الفصل الثامن عشر

آلية عمل الشفرة

القاعدة العامة التي تلهم كلَّ التفلسف العلمي … [هي] «شفرة أوكام»: لا ينبغي الإكثارُ من الكيانات لما يتجاوز الضروري.

برتراند راسل، ١٩١٤1

في أبريل من عام ١٧٦١، أي بعد موت إسحاق نيوتن بأربع وثلاثين سنة، وقبل مولد ألبرت أينشتاين بمائة وثماني عشرة سنة، اطَّلع ريتشارد برايس (١٧٢٣–١٧٩١) — الكاهن البروتستانتي المنشق والفيلسوف الأخلاقي وعالِم الرياضيات — على الأوراق البحثية غيرِ المنشورة لصديقه عالِم الرياضيات المتوفَّى حديثًا توماس بايز (١٧٠٢–١٧٦١). كان بايز عالِمًا متواضعَ النجاح. قبل ذلك بثلاثين سنة، كان قد هُرع للدفاع عن منهج إسحاق نيوتن الرياضي المعروف باسم حساب التفاضل والتكامل، الذي تعرَّض لهجوم في مقال موجَّه إلى «عالِم رياضيات كافر» على يد الفيلسوف الأيرلندي والأسقف الروماني الكاثوليكي جورج بيركلي الذي خشي أن علم نيوتن الميكانيكي سيقوِّض من العقيدة الدينية. وردًّا على ذلك، لم يقدِّم بايز في عمله بعنوان «مقدمة إلى التدفُّقات» الذي كتبه في عام ١٧٣٦، دفاعًا عن نيوتن فحسب، بل هاجم أيضًا دفاع بيركلي، محاججًا بأنه «كان من الخطأ تمامًا إقحامُ الدِّين في هذا الجدال من الأساس». ورغم كونه كاهنًا مشيخيًّا، ذهب بايز إلى القول: «سأنظر الآن إلى الموضوع بعد تجريده من كل علاقة له بالدِّين وكمجرد أمرٍ من أمور العلوم الإنسانية». بحلول ذلك الوقت، فصل على الأقل العلوم المادية عن الدين، الذي بدأه ويليام الأوكامي قبل أربعة قرون، كان قد قارب على التمام.

وبين أوراق بايز البحثية كان ثمَّة ورقةٌ وجد برايس أنها مثيرة للاهتمام والحيرة على حد سواء. كانت الورقة بعنوان «مقال من أجل حل مشكلة في مذهب الاحتمالات». الاحتمال — أو الأرجحية — كان موضوعًا مثيرًا للجدل في القرن الثامن عشر؛ حيث جمع مجال التأمين في إنجلترا واسكتلندا ثروةً طائلة من قدرتها على وضع سعر لاحتمالية الوفاة أو غرق السفن، أو التعرُّض للتلف أو الإصابة بالمرض أو الجروح أو أي بليَّة. كان العديد من أقارب برايس خبراءَ في التأمين، وبعد عشر سنين كان سيكتب كتابَه عن المناهج الإحصائية للحسابات التأمينية. لكن في العام ١٧٦١، لم يكن قد رأى من قبلُ قط شيئًا أشبهَ بالإحصاء الذي ورد ذِكره في ورقة بايز.

توماس بايز هو أحد أكثر الأبطال المحيرين في قصتنا. فبالكاد نعرف عنه أكثرَ مما نعرف عن ويليام الأوكامي. وهناك صورةٌ شائعة عنه لرجلٍ ذي ملامحَ صارمة نوعًا ما وشَعر داكن اللون ويرتدي ثوبًا وياقة كهنوتيَّين يُزعم غالبًا أنها تعود له، إلا أن هذا الأمر مشكوك في صحته في أفضل الأحوال.2 وُلد بايز في العام ١٧٠٢، على الأرجح في هارتفوردشير، وكان ابنًا لكاهنٍ منشق آخرَ وهو جوشوا بايز. وبعد دراسته اللاهوت والمنطق في جامعة إدنبرة واصل ليصبح كاهنًا في كنيسة ماونت سيون في تانبريدج ويلز بكنت. مدينة المنتجعات الصحية تلك كانت قد أصبحت منتجعًا رائجًا أثناء فترة استرداد الملكية بعد زيارة الملك تشارلز الثاني ومِلكيته لها من أجل «الاستحمام في مياهها» في العام ١٦٦٣. إلا أن المدينة بعدئذٍ اكتسبت سمعة بذيئة نوعًا ما، وقد وصفها جون ويلموت إيرل روتشستر في عمله «الدِّين إلى المتعة»3 الذي نُشر عام ١٦٨٥ بأنها «ملتقى الحمقى والمهرِّجين والثرثارين الأغبياء/الديوثين والعاهرات وسكانها وزوجاتهم وبناتهم».

لم يكن الموقَّر توماس بايز واعظًا شهيرًا على وجه الخصوص في «ملتقى الحمقى»، لكنه رسَّخ لسمعةٍ له كعالِم، بل قد دُعيَ حتى لشرح وبرهنة ذوبان الثلج ﻟ «ثلاثة من السكان الأصليِّين من جزر الهند الشرقية» الذين زاروا المدينة في العام ١٧٤٠. وعلى الأرجح أن انتخابه لعضوية الجمعية الملكية في ١٧٤٢ كان بسبب دفاعه عن تفاضل وتكامل نيوتن، إلا أنه لم ينشر مزيدًا من الأعمال الرياضية قبل وفاته في العام ١٧٦١. مِن ثَمَّ كانت ورقة بايز عن الاحتمالات مفاجأةً مذهلة لصديقه ريتشارد برايس. وقد رتَّب لقراءة الورقة في اجتماع للجمعية الملكية بعد وفاة بايز بعامين، ثم بعد ذلك طباعتها.

