الفصل السادس عشر

هل عالَمُنا هو الأفضلُ في كل العوالم الممكنة؟

هايزنبرج: ترشدنا الطبيعة إلى أشكالٍ رياضية ذات بساطة وجمال مذهلين … لا بد أنك شعرت بهذا أيضًا: البساطة وكمال العلاقات اللذان يكادان يكونان مخيفين واللذان تنشرهما الطبيعة أمامنا فجأة …

أينشتاين: … لهذا السبب أنا مهتم كثيرًا بملاحظاتك حول البساطة. لكن لا ينبغي لي أبدًا أن أزعم أنني أفهم حقًّا المقصود ببساطة القانون الطبيعي.

فيرنر هايزنبرج في حوار مع ألبرت أينشتاين، ١٩٢٦1

حين تركنا الفيزياءَ لنتعرض لعلم الأحياء في الفصل الثالث عشر، كان علماء القرن التاسع عشر قد حقَّقوا بالفعل إنجازاتٍ هائلة في تطبيقهم للقوانين البسيطة على حركة الأجسام في كلٍّ من الأرض والسماء. في الواقع، زعم الفيزيائيون أن الفيزياء تتمتَّع بالكمال إلى حدٍّ كبير. إلا أن العالِم الفيزيائي اللورد كلفن (١٨٢٤–١٩٠٧) المولود في شمال أيرلندا حذَّر في اجتماعٍ للجمعية البريطانية لتقدُّم العلوم قربَ نهاية القرن التاسع عشر من أن هذا التقييم المتفائل تُعارِضه «غمامتان صغيرتان» تلوحان في الأفق، مشكلتان كان لا يزال على الفيزياء أن تجِد لهما حلًّا. ومما يَلفت النظر أن انقشاع هاتين الغمامتين أطلق ثورتين أسقطتا معظمَ الثوابت التي كانت سائدة في فيزياء القرن التاسع عشر.

كلتا الغمامتان اللتان أشار إليهما كلفن كانت معنيَّة بطبيعة الضوء. قبل ما يقارب القرنَ من الزمان، كان توماس يانج (١٧٧٣–١٨٢٩) قد برهن على أن الضوء يتحرَّك في شكل موجات، بما يشابه موجات الصوت والماء من حيث المبدأ. وتحتاج الموجات إلى وسط كالماء أو الهواء لتنتقلَ خلاله. كان يانج قد برهن أن الضوء يتحرَّك عبْر فراغ؛ حيث يتحتَّم عليه ذلك ليصلنا إما من الشمس أو من نجم بعيد. فما الذي يمكن أن يتحرَّك في فراغٍ لينقُل موجات الضوء؟

لم يكن لدى أحد أدنى فكرة. وفي شيء من اليأس، أعاد العلماء إحياءَ مفهوم الأثير السماوي الذي يعود إلى أرسطو. ستذكُر أن أرسطو لكي يجعل نظريته عن الحركة تعمل والتي تقول بأن «أيًّا ما يتحرَّك فهو يتحرَّك بفعل شيء آخر»، ملأ الفراغ بين الأشياء بملاء يتكوَّن في السماء من الأثير. ورغم أن هذا المفهوم أضحى مهجورًا على نحوٍ كبير بعد برهنة بويل أن الطبيعة لا تمقت الفراغ، فإن تجارب يانج أعادت إحياءَ فكرة أرسطو عن ملاء الأثير ككيان لملء الفراغ بما يقدِّم وسَطًا تتحرَّك خلاله موجات الضوء. عِلاوة على ذلك، كان للأثير ميزةٌ إضافية وهي ملء تلك الفجوة التفسيرية في فيزياء نيوتن، وذلك من خلال تقديم إطار يمكن ضمنه دائمًا قياسُ سرعة جسمٍ ما أو تسارُعه. كان نيوتن قانعًا بأن يسمح لعين الرب بأن تقدِّم مثل ذلك الإطار، لكن بحلول أواخر القرن التاسع عشر، كان الفيزيائيون أكثر تقبُّلًا لأثيرٍ مادي.

أولى أحجيتَي اللورد كلفن كانت تتعلَّق بطبيعة هذا الأثير. إن كان هذا الأثير قاعدةً خفية من نوعٍ ما لموجات الضوء تملأ الفضاء كله، فينبغي أن يكون من الممكن قياس سرعة أي جسم بالنسبة إلى الأثير، تمامًا كما يمكن قياس سرعة قارب بالنسبة إلى مياه البحر. بالطبع هذه المهمة أكثرُ صعوبة بكثير؛ حيث إن موجات الضوء تتحرَّك بسرعةٍ تصل إلى ٣٠٠ مليون متر في الثانية، وهذا أسرع بصورةٍ مهولة من أي جسم يتحرَّك على الأرض. لكن في العام ١٨٨٧، أتى العالِمان الأمريكيان ألبرت ميكلسون وإدوارد مورلي بفكرةٍ ذكية وهي قياس سرعة الضوء بالنسبة إلى أسرع جسم يتحرَّك على الأرض، وهو بالنسبة إلى الشمس الأرضُ نفسها. تدور الأرض حول محورها بسرعة تصل إلى ٤٤٧ مترًا في الثانية كما تدور حول الشمس بسرعة تصل إلى ٣٠ ألف متر في الثانية. وقد أدرك الفريق، على نحوٍ أشبه بتأثير دوبلر، أن سرعة الضوء ينبغي أن تكون مختلفة إذا قيست في اتجاه حركة الأرض؛ أي عبْر الأثير أو على نحو عمودي على ذلك الاتجاه.

