الفصل الحادي عشر

مفهوم الحركة

ثلاثة علماء يدخلون مقهًى

بعد اجتماعٍ عُقِد في كلية جريشام على الضِّفة الشمالية لنهر التيمز مساء يوم الإثنين الموافق ٢٤ من شهر يناير لعام ١٦٨٤، دخل روبرت هوك مقهًى محلِّيًّا بصحبة اثنين من زملائه في عضوية الجمعية الملكية، وهما إدموند هالي وكريستوفر رين.

حدث هذا بعد ثلاثين عامًا من عرض كلٍّ من هوك وبويل تجاربَ الفراغ الثورية أمام أعضاء الكلية الخفية في أكسفورد. منذ ذلك الحين، شغل هوك منصبَ المشرف التجريبي للجمعية الملكية وأجرى العديدَ من التجارب الرائدة، منها البرهنةُ على الضغط الشعري، واكتشاف التنوُّع المذهل في الحياة الميكروبية، وذلك بعد صنعه لمجاهره الخاصة به. وكان العالِمان اللذان بصحبته بارزَين بنفس القدْر. إذ كان كريستوفر رين عالِم الرياضيات والتشريح والفلك والهندسة ابنُ الثانية والخمسين هو أحدَ الأعضاء المؤسِّسين للجمعية الملكية إلى جانب بويل. وبعد أن دمَّر حريق لندن الكبير معظمَ أجزاء المدينة في عام ١٦٦٦، عُيِّن روبرت هوك مسَّاحًا، فاستعان هو بصديق طفولته كريستوفر رين للشروع في إعادة بناء المدينة، بما في ذلك كاتدرائية القديس بولس المهيبة. وكان هالي هو الأصغر من بين ثلاثتهم؛ حيث كان ابنَ ثمانية وعشرين عامًا، لكنه كان قد رسَّخ لسمعةٍ له كونه أحدَ أمهر الرجال في البلاد. حين كان طالبًا جامعيًّا لم يتخرَّج بعدُ في أكسفورد، كان هالي قد نشر أوراقًا بحثيةً عن القمر والبقع الشمسية. وفي عام ١٦٧٦، هجر هالي محاضراته ليبحرَ إلى جزيرة سانت هيلينا في جنوبي المحيط الأطلنطي ليشاهد كسوفَ الشمس وخسوف القمر وليضعَ دليلًا للنجوم في سماء الجنوب. في يومٍ تنبَّأت به قوانينُ كيبلر وهو السابع من نوفمبر لعام ١٦٧٧، أبدى هالي إحدى أولى الملاحظات عن مرور كوكب عطارد أمام قرص الشمس.

مع الأسف، لم يُسجَّل اسم المقهى الذي جرى فيه هذا اللقاء التاريخي، لكن يبقى مقهى توركس هيد في زقاق إكستشينج ألاي، أو مقهى جوز أو مقهى ذا فالتشر أماكنَ محتملة؛ حيث كانت تقع جميعًا بالقرب من كلية جريشام، كما كان روبرت هوك دائمَ التردُّد عليها.1 كان هذا في عصرٍ قبل ظهور الصحف المعروفة؛ لذا وبينما كانوا يدلِفون عبْر سحابة من دخان التبغ الممزوج بروائح حبوب البن المحمَّص والشوكولاتة ورائحة تعرُّق الموجودين، لا بد أنهم تلقَّوا أسئلةً من قبيل «ما الأخبار أيها السادة؟». كان هوك على وجه الخصوص شهيرًا بين روَّاد مقاهي لندن، بل قد أجرى بضع تجارب في تلك المقاهي، منها إسقاطُ رصاصة من سقف مقهى جالوايز على أرضيته ليبرهنَ كما زعم على دوران الأرض. كما كان سيصادف الوافدون الجددُ عدةَ صفوف من رجال حسني الملبس يرتدون شَعرًا مستعارًا، وهو الأمر الذي كان شائعًا منذ استرداد الملكيَّة في عام ١٦٦٠ — ويجلسون إلى طاولات خشبية مستطيلة الشكل تتناثر عليها النشرات والوريقات والقصائد الغنائية، وبضعة شمعدانات وأوعية البصق المتباعدة بعضها عن بعض. وكان سيشترك الحشد في محادثات حيوية وصاخبة عن آخر الأخبار من خارج البلاد، أو يسردون رواياتٍ عن أحدث المحاكمات في قاعات المحاكم المحليَّة أو يتحدثون عن الشائعات المحلية كإغداق الملك حديثًا بلقب على ابنه غير الشرعي من نيل جوين جارة روبرت بويل.

