الفصل الثاني عشر

الاستفادة من مفهوم الحركة

الكونت والمدفع

في الخامس والعشرين من شهر يناير لعام ١٧٩٨، أي بعد قرابة سبعين عامًا من وفاة نيوتن، قُرِئت ورقة بحثية بعنوان «بحثٌ تجريبي حول مصدر الحرارة الناتجة عن الاحتكاك» من قِبل كونت رامفورد على مسامع أعضاء الجمعية الملكية. قدَّمت الورقة وصفًا لتجربة تثقيب ماسورة مدفع لصناعة أسطوانة للذخيرة.

إن إحداث ثقبٍ في المعادن الصلبة بالطبع مهمةٌ تتطلب كمًّا كبيرًا من القوة النيوتنية. وقد حقَّق رامفورد ذلك من خلال حصانين من خيول الجر. اقتيد الحصانان حول ساحةٍ وهما مربوطان إلى عجلةٍ بحيث يدير جهدهما العجلة، وهما يسيران على مسارٍ دائري، بسرعةٍ تصل إلى ٣٢ لفَّة بالدقيقة. ورُبِطت العجلة إلى ماسورة مدفع أُجبِر طرفه المقصوص على الدوران أمام مثقاب من الصلب الشديد مغمور في خزَّان مياه. أخذ الكونت، الذي كان يرتدي على الأرجح سروالًا عسكريًّا وصدرية ورباطَ عنق ومعطفًا يصل طوله إلى الركبتين ويعتمر قبَّعة ثلاثية الزوايا، ينظر فيما علت الدهشةُ وجوهَ الحاضرين — لكنها لم تعلُ وجهه — وقد تولَّد كمٌّ كبير من الحرارة من المدفع المثقوب حتى إن الماء في الخزان كان يغلي في غضون ساعتين من العمل. يروي رامفورد أنه «سيكون من الصعب وصفُ الدهشة والذهول على وجوه المتفرجين لدى رؤيتهم لهذا الكم من الماء البارد وهو يزداد سخونةً، بل يصل حدَّ الغليان من دون وجود أي نار». لقد برهن الكونت على أن الحرارة ترتبط بالحركة.

ما الحرارة؟

وُلِد كونت رامفورد في عام ١٧٥٣ واسمه عند ولادته بنجامين طومسون، لأسرة متواضعة من المزارعين في «العالم الجديد» في ووبرن بماساتشوستس، وهي بلدة صغيرة شمالي بوسطن. كان ذلك بعد ١٢٠ عامًا فقط من إبحار السفينة «مايفلاور» إلى منطقة نيو إنجلاند، إلا أن المستعمرات مثل بوسطن كانت قد تطوَّرت بالفعل لتصبح مراكزَ اقتصادية مستقلَّة. وبعد تدريب مهني لم يُكلَّل بالنجاح على أن يكون بزَّازًا ثم طبيبًا، حصل طومسون على وظيفة مدرس في مدرسة. وحين كان بعمر التاسعة عشرة، حقَّق طومسون وثبةً كبيرة على السُّلم الاجتماعي بزواجه من إحدى أثرى السيدات في المستعمَرة، وهي أرملة بنت اثنين وثلاثين عامًا تُدعى سارة رولف. كانت سارة قد ورِثت أراضي وممتلكات في بلدةٍ تُعرف باسم رامفورد في نيو هامبشاير. وبزواجه أصبح مزارعًا نبيلًا، ثم سرعان ما عُيِّن قائدًا لميليشيا نيو هامبشاير. وقد هجر طومسون زوجتَه وابنتَه الرضيعة حين اندلعت حربُ الاستقلال الأمريكية في العام ١٧٧٥، من أجل أن يتجسَّس لصالح الإنجليز. وبسقوط بوسطن، أبحر إلى لندن حيث تمكَّن من تأمين وظيفة مستشار مسئول عن تجنيد وتجهيز الجيش الإنجليزي المقاتل في حرب الاستقلال.