إلا أن سرعة الضوء لم تختلف. ورغم أنهما بذلا أفضلَ ما يمكنهما، فقد كانا دائمًا ما يرصدان سرعةَ الضوء نفسها تمامًا، بغض النظر عما إن كانت الأرض تتحرَّك في اتجاه موجات الضوء أو بعيدًا عنها. وهذا لم يكن منطقيًّا في ظل نظرية عن الضوء تقوم على موجات الأثير، وهو شيء وجد اللورد كلفن أنه مزعج.

كانت ثانية غمامتَي كلفن هي مشكلة في نظرية الديناميكا الحرارية الكلاسيكية. في وقتٍ مبكِّر من القرن التاسع عشر، كان ماكسويل وبولتسمان قد جمعا بين نظرية كارنو عن نقل الحرارة وميكانيكا نيوتن ليستقيا نظريةَ الديناميكا الحرارية الحديثة أو الميكانيكا الإحصائية. نتج عن هذا تصوُّر لمادة تتكوَّن من تريليونات الذرَّات تتسبَّب حركتها العشوائية في توليد حرارة. وحين يتفاعل الضوء مع المادة يمكن امتصاصه لزيادة الطاقة الحرارية — أو السرعة — الخاصة بالذرَّات. في المقابل، يمكن إبطاءُ حركة الذرَّات من خلال انبعاث الطاقة الضوئية. كانت نظرية الديناميكا الحرارية الكلاسيكية تعمل جيدًا إلى حدٍّ كبير فيما يتعلَّق بتفسير البيانات إلا أنها لم تنجح في تفسير طيف الإشعاع المنبعث من جسمٍ معروف باسم الجسم الأسود، والذي يمتص كلَّ الضوء الساقط عليه. مثال تقريبي جيِّد على ذلك هو ثقب في جدار في غرفة شديدة الإظلام، لكن من الأسهل أخذ فكرةٍ عن هذه المشكلة بالانتقال إلى عالَم الصوت المألوف أكثر.

هبْ أنك تملك بيانو كبيرًا. وهبْ كذلك أنك أمسكت بمرزبة وضربت بها البيانو ضربةً هائلة (لن يتعرض أي بيانو كبير للضرر في هذه التجربة الذهنية). البيانو يعجُّ بالأوتار وسينتج عن الضربة أن تهتزَّ كلُّ تلك الأوتار بكل التردُّدات الممكنة مما ينتج عنه تنافرُ نغماتٍ يخفُتُ ببطء حتى يصبح همهمةً خافتة. حين تُسخَّن الأجسامُ السوداء — وهي المكافئ الجزيئي لامتصاص ضربة قوية من مرزبَّة — فإنها تبعث بالضوء في حزمةٍ محدودة تعتمد فقط على درجة حرارة الجسم الأسود، وذلك عوضًا عن بعث الضوء بكل التردُّدات الممكنة. الأمر أشبه، بعد ضرب البيانو الكبير الخاص بك، بأن يبعث نغمةً واحدة هي نغمة «دو» وسطى، والتي تتحوَّل إلى «ري» أو «مي» إذا ما أجريت تجربةَ الضرب بالمرزبة في حجرةٍ أكثرَ دفئًا. لاحظ كلفن أن هذا في غاية الغرابة، كثبات سرعة الضوء.

بساطةٌ نسبية

رُويت قصةُ انكشاف غمامتَي كلفن الصغيرتين في العديد من الكتب الرائعة؛2 لذا سأركِّز فحسب على إبراز دور البساطة فيها. إذ تشتمل كلتاهما على عمل موظَّف تسجيل براءات اختراع استثنائي من مدينة برن.

وُلِد ألبرت أينشتاين في عام ١٨٧٩ في مدينة أولم بألمانيا، وهو ابن هيرمان أينشتاين — التاجر والمهندس الكهربائي — وبوليني كوخ. وبعد فترةٍ صعبة من التعليم، درس الفيزياء والرياضيات في زيوريخ لكنه بعد تخرُّجه لم يتمكَّن من الحصول حتى على أبسط وظائف التدريس الجامعي. لكن لحسن الحظ، في العام ١٩٠٢، عرض أحد أصدقاء والده عليه وظيفةَ خبير فني في مكتب تسجيل براءات الاختراع في مدينة برن. ورغم أن العمل كان روتينيًّا، فإن ألبرت كان مسرورًا كثيرًا بوظيفته. فزعم لاحقًا أنه في «ذلك المعتزَل الدنيوي تفتَّق ذهني عن أجمل أفكاري». وكانت إحدى أجمل أفكاره هي حلًّا محتمَلًا لمشكلة سرعة الضوء عبْر الأثير عند كلفن. إلا أن اهتمام أينشتاين بالمشكلة لم يكن بسبب تجارب ميكلسون ومورلي. في واقع الأمر، يبدو أنه كان غيرَ مطَّلع على عملهما. عوضًا عن ذلك، كان أينشتاين منزعجًا بفعل إحدى الحقائق الغريبة الأخرى والتي لم يفلح كلفن في الانتباه إليها فيما يتعلَّق بسلوك الآلات الكهربائية.

