الفصل الثاني

الخط العربي وانتشاره في العالم الشرقي والعالم الغربي

(١) تمهيدٌ في الحضارة الإسلامية

ظهر الإسلام والخط العربي معروف في الحجاز، ولكنه لم يكن شائعًا فيه كما تقدَّم، بل كان محصورًا في فئة قليلة من الصحابة وبعض أهل الذمة.

ولما عمَّ الإسلام جزيرة العرب١ كلها، وذهب بدولتي الفُرس والرُّوم في العراق وفارس وسوريا ومصر وإفريقية وغيرها، وانتشرت معه اللغة العربية بين المسلمين وغيرهم من أهل هذه البلدان، انتشر معها الخط العربي في كل بقعة من هذه البقاع، ثم تجاوزها إلى لغات العالم الإسلامي في بلاد الفُرس والتُّرك والهند، وغيرهم ممن أصبحوا يكتبون به لغاتهم منذ بضعة عشر قرنًا إلى الآن بفضل انتشار الحضارة الإسلامية، وتأثيرها في العالم، واتساع نفوذها، ورسوخ أصولها في الأصقاع المتنائية.

فالإسلام هو السبب الوحيد في انتشار الخط العربي، إن لم نَقُلْ هو مُحْيِيه ورافِعُه إلى أَوْج الظهور، حتى انتشر هذا الانتشار العظيم بين الأمم الإسلامية وغيرها في آسيا وأفريقيا وأوروبا حتى بلغتْ حدوده من أقاصي الهند وأرخبيل الملايو (ماليزيا) شرقًا إلى أقصى بلاد المغرب وبحر الأدريتيك غربًا، ومن أعلى تركستان وأواسط روسية أوروبا شمالًا، إلى أدنى زنجبار جنوبًا، وقد تخطَّى الآن خِضَمَّات الأُقيانوس، وبلغ إلى قارة أمريكا وغيرها من جُزر البحار، فهو يضم بين دفَّتَيْه أممًا لا تُحصَى، مختلفة الأجناس والعادات، متعدِّدة اللغات واللهجات، كالعرب والأتراك والفُرس والهنود والملايو والأفغان والتَّتَر والأكراد والمغول والبَرْبَر وأهل السودان والزنوج والساحليين وغيرهم، ويظل تحت رايته من ٢٠٠ مليون إلى ٢٥٠ مليونًا من الأنفس، ما عدا أكثر من مائة مليون من المسلمين يكتبون به في اللغة العربية نصوص الدِّين كالقرآن وغيره، مما هو أثرٌ باقٍ لذلك التمدُّن العظيم.

(٢) التمدُّن الإسلامي وسواه

فالتمدُّن الإسلامي لو قلنا: إنَّه لم يُخلِّف مثلَ ما خلَّفَه التمدُّن المصري القديم من الآثار البنائية كالهياكل والأهرام والبرابي والمسلَّات، ولا مثل ما خلَّفَه التمدُّن البابلي والأشوري (الأثوري) من الخرائب والأطلال القرميدية والآثار البنائية، ولا مثل ما خلَّفَه التمدُّن اليوناني والرُّوماني من الآثار الفكرية والسياسية والبنائية كالمسارح والميادين، وغيرها من المصنوعات المحسوسة، وضربنا صَفْحًا عن الآثار العظيمة الإسلامية البنائية وغير البنائية كالجوامع والأبنية العربية العديدة، وغيرها من آثاره في الشرق والغرب، فإنَّه خلَّفَ آثارًا معنوية مطبوعة في النفوس تناقلتْها الأمم عنه، فتوارَثَها الخلَفُ عن السَّلَف والأبناءُ عن الآباء، كأنَّه وَسَمَ الأممَ التي دخلتْ في سلطانِه بسماتٍ خالِدة أهمُّها الدِّين واللغة ثم الخط، فبعض الأمم وُسِمَ بالسِّمات الثلاثِ معًا، كمُسْلِمي مصر والشام والعراق وبلاد المغرب وغيرها، فضلًا عن جزيرة العرب، وبعضها وُسِمَ بالسمتين: الدِّين والخط، كالتُّرْك والفُرس ومسلمي الهند والملايو وغيرهم مما هو موضوع بحثنا في هذا الكتاب، والبعض الآخَر وُسِمَ بسمتي اللغة والخط دون الدِّين، وهؤلاء هم أهل الذمة في العالم العربي، والبعض الآخَر وُسِمَ بسمة الدِّين فقط كمسلمي الصين.٢

هذا، وإن يكن للتمدُّن الروماني سماتٌ تُشبه هذه السمات قد وُسم بها بعض أمم أوروبا وأمريكا، ونعني بها سمتي الخط واللغة، وهما من أهم آثاره، لكن الفرق بين آثاره وآثار التمدُّن الإسلامي عظيم، فاللغة اللاتينية لم تبقَ شائعة على الألسنة، بل هي تُعَدُّ من اللغات الميتة، وإن تكن قد دخلت في معظم لغات أوروبا، أمَّا اللغة العربية فيكفي أن نقول عنها: إنَّها باقيةٌ ما بقي الإسلام والقرآن يتكلَّم بها الآن عشرات الملايين من الأنفس، كما سيأتي بعدُ.

fig13
شكل ٢-١: صينيون مسلمون في زنقاريا.

