مسيرة عشوائية من بول سامويلسون إلى بول سامويلسون
الطرح القائل بعدم إمكانية التنبؤ بتحركات الأسهم عمومًا يتحول من فضول فكري إلى أبرز سمات حركة أكاديمية.
***
عندما أتى بول سامويلسون إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سنة ١٩٤٠ — بعد أن سَمح له بالانسلال من جامعة هارفرد رئيسٌ لقسم الاقتصاد لم يكن يقدِّر المهووسين بالرياضيات ولا اليهود — لم يكن هذا المعهد الذي تهيمن عليه الهندسة يمنح حتى الدكتوراه في الاقتصاد. وفي غضون عقد من الزمان، كان معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قد بنى على أكتاف سامويلسون قسم اقتصاد يتضاءل بجواره قسم الاقتصاد بجامعة هارفرد.
قَدِم سامويلسون، الذي وُلد لأبوين مهاجرين ناجحين بمدينة جاري بولاية إنديانا، على جامعة شيكاجو سنة ١٩٣٢، وشُغف بالمنطق الرائع للاقتصاد النيوكلاسيكي. صارت لديه قناعة وهو طالب بالدراسات العليا في جامعة هارفرد بأن أفضل طريقة للتعبير عن هذا المنطق هي الرياضيات، فشرع في برنامج بحثي مستقل جعله على الأرجح أول اقتصادي أمريكي منذ إرفينج فيشر تضاهي مهاراته الكمية مهارات أقرانه في العلوم الصلبة.
كان سامويلسون يرى أن المعادلات توضِّح المفاهيم الاقتصادية التي كثيرًا ما تشوشها الكلمات؛ حيث كتب سنة ١٩٤٧ في مقدمته لكتاب «أسس التحليل الاقتصادي» — وهو كتاب مليء بالمعادلات يمثِّل إعادة صياغة لأطروحته التي نال بها الدكتوراه وصار من المتون الأساسية لتعليم الاقتصاد في الدراسات العليا لسنوات تالية — يقول: «إعادة الصياغة الأدبية الشاقة لمفاهيم رياضية بسيطة في جوهرها على النحو الذي هو سمة جُل النظرية الاقتصادية … تشتمل على … رياضة ذهنية من نوع شاذ.» في الوقت نفسه، كان سامويلسون يرى أن معادلاته لا تفسر كل شيء، وانتهى إلى أن نظريات التوازن وحدها لا يمكنها يقينًا تفسير الكساد الكبير. صار سامويلسون كينزيًّا، من كبار دُعاة «المركَّب النيوكلاسيكي» الذي قرن بين «الاقتصاد الجزئي»، وهو الدراسة الحاذقة لتفاعلات الأفراد والشركات مفرطي العقلانية، وتفسيرات «الاقتصاد الكلي» الحاذقة للظواهر على مستوى الاقتصاد كدورة الأعمال. (صاغ هذين المصطلحين راجنر فريش، شريك إرفينج فيشر في تدشين جمعية الاقتصاد القياسي.)
صارت مثل هذه المقاربات تجسد نهج سامويلسون؛ إذ كان من الممكن أن يصبح متعصبًا في مسائل المنهجية والنظرية، لكنه كان مرنًا عندما يتعلق الأمر بترجمة النظرية إلى ممارسة. وعلى الرغم من حبِّه وضوح الرياضيات، كان بارعًا في استعمال الكلمات أيضًا.
أيمكن أن يستفيد شخص من مثل هذه الأوهام الجماعية ليجني ثروة؟ كتب سامويلسون في كتابه الدراسي يقول إنه لا يمكن أن يكون هناك «نظام معصوم» للتفوق على السوق، لكن بعض الطرق أفضل من بعضها الآخر، وعيَّن أربع فئات من اللاعبين في سوق الأسهم: (١) مَن يشترون الأسهم ويحتفظون بها، وهؤلاء يحققون أداءً جيدًا إلى حد معقول ما دام الاقتصاد ينمو، و(٢) فريق من «يراقبون المؤشر من ساعة إلى ساعة ومن يوم إلى يوم» وهم في معظم الأحوال «لا يحققون ربحًا إلا لسماسرتهم»، و(٣) فريق من يتنبَّئون بالسوق ويحاولون الاستفادة من أمزجة جمهور المستثمرين المتغيرة وينجحون في ذلك أحيانًا، وأخيرًا (٤) فريق من يدرسون الشركات بدقة كافية للاستفادة من «أوضاعٍ خاصةٍ» ليس جمهور المستثمرين على دراية بها. وكما كتب سامويلسون، فإن أفراد الفئة الأخيرة هم من يحققون أكبر الربح، لكن لا بد لهم من بذل الكثير من الجهد أو امتلاك إمكانية الحصول على معلومات ليست متاحة للجميع.