يعرِض عمل الفيزيائي الاسكتلندي جيمس كليرك ماكسويل لأصل هذه المشكلة؛ حيث اكتشف في العام ١٨٦٥ مجموعةً من المعادلات البسيطة التي تشرح سلوك كلٍّ من الكهرباء والجذب المغناطيسي بلغة «المجالات». في علم الفيزياء، يُستخدم هذا المصطلح لوصف أحجام الحيز التي تسبِّب حركةَ الأشياء. وهكذا فإن حركةَ التفاحة الساقطة من شجرة سببُها المجال المغناطيسي للأرض؛ وانجذاب إبرة البوصلة إلى القطب الشمالي يسبِّبه المجال المغناطيسي للأرض؛ وحركة خيط من القطن تجاه الكهرمان تسبِّبها مجاله الكهربائي. وجد ماكسويل مجموعةً واحدة من المعادلات التي تصف كلًّا من الكهرباء والجذب المغناطيسي فيما يتعلَّق بالمجالات، مبرهنًا على أنهما كليهما جانبان لمجال «كهرومغناطيسي» واحد. في واقع الأمر، ما يبدو قوةً كهربائية لراصد متحرِّك يُرى كقوة مغناطيسية لراصد ثابت والعكس صحيح. مِن ثَمَّ حين كتب ماكسويل معادلاته فإنه وحَّد قوتَي الحجر المغناطيسي والكهرمان تحت قوة «الجذب الكهرومغناطيسي» ليتحصَّل على أول توحيد — ومِن ثَمَّ تبسيط — بارز للفيزياء الكلاسيكية.

على الأرجح أن معادلات ماكسويل حقَّقت أهمَّ توحيد في علمِ الفيزياء بأسرِه وعليه جعلت العالَم أبسطَ بصورة هائلة. إلا أن هذا التوحيد كان قد حدث قبل عدة عقود من تأمُّلات أينشتاين في مكتب تسجيل براءات الاختراعات. ما أثار اهتمامَ أينشتاين كان وجهَ تبسيطٍ أكثرَ إذهالًا حتى في معادلات ماكسويل. كانت المعادلات تتنبأ بأن المجال الواقع حول جسمٍ مشحون كهربيًّا يتذبذب في الفضاء سيولِّد تذبذبًا في المجال الكهرومغناطيسي المحيط والذي سيشعُّ بعيدًا عن الجسم بسرعة نحو ٣٠٠ مليون متر في الثانية. عرف ماكسويل تلك السرعة. كانت هي سرعة الضوء في الفراغ. فكان استنتاجه المذهل أن الضوء هو تموُّجات في المجال الكهرومغناطيسي يتولَّد بفعل شحنات متذبذبة داخل المادة، والتي نعرف اليوم أنها الإلكترونات.١ لم يستوعب التوحيدُ الذي قام به ماكسويل الكهرباءَ والجذبَ المغناطيسي فحسب، بل أيضًا الضوء الذي ينير الكون. كان الضوء أحدَ أوجه القوة الكهرومغناطيسية.

بين فترات استعراض طلبات الحصول على براءات الاختراع في مكتب مدينة برن، تأمَّل أينشتاين العلاقةَ بين الضوء والكهرباء. إذ كانا كلاهما من قضايا الساعة. بحلول ذلك الوقت، كانت الثورة الصناعية قد تحوَّلت من البخار إلى القوة الكهربية وأسَّس هيرمان والدُ أينشتاين مع أخيه جاكوب شركةَ أينشتاين آند سي، وهي شركة هندسة كهربائية تعمل في ميونخ. كان مكتب أينشتاين بحلول ذلك الوقت مُضاءً بمصابيحَ كهربائية، والتي سوَّق لها تجاريًّا إديسون وسوان قبل عَقدين فقط من وقتها. كان عدد كبير من الاختراعات المقدَّمة لمكتب مدينة برن عبارة عن آلات كهربائية. وكان السؤال الذي فكَّر أينشتاين فيه بينما يفحص طلبات براءات الاختراع هو: ما القيمة التي ينبغي له أن يستخدمها لسرعة الضوء إذا كان سيصمِّم آلةً كهربائية مبنية على معادلات ماكسويل؟

تذكَّر سفينةَ جاليليو التي قد تكون الطيور أو الأسماك أو البحارة في المقصورة الرئيسية فيها غيرَ مدركين أنهم يتحرَّكون. لو أنهم كانوا يحملون آلةً كهربائية على متن تلك السفينة، فهل سيستخدمون سرعةَ الضوء بالنسبة إلى جدران المقصورة حين يحسبون كيف تعمل، أم إنهم سيستخدمون سرعةَ الضوء بالنسبة إلى الشاطئ الذي يتباعد عن السفينة؟ إن كانت سرعة الضوء نسبية — كأي سرعة أخرى — فإن قوانين الفيزياء ستختلف باختلاف الراصدين اعتمادًا على الطريقة التي يتحرَّكون بها. وقد وجد أينشتاين هذه الفكرة مزعجة.

