الفصل العاشر

الذرات والأرواح العارفة

حين يلجأ السيد هوبز إلى ما يمكن للرب فِعْله (والذي يحظى كلانا بأسبابٍ وجيهة للاعتراف بطلاقة قدرته) فإن الجدل حول الأجسام السائلة ليس من شأنه تحديدُ ما يمكن للخالق القدير فِعْله، بل إلى ما فَعَله بالفعل.

روبرت بويل، ١٦٦٢1

في عام ١٦٥٤، استضاف اثنان من العلماء جمهورًا من المثقفِين في أحد منازل شارع هاي ستريت في أكسفورد، في مكانٍ ليس ببعيد عن كلية أكسفورد الجامعية. أحد المتحدثين وهو روبرت بويل (١٦٢٧–١٦٩١) ابن السابعة والعشرين كان عضوًا في الجمعية المعروفة باسم «الكلية الخفية»، والتي كانت تضم شخصياتٍ لامعة أخرى كعالِم الرياضيات والفلك كريستوفر رين، والكاتب جون إيفيلين، وعالِم الاقتصاد والفيلسوف ويليام بيتي. كان بويل طويل البنية ووسيمًا، ذا وجنتين مرتفعتين وأنف مستقيم وذقن بارزة، وكان يتحدَّث بلهجة أيرلندية قوية يتخلَّلها تلعثم بين الحين والآخر. أما مساعِده روبرت هوك (١٦٣٥–١٧٠٣) ابن التاسعة عشرة، فكان أقصر منه بكثير وذا بنية جسدية محدودبة ونحيلة لكن قوية، ووجه نحيف شاحب. ورغم أنه لم يكن مشهورًا على نحوٍ كبير في هذه المرحلة من حياته، فإن هوك سيصبح فيما بعدُ شهيرًا عن جدارة بفعل تحقيقه الكثيرَ من الإنجازات الثورية، كابتكاره للمجاهر التي استخدمها في اكتشاف الطبيعة الخلوية للحياة. وكان هذان العالِمان من الشخصيات البارزة فيما سيُعرَف فيما بعدُ باسم عصر التنوير.

في تلك المناسَبة، كان بويل قد جمَع أعضاء الكلية الخفية ليعرض عليهم عدةَ تجارب. وأغلب تلك التجارب تضمَّنت مضخةَ تفريغ، بإمكانها طرد كل الهواء تقريبًا الموجود في حجرة زجاجية كبيرة. في داخل الحجرة، أدخل روبرت شمعةً وأظهر أن لهب الشمعة أخذ يضطرب قبل أن ينطفئ فيما كان الهواء يُسحَب إلى خارج الحجرة. هنا برهن بويل وهوك وللمرة الأولى في التاريخ على أن النار تحتاج إلى الهواء. ثم بعد ذلك أدخلا ساعةً لها صوت طقطقة مرتفع. حين كانت الحجرة مليئة بالهواء كان بإمكان الحضور سماعُ طقطقتها بسهولة، لكن بينما كان يتم تفريغ الهواء، أخذ صوت طقطقتها يخفُت حتى لم يَعُد بالإمكان سماعه. ولم يَعُد صوت الطقطقة إلا حين سمح هوك بدخول الهواء إلى الحجرة ثانية. وبهذا يكون العالِمان قد برهنا على أن الصوت يحتاج إلى الهواء. أكمل بويل تجاربَه بأن وضع مغناطيسًا وبوصلة بداخل الحجرة وبالبرهنة على أنهما لم يتأثَّرا، أظهر بويل أن القوة المغناطيسية يمكن أن تمرَّ خلال الفراغ على عكس الصوت.

كل تجربة من التجارب السابقة كانت كافيةً وحدَها لإبهار الحاضرين لديه وإدهاشهم. لكن الحضور دُهِشوا أكثرَ بفعل التجربة التالية التي أجراها العالِمان. اشتملت التجربة على أنبوب زجاجي طوله عدة أقدام أدخلا فيه ثِقَلًا من الرصاص وريشة. وبعد تفريغ الهواء، قلب بويل بسرعة الأنبوبَ الزجاجي. وراقب الحضور في ذهول بينما كان الثِّقَل الرصاصي والريشة يسقطان عبْر الأنبوب معًا. لقد برهن بويل — كما تنبَّأ جاليليو — على أن كل الأجسام تسقط بالمعدَّل نفسه تمامًا حين تكون في فراغ. من الواضح أن أرسطو كان مخطئًا بالفعل.

وُلِد روبرت بويل في مدينة ليزمور بمقاطعة ووترفورد في أيرلندا لأسرة ثرية اكتسبت ثروتَها بكدِّها، ولم يستمتع بويل بأسلوب الحياة المدلَّل المعتاد لدى الطبقة الأرستقراطية البروتستانتية الإنجليزية أو الأنجلو أيرلندية. إذ كان والده — الذي أصبح أول إيرل لكورك — يتَّبع أسلوب التقشُّف في تربية أطفاله، فكان يرسل أطفاله إلى الريف حتى يصبحوا معتادِين على «حمية غذائية خشنة لكن جيدة، وعلى حب الهواء العليل». لم تلائم هذه الحياة الريفية الخشنة الابن الرابع عشر للإيرل، والذي كان في معظم الأحيان مريضًا يعاني «الحمى، وخللًا في الرؤية ومغْصًا وكَسَحًا، وشللًا، وتبوُّلًا مصحوبًا بالدم … واعتلالًا كلويًّا». وألقى روبرت بلائمة هذه الآلام على أنه كان مجبرًا على «التجوُّل عبْر بعض الجبال الموحِشة» في الليل بصحبة «مرشد مخمور غير مؤهَّل» بعد السقوط من فوق ظهر الجواد. كما اكتسب بويل أيضًا لعثمةَ حيث روى معلِّمه بعد ذلك — وهو الفرنسي إيزاك ماركومبس — كيف أنه «كان يتلعثم ويتأتئ كثيرًا حتى … بالكاد كان بإمكاني فهْمه، وبالكاد كنت أتمكَّن من كتم ضحكي».2 ربما كان من غير المثير للدهشة أن طفولةَ روبرت في أيرلندا لم تحبِّبه إلى مكان مولده، والتي وصفها لاحقًا بأنها «بلد بربري».
في عمر الثامنة، أُرسِل روبرت إلى إنجلترا ليتلقى تعليمه المبكِّر بكلية إيتون في بيركشاير. لم يتمكَّن الصبي من النجاح في المدرسة العامة الإنجليزية، وسرعان ما كان يعاني «الكآبة».3 فأُرسِل هو وأحد إخوته الكبار إلى خارج البلاد ليصبحا تحت رعاية السيد ماركومبس من جنيف. ويبدو أن روبرت كان سعيدًا للغاية بعيشِه مع آل ماركومبس. كانت الأسرة كثيرةَ السفر وقدَّمت للفتيَين نوعَ التعليم الإنسانوي الذي كان يُعتقد أنه يليق بشاب إنجليزي نبيل. بضرورة الحال كان ذلك يتضمَّن الحجَّ إلى إيطاليا للتمتُّع بجمال بقايا الحضارة الكلاسيكية التي ألهمت الإنسانويين. في تلك الرحلة كان روبرت اليافع يأمُل أن يلتقي ببطله جاليليو العجوز في مدينة آرتشتري، لكنه وصل متأخرًا بيوم.
رغم ما قدَّمه آل ماركومبس من رعاية تامة للفتيَين، ظلَّ بويل مضطربًا. إذ يروي في مذكِّراته (التي كتبها متبعًا أسلوبَ تلك الحِقبة بصيغة ضمير الغائب، فاختار لنفسه اسمَ فيلاريتوس تيمنًا بقديسٍ بيزنطي طُوِّبَ لكرمه غير المعهود) كيف أنه ابتُلي بالشكوك الدينية بدرجةٍ من الشدة كانت كافية لأن يفكِّر في الانتحار. وحين كان في الثالثة عشرة من عمره تقريبًا، استيقظ يومًا على عاصفةٍ رعدية عاتية جدًّا لدرجةِ أن «كل قصفة رعد كان يسبقها ويتبعها ومضاتٌ برق شديدة السطوع والتتابع، حتى إن فيلاريتوس بدأ يتخيَّل أنها مباغتاتُ تلك النار التي لا بد أنها ستلتهم العالَم». وأقسم روبرت إنه لو نجا من تلك الليلة فسيكون متدينًا ومحبًّا للرب أكثر.4 كان هذا الصراع بين التشكك الديني والورع هو أحدَ الصراعات التي عاناها روبرت خلال حياته. فحتى وهو على فراش موته، أقرَّ بأنه كان يتعرَّض لهجوم مستمر من «أفكارٍ تجديفية».5

