الفصل التاسع عشر

هل عالَمنا هو الأبسط من بين كل العوالم الممكنة؟

كلُّ ما يحدث في الطبيعة يحدُث بأقصر الطرق.

ليوناردو دا فينتشي، دفاتر الملاحظات1

في صيف عام ١٧٥٣ وفي مدينة برلين، كان رجل مشنقةِ المدينة يحرق الكتبَ بأوامر من فريدريش العظيم. وكانت الكلمات المطبوعة على الصفحات المشتعلة تعود لعملاقِ حِقبة التنوير الفرنسية فولتير (١٦٩٤–١٧٧٨) الذي كان مقيمًا في برلين في ذلك الوقت. وكان منشوره بعنوان «خطاب الدكتور أكاكيا» هجاءً مفرطًا لحياة وأعمال رجل فرنسي آخر يقيم في برلين ويتقلَّد منصبَ رئيس أكاديمية برلين، وهو بيير لوي مورو دي موبرتوي (١٦٩٨–١٧٥٩). وُلِد موبرتوي في العام ١٦٩٨ — قبل أربع سنوات من ولادة توماس بايز — في سان-مالو، وهو ميناء على ساحل منطقة بريتاني في فرنسا. درس موبرتوي الرياضيات في باريس، وفي العام ١٧٢٣ قُبِل في أكاديمية العلوم حيث أصبح أحدَ أنصار القوانين الميكانيكية التي اكتشفها إسحاق نيوتن على الجانب الآخر من القناة الإنجليزية. وفي ثلاثينيات القرن الثامن عشر، انخرط موبرتوي في سجالٍ حول ما إن كانت الأرض مسطحة عند خط الاستواء (منبعجة) أو القطبين (مفلطحة). وقد استخدم ميكانيكا نيوتن ليتنبأ بأن الأرض كانت مفلطحة، وذلك معارضة لرأي عالِم الفلك الفرنسي البارز جاك كاسيني (١٦٧٧–١٧٥٦). وفي العام ١٧٣٦، عيَّن لويس الخامس عشر ملكُ فرنسا موبرتوي ليقود مهمةَ استكشافية إلى لابلاند لتسوية هذا السجال. وقد أظهرت قياسات موبرتوي لانحناء الأرض في أقصى الشمال أن كوكبنا مسطَّح بالفعل بالقرب من القطبين. وقد أذهل هذا العمل فريدريش العظيم — الذي كان قد أسَّس لتوه أكاديمية برلين — حتى إنه عرض منصبَ مدير تلك الأكاديمية على موبرتوي. وقد قبِله موبرتوي في العام ١٧٤٥.

بحلول ذلك الوقت كان موبرتوي قد أصبح مهتمًّا بمشروعٍ أكثر بروزًا: إذ فكَّر أن بإمكانه إثباتَ ما حاول الأكويني إثباته قبل خمسمائة عام: ألا وهو وجود الرب. وقد كان الضوء يمثِّل دليلًا؛ إذ اعتقد اللاهوتي العصرأوسطي روبرت جروستيست أن الضوءَ انبثاق من الرب. قبل ذلك بقرن من الزمن، كان عالِم الرياضيات الفرنسي بيير دي فيرما (١٦٠٧–١٦٦٥) قد أمعن النظرَ في سببِ انحناء أشعة الضوء حين تنتقل من وسط إلى آخر. تلك الظاهرة التي نطلق عليها الانكسارَ مسئولةٌ عن ظهور عصًا مستقيمة (أو قلم رصاص) بشكل منكسرٍ حين تُغمر جزئيًّا في الماء. للوهلة الأولى، تتناقض هذه الظاهرة مع مبدأ البساطة؛ حيث إن خطًّا منكسرًا يشكِّل وجهَ شذوذ أكثرَ تعقيدًا من خطٍّ منحنٍ. إلا أن بيير دي فيرما كان قد اقترح بالفعل أن الضوء يقلِّص الوقت الذي يستغرقه للوصول إلى حيث يريد عوضًا عن تقليص عدد أوجه الشذوذ التي يلتقيها في طريقه. وقد جمع ذلك إلى جانب تخمينه أن الضوءَ ينتقل ببطءٍ أكثرَ في الماء ليفسِّر المسارَ المنكسر، وذلك من خلال الاقتراح أن الضوء يسلك المسار الأقصر عبْر الوسيط الأبطأ من أجل أن يقلِّص إجمالي وقت الانتقال (انظر الشكل ١٩-١). وفي العام ١٧٤٤، وصف موبرتوي مبدأً أكثرَ عمومية تحت اسم «مبدأ الفعل الأدنى»، والذي ينطبق على كلٍّ من انكسار الأشعة وانعكاسها، وفيه اقترح أن كلتا الظاهرتين تقلِّص الوقتَ مضروبًا في الطاقة، وهو ما يُطلق عليه «الفعل»، وليس الوقت فحسب.
fig40
شكل ١٩-١: مبدأ الفعل الأدنى يفسِّر الانكسار الظاهر لقلمٍ مغمور جزئيًّا في الماء.
لنستوعب المبدأ، سيكون من الأجدى أن نعود سريعًا إلى المشكلة القديمة المتمثلة في فهمِ حركة طيران السهم بعد أن يغادر قوس الرامي. كانت المشكلة قد كدَّرت أرسطو طويلًا، ما دفع جان بوريدان إلى ابتكار مفهوم القوة الدافعة كنوع من أنواع الوقود الذي يزوِّد السهم بالطاقة. إن أي رامٍ يعلم أنه لكي يُصيب هدفًا بعيدًا فإن عليه أن يوجِّه السهمَ عاليًا حتى ينتهي به السقوط على الهدف. وكل مسار للسهم يتحدَّد بصورة مميزة من خلال زاوية انطلاقه وسرعته من القوس. سيعرف الرامي المتمرِّس المسارَ الصحيح للسهم، لكن كيف «يعرف» السهم أي مسار عليه أن يسلكه بمجرد أن ينطلق من القوس من بين بدائل كثيرة ممكنة (انظر الشكل ١٩-٢). إحدى الإجابات هي أن قوانين نيوتن تتنبأ بالمسار الصحيح والمميَّز والذي يأخذ شكل القطع المكافئ من القوس وحتى الهدف. لكن اشتملت الحسابات على قيمةٍ لمفهوم «القوة» الدائري هذا. اكتشف موبرتوي أن بإمكانه الحصولَ على المسار نفسه إذا استغنى عن تلك القوة وافترض عوضًا عن ذلك أن حركة السهم تقلِّص من «فعله» طوال رحلته.
fig41
شكل ١٩-٢: مبدأ الفعل الأدنى يفسِّر المسار الذي على شكل قطع مكافئ للمقذوفات كالسهام.

لنتخيَّل أننا استبدلنا بقوس الرامي داسرًا يعمل بالوقود موضوعًا على قضيب السهم، وأن ذلك الداسر يحرِّك السهم في رحلته من الرامي إلى الهدف. وسنتخيَّل أيضًا أن سرعة داسر السهم واتجاهه يتحكَّم فيهما كمبيوتر صغير مدمج، ويعدِّل هذا الكمبيوتر من سرعته ومساره نحو مسارٍ من شأنه أن يقلِّص من استهلاك الوقود للرحلة بأكملها. الجدير بالذكر هنا أن المسار الذي سيسلكه السهم المحوسب سيكون هو نفسه المسار الذي سيسلكه السهم الحقيقي؛ لأن كليهما يقلِّص من الفعل.

ينص مبدأ الفعل الأدنى على أن حركة أي جسم — كالسهم أثناء طيرانه — ستسلك مسارًا من شأنه أن يقلِّص من إجمالي فعله. يعني هذا إجمالي طاقة الجسم الحركية — عند كل نقطة على طول الرحلة — الناتجة عن حركته مطروحًا من الطاقة الكامنة الناتجة عن موضعه في مجال طاقة كمجال الجاذبية الأرضية. بالنسبة إلى الحركة الناجمة عن طاقة، فإن الفعل سيتماثل تقريبًا مع كم طاقة الوقود المستهلك أثناء تلك الرحلة. وينص مبدأ الفعل الأدنى على أن الفعل بالنسبة إلى الحركة الطبيعية سيتقلَّص إلى أدنى حد. وهو يحكم مسار السهام أو الصواريخ أو الكواكب أو الإلكترونات أو الفوتونات أو أي نوع من أنواع الجسيمات أو حتى الموجات.