وأمَّا الخط الروماني فهو وإن كانت الكتابة به شائعة عند بعض أمم أوروبا وأمريكا، فالخط العربي أكثر منه انتشارًا، وسترى أنَّ الكتابة به عامةٌ عند المسلمين كافةً، فهو آلة الكتابة المشتركة بين جميع الأمم الإسلامية، وبالجملة فهو أثرٌ دِينيٌّ والفرق كبير بين الأثر الدِّيني وأثرٍ شاع بالاستعمار أو بتقليد المحكوم للحاكم.

(٣) اللغات التي تُكتَب الآن بالخط العربي

وإليك الكلام على اللغات التي يَكتُب أهلُها الآن بالخط العربي في أنحاء العالم، ولا يستعملون في الكتابة غيرَه، مع التفصيل التام عن هذه اللغات وتعدادها وتاريخها الخاص بالموضوع، وارتباطها بهذا الخط، ومواقع البلدان التي تستعمل فيها، وإحصاءات عن المتكلِّمين بها، وما يَزِيدونه من الأحرف على حروف الهجاء العربي، وغير ذلك؛ ليتبيَّن للقُرَّاء حقيقة انتشار هذا الخط.

وقد قسَّمنا الكلام في هذه اللغات التي تكتب الآن به إلى خمسة أقسام:
  • القسم الأول: هو مجموع اللغات التركية.
  • والقسم الثاني: هو مجموع اللغات الهندية.
  • والقسم الثالث: هو مجموع اللغات الفارسية.
  • والقسم الرابع: هو مجموع اللغات الأفريقية.
  • ثم القسم الأخير: وهو الخاص باللغة العربية، فنتقدَّم للكلام على كلٍّ منها:

(٣-١) اللغات التركية

هي من اللغات الطورانية٣ منتشرة بتركية أوروبا وتركية آسيا، وروسية أوروبا وروسية آسيا بتركستان وشواطئ بحر الخَزَر والقوقاس، ويتفاهَم بها المغول الأتراك من الأزابكة والتتر والتركمان والعثمانيين وغيرهم، ويُقدَّر عدد المتكلِّمين بها بنحو ٤٠ مليون نسمة تقريبًا جُلُّهم من المسلمين، وأشهر فروعها التي تكتب به:

(أ) التركية العثمانية

هي اللغة الرسمية للحكومة العثمانية، وهي منتشرة في ممالِكها بأوروبا وآسيا، ويتكلَّم بها الأتراك والأرمن والأكراد وغيرهم من الشعوب في السلطنة العثمانية، وهي أكثر اللغات التركية تهذيبًا وانتشارًا، وأوسعها آدابًا، وقد اصطلح الناس على تسميتها «باللسان التركي»، وهي تختلف اختلافًا كليًّا في الوقت الحاضر عمَّا كانتْ عليه في الأزمنة الغابرة، حتى إنَّك إذا أتيتَ بكتابٍ تركي قديم العهد وأَطْلَعْتَ عليه شابًّا من شُبَّان الأتراك في هذه الأيام لَمَا استطاع أن يفهم منه إلَّا القليل من الكلام نظرًا للتغيُّر العظيم الذي طرأ على هذه اللغة في أدوارها الأخيرة؛ إذ إنَّها تنقَّحتْ وتهذَّبتْ ورُبِطتْ بقواعد جعلتْها أشبهَ باللغات الغربية، وشُبَّان الأتراك الذين نَشَئُوا في هذا العصر يسعَوْن لقَطْع كل علاقة بين اللغة التركية القديمة واللغة العصرية الجديدة، حتى إنَّهم لا يسمُّونها اللغة التركية بل «اللغة العثمانية»، على أنَّ كثيرين من الأتراك — وعلى الأخص القسم الذي يقطن ولايات الأناضول — لا تزال لغتهم قريبة من لغة أجدادهم، وأهالي الآستانة يستهجنون كلامهم كما يستهجن أهالي باريس كلام الفرنسيين الذين في بلاد كندا. واللغة التركية العثمانية تتألَّف من ثلاث لغات: إحداها اللغة «الجغتائية»، وسيأتي ذكرها بعدُ، وهي أصل التركية العثمانية، وثانيتها «اللغة العربية» التي دخل من ألفاظها فيها نحو ٥٠ في المائة، وثالثتها «الفارسية» التي تُعَدُّ ألفاظها فيها بنحو ١٥ في المائة، وقد دخلها الآن ألفاظ كثيرة من اللغات الإفرنجية، حتى أصبحتْ — لكثرة ما أدخلوه فيها — تُشبه اللغة المالطية العربية٤ واللغة الأوردية.