وأثناء عمله لصالح التاج الإنجليزي، اكتسب طومسون اهتمامًا بالهندسة العسكرية، فصمَّم تجاربه الخاصة التي استحق لأجلها انتخابَه زميلًا بالجمعية الملكية في عام ١٧٧٩. وقوطع عمله حين اتُّهم بالتجسُّس لصالح الفرنسيِّين، ما أدَّى به إلى الهرب إلى قارة أوروبا. هناك حصل في ميونخ على وظيفةِ مستشار للأمير الناخب لبافاريا، وابتكر المطبخ الميداني، والمراجل المحمولة وطنجرة الضغط. وكان الأمير الناخب مسرورًا كثيرًا حتى إنه قلَّده رتبةَ الكونت الخاصة بالإمبراطورية الرومانية المقدَّسة.

وأثناء فترة عمله قائدًا لترسانة ميونخ قام طومسون بأكثر تجاربه شهرة. ويقول في هذا الشأن: «نظرًا لكوني منشغلًا مؤخَّرًا بثَقْب مدفع … ذهلتُ من درجة الحرارة الكبيرة التي يكتسبها المدفع النحاسي في فترة وجيزة أثناء ثقبه». إن كون الثَّقب يولِّد حرارة كان أمرًا معروفًا بالطبع منذ أول مرة لفَّ فيها الإنسان عيدانًا خشبية ليصنع النار، إلا أن أحدًا لم يلاحظ فعلًا أيَّ شيء غريب أو جدير بالملاحظة حيالَ هذه العملية. وكقصة نيوتن الوهمية الشهيرة عن سقوط التفاحة، أحيانًا يمكن لملاحظةٍ ظاهرة عادية وشائعة من عقليةٍ فذَّة أن تكشف عن ألغازٍ محيِّرة. في هذه الحالة، كان اللغز هو طبيعة الحرارة.

كانت الحرارة محلَّ جدال كبير في القرن الثامن عشر. إذ ربطها القدامى حصريًّا بالنار، وهي التي عدَّها اليونانيون أحدَ العناصر الأساسية الأربعة إلى جانب الماء والهواء والتراب. لكن وبينما كانت الثورة الصناعية تهيئ نفسَها وتتأهَّب للانطلاق في القرن الثامن عشر، أصبحت لطبيعةِ الحرارة وتطويعِها لتحريك المحرِّكات البخارية أهميةٌ قصوى. قبل ذلك بقرن من الزمن، قدَّم عالِما الخيمياء/الكيمياء الألمانيان جورج إرنست شتال (١٦٥٩–١٧٣٤) ويوهان يواخيم بيشر (١٦٣٥–١٦٨٢) أولَ دليل في هذا الشأن حين أشارا إلى أن القِطع الخشبية تفقد كتلتَها حين تُحرق حتى تصبح رمادًا. وقد سمَّيا المادةَ التي تخرج من المواد القابلة للاحتراق باسم الفلوجيستون phlogiston وهي مأخوذة من الكلمة اليونانية phlox بمعنى اللهب، وزعما أنها هي العامل الفاعل في الحرارة والاحتراق. كما اقترحا أيضًا أن التنفُّس ينطوي على قدرٍ من الاحتراق ينتج عنه فلوجيستون لتدفئة الجسم، والذي بعد ذلك يعيد النباتُ امتصاصه ويخزِّنه في الخشب ليخرج مرةً أخرى من الخشب المشتعل بغرض إكمال دورة بيئية من نوعٍ ما.

حتى الآن، كانت تلك نظريةً منطقية تناسب الكثيرَ من الحقائق. لكنَّ المتحمِّسين لنظرية الفلوجيستون تجاهلوا تمامًا نصيحةَ روبرت بويل بشأن قَصرِ فرضياتهم على أبسط «النظريات الجيدة والمتقنة» اللازمة لتفسير نتائجهم. إذ أصرَّ الكيميائي الألماني جيه إتش بوت (١٦٩٢–١٧٧٧) على أن الفلوجيستون كان «هو المبدأ الرئيسي النشِط في طبيعة كل الجمادات» و«أساس الألوان» و«العامل الفاعل في التخمير».