إعادة بناء الفيزياء من القاعدة إلى القمة

فكَّك ويليام الأوكامي الفلسفةَ المدرسية العصرأوسطية — وعلومها اللاهوتية — محتفِظًا بأبسط مبادئها، وهو أن الرب مطلق القدرة، ثم فحص تبِعات ذلك. وبعد ذلك بقرون، فكَّك رينيه ديكارت الفلسفةَ الغربية ثم أعاد بناءها انطلاقًا من قناعته البسيطة بأننا لا يمكن لنا أن نعرف شيئًا على وجه اليقين سوى الفرضية التالية: «أنا أفكِّر إذن أنا موجود». وقد اتخذ أينشتاين منهجًا مشابهًا تجاه علم الفيزياء. إذ كان مقتنِعًا بالفاعلية العمومية لقوانين ماكسويل، ورأى أنه — لكي يجعل تلك القوانين عمومية — ينبغي أن تكون سرعةُ الضوء متساوية لكل الراصدين الذين يتحرَّكون بشكل موحَّد.٢ وقد شدَّد أينشتاين على أن الضوء — على عكس كل شيء آخر في الكون — لا يمكن أن ينصاع لنسبية جاليليو.

قد يبدو هذا بيانًا بسيطًا، إلا أن نتائجه صادمة. لكي نكتسب فكرةً عن مدى غرابة ذلك، سنُجري ما أطلق عليه أينشتاين تجربةً ذهنية، وذلك بتخيُّل أن موجات البحر تتصرف كموجات الضوء. سنتخيَّل أيضًا أنك على وشْك الصعود على متن قارب سريع راسٍ إلى مرفأ عند الجهة الغربية من ميناء سان ماركو بالبندقية، والذي لا يبعُد كثيرًا عن مدينة بادوفا التي توجد بها الجامعة التي عمل بها جاليليو. هناك يصدف أن أمواج البحر تتدفَّق بصورة موازية للساحل من جهة الشرق إلى جهة الغرب على طول مقدمة القارب، والسبب في ذلك يُعزى إلى تيارٍ عجيب في البحر الأدرياتيكي.

وفيما تقف أنت وصديقتك — والتي تُدعى أليس — على المرفأ في سان ماركو، تلاحظ أن الأمواجَ تتحرَّك على طول قاربك مستغرقةً ثانيتين لتقطع المسافةَ من مؤخِّرة القارب إلى مقدِّمته. وأنت تعلم أن طول قاربك يبلغ ١٠ أمتار، ومِن ثَمَّ يمكنك بسهولة حسابُ سرعة الأمواج والتي ستبلغ ٥ أمتار في الثانية. سيكون هذا هو المكافئ المائي لسرعة الضوء التي ينبغي أن تكون متماثلة لدى كل الراصدين. تصعد على متن قاربك، وكما فعل جاليليو تأخذ معك قفصَ طيور به مجموعةُ طيور درَّة ترفرف بأجنحتها، وحوض سمك تسبح به بضع سمكات ذهبيات، لكنك ستصحب أيضًا كلبًا صغيرًا يُدعى باد، وقد سُمِّي تيمنًا بجامعة جاليليو المفضَّلة.

يجد باد متعةً في الجري على طول سطح القارب، بحيث يساير الأمواجَ سرعة. باد كلبٌ صغير في غاية الروعة ويمكنه أن يساير الأمواجَ السريعة التدفُّق بحيث يستغرق ثانيتين فقط ليقطع المسافةَ من مقدمة القارب إلى مؤخرته. وأيضًا تقيس أليس — التي تشاهد من الشاطئ — سرعةَ باد في الجري التي تكون ثانيتين. تلوِّح وداعًا لأليس، وتدير محرِّك القارب وتضبط سرعته على سرعةٍ ثابتة بمعدَّل مترين في الثانية، فتخرج من الميناء في الاتجاه نفسه الذي تسلكه الأمواج. تسمع هدير المحرِّك وترى رذاذ الماء يتطاير من مؤخِّرة القارب. وحين تصل إلى سرعة ثابتة، تتفقَّد حديقةَ حيوانك وتتأكَّد — كما توقَّع العالِم الإيطالي العظيم — من أن الطيور تطير والأسماك تسبح غيرَ مبالية بحركة القارب بالنسبة إلى الشاطئ. وكما شدَّد جاليليو، تكون حركة الحيوانات بالنسبة إلى القارب هي كل ما يُهم. فالسرعة نسبية.