عِلاوة على ذلك وما هو بارز أكثر، اكتشف العلماء منذ ذلك الحين أن الكثيرَ من قوانين الفيزياء الأساسية أو معظمها يمكن استقاؤها من مبدأ الفعل الأدنى. على سبيل المثال، وبالنظر إلى حركة الأجسام الكلاسيكية كالسهام أو قذائف المدافع، فإن تقليص الفعل يحدِّد بكل دقة المساراتِ التي تنبَّأت بها قوانين نيوتن الثلاثة للحركة. وحين يُطبَّق هذا المبدأ على مقاديرَ كالطاقة أو الزخم أو الزخم الزاوي، حينها يكشف عن قوانين الحفظ الكلاسيكية بالإضافة إلى مبرهنة نويثر ونظريات المقياس الخاصة بفيزياء الجسيمات. وبالنسبة إلى الجسيمات الكمية كالفوتونات، فإن مبدأ الفعل الأدنى يقدِّم طريقةَ تكامل المسار لريتشارد فاينمان لحساب حركة الجسيمات.١ فحين تنكسر أشعة الضوء بين عصًا مغمورة بالماء وعينِك، فإنها تنكسر على طول مسار الفعل الأدنى. ويضمن القانون نفسه أن تتبع النجوم أو الكواكب أو حتى الثقوب السوداء مساراتها للفعل الأدنى عبْر مجالات الجاذبية، وهي المسارات نفسها التي تنبأت بها نظرية أينشتاين للنسبية العامة.
إن عمومية مبدأ الفعل الأدنى الاستثنائية وقدرته على تقديم هذا الكم من القوانين «الأساسية» يشير إلى أنه مبدأ في غاية العمق ويوضِّح أننا نعيش في «كون كسول»، وذلك طبقًا لما ورد عن عالمة الفيزياء المولودة في جنوب أفريقيا جينيفر كوبرسميث. بالعودة إلى القرن الثامن عشر كان موبرتوي قد زعم أن اكتشافه أن «الطبيعة مقتصدة في كل أفعالها» أثبت وجود الرب.2 ففي عمله المنشور عام ١٧٤٨ بعنوان «استقاء قوانين الحركة والسكون كنتيجة لمبدأ ميتافيزيقي»، قال موبرتوي: «لربما أن تلك القوانين الجميلة والبسيطة للغاية هي القوانين الوحيدة التي رسَّخ لها الخالق والمنظِّم الوحيد لكل شيء فيما يتعلَّق بالمادة بهدف التأثير على كل ظواهر العالم المرئي».

وقد سخِر المفكِّرون في جميع أرجاء أوروبا من فكرته تلك، عوضًا عن أن تتلقى الإشادة كما توقَّع. ومما زاد الطين بِلة، أن مطالبته بالأسبقية في اكتشاف مبدأ الفعل الأدنى كانت محلَّ جدال بين العديد من العلماء، الأكثر شهرة من بينهم كان عالِم الرياضيات الألماني يوهان صامويل كونينج (١٧١٢–١٧٥٧). وقد ناصر فولتير حجَّة كونينج. وحين أُجبِر كونينج الأصغر سنًّا على أن يرحل عن أكاديمية برلين بسبب نفوذ موبرتوي، غضِب فولتير ما دفعه لكتابة عمله «خطاب الدكتور أكاكيا». وقد هبَّ فريدريش العظيم لمناصرة رئيس أكاديميته بأن أمر بحرق هذا العمل. لكن شعرَ موبرتوي بالإهانة. فاستقال من أكاديمية برلين وعاد إلى باريس؛ وحين وجد فيها من الدعم القليل، انتقل إلى بازل في سويسرا؛ حيث مات في العام ١٧٥٩.

لكن التاريخ كان أكثرَ عطفًا على موبرتوي، وعادةً ما يُنسب إليه الفضل في اكتشاف واحد من أعمق المبادئ في العلوم، وهو مبدأ الفعل الأدنى. فتمامًا مثلما أن سرعة الضوء تكون واحدة بالنسبة إلى كل الراصدين، فإن مبدأ موبرتوي لا يكون نتيجة تنبُّؤ من قانونٍ أكثر عمقًا منه، بل يبدو عوضًا عن ذلك جزءًا من الركيزة الأساسية التي يقوم عليها كوننا. إنه شفرة أوكام «قوية» تشدِّد على أن «الفعل» لا ينبغي أن يتضاعف بما يتجاوز الضرورة، وذلك بالنسبة إلى الكون.

مع ذلك ورغم المبدأ، يظلُّ كوننا معقَّدًا للغاية في ظل وجود الكثير من «الأشياء» التي يبدو أنها تفوق الحاجة. النيوترينوات على سبيل المثال — تلك الجسيمات التي تنبأ بها إنريكو فيرمي في العام ١٩٣١ — أعدادها غفيرة بصورة استثنائية، إلا أنها بالكاد تتفاعل مع أي جسيم آخر، ومِن ثَمَّ فإن تريليونات منها تمرُّ عبْر جسدك في كل ثانية من دون أن يحدث لها أي شيء. ألن يكون الكون أكثرَ بساطة من دون تلك الجسيمات؟ عِلاوة على ذلك وكما اكتشفنا، ورغم أن نظرية «النموذج المعياري» بسيطة نسبيًّا حيث يوجد بها سبعة عشر جسيمًا فحسب، فإن بالإمكان جعلها أبسط. فما هي جدوى أغلبية الكواركات واللبتونات في المجموعتين الثانية والثالثة من نظرية المقياس والتي لا تسهم بأي دور في المادة العادية؟ على الأرجح أنك سمعت كذلك بكيانين آخرين يبدوان أنهما يفوقان حدَّ الضرورة بصورة فجة: وهما المادة المظلمة والطاقة المظلمة اللتان يتكوَّن منهما معظم الكون. لماذا لم يقلِّص الكون — لربما تحت وطأة مبدأ الفعل الأدنى — كلَّ تلك الأشياء الزائدة عن الحاجة؟

لكي أقدِّم مبرِّرًا لزعمي أن الكون بسيط بقدرِ ما يمكن له أن يكون، عليَّ أولًا أن أجد أدوارًا للكثير من الكيانات التي يبدو أنها تفوق الضرورة. وسنبدأ بحثنا في موقع إحدى الكوارث التي وقعت قديمًا.

الشتاء قادم

قبل ستة وستين مليون سنة، في الفترة التي نعرفها باسم العصر الطباشيري المتأخر (١٠٠–٦٦ مليون سنة مضت) كان المناخ والمحيطات أكثرَ دفئًا مما نعهدهما اليوم، ما أدَّى إلى حياة حيوانية متنوعة ووفيرة على اليابسة وفي البحر. وفي المحيطات، نجد أن المنخربات الشائكة (التي هي كالأميبا لكن مع وجود غلاف محاري) التي تغذَّت على الميكروبات الضوئية التخليق والطحالب قد عاشت وماتت وتحجَّرت لتصبح السفوحَ المتدرِّجة لتلال نورث داونز الطباشيرية في سوري التي وطِئتها قدما ويليام الأوكامي على الأرجح حين كان طفلًا. وقد تغذَّت مفصليات الأرجل والرخويات والديدان وشقائق النعمان والإسفنجيات وقناديل البحر وشوكيات الجلد والسهميات الشبيهة بالحبار وأقاربها الرأسية الأرجل على المنخربات حتى غاصت أغلفتها المحارية إلى قيعان البحار، لتصبح بعد ملايين السنين الأحجارَ المصوَّرة التي حيَّرت علماء الطبيعة من القرن الثامن عشر الذين تأمَّلوا في أصل الأنواع. وعلى قمة سلسلة الغذاء في المحيطات كانت الأسماك والزواحف البحرية كالبليزوصورات الطويلة العنق والموساصوريات العملاقة التي استخرج ماري آننج هياكلها العظمية المتحجِّرة من منحدرات دورسيت. وعلى اليابسة، أخذت الديناصورات العاشبة كالهادروصوريات البطيات المنقار والتريسيراتوبسات المنقارية تتجوَّل عبْر الغابات الصنوبرية أو تخوض في المستنقعات التي تعجُّ بالحشرات التي تلقِّح النباتات الوافرة الأزهار. لم تكن قط صيحاتُ المفترِسات الأرضية الكبيرة كالتيرانوصور ركس على اليابسة ببعيدة، فيما كانت العظايا المجنَّحة، ومنها العديد من التيروصورات، تصطاد من السماء.

لكن كل هذه المخلوقات كانت على وشْك أن تُصبِح منقرضة. لقد انحرفت صخرة يبلغ عرضها عشرة كيلومترات عن مدارها — وهي التي كانت تتحرَّك في سلام عبْر حافة نظامنا الشمسي لمليارات السنين — بفعل انحناء في الزمكان سبَّبته كتلة الأرض. ذلك الانحناء الذي نعرفه باسم الجاذبية حوَّل مسارَ الصخرة إلى مسار على شكل قطع مكافئ والذي كان جاليليو سيعجب به، لكنه كان مسارًا يتقاطع مع القشرة الأرضية الرقيقة لكوكبنا. وفي الثواني الأخيرة قبل الاصطدام، تسارعت الصخرة لتصل إلى سرعة عشرة كيلومترات في الثانية الواحدة، أي أسرع بعشرين مرة تقريبًا من رصاصة منطلقة.

أيُّ ديناصور صادف أنه رفع رأسه إلى السماء في تلك اللحظات المصيرية كان سيرى كرةَ نار أسطعَ بكثير من الشمس تندفع عبْر السماء. ثم كان سيعقبها وميضُ ضوء شديد بينما يصطدم المذنَّب بخليج المكسيك، مبخِّرة في لحظة واحدة حوالي ألف ميل مكعب من الصخور ومسيِّلة مساحةً شاسعة من القشرة الأرضية، ناحتة فوَّهة عرضُها ١٨٠ كيلومترًا وعمقها كيلومتران. وقد كوَّنت تلك الكتلة الحجرية سحابةً كثيفة من الغبار حجبت الشمس؛ الأمر الذي بدأ شتاءً قاتلًا دام طيلةَ عقود.

