الفصل الخامس عشر

حول البازلاء وزهور الربيع والذباب والقوارض العمياء

ليس هناك من برهانٍ على نظريةٍ أكثرَ إقناعًا من قدرتها على استيعاب حقائق جديدة وإفساح مجال لها.

ألفريد راسل والاس، ١٨٦٧1
بحلول الوقت نفسه تقريبًا الذي سلَّط فيه جورج كامبل الضوءَ على غياب طريقةٍ لإنتاج التباين في نظرية الانتقاء الطبيعي، كشف أستاذ الكرسي الملكي للهندسة بجامعة إدنبرة ومخترع التلفريك فليمينج جينكين عن مشكلةٍ أخرى قد تكون أكثرَ خطورة حتى. ففي استعراضه لكتاب داروين «عن أصل الأنواع»، أشار جينكين إلى أن الوراثةَ تنزِع لأن تخلِط بين الصفات. فالأمهات الطوال والآباء القصار ينجبون في الغالب أطفالًا ذوي أطوال متوسطة. شدَّد جينكين على أن هذا الانحراف نحو التوسط من شأنه أن يستبعِد التباين الذي تتركَّز عليه عملية الانتقاء الطبيعي. ليس هذا فحسب، بل دفع بأن «ميزة» أي تباين [جديد] ونادر «ستتفوق عليها تمامًا الدونية العددية الخاصة به». ولكي يبرِز وجهةَ نظره، وبالعنصرية العفوية المعهودة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ذكر جينكين مثال «الرجل الأبيض الأثير [الذي] لا يمكنه تبييض عشيرة من الزنوج».2

كان أساس المشكلتين اللتين سلَّط كلٌّ من كامبل وجينكين الضوءَ عليهما أن أحدًا لم يكن بمقدوره الإجابة عن سؤال يشيع طرْحُه على لسان الأطفال في القرن التاسع عشر.

لماذا أُشبِه أبي؟

كان لتشارلز داروين وألفريد راسل والاس العديدُ من الأطفال. لم أستطِع إيجادَ أيِّ صورٍ لأطفال أسرة والاس، لكنَّ ثمَّة كثيرًا من الصور لأطفال أسرة داروين الذين بقُوا على قيد الحياة، ومن السهل ملاحظة وجود تشابه عائلي بين كلٍّ من تشارلز وزوجته إيما.

من بين التحديات الكثيرة التي واجهت فهْمَنا للعالَم، نجد أن مسألة الوراثة هي أكبرها. الشبيه يُحدِث الشبيه؛ فجوزة البلوط تُنبِت شجرةَ بلوط، والبَيض يُخرِج دجاجًا. وجوزة البلوط لا تشبه شجرة البلوط بأي شكل، وكذا البيضة لا تشبه الدجاجة من قريب أو بعيد، لكنَّ سرَّ وجودهما كليهما متأصِّل بطريقةٍ ما في هذه وتلك. كيف أصبح هذا السرُّ مشفَّرًا في البيضة أو البذرة؟ وكيف تُفك شفرةُ هذا السر لخلق شجرة بلوط أو دجاجة؟ وقع معظمُ العلماء في القرن التاسع عشر في مأزق التدخُّل الإلهي المعتاد، ما سمح للوراثة أن تُصبح الملاذ الأخير للمذهب الحيوي. وفي حركةٍ تنم عن اليأس، لجأ داروين إلى النظرية السيئة السمعة عن الوراثة المكتسبة (اللاماركية)، والتي أطلق هو عليها شمولية التكوين. في كتابه الصادر عام ١٨٦٨ بعنوان «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، اقترح داروين أن الصفات المكتسبة أثناء حياة الحيوان تنتقل من الجسد إلى الأمشاج (البويضات والخلايا المنوية) عبْر جسيمات أطلق عليها «البُريعمات». خضعت النظريةُ للنقد نفسه الذي خضعت له نظرية لامارك (تذكَّر ذراع الحدَّاد التي يضرب بها بالمطرقة) ولم تنجح في إقناع ناقديه. حتى والاس أعلن في نهاية المطاف معارضته لها. وفي العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، كادت نظرية الانتقاء الطبيعي تعاني مصيرَ كثيرٍ من الكائنات التي تصِفها وتصبح بائدة.

لكن قبل عامين من نشر جينكين لاعتراضه على نظرية الانتقاء الطبيعي، كان حل مشكلة خلط الصفات الخاصة بالتوارث قد تكشَّف بالفعل على يد راهب أوغسطينوسي لا يتمتع بشهرة كبيرة.

السر في قرن بازلاء

وُلِد يوهان مندل (١٨٢٢–١٨٨٤) في أسرةٍ من الفلاحين المزارعين في قرية هينتشيتسي، وهي قرية سيليزية صغيرة فيما هي الآن جمهورية التشيك. في ذلك الوقت، كان معظم المزارعين ينجبون أطفالًا يصبحون مزارعين، وهو ما كان ليصبح مصير يوهان لو لم ينتبه ناظرُ المدرسة المحلية لمواهب الصبي ويتدخَّل ليقنع الأسرةَ باستخدام مواردهم التي كدحوا في كسبها في إرسال يوهان إلى المدرسة الثانوية المحليَّة بقرية تروبو (أوبافا) القريبة. تخرَّج يوهان بعد ست سنوات لاحقة، وإن كان بعد صراع؛ إذ كان يعاني طوال حياته نوباتٍ لما نُطلق عليه اليوم اكتئابًا سريريًّا.3

التحق يوهان بعد ذلك بجامعة أولوموتس في مورافا ليدرُس الفلسفة والفيزياء. وقد دفعت أختُه تيريزا رسومَ التحاقه من مهرها، وجنى يوهان المالَ لقاء نفقات المأوى والمأكل من خلال التدريس للطلاب الأصغر سنًّا. وعلى الأرجح أن يوهان اكتسب اهتمامه بمجال الوراثة أثناء وجوده في جامعة أولوموتس، حيث كان عميدها للعلوم الطبيعية يوهان نستلر يُجري تجاربَه الخاصة على تناسل النباتات والحيوانات. إلا أن مهر أخته تيريزا كان محدودًا؛ لذا ولكي يكمل مندل تعليمَه التحق بدير القديس توماس في برنو عام ١٨٤٣ راهبًا مبتدئًا. وهناك اتخذ لنفسه اسم جريجور. وكما كتب لاحقًا يقول: «حدَّدت ظروفي اختياراتي المهنية».