شفرة الاحتمال

يبدو أن بايز أبدى أولَ اهتمام بالاحتمالات بعد قراءة عمل «رسالة في الطبيعة البشرية» للفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم. طرح هيوم ما أصبح يُعرف ﺑ «مشكلة الاستقراء» كنقد للمنهج العلمي المهيمن منذ عصر التنوير. وكما ذكرنا في الفصل العاشر، كان فرانسيس بيكون من روَّاد الاستقراء كوسيلة للوصول إلى استنتاجاتٍ موثوق فيها علميًّا من عدة ملاحظات. على سبيل المثال، من ملاحظة أن الشمس أشرقت كلَّ يوم في التاريخ البشري، قد نستخدم منهج الاستقراء لنزعم أن الشمس دائمًا ما تُشرق. أشار هيوم إلى أن هذا ليس مبنيًّا على أي منطق راسخ. فافتراض أن «الشمس دائمًا ما أشرقت في الصباح وستشرق غدًا» ليس مثبتًا أكثرَ من الافتراض أن «الشمس دائمًا ما أشرقت في الصباح ولن تشرق غدًا». كلا الافتراضين يتوافق مع كل الأدلة الموجودة، ولا يمكن التفريقُ بينهما لا على أساس منطقي ولا تجريبي. وقد شدَّد هيوم على أن منهج المنطق الاستقرائي هذا لا يقدِّم إلا احتمالات وليس قناعات.

قبِل بايز بحجَّة هيوم أن الاستقراء لا يمكن أن يقدِّم قناعاتٍ، لكنه كان واثقًا أنه يقدِّم احتمالات مفيدة برغم ذلك. فانطلق يحاول توفيرَ إطار رياضي راسخ لحَدْسه. باعتباره كاهنًا كنسيًّا، كان بايز على الأرجح منخرطًا في أحداث جمع أموال التبرُّعات، كالتومبولات أو اليانصيب، ومِن ثَمَّ فإنه يبدأ حجَّته بأن يطلب منَّا أن «نتخيَّل شخصًا حاضرًا في سَحب يانصيب، لا يعرف شيئًا عن نظامه ولا عن نسبة الفوارغ إلى الجوائز فيه». عند هذه المرحلة سيكون من الأسهل أن ندرك قيمةَ شفرة أوكام في الإحصاء البايزي إذا ما أبدلنا النردَ بالتومبولا. سنتخيَّل أن السيد برايس صديق بايز يملِك حجرَي نَردٍ. النَّرد الأول نَردٌ تقليدي له ستة أوجه، والثاني غير تقليدي وأكثر تعقيدًا وله ستون وجهًا. وسنتخيَّل كذلك أن السيد برايس يقنِع الموقَّر بايز أن يلعب لعبةً يلقي فيها من خلف ستارٍ أحدَ النَّردين ثم يقول رقمه. ثم بعد ذلك يطلب من الموقَّر بايز أن يخمِّن أي حجرَي النَّرد ألقى.

fig38
شكل ١٨-١: حجرا النَّرد الخاصان ببايز.
قد يكون أول حَدْس لدى الموقَّر أن من المرجَّح أن يتساوى احتمالُ إلقاء السيد برايس لأي من حجرَي النَّرد. وطبقًا للرؤى الإحصائية الواردة في ورقة بايز المنشورة بعد وفاته، فإنه سيعيَّن «احتمال مسبق»، وهو الاحتمال السابق لإلقاء السيد برايس للنَّرد، وهو يساوي نصفًا — ٠٫٥ — بالنسبة إلى فرضية حجر النَّرد ذي الستة الأوجه، ونصفًا بالمثل أيضًا لفرضية حجر النَّرد ذي الستين وجهًا. لنفترض أن العدد الأول الذي نادى به برايس هو ٢٩. بالتأكيد أن بايز سيقول: «هذا حجر النَّرد ذو الستين وجهًا» وسيومئ برايس موافقًا. لكن عقل بايز الرياضي سينفِّذ أيضًا على الأرجح عمليةً حسابية بسيطة وفقًا للمبادئ التي أوردها في ورقته. بالنسبة إلى فرضية النَّرد ذي الستين وجهًا، سيضرب بايز الاحتمالَ المسبق وهو ٠٫٥ في قيمةٍ تُدعى «الأرجحية»، وهي أرجحية أن يأتي النرد ذو الستين وجهًا بالعدد ٢٩. وحيث إن هناك ستين عددًا محتملًا يمكن أن يأتي بها النَّرد، فإن كل عدد — بما في ذلك العدد ٢٩ — له أرجحية تساوي ١/٦٠ أو ٠٫٠١٦. وبضرب هذه القيمة في الاحتمال المسبق الذي يساوي ٠٫٥ سيحصل بايز على «احتمال لاحق» (وهو الاحتمالية التي تظهر بعد ورود البيانات) يساوي ٠٫٠٠٨ لفرضية النَّرد ذي الستين وجهًا.١