بتحرُّكك بسرعة مترين في الثانية في الاتجاه نفسه الذي تتحرَّك به الأمواج، ستتنبأ أن السرعة النسبية للأمواج على طول مقدِّمة قاربك ستكون ٣ أمتار في الثانية (٥ ناقص ٢). ينبغي لباد أن يكون أقلَّ شعورًا بالإرهاق كثيرًا في لعبة مسايرة تلك الأمواج. إلا أنك حين تسمح له بالانطلاق نحو مؤخِّرة القارب، يتعيَّن عليه ثانية أن يَجري بأقصى سرعة ليصل إلى مقدمة القارب مع الأمواج. فهل أبطأ باد من سرعته؟ ولكي تريحه، تدفع بعصا السرعة إلى الأمام حتى تصل إلى سرعة ٤ أمتار في الثانية. بهذه السرعة، حين تكون كدت تساير سرعة الأمواج، تتوقَّع أن تساوي السرعة النسبية للأمواج عند مقدمة القارب مترًا واحدًا فقط في الثانية. ينبغي لوتيرة سيرِ باد أن تكون مسايرةً لسرعة الأمواج الآن. إلا أنه لا يزال يكافح من أجل أن يساير تلك الأمواج السريعة التي تستمر في قطع المسافة من مقدمة القارب إلى مؤخِّرته بسرعة ٥ أمتار في الثانية. تنظر إلى الشاطئ متحيرًا ويمكنك أن ترى برجَ جرس ميناء سان ماركو يتلاشى خلفك تمامًا كما توقَّعت. لكن من منظورك أنت في مقابل الأمواج، أنت ثابت تمامًا، تمامًا كما كنت في المرفأ، وسان ماركو تتلاشى مبتعدةً عنك بسرعة ٤ أمتار في الثانية. فتدفع من تحيُّرك عصَا السرعةِ إلى الأمام لتصل إلى سرعتك القصوى وهي ٥ أمتار في الثانية، وهي نفس سرعة الأمواج. ينبغي لك الآن أن تكون مسايرًا لتلك الأمواج المنتظِمة. لكن لا يزال يتعيَّن على باد أن يَجري بأقصى سرعته ليسايرها؛ حيث إنها تعاند فتمرُّ على مقدمة قاربك بسرعة ٥ أمتار في الثانية. وبمجرد أن تخرج إلى البحر، بعيدًا عن أي أرضٍ تلوح في الأفق، يمكنك أن تدفع بعصا سرعتِك بقدرِ ما يمكنك؛ إذ إن ذلك لا يشكِّل فارقًا بالنسبة إلى تقدُّمك عبْر الأمواج. وطبقًا لهدير المحرِّك والرذاذ المتطاير من مؤخِّرة قاربك، أنت تنطلق بسرعتك القصوى، إلا أنك ثابت تمامًا، وذلك من منظور حركتك في مقابل حركة الأمواج، وكأنك تقطَّعت بك السبل في بحرٍ رتيب تستمر أمواجُه في التحرُّك على مقدمة القارب بسرعة ٥ أمتار في الثانية. حركة هذه الأمواج المشابهة للضوء ترفض بكل عنادٍ أن تنصاع إلى نسبيةِ جاليليو.

والموقف أكثرُ غرابة حتى من على الشاطئ. فقد أحضرت أليس نسخةً طبْقَ الأصل من أقوى تلسكوبات جاليليو بحيث يتسنَّى لها مراقبة تقدُّمك من المرفأ. ترى أليس باد وهو يُهرع على سطح المركب، لكنها تلاحظ شيئًا مثيرًا للفضول. فبينما يتسارع قاربك من ٠ إلى ٢ ثم إلى ٤ أمتار في الثانية، يبدو ما يحققه باد من تقدُّم بالجري على سطح المركب أنه يصبح بطيئًا. فبدلًا من أن يستغرق ثانيتين فقط من أجل أن يسابق الأمواجَ على سطح القارب، يستغرق الآن ما يقارب ٤ ثوانٍ، ويبدو كما لو أنه يجري بحركة بطيئة. وحين يصل قاربك إلى أقصى سرعته وهي ٥ أمتار في الثانية، تبدو أنت وباد كلاكما ثابتين، وكأنكما جامدان في لحظةٍ من الزمن. فما الذي يحدث؟

الإجابة هي أن الأمواج في تجربتنا الذهنية تتصرَّف الآن وكأنها موجات ضوء لها نفس السرعة في عين كل الراصدين لها. وحيث إن هرولة باد على طول سطح المركب تساير تلك الأمواج، إذن يمكنك أنت على سطح المركب ويمكن كذلك لأليس وهي تقف على المرفأ أن تستخدما حركةَ الكلب لقياس سرعة الضوء، وينبغي لكما أن تجدا الإجابةَ واحدةً، وذلك من أجل أن تكون معادلات ماكسويل متماثلة لديكما. لم يكن هذا يمثِّل مشكلة على الشاطئ، لكن بمجرد أن تكون هناك حركة نسبية بينكما، يتغيَّر كل شيء.

انظر إلى حين تنطلق مبتعِدًا عن أليس بسرعة ٤ أمتار في الثانية. من منظورك (أ، في الشكل ١٦-١)، لم يتغيَّر شيء من الموقف حين كان القارب راسيًا على المرفأ. إذ يقطع باد مسافةَ الأمتار العشرة على طول سطح القارب بسرعة مساوية لسرعة الضوء وهي ٥ أمتار في الثانية، فيستغرق ثانيتين ليصل إلى مقدِّمة القارب. لكن من منظور أليس (ب، في الشكل ١٦-١)، تُصبح المسافة التي قطعها باد الآن لها مكوِّنان. أولًا يجري باد مسافة ١٠ أمتار بطول سطح القارب. لكن في ذلك الوقت، يكون القارب هو نفسه قد قطع أيضًا مسافة ٨ أمتار مبتعدًا عن المرفأ. من منظور أليس يكون باد قد قطع مسافة هي مجموع ١٠ و٨ أمتار، أي ١٨ مترًا. إن كانت أليس في نفس النطاق الزمني الذي أنت فيه، فإن باد سيكون قد قطع تلك الأمتارَ الثمانية عشر في ثانيتين فقط بسرعة ٩ أمتار في الثانية، ومِن ثَمَّ يكون أسرعَ من الشيء القائم بمقام سرعة الضوء. ومراعاة لتشديد أينشتاين على أن سرعة الضوء متماثلة في عيون جميع راصديها، ينبغي لشيء أن يتنازل. ولا يمكن أن يكون هذا سوى الزمن.