في البداية تلقَّى جريجور مندل تدريبه ليصبح كاهنًا وأُعطي أبرشيته الخاصة، لكن رئيس الدير سيريل ناب قال عن مندل في خطابٍ أرسله عام ١٨٤٩ إلى الأسقف المحلي: «إنه كادٌّ بشدة في دراسته للعلوم، لكنه أقلُّ ملاءمة بكثير للعملِ كاهن أبرشية». فأرسل رئيسُ الدير الراهبَ ذا العقلية العلمية إلى جامعة فيينا؛ حيث درس الفيزياء تحت رعاية كريستيان دوبلر الشهير باكتشافه لتأثير دوبلر. كما تعلَّم علم النباتات على يد فرانتس أنجر وهو اختصاصي مجاهر انشغل بنظريته الخاصة عن التطور فيما قبل داروين. وفي عام ١٨٥٣، عاد مندل إلى برنو.

ليس من الواضح لمَ قرَّر مندل دراسة البازلاء تحديدًا. إلا أن ذلك الاختيار كان متسقًا مع مبادئ العلم التجريبي الذي أسَّس له جاليليو وبويل وآخرون من حيث الإبقاء على أنظمة التجريب بسيطةً قدْرَ الإمكان. فمن السهل زراعة البازلاء، كما أن معدَّل سنوات العمر في الجيل الواحد فيها يكون قصيرًا، وهي تأتي في ضروبٍ عديدة موروثة، ومن السهل إدراكها، والتي يمكن تمييزها على سبيل المثال بثمارها — والتي تكون إما مستديرةً أو مجعَّدة، وخضراء أو صفراء — أو طول قرنِها أو لون أزهارها، الذي قد يكون هو الأبيض أو الأرجواني. وكمثل جاليليو الذي صقل كرات حديدية لتصبح مكوَّرة بصورة مثالية فتتدحرج في سلاسة، صقل مندل نموذجَه التجريبي الخاص بالبازلاء، وذلك من خلال التوالد الداخلي لكل ضرب على مدى عدة أجيال حتى تصبح الصفةُ ثابتة. ولكي يستبعِد مصدرًا آخرَ من مصادر التباين، هجَّن يدويًّا نباتاتِ البازلاء الفردية حتى يتسنَّى له معرفةُ الأبوين لكل هجين بشكل دقيق. وكما كتب مندل يقول: «التجارب على صفات البذور تُقدِّم النتائجَ بأبسط صورة وأكثرها يقينًا».4 بحلول ذلك الوقت، لم يكن مندل بحاجة لأن يقتبس عن أرسطو ولا الأوكامي ليبرِّر تفضيله لمبدأ البساطة. إذ أصبح ذلك المبدأ بديهيًّا جدًّا حتى إن معظم العلماء كانوا غير واعين بأنهم يعملون على تلك الشاكلة.
في ورقته العلمية التي كتبها حوالي عام ١٨٦٥، يذكر مندل عزْمَه على تسليط الضوء على عملية «التخصيب الصناعي في نباتات الزينة ليحصل على ضروبٍ لونية جديدة».5 كما أن دراساته في جامعتي أولوموتس وفيينا جعلته مدركًا للسجالات التطورية التي تضجُّ بها أروقة التاريخ الطبيعي في القرن التاسع عشر. إذ كان يملك ترجمةً ألمانية لكتاب داروين «عن أصل الأنواع»، وقد قرأها بلا شك؛ لذا في ورقته العلمية الثورية كتب مندل يقول إن تجاربَه في بحث مسألة الوراثة هي «الطريقة الوحيدة الصحيحة التي يمكن لنا أخيرًا من خلالها الوصولُ إلى إجابة لسؤال غاية في الأهمية فيما يتعلَّق بتاريخ تطوُّر الأشكال العضوية».

ولكي يكتشف كيف يتم توارثُ صفات البازلاء — كالحبوب المجعَّدة أو الأزهار الأرجوانية — هجَّن مندل نباتاتٍ ذات صفات مختلفة؛ على سبيل المثال، تلك التي تنتج أزهارًا بيضاء مع أخرى تنتج أزهارًا أرجوانية. وتوقَّع أن يرى جيلًا تاليًا من البازلاء قد يكون ذا لون أرجواني باهت. عوضًا عن ذلك، تنحَّت صفةُ البياض حيث كان لكل نباتات البازلاء أزهارٌ أرجوانية. سمح مندل بعد ذلك لهذا الجيل الأول من البازلاء أن يتخصَّب ذاتيًّا وزرع بذوره ليُنبِت جيلًا ثانيًا منه. وحين فحص أزهاره، ذُهِل لرؤيته أن صفةَ البياض قد عادت، وإن كان في ربع قرون البازلاء فقط. وعوضًا عن المزيج المتوقَّع، حصل مندل على نسب عددية صحيحة تقريبية لأزهار البازلاء الأرجوانية إلى البيضاء بواقع ثلاثة إلى واحد.

وقد أجرى مندل ما يقارب ١٥ ألف عملية تهجين مع أزواج كثيرة مختلِفة من الصفات على فترةٍ مداها ثماني سنوات، وقاسَ وسجَّل بدقةٍ الصفات في نسلها على مدى عدة أجيال. على نحو لافت للنظر، قدَّمت أزواجُ الصفات التكميلية التي فحصها أيًّا ما كانت، نسبًا عدديةً صحيحةً للصفة في النسل، على سبيل المثال، عددُ الحبوب المستديرة يبلغ ثلاثةَ أضعاف الحبوب المجعَّدة (٣ : ١)، أو أعدادًا متساوية (١ : ١)، أو حبوبًا مستديرة فحسب (١ : ٠). كما لاحظ أيضًا أنه فيما يتعلَّق بكل صفة ثنائية (مستديرة أو مجعَّدة، أرجوانية أو بيضاء) كان يميل أحد الضروب فيها — كالاستدارة في الحبوب — إلى أن يكون مهيمنًا في الجيل الأول بعد التهجين، في حين تكون صفة الضرب البديل «المتنحي» (التجعُّد) مختفية حتى الجيل الثاني.