سينفِّذ بايز أيضًا العمليةَ الحسابية نفسها لفرضية حجر النَّرد ذي الستة الأوجه؛ حيث سيضرب قيمةَ الاحتمال المسبق وهو ٠٫٥ في أرجحية أن يأتي النَّرد بالعدد ٢٩. بالطبع نتيجة هذا هي صفر، حيث إن أي جانب من جوانبه لا يحوي العدد ٢٩. وحاصل ضرب أيِّ عدد في صفر يساوي صفرًا؛ لذا فإن الاحتمال اللاحق لأن يُظهر النَّرد ذو الستة الأوجه العدد ٢٩ هو صفر. وبمقارنة الاحتمالين اللاحقين ببعضهما، فإنه سيقسم الاحتمال المسبق لحجر النَّرد ذي الستين وجهًا وقيمته ٠٫٠٠٨ على الاحتمال اللاحق لحجر النَّرد ذي الستة الأوجه وقيمتها صفر. وحاصل قسمة أي عدد على صفر هو عدد لا متناهي؛ لذا فإن الاحتمال النسبي لأن يُظهر النَّرد ذو الستين وجهًا العدد ٢٩ — بالمقارنة مع النَّرد ذي الستة الأوجه — هو عدد لا نهائي. مِن ثَمَّ من المرجَّح أكثرَ بصورة لا نهائية أن يكون برايس قد ألقى حجر النَّرد ذا الستين وجهًا. هنا يفوز بايز.

قد يبدو أن مبرهنة بايز تزيد من تعقيد شيء بديهي وبسيط، لكن هذه اللعبة تُصبح مثيرةً أكثرَ في الجولة الثانية حين يختار برايس أحدَ حجري النَّرد سرًّا للمرة الثانية. يلقي برايس بحجر النَّرد ثم ينادي بالعدد ٥. أصبح الموقف الآن يحوي قدرًا من الالتباس؛ حيث إن العدد ٥ يمكن أن يظهر على أيٍّ من حجرَي النَّرد. فهل أرجحية كلٍّ منهما متساوية؟ لا يعتقد الموقَّر بايز ذلك، وقد صمَّم طرائقه الإحصائية ليتعاطى مع هذا النوع بالتحديد من مشاكل الاستقراء؛ حيث تتناسب اثنتان من الفرضيات أو النماذج أو العديد أو حتى عدد لا نهائي منها مع البيانات. فكيف تختار من بينها؟

العامل الرئيسي في مبادئ إحصاء بايز هو الأرجحية البايزية، التي تُضمَّن شفرة أوكام بصورة تلقائية — كما أشار عالِم الإحصاء هارولد جيفريز للمرة الأولى في كتابه عن الاحتمالات المنشور عام ١٩٨٩،4 وكما شرحها الكثير من متَّبِعي منهج بايز من الإحصائيِّين اللاحقين بمزيد من التفصيل5 — وذلك من خلال تفضيل النظريات البسيطة واستبعاد المعقَّد منها. يمكننا رؤية ذلك إذا ما كرَّرنا تحويل بايز للاحتمالات المسبقة إلى احتمالات لاحقة في الجولة الثانية من لعبة إلقاء النرد. مرة أخرى، سيعيِّن بايز احتمالًا مسبقًا قيمته ٠٫٥ لكلتا فرضيتَي حجرَي النَّرد. أرجحية أن يأتي النَّرد ذو الستين وجهًا بالعدد ٥ هي مثلها بالنسبة لأن يأتي بالعدد ٢٩، وهي تساوي ١/٦٠ أو ٠٫٠١٦. حين نضرب هذه القيمةَ في الاحتمال المسبق فإن بايز سيحصل مرةً أخرى على احتمال لاحق قيمته ٠٫٠٠٨.

لكن حين نكرِّر إجراءَ هذه العملية على فرضية حجر النَّرد ذي الستة الأوجه فإن أرجحية أن يأتي بالعدد ٥ تكون أعلى بكثير؛ حيث تساوي ١/٦ أو ٠٫١٦. السبب في هذا بالطبع أن حجرَ النَّرد ذا الستة الأوجه أكثرُ بساطةً بمعنى أن هناك عددًا أقلَّ من الأعداد التي يمكن أن يأتي بها النَّرد. يضرب بايز الاحتمالَ المسبق لحجر النَّرد ذي الستة أوجه وقيمته ٠٫٥ في ٠٫١٦ ليحصل على احتمالٍ لاحق قيمته ٠٫٠٨. وهذا يساوي عشرة أضعاف الاحتمال اللاحق لحجر النَّرد ذي الستين وجهًا الأكثر تعقيدًا. لذا من المرجَّح أكثرَ بعشرة أضعاف أن يكون العدد ٥ ظهر على حجر النرد ذي الستة الأوجه منه على حجر النَّرد ذي الستين وجهًا. وعلى أساس مبادئه الإحصائية المبتكرة، سيقول بايز: «هذا حجر النَّرد ذو الستة الأوجه» وفي هذه الحالة يفوز ثانية.