فهي لا تستنكف أن تضم إليها الكلمات الكثيرة من اللغات الأخرى، فصارتْ — بسبب ذلك — تضارع أشهر اللغات الإفرنجية في غزارة مادتها واتساع دائرة التخاطب بها.

والسبب في كثرة الألفاظ العربية في اللغة التركية العثمانية بهذا المقدار يفسِّره تاريخ الآداب فيها؛ وذلك أنه لم يكن للتركية العثمانية آدابٌ قبل القرن السابع للهجرة؛ أي قبل تأسيس دولتهم، وأقدمُ آدابها مُقتبَس من الفارسية أو هو فارسي معنًى ومبنًى؛ والسبب في ذلك أنَّ العثمانيين أقاموا دولتهم على أنقاض دولة السلاجقة الذين اختلطوا بالفُرس، وتأدَّبوا بآدابهم، وكانت اللغة الفارسية لغة العلم والأدب والسياسة عندهم، فلما اقتبس الأتراك آدابهم من الفارسية اقتبسوا معها كثيرًا من آثار اللغة العربية وآدابها التي كان الفُرس اقتبسوها قبلهم، غير الذي اقتبسه الأتراك من اللغة العربية رأسًا من الألفاظ والآداب الدينية؛ ولذلك كانت الألفاظ العربية في اللغة التركية أضعاف الألفاظ الفارسية فيها، فالأتراك يقلِّدون العرب بسائِق الدِّين ويقلِّدون الفُرس بسائِق الأدب.

ولم تُكتَب اللغة العثمانية إلَّا في القرن السابع للهجرة، وهي من ذلك الحين تُكتَب بالخط العربي، وأول كتاب دُوِّن في نحو اللغة التركية وقواعدها بالخط العربي هو كتاب «الإدراك للسان الأتراك» الذي ألَّفه أحد علماء الإسلام في الأندلس، وهو أثير الدِّين محمد بن يوسف المعروف بأبي حيان الغِرْناطي «توفِّيَ في مصر سنة ٧٤٥ﻫ» الذي خلَّد اسمَه بما يخرج عن مقدور البشر من تصانيفه، اهتمَّ بوضْعه في أوائل ظهور السلطنة العثمانية واستقلالها في سنة سبعمائة واثني عشر؛ ليكون أساسًا لقواعد اللغة الرسمية العثمانية، وقد نُشر في الآستانة سنة ١٣٠٩، ونَشَره أيضًا المسيو لوسين بوفا من مشاهير علماء المشرقيات الفرنسيين سنة ١٣٢٥.

وأول مَن وضَع قواعد اللسان العثماني في عصر الإصلاح هو جودت باشا المؤرِّخ الشهير.

ويزيد الأتراك على أحرف الهجاء العربية خمسة أحرف وهي «» بثلاث نقط وتنطق كالنون، وكاف يائية لا تنطق والأربعة الأحرف الفارسية الآتي ذكرها.

(ب) التركية القازانية أو اللغة التترية

وهي منتشرة في ولاية قازان وما جاورها من الولايات في روسية أوروبا كولاية أوفا وغيرها، وهي لغة التتر٥ المسلمين في هذه الولايات، ويُقدَّر عددُهم بنحو مليون ونصف مليون نسمة، وللغة التترية آداب أصلية عندهم غير مقتبسة عن غيرهم من الأمم في الشعر والنثر، حتى إنَّ بعض شعرائهم يلتزم النَّظْم بالتترية بدون أن يستعمل ألفاظًا دخيلة من العربية أو الفارسية أو غيرهما من اللغات التي دخل في التترية كلماتٌ منها، بل إنَّ هَمَّ التتر جميعهم اليوم — كما قال الأستاذ فمبري — هو تطهير لغتهم من الكلمات الدخيلة، كما كان همُّهم الوحيد في السابق هو مقاومتهم للطريقة المنسكية٦ حتى استراحوا منها، وتُنشَر بالتترية جرائد ومجلات ومؤلَّفات كثيرة (بالخط العربي بالطَّبْع)، وتُدرَس بها جميع العلوم مثل التركية العثمانية، ويزيد التتر على أحرف الهجاء العربي الأحرف التي يزيدها الأتراك في اللغة التركية العثمانية.

(ﺟ) التركية القرمية

منتشرة في شبه جزيرة القِرِم بين سكانها التتر القرميين، وهي لغة المغول الذين احتلُّوا روسيا الجنوبية وشبه جزيرة القِرِم في القرن التاسع للهجرة، وقد دخلها كلمات كثيرة من العربية والروسية.

(د) التركية النوجائية أو الكاراسية Nogai or Karass Turki

هي لهجة تترية شائعة في ولاية كاراس القوقاسية وما يجاورها من شواطئ البحر الأسود الشرقية، يتكلَّم بها التتر هناك، وهي تُشبه كثيرًا التركية القرمية السالِفة والآذرية الآتية.