جرى محو ما يقارب من ٨٠ بالمائة من كل الأنواع على سطح كوكبنا، ومنها الديناصورات (عدا أبناء عمومتهم، وهم الطيور) فيما يُعرف ﺑ «أسوأ عطلة نهاية أسبوع مرَّت في تاريخ العالَم». إلا أنها لم تكن هي الأسوأ في واقع الحال. فقد كان ثمَّة خمسُ عمليات انقراض جماعي في تاريخ كوكبنا ومجموعة من عمليات الانقراض الأصغر نطاقًا. كان الانقراض البرمي الثلاثي الذي وقع قبل نحو ٢٥٠ مليون سنة أكثرَ تدميرًا بكثير؛ حيث أعقم الأرض تقريبًا بإبادة حوالي ٩٦ بالمائة من كل الأنواع المعروفة، وهي نسبة صاعقة. في واقع الحال، كانت سلسلةٌ من عمليات الانقراض الجماعية قد أعاقت بصورةٍ منتظمة التقدُّم المتروي للانتقاء الطبيعي على كوكبنا.

وجد عالِما الحفريات ديفيد إم روب وجيه جون سيبكوسكي من جامعة شيكاغو أدلةً على وجود نمط لعمليات الانقراض الجماعي بحيث تقع نحو واحدة منها كل ٢٦ مليون سنة. وحيث لا توجد دوراتٌ أرضية معروفة تستغرق مثل هذه الفترات الطويلة، فإن اكتشافهما أطلق بحثًا عن الإجابات في السماء. وأحد أكثر تلك الإجابات إثارة للجدل هي النظرية التي قدَّمها عالِما الفيزياء النظرية ليزا راندال وماثيو ريس من جامعة هارفرد بماساتشوستس. يجادل هذان العالِمان بأن المادة المظلمة قتلت الديناصورات.3 اقترح كلٌّ من راندال وريس أن دوران نظامنا الشمسي حول المجرة بصورة دورية يقرِّبه من قرصٍ رفيع من المادة المظلمة في المستوى المجري الذي يغيِّر مدارات الكويكبات والمذنبات مما يجعلها ترسل وابلًا من الصخور المدمِّرة باتجاه الأرض.

للوهلة الأولى، قد يبدو أن النيوترونوات والمادة المظلمة كيانان فائضان عن الحاجة في كوننا، خاصة بالنسبة إلى الديناصورات. ولكي نكتشف لماذا من دونهما ما كنا لنُوجَد نحن ولا الديناصورات، فإننا بحاجةٍ لسبر أغوار أصول المادة، وتنوعاتها الحية بصفة خاصة.

يتطلب الأمر مجرةً من أجل إنشاء كوكب

في العام ١٩١٥، طبَّق ألبرت أينشتاين نظريةَ النسبية العامة على الكون بأكمله. ولدهشته، اكتشف أن الكون الذي تنبَّأت به النظرية لم يكن ساكنًا؛ إذ ينبغي له أن يكون في حالةِ إما تمدُّد أو تقلُّص. ولكي يعكس عدمَ الاستقرار هذا وينشِئ كونًا ثابتًا، أضاف أينشتاين ثابتًا كونيًّا، وهو نوعٌ من أنواع طاقة الفضاء يقدِّم شكلًا من أشكال الضغط ضد التقلُّص. لكن، في العام ١٩٢٩، قاس عالِم الفلك إدوين هابل سرعاتِ المجرات واكتشف — لدهشته — أن كل المجرات تقريبًا تتحرَّك مبتعدةً عنا؛ حيث إن الكون في حالة تمدُّد. فتخلَّى أينشتاين عن ثابته الكوني، وقال إنه «أكبر حماقة» له في حياته.

إن كان الكون في حالة تمدُّد في المستقبل فلا بد أنه كان أصغرَ بكثير في الماضي. فإذا ما أخذنا الكونَ الحالي وأدرنا عقاربَ الساعة إلى الوراء، يمكننا أن نتوقَّع أن كل المادة في الكون قبل نحو ١٣,٨ مليار سنة — حين كان عمر كوننا ثانية واحدة فقط — انسحقت إلى كرة فائقة الحرارة تقريبًا بحجم تفاحة وكانت مملوءة بغاز من جسيمات أولية من نوعٍ ما. ثمَّ تمدَّد هذا الكون الذي في حجم تفاحة أثناء الانفجار العظيم ليقدِّم وميضَ الإشعاع الذي رصده كلٌّ من آرنو بينزيس وروبرت وودرو ويلسون بعد ذلك بنحو ١٣,٨ مليار سنة بهوائي البوق الموضوع على قمة تل في نيو جيرسي. إلا أن بينزيس وويلسون ما كان لهما ليكونا على قمة ذلك التل، وما كان ليكون ثمَّة تل أو نيو جيرسي لولا وجود النيوترونوات.

أول الأدوار التي لعبتها النيوترونوات في وجودنا كان المساعدة في إشعال النجوم. فمع استمرار تمدُّد الكون بعد وقوع الانفجار العظيم، بدأ الهيدروجين وكمياتٌ صغيرة من الهيليوم يتَّحدان تحت تأثير جاذبيتهما لتكوين النجوم الأولية. في بداية الأمر، كانت تلك النجوم أجسامًا مظلمة، لكن مع زيادة كثافتها، انصهرت بروتونات الهيدروجين لتكوِّن أنوية الهيليوم التي أشعلت الأفران النووية للنجوم وأطلقت أولى دفقات الضوء النجمي للكون. النيوترونوات أساسية لهذا التفاعل. والحاجة إليها مرجعها الوفاء بأحد قوانين الحفظ تلك التي تتطلبها مبرهنة إيمي نويثر؛ في هذه الحالة قانون حفظ اللبتونات. يتطلَّب القانون أن يظلَّ العدد الإجمالي للبتونات (الإلكترونات، والميوونات وجسيمات التاو والنيوترونوات) ثابتًا. يمكن أن يحدث هذا فقط في الانصهار النووي النجمي عبْر إطلاق أعداد هائلة من النيوترونوات في الانفجارات النجمية. لذا وبعيدًا عن كون النيوترونوات فائضة عن الحاجة، لو أنها لم تكن موجودة لكان الكون مظلمًا ولا حياة فيه.

كما لعِبت النيوترونوات أيضًا دورًا مهمًّا في توزيع العناصر الضرورية للحياة على المناطق التي قد تنشأ فيها حياة. أنتج الانفجار العظيم الهيدروجين والهيليوم، لكن لم يُنتج الكربون ولا النيتروجين ولا الفوسفور ولا الكبريت. تلك العناصر الأثقل الضرورية للحياة أُنتجت بفعل التخليق النووي داخل الأجزاء الداخلية الفائقة الحرارة في النجوم، لكن لم تستطِع الحياة الوصول إليها فيما ظلت حبيسة داخل أكثرِ أجسام كوننا سخونة وحرارة. وهنا صنعت تلك النيوترونوات الصغيرة فارقًا كبيرًا آخر.

يتوقَّف مصيرُ النجوم على حجمها وتكوينها. لو كان حجمها صغيرًا كشمسنا، فإنها حين ينفد منها الوقود الهيدروجيني تتمدَّد لتشكِّل نجومًا حمراء عملاقة قبل أن تتقلَّص لتصبح نجومًا قزمة بيضاء تحبِس مرة أخرى كل عناصرها الثقيلة الثمينة والضرورية للحياة. لكن النجوم العملاقة والتي تصل في أحجامها إلى أكبرَ من حجم شمسنا بعشرة أضعاف فإنها تنزِع لأن تنطفأ محدِثة انفجارًا أكثرَ من نزعتها نحو أن تحدِث أنينًا. وجاذبية تلك النجوم تجعل منها مفترسة، فتبتلع النجوم الأصغر القريبة منها في حلقةِ تغذية راجعة إيجابية فيما يتعلَّق بالجاذبية، وذلك حتى تنهار لتكوِّن نجمًا نيوترونيًّا. قد يتكثَّف مركز نجم نيوتروني هائل بصورةٍ أكبرَ ليُصبح ثقبًا أسودَ، ما يحبس ثانيةً كلَّ عناصره الضرورية لوجود الحياة. لكن وفيما ينهار النجم النيوتروني، فإنه يطلق موجةً صادمة تحدِث تمدُّدًا في الغلاف الخارجي للنجم والذي يتداعى بدوره في البداية، لكنه بعد ذلك يُعاد إشعاله حين يطير دفق من النيوترونوات من لبِّه. هذا الإشعال الناتج عن النيوترونوات هو ما يَخلق أكثرَ أحداث كوننا طاقةً، وهو انفجار مستعِر أعظم، كمثل ذلك الذي لاحظه تايكو براهي في العام ١٥٧٢.

والمستعِر الأعظم مسئول عن إرسال العناصر الثقيلة كالكربون والأكسجين والفوسفور والتي هي كلها ضرورية لوجود الحياة إلى المناطق الباردة؛ حيث يمكن للحياة أن تستفيد منها، كما يحدث على كوكبنا. قد يبدو هذا مبتذلًا في أيامنا هذه، لكن وكما غنَّت جوني ميتشل في العام ١٩٧٠، فإننا فعلًا مخلوقون من غبارٍ نجمي موزَّع عبْر أعداد هائلة من النيوترونوات البالغة الصِّغر. كان الكون سيصبح مكانًا كئيبًا للغاية من دون تلك الجسيمات المحايدة التي تكاد تكون عديمة الكتلة، وفي ذلك هي بعيدة كل البعد عن كونها كياناتٍ فائضة عن الحاجة.