الأرجحية تقدِّم لإحصاء بايز شفرتَها المتضَمَّنة فيها والتي تفضِّل تلقائيًّا الفرضيات الأبسط؛ لأنها تملِك احتمالية أعلى من حيث إنتاج البيانات. طريقة أخرى لتخيُّل هذا تتمثَّل في النظر إلى حيِّز المعاملات، وهو مجموعة القيم الممكنة لكل نموذج أو فرضية أو — بالمثل — مجموعة الملاحظات التي يمكن أن ينتجها كلٌّ منها. ألقِ نظرةً إلى دوامة الأعداد المعروضة في الشكل ١٨-٢. الأعداد التي يمكن أن تظهر على نَردٍ ذي ستة أوجه، أي حيز المعاملات الخاص به، موجودة في المنطقة الوسطى الصغيرة. وتمثِّل البقعةُ الكبرى منها حيزَ المعاملات لنَردٍ ذي ستين وجهًا، في حين أن النطاق المحيط بها يعجُّ بأعدادٍ لا يمكن أن نصل إليها بأيٍّ من النَّردين، والتي تمتد إلى اللانهاية. لاحظ أن نطاق حجر النَّرد ذي الستين وجهًا يشمل حيزَ معاملاتٍ أصغرَ يمكن الحصول عليه بالنَّرد البسيط. والعدد ٥ (المحاط بالبقعة الأصغر) يقع ضمن كِلا النطاقين؛ حيث يمكن أن يظهر على أيٍّ من النَّردين. كما يمكن أن يظهر أيضًا على نَردٍ ذي سبعين وجهًا — إن كان السيد برايس يحظى بواحد — أو ذي ثمانين وجهًا، أو أي عدد لا نهائي من أحجار النَّرد الممكنة التي يمكن أن تقدِّم الملاحظة نفسها. هذه هي المشكلة الرئيسية في العلم والتي تطرَّقنا إليها خلال هذا الكتاب: وهي مشكلة اختيار النموذج. حين يكون لديك وفرةٌ من النماذج الممكنة التي تفسِّر أيَّ ظاهرة، كيف لك أن تختار من بينها؟ جوهر شفرة بايز أنه يختار النظريةَ أو الفرضية أو النموذج الذي يحتل فيه نطاقُ البيانات (وهو العدد ٥ في المثال أعلاه) أكبرَ جزء من حيِّز المعاملات في النموذج (حجر النَّرد ذو الستة الأوجه)، ومِن ثَمَّ فإنه يكون النموذج صاحب الأرجحية الأعلى في إنتاج البيانات. دائمًا ما يكون هذا هو النموذج الأبسط: شفرة أوكام.
fig39
شكل ١٨-٢: حيِّز معاملات حجر نَردٍ ذي ستين وجهًا.

إن شفرة أوكام بطريقة بايز هي وسيلةُ العلم في التعامل مع عددٍ وافر من النماذج التي تناسب برغم ذلك البيانات. تأمَّل قانون نيوتن الذي يرى أن «لكل فعلٍ رد فعلٍ مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه». لذا، حين تركل كرة قدم، فإن قوةَ حذائك (الفعل) على الكرة يقابلها قوةُ الكرة (ردُّ الفعل) على أصابع قدمك. هذا القانون البسيط يتماشى مع كل ركلة حدثت في كل مباراة من مباريات كرة القدم. لكنَّ هناك قانونًا آخرَ يتماشى بصورة مماثلة مع كل البيانات: «لكل فعلٍ رد فعلٍ مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، إضافة إلى عفريت صغير خفي يدفع الكرة لتضغط على حذائك». ثم تأتي فرضية ثالثة بها عفريتان ورابعة ربما كان بها عفريتان وملاك يقدِّمون عناصرَ مختلِفة من ردِّ فعلِ الكرة تجاه قوة حذائك، وهكذا حتى نصل إلى عددٍ لا نهائي من الفرضيات أو النماذج.

هذا المثال بسيط، لكن ليس بصورة تامة. فالأثير، وأفلاك التدوير عند بطليموس، والفلوجيستون، والمبدأ الحيوي، و«الروح العارفة» عند هنري مور، ومفهوم الخالق المقدَّس، والكهرباء والجذب المغناطيسي، والزمان والمكان، والجاذبية والتسارع، وكميَّات الطاقة التي تكون أصغر من أن يمكن قياسها، هذه كلها طرقٌ معقَّدة لتطوُّر فهمِ العالم. ولا يمكن إقصاء أيٍّ منها على أساس المنطق وحدَه، لكن يشدِّد العلم على أنه إن كان ثمَّة نموذجٌ أبسط متاحًا فينبغي تبنِّيه. ويقدِّم إحصاء بايز الأساسَ الإحصائي لهذا التفضيل ويلتزم بشفرة أوكام.

كل الإنجازات العلمية الثورية التي صنعها كوبرنيكوس ونيوتن ومندل وداروين وغيرهم — وهي ما أطلق عليها فيلسوف العلوم الأمريكي توماس كون مصطلح «النقلات النوعية» — اشتملت على الاستغناء عن نموذجٍ أكثر تعقيدًا لصالحِ آخرَ أكثر بساطة. وقد أتى تفضيلهم للنماذج البسيطة من مبادئَ صوفية أو لاهوتية أو جمالية أو من البداهة البسيطة. لكن ومع أن شفرة أوكام تملك الكثيرَ من التجليات والمبرِّرات المختلفة،6 ففي اعتقادي أن شفرة بايز تعبِّر عن جوهرها من حيث تطبيقه على العلوم. تُؤثِر الشفرةُ النظرياتَ البسيطة ليس لأنها أكثر جمالًا، مع أنها كثيرًا ما تكون جميلة؛ ولا بسببِ أنها أسهل من حيث الفهم، رغم أنها ستكون كذلك في غالب الأحيان؛ ولا بسبب أنها تقدِّم افتراضاتٍ أقل، رغم أنها كثيرًا ما تفعل؛ ولا لأنها تقدِّم تنبؤات أدق، رغم أنها دائمًا ما تفعل ذلك: لكن لأنها من المرجَّح أكثرَ أن تكون صحيحة.

رغم ذلك، من المهم أن نتذكَّر أن تفضيلنا للحلول البسيطة هو تطوُّر حديث العهد في غالب الأمر. قبل ويليام الأوكامي، كان الرد القياسي تجاه مشكلةٍ ما هو إضافة المزيد من الكيانات عليها. كان ويليام الأوكامي هو أول مَن شدَّد على ضرورة الوصول لأبسط الحلول، وهذا مبدأ أصبح منذ ذلك الحين حجرَ الأساس في العلم والسمة المميِّزة للحداثة.

