الفصل الثامن

تقسيم الدوائر

كانت منظومة كوبرنيكوس تحتوي على المركز الصحيح، إلا أنها كانت فوضوية. وعلاوة على ذلك، كانت لا تزال تلك الدوائر البلورية معلَّقة في السماء وتجعل الكون محدودًا، محصورًا بالدائرة السماوية الخارجية الأبعد.

عملُ براهي

وُلِد تايكو براهي (١٥٤٦–١٦٠١) بعد ثلاث سنوات من موت كوبرنيكوس في كنوتستورب بالدنمارك لاثنين من أعضاء الطبقة النبيلة الدنماركية ونخبة مجلس المملكة. سُلِب الطفل الصغير من والديه على يد عمه يورجن الأكثر ثراءً وقوة، على أساس أنه وزوجته كانا لا ينجبان. لذا أمضى تايكو طفولته في مقعد أسلاف عمِّه في قلعة العائلة في توستيروب بشمال الدنمارك. وذهب بعد ذلك ليدرُس في جامعة كوبنهاجن، التي كانت تقع في ذلك الوقت تحت هيمنة إنسانوية ملانشتون، خاصة تشديدَه على تعليم العلوم إلى جانب اللاهوت والنصوص المقدَّسة. وبينما كان براهي في كوبنهاجن، تحوَّلت اهتماماته نحو دراسة الرياضيات والفلك والتنجيم. إذ عجِبَ كثيرًا لقدرة هندسة السماء البطلمية القائمة على مركزية الأرض على توقُّع حدوث كسوف للشمس كان قد لاحظه هو بنفسه عام ١٥٦٠؛ لكنه وجد أن من المزعج أن يكون التنبؤ متأخرًا بيوم.1 وأدرك براهي أن هذا التضارب لا بد أنه نتيجة خطأ إما في نموذج بطليموس أو في ملاحظاته الفلكية. وحيث كان يفتقر إلى المهارات الرياضية التي تمكِّنه من التعاطي مع هندسة نموذج بطليموس، صمَّم براهي على تكريس حياته لصناعة أدواتٍ فلكية أفضل قادرة على تقديم تنبؤات أكثر دقة.
fig10
شكل ٨-١: صورة لتايكو براهي.

في عام ١٥٦٦، انتقل براهي إلى ألمانيا ليدرُس الطب في جامعة روستوك. ولم يمرَّ وقت طويل قبل أن يفقد براهي مكانه في الجامعة وجزءًا من أنفه أثناء مبارزة بالسيف مع طالب زميل له. مثَّلت أنفٌ فضية صناعية حلًّا للتشوُّه الذي أصيب به؛ لكن المبارزة التي وقعت أقنعت براهي بأن مستقبله لا يكمُن في الحياة الأكاديمية. فأمضى السنوات التالية عوضًا عن ذلك في التجوُّل بأدواته الفلكية حول البلاطات الملكية في أرجاء أوروبا. وإلى جانب تقديمه ترفيهًا فكريًّا إلى الأرستقراطيِّين الأوروبيِّين، سعى براهي أيضًا إلى إيجاد متبرِّع لتمويل طموحه في بناء مرصد على أحدث طراز.

في عام ١٥٧٠، حلَّ براهي على مدينة أوجسبورج في بافاريا حيث تمكَّن من إقناع عضو المجلس المحلي فيها واسمه بول هاينزل برعاية إنشاء جهاز ربع فلكي ضخم، وهو في الأساس عبارة عن ربع دائرة يُستخدم لقياس ارتفاع الأجسام السماوية في الأفق. كان الجزء الرئيسي من الجهاز الجديد يتكوَّن من قوس بلوطي يبلغ قطره خمسة أمتار ونصف المتر، ويُعَد ثقيلًا جدًّا حتى إنَّ حمله إلى مكانه تطلَّب أربعين رجلًا. وقد قدَّمت تلك الأداة دقَّة لا مثيل لها، زعم براهي «أن سابقينا لم ينتهوا إلى مثلِها يومًا».2

في وقتٍ لاحق من ذلك العام، غادر براهي أوجسبورج ليعود إلى كنوتستورب؛ إذ أُصيب والده، أوتي، بوعكة صحية. وقد مات والده في مايو من العام التالي، تاركًا تايكو ابن الرابعة والعشرين ربيعًا سيدًا لضيعة كبيرة بعائدات سنوية من ٢٠٠ مزرعة و٢٥ كوخًا و٥ طواحين إضافة إلى الإنتاج والضرائب الإقطاعية لكنوتستورب. شيَّد تايكو مرصدًا جديدًا يشتمل على آلة سدس محسَّنة، وهي أداة مشابهة للربع إلا أنها تمثِّل سدس دائرة وليس ربعًا، ومِن ثَمَّ تكون أصغر وأكثر قابلية للحمل. ولكونه غيرَ مكتفٍ بالفلك وحدَه، شيَّد براهي أيضًا مختبرَه الخاص مستعينًا بخدمات صانعي الزجاج المحليِّين لصناعة مجموعة متنوِّعة من الأوعية لممارسة فن الخيمياء السرِّي.

الصوفي المهتم بأمر السماء

كان عام ١٥٧١ عامًا ميمونًا في مجال الفلك؛ حيث لم يقترن فقط بإنشاء مرصد براهي، ولكن أيضًا بولادة الفلكي الذي سيفكُّ أخيرًا غموضَ الفوضى التي في السماء. وُلِد يوهانس كيبلر (حين كان براهي في عمر ٢٥) في بلدة فايل دير شتات الصغيرة في منطقة شوابيا، جنوب غربي ألمانيا. كان والده جنديًّا مرتزقًا وأمه ابنةَ صاحب حانة. في سيرته الذاتية الصريحة للغاية، يصِف كيبلر طفولته مع والده المرتزق: «رجل متعنِّت، وعدواني، وكان من الواضح أن مصيره مِيتة شنيعة». غادر الأب المنزل للأبد حين كان يوهانس في عمر الخامسة. ويُعتقد أنه مات في حرب الاستقلال الهولندية. لم يكن يوهانس أكثرَ عطفًا تجاه والدته التي وصفها بأنها «ضئيلة البنية نحيفة القوام داكنة البشَرة ونمَّامة وعدوانية وسيئة الخلق».

تلقَّى كيبلر تعليمه في المدرسة المحليَّة ثم في معهدٍ لوثري قريب حيث «في أثناء هاتين السنتين [في عمر ١٥ و١٦] عانيت باستمرار مشكلاتٍ جلدية، عبارة عن تقرحاتٍ شديدة في الغالب، نتجت غالبًا من قشور الجروح المتعفِّنة المزمنة في قدميَّ، وكانت تلتئم بشكل سيئ وتُفتح من جديد». ويبدو أن سنوات دراسته في المدرسة كانت بلا أصدقاء في معظمها؛ إذ كتب يقول:

فبراير لعام ١٥٨٦ … كثيرًا ما كنت أُغضِب الجميع مني بأخطائي: في أدلبيرج تعرَّضت للغدر … خان صديقي ياجر ثقتي: كذب عليَّ وبدَّد معظم أموالي. التجأت إلى الكراهية ومارستها في شكل خطابات حانقة على مدى عامين.

ومع كل هذا مُنِح كيبلر منحةً دراسية في جامعة توبنجن؛ حيث درس ليصبح قسًّا. ومن هذه النقطة يستمر في رسم صورته الذاتية غير اللائقة: «ذلك الرجل [كيبلر نفسه] … مظهره كان ككلب مدلَّل … دائمًا ما كان يسعى إلى قبول الآخرين ومودتهم … لكنه خبيث ويعقر الناس بسخريته».