حيث إن باد يساير سرعةَ الضوء، إذن ينبغي له — من منظور أليس — أن يستغرق ٣٫٦ ثوانٍ (١٨ مقسومة على ٥) ليقطع مسافة ١٨ مترًا كاملة، وهي المسافة من مؤخرة القارب إلى مقدمته. فالحدث الذي استغرق ثانيتين فقط — من منظورك — ينبغي له أن يستغرق ٣٫٦ ثوانٍ عند أليس. أنتما الآن تعايشان الحدثَ نفسه، لكن من إطارين زمنيِّين مختلفَين. وحين تنطلق أنت بأقصى سرعة للضوء، فإن الزمن عندك — من الإطار الذي تشاهد منه أليس — يظل ثابتًا.

fig33
شكل ١٦-١: النسبية الخاصة على متن قارب.
حلَّ أينشتاين هذه المعضلةَ في نظريته عن «النسبية الخاصة» بأن شدَّد على أن الزمان والمكان تجمعهما علاقةٌ تبادلية. يُصبح الزمان والمكان — بالأحرى على نحوٍ أشبه بالكهرباء والجذب المغناطيسي — مكوِّنين لكيان واحد أطلق عليه أينشتاين «الزمكان». إحدى طرائق النظر إلى هذا هو اختزال أبعاد المكان الثلاثة إلى بُعد أفقي واحد، ويكون الزمان بُعدًا زمنيًّا رأسيًّا (ج، في الشكل ١٦-١). وحين تكون أنت وأليس ثابتين — أحدكما بالنسبة إلى الآخر — فإنكما تتحرَّكان بسرعة الضوء عبْر بُعد الزمان، لكن سرعتكما عبْر بُعد المكان تكون صفرًا. وبينما تزداد سرعتكما النسبية، ينبغي لسرعتيكما عبْر الزمكان أن تظلَّ دائمًا مساويةً لسرعة الضوء (طول السهم في الشكل ﺟ). ولكي تزيد من سرعتك عبْر المكان، ينبغي لك أن تتحرَّك بسرعة أبطأ عبْر الزمان. وإن تمكَّنت من زيادة السرعة لتصل إلى سرعة الضوء،٣ يمكنك إذن أن تسافر حول الكون في زمنٍ لا يُذكر؛ حيث سيكون ما تحرِزه من تقدُّم عبْر بُعد الزمان هو صفر. هذا التكافؤ بين الزمان والمكان ضِمن الزمكان يقع من نظرية النسبية الخاصة محلَّ القلب. إذ أصبح كيانان مختلِفان تمامًا أحدهما عن الآخر عنصرين مكوِّنين لكيان واحد. وهكذا، يكون قد أصبح العالَم مرة أخرى أبسطَ بمقدار درجة، وإن كان أكثرَ غرابة.

ينبغي لي أن أؤكِّد أنه لا يوجد سببٌ يجعل سرعةَ الضوء تتصرف بهذه الطريقة بعينها؛ أي أن تكون متماثلة في عيون كل الراصدين لها. إذ ليس هناك من قانونٍ أعمقَ يتنبأ بها. عوضًا عن ذلك، هي إحدى اللبنات التي بُني بها كوننا وثابت أساسي نرصد قيمته ولا نتوقَّعها. إلا أن سرعة الضوء لو انصاعت إلى نسبية جاليليو، فإن قوانين الفيزياء — كما أدرك أينشتاين — ستكون مختلِفة بالفعل باختلاف الراصدين لها، ما يخلق كونًا سيكون أعقدَ بكثير من كوننا. إن ثبات سرعة الضوء الغريب جدًّا هذا هو ما يجعل كوننا يحافظ على بساطته.

كانت ورقة أينشتاين البحثية عن النسبية الخاصة واحدةً من بين أربعٍ نشرها في أعظم أعوام عمره، وهو عام ١٩٠٥. وقد رسَّخت تلك الأوراق البحثيةُ لشهرته كأحد أعظم الفيزيائيِّين في عصره، وجعلته يستحق عدةَ عروض للعمل؛ الأمر الذي حمله على تركِ مكتب مدينة برن لتسجيل براءات الاختراع لشغل عدة مناصب متتابعة في جامعات برن وزيوريخ وبراغ وجامعة هومبولت ببرلين. لكن وخلال نحو السنوات العشرين التي تلت ذلك، كانت هناك مشكلتان في النسبية الخاصة تقضَّان مضجعه: النظرية فشلت حين تعلَّق الأمر بالأجسام المتسارعة أو الأجسام الخاضعة للجاذبية. أيضًا، وجد أينشتاين، مثلنا (ارجع إلى الفصل الحادي عشر)، أنه من الغريب حين نستخدم قوانين نيوتن لحساب تسارع الجاذبية الذي يعايشه جسمٌ ساقط أن علينا أن نضرب أولًا في كتلة ذلك الجسم ثم نعود ونقسم على تلك الكتلة نفسها.