الحقيقة البسيطة

الشكل البايزي من شفرة أوكام يقدِّم أيضًا تبصرًا رائعًا عن سببِ اقتناع العلماء بشدةٍ من كوبرنيكوس إلى براهي أو جاليليو أو نيوتن، بأن الأرض تدور حول الشمس، مع أنهم لم يملكوا أي أدلة دامغة على ذلك. المؤرِّخون وفلاسفة العلوم مثل توماس كون7 أو آرثر كيستلر8 استشهدوا كثيرًا بفكرة أن عمالقة العلم الحديث المبكِّر كانوا مقتنعين بفكرةِ مركزية الشمس رغم الافتقار إلى الأدلةِ المؤيِّدة لذلك باعتبارها دليلًا على أن العلم — وبما يناقض مزاعم العلماء — ليس مدفوعًا في المقام الأول بالعقل، بل بتحيُّزات شخصية أو ثقافية أو غير منطقية. على سبيل المثال، كتب كون يقول: «كان نظام كوبرنيكوس الجديد عن الكواكب فاشلًا، وذلك بالاستناد تمامًا إلى أسسٍ عملية؛ إذ لم يكن أكثرَ دقة ولا أكثر بساطة بكثير من سابقه البطلمي». وبالمثل، زعم كيستلر أن كلا النموذجين البطلمي والكوبرنيكي اشتملا على ما بين ثلاثين إلى ثمانين دائرة أو فلك تدوير، رهنًا بطريقةِ عدِّها. وعلى تلك الأسس، يحاجج كلٌّ من كون وكيستلر بأن معيار البساطة الذي عوَّل عليه هذان العالِمان الجليلان كان زائفًا.
وقد استغلَّ الما بعد الحداثيون والمؤرِّخون والفلاسفة النسبيون في القرن العشرين هذا الزعمَ بحماسة شديدة ليدعموا افتراضَهم أن العلم لا يملك حجَّة أقوى تجاه الحقيقة الموضوعية من أي نظام فكري آخر. على سبيل المثال، دفع فيلسوف العلوم بول فايراباند (١٩٢٤–١٩٩٤) بأن: «لأولئك الذين ينظرون إلى المادة الغنية التي يقدِّمها التاريخ [تاريخ العلم] … سيتَّضح أن هناك مبدأً واحدًا فقط يمكن الدفاع عنه في ظل كل الظروف وكل مراحل التطور البشري. وهو المبدأ القائل: أي شيء يكون مناسبًا».9 وطبقًا للما بعد الحداثيين، يتساوى العلم مع الأنظمة الأخرى للاعتقاد كالدِّين أو الصوفية أو العِرافة أو المعتقدات الشعبية أو التنجيم أو الطب التجانسي أو الخوارق. يزعم هؤلاء أن كل نظام من هذه الأنظمة يملك حقائقَه الخاصة به، ولا يمكن لأيٍّ منها أن يحاجج باحتكاره للحقيقة. وذهب فايراباند إلى حد الدفع بأن العلم — في التعليم العام — لا ينبغي أن يحظى بأي وضع متميِّز في أماكن الدراسة على الصوفية أو السحر أو الدِّين.
كان ويليام الأوكامي سيعارض هذا بكل تأكيد. إذ شدَّد على أن ثمَّة فارقًا صارخًا بين العلم والدِّين؛ حيث إن العلم مبنيٌّ على المنطق فيما يرتكز الدِّين على الإيمان. إلا أن الما بعد الحداثيين يعارضون هذا. وكثير من حججهم متأثرة بشدة بالفيلسوف النمساوي البريطاني لودفيج فيتجنشتاين (١٨٨٩–١٩٥١). رغم حصول فيتجنشتاين على تدريب ليصبح مهندسًا، أصبح مفتونًا بالرياضيات ثم الفلسفة على يد برتراند راسل في كامبريدج الذي كتب في العام ١٩٠٣ كتاب «مبادئ الرياضيات» الذي يحاجج فيه بأن الرياضيات والمنطق متماثلان. وفي العام ١٩٢١، نشر فيتجنشتاين كتابَه العميق التأثير «رسالة منطقية فلسفية» الذي تطرَّق فيه إلى العلاقة بين اللغة والواقع، وفي تلك المرحلة من مسيرته يبدو أنه كان يقبل (لا يزال الفلاسفة يتجادلون بشأن معنى الكثير من العبارات الفلسفية لفيتجنشتاين) بأن العلم يمكن أن يدلي بإفاداتٍ صحيحة على نحوٍ قابل للتحقُّق منه حول العالم. وبعد ثلاثين عامًا، يبدو أن فيتجنشتاين في كتابه «تحقيقات فلسفية» تخلَّى عن سعيه لاكتشاف كيفية تمثيل اللغة للعالم ويحاجج عوضًا عن ذلك بأن هناك فقط أساليبَ مختلفة لاستخدام اللغة، أو «ألعاب لغوية» يُستقى معناها فقط من استخدامها. يبدو أن هناك الكثير من القواسم المشتركة بين هذه الحجَّة وتشديد ويليام الأوكامي ذي النزعة الاسمانية على أن الكلمات تشير إلى أفكار في أذهاننا وليس لكليَّات موجودة في العالم المادي. قبل سبعة قرون كان ويليام الأوكامي قد استخدم القياس الخاص بمالك الحانة الذي يعلِّق طوقَ برميل فارغ فوق باب حانته ليشير إلى وجود النبيذ عنده.10 ليس للطوق أي علاقة مباشرة بكوب النبيذ لكنه عوضًا عن ذلك يمثِّل عُرفًا يدركه المستخدمون الآخرون لهذا العُرف — كشاربي النبيذ — للمساعدة في عيشهم لحياتهم اليومية. دفع الأوكامي بأن اللغات كلها تكتسب معناها بالمِثل من انتقاع مستخدميها من كلماتها.
إلا أن فيتجنشتاين ذهب لأبعد مما ذهب إليه الأوكامي ليدفع بأن كل لعبة لغوية على حدة تُعَد غير متناسبة، بالمعنى الذي وضعه أرسطو عن كون الدائرة غير متناسبة مع الخط المستقيم؛ لأنها تنتمي إلى فئةٍ وجودية مختلفة. دحض الأوكامي هذا المفهوم في القرن الرابع عشر، وذلك من خلال فكِّه لحبله المجازي والبرهنة على أن بإمكان الحبل أن يصبح دائرة أو خطًّا مستقيمًا إلا أن أخطاء التصنيف وعدم قابلية القياس استمرت بعناد في الدوائر الفلسفية. أحد الأمثلة المفضَّلة من الفيلسوف البريطاني جيلبرت رايل (١٩٠٠–١٩٧٦) يتخيَّل زائرًا لجامعة أكسفورد يزور مكتباتها وكلياتها العديدة، لكنه بعد ذلك يسأل: «لكن أين الجامعة؟». خطأ الزائر هنا أنه افترض أن الجامعة عضو في تصنيفٍ للأشياء المادية — كمبنَى جامعة مثلًا — عوضًا عن كونها مؤسسة موجودة سببيًّا فقط في أذهان الطلاب وأعضاء التدريس والزائرين. بالمثل، قال كون: «إن … التقليد العلمي الذي يبرز من ثورة علمية ليس متنافرًا مع ما كان من قبلُ فحسب، بل غالبًا في واقع الأمر غير متناسب معه».11 بالمثل شدَّد الفيلسوف الما بعد الحداثي الأمريكي ريتشارد رورتي على ما يلي: «لا أظن أن ثمَّة … أي حقائق مستقلة عن اللغة».12
رغم موقفهم المناهض للعلم، فإنني أتعاطف مع الكثير من النقاط التي أبرزها دعاةُ ما بعد الحداثة ودعاة النسبية، وبصفة خاصة معارضتهم لمفهوم أن قيم الثقافة الغربية — والتي يُقصد بها عادةً قيمَ الغربيين الأثرياء البيض المتمتعين بقدرٍ عالٍ من العلم — هي قيم عامة. إذ يبرزون بصورة صحيحة أنه ليس هناك أساس موضوعي لإعطاء قيمة أعلى لمسرحية «هاملت» لشكسبير — على سبيل المثال — بالمقارنة مع قصص الرجل العنكبوت التي تنشرها دار نشر مارفل أو قصص الأشانتي الشعبية حول العنكبوت أنانسي. والعلم أيضًا نتاجُ اللغة والثقافة. وكما علَّق مؤسِّس ميكانيكا الكم نيلس بور: «نحن مقيدون باللغة لدرجةِ أن كل محاولة لتكوين رؤية هي عبارة عن تلاعب بالكلمات».13 إلا أنني هنا أختلف مع دعاةِ ما بعد الحداثة. إذ إن أفكارهم النسبية لا يمكن أن تنتقل إلى العلم لأن القوانين العلمية — على عكس الثقافة — مكتوبة بلغة الرياضيات العامة. فالعلاقة بين مربَّع وتر المثلث إلى مربعي الضلعين الآخرين له معروفة منذ آلاف السنين لدى القدماء من البابليين والمصريين والناس من حول العالم بغض النظر عن اللغة والثقافة. إنها ليست نسبية لأي شيء.