وعلى غرارِ كل الأفكار المعرَّفة بتعريفات فضفاضة، كانت نظرية الفلوجيستون أيضًا قادرةً على استيعاب حقائقَ جديدة. في عام ١٧٧٤، جزَّأ العالِم الإنجليزي جوزيف بريستلي (١٧٣٣–١٨٠٤) الهواءَ ليحصل على غازٍ «أفضل من الهواء العادي بخمس أو ست مرات» في تعزيز الاحتراق. وقد رأى بريستلي أن الغاز الجديد الذي اكتشفه لا بد أنه هواء فُصِل عنه كل الفلوجيستون، تاركًا بؤرةً من نوعٍ ما للفلوجيستون الناتج عن احتراق الخشب والمواد الأخرى القابلة للاحتراق. وقد سمَّى هذا الغاز الجديد «الهواء المنزوع الفلوجيستون»، لكننا نعرفه اليوم باسم عنصر الأكسجين. ويتَّحد الأكسجين مع الكربون في المواد القابلة للاحتراق فينتج عن ذلك ثاني أكسيد الكربون: وهذا بشكلٍ ما الوجهُ المعاكس لتفسير بريستلي للفلوجيستون، إلا أنه يُظهِر وبدقَّة كيف يكون من السهل ملاءمةُ أي قدرٍ من البيانات أو الملاحظات مع نموذج خاطئ تمامًا عن العالم، ما دُمت تملِك تحت طوعِك ما يكفي من الخيال والبراعة.

لكن لاحظ عديدٌ من الكيميائيِّين مشكلةً أكبر في نظرية الفلوجيستون. فحين تحترق بعض المعادن كالماغنسيوم، فإنها تكتسب كتلةً بدلًا من أن تخسرها. للوهلة الأولى قد يبدو هذا دحضًا لنموذج الفلوجيستون حيث إن خسارة مادة كالفلوجيستون الخيالي هذا من أحد المعادن لا يمكن بالتأكيد أن تضيف إلى كتلته. لكن المدافعين عن تلك النظرية ما كانوا ليستسلموا بهذه السهولة. إذ اقترحوا أن بعض أشكال الفلوجيستون تملك «وزنًا سالبًا». وحيث أخذ عدد المعادن التي تكتسب كتلةً لدى احتراقها في الازدياد، حتى حين تحترق فيما سمَّاه بريستلي «الهواء المنزوع الفلوجيستون»، أُجبِر أنصارُ النظرية على اللجوء إلى مساحةٍ مجرَّدة أكثر، وذلك بأن دفعوا بأن الفلوجيستون هو نوع من المواد غير المادية أو هو جوهر الاحتراق بشكلٍ ما، وهذا يشابه على نحوٍ مبهَم أحدَ مُثُل أفلاطون أو كليات أرسطو. كان المدافعون عن تلك النظرية راضين بإضافةِ ما يتطلبه الأمر من كيانات لتلائم نظريتهم الحقائق، وهم في ذلك أشبهُ بالمتصوفة الهرمسيِّين أو المدرسيِّين في العصور الوسطى.

انتهت نظرية الفلوجيستون أخيرًا يوم الخامس من شهر سبتمبر لعام ١٧٧٥ حين قدَّم الكيميائي الفرنسي أنطوان لافوازييه (١٧٤٣–١٧٩٤) للأكاديمية الفرنسية للعلوم أبحاثَه الخاصة حول ما أسماه بريستلي ﺑ «الهواء المنزوع الفلوجيستون». أعاد لافوازييه إجراءَ تجارب بريستلي حول احتراق المعادن. وبقياس وزن الهواء أو الأكسجين قبل وبعد عملية احتراق المعدن بدقة، تمكَّن من إثبات أنَّ وزنَ الهواء قلَّ بنفس مقدار زيادة وزن المعدن المحترِق. فبدلًا من أن تَنتج أيُّ مادة عن احتراق المعدن، كان المعدن عوضًا عن ذلك يتَّحد مع أحد عناصر الهواء: وهو الأكسجين.