من منظور نظرية التطوُّر، كانت أهم نتيجة جرى التوصُّل إليها من تجارب مندل هي أن الصفات الموروثة لم تكن تمتزج بعضها ببعض، كما كانت العقيدة السائدة في القرن التاسع عشر بشأن الوراثة. عوضًا عن ذلك، انتقلت صفات حبوب البازلاء — سواء كانت مهيمنة أو متنحية — دون تغيير عبْر أعداد من الأجيال. إذ إن حبة بازلاء مجعَّدة من قرن فُتِح في العام ١٨٦٣ — حين أنهى مندل تجاربه — كانت مجعَّدة تمامًا كالنسل الأول لعمليات تهجينه التي أجراها في العام ١٨٥٥، وذلك رغم انتقالها عبْر العديد من نباتات البازلاء المستديرة. قد تُصنَّف الصفات الموروثة لكنها لا يمتزج بعضها ببعض. وقد أطلق مندل على العوامل المحدِّدة للصفات غير المتغيِّرة التي انتقلت عبْر الأجيال لقبَ «العناصر»، لكننا نعرفها اليوم باسم الجينات.

وعلى عكس كيبلر، لم يخبِر مندل قط بشأن المعاناة العقلية التي ربما عاناها في محاولته فهْمَ البيانات التي كانت تتعارض كثيرًا مع العقيدة السائدة. كان أول استنتاج خلَص له هو أن انتظام العدد الصحيح الذي لاحظه في الأنماط الموروثة لا بد أنه يعكس الحقيقةَ المدهشة نوعًا ما، والتي تقول إن الوراثة منفصلة عوضًا عن كونها متصلة. قد نقول اليوم إنها رقمية بدلًا من تناظرية. وبخلفيته في العلوم الفيزيائية، لا بد أن هذا الأمر أدهش مندل؛ حيث كان يعلم بلا شك أنه يفصِل الوراثة عن كل المعاملات المادية الأخرى كالسرعة أو الكتلة أو الزخم أو الضغط أو درجة الحرارة أو التسارع، والتي تختلف باستمرار. لكن بدا أن الجينات تعرف قلةً من الأعداد الصحيحة، وهي: واحد أو اثنان أو ثلاثة.

قرأ مندل ورقتَه عن الصفات الموروثة في اجتماعٍ لجمعية برنو للتاريخ الطبيعي يوم الثامن من شهر فبراير لعام ١٨٦٥، ونُشرت في العام التالي لذلك، بعد سبع سنوات فقط من نشر كتاب داروين «عن أصل الأنواع»، في خضم المعركة التي حمي وطيسُها بين مؤيدي نظرية الانتقاء الطبيعي ومعارضيها. كان بإمكان ورقة مندل العلمية الإجابةُ على بعض النقاد على الأقل. إذ ظهرت إشارة لها في كتاب «دليل إرشادي لأدبيات علم النبات» بقلم بنجامين دايدون جاكسون، والذي كان يقبع على أرفف مكتبة الجمعية اللينية، التي كُشف فيها عن نظرية الانتقاء الطبيعي للمرة الأولى. لكن لا يبدو أن أحدًا من المتورطين في النزاع قرأها.

وحين مات سيريل ناب في عام ١٨٦٧، انتُخِب مندل رئيسًا للدير. ومنذ ذاك الحين، هجر مستنبتَه وكرَّس نفسه لمسئولياته الإدارية. وقد مات مندل يوم السادس من شهر يناير لعام ١٨٨٤ بعمر واحد وستين عامًا، غير مدرك تمامًا أنه عما قريب سيصبح مؤسِّسَ علم الوراثة. تم تفكيك مستنبتِه وحُرقت كل أوراقه في حديقة الدير.

أجابت تجارب مندل على نقد فليمينج جينكين لنظرية الانتقاء الطبيعي فيما يتعلق بمزج الصفات الوراثية. إلا أنها لم تجِب عن مشكلة مصدر التباين الطبيعي الجديد، والتي كانت وجه اعتراض كامبل على النظرية. فظلَّ أصل الأنواع الجديدة لغزًا.

زهور الربيع والذباب

وُلِد هوجو دي فريس (١٨٤٨–١٩٣٥) في مدينة هارلم بهولندا عام ١٨٤٨. ترعرع فريس بمنطقةٍ غنيَّة بالحياة النباتية، ما ألهمه الاضطلاعَ بدراسة علم النباتات في جامعة لايدين في العام ١٨٦٦. هناك، قرأ فريس كتاب داروين «عن أصل الأنواع» إلا أنه لم يكن مقتنعًا بالنظرية، وذلك لكلِّ ما ذكرنا من أسباب. وفي العام ١٨٨٦، أي بعد مرور عامين على وفاة مندل، وفيما كان يسير في حقل بور بالقرب من مدينة هيلفرسم لاحظ مجموعةً متناثرة من زهور الربيع المسائية تشتمل على عدة ضروب غريبة لم يتم وصْفها من قبل. فأخذ البذور إلى معمله وبرهن ليس فحسب على أن تلك الصفات الغريبة كانت موروثة، بل أيضًا على أنها تظهر نسبًا عددية صحيحة للصفات السائدة في مقابل الصفات المتنحية في نسلها. وأطلق دي فريس على تلك التباينات مصطلح «طفرات»، وزعم أنها تقدِّم التباينات اللازمة للترسيخ لأنواع جديدة. وبالبحث عن دراساتٍ مشابهة في أدبيات علم النبات، أعاد اكتشاف أعمال مندل. وفي العام ١٩٠١، قدَّم دي فريس نظريتَه عن أن الطفرات تمثِّل مصدر التباين الذي يَخلق أنواعًا جديدة.