لهذا كان تحرير ويليام الأوكامي للرياضيات من أغلال عدم القابلية للتناسب وحالات حظر الانتقال (ارجع للفصل الخامس) مهمًّا جدًّا. فبعد مرور قرون على ذلك، سمح هذا لجاليليو ونيوتن بأن يقصُروا حركات الأجسام في السماء والأرض على مجموعة القواعد العددية البسيطة نفسها، والتي كانت ستُصبح مفهومةً لدى جامع الضرائب البابلي القديم، أو المنجِّم الذي من المايا، أو التاجر الأفريقي. إن الرياضيات تحلِّل المنطق إلى أبسطِ مجموعة ممكنة من القواعد، ومِن ثَمَّ ترفع العلم من كونه مجرَّد لعبةٍ أخرى حتى يصبح لغة عامة.

لكنَّ هناك فكرةً ما بعد حداثية أخرى حقيقية ومهمة بالنسبة إلى دور شفرة أوكام، رغم أنها لا تقودنا إلى المسار نفسه الذي سار عليه دعاةُ ما بعد الحداثة. إنهم يحاججون بأنه لا سبيل حقًّا لمعرفة الحقيقة. هذا شيء يُعدُّ صادمًا حتى للعلماء الذين يتعلَّمون بصفة عامة أن العلم هو مسيرة متواصلة نحو الحقيقة.