واستطرد لافوازييه وحاجج بأن:
الكيميائيِّين جعلوا من الفلوجيستون مبدأً مبهمًا … الأمر الذي يتلاءم مع كل التفسيرات المطلوبة منه؛ ففي بعض الأحيان يكون لهذا المبدأ وزنٌ وفي أحيان أخرى لا؛ في بعض الأحيان يكون نارًا فقط، وفي أحيان أخرى نارًا مختلطة بالتراب … إنه أشبه بالإله بروتيوس الذي يغيِّر شكلَه بين اللحظة والأخرى.1
لاحظ أن الكيميائي الفرنسي لم يكن يزعم أنه دحض نظريةَ الفلوجيستون، بل كان يحاجج — مثل روبرت بويل عن «النظريات المغالية» — بأن النظرية أصبحت معقَّدة جدًّا حتى أصبح من غير الممكن دحضها. على النقيض، كانت نظريته عن الأكسجين بسيطةً لكنها تفسِّر جميع الحقائق. ويكتب لافوازييه يقول: «لم تَعُد هناك حاجة — أثناء تفسير ظاهرة الاحتراق — إلى افتراض وجود كمية هائلة من النار الثابتة [الفلوجيستون] في كل الأجسام التي نصِفها بأنها قابلة للاحتراق». وأكمل يحاجج بأنه «طبقًا لمبادئ المنطق السليم … فإنه [أي الفلوجيستون] غير موجود».2 بحلول ذلك الوقت لم تكن هناك حاجة لاقتباس الشفرة؛ حيث كانت شائعة عالميًّا باعتبارها من «المنطق السليم» في العلم؛ لكن في حال راودت الشكوكُ أحدًا، فإن لافوازييه يشدِّد على أننا «لا ينبغي أن نضاعف الكيانات ما لم يكن ذلك ضروريًّا».

يبرهن رفض لافوازييه للفلوجيستون على كيف أن شفرة أوكام قد أصبحت بحلول القرن الثامن عشر متجذرة بشدة في نسيج العلم لدرجةِ أنها ومنذ ذلك الحين تكاد تكون خفيَّة. لكن وعلى الرغم من أن لافوازييه قضى على كيان واحد — وهو الفلوجيستون — فإنه ذهب يصنع واحدًا آخرَ. كانت المشكلة أن المتحمِّسين لنظرية الفلوجيستون كانوا قد زعموا أنه هو مصدر الاحتراق والحرارة. واستبدال الأكسجين بالفلوجيستون في عملية الاحتراق تركه مع ذلك عالقًا مع مشكلة الحرارة: ما هي الحرارة؟ في ورقته البحثية بعنوان «تأمُّلات حول الفلوجيستون» والتي نُشِرت عام ١٧٨٣، اقترح لافوازييه أن الحرارة كانت «سائلًا خفيًّا» من نوعٍ ما يتدفَّق من الأجسام الساخنة إلى الأجسام الباردة، وقد أطلق عليه اسم «السيال الحراري».

الأمر الذي يعود بنا إلى كونت رامفورد. ستذكُر أن الكونت قال: «ذهلت من درجة الحرارة الكبيرة التي يكتسبها المدفع النحاسي». طبقًا لنظرية السيال الحراري، كانت المشكلة أن الحرارة تتدفَّق من الأجسام الساخنة إلى الأجسام الباردة؛ لكن المثقاب والمدفع والماء المحيط كلها تدخل التجربة بدرجة الحرارة نفسها. إذن من أين كان يأتي السيال الحراري؟ لغزٌ آخر كان يتمثَّل في أن مصدر الحرارة بدا أنه غير قابل للنفاد، وذلك في سياق التجربة، الأمر الذي يتناقض مع نظرية السيال الحراري وما تقوله عن مادة محدودة ومحفوظة أو سائل خفي يتدفَّق فقط من الأجسام الساخنة إلى الأجسام الباردة.