(ﻫ) التركية الآذرية٧

(الآذربيجانية) أو التركية الترنسقوقاسية،٨ وهي منتشرة في آذربيجان، وتنقسم إلى لهجتين:
  • (١)

    شمالية: يتفاهم بها سكان قوقاسية آسيا (ترنسقوقاسيا) التابعة للروسيا، ويشتمل على حكومات باكو وتفليس وقوطاي وباطوم وغيرها.

  • (٢)
    جنوبية: يتفاهم بها سكان إقليم آذربيجان التابع للعجم، وكلتا اللهجتين تُكتَبان بالخط العربي، وتُطبَع بالآذري عدة جرائد وكتب، وقد ألَّف ميرزا فتح علي أخوند زاده في القرن الماضي بعض الروايات التمثيلية اللطيفة بالآذرى الشمالي، ونُقِلت إليه بعض الروايات العربية الحديثة كرواية «عذراء قريش» لصديقِنا المرحوم منشئ «الهلال» بقلم أخوندمير محمد كريم قاضي ولاية باكو.٩ ولا تُعرَف أشعارٌ بهذه اللغة ترتقي إلى أكثر من القرن السابع عشر للميلاد.

(و) التركية الداغستانية

من اللغات الآوارية التركية، وهي شائعة في داغستان Daghestan، وما يجاورها من شواطئ بحر الخَزَر الغربية.
وقد انتشرت هذه اللغة على الخصوص في أيام الإمام شاميل (شكل ٢-٢) القائد القوقاسي الشهير (وُلد في داغستان سنة ١٧٩٧، وتوفِّي سنة ١٨٨٠) الذي حارب الروس ودافع عن القوقاس أكثر من ٣٠ سنة أبْلَى فيها بلاءً حسنًا.
fig14
شكل ٢-٢: شاميل، القائد القوقاسي الشهير.

فعُرفتْ لغته هذه الداغستانية في أنحاء القوقاس، وكُتبت بها الكتب العديدة بالخط العربي في مختلف العلوم، وهم يزيدون على أحرف الهجاء العربية هذه الأحرف:

«چ» وهي تنطق عندهم كالجيم الفارسية وكچشو.

«ژ» الرَّاء بثلاث نقط فوقها، وتُنطَق عندهم: إِتسو tso.

«صّ» الصاد بشدة فوقها وتُنطَق: «تسا».

«ڨ» القاف بثلاث نقط فوقها، وتُنطَق كالقاف واللام.

«ڮ» الكاف بثلاث نقط تحتها، وتُنطَق: «خها»، و«كها».

«كّ» الكاف بشدة فوقها، وتُنطَق: «حهي»، و«كا».

«ڸ» اللام بثلاث نقط تحتها، وتُنطَق: كالثاء تقريبًا.

وقد دخل في هذه اللغة — فضلًا عن الكلمات التركية والفارسية — كثير من الألفاظ العربية، وعلى الأخص الكلمات الدِّينية؛ فإنها فيها كما في غيرها من اللغات الإسلامية عربية مبنًى ومعنًى. وقد يُحسن سكان بعض جهات داغستان التكلُّم باللغة العربية الفصحى، وإن لم يكن الكثير من الداغستانيين يُحسِنون التكلُّم بها مصحَّحة على القواعد النحوية.

قال الرحَّالة رشاد بك في سياحته في الروسيا عند الكلام على بلاد الجركس والداغستان: «ولغاتهم أكثرها لا تُقرأ ولا تُكتَب، ما عدا الداغستان، فإن لغتهم لها قراءة وكتابة خاصة بها، وحروفها هي نفس حروف الهجاء العربية، ولكن من ضمن هذه الحروف حرفا لام وكاف تحت كل واحد منهما ثلاث نقط، وهذه اللغة لا تُشبه أيَّة لغة من اللغات الشرقية ولا غيرها، بل هي لغة قائمة بذاتها، وفيها كلمات عربية كثيرة، وفي العهد الأخير أسَّسوا مطابع عديدة في تيمور خان شورا مركز ولاية الداغستان تُطبَع فيها كتب ومجلات باللغة العربية الفُصْحى وباللغة الداغستانية. ومِن أظهر مخارج الحروف فيها (أي في لغة الجراكسة واللزجين والأباظا) الحاء والخاء والسين والشين والقاف والغين، وكل معاملاتهم وصكوكهم تُكتَب باللغة العربية، وعلماؤهم وأئمتهم يعرفون هذه اللغة قراءةً وكتابةً؛ لأنَّها لغة دِينهم، وزيادة على ذلك فإن الداغستان يقرءون ويكتبون بالعربي ويتكلَّمون.» ويُقدَّر عدد المتكلِّمين باللغة الداغستانية بأقل من مليون نسمة، وهم يكتبون بالخط العربي بعد أن دخلوا في الإسلام، وكان إسلامهم في القرن الثامن للميلاد، وهناك لغة أخرى في داغستان تُكتَب بالخط العربي، وهي اللغة الكومكية Kumuki، وهي تختلف عن الداغستانية اختلافًا كثيرًا.