المادة والطاقة المظلمة

تشكِّل المادة المظلمة — وهي المادة التي ربما كانت مسئولة عن إبادة الديناصورات — ما يقارب ٢٧ بالمائة من الكون. أما نسبة اﻟ ٦٨ بالمائة الضخمة المتبقية من الكون، فهي تتكوَّن من كيان غامض آخرَ يُعرف باسم الطاقة المظلمة. والشمس والنجوم والكواكب مسئولة عن ٥ بالمائة فقط من المادة والطاقة. فلمَ بدَّد الكون الكثيرَ من موارده بهذا الشكل في صناعة الكثير من هذه الأشياء المظلمة التي يبدو أنها فائضة عن الحاجة؟

في واقع الأمر، إن المادة المظلمة ليست على الإطلاق فائضةً عن الحاجة؛ فقد لعِبت دورين رئيسيَّين على الأقل في وجودنا. الدور الأول كان في شكل المساعدة في إنشاء المجرات. كان أمرُ إنشاء المجرَّات هذا محيرًا؛ لأن إشعاع الخلفية الكونية — كما أوضح نيل توروك (ارجع للمقدمة) — في غاية السلاسة، مما يشير إلى أن الكون لدى ولادته كان في غاية البساطة؛ حيث كان في غاية السلاسة والرتابة بعض الشيء. ولو ظلَّ على ذلك المنوال، لما نشأت المجرات والنجوم. لكن إذا ما فحصنا إشعاعَ الخلفية الكونية (ارجع إلى الشكل ٢) فحصًا متأنيًا وركَّزنا على أوجه عدم الانتظام فيه، فسيمكننا تمييزُ تكتلات ومجموعات ونسائل من مادة أكثرَ كثافة قليلًا. يبدو أن المادة المظلمة لعبت دورًا محوريًّا باضطلاعها بدور عامل التخثُّر الذي ساعد في تكتُّل الغاز المنتشر وتحوُّله إلى السُّحب المتكتلة التي أصبحت المجرَّات والنجوم والكواكب وفي نهاية المطاف، نحن.

برز الدورُ الآخر للمادة المظلمة من الملاحظة التي تقول بأن المجرات القديمة كمجرتنا درب التبانة مستمرةٌ في صنع نجوم جديدة بوتيرة تصل إلى نحو نجم واحد في كل عام، وذلك على أطرافها في الغالب. يمثِّل هذا الأمر لغزًا؛ حيث كان يُعتقد أن المادة الخام لصنع النجوم تكوَّنت في غالب الأحيان أثناءَ الانفجار العظيم، وأنها استُنزفت بحلول الوقت الراهن. صحيح أن المستعِرات العظمى تلعب دورًا مهمًّا في إعادة تدوير المادة النجمية، لكن حين تنفجر تلك المستعِرات فإن «مقذوفاتها» تندفع في الفضاء بسرعةٍ تصل إلى ألف كيلومتر/ثانية. تذكَّر أن الفضاء هو في الغالب فضاء. لذا لا يوجد شيء تقريبًا يمكنه إيقاف بقايا المستعِرات العُظمى، بكلِّ ما تحويه من عناصرَ ثقيلة ضرورية للحياة — ومنعها من الاندفاع بعيدًا عن مجرتنا وضياعها للأبد في الغياهب الشاسعة للفضاء بين المجرات. لو كان هذا هو مصير معظم مقذوفات المستعِرات العُظمى، لتجرَّدت المجرات من غازاتها وغبارها البينجمي منذ وقت طويل مضى، مما يسبِّب تعطُّل محرِّكات صنْع النجوم.

والسبب في أن ذلك لم يحدث اتضح بفعل ملاحظةٍ أبدتها عالِمةُ الفلك الأمريكية فيرا روبن. وُلدت فيرا في العام ١٩٢٨ وأصبحت مفتونةً بالفلك مذ كانت في نحو العاشرة من عمرها. وحين بلغت الرابعة عشرة، أنشأت تلسكوبها الخاص بها، وبحلول الوقت الذي غادرت فيه المدرسة، استقر في نفسها إصرارٌ على أن تحترف علم الفلك. لكن كان هذا في أربعينيات القرن العشرين، ولم تكن السلوكياتُ تجاه النساء في المجالات العلمية في أمريكا بأفضلَ من السلوكيات التي جابهتها إيمي نويثر في ألمانيا. فحين تقدَّمت فيرا لتتخصَّص في العلوم في كلية سوارثمور بولاية بنسلفانيا، سألها موظَّف طلبات التقديم عن المسار المهني الذي ترغب في اتباعه. فقالت إنها تطمح لأن تصبح عالِمة فلك. بدا الشك على ملامح المحاوِر وسألها إن كان لديها أيُّ اهتمامات أخرى. أجابت فيرا بأنها يروق لها أن ترسم. فردَّ المحاوِر: «هل فكَّرت من قبلُ قط في مسارٍ مهني ترسمين فيه صورًا للأجسام الفلكية؟»4 وأصبح مقاله هذا دُعابة مفضَّلة لدى الأسرة. فمتى ارتكب أحدهم خطأً كان أحدهم يتهكم منه قائلًا: «هل فكَّرت من قبلُ قط في مسار مهني ترسم فيه صورًا للأجسام الفلكية؟».

إلا أن فيرا لم تعبأ بتلك النصيحة المبكِّرة في حياتها المهنية، وأصبحت أحدَ أبرز علماء الفلك في جيلها. ففي العام ١٩٦٥ اضطلعت بوظيفةٍ في مؤسسة كارنيجي البارزة بواشنطن؛ حيث باشرت هي وزميلها كينت فورد مشروعًا لقياس توزيع الكتلة داخل المجرات من خلال قياس سرعة دوران النجوم. تشدِّد قوانين نيوتن على أن قوة الجاذبية تتناسب مع الكتلة؛ وحيث كان من المفترض أن تكون معظم كتلة المجرة متركزة في حوصلتها المركزية، كان من المتوقَّع أن تدور النجوم الداخلية بسرعة، والنجوم الخارجية على نحوٍ أبطأ، تمامًا كما تدور الكواكب الخارجية حول الشمس بصورة أبطأ بكثير من الكواكب الداخلية.

لكن حين قاست كلٌّ من روبن وفورد دوران النجوم في مجرة المرأة المسلسلة القريبة، وجدتا أن المسافة بين أي نجم ومركز المجرة لم تؤثِّر على سرعته مطلقًا. عوضًا عن ذلك، كانت النجوم الخارجية تدور بالسرعة نفسها التي تدور بها النجوم الأقرب إلى المركز. في بداية الأمر، لم تصدِّق روبن البياناتِ، لكنها أعادت هي وفورد إجراءَ القياسات على المزيد والمزيد من النجوم وحصلتا على النتائج نفسِها تمامًا. فخلصتا في نهاية المطاف إلى أن المجرات الحلزونية كانت تشمل مادةً يبلغ حجمها نحو ستة أضعاف تلك التي تشملها النجوم الظاهرة، وأن تلك المادة المظلمة مسئولة عن تسارع النجوم الخارجية في مجرة المرأة المسلسلة.5 ولاحقًا تأكدت ملاحظات كلٍّ من روبن وفورد بفعل الكثير من الملاحظات الأخرى للمجرات البعيدة. وقد بدت كل مجرة من تلك المجرات وكأنها محاطة بهالة من مادة مظلمة باردة غير مرئية.

إن استمرار تكوُّن النجوم يعود إلى هذه الهالة الخفية من المادة المظلمة. تعمل هذه الهالة عملَ درعِ الجاذبية التي تحرِّف مسارَ معظم مقذوفات المستعِرات العظمى لتعيدها إلى داخل المجرة ثانية. وهناك يمكن لها أن تتكثَّف لتكوِّن نجومًا جديدة، كالشمس مثلًا، وكذلك أيضًا الكواكب الصخرية كالأرض. نحن نتاج مقذوفات النجوم المنفجرة؛ لكننا كنا بحاجة للمادة المظلمة لتوجيه عناصرها الكثيفة نحو المناطق الصالحة للحياة.

بعد أن وجدنا دورًا للمادة المظلمة في وجودنا، هل بإمكاننا إيجادُ دور للطاقة المظلمة؟ ليس بعد. فهي تظل في غاية الغموض. والعلامة الوحيدة على وجودها هي الاكتشاف المذهل القائل بأن تمدُّد الكون يبدو أنه مطرد. لكن وبالأخذ في الاعتبار أننا لا نعرف شيئًا عن طبيعة الطاقة المظلمة، فليس من الممكن التكهُّن بالدور الذي تلعبه في وجودنا، لكن لو كنت محقًّا، فسيكون لها دور بالتأكيد.