بحلول ذلك الوقت، كانت إنجلترا في خِضم الحرب الأهلية. وإحدى أولى المناوشات في تلك الحرب كانت تمردًا أيرلنديًّا في عام ١٦٤١ حين كان روبرت في الرابعة عشرة من عمره. تسلَّم هو وأخوه خطابًا من والده يحمل أخبارًا تقول إنه محاصَر في قلعته؛ الأمر الذي جعله معزولًا عن مصدر ثروته. وأُبلِغ روبرت وأخوه في الخطاب أن مخصصاتهما من المال قد أوقِفَت. ولكونه رجلًا أبيًّا، منع الإيرل الصبيَين من العودة إلى إنجلترا في مثل هذه الظروف المتدنية، ونصحهما عوضًا عن ذلك بأنهما إما أن يعودا إلى أيرلندا أو أن يلتحقا بالجيش الإنجليزي الذي يقاتل في هولندا. وقد أمدَّ آلُ ماركومبس أخو روبرت الأقوى منه، فرانسيس، ابنَ التاسعة عشرة بما يكفي من المال ليعود إلى أيرلندا، أما روبرت الذي كان يتمتَّع بحساسيةٍ أكبرَ فاختار أن يعود إلى جنيف مع آل ماركومبس.

استمر الصراع عدة سنوات قبل أن يُجبَر الإيرل الذي كان قد بلغ من العمر الخامسة والسبعين على أن يتخلَّى عن ملكيَّته، ثم مات بعد ذلك بوقت قصير. واعتبر روبرت أن المنع من العودة إلى إنجلترا انتهى بموت أبيه؛ لذا في عام ١٦٤٤، أي حين كان في السابعة عشرة من عمره، وبعد أن رهن مجوهراتٍ أعطاه إياها آل ماركومبس، سافر عبر فرنسا واشترى لنفسه حقَّ عبور إلى إنجلترا. ومن بورتسموث، سافر إلى سانت جيمس في لندن ووصل إلى المنزل الذي كانت أخته كاثرين تعيش فيه مع أطفالها الأربعة، والتي تخلى عنها زوجها المبذِّر الفيكونت رينلا. ولدى وصول روبرت، احتضنت كاثرين أخاها «بفرحة وحنان أكثرِ الأخوات محبةً لأخيها»6 فتوطَّدت علاقة وثيقة بينهما استمرت طوال حياتهما.

وفيما كان روبرت في لندن، اكتشف أنه كان يملك حينها ضيعةَ ستولبريدج في مقاطعة دورسيت. كان لتلك الضَّيعة تاريخٌ غير سعيد. إذ ورِثها مالكها السابق بعد أن أبلغ عن والده بأنه يقوم ﺑ «ممارسات غير طبيعية»، وهي كناية من القرن السابع عشر عن إقامة علاقات جنسية مِثلية. وبعد شنق والده، باع الابن الضَّيعة للإيرل. ولدى وفاة الإيرل، انتقلت ملكيةُ الضَّيعة إلى روبرت؛ وهناك نصَّب نفسه ليعيش حياةَ نبيل ريفي.

لكن تلك الضَّيعة كانت قد دُمِّرت بفعل الحرب. فكان قصر مالك الضَّيعة خرِبًا ومعظم الأكواخ مهجورة. ومن خلال تقطيع الأشجار الموجودة في الضَّيعة وبيعها، تمكَّن روبرت من جمْع الأموال اللازمة لتعيين عمال أعادوا بناء القصر واستصلحوا المزارع لتعود إلى الإنتاج. وفي وقت فراغه كان روبرت يكتب بانتظام إلى أخته، وكانت خطاباته في معظم الأحيان تشتمل على ملاحظات بها حكاياتٌ أخلاقية بسيطة في جميع أنواع الموضوعات، ومنها «عن تناول المحار» أو «عن إلقاء اللحم إلى الكلب» أو «عن ركوب الخيل والغناء والخفيف من المزاح». تداولت كاثرين حكاياته مع أصدقائها المؤثِّرين، وتبيَّن أن تلك الحكايات محبوبة بما يكفي لتُنشَر في كتابٍ بعنوان «تأمُّلات عرَضية حول موضوعات عدة». وقد تبيَّن أن تلك الحكايات محبوبة للدرجة التي جعلت جوناثان سويفت يهجو أسلوب روبرت في كتابه «تأمُّلات عن عصا مِكنسة. وفقًا لأسلوب وطريقة تأمُّلات المحترم روبرت بويل: «حين رأيت ذلك، تنهَّدت وقلت في نفسي: من المؤكَّد أن الإنسان هو عصا مِكنسة».

مع ذلك، ورغم القيمة الأدبية لتلك الحكايات والتي هي محل جدال، فإن الدخل المادي الإضافي سمح لروبرت أن يجهِّز مختبرًا في ستولبريدج يمكن له فيه أن يشبع حبَّه للعلم التجريبي المحبَّب لدى الإنسانويين، وهو الخيمياء. فكتب يقول إن «السرور الذي يعتريني بداخل مختبري يجعلني أتخيَّل أنه جنةٌ من نوعٍ ما». ورغم أننا نعلم اليوم أن الخيمياء هي في معظمها ترهات، فإنها وفَّرت الأدوات اللازمة للبحث في طبيعة المواد ومِن ثَمَّ فإنها سابقة لعلم الكيمياء الحديث. فعمليات كالتقطير وفصل الأحماض والقواعد وطرائق تنقية المعادن هي كلُّها عمليات تطوَّرت في البداية في مختبرات الخيمياء. لكن وإلى جانب العلم التجريبي السليم، اشتملت الخيمياء على الخوض في طوفان من الهراء الباطني والتركيبات الغريبة بمكوِّنات في غاية الغرابة وتعليمات عجيبة من قبيل «بدِّل البحر والمرأة وقُضَّهما بين الشتاء والربيع».7

لكن روبرت بويل اليافع كان مفتونًا وكتب بحماسة عن دودة على «ساحل سومبريرو» تتحوَّل في البداية «إلى شجرة ثم إلى حجر». وروى قصةً مدهشة عن «كيميائي أجنبي» التقى أثناء سفره عبْر فرنسا هو وراهبٌ حليق الرأس في نُزُلٍ زعم أنه يملك «أرواحًا رهنَ إشارته وبإمكانه جعْلها تظهر متى أراد، وسأله إن كان باستطاعته أن يحتمل رؤيتهم في هيئةٍ مريعة». وحين ظلَّ الكيميائي صامتًا فإن الراهب «قال بضع كلمات فدخل أربعة ذئاب إلى الحجرة وأخذوا يجْرون حول الطاولة التي كانا يجلسان إليها لمدة ليست بالقصيرة». بدت الذئاب «في غضب شديد» و«شعر أن شعر رأسه انتصب واقفًا، فطلب من الرجل الآخر الآن أن يبعِدها، وقد فعل بعد أن قال بضع كلمات أخريات». بعد هذا الرعب استمتع الرجلان «بمأدبة حضرتها غانيتان جميلتان حسَنتا الملبَس … ورغم أنهما أغرتاه فإنه ظلَّ نائيًا بنفسه؛ لكنه طرح على الفتاتين أسئلةً عن حجر الفلاسفة، «و… كتبت إحداهما ورقة قرأها و… فهمها».» لكن وكما يحدث كثيرًا في مثل هذه المواقف «اختفت الغانيتان وكذلك الورقة، وما كان مكتوبًا في الورقة انمحى من ذاكرته حتى إنه لم يتمكَّن قط من أن يتذكَّره».

يبدو كل هذا في يومنا هذا خياليًّا، لكن في القرنين السادس عشر والسابع عشر، كان الكثير من أعظم المفكِّرين في أوروبا يسعون من أجل فهم هذه المكوِّنات الغريبة والتعليمات الخفيَّة المبهمة والحكايات الطويلة. ولو كان روبرت قد ظلَّ معتمدًا فقط على الخيمياء لظلَّ شخصية مغمورة في تاريخ «علمٍ» بائد. لكنه أصبح عوضًا عن ذلك شخصية محورية في تاريخ العلم الحديث. إذ يعكس تحوُّله من متصوِّف إلى عالِمٍ انسلاخَ العلم الحديث من جذوره الصوفية والإنسانوية، ويوضِّح قيمةَ شفرة أوكام في استئصال الهراء.

