الفصل السابع

كونٌ شمسيُّ المركزِ لكنه مُحكَم

قبل ثلاث سنوات من موت ليوناردو في عام ١٥١٩، وُلِد جيورج يواخيم إيزورين في مدينة فيلدكيرخ فيما يُعَد الآن النمسا. كان والده طبيبًا ميسورَ الحال يمتلك مكتبةً ممتازة، وأرسل ابنه إلى مدرسة القواعد اللغوية المحليَّة حيث تعلَّم اللاتينية والفنون الحرة المتمثلة في النحو والبلاغة والمنطق. وحين كان جيورج لا يزال في الرابعة عشرة من عمره، حُوكِم والدُه بتهم السرقة والاختلاس وممارسة السحر. وأُدين بذلك وحُكِم عليه بالموت. فمُحيَ اسم عائلته من الوجود؛ لذا عادت أم جيورج إلى اسمها الإيطالي قبل زواجها، وهو توماسينا دي بوريس (وكلمة بوريس تعني الكراث). فأصبح اسم جيورج هو جيورج يواخيم دي بوريس، لكن وحيث لم يكن الصبي يَعُدُّ نفسه إيطاليًّا، ترجم اسمه إلى الألمانية فأصبح جيورج يواخيم فون لاوخين. وأضاف لاحقًا اسم ريتيكوس تيمنًا بمقاطعة رايتيا التابعة للإمبراطورية الرومانية التي وُلِد فيها. وهو يُعرف في عصرنا هذا باسم ريتيكوس.

كانت أمُّ ريتيكوس ثريةً وتتمتع بمعارفَ ذوي نفوذ؛ لذا أكمل الصبي تعليمَه تحت وصاية صديق لإيرازموس اسمه أوزوالد مايكونيوس. عاد ريتيكوس في خريف عام ١٥٣١ إلى فيلدكيرخ حيث كوَّن صداقة مديدة مع الطبيب الذي تولَّى مزاولةَ مهنة أبيه، واسمه أخيل جاسر. وإلى جانب كونه طبيب المدينة، كان جاسر إنسانويًّا شهيرًا له اهتمامات في التاريخ والرياضيات وعلم الفلك والتنجيم والفلسفة.

في عام ١٥٣٣، ارتحل ريتيكوس — وكان حين ذلك في عمر التاسعة عشرة ومتسلِّحًا بخطاباتِ تقديم من جاسر — مسافة ٤٠٠ ميل في الاتجاه الشمالي الشرقي إلى مدينة فيتنبرج؛ حيث كان مارتن لوثر يترأس كرسيَّ اللاهوت في جامعتها. قبل ذلك بعَقد من الزمن، كان لوثر، ذلك الراهب اليافع المتقد الحماسة، قد جعل من نفسه أكثرَ الأعضاء المؤثِّرين في البروتستانتية الألمانية، وذلك من خلال استخدام منبره في إدانة ثورة الفلاحين الألمان عام ١٥٢٤، وذلك على أساسٍ إنجيلي من نصيحة المسيح التي تقول: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله».١ وقد قُمِعت الثورة بوحشية فقُتل ما يربو على ١٠٠ ألف من الفلاحين المسلحين تسليحًا هزيلًا. وقد حوَّل هذا مسارَ شهرة لوثر من متمرِّد ثائر إلى أحد أعمدة البروتستانتية الألمانية.

اجتاحت بسرعة أطيافٌ عديدة من البروتستانتية اللوثرية أرجاءَ ألمانيا وانتقلت إلى سويسرا وفرنسا والبلدان النوردية، وذلك قبل أن تعبُر القناةَ الإنجليزية نحو إنجلترا. بعدئذٍ، انقسمت القارة الأوروبية على طول محور قسمِها شمالًا وجنوبًا، فكانت الدول الألمانية اللوثرية على نحوٍ غالب في الشمال والدول الكاثوليكية المتأثرة بالمنهج الإنسانوي مثل إسبانيا وفرنسا وإيطاليا في الجنوب. انعكس هذا الانقسام في خلافٍ فلسفي عن طبيعة الإرادة البشرية. إذ وضع الإنسانويون الإرادةَ البشرية موضعَ المركز من طبيعة البشر، مسترشدين في ذلك بالإبداع البشري. ففي عمله «عن حرية الإرادة» الذي نُشِر عام ١٥٢٤، كان إيرازموس قد دفع بأن البشر يملكون إرادةً حرة كعطية ربانية، وذلك رغم طلاقة القدرة الإلهية. لم يكن لوثر مقتنعًا بذلك، فردَّ على ذلك في عام ١٥٢٥ — أي قبل أن يصل ريتيكوس إلى فيتنبرج بتسع سنوات — بأحد أكثر النصوص تأثيرًا في حركة الإصلاح. ففي عمله «عن عبودية الإرادة» أعاد لوثر التأكيدَ أن البشَر أسرى الإرادة الإلهية، فكتب يقول: «الرب … لا يعرف حدودًا فقدرته مطْلقة»، وأضاف أن أي أحد يعتقد في غير ذلك ليس بمسيحي.