كان مفتاح الحل هو أن العملية كلها تبدأ عند حركة الحصانين. وأدرك الكونت أن حركتهما تنقل الحركة إلى المثقاب الذي ينقل الحركة إلى المدفع، الذي ينقل الحركة بدوره إلى جزيئات الماء المجهرية فيسخِّنها. وقال الكونت «إن تلك الحركات … هي التي تُنشِئ حرارةً أو درجةَ حرارة الأجسام الملموسة».3 كان رامفورد قد ابتكر نظريةَ الحرارة الحركية، التي تزعم أن الحرارة هي مقياس لحركة جزيئات المادة. وكمثل الفلوجيستون، أصبح السيال الحراري كيانًا يفوق الضرورة، وفَهِمنا الحرارةَ نفسها على أنها مقياس للحركة.

تأمُّلات حول القدرة الدافعة للنار

تمامًا كما لم يُبطل اكتشافُ الكتلة المكتسبة من احتراق المعادن على الفور نظريةَ الفلوجيستون، فإن برهنة رامفورد على أن السيال الحراري لا ينفَد لم تؤدِّ من فورها إلى انتهاء نظرية السيال الحراري. وقد نوَّه بعض العلماء إلى بعض مواضع عدم الدقة في قياسات رامفورد، فيما أشار آخرون إلى أن الكونت لم يبرهن في واقع الأمر على أن السيال الحراري ذو طبيعة لا تنضُب. وفي نهاية المطاف، حين كان المدفع يُثقَب أو حين كان يتدمَّر المثقاب، كان السيال الحراري ينفَد.

مشكلة أخرى كانت أن المذهب الذري — وهو الأساس في النظرية الديناميكية للحرارة — كان لا يزال يلقى مقاومةً من الكثير من العلماء الذين ظلُّوا يؤمنون بنظريةِ أرسطو عن الملاء فيما يتعلَّق بالمادة القابلة للقسمة إلى ما لا نهاية. في كتابه الشديد التأثير بعنوان «تأمُّلات حول القدرة الدافعة للنار» الذي نُشِر في عام ١٨٢٤، أي بعد ستة وعشرين عامًا من نشر ورقة رامفورد البحثية عن ثقب المدفع، قدَّم المهندس الفرنسي سادي كارنو (١٧٩٦–١٨٣٢) الإطارَ الرياضي الأساسي لفهم كيفية عمل المحرِّكات الحرارية عن طريق نقل الحرارة — على هيئة سيال حراري — من خزانٍ ساخن إلى آخرَ بارد ليؤسِّس بذلك لعلم الديناميكا الحرارية. وتمامًا كمثل نظرية بطليموس عن مركزية الأرض أو نظرية الفلوجيستون، يمكن للنظريات الخاطئة في أيدي العلماء المهرة مع ذلك أن تفسِّر الكثيرَ من الأشياء بصورة صحيحة.

