على تلك المنفعة سواء أسهمت بتقنيتك مرة أخرى أم لا. ربما أمكننا القول بملء فينا أن من «العدالة» أن ترد مقابلًا طالما أنك أخذت. من المؤكد أنني آمل أن يفكر أطفالي على هذا النحو. الجزء الصعب هو الاعتقاد بأنه، بمرور الوقت، سوف يستمر كثيرون في الاعتقاد بأن رد المقابل أمر منطقي.
بل والأمر الأكثر إثارة للشكوك أن هناك الكثير من الأسباب للاعتقاد بأن شخصية البرنامج المجاني بعينها تجعل من المعقول الحفاظ على مجانيته، عادة ما تفوق تكاليف مزامنة النسخة الخاصة أي منفعة تعود من وراء الحفاظ على خصوصية البرنامج.25 آي بي إم، على سبيل المثال، كانت لديها الحرية في أخذ خادم أباتشي وبناء نسخة ذات عنوان خاص يمكنها أن تبيعها، بدون أن تترك للغير حرية الانتفاع بأي تحسين أضافته على البرنامج. غير أن هذا الانتفاع لا يمكن شراؤه إلا إذا واصلت آي بي إم تحديث برنامجها كي يعكس التغيرات التي صنعت في النسخة العامة من أباتشي. في البداية (عندما كانت قواعد الأكواد متقاربة)، كان تحديثًا كهذا أمرًا غير عسير. ولكن بمرور الوقت (ومع تباعد القواعد بعضها عن بعض)، يصير الاحتفاظ بالبرنامج الخاص أمرًا باهظ التكلفة يومًا بعد يوم. وهكذا فإن الاستراتيجية العقلانية المحضة التي يجب اتباعها في هذا النوع من الإبداع أن تبتكر من أجل المشاع؛ إذ إن تكلفة الابتكار للصالح الخاص تفوق ما يأتي من ورائها من نفع.

غير أن الأمر يعتمد على السمات المادية لمشاريع البرمجة المعقدة. فالسمات نفسها لا توجد، مثلًا، في أغنية أو رواية. وأيًّا كان الحافز الذي يدفعك نحو البقاء في عالم المشاع بسلع تعاونية معقدة، فإن نفس هذا الحافز لا ينسحب تلقائيًّا على جميع الأعمال الإبداعية. ففي حالة تلك الأعمال، لا يوجد شيء أكثر من العرف ليدعم الاستمرار في ترك المورد حرًّا. أما مسألة إن كان هذا العرف سيظل على قيد الحياة أم لا — أو كيف سيكون ذلك — فإنها غير واضحة، لي أنا على الأقل.

إلا أنه من الواضح لي، مع ذلك، أنه ينبغي علينا أن نتحاشى نوعًا من الإمبريالية الفكرية. علينا أن نكون منفتحين على الفوارق بين السلع الثقافية المختلفة؛ البرمجيات مقارنةً بالأفلام، الموسيقى مقارنةً بالمقالات العلمية. إن الأعراف التي تساند الإنتاج المجاني في واحدة ليست هي بالضرورة الأعراف التي تسانده في الأخرى. وعلى حد قول بريان بيليندورف، وهو من مؤسسي مشروع أباتشي:

لا أعلم إن كان هناك عقد اجتماعي أوحد في أوساط الأعمال الثقافية أم لا. أعتقد أنه يختلف في حالة منسقي الموسيقى المسجلة والموسيقى الإلكترونية عنه في حالة الموسيقى الشعبية أو حتى الأنواع المختلفة من الموسيقى الراقصة. [مثال على ذلك] استولى مجتمع آر آند بي دون إذن على الكثير من المسارات والكثير من عينات الأغاني، ومع ذلك ربما يخوض حربًا شرسة ضد اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكي في مسألة تنزيل أعمالهم من على الإنترنت وما شابه.

كما يشير إلى فارق آخر مهم:

إن الكثير من البرمجيات، بطبيعتها، عبارة عن جهد جماعي به الكثير من الإعادات التي تتم بمرور الوقت. وكثير من الوسائط الثقافية — الأغنيات أو المسرحيات أو الأفلام — عبارة عن فرق أصغر حجمًا بكثير، هذا لو كانت هناك فرق من الأساس؛ حيث غالبًا ما تكون الرؤية خاصة بفرد أو اثنين. وهم يصلون إلى جسم مكتمل أو شبه مكتمل للعمل ثم يوضع فيما يشبه كبسولة زمنية … [ربما] تكون هذه هي نفس الطبيعة التطورية للبرمجيات؛ أي إن المساهمين يغدون ويروحون مع مرور الوقت، وإنك، بالتأكيد، لديك نسخ معينة ذات شهرة وما إلى ذلك، لكنها ليست كالأفلام التي تكون عملًا مكتملًا يشق طريقه نحو دار العرض ويدفع الناس المال من أجل مشاهدته.