شفرة أينشتاين

الطبيعة هي تجسيد لأبسط الأفكار الرياضية الممكنة.

ألبرت أينشتاين، ١٩٣٣3

طوال عَقد من الزمن، عانى أينشتاين من أجل تضمين التسارع والجاذبية في نظريته عن النسبية. كان هناك عالِم فيزياء ألماني آخرُ يبحث في ذلك، وهو ماكس أبراهام، إلا أن أينشتاين كان يزدري منهج أبراهام القائم على البحث عن أبسط الحلول أو أجملها؛ إذ كتب يقول: «خُدعت تمامًا بجمال معادلاته [يقصد أبراهام] وبساطتها». وذهب أينشتاين إلى إلقاء لائمة فشله على «ما يحدث حين يعمل المرء بالاعتماد على الناحية الشكلية [أي البحث عن حلول رياضية جميلة] من دون التفكير بصورة مادية».

كان منهج أينشتاين يقوم على إنشاء معادلاتٍ تتسق مع أكبر قدرٍ ممكن من الملاحظات، بغض النظر عن مدى التعقيد الذي تُصبح عليه. ولم يكن يتحقَّق حتى من أن المعادلات التي أنشأها سليمة رياضيًّا إلا لاحقًا. أخذ يشق طريقه عبْر المعادلات المعقَّدة واحدةً تلو الأخرى، وفي كل مرة حين يصل إلى مرحلةِ التحقُّق من صحة نظريته رياضيًّا كانت المعادلات تخفق مرةً بعد أخرى.

في تلك المرحلة من مسيرته، كان أينشتاين يتجنَّب شفرة أوكام في صالح ما يُسمى ﺑ «الشمول»: أي تضمين القدر الأكبر من المعلومات المتاحة في نموذجٍ ما. قد تتذكَّر أن هذه هي المسألة نفسها التي كانت أساسَ السِّجال بيني وهانس ويسترهوف حول دور شفرة أوكام في علم الأحياء. إذ دافع هانس عن مبدأ الشمول، مثل أينشتاين في هذه المرحلة من عمله. لكن وبينما تزداد النماذج تعقيدًا، يزداد كذلك عددُ البدائل بصورةٍ أسِّية: انظر كم عدد الأشكال التي يمكنك عملها بستة أو ستين أو ستمائة من مكعبات لعبة الليجو. بعد سنوات عديدة من البحث غير المثمر عبْر الفضاء الفسيح للنماذج الممكنة، غيَّر أينشتاين في نهاية المطاف مسلكَه بتبنيه للمنهج الذي استغرق في استنكار اتباع أبراهام له، وهو منهج العمل أولًا «بالاعتماد على الناحية الشكلية من دون التفكير بصورة مادية». اعتنق أينشتاين شفرة أوكام من حيث قبول المعادلات الأبسط والأجمل فقط، ولم يختبرها بالمقارنة مع الحقائق المادية إلا لاحقًا. وقد نال مرادَه هذه المرة. ففي عام ١٩١٥، أتى «بنظرية لا مثيل لجمالها»، فكانت نظريته العامة عن النسبية.

كانت الفكرة التي أدَّت إلى ظهور نظرية النسبية العامة هي إدراك أينشتاين أنه لا سبيل إلى التفريق بين الجاذبية والتسارع. وتكافؤهما — الذي يُعرف الآن باسم «مبدأ التكافؤ» — هو شيء نصبح مدركين له متى، على سبيل المثال، أقلعنا بطائرة وشعرنا بتحوُّل ثِقَل وزننا من المؤخرة إلى الظهر. وقد أدرك أينشتاين أن إحساسنا بالجاذبية والتسارع متماثل في كليهما؛ لأنهما نفسيهما متماثلان، ومِن ثَمَّ فإننا يجب أن نصفهما بمجموعة واحدة من المعادلات. هذا التبصُّر ألهم أينشتاين نظريتَه عن النسبية العامة وتوصيفها الشائع الآن لالتواء الزمكان بفعل الأجسام الهائلة الحجم كالكواكب والنجوم. أصبحت الجاذبية تسارعًا ظاهرًا كما نشعر به أثناء التحرُّك في شكل بيضاوي أو في شكل قطع مكافئ في المكان، لكن أيضًا كخط مستقيم في الزمكان. وباعتبار الجاذبية شيئًا يتميَّز عن معالم الزمكان، فقد أصبحت كيانًا فائضًا عن الحاجة وأصبح الكون أبسطَ بمقدار درجة أخرى.