كانت نظرية رامفورد التي مفادُها أن الحرارة هي شكل من أشكال الحركة تمثِّل فكرةً رائعة، لكنها ظلَّت غامضة مدة خمسين عامًا تقريبًا بعد ثقب رامفورد لمدفعه. وفي شهر يونيو لعام ١٨٤٥، أجرى الفيزيائي الإنجليزي جيمس بريسكوت جول (١٨١٨–١٨٨٩) تجاربَ أكثر دقة على غرار تجارب رامفورد، وتمكَّن من برهنة أن الحرارة متناسبة مع مفهوم نيوتن عن الطاقة الحركية، وهي الطاقة التي تحوزها الأشياء نتيجة حركتها. وبعد حوالي خمسة وعشرين عامًا، أي حوالي عام ١٨٧٠، دمج كلٌّ من الفيزيائي الاسكتلندي جيمس كليرك ماكسويل (١٨٣١–١٨٧٩) ولودفيج بولتسمان (١٨٤٤–١٩٠٦) بشكل منفصل النظريةَ الحركية للحرارة ونظرية كارنو عن الديناميكية الحرارية مع النظرية الذريَّة للمادة، ليؤسِّسا بذلك لعلم الميكانيكا الإحصائية أو الديناميكا الحرارية الحديثة. إذ زعما أن درجة الحرارة هي متوسط الطاقة الحركية للذرات المتحرِّكة، وهي المكافئ لمفهوم «الجسيمات» عند بويل والتي «يدور بعضها حول بعض، بحيث يسعى كلٌّ منها للتغلب على الجسيمات الأخرى جميعها». فحينما ترتفع حرارة جسمٍ ما، فإن ذرَّاته تتحرَّك بسرعةٍ أكبر، ومِن ثَمَّ تتمتع بطاقةٍ حركية أكبر وبذا تعلو درجة حرارته. وحين يبرد ذلك الجسم، تتحرَّك ذرَّاته بسرعة أقل وتكون طاقتها الحركية أصغرَ، وبهذا تنخفض درجة حرارته. هنا تُصبح درجة الحرارة والحركة وجهين لعملة واحدة، وتتقلَّص ظاهرتان كانتا فيما مضى مستقلتين — وهما الحرارة والحركة — فتصبحان ظاهرةً واحدة. أضحى السيال الحراري كيانًا آخرَ يفوق وجوده الضرورةَ والحاجة، ومن خلال الديناميكا الحرارية، نزلت قوانين نيوتن البسيطة من السماء عبْر العالَم الأرضي حيث قذائف المدافع والتفاح إلى العالَم المجهري للذرَّات المتحركة.

تطبيق مبدأ البساطة

ألقِ نظرةً أخرى على جهاز حجرة الفراغ الخاص ببويل وهوك (ارجع إلى الشكل ١٠-٢) حيث تمكَّنت مساحةٌ من الفراغ كما يبدو من رفع وزنٍ مقدارُه مائة رطل أمام مشاهدين فُغرت أفواههم «في اندهاش بالغ». هل يذكِّرك هذا بشيء؟ ربما يذكِّرك بأسطوانة محرِّك الاحتراق الداخلي الذي يزوِّد سيارتك بالطاقة، إن لم تكن كهربائية، أليس كذلك؟

انطلاقًا من انبهارهم بإمكانات فراغ بويل في رفع الأحمال الثقيلة، حاول العلماء والمخترعون والمهندسون الاستفادةَ من القوة المحرِّكة الناتجة عنه. في عام ١٦٧٩، أتى الفرنسي إيجينو ديني بابين (١٦٤٧–١٧١٣) بفكرةِ تكثيف البخار داخل حجرة ليشكِّل فراغًا يسحب مكبسًا. وبهذا يكون قد اخترع المحركَ ذا الشوط الواحد. وفي عام ١٦٩٨، حصل المهندس العسكري الإنجليزي توماس سيفري (١٦٥٠–١٧١٥) على براءة اختراعٍ لاختراعه مضخةَ ماء تعمل بتكثيف البخار داخل أسطوانة. وبعد عقد من ذلك، صمَّم تاجر الحدائد والواعظ غير الإكليريكي المعمداني توماس نيوكامن (١٦٦٤–١٧٢٩) مضخةً مشابهة، سمِّيت ﺑ «صديقة عمال المناجم» هدفها إزالة المياه من المناجم المغمورة بها؛ إذ كانت تلك مشكلة كبيرة أثناء نشأة صناعة تعدين الفحم.