الآلهة والذهب والذرَّات

بحلول القرن السابع عشر، كانت الفلسفة الإنسانوية في أزمة. إذ كان الكثير من الفلاسفة المؤثِّرين يعترضون على ثقة الفلاسفة الإنسانويين في الإبداع الإنساني، يائسين من المتاهات الباطنية التي أدَّت بنا إليها. وكمثل ويليام الأوكامي، استقطر رينيه ديكارت، وهو أعظم فلاسفة القرن السابع عشر (والذي وُلِد قبل جيل واحد من روبرت بويل في عام ١٥٩٦)، الفلسفةَ المعاصرة إلى أساسها الأدنى، مشدِّدًا على أنه ومن خلال هذا المنهج «سأرتِّب أفكاري بترتيبٍ يمكِّنني من الارتقاء شيئًا فشيئًا وخطوةً بخطوة إلى معرفة الأشياء الأكثر تعقيدًا، وذلك من خلال البدء بأبسط الأشياء وأسهلها معرفة».8 كما شدَّد ديكارت في روحِ شكِّه الديكارتي الشهيرِ على أنه «بغيةَ السعي إلى الحقيقة، من الضروري أن نشكَّ بقدرِ ما يمكننا لمرة واحدة في حياتنا في كل شيء». وبتجاهله لقرون من التكهُّن بشأن وجود كيانات تفوق الحاجة، وصل ديكارت إلى يقينين اثنين، هما وجوده — «أنا أفكِّر إذن أنا موجود» — ووجود المادة.

وكمثل الاسمانيين من قبله، أنكر ديكارت أن مظهر الأشياء يتوافق هو وأيُّ شكل من الحقيقة المادية. وقد أشار في ذلك إلى مثال الشمع الذي يغيِّر مظهره تمامًا حين يتعرَّض للحرارة إلا أنه يظلُّ الشمعَ نفسَه. فخلَص إلى أن مظهر المادة إنما هو وهمٌ خلقته حواسُّنا. وأقرَّ ديكارت بصفة واحدة من صفات المادة، وهي التمدُّد، الذي يَعني احتلال حيِّز من الفراغ؛ وشدَّد على أن المادة وحدَها هي ما تتمتَّع بصفة التمدُّد. وقدَّم زعمه الشهير الذي يقول: «أعطني صفتَي التمدُّد والحركة وسأنشئ الكون». وأكَّد كذلك أن الكون بأكمله عبارة عن «ملاء» يعجُّ فقط بالجزيئات.

وتعود فكرة الملاء هذه إلى أرسطو، الذي اقترح أنه ليس ثمَّة شيء يُدعى الحيز الفارغ، حيث إن الأشياء المادية وحدَها هي ما تتمتَّع بصفة التمدُّد. يبدو هذا في غاية الغرابة اليوم، لكنه مثال جيد على النقطة التي تناولناها حين تحدَّثنا عن نماذج النظام الشمسي الكثيرة التي كان على كيبلر اختيار أحدِها، والتي تتمثل في أن هناك عددًا كبيرًا وربما لا نهائيًّا من النماذج المتسقة منطقيًّا والتي قد تناسب الحقائقَ المتاحة. على سبيل المثال، إحدى الحقائق التي ذكرها أرسطو كانت ملاحظته أن الماء لن يتدفَّق من أنبوب ضيِّق إذا ما كان الطرَف العلوي له مسدودًا. هذه الملاحظة دفعت الفيلسوف القديم أن يقول قوله الشهير بأن «الطبيعة تمقُت الفراغ»؛ في هذه الحالة، الفراغ الذي سيتشكَّل إذا ما تدفَّق الماء بالفعل من أنبوب مسدود ليخلِّف وراءه فقط حيِّزًا فارغًا.

تبدو أعمال السباكة مكانًا غريبًا لبدء نظريَّة لها مدلول كوني، لكن الفيلسوف القديم استخدم أيضًا كرهَ الطبيعة الواضح لوجود فراغ ليرفض إحدى أكثر الأفكار غيبيةً من العالم القديم، وهي الذريَّة. قبل قرن أو نحو ذلك من ولادة أرسطو، كان الفيلسوف ديموقريطوس قد زعم أن المادة تتكوَّن من ذرات أو جسيمات صغيرة جدًّا تتحرَّك بشكل عشوائي. وقد أدرك أرسطو أن النظرية الذريَّة تتعارض وقولَه بأن «كل شيء يتحرَّك فهو يتحرَّك بفعل شيء آخر»، وذلك بما أنه لا يوجد شيء في الفراغ يمكن أن يتسبَّب في تحريك الذرَّات. لذا رفض أرسطو فكرة الذريَّة من أجل نظريته البديلة التي تقول بأن المادة تتجزَّأ بشكل لا نهائي وتملأ كل الكون، مكوِّنة ما عُرِف باسم الملاء. فلقَّن طلابه أن الكون بأكمله عبارة عن ملاء تنزلِق فيه الأشياء — كالطيور أو الناس أو السهام أو السمك أو الكواكب أو الهواء أو الماء أو الأثير — بعضها بجوار بعض، تمامًا كما ينزلق السمك عبْر الماء. وشدَّد أرسطو على أن أي فجوة في ذلك الملاء تُملأ في الحال، تمامًا كما يُسحب الماء عائدًا إلى الفراغ الذي يتكوَّن في الأنبوب المسدود. وطبقًا لهذه النظرية، فإن الفراغ يُعدُّ من المستحيلات المنطقية.

اعترض فلاسفةٌ آخرون على فكرة الملاء الخاصة بأرسطو. إذ أقام الإبيقوريون — الذين أسَّس فكرهم إبيقور في أثينا حوالي عام ٣٠٦ قبل الميلاد — أنظمتَهم الفلسفية بأكملها على فكرة الذريَّة. كما دعم الشاعر الروماني لوكريتيوس الفكرة نفسَها. وقد توغَّل الجدل بين فكرتَي الملاء والذريَّة إلى العالَم الأوروبي العصرأوسطي؛ حيث أخذ المدرسيون بصفة عامة جانبَ أرسطو. فقد وجد جان بوريدان أدلةً على فكرة الملاء في ملاحظته التي تقول إن من «المستحيل» فصْلَ جانبَي الكير إذا كانت فتحته مسدودة: «ليس بمقدور عشرين جوادًا حتى أن تفعلها لو شدَّ كل عشرة جياد طرَف الكير من كل جانب». لكن ويليام الأوكامي كان ميالًا نحو فكرة الذريَّة، مؤكِّدًا أن «المادة والشكل قابلان للتجزئة، ولكلٍّ منهما أجزاؤه المميَّزة في المكان والموضع». بل إنه تكهَّن حتى بأن عمليتَي الغليان والتكثيف سببُهما إعادةُ ترتيبٍ أجزاء الماء أو ذراته.9

هجَر الفلاسفة الإنسانويون من عصر النهضة فكرَ أرسطو بصورة كبيرة لصالح معلِّمه أفلاطون، ونزع معظمهم إلى الانحياز لصف فكرة الذريَّة، خاصةً أن التفاعل بين الذرَّات يمكن أن يقدِّم أساسًا منطقيًّا لفهم السِّحر الطبيعي. على سبيل المثال، زعم الخيميائيون أن بالإمكان إعادةَ ترتيب الذرَّات بطرق مختلِفة بما يقدِّم عناصرَ التراب والهواء والماء والنار، والتي ظنُّوا أن المعادن كالزئبق والصفيح والذهب تتكوَّن منها. في عقل الخيميائي، كان الاختلافُ بين المعادن الرخيصة (تلك التي ليست بذهب ولا بفضة) والذهب هو ببساطة مسألةَ إعادة ترتيب ذرَّاتها؛ الأمر الذي يمكن أن نصل إليه من خلال استخدام النوع الصحيح من السِّحر الطبيعي. وهذا يفسِّر حُلمهم بتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب. علاوة على ذلك، اعتقد أتباع باراتسيلزوس أن مسارات الكواكب تؤثِّر على حركة الذرَّات بداخل الجسم مما يسبِّب الاعتلال أو الصحة، وأن تلك النزعة يمكن أن تتأثَّر بالأجسام الأرضية المتجانسة. لذا إن كنت حزينًا لأنك تعاني تحت وطأة كوكب كئيب، كزحل مثلًا، فقد تتلقَّى نصيحة بأن ترتدي رداءً أصفر اللون وسوارًا ذهبيًّا وربما تستمتع بتذوُّق النبيذ من كأس ذهبية؛ حيث إن هذه الأجسام متجانسة مع الشمس المبهِجة أكثر. بالطبع، قد يجدي هذا العلاج نفعًا كبيرًا. فالنماذج المتسقة ذاتيًّا — وإن كانت خاطئة — يمكن أن تجدي نفعًا في أغلب الأحيان بما يكفي لإقناع السذَّج بأنهم على المسار الصحيح.