تخيَّل أن العلم كان قادرًا ذات يوم على الوصول إلى حالةٍ هانئة من المعرفة بكل شيء، أي «الحقيقة». كيف كنا لنعرف ذلك؟ معرفة الحقيقة المطْلقة تفترض سلفًا بعضَ الأساليب التي تمكِّن من استراق النظر من خلف الستار إلى الأدلة التي تقدِّمها حواسنا أو أدواتنا العلمية لرؤية العالَم «الحقيقي» عوضًا عن العالَم الذي نراه من خلال حواسنا أو أدواتنا العلمية. تفترض هذه المعرفة أن ثمَّة عالمًا تامًّا ومثاليًّا وقابلًا للمعرفة، عالَمًا من المُثل الأفلاطونية الكاملة، وهي النظرة نفسها التي دحضها ويليام الأوكامي قبل قرون عديدة. إذا ما رفضنا هذه النظرةَ للعالَم كما فعل الأوكامي فإن علينا أن نعتمد عوضًا عن ذلك على مدخلاتنا الحسِّية وربما مجموعة متنوعة ولا نهائية من النماذج عن الكون والتي يمكن أن تناسب هذه البيانات وتشرح موضعنا فيها.

إلا أن هذا لا يعني أن كل النماذج متساوية — كما يحاجج دعاةُ ما بعد الحداثة. فحين نرسم خريطة البروج، لا يراجِع المنجِّمون اعتباراتِ حالة المعبود مارس المزاجية أو عادات جوبيتر الشهوانية. بل يذهبون عوضًا عن ذلك إلى جداول الكواكب المبنية على نموذج كيبلر البسيط عن النظام الشمسي. والمؤمنون بالخوارق ينظِّمون اجتماعاتهم بالهواتف والبريد الإلكتروني، وليس بالتخاطر؛ وإن كانت اجتماعاتهم تُعقد في بلدانٍ بعيدة فإنهم يسافرون بالطائرة وليس بالتحليق في الهواء. قد يكون العلم لعبةً لغوية أو نموذجًا، لكن على عكس الغالبية العظمى من النماذج، من الخيمياء إلى فلسفة فنج شوي والطب التجانسي ومنشورات دعاةِ ما بعد الحداثة التي ترفض العلم ويتعذَّر فهمُها، فإن النماذج العلمية تعمل في واقع الأمر؛ لأنها بسيطة، ومِن ثَمَّ تقدِّم تنبؤات دقيقة.

العلم هو البساطة

تقريبًا كل العلوم، بل كل معرفتنا بالعالم من حولنا في واقع الأمر، مبنيان على منطق بايز المطبَّق على الاستقراء. وكما يشدِّد دعاةُ ما بعد الحداثة، فإن الدليل القائم على ألف ملاحظة لشروق الشمس لا يقدِّم لنا أيَّ يقين، لكنه يقدِّم لنا أرجحيةً كبيرة بأن أبسط الفرضيات — أن الشمس ستشرق غدًا — سيتبيَّن أنها صحيحة. فالاحتمال — عوضًا عن اليقين — كافٍ بالنسبة إلى العلم، وهو جوهر العلم الحديث. فالخيميائيون يجرِّبون، والمنجِّمون يحسبون، لكنهم لا يشدِّدون، لا هم ولا آلافٌ آخرون من الصوفيِّين أو الفلاسفة أو الكهنة، على قبول أبسط الحلول فحسب لأنها أيضًا الأعلى احتمالية.

بالطبع لا يرتكز العلم على البساطة فحسب. فالتجريب والمنطق والرياضيات والقابلية للتكرار والقابلية للتحقق، وكذا القابلية للدحض، تلعب جميعُها أدوارًا أساسية. كان الفيلسوف كارل بوبر (١٩٠٢–١٩٩٤) مهتمًّا بآخرِ هذه الأمور — وهي القابلية للدحض — وهي على الأرجح المعيار الأكثر استشهادًا به للتفريق بين العلم والعلم الزائف. إلا أنها لا تقدِّم ضمانًا للعلم لأن إثبات خطأ نظريةٍ ما مستحيل بقدر إثبات صحَّتها. ويعرف أيُّ عالِم تجريبي أنه حين يجري تجربة تقدِّم نتيجةً مختلفة عن تنبؤاته أنه لن يُهرع ليعلن أن نظريته المفضَّلة قد ثبَت خطؤها. بل عوضًا عن ذلك سيلفِّق أسبابًا تفسِّر ملاحظته البيانات المناقضة، وذلك عن طريق إضافة المزيد من التعقيد. وقد رأينا هذه العملية عمليًّا — في الفصل الثاني عشر — حين ابتكر أتباع الفلوجيستون أو السيال الحراري كيانات جديدة — كالوزن السالب — عوضًا عن هجرهم لنظرياتهم. ودعاة نظرية الخلق متمرِّسون في ابتكار تعقيدات غيرِ معقولة لكنها غير قابلة للدحض، والتي من شأنها أن تفسِّر حقائقَ كالسجل الحفري.