(ز) اللغة الجركسية Teherkesses

وهي منتشرة في القوقاز بين الأمة الجركسية التي تُسمِّي نفسَها بأمة «الآدغه»، وتسكن البلاد المعروفة الآن ببلاد الجركس على ضفاف نهرَيْ قوبان وترك وسفوح وهضاب جبال القوقاز الغربية بينها وبين البحر الأسود غربًا، وبلاد منكرليا من أعمال ولاية القوقاز الحالية جنوبًا، والجركس كافةً على دِين الإسلام، وكتابهم هو القرآن، وكتابتهم التي يتعاملون ويتراسلون بها إلى وقتنا هذا هي باللغة العربية، وكتب دراستهم وعلومهم الشرعية والدِّينية عربية، ولهم في التاريخ الإسلامي شأنٌ كبير، أنشَئوا دولةً مصريةً من دُوَل المماليك، أمَّا لغتهم الوطنية فليست لها حروف تُكتَب بها؛ ولذا فهم لا يستعملونها في الكتابة، بل يستعملون العربية والأحرف العربية، كما تقدَّم.

وقد اخترع قريبًا محمد كمال بك الجركسي حروفًا جديدة لكتابة اللغة الجركسية على رسم الحروف العربية، كما في الكتابة الفارسية والتركية وغيرها، مستعينًا بما في اللغتين التركية والفارسية من الحروف الزائدة، وقد حوَّل بعض الحروف العربية إلى حروف جركسية بزيادة نقطة أو ثلاث نقط فوق الحرف، ووضع حروفًا جديدة خاصة باللغة الجركسية، إلَّا أنَّه عَدَل عن اتخاذ الحركات المستعملة في العربية والفارسية والتركية (وهي الفتحة والكسرة والضمة) ووضع لها حروفًا خاصة ألحقها بحروف العلة، ووضع حروفًا أخرى للإمالة والحركات الأخرى التي تجيء في كلمات اللغة الجركسية، فبلغتْ تسعة وخمسين حرفًا، منها ٢٩ عربية بما فيها «ث، ذ، ض، ع، ﻫ» التي لا توجد في اللغة الجركسية، ومنها ثلاثة أحرف بدل الفتح والكسر والضم، ومنها الأربعة الأحرف الفارسية، والباقي وهو ثلاث وعشرون حرفًا خاصة باللغة الجركسية وحروف العلة اثنا عشر حرفًا، وقد بيَّن ذلك في كتابه «الإلهامات القدسية في ألفبا اللغة الجركسية» الذي نشره في مصر سنة ١٣٢٨، وقد وَضَعَتْ أيضًا الجالية الداغستانية في الآستانة كتابًا لمثل هذا المقصد إلَّا أن طريقتها لم تنتشر.

(ﺣ) التركية الأنبورغية أو التركية القرغيزية

هي لهجة تترية شائعة في شمال بحر الخزر بالروسيا الأوروبية (في ولاية أورنبورغ Orenburg وغيرها) وفي غرب سيبريا، وهي لغة القرغيز Kirgkiz وقبائل القوزاق «والقوزاق كلمة تترية معناها الجريء المقدام أو البدوي»، ومنهم نوع من العساكر البرية في الجيش الروسي، وهم مسلمون ونصارى وبوذيون، فالمسلمون قوزاق الجراكسة وأورال وسيبريا، والنصارى قوزاق الدون، والبوذيون قوزاق الموغول جهة بحيرة بيكال، وكل القوزاق شجعان بواسل أولو بأس شديد وقوة، ولهم فروسية خارقة للعادة.

(ط) التركية الجغتائية Jagatai Turki

fig15
شكل ٢-٣: الخط الأويغوري.
التركية الجغتائية ويُسمِّيها أهلها أيضًا «التركي»، فلذلك يسمِّيها الإفرنج أحيانًا التركية الشرقية Turc Oriental، وهي لغة التركمان وأكثر سكان بلاده خيوه (خوارزم) وبخارا وغيرها من أواسط آسيا ومركزها مدينة مرو، وهي اللغة العامَّة عندهم، وذلك من القرن التاسع للهجرة؛ أي من الوقت الذي تغلَّبتْ فيه على اللغة «الأويغورية» إلى الآن سواء أكانوا يتكلَّمون بها عادة أم يستعملونها في الكتابة بالحروف العربية التي حلَّتْ عندهم محل الخط الأويغوري،١٠ (انظر شكل ٢-٣).
وأول كتاب دُوِّن باللغة الجغتائية «وبالخط العربي» ديوان مير علي الشهير بنواني في القرن التاسع للهجرة، وبها ألَّف السلطان بابر (نمر) المتوفَّى سنة ٩٣٧ﻫ، ديوانه وكتاب أخباره المشهور باسم «بابرنامه»١١ أي كتاب بابر، وبها ألَّف أيضًا أبو المغازي بهادرخان سلطان خوارزم المتوفَّى سنة ١٠٧٤ تاريخ التتر الموسوم «بشجرة ترك.»