إننا بحاجة لفهم تلك الاختلافات حتى نتخيل الخطوط التي سترسمها المجتمعات.

(٦) ليس من المحتمل أن يصير «التشارك المجاني» مصطلحًا مقبولًا

برغم عدم يقيني من الكيفية التي ستتطور بها تلك الأعراف بصفة عامة، فإنه توجد استنتاجات معينة يمكننا التوصل إليها في ثقة، وإليكم إحداها: لن يستمر التشارك المجاني الرقمي طويلًا في هذا العالم. فمن بين جميع الشروط التي سيطالب بها المبدعون المنتمون للاقتصاد التشاركي، سوف يكون الحق في تملك إبداعاتهم محوريًّا بالنسبة لهم.

«التشارك المجاني»؟

في أبريل ٢٠٠٧، أجرت إحدى المعاونات البحثيات المتميزات دراسة مسحية لكل موقع استطاعت العثور عليه يدعو المبدعين إلى «مزج» أو «خلط» المحتوى الذي يقدمه الموقع. غطت دراستها خمسة وعشرين موقعًا. لكنها بينما كانت تتصفح شروط تلك المسابقات المزجية العديدة، صار الفارق الجوهري فيما بينها واضحًا. ففي ٥٦٪ من المواقع، امتلك الفنان أو المؤلف حقوق المزيج الذي صنعه، ليس المحتوى الأصلي الذي مزج بينه، وإنما المزيج نفسه. وكانت نسبة ١٦٪ من تلك المواقع تشترط ترخيص استخدام ذلك المزيج بموجب شكل ما من أشكال الترخيص العام (لا بأس، كل أولئك الذين اشترطوا ترخيصًا طلبوا أن يكون ترخيص مشاع إبداعي). ولكن في ٢٨٪ من تلك المواقع، لم تكن لدى الفنان أو المازج أية حقوق في عمله على الإطلاق. فالفنانة مثلًا هي المبدعة لكنها لا تمتلك إبداعها هذا. كانت حسب المصطلح المحايد تمامًا وغير الاستفزازي الذي انتقيته هنا، مشاركة مجانية.

كانت مسابقات ديفيد بوِي نمطية. فقد اشترط تعاقد بوِي أن المازج بموجبه «يهب، ويبيع، وينقل ملكية، ويتنازل ويتخلى عن … كافة الحقوق الحالية والمستقبلية، أيًّا كان نوعها أو طبيعتها» من وراء المزيج. كذلك يتخلى المازج عن أية حقوق أدبية قد «يشعر» أنه يمتلكها في المزيج. وكان المازج يمنح للعلامة التجارية لبوِي، وهي سوني، «ترخيصًا غير حصري، غير قابل للرجوع فيه، خاليًا من أي رسوم امتياز، عالميًّا» لأي محتوى يضاف إلى محتوى بوِي لعمل المزيج.26 وهكذا، إذا ألفت أنت مقطعًا موسيقيًّا وحملته على موقع بوِي كي تمزجه بشيء أبدعه بوِي، فإن بوِي يكون له حرية أخذ هذا المقطع وبيعه، أو استخدامه في موسيقى خاصة به، دون أن يسدد لك، أنت أيها الفنان، أي شيء.

هذا الاتجاه المبتعد عن امتلاك الفنانين لإبداعاتهم ليس بالأمر المستحدث. فلطالما كان يشكل جزءًا من الإبداع التجاري. في أمريكا على سبيل المثال، ينزع مبدأ «العمل لصالح جهة التعيين» من المبدع أية حقوق في العمل الإبداعي الذي ينجزه لحساب شركة مساهمة، ليصبح حق التأليف والنشر بذلك مملوكًا لتلك الشركة وليس له.