حلَّ كيبلر على توبنجن عام ١٥٨٩. كانت الجامعة قد تأسَّست عام ١٤٧٧، بعد أكثر من مائة عام بقليل من وفاة ويليام الأوكامي، على يد الفيلسوف الأوكامي جابرييل بيل الذي وُصِف بأنه «متحدِّث مفوَّه باسم «المذهب الجديد» و… أحد مستخدمي المنهج الاسماني المميزين».3 أصبحت الجامعة التي أسَّسها بيل مركزًا «للمذهب الجديد» في ألمانيا؛ لذا ليس هناك الكثير من الشك حول تعرُّض كيبلر وهو في توبنجن إلى أفكار ويليام الأوكامي وشفرته. عِلاوة على ذلك وبحلول القرن السادس عشر، كانت جامعة توبنجن قد أصبحت أيضًا مرتعًا للوثرية المستلهَمة من المنهج الاسماني الممزوجة بلمحة من نسخة ملانشتونية الشمال أوروبية من الإنسانوية. وطبقًا لعالِمة اللاهوت والمؤرِّخة شارلوت ميثوين، كان المزيج الغريب للنزعة التجريبية المستلهَمة من المنهج الاسماني، والصوفية والإبداع المستقيَين من الإنسانوية في توبنجن هو ما ألهم كيبلر بمنهجه الثوري في حل لغز حركات الأجسام في السماء.4 وكما كتب كيبلر نفسه عام ١٥٩٨: «أنا منجِّم لوثري، أتخلَّص من الهراء وأبقي على جوهر الأشياء».5 كما كان معلِّم كيبلر في توبنجن أيضًا وهو مايكل مايسلين ذا تأثير مهم؛ إذ كان يملِك واحدة من نُسخٍ قليلة متداولة من كتاب كوبرنيكوس «عن دورات الأجرام السماوية».

النجم الجديد

في عام ١٥٧٢، أي العام الذي يلي عام ميلاد كيبلر، كان تايكو براهي عائدًا من مختبره في كنوتستورب حين نظر إلى السماء مصادفةً وذُهِل لرؤية نجم جديد. كان مرتابًا إلى حدٍّ بعيد حتى إنه طلب من مجموعة من الفلاحين المارة أن يؤكِّدوا المشهدَ. كان موضع النجم الجديد خارجَ نطاق دائرة البروج التي تتحرَّك الكواكب عبْرها؛ لذا لم يبدُ أن الجسم الجديد هو كوكب. قد يكون مذنَّبًا، وهو نوع من النجوم السيَّارة المعروفة منذ القِدَم. لكنَّ عدة ليالٍ من الملاحظة أقنعت براهي بأن النجم الجديد لم يكن سيَّارًا، بل كان عوضًا عن ذلك يدور في مسارٍ دائري منتظم حول الأرض كلَّ يوم، كأي نجم ثابت آخر.

نعرِف اليوم أن براهي كان محظوظًا بما يكفي ليشهد ظهورًا نادرًا لمستعِرٍ أعظم، أو نجم منفجر، والذي يُعرف الآن ﺑ «إس إن ١٥٧٢». إلا أن ظهور هذا المستعِر الأعظم في عام ١٥٧٢ والذي كان لامعًا كثيرًا لدرجة أن كان بالإمكان رؤيته في ضوء النهار مدة بضعة أسابيع، ضرب أرجاء أوروبا بموجة من الصدمة. فطبقًا لعلماء اللاهوت، ثبَّت الرب كلَّ نجم في قبة السماء في اليوم الرابع للخلق، وسيبقى كل نجم في مكانه من دون أن يمرَّ عليه تغيُّر حتى نهاية الزمان. كانت هناك عدة حالات استثناء شهيرة، كظهور النجم الذي أرشد المجوس الثلاثة إلى بيت لحم وولادة المسيح. لكن كانت هذه اللحظة بالغةَ الأهمية في العالم المسيحي؛ فهي لحظة ميلاد إله. فما الذي ينبئ به ظهور نجم جديد؟ سرعان ما أنتجت دُور النشر منشورات منذِرة تحذِّر من أن النجم يُنذِر بالمجيء الثاني للمسيح وبنهاية العالم. وبهدف تجنُّب هذا الاستنتاج غير المستساغ، اختار معظم علماء الفلك احتمالية أن النجم الجديد لم يكن نجمًا في واقع الأمر، بل شيئًا لامعًا آخر، كمذنَّب، اقتحم الفضاء الأرضي بين العالَم الأرضي المتقلِّب والسماء الثابتة.

كان براهي قد انتهى لتوِّه من إنشاء آلة السدس الجديدة الخاصة به القادرة على حسم الأمر. تعمل آلة السدس من خلال قياس التزيُّح، الذي تظهر بمقتضاه الأجسامُ (كإصبعك أمام أنفك) في مواضعَ مختلِفة أمام الخلفية حين ننظر إليها من نقطتَين مختلفتَين. ويختفي التزيح بينما يتحرَّك الجسم مبتعدًا عن عينيك؛ لذا فإن قياس درجة التزيُّح يمثِّل وسيلة — معروفة منذ القدم — لتقدير المسافة نحو أي جسم. أمكن للفلكيِّين الأوائل تحديدُ درجة تزيح صغيرة للقمر، لكن لم تُحدَّد من قبلُ قط درجةُ تزيُّح لأي نجم. كانت أدوات عالِم الفلك الدنماركي هي الأكثر حساسية في العالم ويمكن لها بسهولة أن تحدِّد درجة تزيُّح القمر. لكن تايكو لم يجِد درجة تزيُّح للنجم الجديد. فلم يكن النجم الجديد يتحرَّك مع القبة السماوية فحسب، بل بدا أيضًا على المسافة نفسها. كان هذا النجم بقعة لامعة على ما يُفترض أنه الجدران الطاهرة لسماء الرب.

في عام ١٥٧٣، نحَّى تايكو النجمَ الجديد جانبًا، وبدأ العمل على تقويم فلكي وتنجيمي للعام. وسافر بمخطوطة تقويمه إلى كوبنهاجن بهدف إيجاد ناشر له، لكنه وأثناء حفل عشاء مع زملاء قدماء له في الجامعة، من بينهم العالِم الإنسانوي يوهانس براتينسيس، ذُهِل حين عرف أن أحدًا لم يلحظ حتى النجم الجديد. ولم يقتنعوا بوجوده إلا بعد أن جرَّهم تايكو إلى الخارج في ليلةٍ شتوية باردة. فألحَّ براتينسيس على تايكو أن ينسى أمرَ التقويم ويركز عوضًا عن ذلك على نشر ملاحظاته بشأن النجم الجديد.

كان تايكو في ذلك متردِّدًا. كونه أرستقراطيًّا، ربما اعتبر تايكو أن العمل البحثي غيرُ جدير بمقامه. وعلى غرار كوبرنيكوس، ربما كان كارهًا أيضًا أن يصطدم بالكنيسة. لكن براتينسيس أصرَّ على رأيه، حتى إنه أرسل لتايكو نُسخًا من الإفادات المنشورة العديدة الخاصة بالنجم الجديد آملًا أن تدفعه استنتاجاتها غيرُ الصحيحة بشأن أن النجم الجديد مذنَّب إلى القيام بشيءٍ ما. وقد نجحت الخطة وفي النهاية دوَّن تايكو ملحوظاته في كتيِّب صغير تحت عنوان «عن النجم الجديد» ونُشِر في مايو لعام ١٥٧٣.

في كتيِّبه «عن النجم الجديد» دفع تايكو بأن الغياب التام للتزيُّح ينحِّي جانبًا النظرَ للنجم الجديد باعتباره نوعًا من أنواع النيازك النارية أو المذنَّبات، وأن حركته والمسافة الشاسعة بينه وبين الأرض — «حيث يقع بعد الطبقة الثامنة من المجال الجوي» — لا يمكن تفسيرهما إلا إذا كان موقع النجم في الدائرة السماوية الأبعد. وشدَّد تايكو على أن النجم الجديد لا بد أنه إشارة من الرب، على الأرجح أنه ينذِر بنشوبِ حرب أو تفشي وباء أو اندلاع تمرُّد أو وقوع أمراء في الأسر أو غير ذلك من الكوارث.