أفرغ الجمع مساحةً للوافدين الجدد البارزين، الذين كان يُحتمل أن يقصُّوا حكاياتٍ عن العلم الجديد الغريب الذي يجري تنفيذ التجارب عليه أو الإعلان عنه من قِبل الجمعية الملكية. لكن في هذه المرة، تحاشى العلماءُ الجمعَ بحثًا عن زاوية هادئة؛ إذ كان ثمَّة أمور عليهم أن يناقشوها فيما بينهم. وبمجرد أن جلس ثلاثتهم، قدَّم لهم صبيٌّ قهوةً ساخنة طازجة مقابل بنس واحد يدفعه كلٌّ منهم، وبمرات إعادة ملء لا حدَّ لها.

كانت الملاحظات الفلكية لهالي اليافع على جزيرة سانت هيلينا قد ألهبت حماستَه تجاه علم الفلك، وتصميمَه على المساعدة في حل ألغاز حركة الكواكب التي لم تُحسَم بعد. والأول من بين تلك الألغاز كان هو شكل مدارات الكواكب. كان يوهانس كيبلر — الذي مات قبل ٥٤ عامًا — قد ترك للأجيال التالية قوانينه الثلاثة عن الكواكب والمدارات البيضاوية الخاصة بها. لقد كانت قوانين كيبلر جيدة، لكن لم يعرف أحدٌ ولا حتى كيبلر إن كانت مستمدَّة من قانونٍ آخرَ أعمقَ يشرح سببَ دوران الكواكب حول الشمس أو سيرَها في مدارات بيضاوية. عِلاوة على ذلك، لم تنطبق قوانين كيبلر إلا على السماء؛ حيث يكون التغيير غايةً في الندرة. أما على الأرض، فالتغيير هو القاعدة. ولكي يُضمِّن العلم العالم الأرضي، كان في حاجة لأن يُضمِّن أسباب حدوث التغيير.

كما تأمَّل هالي مبدأ القصور الذاتي عند جاليليو، وهو المبدأ الذي يفسِّر سببَ استمرار شيء يتحرَّك بالفعل بسرعة واتجاه ثابتين في الحركة. لكن هذا المبدأ لا يمكن له إلا أن يفسِّر الحركةَ في خط مستقيم. أما التعرُّجات أو الالتفاتات أو المدارات فكانت بحاجة لمدخلاتٍ إضافية. كان كيبلر قد تكهَّن بأن الكواكب انحرفت عن نزعتها الطبيعية في الحركة في خطوط مستقيمة من خلال «قوةٍ ما … ثابتة في الشمس»، لكنه لم يستفِض في شرح فكرته. قبل خمسة وعشرين عامًا من اللقاء الذي جرى في المقهى، كان عالِم الفلك الهولندي كريستيان هوجنس قد قدَّم معادلةً للقوى الجاذبة التي بإمكانها — على الأقل من حيث المبدأ — الإبقاءُ على الأجسام في حركة دائرية. وكان عدة علماء من بينهم هالي قد لاحظوا أن القوة الطاردة عند هوجنس عندما تجتمع مع قانون كيبلر الثالث ستتناسب عكسيًّا مع مربَّع المسافة بين الكوكب والشمس؛ وهو ما يُعرف اليوم باسم قانون التربيع العكسي. وتساءل هالي ما إن كان قانون التربيع العكسي سيؤدي إلى مدارات كيبلر البيضاوية حين يُطبَّق على تأثير الشمس على الكواكب.

كان روبرت هوك يُصرُّ على أنه كان يملِك الإجابة عن ذلك بالفعل؛ لكن حين سأله صديقاه عن تفاصيل ذلك، راوغهما مصرًّا على أن يحاولا أولًا حلَّ المشكلة حتى يقدِّرا صعوبةَ المهمة وأصالة حلِّها النهائي. ولكي تُحسَم المسألة، عرض رين جائزةً سخية هي كتابٌ تصل قيمتُه إلى أربعين شلنًا لمن يتمكَّن من الرجلين من تقديم دليل مقنِع.