كان كندال تلميذًا لجورج أدني يول، فاضح الأنماط والترابطات الزائفة في عشرينيات القرن العشرين. وإبان الحرب العالمية الثانية، وفي الأوقات التي لم يكن فيها كندال منشغلًا بعمله في غرفة الشحن البريطانية كإحصائي، ولا بدورياته في شوارع لندن ومحطات مترو أنفاقها كمراقب في قوة الدفاع المدني؛ توسع في جهود يول الرائدة لفصل الأنماط الحقيقية عن التشويش الإحصائي في السلاسل الزمنية. وقرب نهاية أربعينيات القرن العشرين، طبَّق أساليبه على البيانات الاقتصادية، مستخدمًا آلة حاسبة كانت كلية لندن للاقتصاد قد اقتنتها حديثًا، وتمثل أحد التطورات الكثيرة في تكنولوجيا الحوسبة التي ساهمت في هذه الملحمة. كانت أيسر البيانات تحصيلًا هي المتعلِّقة بأسعار الأسهم وأسعار العقود المستقبلية الزراعية.
كان كندال قد وزَّع من قبل نسخة أولية من ورقته البحثية؛ لذا فعندما قدَّمها خلال اجتماع للجمعية الإحصائية الملكية في لندن في ديسمبر ١٩٥٢، كان المكان مكتظًّا باقتصاديين جاهزين للثرثرة. لم يَبدُ أحد من الحاضرين على دراية بأوراق هولبروك وركينج البحثية الحديثة حول عشوائية السوق، ومعظمهم أفزعه ما قال كندال. يقول روي ألن — أستاذ الاقتصاد بكلية لندن للاقتصاد — شاكيًا: «الاقتصاديون … طُلب منهم الاحتراس من شيطان مخيف وهو الارتباط المتسلسل، والتطلع إلى الإحصائيين كي يصرفوا الشيطان نيابة عنهم. ويبدو الآن أنه كلما بذل الإحصائيون مجهودًا أكبر لصرف هذا الشيطان، صرفوا كل ما عداه، ومن ضمنه ما يريده الاقتصاديون.»
اعترف اقتصاديان شابان كانا قد أتيا من جامعة كامبريدج بالقطار بأنهما لم يفزعا على الإطلاق، وكل ما هنالك أنهما لم يُعجبا بما قيل. كان كلاهما يعمل في قسم الاقتصاد التطبيقي بجامعة كامبريدج الذي كان رائدًا في مجال الاقتصاد الإحصائي في إنجلترا، ولم تكن مفاجأة بالنسبة لهما أن كان عفريت الحظ ناشطًا في البيانات التي اختارها كندال. وقد أشار أحدهما — وهو هندريك هاوثاكر — إشارة فيها تلاعب بالألفاظ إلى هذه الورقة البحثية بأنها «انحسار مدِّ يول»، وقال شاكيًا إن كندال تحدى «رجلًا من قش».
أما الثاني — وهو سِج برايس — فبيَّن الأسباب قائلًا: «هذه أسواق أسهم وسلع تعد أفضل أمثلة على الأسواق الكاملة ديناميكيًّا، بمعنى أن أية تغيرات مستقبلية متوقعة في ظروف الطلب أو العرض هي مأخوذة بالفعل في حسبان السعر المحدَّد في السوق نتيجة أنشطة المتحوطين والمضاربين. إذن فلا داعي لتوقع أن تكون تغيرات هذا الأسبوع في الأسعار مرتبطة بتغيرات الأسبوع المقبل.» الفكرة الثاقبة التي توصل إليها هولبروك وركينج بشق الأنفس واتت برايس الأصغر منه سنًّا تلقائيًّا، فاكتفى بادِّعاء أنه لا يجدها مثار اهتمام. وانتهى برايس إلى أنه «مما يؤسف له بشدة» أن كندال اختار مثل هذه الأسواق ليستقصيها بدلًا من استقصاء شيء أكثر أهمية. (وبعد مضيِّ سنوات، كان برايس ما زال يشكو من أن ورقة كندال البحثية «صارت فيما يبدو أهم مما ينبغي».)