حقَّق الكتيب نجاحًا كبيرًا وجعل تايكو أشهرَ الفلكيِّين في أوروبا. وقد عُرضت عليه وظيفة في جامعة كوبنهاجن وقبِل بها. إلا أنه سرعان ما سئم عبء التدريس وخطَّط لأن يغادر الدنمارك، ربما ليستقر في ألمانيا أو سويسرا. وحين سمِع الملك فريدريك الثاني ملكُ الدنمارك بهذه الاستعدادات، أرسل رسولًا يأمر تايكو بأن يحضُر إلى الملك في نُزل الصيد القريب الخاص به. وهناك، قدَّم الملك فريدريك إلى براهي جزيرةَ هفن هديَّة، وزوَّده بقلعة وأموال لتشييد أعظم مرصد في العالم (وإن كان لا يزال بالعين المجرَّدة). قبِل براهي الهديَّة وسمَّى مرصده أورانيبورج، وانتقل للعيش هناك في عام ١٥٧٦.

fig11
شكل ٨-٢: آلة ذات الحلقات.
على الجزيرة، شرع تايكو في بناء منزل كبير على طرازٍ يعكس مقدارَ الانسجام السماوي. كان هذا باهظَ التكلفة بالطبع، لكن باعتباره سيد الجزيرة ومالكها، كان بإمكانه أن يطلب من الفلاحين الإقطاعيِّين فيها أن يعملوا مدة يومين من كل أسبوع من دون أجر. كما شرع تايكو أيضًا في بناء مرصده، فجمع أكثرَ الأدوات الفلكية تقدُّمًا في العالم وجهَّزها. تشمل تلك الأدوات ساعةً ليست قادرة فحسب على إظهار الساعات والدقائق، بل قادرة كذلك على إظهار الثواني: كان هذا ابتكارًا جديدًا في العام ١٥٧٧ وأساسيًّا للتنجيم الدقيق. كما شيَّد عدة آلات ربع، وآلة ذات حلقات وهي تتكوَّن من حلقات معدنية متحدة المركز تجسِّد مواقعَ الدوائر السماوية ودوراتها (انظر الشكل ٨-٢). وأكثر ما يثير الإعجاب من بين كل ذلك هي كرة سماوية نحاسية قطرها خمسة أقدام، حفر براهي عليها في فترة العشرين عامًا التالية مواقعَ النجوم الثابتة الدقيقة.

وفي شهر نوفمبر من عام ١٥٧٧، نعِم براهي مرةً أخرى بشيء من الحظ السعيد فلكيًّا حين ظهر مذنَّب حقيقي في السماء فوق أوروبا. ومع أن هذه المذنَّبات معروفة للإنسان منذ القدم، فإن أرسطو اعتقد أنها تسافر في الفضاء تحت القمر حتى لا تخِلَّ بانعدام الزمن المتوخَّى في السماء. استخدم براهي مبدأ التزيُّح مرة أخرى ليقيس مدى بُعد المذنَّب وخلَصَ إلى أنه أبعدُ من القمر وفي نطاقِ ما يُعتقد أنها السماء المقدَّسة. بل أظهرت قياسات براهي الفلكية بدرجة لافتة للنظر أكثر أن المذنَّب أثناء مروره عبْر السماء مرَّ من دون عائق يعوقه بالدائرة التي يُعتقَد أنها تحمل كوكب الزهرة حول مداره. لذا بعد أن أفسد تايكو براهي السماءَ القويمة بنجمه الجديد، شوَّهت دون قصد ملحوظاتُه عن المذنَّب دائرتها البلورية.

fig12
شكل ٨-٣: نظام براهي الشمسي الأرضي.
أثناء سبعينيات القرن السادس عشر، وضع براهي نظامَه الكوني الجديد الخاص به، الذي كان في الأساس مقاربةً بين النظامين البطلمي والكوبرنيكي. في البداية أقرَّ بأن النظام الشمسي المركز «يتفادى تمامًا وببراعة كلَّ ما هو غير ضروري أو متعارض في نظام بطليموس». لكنه كان يواجه مشكلةً في فكرة أن الأرض تتحرَّك. فإلى جانب الاعتراض الشائع والقائل بأن «الأرضَ، تلك الكتلةَ الضخمة الخاملة» غيرُ قادرة على الحركة، ذكر براهي أيضًا الافتقارَ إلى أي تزيُّح شمسي قابل للاكتشاف، والذي من شأنه أن يدل على وجود حركة حول الشمس. وكان حلُّه إزاء ذلك هو صياغة نظام شمسي أرضي، فيه تظل الأرض ثابتة وتدور حولها الشمس والقمر والدائرة السماوية (التي تحمل النجوم الثابتة) في حين تدور الكواكب الخمسة الأخرى حول الشمس (انظر الشكل ٨-٣).

قدَّم براهي وصفًا لنظامه في كتابه «حول أحدث ظواهر عالم الأثير» الذي نُشِر في أورانيبورج في عام ١٥٨٨. بعدئذٍ، أصبح نظامه منافسًا لكلا النظامين البطلمي والكوبرنيكي.

الكون الغامض

بحلول الوقت الذي وصل فيه يوهانس كيبلر إلى توبنجن في عام ١٥٨٩، كان الفلكيون يحاولون جاهدين على مدى عَقدين دمجَ نجم تايكو الجديد والمذنَّب فوق القمري في نظامي بطليموس وكوبرنيكوس السائدين. ولم يسفر نشر تايكو لنظامه الفلكي الجديد إلا عن تفاقم معضلتهم. فأيُّ تلك النماذج يجب أن يستخدموه في حساباتهم؟ لم يكن هذا مجرد جدال نظري. إذ تشتمل واجبات الفلكي على تحديدِ التواريخ المهمة مثل تاريخ عيد الفصح في التقويم المسيحي. والأمر الأكثر إزعاجًا كان سؤال أي تلك الأنظمة يقدِّم نموذجًا فيزيائيًّا صحيحًا للسماء؛ إن كان أحدها يفعل. كان مايكل مايسلين معلِّم كيبلر في توبنحن قد علَّمه أن كلًّا من تلك الأنظمة مجرَّد أداة حسابية ولا يمكنه معرفة حقيقة السماء المبهمة. وقد خالفه كيبلر الرأي.

على غرار كوبرنيكوس، كان كيبلر يعتقد أن مركزية الشمس أكثرُ من مجرد نموذج حسابي: فالأرض تتحرَّك فعلًا. ومنذ عام ١٥٩٣، كان كيبلر يدعم تفسيرًا فيزيائيًّا لنموذج كوبرنيكوس في مناظرةٍ طلابية في توبنجن، حتى إنه ذهب إلى حد القول بأن الشمس هي سبب حركة الكواكب، بما فيها الأرض. لربما كانت آراؤه هذه التي يُحتمل أن تكون ابتداعية هي سبب تلقيه النصح بألا يسعى نحو عمل كهنوتي. فاضطلع كيبلر بدلًا من ذلك بوظيفة تدريس الرياضيات في مدرسة ثانوية محلية في أقصى الشرق في مدينة جراتس التي تقع الآن في النمسا.

وبينما كان يُدرِّس في جراتس راودته فكرةٌ ظلَّت تطارده طوالَ ما تبقَّى في حياته. إذ كان يرسم رسمًا بيانيًّا على السبورة أمام تلاميذه حين واتته فكرة أن الكون كلَّه يمكن أن يُبنى من مجسَّمات أفلاطونية متحدة المركز تكون فيها الشمس في المركز وليس الأرض.

كان المصدر المباشر لهذا بالطبع هو تصوُّف الأفلاطونية المحدَثة وحلمه بإيجاد رسائل خفيَّة في السماء. المجسَّمات الأفلاطونية — التي يُطلق عليها هذا الاسم بسبب الاعتقاد بأن الفيثاغورسيِّين هم مَن اكتشفوها — هي خمس مجسَّمات متسقة منشأة من أوجهٍ متماثلة فقط يمكن وضعها بداخل دائرة. أبسطها هو المكعَّب ورباعي الأوجه، ثم يأتي ثماني الأوجه، ثم اثنا عشريُّ الأوجه ثم عِشرونيُّ الأوجه. ويمكن إحاطة كلٍّ منها بدائرة داخلية وخارجية. أدرك كيبلر أن بالإمكان ترتيبَ مجموعة من الدوائر المتداخلة بحيث تشكِّل الدائرة الخارجية لكل مجسَّم أفلاطوني الدائرةَ الداخلية للمجسََّم التالي (انظر الشكل ٨-٤). لذا يمكن لست دوائر متحدة المركز أن تغلِّف المجسَّمات الأفلاطونية الخمسة جميعها. وقد أثار العدد ٦ فضولَ كيبلر؛ حيث كانت الكواكب المعروفة في ذلك الحين هي ستة كواكب فقط (منها الأرض). فربما كانت الفكرة البارزة التي واتت كيبلر هي أن على الأرجح الدوائر الكوكبية الست تنتظم حول المجسَّمات الأفلاطونية الخمسة.