هاجم الكثيرون من أتباع لوثر فكرةَ أن يكون التعليم بخلاف دراسة الكتاب المقدَّس، الذي كانوا يثقون ثقةً مطْلقة في كونه السبيلَ الوحيد للنجاة من نار الجحيم. لكن لم يكن لوثر نفسه من المتزمِّتين. إذ عيَّن عام ١٥١٨ عالمًا إنسانويًّا ألمانيًّا بارزًا اسمه فيليب ملانشتون رئيسًا لكرسي اللغة اللاتينية في جامعة فيتنبرج. أصبح ملانشتون أكثرَ الأتباع والمستشارين الذين كان لوثر يثق فيهم والذي قابل طباعَ معلِّمه الحادةَ ولغته الفظَّة بأسلوب هادئ ورغبة في الإقناع وليس الترهيب. وساعد تأثيره في تلطيف حدةِ البروتستانتية الألمانية بحيث طوَّرت رحابة صدر إنسانوية تجاه التعلُّم خارج حدود مجال اللاهوت واهتمامًا بالعالم يتجاوز حدودَ الكتاب المقدَّس، وذلك على الرغم من أنها حافظت على رؤية لوثر الكئيبة تجاه الجبرية، وأكَّدت الأهميةَ المحورية للنصوص المقدَّسة.

رحَّب ملانشتون بريتيكوس الشاب في الأوساط الفكرية التي تنزِع نحو الإنسانوية والتي كان قد أسَّسها في فيتنبرج، وفي عام ١٥٣٦، عيَّنه ملانشتون لتدريس الرياضيات والفلك. بحلول ذلك الوقت، كانت هناك إشاعات تكتسح جامعات أوروبا عن نموذج للكون هو جديد بشكل جذري تتحرَّك فيه الأرض دائريًّا حول الشمس. وقد تعامل معظم زملاء ريتيكوس في فيتنبرج مع تلك التقارير بمزيجٍ من التكذيب والسخرية والهزل، لكن ريتيكوس أبدى لذلك حماسةً واهتمامًا.

الأرض تتحرَّك في رأي عالِم الفلك الصوفي

وُلِد كوبرنيكوس عام ١٤٧٣ — أي قبل ريتيكوس بواحد وأربعين سنة — في مدينة تورون بمنطقة فارميا فيما هو الآن شمال بولندا، وارتاد جامعة كراكوف؛ حيث تلقَّى التعليم المدرسي القياسي في الفنون الحرة السبعة، بما يتضمَّنه من تركيز على أرسطو وشارحي أعماله من العرب والمسيحيِّين. هناك تعلَّم كوبرنيكوس نموذجَ أرسطو الفيزيائي للكون، بالإضافة إلى النموذج المركزي الأرض لبطليموس والأنظمة الرياضية المستخدَمة في حساب حركات الأجرام السماوية. كان هذا يمثِّل أيضًا ذروةَ ما وصل إليه «المذهب الجديد» في الجامعات الأوروبية، بما فيها جامعة كراكوف.1 وطبقًا لما ورد عن المؤرِّخ البولندي فلاديسلاف تاتاركيفيتش، «كان هناك أتباعٌ ﻟ «المذهب الجديد» في كراكوف منذ البداية. وبمزيد من التحديد، ساد المذهب الاسماني في الفيزياء والمنطق وعلم الأخلاق هنا في ظل التأثير المهيمِن لجان بوريدان». لذا ليس هناك شكٌّ أن كوبرنيكوس تعرَّض لأفكار ويليام الأوكامي وشفرتِه وأتباعِه حين كان في كراكوف.
في عام ١٤٩٦، أي حين كان ابن الثالثة والعشرين، غادر كوبرنيكوس كراكوف من دون أن يتخرَّج في جامعتها، فسافر إلى إيطاليا ليدرس القانون الكنسي في أعرقِ جامعات إيطاليا في بولونيا؛ حيث كان العالِم الأوكامي أليساندرو أكيليني (١٤٦٣–١٥١٢) أستاذًا للفلسفة والطب. قبل ذلك بعامين، كان أحد الأوكاميِّين وهو ماركوس دي بينيفنتو قد نشر شرح ويليام الأوكامي لكتاب أرسطو «الطبيعة» في بولونيا، وأهدى تلك الطبعة لأكيليني. وبعد ذلك نشر دي بينيفنتو ثلاثة أعمال أخرى لويليام الأوكامي في بولونيا، كان آخرها كتابه «خلاصة المنطق» عام ١٤٩٨،2 وهو العام نفسه الذي وصل فيه كوبرنيكوس إلى المدينة. في ذلك العام نفسه، نشر دي بينيفنتو مجموعةً من أعمال العالِم الاسماني ألبرت الساكسوني «تكريمًا للأخ ويليام الأوكامي». كان من الواضح أن بولونيا تعجُّ بأعمال ويليام الأوكامي وبعلماء يتبنَّون «المذهب الجديد» في أثناء تلقي كوبرنيكوس العلمَ فيها.