كانت مضخة نيوكامن محركًا جويًّا يعتمد — تمامًا كما في تجربة بويل — على وزن الهواء الجوي لتحريك المكابس. وفي عام ١٧٦٤، فصل الكيميائي والمهندس الميكانيكي والمخترع الاسكتلندي جيمس وات (١٧٣٦–١٨١٩) أسطوانة شوط القدرة عن أسطوانة التكثيف؛ الأمر الذي جعل المحرِّك أكثرَ كفاءة بكثير في استخدام الطاقة. كما أتى أيضًا بالفكرة الثورية المتمثِّلة في غلق الأسطوانات عند طرفيها واستخدام تمدُّد البخار القائم على الحرارة لدفع المكبس خارجًا، وكذلك تكثيف البخار القائم على مادة تبريد لسحب المكبس إلى الداخل. وبهذا يكون قد اخترع المحرِّك البخاري.

كانت المحرِّكات البخارية الأولى لا تُستخدم إلا كمضخات، لكنَّ وات استبدل بالذرِّاع المتأرجحة عند نيوكامن بكرةً تتحرَّك من ذراع المحرِّك من خلال مجموعة من التروس: وهذا هو المحرِّك الدوَّار. سرعان ما تبنَّى هذا النظام أصحابُ المصانع في بريطانيا الصناعية، مثل مُصنِّع المنسوجات القطنية ريتشارد آركرايت، فتحوَّلت صناعة القطن من استخدام الماء إلى الدفع البخاري الفائق. وقد واتت مهندس التعدين الكورنوولي ريتشارد تريفيثيك (١٧٧١–١٨٣٣) فكرةٌ عظيمة تتمثَّل في تثبيت محرِّك بخاري قابل للحمل على عربةٍ ذات عجلات، ومِن ثَم طوَّر مركبة ذات محرِّك مستقل، سُمِّيت بالشيطان النافث. وفي عشيةِ عيد الميلاد عام ١٨٠١، حمل الشيطان النافث ستة ركَّاب في شارع فور بكامبورن وأكمل مسيره حتى قرية بيكون المجاورة. هنا كانت الثورة الصناعية قد بدأت تتحرَّك.

حظي محرِّك تريفيثيك بمزيد من التطوير على يد المهندسين مثل جورج ستيفنسون (١٧٨١–١٨٤٨) وروبرت ستيفنسون (١٨٠٣–١٨٥٩)، ليصبح مصدرَ الطاقة للثورة الصناعية ومنبعَ أكبر زيادة في الإنتاج الصناعي شهدها العالَم من قبل. ففي المملكة المتحدة وحدَها، ارتفع إنتاج الفحم من حوالي ٢٠ مليون طن في العام الواحد عام ١٨٢٠ إلى حوالي ٣٠٠ مليون طن بعد مرور قرن من الزمن. وبالمثل بعد قرون من الركود، ارتفع إنتاج المحاصيل الزراعية حيث أصبحت الزراعة مميكنة بصورةٍ متزايدة. وأصبح التقدُّم والإنتاجية في الثورة الصناعية أسيِّين.١ وبالطبع مثل عصري النهضة أو الإصلاح، من الواضح أنه كان ثمَّة أسباب عديدة لهذا التغيير، منها نشأةُ الرأسمالية والإمبريالية، وتوافر الإمداد من الفحم، والعمالة الرخيصة واستيراد التقنيات الأجنبية من أماكنَ بعيدة جدًّا كالصين، وتوافر أسواق أكبر، وكذا توافر الأرباح السهلة من تجارة العبيد. ومع ذلك، فقد لعِبت اختراعات مثل أنواع المحرِّك البخاري المختلفة دورًا كبيرًا من دون شك، إلا أن تطوُّرها الأسي فيما يتعلق بالمردود لم يكن ليصبح ممكنًا إلا من خلال استخدام نماذج معظمُها مرسوم بحبرٍ على ورق، غير أنها تمثِّل قوانين بسيطة كقوانين بويل أو نيوتن أو كارنو أو بولتسمان.
fig21
شكل ١٢-١: محرِّك نيوكامن البخاري الجوي.