نفَّذ كيبلر فكرته مستخدِمًا نماذجَ ورقية واكتشف أن هناك عددًا محدودًا جدًّا فقط من الطرق لتنظيم المجسَّمات بحيث يتسنَّى دمجُها بعضها داخل بعض. بل الأبرز من ذلك، أن حاول كيبلر تنظيم الدوائر الكوكبية بالترتيب الآتي: عطارد — ثماني الأوجه — الزهرة — عشروني الأوجه — الأرض — اثنا عشري الأوجه — المريخ — رباعي الأوجه — المشتري — مكعَّب — زحل، فإن النِّسب بين أحجام الدوائر تقع ضمن حدود ١٠ بالمائة تقريبًا من النِّسب بين الأحجام التقديرية لمدارات الكواكب في النظام الكوبرنيكي.

كانت هذه مصادفةً استثنائية لا بد أنها أذهلت بشدة الفلكيَّ الشاب ذا التوجُّهات الصوفية. كان كيبلر مقتنعًا بأنه اكتشف سرًّا لم يعرفه أحدٌ من قبلُ سوى الرب، وأولئك الفيثاغورسيِّين المتكتمِين. ودوَّن اكتشافاته في كتيِّب بعنوان «الغموض الكوني» ونشره عام ١٥٩٦، والذي يبدأ بإعلان حماسي بإيمانه بحكمة الأقدمين كما تكشَّف في النظام الكوبرنيكي. ويستطرد كيبلر موضحًا زعمه الأساسي وهو أن الرب — المهندس الأقدس — قد نظَّم الدوائر الكوكبية حول هذا الترتيب الأكثر تناغمًا، بحيث يتسنَّى للكواكب أن تعزِف الموسيقى الفيثاغورسية في المجالات السماوية.

أرسل كيبلر بكل فخر نُسخًا من كتيِّبه إلى الباحثين والعلماء الرواد في عصره، ومن بينهم تايكو براهي و«رياضي يُدعى جاليليو جاليلي كما يوقِّع، والذي كان يرتبط أيضًا لسنوات عديدة بالفكرة الابتداعية الكوبرنيكية».6 لاحظ إشارته التي تكاد تكون مازحة إلى كلمة «ابتداعية»، مما يشير إلى عدد العلماء الذين كانوا قد استوعبوا بالفعل — بحلول ذلك الوقت — تشديدَ ويليام الأوكامي على فصل العلوم عن اللاهوت، بغض النظر عما كان يُدرِّسه اللاهوتيون.
fig13
شكل ٨-٤: نموذج كيبلر القائم على المجسَّمات الأفلاطونية للنظام الشمسي. الرسم أعلاه هو مخطَّط لنموذج كيبلر عن النظام الشمسي والذي يوضح دمج المجسَّمات الأفلاطونية داخل مدارات الكواكب. والرسم الذي أدناه توضيح لنموذج من كتاب كيبلر المنشور عام ١٥٩٦ بعنوان «الغموض الكوني» والذي كان يخطِّط لإنشائه في شكل وعاء فضي كبير.
لم يتسبَّب نشْر كتابه في إبراز اسم يوهانس كيبلر ولفت انتباه الأوساط الفلكية الأوروبية إليه فحسب، بل أمدَّه أيضًا إلى حد ما بمال للزواج، وفي عام ١٥٩٧، حين كان في السادسة والعشرين من عمره، تزوَّج بباربرا مولر، وهي أرملة عمرها ثلاثة وعشرون عامًا وابنة مالكِ طاحونة ناجح. لكن الكتاب لم يلقَ من النجاح إلا القليل. فأشار النقاد إلى أن كيبلر بإمكانه التفاخرُ فقط بدرجة دقة تبلغ نحو ٩٠ بالمائة فيما يتعلَّق بتماشي تنبؤات نموذجه والملاحظات الفلكية. وقد حاجج كيبلر — بشيء من المنطق إلى حدٍّ كبير — بأن الاختلاف يعود في الغالب إلى أخطاءٍ في الملاحظة. لكن كيبلر كان يعلم أنه إن أراد أن يُقنع المتشكِّكين فإنه بحاجة للحصول على قياساتٍ أكثر دقة. فطلب المساعدةَ من الشخص الوحيد القادر على مساعدته. أرسل كيبلر نسخةً من كتابه إلى أشهر الفلكيِّين في أوروبا. وكتب لاحقًا — في خطاب لصديقه وزميله مايكل مايسلين — يقول: «لنصمتْ جميعًا وننصتْ إلى تايكو الذي أفنى خمسة وثلاثين عامًا في ملاحظاته … سأنتظر تايكو ولا أحدَ آخر؛ وسيفسِّر لي نظام المدارات وترتيبها».7

الفلكي ذو الأنف الفضية يلتقي هو والصوفي الحالم

بحلول ذلك الوقت، كان مرصد أورانيبورج المملوك لبراهي قد حقَّق شهرة عالمية. إذ يقول أحد مدخلات اليوميات بتاريخ ٣٠ مارس لعام ١٥٩٠: «أتى ملكُ اسكتلندا [جيمس السادس ملك اسكتلندا وجيمس الأول ملك إنجلترا المستقبلي] هذا الصباح في الثامنة وغادر في الثالثة». لكن تبيَّن أن أمر تشغيل المرصد باهظُ التكلفة، فكان يعتمد على الرعاية. مات الملك فريدريك عام ١٥٨٨ وكان الملك كريستيان اليافع أقلَّ تأييدًا لمجال الفلك. وفي يناير من عام ١٥٩٧، تلقَّى تايكو خطابًا يعلِمه ليس فحسب أن التاج لن يعاود تمويل تشغيل مرصده، بل سيتوقَّف أيضًا عن صرف راتبه السنوي الذي تصرِفه له المملكة. فحزم تايكو براهي معدَّاته وغادر إلى كوبنهاجن. فسقط مرصد أورانيبورج برُمَّته في بئر الإهمال والخراب في نهاية المطاف.

وبعد عدة سنوات من التَّجوال على بلاطات أوروبا الملكية، قبِل تايكو بمنصب عالِم رياضيات إمبراطوري لدى الإمبراطور الروماني المقدَّس رودولف الثاني. وفي عام ١٥٩٨، حين كان في الثانية والخمسين من عمره، استقر في سكنى قلعة بيناتكي في بوهيميا، والتي تبعُد مسافة نحو ثلاثين ميلًا خارج مدينة براغ، حيث أنشأ مرصده. وفي وقت لاحق من ذلك العام، تلقى خطابًا من يوهانس كيبلر مع نسخة من كتاب «الغموض الكوني».

في تلك الفترة، ورغم أن العالِم الدنماركي استمر في إجراء ملاحظاته الفلكية، فإن طموحه تحوَّل نحو إثبات نموذجه الفلكي، وكانت تلك مهمةً تفوق مهاراته الرياضية. وحين وصله كتاب «الغموض الكوني» الذي يعجُّ بالحسابات الرياضية المبهمة البارعة، كان براهي على درجةٍ من الإعجاب تكفي لأن كتب يردُّ على كيبلر ويعرض عليه وظيفة.

شعر كيبلر بسعادة غامرة إزاء تسلُّمه خطاب براهي. لقد وصل الخطاب في الوقت المناسب تمامًا حيث كانت موجة إصلاح دينية تجتاح مدينة جراتس الكاثوليكية. وباعتباره لوثريًّا متشدِّدًا، تسبَّبت رؤيته المختلفة في وضع منصبه التدريسي، بل ربما سلامته هو وأسرته، في خطر. فحزم حقائبه من فوره وغادر مع أسرته صوب قلعة بيناتكي. والتقى الفلكيَّان في فبراير لعام ١٦٠٠، حين كان كيبلر في التاسعة والعشرين من عمره وبراهي في الرابعة والخمسين.

أوكل براهي في الحال لمساعده الجديد مهمةً صعبة، وهي البحث عن تفسيرٍ منطقي للمدار المعقَّد للمريخ بالتفافاته وانعطافاته وحركته الرجعية. تباهى الشاب الواثق بنفسه بأنه سيحل المشكلةَ في غضون ثمانية أيام؛ إذ كان مقتنعًا بأنه كان قد كشف بالفعل أسرار السماء. استغرقه الأمر كما تبيَّن ثماني سنوات، إلا أن هذه السنوات كانت فيما يتعلَّق بالإنجاز العلمي هي الأكثر إنتاجية وأهمية منذ العالم القديم.