وهذا اتجاه مفزع، يشوه جذريًّا منظومة حقوق التأليف والنشر بتصديره حق التأليف والنشر لكيانات تعيش فعليًّا إلى الأبد. (لهذا السبب، يمنح حق التأليف والنشر الممنوح للبشر طيلة العمر مضافًا إليه سبعون عامًا، ولكن للمؤسسات التجارية، هو مدة ثابتة قدرها خمسة وتسعون عامًا. وللأسف، على عكس السبعين عامًا التي تمنح للبشر بعد الممات، فإنه بعد مرور خمسة وتسعين عامًا لا يزال هناك «فنان» يتوسل باكيًا للكونجرس طالبًا المزيد.)

لكن سواء كان من الممكن أم لا لمبدأ العمل لصالح جهة التعيين أن يزدهر في الاقتصاد التجاري، فإن إحساسي — ودون شك، انحيازي — أن مبدعي الاقتصاد التشاركي سوف تتعالى أصواتهم يومًا بعد يوم مطالبين على الأقل بأن تظل حقوقهم مملوكة لهم.

لقد شهدنا من قبل إحباطًا مماثلًا تختمر أحداثه في سياق «خيال الجماهير»، لا سيما في شأن امتياز فيلم «حرب النجوم». مثلما حدث في قصة هاري بوتر، وعت لوكاس فيلم الدرس مبكرًا، وأدركت أن هناك ملايين يريدون بناء إبداعات على فيلم حرب النجوم، وقليل هم من اعتقدوا أن قواعد حقوق التأليف والنشر تُقَيِّدهم. ومثلما فعلت وارنر، أدركت لوكاس فيلم أن هذه الجماهير يمكنها تقديم قيمة حقيقية للامتياز. وهكذا أسفل لافتة تشجع تلك الثقافة الجماهيرية، عرضت لوكاس فيلم مساحة حرة على فضاء الشبكة العنكبوتية لأي شخص يرغب في إنشاء صفحة للجمهور.

غير أن البنط بالغ الصغر الذي ورد بهذا العرض اعتُبِرَ من قبل الكثيرين غير عادل، وكانت صيغة العقد على النحو التالي:

ممتلكات حرب النجوم، بما فيها، على سبيل المثال لا الحصر، المنتجات والخدمات والخطوط، والأيقونات، وأزرار الربط، وورق الحائط، ولوحات سطح المكتب، والبطاقات البريدية التي ترسل عن طريق الإنترنت، وبطاقات المعايدة، والسلع التجارية غير المرخص بها (سواء كانت تُباع أو تقايض أو يتم التنازل عنها) محظورة صراحةً. إذا قمت برغم وجود شروط الخدمة هذه بإنشاء أي أعمال مشتقة مأخوذة عن ممتلكات حرب النجوم أو مشتقة منها، فإن هذا العمل المشتق سوف يُعد ويظل من ممتلكات لوكاس فيلم المحدودة. على الدوام.

وترجمة ذلك: «اعملوا بجد هنا، يا جمهور عشاق فيلم حرب النجوم، كي تجعلوا امتيازنا يزدهر، ولكن لا تتوقعوا أن أي شيء ستصنعونه سيكون مملوكًا لكم فعليًّا. إنكم يا جماهير حرب النجوم، مشاركونا المجانيون. فكونوا سعداء بالاهتمام الذي نوليكم إياه. ولكن لا تغتروا كثيرًا.»

أغرت تلك الشروط المعجبين بإثارة شيء من الشغب. وعلى حد قول واحد من كبار المتحدثين باسم المعجبين: «القصة الحقيقية أكثر قبحًا بكثير من ذلك، وليس لها علاقة تقريبًا بتشجيع الإبداع وإنما هي أقرب إلى الإحباط؛ فلا يوجد شيء بريء في عرض لوكاس فيلم على الجماهير أن تخصص لهم مساحة على الشبكة.»27

«لا يوجد شيء بريء» من جديد لأن الملكية بأكملها ذهبت إلى لوكاس فيلم. ربما يتفق الجمهور تمامًا على ألا يتربح من وراء عمله؛ وربما يتفقون بالفعل على أنه من العدل أن تكون أية فرصة تجارية تنشأ عن حرب النجوم في نهاية المطاف في متناول جورج لوكاس. (تذكر، كان هذا هو الحس المنطقي الطيب الذي عبرت عنه هيذر لوفر، قائدة حروب بوتر.) غير أن التنازل لا يعني أن الجماهير تؤمن بأن عملها أيضًا يجب أن يكون مملوكًا لجورج لوكاس. وهكذا عندما هجمت لوكاس فيلم نحو النقيض، ردت الجماهير الهجوم.