ولا يبقى في كوننا إلا مجموعةٌ ضئيلة من الأشياء المرشحة لأن تكون فائضةً عن الحاجة. تختلف جسيمات المادة في الجيلين الثاني والثالث في نظرية النموذج المعياري عن جسيمات الجيل الأول فقط من حيث الكتلة، وتبدو وكأنها تفوق الضرورة، ذلك أنها ليست موجودة في المادة الاعتيادية القياسية. وقد لا تزال ثمَّة أدوارٌ لتُكتَشف، ربما في صنْع العناصر الكثيفة بداخل النجوم أو في المستعِرات العظمى أو في تخليص كوننا من المادة المضادة القاتلة.6 أيضًا ولكي يكون الكون بالشكل الذي هو عليه الآن، ينبغي على قوانين الفيزياء أن تميِّز بين الجسيمات والجسيمات المضادة، هذا بالإضافة إلى تقدُّم الزمن للأمام وتقهقره للخلف. يبدو أن ثلاثة أجيال من الجسيمات هي الحد الأدنى اللازم لكي يجري الكون هاتين التفرقتين.

لذا، ورغم وجود بضعة أمور عالقة، يظل من المرجَّح أننا نعمُر كونًا هو أقرب إلى كونِه بسيطًا بقدرِ ما يمكن له أن يكون فيما يظلُّ أثناء ذلك صالحًا للسكنى. لكن لماذا؟ لكي نتطرق إلى هذا السؤال، ينبغي لنا أولًا أن نتناول مشكلة من مشكلات الضبط.

عملية الضبط الدقيق

نظريةُ النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات لا تشمل فحسب الجسيمات كالكواركات أو الإلكترونات أو الفوتونات والقوى التي تعمل فيما بينها، بل تشمل أيضًا بعضَ الأعداد المستبعَدة كثيرًا. تشمل تلك الأعدادُ كتلَ كل الجسيمات الأولية، بالإضافة إلى قوة القوى التي تعمل فيما بينها. ولا تتنبأ أيُّ نظرية بهذه القيم. عوضًا عن ذلك يجري ملاءمتها مع البيانات المستخرَجة من مصادمات الجسيمات بالطريقة نفسها تقريبًا التي اتبعها بطليموس في ملاءمة أفلاك التدوير عنده مع البيانات الفلكية قبل ألفي عام. وهذه القيم اعتباطية على حد علمنا.

تذكَّر لعبة النَّرد الخيالية التي لعِبها عالِما إحصاء تانبريدج ويلز، بايز وبرايس. تخيَّل أن الموقَّر بايز يحتفظ بكل أوراقه المهمة في خزنةٍ مؤمنة بقفل رقمي له عشرة ألسنة دوارة، وينبغي تدوير كلِّ لسان إلى رقمٍ بعينه بين الرقمين صفر و٦٠ قبل أن يُفتح بابها. لكن الموقَّر أخطأ في إدخال الأرقام، ولا يمكنه فتحُ القفل. وتمامًا حين يئس الموقَّر من إمكانية حصوله على أوراقه ثانية أبدًا يزوره السيد برايس. ويصدف أنه أحضر معه حجرَ نَردِه ذا الستين وجهًا، ولكي يشتِّت انتباه بايز ويلهيه عن غضبه، يقترح عليه أن يلقي بالنَّرد ليرى إن كان بالإمكان اكتشافُ أرقام القفل من خلاله. بالطبع يساور الشكُّ بايز كثيرًا، لكنه يوافق أن يجري تلك المحاولة حيث يفتقر إلى أي بديل آخر. يلقي برايس بالنَّرد فتظهر الأرقام ٥٥، ٢٣، ٤٨، ٥، ٧٦، ٢٢، ٣٥، ٥٩، ٤١، ٨. يحرِّك بايز ألسنةَ القفل على هذه الأرقام ويُذهل حين يكتشف أنها فتحت القفل.

الذهول الذي أُصيب به بايز مبرِّره قوي. فاحتمالية أن يأتي برايس عشوائيًّا بالأرقام الصحيحة هي ٦٠ أس ١٠، أي ٦٠١٠. ولكي أصيغ الأمر بكلماتٍ أخرى، احتمالية أن يأتي برايس بهذه الأرقام بعينها تساوي ٦٠٠ مليون إلى واحد. بالطبع قد يكون مرات إلقاء برايس للنَّرد مجرد حظ مطْلق، لكن الموقَّر بايز سيبحث على الأرجح عن تفسير أبسط، كأن يكون الأمر خدعة مثلًا.

وبالمثل فإن قيمَ الثوابت الأولية في غاية الندرة، وهي أرقام مستبعَدة إلى حد كبير، لكن قيمتها الدقيقة ضرورية بالنسبة إلى وجودنا. انظر على سبيل المثال إلى كتل الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات التي تشكِّل الذرَّات. إننا إذا ما عيَّنا القيمة ١ إلى كتلة البروتون فإن وزن الإلكترون يساوي ٠٫٠٥٤٣ بالمائة من كتلة البروتون، في حين تبلغ كتلة النيوترون ١، ككتلة البروتون. ليس لدينا من سببٍ نعرفه يفسِّر أيًّا من هذه الكتل، لكن لو غيَّرنا أيًّا منها ولو بمقدارٍ في غاية الضآلة لما وُجِدنا.

على سبيل المثال، كتلة النيوترون ليست هي نفسها كتلة البروتون بحيث إذا ما حدَّدنا كتلةَ البروتون النسبية بدقة أكبر إلى ١٫٠٠٠ فإن كتلة النيوترون ستساوي ١٫٠٠١، أي أثقل من البروتون بنسبة ٠٫١ بالمائة فقط. أليس هذا غريبًا بعض الشيء؟ الأمر وكأن أحدَ الآلهة أو قوانين الفيزياء أمرَ أن تكون كتلتَا تلك الجسيمات متساويتين، لكنَّ أحدَهم حسبهما بصورة خاطئة بفارق ضئيل. ربما لا يهم ذلك، أليس كذلك؟ في واقع الأمر، هو مهمٌّ بصورة هائلة؛ حيث إن نسبة الاختلاف البالغة ٠٫١ بالمائة هذه مسئولةٌ عن شخصية النيوترون المزدوجة الغريبة كشخصية جيكل وهايد، والتي هي ضرورية وأساسية في كون العالَم على ما هو عليه.

نتناول أولًا شخصية هايد المعقَّدة البغيضة. النيوترونات الحرة تكون عاليةَ الإشعاع وتنحل سريعًا إلى بروتون وإلكترون ومضاد نيوترينو مع متوسط عمرٍ يبلغ خمس عشرة دقيقة تقريبًا. وهذا انحلال سريع للغاية، أسرع من انحلال عنصر عالي الإشعاع حتى كالبلوتونيوم ﺑ ١٦٠٠ مرة. ويعود عدم ثبات النيوترون إلى أن كتلته الضئيلة الإضافية هذه تكون كافية تمامًا لانحلاله إلى كلٍّ من بروتون وإلكترون، بالإضافة إلى نيوترينو يكاد يكون منعدم الكتلة. ويلعب هذا التفاعل دورًا محوريًّا في تفاعل الاندماج النووي النجمي المسئول عن التخليق النووي للعناصر الثقيلة الضرورية للحياة. لكن تشكِّل النيوترونات أيضًا ما يقارب ٢٠ بالمائة من كتلة أجسامنا. وإن كانت النيوترونات الموجودة في الذرات بداخل أجسامنا بهذا القدرِ من الإشعاع فإن لحمنا كان ليتفكك وينحلَّ في غضون دقائق.

وتعود حقيقةُ أن لحم أجسادنا لا يتساقط عن عظمنا إلى شخصية جيكل المهذَّبة التي تتبناها النيوترونات حين تكون عالقة داخل الذرات. هنا، تلك الكتلة الضئيلة الإضافية التي كانت كافية للسماح للنيوترونات بالانحلال خارج الذرة تصبح غيرَ كافية بما يسمح بوقوع الحدث نفسه بداخل الذرة. والسبب في ذلك أنه من أجل أن يحدُث الانحلالُ ينبغي أن تتمتَّع تلك الكتلة بطاقة كافية للتغلب على القوى النووية الإلزامية المفعول. ويتطلب هذا نسبةً ضئيلة إضافية من الطاقة أكثرَ من تلك التي توفِّرها الكتلة الإضافية ذات نسبة ٠٫١ بالمائة. وهكذا تكون النيوترونات مهذَّبة ومستقرة بداخل الذرات. لكن إن كان النيوترون أثقلَ مما هو عليه بنسبة ٠٫١ بالمائة، أي أثقل من البروتون بنسبة ٠٫٢ بالمائة فقط، فإن النيوترونات ستنحلُّ بداخل الذرات، وسيكون من المستحيل تشكُّل المادة بالشكل الذي نعرفه بها.

ولن تكون الأمور أفضلَ بأي حال إن كانت النيوترونات أخفَّ مما هي عليه بمقدار ضئيل. فإذا ما كان النيوترون أقلَّ كثافة من البروتون بمقدار ضئيل، فإن النيوترونات الحرة ستكون مستقرة بحيث تصبح هي المنتَج الأساسي الناتج عن الانفجار العظيم، عوضًا عن البروتونات. والنيوترونات تكون غيرَ مشحونة؛ لذا فإنها وعلى عكس البروتونات تكون غيرَ قادرة على جذب الإلكترونات السالبة الشحنة لتكوين ذرات هيدروجين مستقرة والتي تشكِّل بدورها النجوم. إن كونًا افتراضيًّا تهيمن فيه النيترونات المستقرة سيكون كونًا من دون ذرات أو مادة أو نجوم أو من دوننا نحن البشر. تلك الكتلة الإضافية الضئيلة ليست ضرورية فحسب، بل من الضروري أن تكون موجَّهة في الاتجاه الصحيح.