لكن منذ البداية كان بين الرجلين مشاكلُ وصدامات شخصية. لم يكن الدنماركي قد دعا الشاب إلى قلعته من أجل تحقيق حلم كيبلر الفيثاغورسي، بل ليثبت نموذجَه هو. وكانت الأشهر الأولى لكيبلر في قلعة بيناتكي مخيِّبة للآمال؛ حيث كان الفلكي الدنماركي «شحيحًا للغاية» فيما يتعلق ببيانات ملاحظاته، ولم يكن يُطلِع كيبلر إلا على أقل القليل مما يعتقد أنه في حاجة إليه ليُكمِل إثبات النظام التايكوني. وكثيرًا ما كان الثنائي يتشاجران، وكان كيبلر يتركه غاضبًا في مرات عديدة.

وقد وضع القدَر حدًّا لتعاونهما المضطرب يوم ١٣ من شهر أكتوبر لعام ١٦٠١. فقبْل أن يكون قد مرَّ عامان على وصول كيبلر إلى قلعة بيناتكي، كان تايكو براهي يحضُر مأدبة في براغ أقامها بارون روزينبرج. ورغم أنه كان قد أسرف في الشراب، فإنه شعر أنه من غير اللائق أن يغادر المائدة فعانى نتيجةً لذلك من ضغط شديد على مثانته. وبحلول الوقت الذي عاد فيه إلى المنزل، كان يتألم كثيرًا، ثم أصبح محمومًا. وتحوَّلت الحمَّى إلى هذيان حتى استسلم أعظم الملاحظين الفلكيِّين بالعين المجردة، ومات بعد صراع وجيز في يوم ٢٤ من شهر أكتوبر. بعد ذلك بيومين، عُيِّن مساعده مكانَه وأصبحت كل بيانات براهي التي حصل عليها بجهد جهيد في متناول كيبلر أخيرًا.

بناء نماذج في السماء

في كتاباته، عبَّر كيبلر عن حزنه إزاء وفاة عرَّابه. فرغم ما كان بينهما من اختلافات اجتماعية وثقافية ومزاجية، فإن الرجلين كانا يكنَّان قدرًا كبيرًا من الاحترام أحدهما للآخر. وليس من الصعب أيضًا أن نتبيَّن من كتابات كيبلر فرحَه إزاء حصوله على مفاتيح صندوق الكنوز الفلكية في قلعة بيناتكي. إذ اعترف لاحقًا قائلًا: «حين مات تايكو، سرعان ما انتهزت غياب … الورثة، بأن أخذت ملاحظاته وجعلتها تحت تصرُّفي».8

وبقبوله المنصب، علِم كيبلر أنه كان يخطو خطوةً كبيرة على الصعيد الفلكي. كان براهي يصنَّف عالميًّا باعتباره أعظمَ الملاحظين الفلكيِّين منذ العالم القديم. وإن أراد كيبلر أن يثبت أهليتَه لمنصب عالِم رياضيات إمبراطوري، فإن عليه أن يضاهي اكتشافات سابقه المذهلة أو يفوقها حتى. وكان المشروع الذي كان مقتنعًا بأنه سيثبِّت اعتماده علميًّا هو أن يثبت أن الفيثاغورسيِّين الأقدمين كانوا يملكون مفتاح حل غموض السماء متمثِّلًا في مجسماتهم الخمسة المثالية.

منذ البداية واجه كيبلر مشكلات. والصعوبة التي واجهها أساسية في جميع العلوم ومركزية فيما يتعلق بدور شفرة أوكام في الفكر العلمي: وهي مشكلة اختيار النموذج. انظر إلى المعضلة التي واجهها كيبلر. كان أمامه أربعة نماذج على الأقل (البطلمي والكوبرنيكي والتايكوني ونموذجه الخاص)، وكلٌّ منها كان يبرهن على البيانات إلى حد كبير لكن ليس بصورة مثالية. وكانت النماذج تقدِّم هامش خطأ يقع بين ٥ و١٠ بالمائة تقريبًا. لكن كان هناك في واقع الأمر عددٌ يكاد يكون غير محدود من النماذج التي يمكن لكيبلر أن يستخدمها؛ إذ يمكن تعديل كل نموذج من النماذج أعلاه بهدف تحسين ملاءمته، وذلك من خلال — على سبيل المثال — تعديلِ أي دائرة من الدوائر التي يبلغ عددها قرابة ٨٠ في نموذج بطليموس، أو من خلال إضافة المزيد من الكيانات في شكل أفلاك تدوير إضافية لنموذج كوبرنيكوس. فأين ينبغي له أن يبدأ في عالَم يعجُّ بالنماذج المحتملة؟

هذا الموقف شائع في العلم. أتذكَّر كيف أمضى المدرسيون قرونًا كثيرة من غير جدوى يتجادلون بشأن المكان الذي تنتمي إليه الحركة في فئات أرسطو؟ وفي قرننا هذا، انشغل علماء نظرية الأوتار على نحو مشابه بعدد من النماذج الرياضية يزيد عن عدد الجسيمات في الكون بأكمله. ولكي يحقِّق العلم التقدُّم، فإنه بحاجة لوسائل تمكِّنه من التدقيق في بحور النماذج المعقَّدة التي تلائم البيانات بالشكل الكافي لإيجاد تلك التي من المرجَّح أن تُثمر عن نماذجَ أفضل.

وقد تنطوي عملية اختيار أحد النماذج على تطبيق الكثير من المعايير. وأكثر ما يستخدم من تلك المعايير هي العقيدة، سواء كانت دينية أو تاريخية أو ثقافية. إذ ينزع العلماء — كمثل أي شخص آخر — إلى اختيار الحلول التي تناسب تحيُّزاتهم. كان هذا هو معيار الاختيار الذي تبنَّاه مرغمًا جان بوريدان، وتبنَّاه مارتن لوثر بشكل حماسي أكثر، لدحض فكرة دوران الأرض. وبالمثل سمح كوبرنيكوس لعقيدةٍ قديمة أن تؤثِّر على اختيار نموذجه حين شدَّد على أن المدارات الدائرية وحدَها هي المسموح بها في نموذجه القائم على مركزية الشمس. وسمح كيبلر لنفسه أيضًا أن ترشده قناعته الشخصية بأن الفيثاغورسيِّين كانوا على حق. لكن، في حالة كيبلر، ثبَت أن اختياره للنموذج كان مثمرًا؛ لأنه كان بسيطًا ومن السهل إثبات خطئه.