استمر ضجيجُ الجدال بين فكرة الذريَّة وفكرة الملاء الأرسطية لأكثر من ألفيَّتين من الزمن، وهو يوضِّح بدقةٍ كيف أنه من الممكن دائمًا أن تنشأ عدةُ نماذج متسقة ذاتيًّا للكون، وربما عدد لا نهائي منها، وذلك في ظل أي مجموعة محدَّدة من البيانات. وكما سنرى، فإن أحد الأدوار الأساسية التي يلعبها نصْل أوكام هو التدقيق في النماذج المتنافسة لعالمنا.

قبِل ديكارت بحجَّة أرسطو الخاصة بفكرة الملاء، إلا أنه تبنَّى فكرةَ أن المادة أتت في شكل جزيئات وإن كانت قابليتها للتجزئة لا نهائية. وفي خطوة كبيرة نحو العلم الحديث، جرَّد ديكارت أيضًا جزيئات مادته من أيِّ تجانُس إنسانوي مع الكواكب أو السحر. أصبحت تلك الأشياء كياناتٍ تفوق الضرورة في كون ديكارت المادي. عوضًا عن ذلك، كانت المادة بالنسبة إلى ديكارت تتكوَّن فقط من جزيئات متناهية الصِّغر تتحرَّك في دوَّامات دائرية تكوِّن الهواء والماء والتراب والنار، والنباتات والحيوانات. خلق الرب الجزيئات وأعطاها الدفعةَ الإلهية الأولى الخاصة بها؛ لكن بعد ذلك، أصبحت حركاتها آلية بصورة تامة. وشدَّد ديكارت على أن الجسم البشري حتى كان «مجرد تمثال أو آلة مصنوعة من التراب». معظم أفكار ديكارت الفلسفية، ومنها فكرةُ الذريَّة الآلية، مشروحة في كتابه «العالَم»، الذي نُشِر في غضون الوقت الذي وُلِد فيه روبرت بويل، فيما نُشِر كتابه «مقال عن المنهج» عام ١٦٣٧، ونُشِر كتاب «مبادئ الفلسفة» عام ١٦٤٤.

وعلى الرغم من أنها لاقت معارضةً شديدة من الفلاسفة الإنسانويين الكاثوليك، فإن الفلسفة الآلية الديكارتية تناغمت مع المنظور الاسماني والتجريبي واللوثري أكثرَ والذي شاع في البلدان البروتستانتية. بحلول العام ١٦٤٩، كانت معظم أعمال ديكارت قد تُرجِمت إلى الإنجليزية، فسهر رواد الثورة العلمية الناشئة يدرسونها بنهمٍ شديد. لكن خشيَ الكثير من الفلاسفة واللاهوتيين الإنجليز أن يكونَ كونُ ديكارت الذرِّي والحتمي يبعُد عن الإلحاد خطوةً واحدة فقط. وقد تحقَّقت مخاوفهم هذه في فلسفة توماس هوبز، الشهير بلقب «وحش مالمزبري»، الذي نشر كتابه السيئ السمعة «لفياثان» في العام ١٦٥١، حين كان روبرت بويل في الرابعة والعشرين من عمره.

كان هوبز (١٥٨٨–١٦٧٩) من أتباع المذهب الاسماني، وقد أخذ مذهب ويليام الأوكامي الاختزالي إلى ما هو أبعد مما تجرأ عليه أحد من قبله.10 فقبِل مفهوم الأوكامي عن الرب الذي لا سبيل لمعرفته، وقبِل كذلك باستبعاده الكليَّات وشدَّد على أن مفاهيمَ مثل الخير والشر ليس لها أيُّ أساس فلسفي أو منطقي. ومِثل ديكارت، شدَّد هوبز على أن الكون يتكوَّن فقط من جزيئات آلية، لكنه ذهب إلى ما هو أبعد مما ذهب إليه سابقه الفرنسي بكثير، وذلك إلى حد استبعاد الاختلاف بين ما هو طبيعي وما هو خارق للطبيعة، فزعم أن كلًّا من الرب والروح يتكوَّنان كالإنسان من المادة.
طبقًا لهوبز، كان هناك عالَم واحد فقط. في كتابه الشديد التأثير «لفياثان»، دفع هوبز بأن الشيء الوحيد الذي نستطيع معرفته عن ربٍّ مطلَق القدرة هو أنه «العلة الأولى لكل علة»، وأن الإنسان مجرد شكل آخرَ من أشكال الذرَّات التي تتحرَّك. وأشار إلى أنه من دون ربٍّ كريمٍ مُنعِمٍ يرعانا فإن الحياةَ محفوفة بالصراعات والعنف و«الانعزال والبؤس والبغض والفظاظة وقِصَر الأجل».11 وحاجج على أسسٍ اسمانية بأن الخير والشر مجردُ اسمين سميناهما للأشياء التي «ننزِع إليها وننفِر منها».12 ومِن ثَمَّ حثَّ البشريةَ على أن تهجُر الصلاة لربٍّ غيرِ مكترثٍ ولا سبيل لمعرفته، وأن نستخدم عوضًا عن ذلك الإبداعَ الإنساني والسياسة والعلم لإنشاء «أمَّة» تسعى إلى إرساء النظام وتقليص المعاناة وإنماء السعادة. وكما خمَّن الفيلسوف والعالِم السياسي الأمريكي مايكل ألين جيليسبي: «وهكذا سيُمكِّن العلمُ كما فهِم هوبز البشرَ من النجاة والازدهار في العالَم الفوضوي والخَطِر للرب الاسماني».13
أثارت أفكارُ هوبز الذعرَ بين أوساط الفلاسفة المحافظين، من بينهم أعضاء مجموعة تُعرف باسم أفلاطونيِّي كامبريدج، والفيلسوف وعالِم اللاهوت هنري مور (١٦١٤–١٦٨٧) على وجه الخصوص. قبِل مور وزملاؤه في كامبريدج بالخطوط العريضة للكون الآلي الخاص بديكارت وهوبز، إلا أنهم شدَّدوا على أن الآلية وحدَها غير كافية لتفسير ظواهرَ كالجاذبية أو الجذب المغناطيسي أو كره الطبيعة للفراغ. عوضًا عن ذلك، دفع هؤلاء بالبُعد عن المنهج الاسماني والعودة إلى الواقعية الأفلاطونية التي تتخلَّل فيها «روح الطبيعة» غير مرئية الكون بأكمله، فتتصرَّف فيه وكأنها وكيل الرب للحرص على أن تسير الأحداثُ بما هو وفق خطَّته الإلهية.14 حينها لم يكن الدِّين مستعدًّا بعدُ ليبعِد قبضتَه عن العلم.

الفراغ القوي

أذِن انتهاء الحرب الأهلية الإنجليزية بعودة المِلكيَّات والضَّيعات الأيرلندية إلى حوزة عائلة بويل. وحين وجد نفسه ثريًّا مرة أخرى، قرَّر روبرت في العام ١٦٥٤؛ حيث كان في السابعة والعشرين من عمره الآن، قرَّر أن ينتقل إلى بيئة أكسفورد الأكثر تحفيزًا على الصعيد الفكري. وهناك أنشأ مختبرًا آخرَ وعيَّن روبرت هوك.

بحلول ذلك الوقت تقريبًا، كان بويل قد سئم المعرفةَ الغامضة التي تقدِّمها الخيمياء ونظرياتها التي تبرَّم منها، فقال بأنها «كريشِ الطاووس، تعطي مظهرًا رائعًا لكنها ليست صلبة البنية، ولا تحقِّق نفعًا». ورغم أنه كان لا يزال يبدي اهتمامًا بالخيمياء لازمه طوال حياته، فإن أبحاثه التجريبية تحوَّلت بعيدًا من تلك «الدودة الغريبة على ساحل سومبريرو» والأشياء الخفيَّة الأخرى ذات الصلة إلى العلم الأكثر جديَّة. ربما كان مصدر حافزه في ذلك هو أخته كاثرين جونز فيكونتسة رينلا. كانت كاثرين امرأة استثنائية ذات اهتماماتٍ عميقة بالعلم والفلسفة والطبيعة والسياسة وكانت صديقة للشاعر جون ميلتون والكاتب والموسوعي صامويل هارتليب. وقد كتب روبرت إلى آل ماركومبس يصِف لهم كيف تعرَّف على الكثير من «الأدباء» في منزل أخته في لندن وتعرَّف كذلك على أعضاءٍ من جمعية «الكليَّة الخفيَّة».