ورغم أنه أتى إلى بولونيا ليَدرس فيها القانون الكنَسي، فيبدو أن اهتماماته تحوَّلت هناك على نحو حاسم تجاه علم الفلك؛ الأمر الذي أدَّى به حتى إلى إجراء بعض ملاحظاته الفلكية الأولى فيها. وبعد فترة وجيزة قضاها في فارميا، عاد كوبرنيكوس إلى إيطاليا عام ١٥٠١، لكن هذه المرة إلى جامعة بادوفا ليدرس الطب. في ذلك الوقت، كان مركز الحياة الفكرية الأوروبية قد تحوَّل من أكسفورد وباريس إلى إيطاليا في أثناء عصر النهضة، خاصة بادوفا. على الأرجح أن كوبرنيكوس أصبح وهو في بادوفا مفتونًا بما كان يسود فيها من صوفيةٍ وتركيز على العلوم الإغريقية وفلسفة الأفلاطونية المحدَثة، وهي المجالات التي هيمنت على حياته الفكرية فيما بعد.

في نهاية المطاف عاد كوبرنيكوس إلى فارميا ليضطلعَ بدور الراهب في فراونبيرج (والتي هي الآن فرومبورك في بولندا) في وقتٍ ما عام ١٥٠٣، حين كان في الثلاثين من عمره. ولا يبدو أن مسئولياته كانت مرهقة كثيرًا حيث استأنف كوبرنيكوس اهتماماتِه الهلنستية، فكان يترجِم الشعرَ الإغريقي إلى اللاتينية. كما حاول تطبيقَ مبادئ المذهب الإنسانوي على أكبرِ اهتماماته الأخرى وهو علم الفلك، خاصة النظامَ البطلمي، لكنه واجه مشكلةً في ذلك. فبدلًا من المثالية الخاصة بالأفلاطونية المحدَثة التي كان يتوقَّع أن يجدها في السماء، وجد كوبرنيكوس غابةً من أفلاك التدوير ونقاط معدل المسار وأفلاك الحَمل. فكتب لاحقًا يقول:

كنت مكرَهًا على النظر في نظامٍ مختلِف لحساب حركات الأفلاك الكونية ليس لسببٍ آخر عدا إدراك أن تجربة … الفلكي كانت كتجربة شخص يجمع من مناطقَ متفرِّقة يدَين وقدمين ورأسًا وأجزاءً أخرى [ليصنع] وحشًا وليس بشرًا … منها.

الإشارة إلى أجزاء من الجسد البشري هنا مثيرةٌ للاهتمام. إذ كان حديثه هذا بعد مرور نحو ١٥ عامًا من رسم ليوناردو دا فينتشي لوحتَه الشهيرة «الرجل الفيتروفي». على الأرجح أن ليوناردو استلهم تلك اللوحةَ من إعلان الإنسانوي مارسيليو فيتشينو بأن «الإنسان هو أمثل الحيوانات … وهو قريب من أمثل الكيانات؛ أي الكيانات الإلهية».3 ويبدو هنا أن كوبرنيكوس يعارض منظومةَ بطليموس الفلكية الغريبة بالحلم الإنسانوي الذي عُبِّر عنه في لوحة ليوناردو بكونٍ منظَّم رياضيًّا في مركزه إنسان أشبه بالإله. وأصبح كوبرنيكوس مؤمنًا أن باستطاعته — بمساعدة الرياضيات — أن يعيد تجميعَ الأشياء ليكشفَ عن سماءٍ أكثرَ تناغمًا. فكتب يقول: «بعد أن أصبحت مدركًا أوجهَ الخلل هذه، كثيرًا ما فكَّرت إن كان … بالإمكان إصلاحها ببنًى أقلَّ وأبسط من تلك التي كانت مستخدمة قبلًا».