تعجُّ الفيزياء بكل هذه «المصادفات» والقيم الغريبة التي تبدو أنها مضبوطة على نحو دقيق مع متطلبات كونٍ قادر على احتضان الحياة. أول مَن أدرك هذا كان مجموعة من العلماء، منهم الفيزيائيان الأمريكيان فرانك تيبلر وجون بارو اللذان ألَّفا كتاب «المبدأ الكوني الأنثروبي»7 في العام ١٩٨٦. يُبرِز هذان العالِمان الكثيرَ من قيم المتغيِّرات والمصادفات في الفيزياء والتي ليس لها تفسير لكنها أساسية بالنسبة إلى وجودنا. إذا ما عُدنا إلى قياس القفل البايزي، يبدو الأمر وكأن كونًا قادرًا على احتواء الحياة — كالكون الذي نسكنه — اعتمد على إلقاء أحجارِ نَردٍ عديدة متعددة الأوجه، بحيث تسقط على الرقم المناسب بما يقدِّم مجموعات الأرقام التي تفتح مئات الخِزَن. ومحاولة فهْم كيف وصل الكون إلى هذه القيم تُعرف باسم مشكلة الضبط الدقيق.

يدفع بارو وتيبلر بأن هذه القيم المستبعَدة بصورة استثنائية لا يمكن أن تفسِّرها إلا حقيقةُ أننا نعيش في «كون أنثروبي» بمعنى أن الثوابت الأساسية لو كانت تحمل قيمًا مختلفة فإننا ما كنا لنُوجَد لنتحسَّر على عدم وجودنا. والمبدأ الأنثروبي لا يفسِّر القيمَ المستبعَدة، إنما يقبل فحسب فكرةَ أنها ضرورية للوجود. ولا يفسِّر كذلك كيف وصل الكون إلى مجموعة ثوابته الأساسية المضبوطة بدقةٍ ولا مَن، أو ما، الذي ألقى بالنَّرد.

يبدو أن هناك عددًا محدودًا فحسب من الاحتمالات. يرى المؤمنون بوجود إله أن أوجهَ المصادفة الكونية هذه دليلٌ على وجود يدٍ إلهية تقلب ألسنةَ القفل بوعي وإدراك إلى الأرقام الدقيقة، تمامًا كما حاجج ويليام بيلي بأن صانع ساعات مقدَّس لا بد أنه هو مَن صاغ التراكيبَ البيولوجية المعقَّدة كالعين مثلًا. تُطِلُّ علينا ثانية هنا حجةُ إله الفجوات والتي لا تحُلُّ شيئًا في واقع الأمر، بل تمرِّر التبرير فحسب من الكون المعروف إلى إله وجوده مفترض.

الحل الآخر هو نظريةُ الكون المتعدد، التي تُعرف أيضًا بنظرية العوالم المتعددة أو نظرية الكون الموازي. تقترح هذه الفكرة — والتي تشتهر بين أوساط محبي الخيال العلمي — أن ثمَّة عددًا ضخمًا، وربما كان لا نهائيًّا من الأكوان الموازية، لكلٍّ منها قيمٌ مختلفة للثوابت الأساسية. معظم هذه الأكوان عقيمةٌ لكن يصدف أن الثوابت الأساسية لقدرٍ ضئيلٍ منها مضبوطة مع القيم المستبعَدة التي تتوافق هي والحياة. ونسكن نحن أحدَ الأكوان السعيدة الحظ، وليس ثمَّة أحدٌ حولنا في الغالبية العظمى من الأكوان التعيسة الحظ ليتحسَّر على غياب الذرات أو النجوم أو العناصر الثقيلة أو الكواكب أو الحياة الذكية.

الكون المتطور

وُلد لي سمولين في مدينة نيويورك ودرس الفيزياءَ النظرية في جامعة هارفرد قبل أن ينخرط في مسيرةٍ من البحث بدأت في معهد الدراسات المتقدِّمة في برينستون، وهو المعهد الذي اتخذ منه كلٌّ من ألبرت أينشتاين وهيرمان فايل ملاذًا لهما أثناء الحرب. ثم اضطلع بعدة وظائف مرموقة قبل أن يُصبح أحدَ أعضاء التدريس المؤسِّسين لمعهد بريمتر في أونتاريو بكندا. وقد شارك سمولين أثناء مسيرته في البحث عن نظريةٍ موحَّدة من شأنها أن تربط كلَّ القوى والجسيمات في الفيزياء. سمولين هو أحد صائغي نظريتَي الأوتار والأوتار الفائقة، اللتين تُعَدان في طليعة محاولات توحيد الجاذبية مع جسيمات وقوى نظرية النموذج المعياري.

تقترح نظريات الأوتار (حيث هناك الكثير منها) أن جسيمات المادة كالكواركات والإلكترونات والبروتونات وما إلى ذلك، هي كلها تعبيرات عن أوتارٍ أصغرَ بكثير تهتز وتتذبذب. لكن ولكي تؤتي هذه النظريات ثمارها، تحتاج الأوتار إلى التذبذب في كونٍ ذي ستة وعشرين بُعدًا أو عشرة أبعاد. لسوء الحظ في ظل وجود الكثير من الأبعاد، يقفز عدد نظريات الأوتار الممكنة إلى رقمٍ هائل، وربما كان لا نهائيًّا. إن التعقيد الزائد عن الحد يسمح — تمامًا كما في النظام الشمسي البطلمي — لنظريات الأوتار أن تُضبَط ضبطًا دقيقًا لتناسب جميعَ البيانات تقريبًا. والنظرية غيرُ قادرة في الوقت الراهن على الإتيان بأي تنبؤ قابل للاختبار.

بعد أن ضاق ذرعًا بفشل نظرية الأوتار على الارتباط بالواقع، بحثَ سمولين عن طريقةٍ بديلة لتفسير مشكلة الضبط الدقيق. في كتابه بعنوان «حياة الكون»8 الذي نُشِر في العام ١٩٩٩، وكذا في كتابه بعنوان «إعادة إحياء الزمن»9 الذي نُشِر مؤخرًا في العام ٢٠١٣، يدفع سمولين بأن الانتقاء الطبيعي قد يفسِّر الاحتماليةَ المستبعَدة لوجود كوننا. فيقترح أن كوننا هو نتاج عملية كونية تطورية تماثِل الانتقاءَ الطبيعي تقريبًا، والتي يُطلِق هو عليها اسم الانتقاء الطبيعي الكوني.

نظامٌ بيئيٌّ كونيٌّ

لكي يعمل الانتقاء الطبيعي مع الأكوان، يحتاج إلى بعض الضبط الدقيق. وينبغي لسمولين أن يمدَّ الأكوان بثلاثة العناصر الأساسية للانتقاء الطبيعي: وهي الاستنساخ الذاتي، والوراثة والطفرات. تلعب الثقوبُ السوداء دورًا مهمًّا في كلٍّ منها. وسنبدأ بالاستنساخ الذاتي. ستذكُر أن الثقوب السوداء هي بمثابة نقطةِ النهاية لانهيار النجوم الهائلة الكتلة التي أصبحت قوةُ جذبها غايةً في الكِبَر حتى إن الضوء نفسه لا يمكنه الفِكاك منها. يُعتقد أن الثقوبَ السوداء تقبع في مركز معظم المجرات، بما فيها مجرتنا؛ حيث تبتلع النجوم المحيطة لتطلق كمياتٍ هائلة من الطاقة.

وأحد السيناريوهات الممكنة لنهاية كوننا هو أن يبتلع ثقبٌ أسود مهول كلَّ المادة الموجودة به في سيناريو يُعرف باسم الانسحاق العظيم. تخيَّل الآن تصويرَ هذا السيناريو الكئيب وإعادة عرض الفيلم بالعكس. سيكون المشهدُ الأول لهذا التسجيل المصوَّر تسجيلًا لثقبِ الانسحاق العظيم الأسود الذي ابتلع لتوه آخرَ بقايا كوننا. وبما أنه لم يَعُد هناك شيء آخرُ في الكون، ولا أداة قياس يُقاس بها أيُّ شيء، يُصبح ثقب الانسحاق العظيم الأسود نقطةً منعدمة الأبعاد في فضاء منعدِم الأبعاد. لكن بعد لحظة (في الفيلم الذي يُعاد عرضه بالعكس) سيتقيَّأ الثقب الأسود الخفي المهول جسيماتٍ أساسيةً وطاقة من شأنهما أن يندمجا فيتحولا على مدى ملايين السنين إلى ذرات ونجوم وكواكب مأهولة حتى. إن سيناريو الانسحاق العظيم المعاد عرضه بالعكس هذا سيبدو شبيهًا للغاية بالأصل الذي كان عليه كوننا أثناء الانفجار العظيم.