ربما لم يكن مبدأ البساطة يحتل المقامَ الأول في ذهن كيبلر، لكنه كان مشمولًا ومتضمَّنًا. ستتذكَّر أن فكرة الكون الفيثاغورسي واتته في لحظة إلهام بينما كان يدرِّس لأحد الصفوف الدراسية في جراتس. وقد نبعت فرحتُه من قناعته الأفلاطونية المحدَثة بأن «السماء، أول ما خلق الرب، قد بُسطت بصورة جميلة أكثرَ من الأشياء العادية والصغيرة المتبقية».9 وبكلمته «جميلة» — أو «تناغم» كما يذكر في الكثير من الفقرات الأخرى — كان كيبلر يشير إلى المفهوم الشائع لدى الرياضيِّين، وهو الجمال الرياضي. يصف المصطلح اللذةَ الجمالية التي يستمتع بها الرياضيون من خلال إدراك البِنى الرياضية، سواء كانت هندسية أو جبرية أو عددية، والتي تنطوي على صفات التناغم والتناسق والنظام، وبصفة خاصة البساطة. على سبيل المثال، أبدى الرياضيون إعجابَهم بجمال المبرهنة الفيثاغورسية البسيطة وبراهينها الهندسية الأنيقة الرائعة منذ أقدم العصور. وبعد مرور أربعة قرون بعد كيبلر، كتب عالِم الرياضيات الفرنسي هنري بوانكاريه أن «العالِم لا يدرُس الطبيعة لأن فعْل ذلك ينطوي على فائدة. بل يدرُسها لأنه يستمتع بفعل ذلك، وهو يستمتع بفعل ذلك لأن فعْل ذلك شيء جميل … ولأن البساطةَ والرحابة صفتان جميلتان فإننا نفضِّل أن نبحث عن الحقائق البسيطة والحقائق الرحبة».10 وبالمثل نصح عالِم الفيزياء الحائز جائزةَ نوبل بول ديراك بأنه «ينبغي للباحث في إطار جهوده الرامية إلى التعبير عن القوانين الأساسية للطبيعة في شكل رياضي أن يسعى جاهدًا وفي المقام الأول وراء الجمال الرياضي».11 إن البساطة والرياضيات تسيران جنبًا إلى جنب. وعلى مدى القرون، لطالما سعى الرياضيون جاهدين لتبسيط «المعادلات البغيضة» لاستقاء حلول جميلة. هذا هو ما يفعله الرياضيون.
لاحقًا أوضح كيبلر هذا الأمر بشكل أكبرَ في عمليه «الغموض الكوني» و«تناغم العالم» الذي نُشِر عام ١٥٩٩؛ حيث شدَّد على أن العالم (الكون) يُعدُّ تجليًا للتناغم الإلهي، الذي يتكشَّف في اعتماده على مبادئ أساسية — أو «أنماط أولية» كما يُطلق عليها — «لا مثيل لها في بساطتها».12 واستطرد كيبلر فأكَّد أن «الطبيعة بسيطة» ومرارًا شدَّد على أن الإله أو الكون «يستعمل سببًا واحدًا لنتائجَ عديدة».13 هذا بالطبع هو أحد الأشكال الكثيرة المختلفة لشفرة أوكام التي كانت تدور في فلك «المذهب الجديد»، الذي لا بد أن كيبلر صادفه أثناء دراسته في توبنجن. وعلى غرار كوبرنيكوس وسابقيه ممن اتبعوا «المذهب الجديد»، تبنَّى كيبلر مبدأ البساطة معيارًا أساسيًّا لاختيار نموذجه، إما على نحوٍ صريح من خلال استخدامه شفرةَ أوكام، أو على نحوٍ ضمني من خلال اتباع مبدأ الجمال أو التناغم الرياضي.
كانت بوصلة ويليام الأوكامي هي عزْمه على تقليص قائمة أجزاء هذا العالم إلى الحد الأدنى. لم يكن أيٌّ من كوبرنيكوس أو كيبلر معنيًّا بالبساطة العددية بصفة خاصة، بل كانا يميلان أكثرَ نحو البساطة الجمالية. فهل تشبه هذه الشفرة الجمالية شفرةَ أوكام؟ هل تؤدي جميع الطرق التي نسلكها في سبيل تحقيق البساطة إلى الغاية نفسها؟ حتى في يومنا هذا، لم يُتوصَّل إلى رأي حاسم بعدُ في هذه المسألة؛ حيث إن البساطة ليست بسيطةً بقدرِ ما قد تبدو.14 فالكثير من المفاهيم في العلوم — كالطاقة في الفيزياء أو الحياة في الأحياء — غامضة، ومن الصعب تحديدها بصورة مماثلة؛ لكن غموضها هذا لا يقوِّض جدواها. وفي اعتقادي أن صعوبةَ تعريف هذه المفاهيم تشير في واقع الأمر، حسبما أعتقد، إلى أن حقيقتها النهائية تشغل مستوًى أعمقَ من أسسنا المفاهيمية الحالية.

اكتشف كيبلر ميزةً للنماذج البسيطة فيها نوعٌ من المفارقة — وهي أنها عادةً ما تكون خاطئة! تخيَّل أن صديقتك تهاتفك لتقول لك إنها اكتشفت وجودَ حيوان في حديقتها وتطلُب منك أن تخمِّن نوعه. قد تخمِّن أنه «كلب»، لكنك قد تخمِّن أيضًا أنه «من الثدييات». كِلا هذين النموذجين جيدٌ بصورة مثالية لنوع الحيوان الذي يوجَد في حديقة أحد الأشخاص، لكنَّ أحدهما أبسطُ من الآخر. وهو أبسط لأننا لو فكَّرنا في «نوع الحيوان» فإن مُعامِل نموذج الكلب لا ينطوي إلا على خِيار واحد فقط — وهو «الكلب» — في حين ينطوي نموذج الثدييات على الكثير من الخيارات المحتملة بما فيها القطط أو البقر أو الماعز أو الكلاب أو الخيل أو غيرها من الثدييات التي قد يكون على مرْجها. ستَثبُت صحة النموذج البسيط إذا ما نبح الحيوان الغامض، لكنه سيكون خاطئًا إذا ما أطلق مواءً أو ثغاءً أو عواءً أو صهيلًا. وسيكون النموذج الأكثر تعقيدًا صحيحًا في كل هذه الحالات، لكنه سيكون خاطئًا إذا ما زقزق الحيوان.

والنماذج البسيطة هشةٌ بمعنى أنه من السهل دحضُها بالبيانات المناقضة لها. وفي المقابل، يمكن للنماذج المعقَّدة أن تَسَعَ في غالب الأحيان معظمَ نقاط البيانات؛ لأن مُعامِلاتها يمكن أن تسَع نطاقًا واسعًا من القيم، وبهذا تكون أصعب من حيث تفنيدها. كان هذا هو أحدَ أسباب صمود النظام البطلمي طيلةَ هذا الوقت: كان به الكثير من المُعامِلات بحيث كان يَسَعُ أي قدرٍ من البيانات تقريبًا.

وقد جرَّب كيبلر هشاشةَ النماذج البسيطة حين حاول أن يوائم نموذجَه الفيثاغورسي والبيانات الفلكية التي استخلصها من مادة براهي. ورغم ما بذل من جهد في محاولاته، دائمًا ما كان مصيرها الفشل. ولو كان يستخدم نموذجًا معقَّدًا مثل نموذج بطليموس أو نموذج كوبرنيكوس، لأصبحت الإجابة واضحة: أضِف المزيد من الدوائر. من المؤكَّد أن رياضيًّا فذًّا مثل كيبلر كان ليتمكَّن من إيجاد طريقةٍ ما لتعديل النموذج بحيث يناسب البيانات، وذلك بشيء كافٍ من الصبر و٨٠ مُعامِل أو نحو ذلك. لكن في تناقض صارخ، لم يكن هناك المزيد من المجسَّمات الأفلاطونية؛ لذا كلُّ ما أمكنَ كيبلر فعْله هو إعادة ترتيب تلك المجسَّمات، لكن وكما عرفنا بالفعل، هناك عدد محدود جدًّا من الطرق التي يمكن ترتيب المجسَّمات الأفلاطونية بها للخروج بمجموعاتٍ متداخلة. ومع أنه جرَّبها جميعًا، لم يتمكَّن من تحسين نسبة ملاءمة نموذجه لبيانات براهي التي كانت تبلغ ٩٠ بالمائة.

كانت خطوة كيبلر التالية، وإن كان قد اتخذها على مضضٍ، هي إضافةَ المزيد من التعقيد. هذا يتوافق تمامًا بالطبع وشفرةَ أوكام، التي لا تُصر على أن العالَم بسيط — وهذا على عكس الكثير ممن يذمُّونها — إنما فقط علينا حيال تفكيرنا بشأنه ألا نضاعف الكيانات بما لا تقتضيه الضرورة. وإن كانت الكياناتُ الموجودة لا تستطيع أن تفي بالغرض فإن الشفرةَ تعطيك حريةَ إضافةِ ما تحتاج من الكيانات، ما دامت لا «تفوق الضرورة». وكان التعقيد الإضافي الذي زاده كيبلر على نموذجه هو هجْر عقيدة أفلاطون القائلة بأن الكواكب تتحرَّك دائمًا بسرعة موحَّدة. عوضًا عن ذلك، سمَح كيبلر لكوكب المريخ أن يغيِّر سرعتَه المتجهة بينما يدور حول الشمس. وقد أتى هذا التعقيد الإضافي بثماره على الفور. إذ اختفت خمسة أفلاك تدوير في النظام الكوبرنيكي. أصبحت تلك الأفلاك هي نفسها الكيانات الزائدة على الحاجة فاستبعدها.