لكن يبدو أن لوكاس فيلم، لم ترتدع. ففي عام ٢٠٠٧، أطلقت الشركة موقعًا للمزج لتشجيع المبدعين على مزج مشاهد من سلسلة أفلام حرب النجوم بموسيقى من عندهم أو بصور تم تحميلها على خادم لوكاس فيلم. من الذي كان يملك تلك الخلطات؟ لا يجب أن تندهش: لوكاس فيلم. لكنْ هناك بالفعل جزءٌ يستفزني، مثلما كان الحال مع موقع ديفيد بوِي، إذا قمت بتحميل، وليكن، موسيقى كتبتها كي تُدمج ضمن المزيج الذي صنعته، فإنك لا تفقد فقط حقوقك في المزيج، وإنما تفقد كذلك الحقوق الحصرية في موسيقاك أنت. إن لوكاس فيلم تملك الحق الدائم والمجاني في محتواك، سواء لاستخدامه في أغراض تجارية أو غير تجارية. ومرة أخرى: هذا تشارك مجاني.

لست أعني بذلك أن هذا التشارك المجاني الافتراضي يجب أن يكون محظورًا، وإنما أطرح سؤالًا عن أي أنواع الكيانات الهجينة التي من المحتمل أن تزدهر. إن الكيان الهجين الذي يحترم حقوق المبدع — سواء المبدع الأصلي أو المازج — هو الأقرب إلى النجاة من ذلك الذي لا يحترمها. وهذا ليس بسبب أن الجميع سوف يُعنى بحقوق الملكية التي يقدمها موقع معين. فهم لن يفعلوا. غير أن الفوز في المنافسة تحدده دومًا فروقات ضئيلة. واليد الغليظة المبالغة في ادعاء الحق التي يتمتع بها محامي هوليوود النمطي ليست سوى نوعٍ من الحماقة الكفيلة على الأرجح بإفساد نجاح الكيان الهجين التي لولاها لحقق النجاح.

فكر مرة أخرى فيما يقوله موقع لوكاس فيلم للأطفال الذين يدعوهم للمزج باستخدام عمل لوكاس. لا يشك امرؤ في أن إسهام لوكاس في هذا الموقع مميز. فامتياز حرب النجوم واحد من أثمن الامتيازات على مر التاريخ، وهو مبدع ويدفعك دفعًا للإبداع، ليس فقط بالنسبة لجيلي، وإنما لأي شخص. ما من أحد قد يظن أن لوكاس ملزم أدبيًّا بالتنازل عن ملكية ذلك العمل (على الأقل خلال الفترة «الزمنية المحدودة» التي يسري خلالها حق التأليف والنشر). فهذا الإبداع من حق لوكاس تمامًا.

ولكن عندما يدعو لوكاس الآخرين للمزج اعتمادًا على ذلك الإبداع، فإنه يفعل ذلك لسبب ما، سبب مالي؛ إنه يرغب في الاستفادة من عمل آلاف الأطفال كي يجعل محتواه الأصلي أكثر ترغيبًا في مشاهدته. وهذا بدوره، يجعل الامتياز أعلى قيمة.

من الممكن لهذا الهدف ألا تشوبه شائبة، على الأقل من وجهة نظري أنا. فهذا بالتحديد هو الأسلوب الذي يتبعه كل كيان هجين، ولا يجب عليك أن تشعر بالتقزز عندما تعلم أن من بين أهداف أولئك الذين داخل نطاق الكيان الهجين، تحقيق الربح.

ولكن مع أن هدف الربح في حد ذاته لا يمثل مشكلة، فإن الأسلوب الذي يتحقق به هذا الربح هو الذي من الممكن أن يكون مشكلة. إن إبداء الاحترام، أو الاستهانة، الذي تعبر عنه الشروط التي يتم بموجبها صنع هذا المزيج تقول شيئًا للمازج عن القيمة التي يُثمَّن بها عمله. إذن مرة أخرى، عندما يدعي لوكاس لنفسه كافة حقوق الربح من وراء مزيج ما، أو عندما يدعي لنفسه حقًّا مستديمًا في تحقيق الربح من المزيج، فإنه بذلك يعرب عن وجهة نظر في إبداعه مقارنةً بإبداع الآخرين: فيما هو أهم، فيما يستحق الاحترام.