وبما أن قوانين الفيزياء متناظرة في الزمن، فإن الانسحاق العظيم المعكوس هذا ممكن فيزيائيًّا بقدرِ الانفجار العظيم. ويؤدي تناظر الحدثين بالكثير من علماء الكون إلى الدفع بأن ما يبدو أنه ثقبٌ أسود متعطش لابتلاع النجوم في كوننا قد يكون الانفجار العظيم لكونٍ آخرَ على الجانب الآخر. وعلى النقيض من ذلك، يدفع سمولين بأن الجانب الآخر من الانفجار العظيم الذي دشَّن كونَنا قد يكون هو الانسحاق العظيم للكون الذي يُعَد سلفه. لذا وطبقًا لسمولين (وللعديد من علماء الكون الآخرين)، لم يبدأ الزمن مع الانفجار العظيم، بل يستمر بالعكس أثناء الانفجار العظيم الذي وقع في جانبنا مرورًا بالانسحاق العظيم للكون السالف له وموته، ثم إلى ولادته من ثقبٍ أسود، وهكذا دواليك بالعودة في الزمن، ربما إلى اللانهائية. ليس هذا فحسب، بل بما أن كوننا يعجُّ بعددٍ من الثقوب السوداء يُقدر بمائة مليون ثقب فإن سمولين يقترح أيضًا أن كل ثقب أسود منها يُعد السلف لكونٍ من مائة مليون كونٍ انحدر من كوننا.

وباضطلاع الثقوب السوداء بدور الخلايا التناسلية أو الأمشاج للأكوان، يشمل نموذج سمولين نوعًا من عمليات الاستنساخ الذاتي. والعنصر الثاني من عناصر السيناريو الخاص به هو الوراثة. يضمِّن سمولين هذا من خلال اقتراح أن كل كون من النسل يرث المعاملات وقيمَ الثوابت الأساسية وكتلَ الجسيمات وما إلى ذلك من الكون السالف له. يمكننا أن نتخيَّل تلك الأشياء بأنها الجينات الكونية٢ التي تشفِّر مواصفاتِ الأكوان تمامًا كما تشفِّر الجينات البيولوجية مواصفاتِ الكائنات الحية.

وأخيرًا تحتَّم على سمولين حلُّ المشكلة التي أفسدت نظريتَي داروين ووالاس عن الانتقاء الطبيعي: ألا وهي مشكلة إيجاد مصدر للتباين الجديد يمكن للانتقاء الطبيعي التعلُّم منه. هنا يقترح سمولين، وكان في ذلك مستقيًا إلهامَه من علم الأحياء ثانية أن المرور العنيف والمضطرب لأحد الأكوان وجيناته الكونية عبْر ثقب أسود يتسبَّب في بعض الأحيان في تغيير قيمِه الدقيقة بفعل شيء يشبه الطفرة.

وفكرةُ أن قوانين الفيزياء قد تكون عرضةً للتغيير ليست بالفكرة الجديدة. يشير سمولين إلى أن الفيلسوف الأمريكي من القرن التاسع عشر تشارلز ساندرز بيرس (١٨٣٩–١٩١٤) — الذي كان متأثرًا بشدة بالنظرية الداروينية — اقترح أن قوانين الفيزياء قد تتطوَّر كما تفعل الكائنات الحية. وقد أبدى عالِم الرياضيات الإنجليزي ويليام كينجدون كليفورد (١٨٤٥–١٨٧٩) زعمًا مماثلًا. بل حتى اللاهوتيون العصرأوسطيون مثلَ ويليام الأوكامي دفعوا بأن الربَّ لربما خلق عوالمَ تختلف عن عالَمنا. كما اقترح علماء الفيزياء جون آرتشيبالد ويلر وريتشارد فاينمان وسيثل لويد جميعًا أن قوانين الفيزياء قد تكون خاضعة للتغيير10 في كلٍّ من الزمان والمكان. إلا أن حجَّة تغيُّر القوانين في كوننا ضعيفة؛ لأن القوانين نفسَها تمامًا تنطبق في أبكرِ اللحظات لكوننا وكذا في أقصى حدوده وحافاته، وذلك على قدرِ ما ينتهي إليه علمنا. لكن وكما يشير سمولين، هذا لا يمنع أن تتغيَّر قوانين الفيزياء في الأكوان المختلفة.
إن نقطة البداية في نظرية سمولين هي مكافئ كوني من نوعٍ ما لسيناريو أصل الحياة في علم الأحياء، والذي فيه لم يكن ثمَّة شيءٌ على الإطلاق عند مرحلة زمنيةٍ ما في الماضي السحيق. لكن إحدى أغرب السمات لميكانيكا الكم أننا ليس بإمكاننا حتى أن نكون على ثقةٍ من أي شيء. هذه نتيجة خاصة أخرى لمبدأ عدم اليقين عند هايزنبرج، الذي يمنعنا من أن نكون واثقين من أن الفراغ التام حتى سيكون خاليًا من الكتلة أو الطاقة. مِن ثَمَّ تترك ميكانيكا الكم مساحةً وجودية للجسيمات الافتراضية كي تظهر وتختفي من الوجود، حتى في فراغ الفضاء الخالي. وفي العام ١٩٨٢، قدَّم عالِم الكون المولود في روسيا ألكسندر فيلنكن زعمًا أكثرَ إدهاشًا حتى بأن الكون نشأ بأبسط الطرق الممكنة، وهي تموُّج كمي «من العدم».11

في الوقت الراهن يبدأ السيناريو الأكثر قبولًا حول نشأة الكون بتموُّج كمي عارض. على الأرجح أن هذا الكون الصغير لم يكن مثيرًا للاهتمام؛ حيث إن القيم المختارة عشوائيًّا لثوابته الأساسية كانت غيرَ متسقة مع وجود المادة حتى. وبقدْرِ السرعة نفسه الذي ظهرت فيه في الوجود، فإن الطاقة الموجبة والسالبة لهذا الكون ذي المادة المتعذِّرة التحقُّق كانت لتجتمع من أجل أن تتلاشى إلى العدم. لكن تموُّجات كمية أخرى استمرت في إنتاج أكوان من العدم الكوني حتى — لربما بعد تريليونات عمليات البحث عبْر حيزِ المعاملات — وُلد كون له قيمٌ من شأنها تعزيزُ تكوُّن المادة والنجوم والكواكب، وأخيرًا بضعة ثقوب سوداء.

في سيناريو سمولين، تكوُّن الثقوب السوداء هو المكافئ الكوني لأصل الحياة: إذ جعلت الأكوان ذاتيةَ الاستنساخ. وعلى الأرجح أن الأكوان البدائية الأولى كانت لتنتِج بضعة ثقوب سوداء، ومِن ثَم لم تقدِّم سوى حَفنة من الأنسال. لكن، وما دام أن تلك الحَفنة تتخطَّى الواحد، فإن عدد الأكوان سيتزايد. عِلاوة على ذلك، وحيث يُقتَرح أن مرور الثوابت الأساسية عبْر الثقب الأسود من شأنه أن يشوِّه قيَمها، فإن الكون المتعدِّد النسل كان ليتعدَّد إلى نظام بيئي من أكوانٍ من نوعٍ ما مع وجود أنواعٍ مختلفة من المادة والنجوم والكواكب وأعداد قابلة للتغيير من الثقوب السوداء.

لكنَّ كل الأكوان لم تكن لتُخلَق متساوية. فبعضها سيكون أكثرَ خصوبة من غيرها. وتلك التي ترِث قيمَ معاملات أدَّت إلى أكبر تكتُّل للمادة بداخل النجوم التي انهارت فتحوَّلت إلى ثقوبٍ سوداء ستخلِّف الكثيرَ من الأنسال. وعلى العكس من ذلك، فإن أي كون أخفق في إنتاج نجوم أو ثقوب سوداء سيختفي من الوجود في نهاية المطاف ليُصبح منقرضًا. وتدريجيًّا وعلى مدى عددٍ كبير جدًّا من الأجيال الكونية، سيهيمن على الكون المتعدِّد الأصلحُ من الأكوان والأكثر خصوبة منها والتي تدعهما قيمٌ نادرة للثوابت الأساسية التي تنتج العددَ الأقصى من الثقوب السوداء. فتمامًا كما وجَّه الانتقاء الطبيعي تطوُّر الحياة نحو مخلوقاتٍ غير محتملة كالديناصورات أو الفيلة أو البشر، فإن تلك العملية نفسها — عملية الانتقاء الطبيعي الكوني — ضبطت الثوابتَ الأساسية للفيزياء ضبطًا دقيقًا ووجَّهتها نحو القيم البعيدة الاحتمال، التي كانت ضرورية لتكوين النجوم والكواكب والثقوب السوداء ونحن البشر.

هذه نظريةٌ بارزة للغاية، لكنَّ إثباتها أيضًا بالطبع غايةٌ في الصعوبة. إلا أن النظرية تقدِّم عدةَ تنبؤات تقصَّى عنها سمولين في المحاكات الحاسوبية لتطوُّر الكون. على سبيل المثال، تتنبأ النظريةُ بأن كوننا — كونه سليلَ أكوان ناجحة في السابق — يجب أن يُضبط ضبطًا دقيقًا لتكوين وفرةٍ من الثقوب السوداء بحيث ينتج عن أيِّ تغييرٍ في تلك القيم أعدادُ ثقوب سوداء أقل. وقد اختبر سمولين هذا التنبؤ من خلال إنشاء نموذج حاسوبي لكوننا وثوابته الأساسية ثم تلاعب بقيمها. واكتشف أن حتى أصغرَ التغييرات لمعاملات النموذج المعياري إما أنها قللت من العدد المتوقَّع للثقوب السوداء أو أنها لم ينتج عنها أيُّ تغيير. ولم يُتوقَّع من أي من الطفرات الكونية للنموذج الحاسوبي أن ينتج عنها المزيدُ من الثقوب السوداء. يقترح تحليله أن كوننا أقرب ما يكون بالفعل من كونه جيدًا بأفضل نحوٍ من حيث إنتاج الثقوب السوداء، تمامًا كما تتوقَّع عملية الانتقاء الطبيعي الكونية.