مرَّ الوقت ولم يتقدَّم أيٌّ منهما ليطالب بالجائزة. وفي شهر مارس لعام ١٦٨٤، تلقَّى إدموند هالي أخبارًا تقول إن والده اختفى من منزله في ضاحية إزلنجتون. بعد ذلك بخمسة أسابيع، وُجدت جثةُ أبيه منجرفة على شاطئ نهرٍ يقع شرقِي لندن: من الواضح أنه مات قتيلًا. وإذ مات أبوه ولم يترك وصية، تحتَّم على هالي أن يتحمَّل شهورًا طويلة من النزاعات القانونية التي أخذته في شهر أغسطس من العام نفسه إلى قرية ألكنبوري بالقرب من كامبريدج. ومن هناك، استغلَّ هالي فرصةَ زيارة جامعة المدينة القريبة ليلتقي بأحد أبرز الباحثين والعلماء فيها، والذي قد يستطيع كما ظنَّ هالي نفسه أن يساعده في تحدِّي رين.

صانع القوانين

في يوم الرابع من شهر يناير لعام ١٦٤٣، أي بعد عام واحد من زيارة روبرت بويل لإيطاليا أملًا في لقاء جاليليو العجوز، وُلِد طفلٌ قبلَ أوانه في وولستورب مانور بمقاطعة لنكنشير. ورغم أن الطفل كان سقيمًا وحجمُ جسده صغيرًا بما يكفي ليسعه كوبٌ سعتُه ربع جالون، فإنه نجا ولم يمُتْ.

تحسَّنت قليلًا صحةُ إسحاق بعد ولادته العسيرة. كانت أمُّه هانا إيسكو قد ترمَّلت قبل ثلاثة أشهر من ولادته، وبعد مرور ثلاث سنوات، تزوجت مرةً أخرى وتركت إسحاق في كنَف جَدَّته لأمِّه. لم يتوافق الصبي قط مع أمِّه أو زوج أمِّه وكبِر محبًّا للوحِدة، وعُرِف عنه أنه يحب التكتُّم وينزِع إلى الانتقام. في البداية تلقَّى إسحاق تعليمه في مدرسة كينجز سكول بمدينة جرانثام؛ حيث درس على يد الأفلاطوني هنري مور، بعد ذلك التحق بكلية ترينيتي كوليدج بكامبريدج في عام ١٦٦١ وهو بعمر التاسعة عشرة. هناك تصادق مع الأستاذ الشاغل للكرسي اللوكاسي للرياضيات إسحاق بارو (١٦٣٠–١٦٧٧) الذي انتبه إلى العبقرية الرياضية عند الشاب. وإذ كان بارو من أتباع المذهب الإنسانوي الأفلاطوني المحدَث مثل مور، فقد شجَّع هو أيضًا اهتمامات الشاب بالهرمسية والخيمياء والتي لازمته طوال حياته. وفي عام ١٦٦٧ وهو في الرابعة والعشرين من عمره، انتُخِب نيوتن زميلًا في كليَّته وحين استقال بارو من كرسيِّه في عام ١٦٧٠، انتُخِب خلفًا له. كان يتعيَّن على نيوتن في منصبه كأستاذ أن يلقي محاضرةً واحدة على الأقل في الأسبوع عن الهندسة أو الحساب أو الفلك أو الجغرافيا أو البصريات أو الاستاتيكا أو أي موضوع آخر من موضوعات الرياضيات. واختار نيوتن أن يحاضر عن البصريات، لكن محاضراته كانت على ما يبدو غايةً في المَلل حتى إنه كثيرًا ما كان يُترك يتحدَّث إلى مقاعدَ فارغة.