سمح كوبرنيكوس لنفسه أن ترشده شفرة أوكام مثلما فعل سابقوه من أتباع «المذهب الجديد». وعن مبدأ الراصد النسبي الذي كان ويليام الأوكامي قد أشار إليه، حاجج كوبرنيكوس أن قبول أن الأرض تدور كل يوم وليس الشمس أو القمر أو الكواكب أو النجوم يُنتِج كونًا أكثرَ بساطة بكثير.

جعل العالَم أقلَّ اعتباطية

غالبًا ما يؤدِّي التبسيط إلى إثابات غير متوقَّعة. فالسماح للأرض بالدوران من أجل تثبيت النجوم قدَّم لكوبرنيكوس إثابة وهي استبعاد خمسة من أفلاك التدوير الكوكبية من نموذج بطليموس. بشكل أساسي (لكن بدون دراية بالطبع) كانت تلك الأفلاك تصحِّح ثبات الأرض في نموذج بطليموس، وذلك عن طريق النقل النسبي للدوران الأرضي إلى أفلاك التدوير الكوكبية البطلمية. أحد الإثابات الأخرى كانت الوضوح. فمن خلال نموذجٍ أقل فوضوية، تمكَّن كوبرنيكوس من رؤية طريقة لإزالة المزيد من أفلاك التدوير، وذلك من خلال خطوته الثانية والأكثر ثورية والتي تتمثل في نقل مركز المنظومة من الأرض إلى الشمس.

لم يكن كوبرنيكوس هو أول مَن يضع الشمس في مركز الكون من العلماء. فحوالي عام ٢٥٠ قبل الميلاد، قدَّم أرسطرخس الساموسي منظومةً مركزها الشمس، لكن الفكرة لم تحظَ بالتقدير في العصور القديمة حيث كانت تتعارض مع تأكيد أرسطو أن كل الأجسام الثقيلة بما فيها الكواكب إما أنها تسقط نحو مركز الأرض أو تدور حوله. لكن تجرَّأ كوبرنيكوس مدعومًا بسلطة واحد على الأقل من القدماء على العودة للتأكيد على وجود الشمس في مركز كل الأجرام السماوية. وذُهِل حين اكتشف أن تلك الخطوة قدَّمت «تناسقًا بديعًا في الكون، وعلاقة متناغمة وراسخة بين حركات الأجرام وأحجامها، بحيث لا يمكننا أن نجد مثل ذلك بأي طريقة أخرى».4
هنا، اكتشف كوبرنيكوس بمحض الصدفة جانبًا عظيمَ الأهمية من جوانب عملية التبسيط الناجحة لأي منظومة: ألا وهو استبعاد سماتها الاعتباطية. لم يكن باستطاعة نموذج بطليموس القائم على مركزية الأرض أن يفسِّر سببَ رؤية كوكبي عطارد والزهرة أقرب دائمًا إلى الشمس لدى شروقها وغروبها. وقد فسَّر بطليموس هذه الملاحظة بأن أضاف مبدأً اعتباطيًّا لنموذجه: وهو مصادفة دوران عطارد والزهرة حول الأرض (في فلكيهما الخاصَّين) فيما يظلان على مقربةٍ من مدار الشمس (انظر الشكل ٧-١أ).
fig9
شكل ٧-١: منظور الكواكب من الأرض في نظام أرضي المركز (أ) أو شمسي المركز (ب).
لكن حين حوَّل كوبرنيكوس الشمسَ إلى مركز دوران الكواكب، أصبح حرًّا في تحريك كوكبي الزهرة وعطارد إلى موضعٍ بين الشمس والأرض بحيث يصبحان كوكبَين داخليَّين. وفي هذا الموضع، يعود سبب قربهما من الشمس في السماء ببساطة إلى قربهما من الشمس في الواقع (انظر الشكل ٧-١ب). بهذا الشكل، أصبحت سمة اعتباطية في النموذج المعقَّد نتيجة حتمية لبديله البسيط.
إثابة أخرى غير متوقَّعة لنظام كوبرنيكوس الشمسي المركز كانت أن النموذج قدَّم أخيرًا تفسيرًا منطقيًّا للحركة الرجعية لكواكب المريخ والمشتري وزحل. تتحرَّك هذه الكواكب على نحوٍ طبيعي من الشرق إلى الغرب في السماء، إلى جانب الشمس والنجوم، إلا أنها أحيانًا تعكس حركتها فتتحرَّك من الغرب إلى الشرق أسابيعَ كثيرة قبل أن تلتفَّ وتتجه شرقًا ثانية (ارجع إلى الشكل ١-٢). لاحظ كوبرنيكوس أن النجوم السيَّارة التي تؤدِّي هذه الحركة كانت جميعها — في نظامه الشمسي المركز — كواكبَ خارجية أبعدَ عن الشمس من الأرض. كان بطليموس قد دمج الحركةَ الرجعية لتلك الكواكب بأن قدَّم أفلاك تدوير إضافية مبرِّرها الوحيد هو جعل نموذجه مناسبًا للبيانات المتاحة. لكن حين تكون الشمس في مركز النموذج، تختفي هذه الأفلاك حيث يصبح اختفاؤها نتيجةً حتمية لِلحاق الأرض بكوكب خارجي في مداره ثم تجاوزه. نجد نحن شيئًا مماثلًا حين نمرُّ بمركبة تتحرَّك ببطء على الطريق السريع. حين تكون المركبة أمامنا، تبدو كأنها تتحرَّك عكس البيئة المحيطة بها وفي الاتجاه الأمامي نفسه الذي نتحرك نحن فيه. لكن، حين نمرُّ بتلك المركبة ستبدو في البداية كأنها تحوِّل اتجاهها لتتحرَّك نحو الخلف في مقابل الخلفية، حتى نمرَّ بها وننظر إليها في مرآة الرؤية الخلفية، هنا ستبدو كأنها تتحرَّك للأمام مرة أخرى. والحركة الرجعية في السماء هي من نوعية الخداع البصري نفسه كهذا المثال، لكننا نراه من الأرض حين تجتاز الأرض كوكبًا خارجيًّا سرعة دورانه أبطأ، مثل كوكب المريخ. هنا تحوَّلت سمة اعتباطية أخرى في النموذج المعقَّد إلى نتيجة ضرورية لبديله الأبسط.