(ي) التركية التكية Tekké Turkoman

هي لغة قبيلة تكة من قبائل التركمان بالتركستان، ويُقدَّر عدد هذه القبيلة بنحو نصف مليون نفس تقريبًا، وهم يستعملون كذلك اللسان الجغتائي المتقدِّم ذكره في الكتابة كسائر قبائل التركمان.

(ك) التركية الأوزبكية Uzbec Turki

وهي منتشرة في التركستان الروسية بما وراء النهر، ومركزها مدينة سمرقند عاصمة تيمورلنك، وهي لغة أُمَّة الأوزبك التركية، ويُقدَّر عدد المتكلِّمين بها بنحو مليون نسمة على حسب تقرير الأستاذ أرمنيوس فمبري المستشرق المجري.

(ل) التركية الكشغرية Kashgar Turki

وهي شائعة في تركستان الصينية ومركزها مدينة كشغار، ويتكلَّم بها نحو عشرة ملايين من الترك تجمعهم ومسلمي روسيا أواصر اللغة «والدين» والآداب، وتُكتَب بالخط العربي لغات ولهجات كثيرة أخرى متفرِّعة من التركية مثل «اللغة البخارية» المستعملة في بخارى و«السيبرية» المستعملة في سيبريا و«اللسان الأناضولي» المستعمل في الأناضول و«الباشكيري» المستعمل في جنوب جبال أورال و«الكراتشي» و«الدباندي» وغيره، بل إن جميع اللغات واللهجات التركية تُكتَب بالخط العربي على العموم، وذلك من وقت الفتح الإسلامي لبلادهم ودخول الترك في الإسلام.

وقد جاء في دائرة المعارف البريطانية في الكلام على اللغات التركية وكتاباتها١٢ ما نصُّه: «إنَّ حروف الهجاء العربية عامة الاستعمال في كتابة اللغات التركية، ولو أن بعض القبائل في روسيا تستعمل الحروف الروسية وأخرى في آسيا الصغرى تستعمل الحروف الأرمنية واليونانية.»

(٣-٢) اللغات الهندية

هي من اللغات الآرية١٣ منتشرة في جميع الهند والسند وسيلان وملقى وغيرها، وأهمُّها اللغة الأوردية الهندستانية، ويُعَدُّ المتكلِّمون بهذه اللغات بنحو ٩٦ مليون نسمة من المسلمين، ومن فروعها التي تُكتَب بها:

(أ) اللغة الأوردية الهندستانية١٤

وتُستعمل في الهند الإنجليزية، وعلى الخصوص في المقاطعات المتوسطة، وهي اللغة الهندية الإسلامية التي يتكلَّم بها أكثر مسلمي الهند، وهي مأخوذة من اللسان الهندي Hindi، وهو اللسان الحديث الذي يتكلَّم به سكان النصف الغربي من وادي نهر الكنج الهنديين، ثم دخل فيها ألفاظ كثيرة من اللغة العربية والفارسية، وقد نشأتْ هذه اللغة في وقت الفتح الإسلامي للهند، وأول مَن تكلَّم بها المسلمون، وهي من ذلك الوقت تُكتَب بالخط العربي.

قال الدكتور جوستاف لوبون في كتابه «سر تطوُّر الأمم»: «وأهم تلك اللغات (أي الهندية) أحدثها وهي الهندستانية؛ لأن عمرها لا يزيد على ثلاثمائة سنة، وهي مزيج من اللغتين الفارسية والعربية اللتين كان يتكلَّم بهما الفاتحون، ومن الهندية التي كانت أكثر اللغات انتشارًا في الأقاليم التي دخلوها، وقد نسي الغالب والمغلوب في زمن يسير لغتهما الأولى، واتخذوا اللغة الجديدة لسانًا عامًّا موافِقًا للشعب الجديد الذي تولَّد من اختلاط الفريقين.»

وقد كانت هي اللغة الوحيدة المستعملة للمخابرة بين الأوروبيين ووطنيي شمال الهند وغربيها، ولكنه قلَّ استعمالها الآن لهذا الغرض لكثرة شيوع اللغة الإنجليزية هناك.١٥
ويزيد الهنود على أحرف الهجاء العربي سبعة أحرف: ثلاثة هندية، وتُعرَف بذوات النُّقَط الأربع وهي «ٿ» التاء بأربع نقط فوقها، وهي تُنطَق بين التاء والطاء، و«ڐ» الدال بأربع نقط فوقها، وهي تُنطَق بين الدال والضاد و«ڙ» الراء بأربع نقط فوقها، وتُنطَق بين الراء والغين، وقد يستعيض بعضهم عن الأربع النقط بعلامةٍ تُشبه الطاء أو الهمزة، ثم الأربعة الأحرف الفارسية الآتي ذكرها، فحروف الهجاء عندهم ٣٥ حرفًا،١٦ واللغة الهندستانية هذه تُعرَف باللغة الهندستانية الشمالية تمييزًا لها عن اللغة الهندستانية الجنوبية المعروفة بالدكهنية، وسيأتي ذكرها.