بعد ذلك ببضع سنوات، في عام ١٩٠٧، بدأ العالِم الأمريكي توماس هانت مورجان (١٨٦٦–١٩٤٥) برنامجَ استيلاد مكثَّف لذبابة الفاكهة الشائعة. وبعد استيلاد الآلاف من الذباب الأحمر العين لاحظ قلةً منها ذات عين بيضاء. وبرهن على أن صفة بياض العين — والتي هي طفرة — كانت موروثةً من خلال نمط لنسب عددية صحيحة. وبالمثل أعاد اكتشاف أعمال مندل وبرهن على أن الطفرات تفسح المجالَ لنشوء حيوانات تتخطى نطاق التباين الطبيعي في داخل النوع. والاندماج اللاحق للانتقاء الطبيعي والوراثة المندلية أصبح يُعرف باسم «التوليف التطوري الحديث» أو «التوليف الداروني الحديث». كما يظلَّ هو حجر الزاوية في علم الوراثة، وكذلك بالطبع في علم الأحياء. كما شدَّد عالِم الأحياء التطوريَّة ثيودوسيوس دوبزانسكي: «لا شيء في علم الأحياء يبدو منطقيًّا إلا في ضوء مفهوم التطوُّر».6
لكن في العقود الأولى من القرن العشرين، ورغم قبولنا بأن الجينات هي وحدات الوراثة ومحرِّكات التطوُّر، فإن أحدًا لم يعلم ما كانت ماهيَّتها ولا كيفية عملها. وأصبح هذا اللغز هو الملاذَ الأخير للمبدأ الحيوي للحياة، بل حتى يد الرب. هكذا وعلى سبيل المثال، في العام ١٩١١ نشر الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون (١٨٥٩–١٩٤١) كتابَه «التطوُّر الخلَّاق» الذي يدفع فيه بأن الوراثة والتطوُّر مدفوعان من خلال «دافع حيوي» خاص بالحياة.7 والمسعى الناتج عن ذلك والذي يستهدف استبعادَ آخرِ بقايا اللاهوت العلمي من العلم الحديث سيكون من شأنه أن يكشف أسرارَ الجزيء الأكثر استثنائية في الكون المعروف.

حلَّالو الشفرة

في الجزء التالي من قصِّتنا سأتخطَّى مرةً أخرى الكثير من الاكتشافات الحاسمة لأسلط الضوءَ على ما هو مهم منها فقط لفهْمنا لدور مبدأ البساطة في علم الأحياء. الخطوة الأولى في استبعاد دور القوى الحيوية في تفسير الجينات كانت البرهنة على أن هذه الجينات تتكوَّن من عناصرَ كيميائية عادية. في واقع الأمر، تُوصِّل لهذا في الوقت نفسه الذي اكتشف فيه مندل الجينات، عام ١٨٦٨ على يد الكيميائي السويسري فريدريش ميسشر (١٨٤٤–١٨٩٥). إذ فيما كان يعمل في جامعة كيبلر في توبنجن، عزل ميسشر مادةً كيميائية حيوية أطلق عليها «الحمض النووي» من خلايا دم بيضاء، وبرهن على أنها تتكوَّن من الهيدروجين والأكسجين والنيتروجين والفوسفور. ولم يكتشف ميسشر قط ما كان تفعله مادته الكيميائية الحيوية الجديدة، لكن في العام ١٩٤٤، أظهر العالِم الكندي الأمريكي أوزوالد إيفري (١٨٧٧–١٩٥٥) أن الجينات تتكوَّن من «الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين»، أو ما نعرفه اليوم باسم الحمض النووي (دي إن إيه).

إلا أن تحديد الطبيعة الكيميائية للجينات حتى على يد إيفري لم يساعد كثيرًا؛ حيث لم يكن لدى أحد تصوُّر عن كيف أن شكل حبة البازلاء أو عين ذبابة الفاكهة أو لون عينيك — وهي كلها صفات موروثة — يمكن أن يتحدَّد من خلال مادة كيميائية مكوَّنة فقط من ذرَّات من الكربون والأكسجين والنيتروجين والهيدروجين والفوسفور. عِلاوة على ذلك، كان ينبغي أن تنتقل هذه الصفات بدقَّة على امتداد الأجيال، ممتثلة لقواعد مندل، لكن في بعض الأحيان تحدُث طفرات جديدة. وهذا نظام طويل للغاية على مادة كيميائية يمكن عزلها من خلايا حيَّة وتُجفَّف فتصبح شيئًا أشبه كثيرًا بألياف الورق.