بهذه النجاحات، كان بإمكان كوبرنيكوس أن يقدِّم نموذجًا أكثرَ بساطة بكثير عن الكون لو كان قد توقَّف عند هذا الحد. لكن للأسف، لم يستبعد نموذج مركزية الشمس نقطةَ معدَّل المسار المزعجة التي حثَّته على البحث عن نموذج كوني جديد. ولكي يستبعد كوبرنيكوس تلك النقطة في حين يحافظ في الوقت نفسه على المدارات الدائرية، كان عليه أن يعود إلى حيلة بطليموس في تقديم عدة أفلاك تدوير جديدة، فأعاد بذلك الكثير من التعقيد الذي كان النظام المركزي الشمس قد أقصاه.

رغم هذه الانتكاسة، أرسل كوبرنيكوس عام ١٥١٤ — وهو عام ولادة ريتيكوس — أطروحةً فلكيَّة قصيرة عنوانها «شروحات قصيرة» لمجموعة مختارة من الباحثين والعلماء الأوروبيِّين. نتج عن ورقته تلك موجةٌ من الفضول وصلت حتى إلى روما حيث نالت استقبالًا إيجابيًّا. وفي عام ١٥١٧، تلقَّى كوبرنيكوس خطابًا من سكرتير البابا، الكاردينال نيكولاس شونبيرج، يحثُّ فيه كوبرنيكوس على «نشر اكتشافك في المجتمع العلمي». في البداية بدا أن كوبرنيكوس قد أخذ نصيحةَ الكاردينال على محملِ الجِد حيث بدأ العمل على وصف مستفيض لنموذجه مركزي الشمس في عمله «عن دورات الأجرام السماوية». إلا أنه لم يحاول أبدًا نشرَ مخطوطته ولم يسمح لأحد كذلك، على قدرِ علمنا، بقراءتها.

الأرض لا تحرِّك لوثر

في العقود التي تلت ذلك، لقيت أطروحة كوبرنيكوس التي تصِف نموذجَه الكوني المركزي الشمس تجاهلًا وسخرية في الغالب؛ لكنها انتشرت على نطاق واسع، فوصلت حتى إلى مركز العالم اللوثري في فيتنبرج. وفي تعليق شائن من جانب مارتن لوثر بعد عشاءٍ ما قال: «ذلك الأحمق الذي يريد أن يقلبَ علمَ الفلك كلَّه رأسًا على عقب. صدَّقوا النصوص المقدَّسة حتى في تلك الأشياء التي تؤدي إلى الفوضى، ذلك أن يشوع أمرَ الشمس أن تقف ساكنة وليس الأرض».5

على الرغم من ازدراء لوثر وسخريته، شعر ريتيكوس بالفضول وطلب الإذنَ في زيارة الكاهن العجوز في بولندا الكاثوليكية. ويبدو أن منْح ملانشتون العالِمِ الشابِّ الإذنَ لزيارة كوبرنيكوس كان أمرًا بعيدَ الاحتمال، لكن مزحة منسوبة لأحد العلماء وضع ريتيكوس في موضعٍ يحتمل أن يكون خَطِرًا، وذلك حوالي عام ١٥٣٨. إذ كتب سيمون ليمنيوس — وهو عضو في دائرة الإنسانويين في فيتنبرج والتي كانت تشتمل الآن على ريتيكوس — سلسلةً من أبيات الشعر الساخرة والشهوانية بأسلوب الشاعر الروماني أوفيد والتي تَعرِض للوثر. بل إنه باع حتى مختاراتٍ منها أمام باب كنيسة فيتنبرج الذي علَّق عليه لوثر عمله «الأطروحات الخمس والتسعون» قبل عشرين عامًا، وذلك كما تقول الأسطورة.