إن نقدي هذا موجه للمحامين الذين صاغوا نصوص تلك الاتفاقيات (إذ إنني على يقين من أن جورج لوكاس، وهو من أهم المساهمين في المجال التربوي، ليست له علاقة البتة بانتقاء تلك الشروط)، ولسوف تبدو مخاوفي عجيبة. لقد أمضوا حياتهم المهنية بأكملها يبرمون اتفاقيات أشبه بتلك. فالاتفاقيات التي تتم بين شركات الوسائط، أو بين شركات وسائط وفنانين، ليست خطابات غرامية. إنها لا تعرب عن احترام متبادل. فوظيفة المحامي (الذي يعمل في الاقتصاد التجاري على الأقل) أن يحصل على أقصى ما يمكنه الحصول عليه. إن عليه أن يحصل لموكله على أقصى ما يستطيع. فالعدالة الاجتماعية لا تقع ضمن نطاق عمله.

غير أن أولئك المحامين هم الأقرب إلى الإخفاق داخل هذه البيئة الجديدة. فلم تتطور لديهم أية غرائز أو مدارك عقلية من الضروري توافرها من أجل بناء الولاء والاحترام حيال أولئك المندرجين تحت لواء الاقتصاد التشاركي، والذين يعتمد عليهم موكلوهم. وشأن المحامين الذين كانوا يعملون لحساب أعداء النقابات العمالية في مطلع القرن العشرين، فهم يتباهون تحديدًا بالسلوك الذي سيتسبب في أكبر أذى يلحق بموكليهم.

لكن سوف يعلمهم الآخرون، ليس من خلال المحاضرات أو الامتحانات، وإنما من خلال النجاح الذي سيحققه آخرون في السوق، والذي لن يستطيعوا هم (أو بالأحرى موكلوهم) تحقيق مثله. فسوف تكافئ الأسواق التنافسية السلوك السليم. وهذا أمر بالغ السوء لموكليهم، لكنَّ المحامين لا يعلمون إلا القليل عن الأسواق التنافسية. (بل إن أساتذة القانون الذين يدرسون بالجامعات يعلمون أقل منهم.)

(٧) يمكن للنظام الهجين أن يساعدنا على الحيلولة دون تجريم الشباب

مع تطور الهجائن في مجال الثقافة، تعلمت أنجحها أن التشجيع على الإبداع القانوني هو مفتاح تشجيع قيام نشاط ناجح ومتعافي البدن. إن المعاناة التي واجهتها شركات من أمثال يوتيوب عند تعاملها مع كل من الدعاوى المشروعة وغير المشروعة من قبل حائزي حقوق التأليف والنشر؛ جعلت الآخرين يخططون مسبقًا لتلك التعقيدات. إن بليب دوت تي في، على سبيل المثال، تمكن المستخدمين دون مواربة من تمييز عملهم الإبداعي بعلامة دالة على الحريات التي ينوون لتلك الأعمال أن تتسم بها. وتشترط نسخةُ سوني من يوتيوب في اليابان، وهي آيفيو، على محمِّلي المقاطع على الشبكة؛ التحققَ من حرية التشارك في المحتوى الذي ينوون تحميله.

ومع تحول هذا النموذج ليصبح هو العرف السائد، فإنه سوف يغير العالم الذي يحدث في إطاره هذا الإبداع المزجي. سوف يتحول التركيز نحو الإبداع وحده؛ ولن تعود الشروط التي يحدث ذلك الإبداع في ظلها — و«القرصنة» المستخدمة في صنعه — أمرًا مشوقًا. إن باستطاعة الهجين تمهيد الطريق نحو إبداع مزجي مشروع، ومن الممكن للحافز الذي تقدمه السوق أن يوجه عملية إصلاح سوقي لجعل هذا الشكل من أشكال التعبير أمرًا مسموحًا به.

لا أعتقد أن هذا الحافز السوقي وحده سوف يكون كافيًا. سوف يكون من الضروري أيضًا إجراء تغييرات سياسية، لكن هناك أمرًا رائعًا بعينه في مسألة الديمقراطية في أمريكا؛ ألا وهو أنه عندما تبين السوق الحكمة من منح درجة ما من الحرية، فإن السياسيين ينصتون لها أحيانًا على الأقل. ومع تَبَوُّءِ سوق الهجائن أهمية أكبر، فإن الحريات التي ستعتمد عليها الهجائن سوف تصير أكثر وضوحًا يومًا بعد يوم لواضعي السياسات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