انحل اللغز كما هو معروف في العام ١٩٥٣ على يد العالمَين جيمس واتسون وفرانسيس كريك اللذين يتخذان من كامبريدج مقرًّا لهما، وذلك باستخدام بيانات التصوير البلوري بالأشعة السينية التي قدَّمتها لهما زميلتهما روزاليند فرانكلين بكلية كينجز كوليدج والتي تتخذ من لندن مقرًّا لها. واكتشافهما للتركيب اللولبي المزدوج للدي إن إيه وقدرته على تشفير المعلومات الحيوية في الجينات هو على الأرجح الاكتشاف الأكثر إذهالًا في تاريخ العلوم بأكمله. وقد رُويَت قصةُ هذا الاكتشاف مرات عديدة؛8 لذا سأبرز فقط حقيقةَ أن هذا الاكتشاف كان لا يزال قادرًا على حل لغز الوراثة الغامض رغم البساطة الاستثنائية للجزيء ذي الصلة.
ومن بين صفات هذا الجزيء البسيطة نجد أن تركيبته الكيميائية هي الأبرز (انظر شكل ١٥-١). فهو يتكوَّن من تسلسلات من أربع مجموعات كيميائية فقط تُدعى قواعد الدي إن إيه والتي تتخذ من الحروف ، و، و، و رموزًا لها، وهي مثبَّتة على عمادٍ لولبي كالخرز في الخيط. وكل ضفيرة في اللولب تقترن بأخرى أشبه بصورة معكوسة لها، وهي ضفيرة مكمِّلة تحكمها قاعدة بسيطة، أن تكون القاعدة مقترنة بالقاعدة والقاعدة مقترنة بالقاعدة . وقد أدرك كلٌّ من واتسون وكريك أن تلك الأحرف الجينية كانت شفرات لصناعة البروتينات. ومبدأ تشفير الدي إن إيه للبروتين بسيط أيضًا. إذ تشفِّر ثلاثة أحرف من الدي إن إيه كلَّ حمض من الأحماض الأمينية البروتينية العشرين والتي تدخل في تكوين البروتين. لذا وعلى سبيل المثال، تشفِّر الأحرف الحمض الأميني الجلايسين، فيما تشفِّر الأحرف الجلوتامين. وتصنع البروتينات الإنزيمات، والإنزيمات هي المصانع الجزيئية التي تصنع الجزيئات الحيوية الأخرى داخل خلاياك وخلايا كل حيوان ونبات وميكروب عاش من قبلُ على سطح كوكبنا. وهكذا فإن المحيط الحيوي بأكمله مكتوب بشفرة تتكوَّن من أربعة أحرف، أي بأقل كثيرًا من الأحرف المستخدمة لكتابة هذا الكتاب. بالطبع ليس هناك برهان أقوى من هذا على قدرة القواعد البسيطة على توليد تعقيد استثنائي. وقد قيل بالطبع — بناءً على مبادئ ميكانيكا الكم — بأن الشفرة الجينية بسيطة بقدرِ ما يمكن لها أن تكون.9
fig31
شكل ١٥-١: التركيب اللولبي المزدوج للدي إن إيه.

وفي العقود التي تلت الاكتشاف الذي توصَّل إليه واتسون وكريك، تبيَّن أن الطفرات هي أيضًا كيانات مادية. فقواعد الدي إن إيه الكيمائية يمكن أن تتلف بفعل الحرارة أو الإشعاع أو أشعة الشمس القوية أو مجرد التقدُّم في العمر. ويمكن لهذا التلف أن يعدِّل من حرف جيني بحيث يُضاف حرف التشفير الخاطئ إلى أحد الجينات حين يتم تكراره، مما يسبِّب طفرة. وستكون الطفرة في غالب الأمر حميدة، إلا أنها ستُنتِج بين الحين والآخر صفةً مغايرة، كالأزهار البيضاء عوضًا عن الصفراء في زهرة الربيع. وإن كان هذا المتغيِّر يمثِّل ميزة، فإن الانتقاء الطبيعي سيحرص على أن تُصبح الأنسال التي تحمل المتغيِّر الجديد المفيد أكثرَ عددًا. وإن حدث هذا في مجموعة سكانية معزولة، فسيؤسِّس هؤلاء لنوع جديد. لكن إن كان المتغيِّر الجديد يجعل من الكائن أقلَّ صلاحية للبقاء، فسيصبح الجين أقل عددًا حتى تضيع الطفرة في نهاية المطاف من المجموعة. وبالنظر إلى طبيعة الجينات وحتمية الانتقاء الطبيعي، يصبح التطور حتميًّا كسقوط تفاحة من فوق شجرة.

مرة ثانية وكما هو الحال في كل العلوم، الآليةُ الجينية هي نموذج. وهذا النموذج بسيط كمثل كل النماذج المفيدة إلا أنه يتمتع بقوًى تنبؤية مذهلة. وقد سخَّر علم الأحياء الجزيئية نموذجَ الجينات البسيط ليقدِّم مزايا صحيَّة لا حصر لها، بما في ذلك أدوية وعلاجات ومحاصيل جديدة يقتات عليها مجموعة سكانية مطردة النمو، وذلك إضافة إلى اللقاحات التي يجري توزيعها فيما أكتب هذه السطور لحماية سكان العالم من فيروس كوفيد-١٩. لكن تلعب الجينات دورًا آخر — لربما كان متناقضًا — في دعواي بأن الحياة بسيطة. هذه المرة ينطوي الأمر على أحد القوارض القبيحة بعض الشيء وبعض النحل.

مصير الجينات غيرِ المرغوب فيها

تتصف الحشرات الاجتماعية العليا (وهي مجموعة تشمل النحل والنمل) بتركيباتها الاجتماعية المعقَّدة، بما في ذلك تقسيم العمل والأعشاش العالية التعقيد، والملِكة الواحدة المسئولة عن التكاثر في معظم الأحيان والتي تخدمها شغَّالات عقيمات والأنماط المعقَّدة من التواصل فيما بينها، كالرقصة التي على شكل العدد ثمانية عند نحل العسل. وتبدو الشغَّالات العقيمات للوهلة الأولى مناقضةً لمبدأ «الصراع الشديد» في الانتقاء الطبيعي، والذي يمكن لنا أن نتوقَّع أنه يؤثِر الأفرادَ الذين يقدمون مصالحهم على مصالح الآخرين. إذ لمَ قد تتخلَّى إحدى الشغَّالات من النمل عن خيار التكاثر من أجل مساعدة أختها؟ يتعمَّق هذا السؤال في قلبِ لغز في علم الأحياء، خاصة فيما يتعلَّق بنوعنا البشري: وهو مبدأ الإيثار. فعلى النقيض لما يمكن أن يُتوقَّع من مبدأ البقاء للأصلح، نجد أن كثيرًا من الحيوانات — كالحشرات الاجتماعية العليا — تتشارك فيما بينها المواردَ وأساليب الدفاع، لكن لماذا؟

اقترح عالِم الأحياء التطورية الإنجليزي ويليام دي هاملتون (١٩٣٦–٢٠٠٠) إجابةً محتملة عن هذا السؤال. تتشارك معظم الحشرات الاجتماعية العليا فيما بينها نظامَ توارثٍ غريبًا يُدعى الفردانية الضعفانية، والذي يحظى فيه الذَّكر بنسخة واحدة فقط عوضًا عن نسختين من كل جيناته، فيما تحصل الأنثى على النسختين الطبيعيتين. وتطبيق قواعد مندل على هذا النمط من التوارث يضمن أن تتشارك الإناث ٧٥ بالمائة من جيناتها عوضًا عن الخمسين بالمائة المعتادة في البازلاء أو البشر أو الحيوانات والنباتات الأخرى. وقد أجرى هاملتون الحساباتِ واكتشف أن الإناث غالبًا ما تحظى بفرصةٍ أفضل في نقل جيناتها وتمريرها بمساعدة أختِها — الملِكة — في التكاثر عوضًا عن إنتاج بيضها الخاص بها. وفقًا لهذه النظرية، ورغم أن شغَّالات النمل أو النحل قد تبدو إيثارية، فإن جيناتها في واقع الأمر هي المسئولة عن ذلك. إن الشغَّالات وملِكتهم تتحكم فيهما جيناتهما.