تبنَّى بويل كنقطةِ بداية لعلمه فكرةَ ديكارت عن الكون الآلي برُمَّته، لكنه فزِع كمسيحي متديِّنٍ من صورة هوبز المادية التي رسمَها عن الرب. وكان الحل الذي قدَّمه جماعة أفلاطونيِّي كامبريدج مرفوضًا من جانبه أيضًا؛ حيث إن «روحًا من الطبيعة» التي اقترحوها تشير إلى الوثنية. لكنه بدلًا من أن يتورَّط في الجدال الفلسفي الذي كان يستعِر من حوله، حذا بويل حذوَ بطلِه من الطفولة جاليليو؛ وذلك بأن كرَّس نفسه لتنفيذ تجاربَ مصمَّمة بعناية من شأنها أن تحسِم الجدل.

وكان الشيءُ الذي ألهب جذوةَ اهتمامه هو شيئًا يقع من الجدل بين فكرتَي الذرية والملاء محلَّ القلب. كان ذلك الشيءُ هو مسدَّسًا هوائيًّا بسيطًا. إذ وصَف في أحد خطاباته كيف أنه أصبح مشغولًا بمسدس هوائي «بإمكانه أن يرسل رصاصة … ذات قوة يمكن أن تقتل رجلًا على بُعد ٢٥ أو ٣٠ خطوة» إلا أنها تنطلق «بفعل ضغط الهواء فقط». قد تبدو المسدسات الهوائية محفِّزًا بعيدَ الاحتمال لتحقيق ثورة علمية، لكن وعلى النقيض من الظلام السيميري أو حجر الفلاسفة، فإنها على الأقل أشياءُ حقيقية. كان بإمكان بويل أن يشتري واحدًا ويفكَّ أجزاءه ويكتشف كيف يعمل ويوضِّح آلية عمله لأخته. وما هو أكثر أهمية، وعلى عكس مزاعم الخيمياء غير القابلة للتحقُّق منها، فإن بالإمكان التحقق منه. وبعد مئات السنين، سيذكُر عالِم الأحياء من القرن العشرين بيتر ميدوَّر أن العلم هو «فن القابل للحل».15 كان بويل قد وجد مشكلةً قابلة للحل.
كان ثمَّة الكثير من مصادر الإلهام لمنهج بويل التجريبي. في كتابه بعنوان «الأورجانون الجديد» الذي نُشِر عام ١٦٢٠، دفع الفيلسوف والسياسي المحنَّك الإنجليزي فرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦)، انطلاقًا من وجهة نظر اسمانية، بأن السبيلَ الوحيد إلى المعرفة العلمية هو إجراء العديد من الملاحظات الفردية المسجَّلة بعناية والتي يمكن أن تُصنَّف وتُعمَّم بهدف الوصول إلى استنتاجات، في الطريقةِ التي تُعرف اليوم باسم الاستقراء. لم يكن بيكون بالطبع أولَ شخص يستخدم الحججَ الاستقرائية. إذ أقام ويليام الأوكامي على سبيل المثال حجَّة استقرائية قبل ثلاثة قرون،16 حين كتب أنه «يمكن لكل كائن بشري أن ينمو، ولكل حمار أن ينمو، ولكل أسدٍ، وهكذا دواليك بالنسبة إلى حالات أخرى بعينها؛ ومِن ثَمَّ يمكن لكل حيوان أن ينمو». لقد قدَّم كلٌّ من ويليام الأوكامي وبيكون منطقَ الاستقراء بديلًا للمنطق القياسي الأرسطي، الذي قوَّضه استبعادُ الاسمانيين لمبدأ الكليَّات.

كانت فكرة روبرت بويل هي أن منهج بيكون عن الاستقراء حين يُضاف إلى تجارب جاليليو التي أجراها بعناية، يمكن أن يُصبح المحرِّك الذي نستخلص بفضله استنتاجاتٍ سليمة من التجارب المعملية المتكرِّرة. وعلى عكس جاليليو الذي خلَّف قدرًا ضئيلًا من التفاصيل عن تجاربه، قدَّم روبرت بويل سردًا شديدَ التفصيل لأدواته التجريبية ولمنهجه الدقيق، فدوَّن التفاصيلَ حتى وصل به الأمر إلى تدوين درجة حرارة المكان أو طقس اليوم، وأضاف إلى ذلك بياناته الأولية وتحليلاته. ولهذا السبب، رُشح بويل مثل جاليليو للقبِ أبي العلم التجريبي.

كان جاليليو قد حقَّق شهرةً كعالِم فيزياء وفلك. وكانت اهتمامات بويل أكثرَ عملية وكيميائية، ومصدرَ إلهامه في ذلك هو عمله في مجال الخيمياء. فبدلًا من أن يفحص بويل مسارَ المقذوف المنطلِق من مسدس هوائي، التفَت روبرت إلى سبب انطلاقه. يضرب المسدس الهوائي بفعلِ مكبس يضغط غرفة يملؤها الهواء فقط. وإطلاق الزناد يطلق الضغط الداخلي، مما يسمح للهواء المضغوط في الغرفة بدفع المكبس على طول فوَّهة المسدس، ومِن ثَم تنطلق الرصاصة بسرعة معيَّنة من داخل المسدس. والسؤال الذي شغل بالَ بويل هو كيف «لضغط الهواء فحسب» أن يُطلِق رصاصة من مسدس هوائي؟ أو بالأحرى، ما هو ذلك الشيء الخفي، المسمَّى بالهواء؟ كانت مثل هذه الأسئلة محلَّ غموض كبير في القرن السابع عشر، لكن على النقيض من حجر الفلاسفة، كان لها إجابات.

نقطة انطلاق بويل كانت دراسةً بدأها تلميذ جاليليو إيفانجليستا تورتشيللي (١٦٠٨–١٦٤٧). تلقى جاليليو قبل عام من وفاته تقاريرَ عن مشكلة مثيرة للفضول ذكرَها عمال مناجم يستخدمون مضخات ميكانيكية لإزالة الماء من مهاوي المناجم المغمورة بها. كانت تلك المضخات تعمل من خلال تراجع مكبس في أسطوانة تتصل بمصدر الماء. وبسحب المكبس، يُشفَط الماء إلى الحجرة استجابة — كما كانوا يظنون — إلى كره الطبيعة للفراغ الذي كان سيتشكل في الغرفة لولا ذلك. لكن اكتشف عمالُ المناجم أن ليس بإمكانهم أبدًا رفع الماء لأكثر من ٣٣ قدمًا، بغض النظر عن كدْحهم في سحبِ المضخَّة. وطلبوا مساعدة جاليليو الذي حثَّ تورتشيللي على النظر في الأمر.

كانت مضخَّات عمال المناجم كبيرة وثقيلة. فملأ تورتشيللي أنبوبًا زجاجيًّا طويلًا بالماء وقلبَه في صحن — متأثرًا في ذلك بمنهج جاليليو في إعادة إنتاج أوجهِ المشكلة الأساسية في بيئة معملية خاضعة للتحكم الدقيق. لكن ولكي يعيد إنتاج عدم قدرة عمال المناجم على رفع عمود الماء، كان يتحتَّم أن يكون طول الأنبوب ١٠ أمتار، فكان الأنبوب يرتفع عن سقف منزله في بيزا. تسبَّب هذا في قدر كبير من الذعر بين جيرانه الذين كانوا يخشون أنه يمارس أعمال السِّحر، ما دفع تورتشيللي إلى استبدال الزئبق بالماء، فاحتاج الزئبق إلى عمود بطول متر واحد فقط لتحقيق التأثير نفسه، كون الزئبق أثقلُ من الماء بأربعة عشر ضِعفًا. قلبَ تورتشيللي أنبوب الزئبق في عام ١٦٤٣، فكان الطرَف العلوي للأنبوب مغمورًا في صحن من الزئبق (انظر الشكل ١٠-١). وحيث كان العالِم الإيطالي يتوقَّع أن مبدأ مقت الطبيعة للفراغ سيمنع الزئبق من التدفُّق خارج الأنبوب، فإنه ذُهِل حين لاحظ أن مستوى الزئبق قد انخفض بالفعل ما سمح بوجود بوصات عديدة من الفراغ فوق السطح السائل، وهذا على النقيض من العقيدة التي سادت لِما يقارب الألفي عام. وحين سمِع عالِم الرياضيات والفيزياء والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال (١٦٢٣–١٦٦٢) بتجارب تورتشيللي، أخذ أنبوبَ تورتشيللي — كما كان يُسمى آنذاك — إلى قمة جبل بوي دي دوم في وسط فرنسا، ولاحظ أن ارتفاع عمود الزئبق قد انخفض أثناء تسلُّقه الجبل، لكنه زاد مرة أخرى أثناء نزوله. واقترح هو وتورتشيللي أن ارتفاع عمود الزئبق يزيد ليس بفعلِ كره الطبيعة للفراغ بداخل الأنبوب، ولكن بفعل ثِقَل الهواء الجوي خارجه. وثِقل الهواء الجوي يقِل، ومِن ثَمَّ يصبح أخف في الارتفاعات الأعلى، مما يسبِّب انخفاض عمود الزئبق. واخترعا معًا البارومتر.
fig18
شكل ١٠-١: تجربة تورتشيللي الخاصة بأنبوب الزئبق.