وبعد أن تحدَّث هالي ونيوتن أحدهما إلى الآخر بضع ساعات، سأل هالي نيوتن عن نوع الانحناء الذي يظن أنه تتخذه الكواكب المقيَّدة في مداراتها بقوة شمسية تتضاءل بقانون التربيع العكسي. ومن دون تردُّد، أجابه نيوتن بأنه سيكون بيضاويًّا. هنا بُهِت هالي. فطلب من نيوتن دليلًا على ذلك، لكن بعد تفتيش أدراجِه، زعم العالِم المنتمي لجامعة كامبريدج أنه لا يستطيع أن يجد ملحوظاته، ووعده بأنه سيرسلها إليه. فعاد هالي إلى لندن ظانًّا أن دليل نيوتن لن يكون ملموسًا أكثرَ من دليل هوك؛ على الرغم من أن فكرة أن مسارًا بيضاويًّا قد ينتج عن قانون التربيع العكسي هي فكرة زُرِعت على الأرجح في عقل نيوتن بفعل خطابٍ تلقَّاه من روبرت هوك في ديسمبر لعام ١٦٧٩.2 لكن في شهر نوفمبر لعام ١٦٨٤، أوصل رسول أطروحةً قوامها تسع صفحات لهوك عنوانها «حول حركة الأجسام في المدارات».

وبعد أن اطَّلع عليها، ذُهِل هالي حين اكتشف أن أطروحةَ نيوتن قدَّمت عناصرَ من علم ديناميكا جديد كليًّا لا تصف الحركة فحسب، بل تضمَّنت تعليلات معرَّفة رياضيًّا. فعاد إلى كامبريدج وأقنع نيوتن أن يكتب كتابًا وتعهَّد بأن تنشره الجمعية الملكية. لكن لسوء الحظ، بحلول الوقت الذي أصبح فيه كتاب نيوتن جاهزًا — وكان عنوانه «الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية» والذي يُعرف اليوم عالميًّا باسمه البسيط «الأصول» — كانت الجمعية الملكية قد أنهكت ميزانيةَ النشر لديها بنشر كتابٍ غير ناجح حول السمك. لذا في عام ١٦٨٧، حمل هالي على عاتقه العبء المادي لنشر الكتاب الذي يمكن القول بأنه هو الأهم في تاريخ العلم بأكمله.

في جوهر كتاب نيوتن «الأصول» نجد ثلاثة قوانين للحركة معرَّفة رياضيًّا، ومعًا تشكِّل أساس علم الميكانيكا الكلاسيكية. كانت خطوته الثورية الأولى هي التعاطي رياضيًّا مع علل التغيير في الحركة تحت مصطلح «القوَّة» الجامع. ينص قانون نيوتن الأول على أن الأجسام الثابتة أو المتحركة بحركةٍ منتظمة تظل تتحرَّك ما لم تؤثِّر عليها قوة خارجية. والقوة في قوانين نيوتن هي سببُ التغيُّر الذي يطرأ على الحركة. والأكثر أهمية من ذلك، أنها تؤثِّر على الأجسام السماوية والأرضية في الوقت نفسه.

لكن ما هي القوة إذن؟ تذكَّر أن إبداع جان بوريدان كان يكمُن في تعريف القوة الدافعة رياضيًّا بأنها «الكتلة مضروبة في السرعة المتجهة». وفي قانونه الثاني عرَّف نيوتن القوة على نحوٍ مشابه، لكنه استبدل بالسرعة المتجهة عند بوريدان التسارع: وهي درجة التغيُّر الذي يطرأ على الحركة. أصبحت القوة تعني «الكتلة مضروبة في التسارع». بهذا الشكل، لا تحتاج الأشياء إلى قوًى لتظلَّ في حركتها بالسرعة المتجهة نفسها (أو لتقف ثابتة)، وهذا يتَّسق مع قانون جاليليو عن القصور الذاتي. القوة إذن مطلوبة فقط من أجل إحداث تغيير على الحركة، كالسهم الذي ينطلق من القوس.

من المهم أن نشير إلى أن نيوتن لم يحاول أن يشرحَ ما هي القوة في الواقع، بل فقط ما تتسبَّب به وتفعله. فحين يطرأ تغييرٌ على حركة الشيء — كأن يُسرِع أو يُبطِئ أو يغيِّر اتجاهه — فإن قوةً إذن قد أثَّرت فيه، وذلك طبقًا للقانون الثاني. ولا يخبِرنا هذا القانون بأي شيء عن طبيعة تلك القوة. لكن إذا ما علِمت من خلال بعض الوسائل مقدارَ ما تتمتَّع به هذه القوة من قوة، فإن القانون الثاني يسمح لك بإعادة ترتيب معادلة نيوتن لحساب كمِّ التسارع الذي ستضيفه هذه القوة على الجسم. وسيكون تسارعُه مساويًا للقوة التي بُذِلَت مقسومة على كتلة الجسم.