وحيث لم يكن معروفًا عنه أنه ذو حسٍّ فكاهي، ردَّ لوثر على ذلك بأن اتهم الشاعرَ بالقذف والتشهير، ما دفع ليمنيوس للهروب من المدينة. وفي يوم الأحد التالي لذلك، وعظ لوثر بخطبةٍ فحواها تحذير للكاتب أنه على وشْك أن يفقد حياته. وفي شهر سبتمبر من ذلك العام، نظَم لوثر قصيدتَه التي بعنوان «هجوم على ليمي الشاعر البذيء».6 ومن المنفى ردَّ ليمنيوس بقصيدة أخرى تشمل على البيتين التاليَين:
كنت من قبلُ تتقيأ الجنونَ من فمك الأعوج
والآن تُنفِّس عن غضبِك من مؤخِّرتك.

كما نشر أيضًا اعتذارًا أكثرَ تحفُّظًا زعم فيه أنه يقدِّم العناصر الأكثر اعتدالًا للبروتستانتية الألمانية، مستشهدًا بكلٍّ من ملانشتون وريتيكوس كمؤيدَين وحليفَين له. كان ملانشتون قويًّا بما يكفي ليزيل عن نفسه أيَّ اتهام بالارتباط بليمنيوس، لكن ريتيكوس كان عرضةً لأن يصبح كبشَ فداء لغضبة لوثر. ربما مع أخذ هذا الخطر في الاعتبار منح ملانشتون ريتيكوس الإذنَ في أكتوبر من عام ١٥٣٨ ليغادر فيتنبرج ليزور «ذلك الأحمق الذي يريد أن يقلبَ علم الفلك رأسًا على عقِب».

وقد تأنَّى ريتيكوس في زيارته. إذ زار في البداية الكثيرَ من أبرز علماء الفلك في أوروبا، قبل أن يتحوَّل إلى مدينته الأم فيلدكيرخ ليقدِّم نسخةً مطبوعة من كتاب ساكروبوسكو الفلكي الذي بعنوان «كرة العالم» لمعلِّمه أخيل جاسر. في نهاية المطاف حلَّ على بلدة فراونبيرج في شهر مايو لعام ١٥٣٩. ولم يكن ما رآه مثيرًا للإعجاب. إذ كانت بلدةً متداعية تقع على الحافةِ الجنوبية للبحيرة حيث يصبُّ نهر فيستولا في بحر البلطيق، وكان مفخرةُ البلدةِ ميناءً صغيرًا يُرسي فيه الصيادون قواربَ مسطحة القاع يصطادون بها سمك الأنكليس من البحيرة. وفوق البلدة كانت تظهر كاتدرائيتها الهائلة القبيحة المنظر بعض الشيء والمبنيَّة من الطوب الأحمر. وصَف كوبرنيكوس هذه البلدةَ بأنها «أنأى زوايا العالم». بحلول ذلك الوقت، كان الراهب يتكتَّم على فرضيته الثورية القائمة على مركزية الشمس لأكثر من ثلاثين عامًا.

كيف تكون مصيبًا وأنت مخطئ؟

إلى جانب حماسته لفكرة مركزية الشمس، أحضر ريتيكوس معه هدايا من كتبِ الرياضيات والفلك، منها نسخةٌ حديثة الطباعة من كتاب بطليموس «العناصر». سُرَّ كوبرنيكوس لذلك. فبعد سنوات طوالٍ من كونه أكاديميًّا مغمورًا، أصبح لديه أخيرًا تلميذ. كان العالِم الشاب قد خطَّط لأن يمكث أسابيعَ قليلة فقط، لكنه سرعان ما أصبح مخلصًا لكوبرنيكوس العجوز — الذي كان يدعوه دائمًا ﺑ «معلِّمي» — حتى إنه مكث سنتين، يساعده في مراجعة وتحرير كتابه المهم عن النظام المركزي الشمس.