ذُهِل بويل من تجاربِ تورتشيللي وباسكال. فألهماه إنشاءَ مضخاته وصِمَاماته المعدنية والزجاجية العبقرية الخاصة به. كان النهج الأساسي هو تفريغَ الهواء في وعاء كبير بما يكفي لتُجرى تجربة بداخله. حينها سيُدخل هو أو هوك شموعًا أو ساعات أو حشرات أو أسماكًا أو حيوانات لينظر كيف ستتعاطى مع الفراغ؛ الأمر الذي يعيدنا إلى عروضه التجريبية أمام جمعية الكليَّة الخفيَّة في عام ١٦٥٤.

fig19
شكل ١٠-٢: عرْض بويل الشهير عن قدرة الفراغ الواضحة على رفع أوزان ثقيلة.
في أشهرِ تجاربه على الإطلاق، ضخَّ بويل كلَّ الهواء خارج قارورةٍ قاعدتُها تتصل بمكبس من خلال صِمام. وحين فتح الصِّمام (بحيث يصبح المكبس الآن ملامسًا للفراغ)، فغَر فاه المتفرِّجين «في اندهاش بالغ» حيث بدا أن الفراغ يسحب المكبس، حتى حين أضاف إليه ثِقلًا وزنُه مائة رطل (انظر الشكل ١٠-٢). المشاهدون «لم يفهموا كيف يمكن لمثلِ هذا الثِّقل أن يرتفع من تلقاء نفسه كما بدا لهم». وقد أبدى اللورد ماثيو هيل رئيسُ قضاة إنجلترا إعجابَه «بفراغ بويل القوي».

أكَّدت هذه التجربة تجاربَ تورتشيللي وباسكال بشكلٍ كبير. وفي واقع الأمر في نهاية المطاف، لم تكن الطبيعة تكره الفراغ. لقد أظهر بويل في تجربةٍ أخرى بالفعل أنه لم يكن هناك أي مقاومة على الإطلاق في وجود فراغ بداخل غرفة مفرَّغة من الهواء. وكمثل تورتشيللي، شدَّد بويل على أن كره الطبيعة الظاهر للفراغ إنما هو مجرد ثِقَل الهواء الخارجي. وبدلًا من أن يسحب الفراغ المكبس بداخل الغرفة الفارغة، كان الهواء الخارجي هو ما يقوم بالدفع.

أدرك بويل أن تجاربه على طبيعة الهواء كانت ذات صلة بالجدل القائم بين فكرتَي الذريَّة والملاء. فاقترح أن «مرونة» الهواء يمكن أن تتوفَّر من خلال «كومة من الأجسام الصغيرة المكوَّم بعضها على بعض، كما قد يتمثَّل في كتلة من الصوف». على نحو بديل، وعوضًا عن نموذج ثابت، قد يتكوَّن الهواء من تريليونات الجسيمات الصغيرة التي تتحرَّك في عشوائية و«يدور بعضها حول بعض، بحيث يسعى كلٌّ منها إلى التغلب على الجسيمات الأخرى جميعها». كان هذا يشبه كثيرًا نموذجَ ديكارت عن «الدوَّامات الدائرية» بين الجسيمات لكن مع الفراغ عوضًا عن الملاء. وقد شدَّد بويل على أن الملاء قد أصبح الآن كيانًا يفوق الضرورة.

شرح بويل تجاربَ أنبوب الفراغ الخاصة به في كتابه الثوري الذي يحمل عنوان «تجارب فيزيائية ميكانيكية جديدة، تتعلَّق بمرونة الهواء وتأثيراته» الذي نُشِر عام ١٦٦٢. وقد تسبَّب ذلك الكتاب في إثارة ضجة كبيرة. إذ كتب الفيلسوف هنري باور يقول: «لم أقرأ في حياتي كلها من قبلُ بحثًا كهذا؛ إذ تعاطى مع كل شيء بصورة حاسمة ومثيرة للفضول، وأُجريت التجارب فيه بتروٍّ ودقة شديدَين، واستُخرجت الاستنتاجات فيه على قدرٍ كبير من الوضوح والنزاهة».17 وكمثل جاليليو، كتب بويل بالعامية — الإنجليزية في هذه الحالة — وليس باللاتينية الدراسية التي يفضِّلها معظم معاصريه. كما كانت أعماله العلمية أيضًا خالية من التكهُّن الفلسفي أو اللاهوتي الذي كانت تَغرَق فيه الكتابات العلمية السابقة له. عِلاوة على ذلك، وعلى عكس تقارير جاليليو المقتضِبة عن تجاربه، كانت تقارير بويل كثيفة التفاصيل وموضَّحة برسومات للمضخات والقوارير الزجاجية والصِّمامات والأدوات الأخرى، إضافة إلى تدوين دقيق لملاحظاته. كان أعضاء الكليَّة الخفية يدافعون بحماس عن نهج بويل. وفي عام ١٦٦٠، تبنَّت الجمعية قانونًا رسميًّا لها وعضوية تتطلَّب مصاريفَ اشتراك تبلغ شلنًا في كل أسبوع. وبعد أسبوع من ذلك، عبَّر تشارلز الثاني عن اهتمامه بالجمعية، وفي عام ١٦٦٢ منحها امتيازًا ملكيًّا فأصبحت الجمعية الملكية، وكان روبرت بويل أحد أعضائها المؤسِّسين.
لم يكن الجميع مسرورًا بتجارب بويل. إذ كان هنري مور، أحدُ أفلاطونيِّي كامبريدج، مذعورًا منها. كان مقتنعًا بأن عِلم بويل الآلي «المتوحِّش» بمثل سوء فلسفة هوبز الخالية من إلهٍ، وكان يَعُدُّه بابًا من أبواب الإلحاد. وفي كتابه بعنوان «دليل الميتافيزيقيا» المنشور عام ١٦٧١، شدَّد مور على أن الفراغ هو ما يقوم بكل عملية السَّحب بالفعل؛ لأن الفراغ يعجُّ «بشيء يختلف عن المادة، قد تكون روحًا أو كيانًا غير مادي … جوهرًا عارفًا قادرًا على تحريك المادة وتعديلها وتوجيهها». وبدلًا من أن تكون ذرات الهواء هي ما يسحب المكبس إلى داخل الغرفة من أجل إغلاق الفراغ المكروه، فإن ما يفعل ذلك هو اليدان الأثيريتان لتلك «الروح العارفة». وزعم مور أن تجارب بويل أثبتت السَّحب الذي تقوم به «روح من الطبيعة» تعمُّ الفضاء بأكمله وليس الدفع الذي قامت به آلية مادية لا دور فيها للإله.18

يوضِّح ردُّ بويل على مور في عمله «خطاب هيدروستاتيكي أثارته اعتراضات العالِم الدكتور هنري مور» وجهةَ نظر غاية في الأهمية للمسار المستقبلي للعلم. إذ يقرُّ في بادئ الأمر أن ليس بإمكانه دحضُ وجود «الروح العارفة» عند مور، لكنه يستطرد فيشدِّد على أن «الظواهر التي أرنو إلى شرحها يمكن أن تُحلَّ ميكانيكيًّا، أي بالتأثيرات الميكانيكية للمادة، من دون اللجوء لمقتِ الطبيعة للفراغ أو فئات أساسية أو أي كيانات غير مادية أخرى». كان بويل هنا يرفض فكرة مور عن «الروح العارفة» أو فكرة «كره الطبيعة للفراغ» ليس على أساس أنها قد دُحِضت، بل فقط لأنها أصبحت الآن غيرَ ضرورية في تفسير الحقائق التجريبية. إذ أصرَّ على أن أي «روح عارفة» هي كيان يفوق الحاجة، ومِن ثَمَّ ينبغي استبعاده من العلم: شفرة أوكام.