أما قانون نيوتن الثالث عن الحركة فينص على أن لكل فعل ردَّ فعلٍ مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه. فحين يبذل وترُ قوس الرامي قوةً على السهم ليسبِّب تسارعُه من الوتر، فإن السهم يبذل قوةً مساوية في المقدار ومضادة لاتجاه القوس والرامي: وهذا هو الارتداد.

أخيرًا قدََّمت قوانين نيوتن الثلاثة علَّة مُعرَّفة رياضيًّا لحركة الأجسام على الأرض، وهي القوة، لكن الدافع وراء ظهور كتاب «الأصول» كان سؤال هالي عن تلك المدارات البيضاوية للكواكب. ولكي يجيب عنه، طبَّق نيوتن مبادئه الميكانيكية فيما يتعلَّق بأجسام السماء. وحيث إن الكواكب تغيِّر اتجاهها — وهو شكل من أشكال التسارع — أثناء دورانها حول الشمس، فقد عزا نيوتن ذلك إلى أنها لا بد أنها تتأثَّر بفعل قوةٍ تنبثق حتمًا من الشمس، كما تكهَّن كيبلر. وقد اكتشف نيوتن أن تلك القوة إن كانت تتناسب مع حاصل ضرب كتلة الكوكب في كتلة الشمس، وكانت تتناسب عكسيًّا مع مربع المسافة بين الكوكب والشمس — كما هو الحال مع القوة الطاردة عند هوجنس — فإن نتائجه تطابق مدارات كيبلر.١ وينص قانون نيوتن عن الجاذبية العامة على أن قوة التجاذب بين جسمين تساوي ثابتًا يُعرف باسم ثابت الجاذبية — ويُرمز له بالرمز — مضروبًا في ناتج قسمة حاصل ضرب كتلتيهما٢ على مربع المسافة بينهما.

لو توقَّف نيوتن عند هذا الحد لأصبح عملاقًا من عمالقة العلم من أمثال كوبرنيكوس وكيبلر وجاليليو. إلا أن نيوتن خطا خطوة ثورية أخرى استحقَّ لأجلها لقبَ أعظم فيزيائي — أو ربما أعظم عالِم — عاش على وجه الأرض. لاحَظ نيوتن أن الأجسام الأرضية — كالتفاح مثلًا — حين تسقط تتسارع — كما برهن جاليليو. وبربط هذه الحقيقة مع قانونه الأول، خلَص نيوتن إلى أن الأشياء الأرضية الساقطة لا بد أن قوةً تؤثِّر عليها ومفعول هذه القوة يجري بين الأرض وذلك الشيء. وبصورة بارزة أكثر، اكتشف نيوتن أن باستطاعته الحصولَ على المسار الدقيق للسقوط إذا ما افترض أن تلك القوة مساوية لثابت الجاذبية نفسِه الذي طبَّقه على الأجسام في السماء، مضروبًا في ناتج قسمة حاصل ضرب كتلتي الجسمين على المسافة بينهما. وكان استنتاجه الثوري هو أن الجاذبية — تلك القوة التي تتسبَّب في انحناء مدارات الكواكب — تؤثِّر في الأرض أيضًا مما يسبِّب سقوط التفاح عن الشجر.