أبرز ما في هذه النظرية أن تغييرًا بسيطًا واحدًا في النمط المندلي البسيط للتكاثر والتوارث قد يُنتِج مخلوقاتٍ مختلفة على نحو كبير. بالطبع هذه سِمة في أي نظام بسيط. وفي حين أن التراكيب المترابطة الشديدة التعقيد تنزِع لأن تكون قوية في مواجهة الاضطرابات، فإن تعديل قوانين نظام بسيط — كالتوارث — سيخلِّف صدًى في النظام بأكمله، مما يَنتج عنه تأثيراتٌ كبيرة. نشر هاملتون نظريتَه عن انتقاء الأقارب عام ١٩٦٤، ورغم أنها لقيت تجاهلًا في بادئ الأمر، فإنها في النهاية أحدثت ثورةً في علم الأحياء التطورية والذي أصبح يُعرف باسم علم الأحياء الاجتماعي في سبعينيات القرن العشرين، وبصفة خاصة بعد نشر كتاب ريتشارد دوكينز الكلاسيكي عام ١٩٧٦ بعنوان «الجين الأناني».10

لم يكن ديك ألكسندر (١٩٢٩–٢٠١٨) — وهو أمين متحف علم الحيوان في جامعة ميشيجان — مقتنعًا بنظرية هاملتون. فباعتباره عالِمَ حشرات وخبيرًا في الحشرات الاجتماعية العليا، أشار ألكسندر إلى أن معظم الأنواع التي يحظى فيها البالغون بنسخة واحدة من جيناتهم — بما في ذلك الكثير من أنواع الخنافس والعث والذباب الأبيض ومفصليات الأرجل الأخرى — ليست بحشرات اجتماعية عليا؛ في حين أن الأرَضَة التي يحظى البالغون فيها بنسخ مزدوجة مثلنا من كل جين هي حشرات اجتماعية عليا. رغم ذلك، فإن النمل والأرَضَ والنحل تتشارك عادةً بناء أعشاش مشتركة قويَّة يمكن الدفاع عنها. وفي محاضرة له في جامعة أريزونا عام ١٩٧٦ قدَّم نظرية بديلة تقول بأن صفة الاجتماعية العليا في الحشرات تتسبَّب بها عواملُ بيئية وليست جينية. وهذه النظرية بسيطة وتقدِّم تنبؤًا دقيقًا كمثل كل النظريات البسيطة. تنبَّأت هذه النظرية بأن صفة الاجتماعية العليا ستنشأ — حتى بين الثدييات — أينما كان ثمَّة «مواقع أعشاش آمنة أو قابلة للدفاع عنها وطويلة الأمد وغنية بموارد الغذاء». واقترح قوارض الجحور باعتبارها مرشحًا محتملًا والمناطق الاستوائية باعتبارها موقعًا محتملًا لها، حيث ستكون الجحور مغلقة بإحكام في وجه المتطفلين تحت تربة تتعرَّض لوهج شمس شديد، إلا أن موارد الطعام ستكون متاحة أمامها في شكل الدرنات النباتية التي تخزِّن العناصرَ الغذائية تحت الأرض لتنجو من حرائق الغابات.

بعد محاضرته، ذُهِل ألكسندر حين اكتشف أن نظريته قد ثبَتت صحَّتها بالفعل ومن دون قصد. إذ إنه بعد أن نزل عن المنصة أتاه أحد الحضور — وهو عالِم حيوان يُدعى تيري فوجان — ينوِّه له بأن «حيوانك الثديي الاجتماعي الأعلى المفترض هو الوصف الأمثل لفأر الخَلَد العاري الأفريقي».11 لم يكن ألكسندر قد رأى أو سمِع من قبل حتى بفأر الخلد العاري، لكن أراه فوجان عيِّنة مجفَّفة له كان قد جمعها أثناء سنة راحة قضاها في كينيا. ورغم أن هذا الحيوان قد اكتُشِف قبل قرن من الزمن، فإن أحدًا بالكاد درسه، وعلى قدرِ ما انتهى إليه علم فوجان، فإن الشخص الوحيد الذي كان يعمل حينها على هذا القارض الغامض هي عالمة حيوان تُدعى جينفر جارفس وتتبَع جامعة كيب تاون.

وفئران الخلد العارية ليست بفئران في واقع الأمر. إذ تنتمي لفصيلةٍ من القوارض الأفريقية تُعرف باسم العرميات تشغل موطنًا بيئيًّا مشابهًا لذلك الخاصة بفصيلة الغوفرية في أمريكا الشمالية. كانت جارفيس تدرس هذا الحيوان منذ مشروع أطروحتها للحصول على درجة الماجستير عام ١٩٦٧. وفي السبعينيات حاولت أن تنشئ مستعمرةً من تلك الحيوانات في مختبرها في كيب تاون، إلا أنها تمكَّنت من حمل أنثى واحدة فقط في المستعمرة على التوالد. وقد فهِمت أخيرًا فحوى الأمر، وذلك حين تلقَّت عام ١٩٧٦ خطابًا من ديك ألكسندر يسألها فيه عن تلك الحيوانات ويخبرها عن نظريته بشأن الثدييات الاجتماعية العليا. وقد أكَّدت جارفيس أن فأر الخلد العاري كان بالفعل نوع الحيوان نفسه الذي تنبأ ألكسندر بأرجحية وجوده.