ثم سعى كيبلر إلى تحديدِ نصف قطر الدائرة الكاملة، الأمر الذي سيبيِّن مدار كوكب المريخ بحسب اعتقاده. ومرة أخرى، باء بالفشل. كتب كيبلر يقول:

إن سئمتَ [عزيزي القارئ] من طريقةِ الحساب المضجرة هذه، فترفَّق بي، أنا الذي كرَّرت فِعلها سبعين مرة على الأقل ممَّا أضاع من وقتي الكثيرَ والكثير؛ ولا تندهش من أن السنة الخامسة الآن قد قاربت على الانتهاء منذ اضطلعت بدراسة المريخ …

بعد خمس سنوات من التدقيق في آلاف العمليات الحسابية التي تصيب العقل بالشلل (تذكَّر أن هذا كان قبل اختراع المسطرة الحاسبة)، توصَّل كيبلر أخيرًا إلى مواءمةٍ جيدة بين تنبؤاته ونقاط البيانات الأربع الحاسمة التي حصل عليها من ملاحظات براهي. إن «الفرضية المبنية على هذه الطريقة لا تستوفي المواضع الأربعة التي تأسَّست عليها فحسب، بل تتنبأ أيضًا بكل الملاحظات الأخرى في غضون دقيقتين …». لكنه بعد ذلك قال بمرارة: «مَن كان يظنُّ أن هذا ممكن؟ فهذه الفرضية، التي تتوافق بصورة وثيقةٍ وأوجهَ التعارض المرصودة، خاطئةٌ رغم ذلك …».

بهدف اختبار نموذجه الجديد، استبعد كيبلر نقطتين أخريين من مخزون براهي الهائل وحلَّت الكارثة: إذ تحطَّمت فرضيةُ الدائرة الأفلاطونية العزيزة الخاصة به على صخرة البيانات العنيدة. كانت الدوائر تنحرف الآن عن قياسات براهي بثماني دقائق قوسيَّة (يبلغ قطر القمر حوالي ٣٠ دقيقة قوسيَّة). وكتب كيبلر بحزن: «لو اعتقدتُ أن بإمكاننا تجاهُلَ الدقائق الثماني هذه، لصححتُ فرضيتي وفقًا لذلك». وبقوله «صححت»، كان كيبلر يقصد تطويعَ مُعامِلات نموذجه حتى تقدِّم تناسبًا معقولًا. لكن كيبلر كان يعلم أن نموذجه البسيط — ومِن ثَمَّ الهش — لا يوفِّر له إلا مساحة قليلة للغاية للمناورة، ومن المؤكَّد أنه عاجز عن تفسير تلك الدقائق القوسية الثماني. وشدَّد كيبلر على أنه «حيث إنه لم يكن من الممكن تجاهلها، فإن تلك الدقائق الثماني تشير إلى الطريق نحو إصلاحٍ كامل لعلم الفلك …». وكان الطريق الوحيد أمام كيبلر والذي يسمح له بالمضي قُدمًا، هو سحْق هذه المجسَّمات الأفلاطونية والبدء من جديد.

ورغم وجود الدقائق القوسية الثماني تلك، فإن الشكَّ ساور كيبلر في أنه على مقربةٍ من إيجاد حل. فبعد نجاحه في التحرُّر من مبدأ الحركة الموحَّدة، تجرَّأ كيبلر على التضحية بعقيدةٍ قديمة أخرى، كانت هذه المرَّة هي الدوائر المثالية. منذ أفلاطون، شدَّد كل الفلكيِّين تقريبًا على أن الأجسام السماوية — كونها من أهل السماء — تتحرَّك في الفضاء في دوائرَ مثالية. بالطبع كل الدوائر مثاليةٌ بالمعنى الذي يقول بأنها دوائر، لكن بكلمة «مثالية» كان أفلاطون وآخرون يؤكِّدون المثاليةَ والكمال، بالمعنى المتعلِّق بالجمال الرياضي، لجسم ثنائي الأبعاد يتسم بالروعة والتناغم والبساطة إلى أقصى حدٍّ، لكن بإمكاننا رغم ذلك أن نصِفه برقم واحد، وهو نصف قُطره. كانت خطوة كيبلر التالية التي اتسمت بتردُّد شديد هي محاولةَ ثني الدوائر. وبعد عدة محاولات لتجربة انحناءات مختلِفة عثَر بالصدفة على القطع الناقص، وهو أحد القطاعات المخروطية التي يُحصل عليها عن طريق قطْع المخروط بمستوًى مائل على محوره (انظر الشكل ٨-٥). في واقع الأمر، الدائرة هي أبسطُ أنواع القطاعات المخروطية حيث يمكن الإشارةُ إليها برقم واحد فقط يمثِّل أين قُطِع القطاع «الأفقي» على المخروط. في المركز التالي من حيث البساطة يأتي القطع الناقص الذي نحصُل عليه من خلال قطع المخروط بمستوًى مائل. ويتطلب القطع الناقص رقمين فقط يحدِّدان النقطتين اللتين يبدأ وينتهي عندهما. وإذا ما أخرجناه من المخروط، فعادةً ما يُوصف القطع الناقص بأنه المنحنى المرسوم حول نقطتين بؤريتين بدلًا من المركز الفردي للدائرة. وقد اكتشف كيبلر أن تنبؤات نموذجه تتناسب أخيرًا وملاحظات براهي الشديدة الدقَّة، وذلك حين ثنى المدار الدائري للمريخ فحوَّله إلى قطع ناقص أو شكل بيضاوي.
fig14
شكل ٨-٥: القطاعات المخروطية.

كان هذا اكتشافًا بارزًا، لكن هل كان قاصرًا على المريخ؟ لكي يعرف كيبلر ذلك، حاول بعدها أن يضيفَ عامل الحركة غير الموحَّدة ويثني دوائرَ مدارات الكواكب الأخرى، من بينها الأرض، إلى مدارات بيضاوية. ولدهشته، أصبحت تنبؤات نموذجه الجديد تطابق الآن تمامًا بيانات براهي. كان كيبلر هذه المرةَ قد كشف بالفعل أسرار السماء.

على الرغم من ذلك، فإن الآثارَ المترتبة على نموذجه الجديد كانت هائلة. ذلك أن السماء وطوال ألفيتَين من الزمن على الأقل كانت تعجُّ بدوائر بلورية تجعل الكواكب تدور في مدارات دائرية على نحوٍ مثالي. كان حُلم كيبلر الفيثاغورسي قد أضاف مجسَّمات أفلاطون. لكن الدوائر المثالية وحدَها هي ما يمكنها أن تناسب سطحَ أي مجسَّم من تلك المجسَّمات. وكان ثني كيبلر للدوائر السماوية قد حطَّم من دون قصد كلًّا من بلوريتها وكذلك مجسَّمات أفلاطون. إذ لم يمكن لأي منهما أن يناسب المدارات البيضاوية.

لكن بين الحطام الفلكي كان هناك نموذج للكون يخلو من كل تلك الدورات وأفلاك التدوير ونقاط معدل المسار. كان هذا النموذج بسيطًا. وبإضافة ثلاث خطوات فحسب من التعقيد المبتكَر إلى نموذجه الأفلاطوني البسيط الذي بدأ به، كان كيبلر قد تمكَّن من إنشاء النظام الشمسي كما نعرفه اليوم. ويظل هذا النظام أحدَ أول إنجازات العلم الحديث وأعظمها.

fig15
شكل ٨-٦: نظام كيبلر الشمسي بمداراته البيضاوية.
لكن كيبلر لم يكن فخورًا بما حقَّق من اكتشاف. فقد حلَم باكتشاف التناغم الفيثاغورسي في السماء، لكنه لم يجد عوضًا عن ذلك سوى شكل القطع الناقص المتواضع. وقد وصف الأمر بأنه أشبه ﺑ «جلب ملء عربة من الروث» إلى السماء.15

القوانين والبساطة

بعد استبعاد العقائد القديمة والتخلُّص من الدوائر، أصبح كيبلر يرى الآن لمحاتٍ من المسار المستقبلي للعلم. فبعد أن خاض في فوضى الدوائر استطاع أن يلمح ثلاثة قوانين رياضية ترتكز عليها حركة كل كوكب في نظامه الشمسي الجديد. ستتذكَّر قيمة القوانين من عمل حَسَبة ميرتون الذين لا تزال مبرهنتهم عن متوسط السرعة مستخدمة حتى يومنا هذا (رغم أننا نادرًا ما ننسب فضلَها إلى أهله بالشكل الصحيح). وكمثل تلك المبرهنة، استبدلت قوانين كيبلر الرياضية بالتعقيد الاعتباطي قوانينَ قابلة للتنبؤ. وباستخدام القوانين، يصبح العالَم أكثرَ بساطة ومِن ثَمَّ أكثرَ قابلية للتنبؤ به.