أخيرًا وحَّد نيوتن الحركةَ على الأرض وفي السماء من خلال مجموعة واحدة من القوانين. ألقِ بتفاحة في الهواء وستجد أن مسارها يتَّخذ شكلَ قِطعٍ مكافئ — كما شرح جاليليو وبرهنت قوانين نيوتن. لكن، تذكَّر أن القطع المكافئ هو قطاع مخروطي مثله مثل الشكل البيضاوي (ارجع إلى الشكل ٨-٥). أطلِق تفاحة بقوة انطلاق صاروخ وستجد أنك أطلقتها في مدار بيضاوي حول الأرض، كالقمر. ستصبح التفاحة جسمًا سماويًّا. إذن الأرض والسماء مجردُ منطقتَين مختلفتين من الكون تحكمهما مجموعةُ قوانين واحدة توصَّل إليها نيوتن.
وكمثل بويل قبلَه بعَقدين من الزمن، قدَّم نيوتن في كتابه «الأصول» المبادئ التي أرشدت علمَه الثوري. ففي القاعدة الأولى من كتابه بعنوان «قواعد التفكير في الفلسفة»3 يشدِّد نيوتن على أننا «ليس علينا أن نقرَّ بعللٍ للأشياء الطبيعية غير تلك التي تكون حقيقيةً وكافية لتفسير مظاهرها»؛ هذا تعبيرٌ واضح عن شفرة أوكام. وفي فقرة أخرى يؤكِّد أن «الطبيعة تحب البساطة، ولا تفضِّل بذخَ العللِ غيرِ الضرورية». لقد شقَّت الشفرة طريقها من القرن الثالث عشر — من خلال «المذهب الجديد» — فوصلت إلى ليوناردو وكوبرنيكوس وكيبلر وجاليليو وبويل والآن إلى نيوتن لتصبح لبنة أساسية من لبنات العلم الحديث.

لكن كان هناك ثَمن لقوانين نيوتن البسيطة. كان عليه أن يقدِّم ثلاثة كيانات جديدة. فهناك قوًى مثل الجاذبية غير مفهومة في واقع الأمر — رغم أنها معرَّفة رياضيًّا — بأكثرَ من فهمِ بوريدان للقوة الدافعة. اعتبر نيوتن أن القوة هي نوع من الدَّفع أو السَّحب، مع احتكاك الدافع والمدفوع لنقلِ هذه القوة، على نحوٍ أشبهَ بمفهوم أرسطو عن الحركة. لكن هذه الحركة تؤثِّر عليها بشدة الجاذبية، التي تمتد من الشمس عبْر ملايين الأميال من الفضاء الفارغ لتتسبَّب في دوران الكواكب. كيف ذلك؟ لم يكن لدى نيوتن أدنى فكرة.

ما القوانين؟

الأمر الذي يعود بنا إلى قوة الدفع عند بوريدان. ستذكُر أنني تساءلت من قبلُ إن كان شيء ليختلف لو استبدل بوريدان بمفهومه عن كيفية نشوء «قوة الدفع» ملاكًا. يمكننا أن نطرح السؤال نفسَه عن الجاذبية أو القوة عند نيوتن. هل يمكن أن يكون ملاكٌ — وليس الجاذبية أو القوة — هو مَن يدفع الكواكب أو المقذوفات؟ أكان ليتغيَّر شيء لو كان الأمر على ذلك النحو؟ بشكلٍ ما، لا — رغم أن ذلك سيتطلب أن يكون بحوزة ذلك الملاك نسخةٌ من كتاب «الأصول» لنيوتن ليحرص على أنه يسير على المسار الذي وصفته قوانينه. ولو احتاج الملاك إلى دليل للقواعد، فلمَ لا نستبعد الملاك ونُبقي على دليل القواعد؟ إن الملاك في قوانين كلٍّ من بوريدان أو نيوتن هو كيان فائض عن الحاجة وينبغي استبعاده.

لكننا إذا ما استغنينا عن الملاك، يتبقى لنا سؤال: أين يحتفظ العالَم بدليل قواعده؟ اعتقد نيوتن أن قوانينه كانت مكتوبة بخط يد الرب؛ لذا فإن دليل القواعد الخاص به محفوظ في السماء، بالأحرى مثل المُثل المسيحية أو كليَّات الأشياء. لكن قبل نيوتن بأربعة قرون تقريبًا، شدََّد ويليام الأوكامي على أنه «ليس ثمَّة نظام في الكون يختلف فعلًا عن الأجزاء الموجودة من الكون».4 يُنظَر عامة للقوة والجاذبية على أنهما «تختلفان عن الأجزاء الموجودة من الكون» كونهما من الكيانات الخفيَّة التي تدفع الأشياء أو تسحبها. عوضًا عن ذلك أصرَّ ويليام الأوكامي على أن مصطلحات كهذه والتي تصِف العلاقةَ بين الأشياء المادية — وليس الشيء نفسه — هي ما أطلق عليها «المفاهيم» وهو ما نُطلق نحن عليه اليوم الأفكار أو الافتراضات. لقد كان ويليام الأوكامي محقًّا بالنسبة إلى قوة واحدة على الأقل من قوى نيوتن.