fig32
شكل ١٥-٢: فأر الخلد العاري.
تشيع فئران الخلد العارية بكثرة في شرق أفريقيا، حيث تُعرف في بعض الأحيان باسم جراء الرمل. هذه الفئران التي تقريبًا في حجم فأر صغير عديمةُ الشَّعر تمامًا وجِلدها مترهِّل وأسنانها تشبه أنيابَ الفيل وتستخدمها في الحفر. وتظل هذه الحيوانات تحت الأرض طوال حياتها التي تمضيها في جحور مظلمة؛ لذا فإنها شبه عمياء رغم أنها تملِك عيونًا صغيرة. وإضافة إلى كون هذا النوع محلَّ اهتمام علماء الأحياء التطورية، فقد أسرَ اهتمامَ الباحثِين الطبيِّين حيث إنه لا يُصاب بالسرطان أبدًا ويعيش حياةً مديدة بصورة استثنائية تصل إلى ثلاثين عامًا أو أكثر. وقد أدَّت هذه الصفات الفسيولوجية إلى توصُّل العلماء إلى جينوم فأر الخلد العاري عام ٢٠١١.12 حيث قدَّمت البيانات المنشورة أدلةً حول الجينات التي تؤثِّر في طول العمر وعدم الإصابة بالسرطان؛ لكن ما يهمنا بصورة خاصة هو ما يحدث لجينات فأر الخلد العاري التي صار مصيرها الإهمال.

اكتشف الباحثون أن حوالي ٢٥٠ جينًا من جينات فئران الخلد العارية قد تعرَّضت للكثير من الطفرات حتى إنها لم تَعُد فعَّالة. بمعنًى آخر، أصبحت هذه الجينات ميِّتة. ورغم كونها غير فعَّالة، فإن تلك «الجينات الزائفة» كما يُطلق عليها تظل قابلة للتعرُّف عليها من تسلسلات بصمات الدي إن إيه التي تبيَّن وظيفتها السابقة. على سبيل المثال، تسعة عشر جينًا من تلك معنيةٌ بعملية الرؤية، أحدها كان مشفَّرًا لبروتين عدسة العين، وآخر لصبغة الشبكية وثالث كان معنيًّا بنقل الإشارات الضوئية إلى المخ.

هذا النمط من التشوُّه الجيني — الذي يتخذ شكل طفرات متكررة — للجينات غيرِ الفعَّالة هو تمامًا — لربما بشكل يثير الدهشة — ما يتنبأ به التوليف الدارويني الحديث لنظرية الانتقاء الطبيعي والطفرات. وكما اكتشف دي فريس وآخرون غيره، فإن الجينات لا محالةَ تكتسب طفرات. لكن تتنبأ نظريةُ الانتقاء الطبيعي بأن الأنسال التي تحمل طفراتٍ ضعيفة ستنزِع لأن تخلِّف ذريَّة أقلَّ وليس ذريةً أصلح؛ لذا فإن الجينات المعيبة ستميل لأن تضيع من المجموعة السكانية. على سبيل المثال، جين الرؤية المعيب في فأرٍ سينتهي به المآل على الأرجح في معدة قطة أو بومة أكثرَ مما سينتهي به المآل في أي من ذريته. وهذه العملية التي تُعرف باسم الانتقاء المُنقي تنزع نحو استبعاد الطفرات التي تتلف الجينات من المجموعة السكانية.

لكن ما إن كانت الطفرة ضارة أم لا هي مسألة تتعلَّق ببيئة الحيوان. لنتخيَّل أن انهيارًا أرضيًّا أغلق مدخلَ جُحر لفصيلة من قوارض الجحور. لكن لحسن الحظ كان جحرها يحظى بمصدرٍ لا ينضب من درنات تنمو في الأسفل من نباتات على سطح الأرض؛ لذا فإن الحيوانات التي تقطن تحت الأرض لن تنجو فحسب، بل ستزدهر. وفي جحرها المظلم، تكون كل الحيوانات عمياء؛ لذا ينبغي لها الاعتماد على حواسِّها الأخرى كالسمع والشم. في الظلام، لن تهتم عملية الانتقاء الطبيعي بالطفرات التي تتلف الرؤية؛ لذا فإن الانتقاء المنقي لن يعود صالحًا للعمل. ومن دون الانتقاء المنقي، ستتراكم الطفرات الضارة حتى تصبح الجينات المرتبطة بالرؤية جيناتٍ زائفة غير فعَّالة. وسيتطور الحيوان القارض الذي يستطيع الرؤية ليصبح فأر خلد عارٍ أعمى بحيث لن يمكن له النجاة أبدًا فوق سطح الأرض.

استخدِمْه أو افقِدهُ: البقاء للأبسط

يوضِّح المسارُ التطوُّري لفأر الخلد العاري أحد تبِعات الانتقاء الطبيعي التي لا تحظى باهتمام كبير: ألا وهو مبدأ استخدِمْه أو افقدهُ. إن أصبحت إحدى الوظائف — كالرؤية مثلًا — عديمةَ الجدوى فإن الطفرات ستتراكم لا محالة في الجينات المسئولة عنها حتى تُفقد تلك الوظيفة. وهناك اضمحلال جيني مشابه في مسارات تطوريَّة كثيرة أخرى. فحين أصبحت الحيتان البالينية تتغذى بالترشيح، أقلعت عن العض ومِن ثَمَّ أصبحت الجينات المسئولة عن صناعة مينا الأسنان جيناتٍ زائفة.13 وحين تحوَّلت الباندا العملاقة من كونها آكلات لحوم إلى التغذِّي على نباتات البامبو، فقدت القدرةَ على تذوُّق طعم الأومامي، وهو الطعم الذي ساعد أسلافها — ويساعدنا نحن — على تذوُّق اللحوم. وهذا التحوُّل الغذائي عند الباندا تبِعه تحوُّل الجين الذي يشفِّر مستقبِل طعمِ الأومامي لديها لجين زائف.14 وعلى نحوٍ مشابه فقدَ البشر مجموعةً من المستقبِلات الشمِّية تجاه روائح لم نَعُد بحاجة لشمِّها. هل تساءلت من قبلُ قط لمَ لا تحب قطَّتك الأليفة الكعك؟ هذا لأن الجين الذي يشفِّر مستقبِل الطعم الحلو لديها أصبح جينًا زائفًا بعد أن تحوَّلت إلى آكلة للحوم.15