الشفرة الكونية؟

رغم أن نظرية سمولين عن الانتقاء الطبيعي الكوني قد تقدِّم تفسيرًا عن الضبط الدقيق للثوابت الأساسية، فإنها لا تفسِّر — وحدَها — السببَ وراء «أن الكون تبيَّن أنه بسيطٌ بصورة مذهلة» كما يحاجج نيل توروك. لكنها قد تفعل حين تتجمَّع مع شفرة أوكام.

أولًا، ينبغي لي أن أشدِّد على أن الحجَّة التالية ليست جزءًا من نظرية سمولين عن الانتقاء الطبيعي الكوني. في واقع الأمر، إن سمولين نفسه متشكك حيال أن العالَم على مقربة من أن يكون بأبسطِ ما يمكن له أن يكون. فهو يشير إلى سماتٍ ناقشناها بالفعل؛ على سبيل المثال، أن جيلين من أجيال جسيمات المادة الثلاثة يبدوان فائضين عن الحاجة. وقد قدَّمتُ بالفعل بعضَ الأدوار الممكنة لهذه الجسيمات الإضافية. دور آخر يمكن أن يكون هو أن هذه الجسيمات ضرورية من أجل التناظر؛ حيث تكون هذه الجسميات المكافئ الكوني للحلمات لدى الرجال: والتي ليس لها حاجة لكن من الصعب استبعادها. أيضًا، وحيث إن جسيمات الجيلين الثاني والثالث تكون نادرة، والتي عادة ما توجد فقط في مسرِّعات الجسيمات أو الأشعة الكونية، فإن من المستبعَد أن يشارك أيهما في تكوين الثقوب السوداء أو ينتج منها. قد تكون تلك الجسيمات خفيةً أمام الانتقاء الطبيعي الكوني بالطريقة نفسِها التي اختفت بها الجينات الزائفة في فئران الخلد العارية من مجال الرؤية أمام الانتقاء الطبيعي البيولوجي.

ولكي نرى كيف يمكن لشفرة كونية أن تطوِّر أكوانًا بأقصى درجات البساطة، لنتخيَّل أن كوننا يحوي ثقبين أسودين هما سلفان لكونين وليدين. وحين تعبُر الثوابت الأساسية عبْر الثقب الأسود الأول، تخرج سالمةً تمامًا وتكون القيم نفسها تمامًا مشفَّرة فيها. مِن ثَمَّ سيرث أنساله ثوابتَ متطابقة مع تلك التي في كوننا، وستُنشئ ذرات ونجومًا من الجسيمات السبعة عشر في النموذج المعياري لإنتاجِ كونٍ يشبه كوننا كثيرًا، والذي سنطلق عليه الكون ١٧ج، بما يعكس الجسيمات السبعة عشر الأساسية فيه.

وتخيَّل حين تمرُّ تلك الثوابت الأساسية نفسها عبْر الثقب الأسود الآخر أنها واجهت طفرة كونية نتج عنها نشأةٌ — ليس حسب الجسيمات السبعة عشر الخاصة بالنموذج المعياري فقط — بل أيضًا جسيم أثري إضافي (يشبه تقريبًا الأطراف الأثرية للحوت أو الزائدة الدودية في البشر) هو الثامن عشر في هذا الكون الوليد، ١٨ج. هذا الجسيم الإضافي لا يقوم بأي شيء مفيد لكنه يوجَد في الأرجاء فحسب، ربما في شكل سُحب بيمجرية. مِن ثَم يكون الجسيم الثامن عشر جسيمًا فائضًا عن الحاجة في الكون ١٨ج.

في حين لا يلعب الجسيم الثامن عشر أيَّ دور في تكوين النجوم أو الثقوب السوداء أو البشر، فإنه سيؤثِّر رغم ذلك في تكوينها، وذلك باختلاس بعضٍ من كتلتها. لنفترض أن هذا الجسيم يملِك كتلةً متوسطة ووفرة متوسطة من الجسيمات الأساسية بحيث يمثِّل نحو واحدٍ على ثمانية عشر من مجموع كتلة الكون ١٨ج. هذا الحجز للكتلة في السُّحب البيمجرية للجسيم الثامن عشر من شأنه أن يقلِّل من كمية المادة/الطاقة المتاحة لتكوين الثقوب السوداء، ومِن ثَمَّ يقلِّل عددَ الثقوب السوداء بنسبة واحد على ثمانية عشر، أو ٥ بالمائة تقريبًا. وبما أن الثقوب السوداء هي أمهات الأكوان، فإن الكون ١٨ج سينتج ذريةً هي أقل بنسبة ٥ بالمائة من أخيه الكون ١٧ج. وإن لم يتغيَّر شيء آخر، فإن هذا الاختلاف في الخصوبة سيستمر في الأجيال اللاحقة حتى يتمتَّع أنسال الكون ١٨ج بثلثِ ما يتمتع به أنسال الكون ١٧ج الأكثر تقتيرًا من وفرة، وذلك بحلول الجيل العشرين تقريبًا. في العالم الطبيعي، الطفرات التي تؤدي إلى نقصان بنسبة ١ بالمائة فقط في الصلاحية تكون كافيةً لدفع طفرة نحو الانقراض؛ لذا فمن المرجَّح أن نقصانًا بنسبة ٥ بالمائة في الصلاحية سيستبعد أو على الأقل سيقلِّص بصورة جذريةٍ ما تتمتَّع به الأكوان التي بها ١٨ جسيمًا من وفرة، وذلك بالنسبة إلى الأكوان التي بها ١٧ جسيمًا الأكثر تقتيرًا.

ليس من الواضحِ ما إن كان نوع الكون المتعدِّد الذي تتصوره نظريةُ سمولين محدودًا أو لا نهائيًّا. إن كان محدودًا، فإن الكون الأبسط القادر على تكوين الثقوب السوداء سيكون أكثرَ وفرة بصورة لا نهائية من الكون الأبسط الذي يليه. وفي هذه اللانهائية من الأكوان، يمكننا أن نطرح السؤال: أيها من المرجَّح أكثرَ أن نقطنه؟ ستكون الإجابة أننا من المرجَّح أكثرَ بصورة لا نهائية أن نقطن أبسطَ كون ممكن متناسب مع الحياة.

عوضًا عن ذلك إن كان المعروض من الأكوان محدودًا، فإننا بهذا نكون أمام موقفٍ مشابه لموقف التطوُّر البيولوجي على الأرض. ستتنافس الأكوان على الموارد المتاحة — وهي المادة والطاقة — والأبسط منها الذي سيحوِّل الكثيرَ من كتلته إلى ثقوبٍ سوداء من شأنه أن يخلِّف أكثرَ الأنسال. هنا ثانية، إذا ما سألنا أي هذه الأكوان من المرجَّح أكثر أن نقطن، فستكون الإجابة هو الأبسط. وحين يحدِّق قاطنو هذا الكون إلى السماء — مثل روبرت ويلسون وأرنو بينزيس — ليكتشفوا إشعاعَ الخلفية الكونية الخاصة به ويلاحظون سلاسته المذهلة، فإنهم سيظلون مندهشين — مثل نيل توروك — من الطريقة التي تمكَّن بها كونُهم من فعلِ الكثير انطلاقًا من بداية «بسيطة بصورة مذهلة». باختصار، سيقطن هؤلاء كونًا مشابهًا كثيرًا لكوننا.

إن نظريةَ سمولين — بالتعديل الأوكامي أو من دونه — تترتَّب عليها نتيجةٌ ضمنية أخيرة مدهشة. تقترح النظرية أن القانون الأساسي للكون ليس ميكانيكا الكم أو النسبية العامة أو حتى قوانين الرياضيات. إنما هو قانون الانتقاء الطبيعي الذي اكتشفه تشارلز داروين وألفريد راسل والاس. وكما شدَّد الفيلسوف دانيال دينيت، فإنه «أفضل فكرة راودت أحدًا من قبل».12 قد تكون هذه الفكرة أيضًا هي أبسطَ فكرة راودت كونًا على الإطلاق.

هوامش

  • (١)

    في عمله «محاضرات في الفيزياء»، المجلد الثاني، الفصل التاسع عشر، يخبرنا فاينمان بأنه، بعد أن أخبره مدرِّس المرحلة الثانوية له عن هذا المبدأ، وجده «… مذهلًا تمامًا». وهذا ما دفعه لجعل أطروحته للدكتوراه في جامعة برينستون حول تطبيق مبدأ الفعل الأدنى على ميكانيكا الكم.

  • (٢)

    أدرك أن مساواة معاملات نظرية النموذج المعياري بالجينات هو تمديدٌ للتشبيه ربما بأكثرَ مما يمكنه أن يتحمَّل. لكن هذا يثير أيضًا تساؤلاتٍ مثيرة للاهتمام. على سبيل المثال، إذا كانت المعلومات الجينية في الجينات تُكتب في الدي إن إيه، إذن ما هي الركيزة التي ترتكز عليها جينات الكون؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