تذكَّر أنك في قوانين نيوتن تضرب كتلتي الجسمين وتقسم الناتج على مربَّع المسافة بينهما للحصول على مقدار قوة الجاذبية التي تجذبهما أحدهما إلى الآخر. لذا فإن الكتل الأكبر ستجذبها قوى جاذبية أكبر. لكن أليس هذا غريبًا بعض الشيء؟ لقد برهن جاليليو على نحوٍ معروف على أن الأشياء تسقط بنفس المعدَّل بغض النظر عن كتلتها — وذلك بخلاف ما قاله أرسطو.

تنحلُّ هذه المعضلة في ميكانيكا نيوتن من خلالِ تطبيقِ قانونِ نيوتن الثاني لحسابِ تسارُعِ جسمٍ ما الناتجِ عن القوة الجاذبة لجسمٍ آخرَ له من خلال قسمة القوَّة الفاعلة على كتلتَي الجسمين. لذا فإنك أولًا تضرب في الكتلة لتحصل على مقدار القوة، ثم تقسم على تلك الكتلة نفسِها لحساب التسارُع الناتج عن تلك القوة. وكون الكتلة هي المضروب فيه والمقسوم عليه كليهما، فإنهما يحذفان معًا. وهكذا تخرج الكتلة من حسبة تسارُع الجاذبية الكاملة، على نحوٍ متوافق مع ملاحظات جاليليو بأن الأجسام تسقط بالمعدَّل نفسه، بغض النظر عن كتلتها.

الأمر ينجح، لكن ألا يبدو ذلك مريبًا بعض الشيء؟ بكل تأكيد كان الأوكامي ليقول شيئًا عن هذا على غرار: لماذا نضع الكتلةَ في معادلة الجاذبية في المقام الأول؟ لكننا إن استبعدنا الكتلةَ فإن الجاذبية لن تتصرف وكأنها قوةٌ من قوى نيوتن على الإطلاق. ما هي الجاذبية إذن؟ بعد ثلاثة قرون، سيفكِّر مليًّا في هذا السؤال عالِم عظيم آخر هو ألبرت أينشتاين وسيخرج بفهمٍ مختلِف تمامًا عن الجاذبية.

لكن كان هناك كيانان إضافيان آخران في كون نيوتن، وهما لا يُحذفان معًا: الفضاء المطلَق والزمن المطلق. الحاجة إلى كليهما واضحة، إذا ما أردنا أن نطرح السؤال: ماذا كان ليعني مفهوم التسارع في كونٍ ليس به إطار مرجعي لقياس الزمن أو الفضاء؟ نستطيع أن نتخيَّل سفينةَ جاليليو على سبيل المثال وقد ضربتها عاصفة مفاجِئة جعلتها تتمايل وتترنَّح مما يجعل الأواني والقدور في مطبخ السفينة تحت سطحها تتطاير عن يمين وشمال. يمكن حسابُ القوة الفاعلة على كل جسمٍ عن طريق قياس كتلته وتسارُعه بالتناسب مع جدران المقصورة أو الأجسام بعضها مع بعض. لكن استبعد كل الأشياء المحيطة، بما فيها السفينة، والبحر بل الكوكب نفسه حتى، والشمس والقمر والنجوم، وتخيل إناءً واحدًا فقط يتسارع في فضاء خالٍ. كيف كنا لنعلم أنه تسارع — ومِن ثَم يكون عرضة لقوةٍ ما — من دون نقاط مرجعية؟ تذكَّر حجَّة ويليام الأوكامي أن الكم — كالرقم اثنين مثلًا — لا يمكن أن يكون شيئًا موجودًا (كلية)؛ لأن زوجًا من الكراسي في حجرةٍ يمكن أن يصبح زوجين إذا ما هدمنا جدارًا في حجرة مجاورة بها كرسيان آخران. والقوة — كشيء موجود — بالمثل تبدو وكأنها تتبخَّر حين تختفي جدران سفينة جاليليو الخيالية.