(ب) اللغة الأوردية

الهندستانية أيضًا، وهي تُكتَب على شكل الخط الفارسي، وتختلف عن الأولى اختلافًا بسيطًا، وهي تستعمل في شمال الهند، ومركزها مدينة دلهي العاصمة القديمة للإمبراطورية الهندية الإسلامية.

(ﺟ) اللغة الدكنية١٧ (الدكهنية)

الدكهنية أو الهندستانية المدراسية، وهي لغة مسلمي جنوب الهند، وهي منتشرة في شبه جزيرة الدكن ومدراس، ومركزها مدينة حيدر آباد الدكن، وهي الهندستانية الجنوبية.

(د) اللغة الكشميرية

هي شائعة في مملكة كشمير بأعالي الهند، ومركزها مدينة كشمير (سيريناغار)، ويُقدَّر المتكلِّمون بهذه اللغة بنحو ثلاثة ملايين نسمة، أكثرهم من المسلمين، وهم يكتبونها بالخط العربي منذ أوائل القرن الخامس للهجرة؛ أي بعد انتشار الإسلام بينهم على يد أمين الدولة الذي غزا كشمير سنة ٤٠٧ﻫ، وسكان كشمير مشهورون بالجمال وصحة الأبدان، وعدَّهم العرب من أحسن خلق الله خِلقةً، واشتُهرتْ بلادهم خصوصًا بضرب من الشيلان تُنسَب إليها، وأكثرهم يشتغلون بحياكتها.

(ﻫ) اللغة السندهية السندية Sindhi

وهي شائعة في بلاد السند، وتنقسم إلى ثلاث لهجات:
  • (١)
    لهجة سيريكي Siraiki في السند الأعلى.
  • (٢)
    لهجة لاري Lari في دلتا السند.
  • (٣)
    لهجة تاريلي Thareli في صحراء التار Thar، ومركزها (أي السندية) مدينة كراتشي (قريبة من دلتا نهر السند)، وقد دخل في هذه اللغة كما دخل في غيرها كثير من الكلمات والتراكيب العربية، وهي تُكتَب بالحرف النسخي، ويُقدَّر عدد المتكلِّمين بها بنحو ثلاثة ملايين نسمة.

(و) اللغة الجاتكية Jatki

وهي منتشرة في المولتان وشمال بلوخستان، ومركزها مدينة مولتان؛ ولذا فهي تُعرَف أيضًا باللغة المولتانية Mύltàni، وهي تُكتَب بالخط العربي على شكل الحرف الفارسي، واللغة الجاتكية أو المولتانية هي الفرع الجنوبي من اللسان البنجابي، وتُستعمل في جنوب بنجاب، أمَّا الفرع الشمالي منه فهو اللسان الدُّرجي Dorgi، ويُستعمل في شمال بنجاب، ويُقدَّر عدد المتكلِّمين بهاتين اللغتين بنحو ١٨ مليون نسمة تقريبًا.

(ز) الملاكية (الملقية)

أو لغة الملايو من اللغات الملايو بولينيزية، وهي شائعة في شبه جزيرة ملقى (ملاك)، وفي أرخبيل ماليزيا (الملايو)، وهي تُكتَب بالخط العربي إلَّا أنها، لا تُكتب في ملقى كما تُكتَب في جاوه أو سومطرة؛ لأنَّ لها لهجات مختلفة، وهي اللغة المتداوَلة في المعاملات التجارية، خصوصًا في جزائر الملوك، وقد أثَّرتْ مخالطة الأجانب في لغة الملايو، فاقتبست من لغاتهم وآدابهم؛ لذلك تجد بها كلمات كثيرة من أصل هندي (سنسكريتي)، وتأثير السنسكريتية في لغة الملايو أظهر من تأثير العربية، مع أنهم أخذوا عن الإسلام كلمات عديدة أيضًا، وتجد بلغة الملايو كلمات من أصل برتقالي أثرًا من فتح البرتقاليين لبلادهم.

وقد أخذ الملايو عن العرب حروف الهجاء العربي، وزادوا عليها الأصوات الخاصة بلغتهم، وهي: حرف «چ» جيم فيه ثلاث نقط، وهو يُنطَق عندهم: «تشا»، و«ڠ» غين عليها ثلاث نقط، وتُنطَق: «نجا»، و«ڨ» فاء عليها ثلاث نقط، وتُنطَق: «پا»، و«ڬ» كاف فوقها نقطة، وتُنطَق: «جا»، و«ڽ» نون بثلاث نقط فوقها، وتُنطَق: «نيا».

ولا تُهمَل الكتابة العربية إلَّا في الممبغ شرق سومطره؛ حيث الكتابة هناك بالأحرف الهندية القديمة، وتُكتَب الأعداد عند الملايو بأرقام عربية لا هندية، انظر كتاب «أمة الملايو» لصالح جودت بك.

ومن اللغات الهندية التي تُكتَب بالخط العربي أيضًا «لغة الفيليبين»، وسيأتي الكلام عليها بعدُ.