ومع ذلك، لم يوافق كوبرنيكوس إلا على أن يكتب ريتيكوس رؤيتَه الخاصة عن كتابه الذي لم ينشر، الذي كان بعنوان «عن دورات الأجرام السماوية». أصبح ذلك الكتاب بعنوان «التقرير الأول»، وهو يصِف المؤلِّف بأنه «شاب بالغ الحماسة تجاه الرياضيات» ويُشار إلى كوبرنيكوس فيه ﺑ «المعلِّم» أو «العلَّامة الدكتور نيكولاس من تورون». بعدها ذهب ريتيكوس غيرَ خائف إلى مدينة دانتسيج ليجد ناشرًا.

نُشِر كتاب «التقرير الأول» عام ١٥٤٠. وأرسل ريتيكوس نُسخًا منه لكل شخصٍ ذي تأثير يعرفه، بمن فيهم الفلكي يوهانس شونر ومعلِّمه في فيلدكيرخ أخيل جاسر. مرَّر شونر نسخةً إلى الناشر يوهانس بيتريوس في نورنبيرج، الذي ردَّ بتشديده على أنه «وجد الكتاب كنزًا عظيمًا»، وحثَّ كوبرنيكوس على نشرِ عمله كاملًا. أخيرًا أقنع الاستقبال الإيجابي للكتاب الراهبَ المتحفِّظ بأن ينشر كتابه «عن دورات الأجرام السماوية».

عاد ريتيكوس إلى فيتنبرج ليستكمل محاضراته، لكنه وجد ما يكفي من الوقت ليضغط على الناشرين والقوى السياسية دعمًا لمطمحه بأن يُنشر كتاب كوبرنيكوس. وفي عام ١٥٤١، عاد ريتيكوس إلى فراونبيرج حيث نسخ كتاب كوبرنيكوس وحرَّره. وفي ربيع عام ١٥٤٢، انطلق ريتيكوس إلى دار بيتريوس للنشر في نورنبيرج وبجَعبته الكتابُ الثمين. لكن بحلول ذلك الوقت، كان ريتيكوس قد عُيِّن في منصب جديد في جامعة لايبنتس، وتعيَّن عليه أن يذهب إلى هناك ليلقي محاضراته. وعهِد بمهمة الإشراف على الطباعة إلى الرياضي واللاهوتي اللوثري النورنبيرجي أندرياس أوزيندر.

المقدِّمة الشائنة

نُشِر كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» أخيرًا في عام ١٥٤٣. يصِف الكتاب كون كوبرنيكوس المبني على مركزية الشمس بعنصره الإبداعي الرئيسي المتمثِّل في السماح للأرض بالحركة؛ إذ تدور حول محورها كلَّ يوم وتدور حول الشمس كل عام. الأمر الأكثر أهمية من ذلك أن درجة الأرض انخفضت من موضعها المميَّز كمركز الكون لتصبح مجرد كوكب هو الثالث من بين ستة كواكب تدور حول الشمس. لم يَعُد العالَم الأرضي متميِّزًا.

مع ذلك وفيما يُرى عامةً أنه أحد أكبر الفضائح في تاريخ العلوم، أُضيفت مقدِّمة مجهولة المصدر إلى كتاب كوبرنيكوس موجَّهة «إلى القارئ فيما يخص فرضيات هذا العمل». تبدأ المقدِّمة بذكر أن الأفكار الواردة في الكتاب ينبغي ألا تؤخذ على محمل الجد جدًّا: «ذلك أن هذه الفرضيات يجب ألا تكون صحيحةً أو حتى محتملة. على النقيض، إن كانت تقدِّم حسابات تتناسب مع الملاحظات، فإن هذا وحدَه كافٍ». بصيغة أخرى، كانت أطروحة كوبرنيكوس مجرَّد مثال آخر على «هندسة السماء»، ولا يُزعم أنها تمُت للواقع بأكثر مما تمُت أفلاك التدوير لدى بطليموس به. ويختتِم كاتب المقدمة بتقييمه الذي يقول فيه: «بقدرِ ما يخص الفرضيات، فلا يتوقعنَّ أحدٌ أي شيء مؤكَّد من علم الفلك؛ إذ إنه ليس قادرًا على ذلك، خشيةَ أن يقبل بأفكارٍ صُمِّمت لغرض آخر على أنها حقائق، ومِن ثَم يخرج من هذه الدراسة أكثرَ حماقة مما كان عليه حين دخل. وداعًا».

هُرِع بنسخة من دفعة الطبعة الأولى للكتاب إلى غرفة الراهب كوبرنيكوس. وقد مات في اليوم نفسه، يوم ٢٤ من شهر مايو لعام ١٥٤٣، ويُقال إن موته تعجَّل بقراءته لهذه المقدِّمة الشائنة. ظلَّ مؤلِّف هذه المقدمة مجهولًا لسنوات عديدة. وكان يوهانس كيبلر هو مَن أزاح الستار لاحقًا عن الحقيقة، والتي تتمثل في أنها كُتبت بيد أندرياس أوزيندر.