كيفية تحديد الفرضيات الجيدة والمتقنة

كان بويل في صميمه شغوفًا بالتجريب، لكن خلافه مع مور أجبره على الدفاع عن نظرياته؛ الأمر الذي أدَّى به إلى صياغة معايير يفصِل بها الأفكار الجيدة عن الأفكار السيئة. وأعتقد أن هذه المعايير تُعَد إسهامًا مهمًّا في العلم الحديث شأنها شأنُ طرقه التجريبية. وقد اقترح بويل مبادئ عشرة أساسية يمكن من خلالها فصلُ «الفرضيات الجيدة والمتقنة» عما أطلق عليه «النظريات المغالية».19 ولأسباب ستتضح فيما بعد، سأقسِّم هذه المبادئ إلى مجموعتين.١

المبادئ الأولى هي الأشهر على الأرجح. يصرِّح بويل بأن النظرية الجيدة ينبغي أن تكون قائمة على الملاحظات. هذا بالأساس هو منهج بيكون المسمَّى بالمنطق الاستقرائي، والذي يختلف عن منهج الاستنباط الأقدم القائم على البدء من نظريةٍ ما، كأن نقول بأن كل البشر فانون. إلا أنَّ دعمَ بويل لمنهج الاستقراء أدخله في خلاف مع «وحش مالمزبري» توماس هوبز، الذي يرى أن للنظرية أولويةً على البيانات. والخلاف بين هوبز وبويل هو مركزُ اهتمام الدراسة التي أجراها كلٌّ من ستيفن شابن وسايمون شافر عام ١٩٨٥ عن التاريخ الاجتماعي للعلم بعنوان «لفياثان ومضخة الهواء».

أما ثاني مبادئ بويل وثالثها فيقومان على أن النظرية ينبغي أن تكون منطقية وغير مناقضةٍ لنفسها. هذا بالطبع من السمات الأساسية للعلم، لكنه ليس قاصرًا عليه. فأعمال السباكة منطقيةٌ وغير مناقضة لنفسها وما إلى ذلك؛ كما هي مبادئ تصفيف الشعر أو الطبخ أو نسج السلال أو الفلسفة.

ويشدِّد رابع مبادئ بويل وخامسها على أن النظريات ينبغي أن تكون مبنية على أدلةٍ كافية، وأن النظريات المتقنة «ينبغي أن تمكِّننا من التنبؤ بالأحداث التي ستشكِّل الأساس الذي ستتدفَّق منه التجارب المتقنة». كان بويل هنا يوصي بأن النظريات ينبغي أن تقدِّم تنبؤات («التنبؤ بالأحداث») التي يمكن التحقُّق منها من خلال «تجارب متقنة»، أي من خلال التجريب. وهذان المعياران هما الضابط الذي نستخدمه اليوم في الحكم على معظم النظريات العلمية لنرى إن كانت ستصمد أم ستسقط. وكما شدَّد عالِم الفيزياء من القرن العشرين ريتشارد فاينمان «لا يهم كم هي جميلة أو حتى بسيطة نظريتك، إن لم تقدِّم تنبؤات صحيحة، فهي خاطئة».

ورغم أن هذين المعيارين أساسيان في العلم، فإنهما غير مقصورين عليه ولا يحدِّدانه. فالحكم على المدَّعى عليهم في قفص الاتهام بالبراءة أو بالذنب يجري بناءً على الأدلة. والطاهي يتذوَّق وصفتَه الجديدة من خلال «تجارب متقنة»، تمامًا كما يختبِر المزارع أو البستاني البذور الجديدة في حديقته أو حقله. حوالي عام ٢٦٠٠ قبل الميلاد، أجرى المهندس المعماري المصري القديم المسئول عن تصميم هرم ميدوم «تجربةً متقنة» على فرضيته عن بناء الأهرامات ليرى أنها خاطئة حين انهار البناء (انظر الشكل ١٠-٣). وقد حوََّل نجاح مهندسي المعمار اللاحقين في بناء الأهرامات فرضياتِ بنائهم إلى نظريات عاملة تمثِّل أساس أبنية كالهرم الأكبر في الجيزة، الذي صمد لأكثر من ألفي عام. لقد وُضِعت مبادئ الزراعة والتعدين والعمارة وكل أساس آخر من أساسات الحضارة الحديثة وحُسِّنت على نحوٍ مشابه على مدى ألفي عام من خلال مزيج من المنطق والملاحظة والتنظير وعدد لا يُحصى من «التجارب المتقنة» غير الموثَّقة.
fig20
شكل ١٠-٣: وضع الفرضيات قيد الاختبار من خلال «تجارب متقنة».

على الأرجح أن الأكثر أهميةً من ذلك هو أن أيًّا من المبادئ مما ذكرت أعلاه ليس كافيًا لضمان تحقيق تقدُّم علمي. انظر على سبيل المثال لعالِم فلكٍ يحاول في عام ١٦٠٠ تقريبًا أن يختار من بين نماذج بطليموس أو كوبرنيكوس أو تايكو براهي عن النظام الشمسي. فكلٌّ منها كان مبنيًّا على مبادئَ رياضية أو نظريات منطقية، وقد صمد كلٌّ منها أمام الكثير من «التجارب المتقنة»؛ وذلك عن طريق تقديم توقُّعات تتفق منطقيًّا وبصورة كبيرة مع الملاحظات الفلكيَّة. إذن كيف نفرِّق بينها؟

لحسن الحظ، إحدى أدوات المنطق التي شُحِذَت في عالم العصور الوسطى بقيت خلال عصري النهضة والإصلاح وأصبحت تلعب دورًا محوريًّا في الثورة العلمية التي قامت في القرن السابع عشر: ألا وهي البساطة. كتب بويل في شرحِه لمعياره التالي، وهو المعيار السادس لتحديد النظريات الجيدة والمتقنة: «القسم الأكبر من العمل الذي يقوم به الفيلسوف الحقيقي هو تقليصُ المبادئ الحقيقية للأشياء إلى أصغر عدد ممكن منها، من دون أن يجعلها منقوصة». لم يحدِّد بويل مَن يكون ذلك «الفيلسوف الحقيقي» لكنه في فقرةٍ أخرى يشير «إلى القاعدة المتبناة بصفة عامة عن الفرضيات التي تقول باللاتينية entia non sunt multiplicanda absque necessitate (أي، لا ينبغي الإكثار من الكيانات لما يتجاوز الضروري)».20 لستَ بحاجة أيها القارئ لأن تكون على معرفة باللاتينية لترى حدَّ شفرة أوكام في هذه العبارة.
بطريقة أو بأخرى، تبحث كلُّ المعايير المتبقية الخاصة ببويل عن حلول بسيطة. إذ يصرِّح مبدؤه السابع بأنه «لكي نصيغ فرضيةً ما، ينبغي أولًا أن نتأكد من أنها مفهومة على نحوٍ واضح». فالنظريات المفهومة تميل إلى أن تكون بسيطة؛ وبالعكس، فعادةً ما تُصبح الأخطاء في النظريات المعقَّدة — كنظريات الخيمياء — واضحةً حين نشرحها بأبسط المفاهيم الممكنة. وقد أشار ديكارت إلى نقطةٍ مشابهة لهذه، فشدَّد على أن «مفهومًا ما ينبع من ضوء المنطق وحدَه لهو أكثر يقينًا من الاستنتاج نفسه؛ لأنه أبسط منه».21

ويأتي المبدأ الثامن عند بويل بشفرة التقتير الخاصة به. فهو يؤكِّد أن النظرية الجيدة «لا تفترض شيئًا …». هذا المبدأ في أساسه إعادة صياغة لشعار الجمعية الملكية باللاتينية، الذي يُترجَم عادةً إلى «لا تثقْ بما يقوله أحد». في الأساس، كان بويل يؤكِّد هنا أن العلماء ينبغي لهم أن يبدءوا نظرياتهم من أبسطِ القواعد القائمة على الحقائق الراسخة فحسب، عوضًا عن معتقداتهم.