النماذج تمثِّل المعرفة. إنها تمثِّل تركيبَ الآلات وديناميكيتها وعملها، وعادةً ما يكون ذلك بلغة الهندسة والرياضيات. ويمكن للنماذج أن تكون بسيطة كرسمةِ محرك بخاري، مثل محرك نيوكامن الذي ظهر في عام ١٧١٢ والذي يشير إلى مفهوم بويل الخاص ﺑ «وزن الهواء» لتفسير حركة المكبس. والميزة التي تجعل هذه النماذج مفيدةً هي إمكانية إدخال تحسينات عليها، وذلك في شكل حلقة من التغذية الراجعة الإيجابية التي تؤدي إلى زيادة أسية في الأداء. إلا أن فائدة تلك النماذج تنعدم من دون شفرة أوكام.

تخيَّل محاولتك إنشاء محرك بخاري إن كان نموذج عمله مبنيًّا على مفهوم «الروح العارفة» الخاص بمور. كيف يمكن لك أن تطوِّره؟ هل ستتضرع لتلك الأرواح؟ حين يفشل هذا النهج، فإن ملجأك الوحيد سيكون هو عملية التجربة والخطأ البطيئة، تلك العملية التي نتج عنها معظم الابتكارات على بسيطةِ كوكبنا، بما في ذلك الحياة نفسها، وذلك منذ فجر التاريخ. لقد تغيَّر كل هذا حين تحوَّل المهندسون والعلماء إلى استخدام نماذجَ تجسِّد معرفتهم وقوانينهم العلمية والتي كما حثَّ بويل «ينبغي أن تكون هي الأبسط: أن تكون خالية على الأقل من كلِّ ما هو غير ضروري». وبوجود النماذج التي مرَّت على شفرة أوكام في متناولنا، تمكَّن العلماء والمهندسون من التنبؤ بالتعديلات التي من شأنها تحسينُ الأداء. فإن تحقَّق تنبؤهم، حينها كان يعلم المهندس أو العالم أن نموذجه كان صوابًا؛ وإن كان غير ذلك، فإنه يعدِّله حتى يتحقق تنبؤه ويحصل على التطويرِ المرجوِّ. حينها يكون نموذجه المطوَّر نقطةَ انطلاق لتحقيق أوجه تقدُّم أخرى. وبوجود حلقة التغذية الراجعة الإيجابية هذه، انتقل التطوُّر التقني من معدَّل التطوير الخطي الناتج عن استخدام عملية التجربة والخطأ إلى تحقيقِ تقدُّم أسيٍّ والذي أصبح هو سِمة العصر الحديث.

قبل أن نكمل رحلتنا، يجب أن ننظر مرةً أخرى في تجارب كونت رامفورد الشهيرة. لقد فسَّرت قوى نيوتن الميكانيكية مفهومَ نقْل الحركة والحرارة مما يبذله الجياد من جهدٍ إلى عُدة الفرس والمثقاب والمدفع والماء؛ لكن كان هناك عنصر حيوي مستبعَد من سلسلة نيوتن عن الأسباب والنتائج: ألا وهو الحصان. كيف أدَّى جهده إلى تحريك العملية بأكملها؟ كيف تحرَّكت أطرافه؟ أيمكن لعلم نيوتن أن ينطبق أيضًا على الجياد والحيوانات الأخرى والنباتات والميكروبات؟ رغم أن ديكارت كان قد اقترح أن الحيوانات مجرَّد آلات، فإن معظم علماء الأحياء في القرن الثامن عشر ظلُّوا مشككين في ذلك، ودفعوا بأن قوى نيوتن غيرُ كافية لتفسير أشكال الحركة الذاتية في الحياة. واقترحوا عوضًا عن ذلك أن الحياة تتحرَّك من خلال «قوًى حيوية» لا تنصاع لقوانين نيوتن. ولكي نكتشف حقيقةَ ذلك، سنذهب لصيد السمك بالجياد.

هوامش

  • (١)

    مثل ما يجري في الفائدة المركَّبة، يجري تغذية النظام بالزيادة لزيادة معدَّل الزيادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