ما هي القوى إذن؟ كتب ويليام الأوكامي قبل أربعمائة سنة يقول:
لا يتعلَّق علم الطبيعة بالأشياء التي تُولد وتفنى، ولا بالمواد الطبيعية، ولا بالأشياء التي نراها وهي تتحرَّك في الأرجاء … في الحقيقة، يتعلَّق علم الطبيعة بتصوُّرات العقل الشائعة فيما يتعلق بتلك الأشياء، والتي تمثِّل تلك الأشياء على وجه الدقة في الكثير من العبارات.5

هذا تصريح استثنائي بالنسبة إلى القرن الرابع عشر، لكني أعتقد أن الأوكامي هنا يشدِّد على أن العلم يتعلَّق بالنماذج. لذا فإن مفاهيمَ مثل القوة الدافعة في عصره أو القوة في عصر نيوتن هي تراكيبُ ذهنية (تصوُّرات العقل) نضمِّنها في نماذجنا لنصل إلى توقُّعات (عبارات) حول العالم (تمثِّل تلك الأشياء على وجه الدقة في الكثير من العبارات). ليس معنى هذا أن ننكر أن تلك الكلمات تشير إلى كياناتٍ موجودة في العالم المادي؛ لكن الأوكامي يشدِّد على أن العلم لا يتعلَّق بتلك الكيانات، بل بالعبارات التي تسمح لنا نماذجنا بأن نكونها بشأنها. وأقصى ما ينتهي إليه أملنا هو أن تتسق تلك العبارات مع عباراتٍ مستلهمة من نماذجَ أخرى، كتلك التي تصِف نتيجةَ إحدى التجارب (عبارة أخرى). وإن كانت العبارات متسقةً يصبح لدينا نموذج متَّسق عن العالَم: وهو العلم. لا يعني هذا أن نموذجنا صحيح، إنما يعني فقط أننا لم نُثبت خطأه. ويظل نموذجنا العلمي ليس في العالم المادي حولنا — كما أكَّد أرسطو — أو في عالم ما خفيٍّ — كما اقترح أفلاطون — لكن في أذهاننا كما يرى الأوكامي. أما الحقيقة المطْلقة عما هو موجود «فعلًا» في العالم المادي فستظل دائمًا أبعدَ من متناول أيدينا، ولا سبيل لمعرفتها كما هو الحال مع الإله مطْلق القدرة عند ويليام الأوكامي.

سنعود إلى طبيعة النماذج لأنها أساسية بالنسبة إلى الدور الذي تلعبه شفرة أوكام في العلم. أما في الوقت الراهن، فسننتقل إلى إبرازِ أن قانون الجاذبية عند نيوتن يوصف بأنه «عام» بمعنى أنه ينطبق على كل الأشياء في الكون. ولا يُستخدم هذا المصطلح فيما يتعلق بقوانينه الميكانيكية؛ لأن الفائدة من تلك القوانين — كما سنرى — تتبخَّر عند أصغر مثقال من المادة. لكن هناك مستوًى وسيطًا بين الكواكب والتفاح وأصغر الجزيئات؛ حيث ثبَت أن قوانين نيوتن مصحوبة بشفرة أوكام تُعَد مفيدةً بصورة بارزة، وتشكِّل الأساسَ في كثير من التقنيات التي غيَّرت وجهَ عالمنا.

هوامش

  • (١)

    حسنًا، ليس الأمر هكذا تمامًا. ففي كتابه «الأصول»، يثبت نيوتن أن الكوكب الذي يتحرَّك في مدار بيضاوي لا بد أنه يقع تحت تأثير قوة طاردة بحجمٍ يتناسب عكسيًّا مع مربع المسافة بينه وبين الشمس؛ وهذا في الواقع هو عكس سؤال هالي.

  • (٢)

    الكتلة هي مقاومة الجسم للتسارُع، وهي مستقلة عن الجاذبية، ومِن ثَمَّ الوزن. وهي تعني كمَّ المادة الذي يحتويه الجسم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