ينص قانون كيبلر الأول على أن مدار كل كوكب يمثِّل قطعًا ناقصًا مع وجود الشمس في إحدى بؤرتيه. وينص قانونه الثاني على أن الخط الواصل بين الكوكب والشمس على طول المدار يقطع مساحات متساوية في أزمنة متساوية. لذا، إذا ما رسمت خطًّا من الشمس إلى حيث يوجَد الكوكب في مداره على فترات شهرية، فستحصل على اثني عشر قطاعًا من القطع الناقص للكوكب. ويشدِّد القانون الثاني لدى كيبلر على أن كل قطاع سيكون له المساحة نفسها. أما القانون الثالث فينص على أن مربع الزمن اللازم لكل كوكب لكي يكمل دورةً حول الشمس يساوي مكعَّب نصف طول المحور الطويل لمداره البيضاوي. تخيُّل هذا أكثرُ صعوبة، لكنه يصف وبشكل أساسي العلاقةَ بين فترة دوران الكوكب والمسافة بينه وبين الشمس. وعلى الأرجح أن القانون الثالث هو الأكثر ثورية من بين قوانين كيبلر، لأنه يعني ضمنيًّا أن المسافة بين أي كوكب والشمس هي ما تحدِّد مداره — وليس الآلهة أو الملائكة أو أي مبدأ فلسفي أكثر عمقًا آخر. لقد جعل قانون كيبلر الثالث من الكيانات الخارقة للطبيعة شيئًا زائدًا عن الحاجة في السماء.

وحيث إن قوانين كيبلر هي من بين أول القوانين المعروفة في العلم، فمن الجدير أن نشدِّد مرةً أخرى على الطريقة التي جعلت بها تلك القوانين العالَم أكثرَ بساطة. فقبْل قواعده، كان كل كوكب محكومًا بمجموعة القواعد الخاصة به: كحجم وفترة دوران مداره وأفلاك تدويره. وتلك كانت أشياء اعتباطية بمعنى أننا كان علينا أن نقرأها من السماء عوضًا عن التنبؤ بها من خلال قانون جوهري أكثر. لقد استبدلت قوانينُ كيبلر بتلك الاعتباطيةِ قواعدَ تنظِّم حركةَ كل كوكب. في واقع الأمر، لو خلق الخالق كوكبًا جديدًا ووضعه على مسافة معيَّنة من الشمس فإن كيبلر كان ليقدر على تعيين مداره. تلك هي قوة القوانين. إنها تستبدل بكون معقَّد وفوضوي وغير قابل للتنبؤ به آخرَ بسيطًا ومنتظِمًا وقابلًا للتنبؤ به.

لكن ينبغي لي أن أبرزَ أن كيبلر — مع استغنائه عن الحاجة إلى كيانات خارقة للطبيعة من السماء — كان يؤمن بأن الخالق كتب القوانين التي تمكَّن هو من تمييزها. ففي عمله العظيم «علم الفلك الجديد»، كتب كيبلر يقول: «الهندسة هي جلاء أبدي في ذهن الخالق». وطبقًا لكيبلر، لم يكن اكتشافُه لقوانينه الثلاثة إلا قراءة لعقل الخالق الهندسي النزعة.

يصف كتاب «علم الفلك الجديد» لكيبلر، المنشور عام ١٦٠٩، أولَ قانونين من قوانينه عن حركة الكواكب. وقد حقَّق الكتاب نجاحًا باهرًا ورسَّخ لكيبلر كونه أعظمَ الفلكيِّين في عصره. لكنه للأسف، لم يتمكِّن من الاستمتاع بهذه الشهرة؛ حيث تعرَّضت حياته الشخصية لسلسلة من المآسي. إذ ماتت زوجته وابناه في عام ١٦١٢. ثم أتت موجةُ إصلاح دينية أجبرت اللوثريِّين على الخروج من براغ. فاضطُر كيبلر لهجْر منصبه كعالِم رياضيات إمبراطوري والانتقال إلى مدينة لينتس الأكثر تسامحًا. وقد تزوَّج ثانية لكنه عانى مشاكلَ شخصية ومادية مستمرة. ثم ماتت له ابنتان رضيعتان أخريان. وفي عام ١٦١٥، حين كان في الرابعة والأربعين من عمره، كانت أمُّه كاثرينا كيبلر من بين ١٥ امرأة متهمات بممارسة السحر من قِبَل قاضي مدينة ليونبرج، وهي مدينة كيبلر الأم جنوبي ألمانيا. وحين وصل كيبلر إلى تلك المدينة، وجد أمَّه قد قُيِّدت طيلة ١٤ شهرًا إلى أرضية زنزانة وتتلقى تهديداتٍ بالتعذيب. وبعد محاكمةٍ دامت شهورًا طويلة كان كيبلر يدافع فيها عن أمِّه بنفسه، أُطلِق سراحها أخيرًا في خريف عام ١٦٢٠، لكنها ماتت بعد ذلك بستة أشهر. وقد أُعدِمت ٨ من المتهمات الأخريات. قبل هذا بعامين، أي في عام ١٦١٩، كان كيبلر قد نشر كتابه «تناغم العالم» الذي قدَّم فيه قانونه الثالث. كما حاجج أيضًا بأن دراساته كشفت تناغمًا وجمالًا رياضيًّا بسيطًا في السماء. لكن مع الأسف، ظلَّ العالَم الأرضي غارقًا في التعصب الديني والخرافات.

أكمل كيبلر عملَه الفلكي. وربما كانت أعظم إنجازاته في تلك الفترة هي نشْر كتابه «جداول رودولفين» في عام ١٦٢٧. تكوَّن هذا العمل البارز من قائمةٍ هائلة من النجوم استخرجها من ملاحظات براهي الشديدة الدقة، مع تنبؤاتٍ دقيقة بالمواقع المستقبلية للكواكب استنادًا إلى حساباتٍ حسَبَها باستخدام قوانينه التي اكتشفها حديثًا. وكان البرهان على جدوى نظامه الشمسي المركز وقوانينه هو المنفعة التي تتحقَّق من تلك الجداول. إذ قدَّمت تنبؤات دقيقة لمواقع الكواكب، وأوقات ظواهر الكسوف والتراصف. وفي نهاية المطاف، كانت دقة تلك التنبؤات هي أكثرَ ما أقنع الفلكيِّين بصحَّة النظام الشمسي المركز. ومِن ثَمَّ، استخدم حتى المنجِّمون قوانين كيبلر ليتنبَّئوا بحركات الأجسام في السماء.

حين كان كيبلر بعمر الثامنة والخمسين، سقط مريضًا ومات في ١٥ من شهر نوفمبر لعام ١٦٣٠ في مدينة ريجينسبرج الألمانية. وتظل قوانينه أبقى إرثٍ له وأحدَ أهم الإنجازات العلمية على مر العصور. لكن لماذا نجحت قوانين كيبلر بهذا الشكل؟ ما الذي يجعل الكواكب تدور في مدارات بيضاوية؟ كيف تقيس بُعدها عن الشمس لتعرف سرعةَ دورانها؟ رغم أن قوانين كيبلر تمثِّل تبسيطًا كبيرًا مقارنةً بما سبقها من دوائر وأفلاك تدوير، فإنها تظل اعتباطية بمعنى أن كيبلر أدركها من خلال تناسبها وبيانات الرصد والملاحظة الخاصة ببراهي، عوضًا عن استنباط شكل المدارات من أي مبدأ آخر أعمق. علاوة على ذلك، كانت تلك القوانين تنطبق فقط على الكواكب. ولم تكن تقدِّم شيئًا عن حركة الأجسام الأرضية، كالسهام أو قذائف المدافع. وكان أعظم أوجه التبسيط التالية هو الاكتشاف المذهل بأن القوانين الرياضية لا تحكم حركات الأجسام في السماء فحسب، بل يمكن تطبيقها على الأرض أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