كان ذلك هو التوجه العقلي البريطاني فيما بعد الحرب العالمية الثانية. كانت الحكومة تسيطر على مفاصل الاقتصاد، ولم تكن أسواق لندن ببساطة تبدو على هذه الدرجة من الأهمية. ومثلما لم يتابع إيه دي روي — الأستاذ بجامعة أكسفورد — نظرية اختيار المحفظة التي كشف عنها في السنة نفسها، سرعان ما تخلَّى كندال عن الموضوع. ولكي تُحدث فكرة أن «عفريت حظ» يمارس دوره في السوق دويًّا، كان لا بد أن يحدث ذلك في بلد للأسواق المالية فيه أهميتها، وهذا البلد هو الولايات المتحدة.
كحال برايس وهاوثاكر، لم يدرك بول سامويلسون مباشرة الصلة بين العشوائية والسوق المالية جيدة الأداء، لكنه — خلافًا لهما — كان مهتمًّا بالاستثمار إلى حد الاستمتاع به. وقبل مضي فترة طويلة على حديث كندال، انتقل هاوثاكر — هولندي المولد — إلى الولايات المتحدة، في البداية للعمل في هيئة كاولز. ويتذكَّر سامويلسون أنه حضه في أحد خطاباته قائلًا: «هيا بنا نعمل على الجانب الآخر من المسألة.» وهكذا بدأ سامويلسون — وانضم إليه هاوثاكر قبل مضي وقت طويل — العمل على ذلك الجانب الآخر، الذي تناوله من قبل هولبروك وركينج، ذلك الجانب الذي لم تكن فيه عشوائية السوق شيئًا تافهًا مخيبًا للآمال، بل كانت حقيقة مهمة. وقبل أن يمضي وقت طويل، برزت وثيقة تاريخية رسَّخت استقصاءهما كجزء من التراث العلمي العظيم.
في وقت ما في سنة ١٩٥٥ أو ١٩٥٦، أرسل المنظِّر الإحصائي جيمي سافيدج بطاقات بريدية إلى بعض الأكاديميين ممن هم على شاكلته. كان قد صادف كتابًا مبهرًا في المكتبة بعنوان «المباريات والصدفة والمخاطرة» لشخص ما يدعى لوي باشوليي، فتساءل عمَّ إذا كان أي منهم قد سمع عن الرجل أو الكتاب. فانطلق سامويلسون يبحث في مكتبات مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس عن الكتاب، فوجد شيئًا أكثر إثارة للاهتمام بكثير وهو أطروحة الدكتوراه التي أعدها باشوليي سنة ١٩٠٠ بعنوان «نظرية المضاربة».
أدرك سامويلسون إدراكًا شبه فوري أن وصف باشوليي شديد الرياضية لسلوك السوق يكاد يتطابق مع وصف ألبرت أينشتاين للحركة البراونية؛ أي الحركة العشوائية للجسيمات المجهرية العالقة في سائل أو غاز، وهو اكتشاف لا يمكن أن نَفِيَ دلالته حقها بالنسبة لما تلا ذلك من تطوُّر المالية الكمية. وحُقَّ لأساتذة الاقتصاد والمالية أن يدَّعوا أن واحدًا من بين ظهرانيهم — وقد احتضنوا الرياضي الفرنسي الراحل بهذه الصفة — سبق العظيم أينشتاين إلى اكتشاف كبير.
كانت أول مهمة يؤديها سامويلسون بعد عثوره على عمل باشوليي مصادفة أن ساعد تلميذه على تضمين الأجزاء الخاصة بعقود الخيارات في أطروحته التي أوشك على الفراغ منها، ثم شرع يفكر فيما إذا كانت معادلة باشوليي تناسب الأسواق الحقيقية فعلًا أم لا. كان يرى أنها لا تناسبها، ومن أسباب عدم مناسبتها لها ما كان فريد ماكولاي قد نوَّه إليه في مأدبة عشاء الإحصائيين تلك التي أقيمت سنة ١٩٢٥. فلو كانت تغيرات أسعار الأسهم تتبع سيرًا عشوائيًّا حقيقيًّا، فمن الجائز أن تكون الأسعار سالبة، وهو مصير صُمم هيكل المسئولية المحدودة للشركات الحديثة بأكمله للحيلولة دونه. كانت ثمة مشكلة أخرى هي أنه لو كانت تحركات الأسعار عشوائية بحق، فإن سعر حبة بازلاء ربما يتبع المسار نفسه الذي يتبعه سهم آي بي إم. على عكس ذلك، كانت أسعار الأسهم تميل إلى الصعود مع نمو الشركة والاقتصاد ككل، أما سعر حبة البازلاء فلم يكن كذلك. إذن لم يكن الأمر كما افترض باشوليي، وهو أن «التوقع الرياضي للمضارب صفر». فالتوقع الرياضي للمضارب هو العائد المتوقع للسهم أو للسوق ككل، والذي سيتذبذب العائد الفعلي حوله عشوائيًّا.