يشدِّد المبدأ التاسع عن البساطة لدى بويل على أن النظرية الجيدة ينبغي لها ألا «تناقض أيًّا من الظواهر المعروفة عن الكون». لاحظ أن بويل لا يصرُّ على أن النظرية الجديدة لا يمكن أن تناقض نظريةً راسخة. لقد أجاز بويل هذا بالفعل عن طريق تأكيده أن العلماءَ ينبغي لهم ألا يفترضوا شيئًا. بدلًا من ذلك، إنه يشير إلى «الظواهر»، التي تمثِّل بالنسبة إليه حقائقَ لا ينبغي معارضتها. لا يتضح على الفور أن هذه القاعدة هي شكل آخر من أشكال شفرة أوكام، لكن هذا يصبح جليًّا إذا ما طرحنا السؤال: كم عدد مجموعات القوانين التي يعمل بها الكون؟ سيؤكِّد معظم العلماء أن الكون يعمل بمجموعة واحدة فقط، على أساس البساطة. لكن هذه القناعة حديثة نسبيًّا. على سبيل المثال، اعتقد أرسطو ومعظم أتباعِه العصرأوسطيين أن الأجسام السماوية تتحرَّك وفقًا لمجموعةٍ من القوانين تختلف عن تلك التي تحكم الأشياء على الأرض. واعتقد الخيميائيون أن مبادئ السِّحر تعمل فقط في مختبراتهم وليس في مطابخهم. وبالمثل، لا ينكر الصوفيون ولا المنجِّمون ولا الأطباء التجانسيون قوانينَ الفيزياء، لكنهم يزعمون أن هناك مجموعةً إضافية من القوانين تعمل حين يلقون بتعاويذهم أو يحضِّرون وصفاتهم أو يقدِّمون توقعاتهم. يقف مبدأ بويل التاسع ضد انتشار النظريات البديلة المتسقة ذاتيًّا لكن تتعارض مع حقائق أخرى في العالم. ويؤكِّد بويل وجودَ أصغر مجموعة منفردة من القوانين فيما يتعلق بالكون بأكمله: ألا وهي شفرة أوكام.

وكان عاشر مبادئ بويل وآخرها هو «من بين كل الصفات الحسنة، ينبغي أن تكون [النظرية] هي الأبسط: أن تكون خالية على الأقل من كلِّ ما هو غير ضروري». كان هذا آخرَ أسلحة بويل في مواجهة «النظريات المغالية» للمعرفة الخفية لصالح «النظريات الجيِّدة والمتقنة» للعلم: إنه شفرة أوكام. وقد شدَّد بويل مثل الأوكامي على أن العلماء ينبغي أن يختاروا أبسطَ النظريات التي تلائم بياناتهم.

اعتمد العلم الذي دعمته الجمعيةُ الملكية على معيار البساطة لدى بويل، ومن هناك اندمج في المنهج العلمي الحديث. ويظل هذا المعيار معنا إلى اليوم، رغم أننا قليلًا ما نعترف بأصله أو ندركه حتى. اسأل أيَّ عالِمٍ ما إن كان سيدعم نظرية معقَّدة تفسِّر بياناته في حين أن هناك نظريةً بسيطة تفعل ذلك أيضًا. قد يتوقَّف لحظةً ليفكِّر، ويسألك أسئلة إضافية، مثل إن كنت تقصد بذلك كلَّ بياناته؛ لكن ما دمت تجيب: «أجلْ، كل البيانات المتاحة»، فسيعترف بأنه سيختار دائمًا أبسطَ التعليلات التي تفسِّر كلَّ بياناته. هذا هو ما يفعله العلم، وليس أي طريقة أخرى من طرق التفكير في العالَم. للعلمِ صناديقُ أدواتٍ كثيرة، لكن له شفرة واحدة فقط.

في عام ١٦٦٢، وضع بويل مبادئه حيزَ التنفيذ ليخرجَ بأحد أول قوانين العلم الحديث. فباتباعه لأولِ مبادئه الذي يقول بأن الفرضيات الجيدة والمتقنة مبنيةٌ على الملاحظات السليمة، أجرى بويل سلسلة من التجارب التي قاسَ فيها حجم الغاز (الهواء) المحصور تحت عمود من الزئبق، كما في تجربة تورتشيللي. فوجد أن حجم الغاز يتقلَّص حين يزيد من ارتفاع عمود الزئبق. وبعد مئات الملاحظات، استخدم بويل مبدأ الاستقراء ليضع قانونًا يتَّسق مع مبدئه العاشر عن الفرضيات الجيدة والمتقنة، وهو «من بين كل الصفات الحسنة، ينبغي أن تكون [النظرية] هي الأبسط: أن تكون خالية على الأقل من كلِّ ما هو غير ضروري». إذ ينص قانونه عن الغاز على أن حجم الغاز في ظل درجة حرارة ثابتة يتناسب عكسيًّا مع مستوى ضغطه.٢ ما الذي قد يكون أبسطَ من ذلك؟

في القرون التالية، اكتُشِف قانونان آخران خاصان بالغاز. في عام ١٧٨٧، اكتشف الفرنسي جاك شارل ربَّان المناطيد أن حجم الغاز تحت ضغطٍ ثابتٍ يتناسب مع درجة حرارته. وبالجمع بين قانونه وقانون بويل، افترض أن بإمكانه جعْل الغاز أقلَّ كثافة بتسخينه. وفي يوم ٢٧ من أغسطس لعام ١٧٨٣، أطلق منطاد هيدروجين من حيث ينتصب برج إيفل اليوم في باريس. وطار المنطادُ عبْر المدينة وإلى الريف الفرنسي يتبعه فُرسانٌ على أعنةِ خيولهم حتى هبط المنطاد في النهاية في حقل، فهاجمه الفلاحون المذعورون مسلَّحين بالسكاكين والمعازِق. وبعد عَقدين من الزمن، اكتشف الكيميائي الفرنسي جوزيف لوي جي–لوساك آخرَ قوانين الغاز الثلاثة، وذلك ببرهنته على أن ضغط الغاز عند ثبات الحجم يتناسب مباشرة مع درجة حرارته.

كل قانون من قوانين الغاز الثلاثة بسيط، بل إنه حتى بسيط بدرجة مثيرة للملل، إلا أنها معًا تفسِّر عددًا لا حصر له من الحقائق: بدءًا بانطلاق الطلقة من مسدس بويل الهوائي وطريقة عمل البارومتر، وإطلاق النار من بندقية، وحركة الغطاء في برادك أثناء غليان الماء به، وضغط الهواء في إطار سيارتك، وديناميكيات الكواكب العملاقة الغازية وحتى تطوُّر النجوم ومصير شمس مجرَّتنا. كما تصِف أيضًا سلوكَ البخار، ومِن ثَمَّ فإنها تمثِّل أساسَ الثورة الصناعية التي قامت على الطاقة البخارية.

في عام ١٦٦٨، وحين كان بعمر ٤١، غادر روبرت بويل أكسفورد صوب لندن حيث أمضى بقيةَ حياته يعيش مع أخته الحبيبة كاثرين في شارع بال مال. وفي البيت بعد التالي للبيت الذي كانا يسكنان فيه كانت تعيش نيل جوين، عشيقةُ تشارلز الثاني. وقد عيَّنت كاثرين روبرت هوك بغرض بناء مختبر في الجزء الخلفي من أرضها حتى يتسنَّى لروبرت أن يستكمل عملَه التجريبي. وماتت كاثرين يوم ٢٣ من شهر ديسمبر عام ١٦٩١. وتبِعها روبرت بعد أسبوع واحد بعد أن «تسبَّب حزنه على موتها في نوباتِ تشنُّج أودت بحياته».22 وقد أزيل منزلهما في عام ١٨٥٠ ويحل محلَّه الآن أحدُ المصارف. وعلى باب البيت المجاور لوحةٌ زرقاء مكتوب عليها إهداء تقول كلماته: «في منزلٍ بهذا الموقع عاشت نيل جوين من ١٦٧١ وحتى ١٦٨٧». هذا، وليس هناك نصب تذكاري في شارع بال مال عن جارها الذي طرد الأشباح من الفراغ ليفسح المجال أمام عالَم أكثر بساطة.

لقد ساعد روبرت بويل في ترسيخ مبادئ العلم التجريبي الحديث ومدَّ تأثير شفرة أوكام إلى داخل المادة. وتشديده على الحاجة إلى تطبيق معيار البساطة ساعد في ترسيخ تلك الشفرة كأداة علمية أساسية. لكن وبالرغم من التبسيطات التي قام بها كلٌّ من كوبرنيكوس وكيبلر وجاليليو وبويل وآخرين غيرَهم، ظلَّ الفهم العلمي في القرن السابع عشر مفرطَ التعقيد. وبصفة خاصة، كان عالَماه — عالَم السماء وعالَم الأرض — محكومَين بقوانين مختلفة. وسيكون التحدي التالي هو إيجاد مجموعة منفردة من القواعد تنطبق على الكون بأكمله.

هوامش

  • (١)

    الترتيب الذي أعرِض فيه لهذه المبادئ ليس ترتيبَ بويل.

  • (٢)
    بل الأكثر بساطة من ذلك، يمكن التعبير عن القانون من خلال المعادلة علمًا بأن حاصل ضرب الضغط وحجم الغاز في الزمنين و ثابت: فإذا ما زاد أحدهما، لا بد أن ينقص الآخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