إن عدم قدرة البيانات على دحض نظريةٍ ما يتضح أيضًا في ملاحظة أن النظريات الميتة — التي من الواضح أنها دُحضت بأدلة راسخة — تُبعث في بعض الأحيان من الموت. على سبيل المثال، من المفترض أن الوراثة اللاماركية كانت قد دُحِضت بأدلةٍ من الملاحظة والتجريب أمام وراثة الصفات المكتسبة، مثل أذرع الحدَّادين الكبيرة العضلات والتي يستخدمونها في الضرب بالمطرقة. إلا أن أدلةً على وراثة محدودة لعدة صفات مكتسبة — كالتفضيلات الغذائية — برزت في تسعينيات القرن العشرين لتبعث من جديد نوعًا من الوراثة اللاماركية يُعرف اليوم باسم علم التخلُّق.14 وفي القرن العشرين ابتكر أينشتاين عاملًا يُدعى «الثابت الكوني» ليجعل نظريته عن النسبية العامة متسقةً مع كون ثابت. وقد تخلَّى عنه حين عُرف أن الكون يتمدَّد. لكن في القرن الحادي والعشرين، بُعث الثابت الكوني من جديد لتفسيرِ الطاقة المظلمة للفضاء نفسه. وبالمثل، كما ناقشنا في الفصل السابق، لم يدحَض أحدٌ من قبلُ قط نظريةَ مركزية الأرض لأنها ليست بخاطئة. إنها فقط لا تعمل كبديلتها. دعاة ما بعد الحداثة محقُّون — في التحليل الأخير — أنه ليس بالإمكان أبدًا إثبات صحة أو خطأ أي نظرية. لكن هذا لا يمنعنا من اختيار أبسط نظرية تتنبَّأ بالحقائق على نحوٍ صحيح. فالبساطة — وليست قابلية الدحض — هي ما يقع في العلم موقعَ القلب.

شفرة الجيب

لسنا بحاجة بالطبع لأن نرجع إلى الموقَّر بايز من أجل أن ندرك على سبيل المثال أن النموذج المركزي الشمس يقدِّم تفسيرًا أكثرَ بساطة بكثير حول مسارات الكواكب في السماء من الالتباس الذي يقدِّمه النظام المركزي الأرض؛ حيث تتداخل الدوائر بعضها مع بعض. فهذا أمر واضح. يبدو أن عقولنا تملك نزعةً طبيعية تجاه البساطة وتعيِّن بصورة تلقائية — كما حاجج عالم النفس المعرفي نيك تشيتر15 — احتمالات أعلى للنماذج الأبسط. لكن كيف لنا أن ندرك ما هو أبسط؟ أحد الخصائص التي من السهل تقييمها هي طول التفسير. أدرك شكسبير أن «الإيجاز هو روح الحكمة»، لكنه أيضًا علامة على البساطة. فتميل الحكايات الخيالية التي يصعب تصديقها إلى أن تكون مطوَّلة. ابتكر الفيلسوف نيلسون جودمان اختبارًا معقدًا نوعًا ما لقياس البساطة النصيَّة،16 لكن إحدى القواعد العامة الأكثر بساطة والتي تعمل بشكل ممتاز هي ما قد أُطلق عليها شفرة جيب أوكام. تَعُد هذه الشفرةُ عدد الكلمات المهمة (مع استبعاد أدوات التعريف والتنكير وحروف العطف وما إلى ذلك) اللازمة في التفسيرات أو النماذج المتنافسة، وتعاقب الأطول منها بخفض أرجحيتها إلى النصف مع كل كلمة مهمة إضافية.

إذا ما طبَّقنا هذه الشفرة على نموذجَي مسارات الكواكب، فإن تفسير مساراتها بوضع الشمس في مركز النموذج سيتطلب — لنفترض — خمسين كلمة. وتفسير المسارات نفسها بوضع الأرض في المركز ونصب كل أفلاك التدوير تلك في السماء سيتطلب — في تقديرٍ متحفِّظ — مائةَ كلمة على الأقل. طبقًا لحاسبة الجيب الخاصة بي، تقترح شفرة الجيب الخاصة بنا أن النظام المركزي الشمس تزيد أرجحيته بمقدار ٢٧٠، أو ما يقارب مليون مليار، ضِعف مقارنةً بالنظام المركزي الأرض.

حاول تطبيق شفرة جيب أوكام على سجالات أخرى عرَّجنا عليها في هذا الكتاب، كتفسير أصحاب نظرية الخلق في مقابل تفسير دعاة الانتقاء الطبيعي للحفريات أو «الأحجار المصوَّرة». من المفيد أيضًا اختبار حد هذه الشفرة على علاجات العلم الزائف كالطب التجانسي أو التداوي بالبلور، مع توضيح جدواها في مقابل عدم جدواها. ويُعَد الاحتباس الحراري وأسبابه المرجَّحة مشحذًا مثيرًا آخرَ قد ترغب في شحذ شفرة الجيب عليه.

أخيرًا، أريد أن أذكِّرك بأن شفرة أوكام — في حد ذاتها — لا تقدِّم أيَّ زعم حول بساطة الكون أو تعقيده. بل تحثُّنا عوضًا عن ذلك على اختيار أبسط النماذج التي يمكن لها أن تتنبأ بالبيانات. يمكننا أن نطلق على هذا الشكل من مبدأ البساطة اسم شفرة أوكام الضعيفة. إلا أن كثيرًا من العلماء — وبخاصة الفيزيائيون منهم — يَقبلون ما يُمكن أن يُطلق عليه شفرة أوكام القوية التي تزعم أن الكون بسيط بقدرِ ما يمكن له أن يكون، بالنظر إلى وجودنا.

هوامش

  • (١)

    مبرهنة بايز لحساب الاحتمال اللاحق في شكلها الكامل تتضمَّن ضربَ الاحتمال المسبق في قيمة الأرجحية المقسومة على احتمال الملاحظة، بغض النظر عن النظرية. وقد حذفتُ خطوةَ القسمة لأنها موجودة وحسب من أجل تطبيع قيمة الاحتمالات اللاحقة بحيث تبلغ دومًا بحدٍّ أقصى ١. وقد افترضنا أن كلتا فرضيتَي حجري النَّرد متساوية في الأرجحية؛ لذا فإن خطوة القسمة ليست ضرورية في هذه الحالة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