من الوارد أن باشوليي وبوانكاريه كانا على دراية بأوجه القصور هذه سنة ١٩٠٠، ولم يرهقا نفسيهما بتصحيحها؛ لأن معادلة باشوليي كانت تهدف إلى النظر في المستقبل «برهة» واحدة فقط. لم يكن مهمًّا كون الحركة البراونية لباشوليي ستقود الأسعار في نهاية المطاف إلى حيث لم يكن يمكنها بلوغه؛ لأنه قال صراحة إنها ليست للاستخدام في أغراض التنبؤ طويل الأمد بأي حال. راجع سامويلسون معادلة باشوليي دون أن يزعجه تبكيت الضمير هذا، وأدخل ما سماها بأسماء مختلفة منها الحركة البراونية «الهندسية» أو «الاقتصادية» أو «اللوغاريتمية»، والتي تجنبت الأسعار السالبة بوصف تحركات أسعار الأسهم لا الدولارات والسنتات، كما صوَّر الاستثمار في سوق الأسهم كمراهنة تتذبذب فيها المكاسب عشوائيًّا حول العائد المتوقع.
•••
بدأ سامويلسون يروج هذه الأفكار في أنحاء معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وفي زياراته إلى الجامعات الأخرى في أواخر خمسينيات القرن العشرين، ولم يَنشر أيَّ شيء عنها. كان سامويلسون — مثله مثل جون مينارد كينز من قبل — يستمتع بالمضاربة في السوق، وإنْ كانت لديه شكوك حول القيمة الاجتماعية لمثل هذا النشاط، لكن سرعان ما صارت تحفظاته في غير محلها. ففي ربيع سنة ١٩٥٩، نشر عالم فيزياء فلكية وأستاذ إحصاء — وكلاهما لم يكن على دراية بعمل سامويلسون ولا بأحدهما الآخر — مقالتين آذنتا بتحويل ما كان حتى ذلك الحين تأملاتٍ متقطعةً عن سلوك أسعار سوق الأسهم إلى حركة فكرية.
كان وجه الشبه الأوضح بالنسبة له هو الحركة البراونية. فكما لاحظ سامويلسون من قبل، فإن الحركة البراونية الحسابية المستقيمة ربما لم تكن تتناسب مع البيانات. استخدم أوسبورن بدلًا من ذلك صيغة التغير في النسبة المئوية ذاتها التي كان قد استخدمها سامويلسون، ثم نشر نتائجه في عدد مارس-أبريل ١٩٥٩ من مجلة «أوبريشنز ريسيرتش». وبمجرد نشر المقال، انهالت الخطابات التي تشير إلى تشابهات مع العمل المعنيِّ بسوق الأسهم الذي قام به باشوليي وموريس كندال وآخرون، ولم يكن أوسبورن يعلم بأمر أي من هذا من قبل. كان العمل الأكاديمي الوحيد الذي استشهد به هو المقال المنشور سنة ١٩٣٧، وشارك في كتابته ألفريد كاولز، ووصف ميل مؤشرات الأسهم إلى الاستمرار في الحركة في الاتجاه نفسه لفترات تصل إلى ثلاث سنوات، ثم تعكس اتجاهها على مدى فترات أطول.
كانت هذه الطرق تحظى بشعبية كبيرة لدى صغار المستثمرين في خمسينيات القرن العشرين، فبدأت شركات وول ستريت توظِّف «محللين فنيين» لإشباع توق العملاء إلى إرشادات محللي المخططات. قال ماجي لجون بروكس، الكاتب بمجلة «ذا نيويوركر»: «لا تخطرنَّ ببالك فكرة أن طريقة المخططات سحر أسود، فهي ليست كذلك، بل هي علم، أو على الأقل شبه علم. فمحلل المخططات ينظر إلى تطور تكوينات مخططات الأسهم كظاهرة طبيعية، على نحو ما ينظر عالم النباتات إلى تطور النباتات.» وإن هذا الجانب من جوانب عمل قراء المخططات هو الذي استهوى أوسبورن، الذي مضى ليؤلف مقالات عديدة حول الأنماط التي ميَّزها في أسعار الأسهم. لكن في حين أن أوسبورن أسس عمله على النظرية الإحصائية، لم يفعل قراء المخططات ذلك. فلم يكن معظمهم قادرًا على إخضاع ملاحظاتهم الواقعية لاختبارات الدلالة الإحصائية حتى الأشد بدائية منها، وكل ما فعلوه هو وصف أنماط ظاهرية في أسعار الأسهم، على الرغم من أن أساتذة الإحصاء كانوا يبرهنون منذ عشرينيات القرن العشرين على مدى سهولة إنشاء أنماط منتظمة ظاهريًّا بجمع أعداد عشوائية معًا.