كما أشار أينشتاين أيضًا إلى أن مفهومه الجديد عن الجاذبية حلَّ لغزَ سببِ دخول الكتلة إلى معادلة نيوتن فقط لنستبعدها فيما بعدُ حين يتعلَّق الأمر بحساب التسارع الناجم عن الجاذبية. ففي نظرية أينشتاين عن النسبية العامة، الجاذبية هي تسارُع سببُه التواء الزمكان، عوضًا عن كونها قوة. ومِن ثَمَّ فإن كتلة جسمٍ ساقط لا تدخل إلى حسبة معدَّل سقوطه. وفي النظرية العامة، تُعَد الجاذبية بالتالي «قوة خيالية» وليست إحدى قوى نيوتن.

نجاح النظرية العامة دفع أينشتاين إلى تبنِّي رأي معاكس عن رأيه حول البساطة والجمال، وأصبح من بعدها يشدِّد دائمًا على أن البحث عن البساطة الرياضية شيء أساسي. فنصح قائلًا: «يمكن اختبار النظرية بالتجريب، لكن لا سبيلَ إلى البدء به من أجل إنشاء نظرية». أينشتاين هنا يبيِّن في الأساس المشكلةَ العكسية، وهي أنه من السهل الانتقال من نظام (معادلة) بسيطة إلى حساب مخرجاتها المعقَّدة، لكن من المستحيل في غالب الأحيان فِعْل العكس. وذهب أينشتاين إلى الدفع بأن «المعادلات بهذا القدرِ من التعقيد … لا يمكن أن نصل إليها إلا من خلال اكتشاف شرط رياضي بسيط منطقيًّا يحسم أمرَ المعادلات بصورة تامة أو شبه تامة».4 ومنذ ذلك الحين وصاعدًا، دائمًا ما كان أينشتاين يضع ثقتَه في البساطة متعظًا بتجربته.

أكان بطليموس محقًّا في نهاية المطاف؟

قبلَ أن نترك نظريةَ النسبية، سنعيد زيارةَ صديقنا الإسكندري بطليموس لنلقي نظرةً أخرى على نظامه البارز القائم على فكرة مركزية الأرض، والمعتمدِ على أفلاك التدوير والنقاط اللامركزية ونقاط معدَّل المسار. كما أشرنا بالفعل، كان هذا النظام يعمل بصورة رائعة على نحوٍ مثير للدهشة رغم ما كان يحويه من أوجهِ تعقيد مفرطة؛ الأمر الذي يعود بنا إلى السؤال الذي واجهناه عدةَ مرات في نماذج بطليموس وكوبرنيكوس أو في نظرية الفلوجيستون، وهو: كيف يمكن لنموذج خاطئ أن يُنتِج هذا القدر من الصواب؟

fig34
شكل ١٦-٢: المنظور الشمسي المركز (إلى اليمين) في مقابل المنظور الأرضي المركز (إلى اليسار) لمدار كوكب الزهرة على مدى فترةٍ قدرُها اثنان وثلاثون عامًا. توجد الشمس في مركز المدار الشمسي المركز ومدارها هو الدائرة الكاملة في الصورة التي على اليمين. والأرض هي مركز المدار الأرضي المركز.
الإجابة هي أن بطليموس لم يكن مخطئًا؛ بل كان يزيد من التعقيد فحسب. في النسبية العامة، من الجائز تمامًا أن تجعل من أي نقطة في الكون مركزَ نظامك وتقوم بحساباتك بناءً على ذلك. لكن بعض النقاط تكون أكثرَ تعقيدًا من غيرها. وباعتبار أن الشمس هي الجسم الأكثر ضخامة إلى حدٍّ كبير في نظامنا الشمسي، فإن تأثيرها يفوق كل تأثيرات الجاذبية الأخرى. ووضعها في مركز النظام يكافئ الانتقالَ من الشاطئ إلى متن سفينة جاليليو الخيالية لتبسيط الحركات الملحوظة لكل الأشياء على متنها. من الجائز تمامًا العودةُ مجازيًّا إلى الشاطئ بوضع الأرض في مركز نظامك، لكنك بحاجة لأن ترسم دوائرَ أكثرَ بكثير (انظر الشكل ١٦-٢). لم يكن بطليموس مخطئًا، ومن الإشادة بعبقريته أنه تمكَّن من إنشاء نظام يعمل بصورة رائعة، لكنه زاد من تعقيد الأمور وأدَّى تطبيق شفرة أوكام إلى حلول أبسط.

إن قدرًا كبيرًا من علم الفيزياء — وكذا من العلوم بالطبع — يشمل إيجاد المنظور الصحيح لجعل العالَم أكثرَ بساطة. وقد حقَّقت النسبية الخاصة ذلك من خلال توحيد الزمان والمكان بهدف إنهاء أولى غمامتَي اللورد كلفن. كما أدَّى تغييرٌ آخر للمنظور إلى إنهاء الغمامة الثانية، ما كشف عن كون أبسطَ وإن كان أكثر غرابة.

هوامش

  • (١)

    نعرف الآن أن الشحنات المتذبذبة التي تولِّد الضوء هي الإلكترونات التي تقفز بين المدارات الذريَّة.

  • (٢)

    تستبعد نظرية أينشتاين الأولى عن النسبية الأجسام المتسارعة، وهذا ما جعلها «خاصة».

  • (٣)

    هذا مستحيل في واقع الأمر؛ حيث إن النسبية الخاصة تحول دون تسارع أي جسم له كتلة بحيث يصل إلى سرعة الضوء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