عادة ما يُرى أن نشر كتاب «عن دورات الأجرام السماوية» علامةٌ فارقة في تاريخ العلم، بل حتى أذان بميلاد العلم الحديث. إن كان هذا صحيحًا، فبالكاد لاحظ أحد ذلك. إذ لم تنفَد الطبعة الأولى البالغ عددها ٤٠٠ نسخة، ولم تُطبع طبعة ثانية إلا بعد مرور أكثر من عشرين عامًا. وعلى قدرِ ما يبلغ علمنا، لم يتبنَّ أحد من الفلكيِّين البارزين منظومة كوبرنيكوس؛ إذ فضَّلوا على ذلك الطرقَ البطلمية المجرَّبة والمختبرة. على نحوٍ حاسم، لم تكن أطروحة كوبرنيكوس قادرةً على ذِكر أي دليل على نظامه القائم على مركزيَّة الشمس، ولم تكن أكثرَ دقة في الإتيان بتنبؤات فلكية من نظام بطليموس مركزي الأرض. فكلٌّ منهما قدَّم دقة تنبؤ تصل إلى درجة قوسية واحدة.٢
لكنك ستتذكَّر أن كوبرنيكوس لم يضَع الشمس في مركز منظومته ليصنع تنبؤاتٍ أكثرَ دقة. فعوضًا عن ذلك، كان اشمئزازه من التعقيد البيزنطي للنموذج البطلمي هو ما حفَّزه للبحث عن نظام «ببنًى أقلَّ وأبسط من تلك التي كانت مستخدَمة قَبلًا». فهل نجح في تحقيق هدفه وهو إنشاء نموذج بسيط أكثر؟ على أساس عدد الدوائر البسيطة، لم يفعل. فالتَّعداد النهائي للدوائر في كلا المنظومتين ليس مباشرًا؛ حيث لم تقدِّم كلتاهما نموذجًا شاملًا لهما، بل فقط مخططات لأجزاء منهما وصيغٍ لحساب مواقع الكواكب. لكن تتفق الآراء على أن كلتا المنظومتين تحتويان على عدد من الدوائر بين ٢٠ و٨٠، اعتمادًا على ما يُعدُّ كدائرة.7
ومع ذلك، وبغض النظر عن تشابُه تَعداد الدوائر بينهما، كان كوبرنيكوس مقتنعًا بأن نظامه كان منطقيًّا أكثر من نظام بطليموس؛ لأنه كان أبسط. وفي كتابه «عن دورات الأجرام السماوية» كتب كوبرنيكوس يقول: «أعتقد أن علينا قبولَ هذا، بدلًا من تشويش عقولنا بعدد من الأفلاك يكاد يكون لا نهائيًّا، كما فعل أولئك الذين جعلوا الأرض في مركز الكون». ويكمِل كوبرنيكوس فيحاجج قائلًا: «على النقيض، ينبغي لنا أن ننتبه إلى حكمة الطبيعة. فتمامًا كما تتفادى الطبيعة وجودَ شيء لا جدوى له أو غير ذي فائدة، فإنها أيضًا وباستمرار تفضِّل أن تهَب شيئًا واحدًا الكثيرَ من النتائج».8 لكن وبشكل حاسم، فإن تشديد كوبرنيكوس على عنصر البساطة في كتابه ليس مبنيًّا على عدد الدوائر. إذ يذكر عوضًا عن ذلك سماتِ نموذجه التي استبعدت التعقيدات الاعتباطية لنموذج بطليموس. تشتمل تلك على استبعاد الدورات اليومية الأرضية في مدارات الأجسام السماوية، وإزالة الدورات اللازمة لتبرير الحركة الرجعية، ووضع ترتيب واضح للكواكب. طبقًا لأوين جنجريتش، أستاذ الفلك وتاريخ العلم في جامعة هارفرد، كانت تلك السمات وليس عدد الدوائر هو ما أقنع كوبرنيكوس بأن مركزية الشمس تقدِّم «رؤيةً كونية جديدة، وتصورًا جماليًّا أروع لبنية الكون».9 لقد أتت ثقةُ كوبرنيكوس في البساطة بمردود كبير. وبوجود شفرة أوكام في متناول اليد، أمكن حتى للمتصوفين أمثال كوبرنيكوس أن يجدوا طريقًا نحو العلم الحديث.

هوامش

  • (١)

    إنجيل متَّى ٢٢: ٢١.

  • (٢)

    هي مسافة انفصال زاوية في السماء تعادل تقريبًا ثخانة إصبعك الصغير إذا ما وضعته في موضعٍ بعيد عنك بقدرِ ما يمكنك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