كان هاوثاكر أيضًا من أوائل أعضاء هذه العصبة. فأثناء وجوده ضمن أعضاء هيئة تدريس ستانفورد مع هولبروك وركينج في خمسينيات القرن العشرين، بدأ يركز على سلاسل أسعار السلع التي انتقد موريس كندال على إرهاق نفسه بدراستها. واصطحب هذه الهواية معه إلى هارفرد، التي جاءها بينوا ماندلبرو زائرًا ذات يوم من أيام سنة ١٩٦٠. كان ماندلبرو رياضيًّا سبق أن هاجر من فرنسا للعمل في مركز بحوث آي بي إم في يوركتاون هايتس بولاية نيويورك؛ حيث درس — مثله مثل أوسبورن في مختبر بحوث البحرية — أيَّ شيء تقريبًا أثار اهتمامه، وكان عاكفًا على دراسة توزيع الدخل، وقد دعاه هاوثاكر إلى هارفرد للحديث عن هذا الموضوع.
•••
كان معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — حيث يعمل سامويلسون — هو المقر الرئيسي لحركة السير العشوائي المبكرة هذه، وكانت «كلية سلون للإدارة الصناعية» الجديدة بالمعهد تشترك هي وقسم الاقتصاد في مبنى واحد، ولفترة ما في أواخر خمسينيات القرن العشرين، صار يجمع أساتذتهما هوس بالتعامل في السلع. يقول سامويلسون عائدًا بالذاكرة إلى تلك الفترة: «في الطابق الثالث بقسم الاقتصاد كان يوجد المضاربون على ارتفاع فول الصويا، أما المضاربون على انخفاض فول الصويا فكانوا في الطابق الرابع بكلية سلون. ربما نجحنا جميعًا في تحقيق خسائر.»
في ١٩٦٥، وبعد عقد من الترويج لما أُطلق عليه «الحركة البراونية الاقتصادية» التي قال بها، نشر سامويلسون شيئًا عن هذا الموضوع، وإنْ في مطبوعة داخلية لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. اتخذت مقالته المعنونة «برهان أن الأسعار التي يجري توقعها على نحو صحيح تتذبذب عشوائيًّا» خطوة مهمة خارج حدود فرضية السير العشوائي، وذكرت بصيغة رياضية ما كان هولبروك وركينج قد حاول إثباته سنة ١٩٤٨، وهو أن العشوائية إحدى سمات سوق مالية تعمل على نحو مثالي.
لم يكن لدى سامويلسون أي اهتمام بإجراء هذا الاستقصاء، فذلك لم يكن أسلوبه. في السنة التالية، بدأ كتابة عمود دوري لمجلة «نيوزويك». كان يُفترض أن يمثل وجهة النظر الليبرالية في المسائل الاقتصادية، لكن على الرغم من أسلوبه الواضح والممتع في الكتابة، كان من الصعب في أغلب الأحيان أن نقول على أي جانب يقف، لكن هذا لم يمثل مشكلة قط فيما يتعلق بميلتون فريدمان، الذي ساعد سامويلسون على تعيينه ليكون وجهة النظر المحافظة المقابلة له على صفحات «نيوزويك».
أُجري ذلك «الاستقصاء المختلف» لمسألة ما إذا كانت أسواق المضاربة الفعلية أصابت أم لا في الفترة من منتصف ستينيات القرن العشرين إلى أواخرها في جامعة شيكاجو، التي كان يُدرِّس فيها فريدمان. وحتى قبل هذا، كان الأكاديميون في مختلف المعاهد العلمية يقولون بوضوح إنه — من الناحية النظرية — سيكون مريحًا إلى أبعد حد لو أدت أسواق المضاربة عملها على وجه الكمال.