النتيجة المترتِّبة على عملية تراكم الطفرات هذه في غياب الانتقاء المنقي هي ضياع الوظائف الحيوية التي أصبحت تفوق الضرورة — كالرؤية في فئران الخلد العارية — بفعل شفرة أوكام تطوُّرية من نوعٍ ما. والنتيجة المنطقية لهذه الشفرة التطوُّرية هي أننا — وكل كائن على قيد الحياة الآن — نكاد نكون بسطاء على المستوى الجيني — من حيث الوظائف — بقدرِ ما يمكن لنا أن نكون. و«نكاد» هنا لفظ ضروري لأن عملية التطوُّر قد لا تكون عمِلت بعدُ كلَّ ما يمكنها لاستبعادِ التعقيد الزائد عن الحاجة، كما هو الحال في الزائدة الدودية مثلًا. عِلاوة على ذلك، قد لا يكون ممكنًا في بعض الأحيان لعملية التطور أن تستبعِد وظيفةً زائدة عن الحاجة — كالحلمات لدى الرجال — من دون إعادة تشكيل واسعة النطاق لمسارات التطوير. الحياة حقًّا بسيطة، لكنها ليست دائمًا بسيطة بقدرِ ما يمكنها أن تكون.

ومبدأ استخدِمْه أو افقِدهُ صحيح في عملية التطور بقدرِ ما هو كذلك في مجال اللياقة البدنية، لكن قد يكون هناك جانبٌ أكثر شؤمًا لهذه القصَّة.

بساطةٌ قاتلة

بينما أكتب هذه السطور في نهاية العام ٢٠٢٠، وكمثل مئات الملايين من الناس حول العالم، أنا ملازِم المنزل بسبب ظهور فيروس كوفيد-١٩، تلك الكرة التي يبلغ حجمها ١٠٠ نانومتر؛ أي إن حجمه أصغرُ من حجم كرة القدم بمقدار ١٠ ملايين ضعف. هذا الجسيم الدقيق، الذي يكون خاملًا تمامًا خارجَ أي خلية حيَّة، جعل العالَم الإنساني بأسرِه تقريبًا راكعًا على ركبتيه.

ورغم أن هناك سجالاتٍ حول ما إن كانت الفيروسات كائنات حية بما أنها غير قادرة على التكاثر ذاتيًّا، فإنها تُعَد أبسطَ الكائنات القادرة على التكاثر. وعوضًا عن التكاثر ذاتيًّا، اختارت تلك الأنواع الاستغناءَ عن كل الآليات الخلوية تقريبًا والقيام عوضًا عن ذلك بمهمةٍ واحدة فقط بكفاءة قاتلة: ألا وهي حقن جينوماتها في خلايانا حيث تداهن آلياتنا الخلوية لصناعة المزيد من البروتينات الفيروسية. بعدها تجتمع تلك البروتينات بصورةٍ تلقائية فتكوِّن جسيمات فيروس جديد تندفع من خلايانا لتنقل العدوى لخلايا أخرى لتخرج من رئتينا عن طريق السعال، أو لنذرفها من جهازنا الهضمي أو لتنبثق من جروحنا الجلدية، في واقع الأمر، أي سطح خارجي يؤدِّي بها إلى عائل جديد.

في عام ١٩٧٧، وصف عالِما الأحياء جان وبيتر مدور أحدَ الفيروسات باعتباره «خبرًا سيئًا مغلَّفًا بالبروتين». الخبر السيئ هو جينوم الفيروس، والبروتين هو مادة الغلاف الفيروسي. يتكوَّن جينوم الفيروسات من حوالي ٣٠ ألف حرف جيني فقط والذي يشفِّر — حين يُقاس بوحدات البت — تقريبًا قدْرَ المعلومات نفسه الذي يحويه فصلٌ من هذا الكتاب. ولتلك المعلومات هدف واحد لا غير، هو التكاثر. لكن حين نعبِّر عن تلك النزعة نحو التكاثر الذاتي بأبسط أشكالها — والتي صقلها أبسطُ قوانين كوننا وهو الانتقاء الطبيعي — نجد أنها اكتسبت القدرةَ على قلب كل خططنا أو آمالنا أو أفكارنا أو إبداعاتنا أو طموحاتنا أو مخاوفنا أو ما نحب أو ما نكره رأسًا على عقب، وتحويلنا إلى مجرد مصانع للفيروسات. ومنطق الانتقاء الطبيعي البسيط يؤكِّد أننا سنظل مغلوبين، ما دام بإمكان الفيروس فِعْل ذلك بصورةٍ أسرع من قدرتنا على قتله.

لا أحد يعلم كيف نشأت الفيروسات. إذ إنها تختلف تمامًا حتى عن أبسط الكائنات المتكاثرة ذاتيًّا بحق وهي البكتيريا؛ لذا لم يكن من الممكن تتبُّع نسلها التطوُّري. تقول إحدى النظريات بأنها نشأت فحسب من قبيل المصادفة عند تجمُّع البروتينات مع الأحماض النووية في داخل الخلايا. في رأيي أن السيناريو الأرجح هو أنها تمثِّل المرحلةَ النهائية لمسار شفرة أوكام في مجال علم الأحياء؛ إذ صنعت جيناتٍ زائفة من الجينات في بادئ الأمر، ثم استبعدت كل المعلومات الجينية الفائضة عن الحاجة عدا الحد الأدنى من البقايا اللازمة للتكاثر الذاتي، ما نتج عنه الفيروسات. وأيًّا ما كانت أصولها، فإن الفيروسات هي البرهان الأكثر حسمًا على أن الحياة بسيطةٌ على نحوٍ شرير في بعض الأحيان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