(ﺣ) اللسان الجاوي أو البيجون Javanese or Pegon

الجاوي أو البيجون: هو فرعٌ من لغة الملايو شائعٌ في جزيرة جاوه، وتختلف لهجات الجاويين فيه، فمِن هذه اللهجات: «الصندية أو السندية» Sundancese، ويتكلَّم بها ساكنو غرب الجزيرة و«الموديرية»، وهي لغة أهل الشرق منهم ثم «الجاوية»، وهي الشائعة في وسط الجزيرة وفي أنحاء عديدة منها، ولا تزال في هذه اللهجات صبغة السنسكريتية، وللجاويين لهجة عامِّية يُقال لها: «نجوكو»، وهي تختلف اختلافًا بيِّنًا عن اللهجة الفُصْحى التي يُقال لها: «الكريمة»، وهم يكتبون بهذه اللغة الكريمة قصصهم وأخبارهم وأشعارهم، وبين هاتين اللهجتين لهجة وسطى يقال لها: «المادية»، وكتابة أهل جاوه عربية، ولكن بلغاتهم المتعدِّدة، وهاك حروفَ الهجاء عندهم:
«ا» الألف: وينطقون بها: «إلبْ»، «ب»: ولهذا الحرف عندهم ثلاث نقط، ولكن ينطقونه مخفَّفًا كحرف «ب» عندنا وحرف «b» الإفرنجي، «ت»، «ث»، «جم»: ينطقونه كالجيم المصرية، أو كحرف «g» في كلمة «god» الإنجليزية، «جم» ينطقونه كحرف «ج» عند أهل الشام مسبوقًا بحرف «د»، أو كحرف «g» في كلمة «age» الإنجليزية، «حم» ينطقونه بصوت بين الحاء والهاء، «حہ»: ينطقونه كالخاء العربية ولكن ممالة الفتحة، «د»، «ذ»: ينطقونه كحرف «ج» الموضوع تحته ثلاث نقط في كلمة «چاويش»، «ر»، «ز»: ينطقونه تمامًا كحرف «j» الإنجليزي المقارب لنطق أهل الشام في حرف «ج»، «س»: يرسمونه بسِنَّةٍ رابِعة إن كان مفردًا، «ش»، «ص»، «ض»، «ط»، «ظ»، «عم»: ينطقونه بفتحة ممالة، «غا» لا مثيل لنطق هذا الحرف في اللغة العربية؛ فإنهم يأتون به من أعلى الحلق مع تحريك اللسان رأسيًّا، فيُشابه الراء والغين والنون معًا، ويقرب منه نطق الراء عند الفرنسيين المتعاجبين، مثلًا كلمة «أورغ» بالجاوية، ومعناها «آدمي» ينطقونها «أورغارن»، «غ» ينطقونه كالفاء العربية، «فا»، «ف» ينطقونه بين حرف «P» و«V»، «ك»: ينطقونه: «كاب» بتفخيم الكاف، «ق»: ينطقونه «قب» بالتفخيم أيضًا، «ل»، «ما»، «ن»، «ها»، «و»، «لا»: ينطقونه (لاآلبْ)، «يَ.»
وليس لأعداد الجاويين أرقام، بل يكتبونها بالحروف الهجائية،١٨ أمَّا الخط الجاوي فتُكتَب به لهجة صولو Solo dialect، وهو يقرب في الرسم من ألف باء الهنود القديمة، ولكن هولنده تجتهد الآن في إبطال هذا الخط والاستعاضة عنه بالخط الإفرنجي.

(٣-٣) اللغات الفارسية أو الإيرانية

هي من اللغات الآرية أيضًا، وشائعة في بلاد الفرس١٩ وأفغانستان وكردستان وبلوخستان والبامير، ويُقدَّر عدد المتكلِّمين بهذه اللغات بنحو ١٦ مليون نفس أو يزيدون، ومن فروعها التي تُكتَب بالخط العربي:

(أ) اللغة الفارسية الحديثة

هي شائعة في بلاد فارس، وهي اللغة الرسمية لحكومتي فارس وأفغانستان، وقد ظلَّتْ إلى سنة ۱۸۳۱م هي اللغة الإسلامية الرسمية لحكومة الهند الإنجليزية حتى استُعيض عنها باللغة الهندية الإسلامية لغة الأوردو٢٠ المتقدِّمة، ولم تَزَل الفارسية لغة الطبقة الراقية في الشرق الأقصى يتخابرون بها إلى الآن.

واللغة الفارسية الحديثة هي لغة الفُرس في الإسلام فقط، أما قبل الإسلام أي في العصر الساساني، فكانت اللغة البهلوية أو الفارسية المتوسطة هي اللغة الشائعة في إيران إلى ظهور الإسلام، وبها كانت تدوَّن كتب العلم والدِّين والسياسة، والفرق بينهما كثرة الألفاظ العربية التي دخلت اللغة الفارسية الحديثة بعد الإسلام، فإن ثلث كلماتها عربي الأصل.

وقد كان الفرس قبل الإسلام يكتبون بالخط الفهلوي (الآتي ذكره) الذي أُبدِل بالخط العربي بعد رسوخ قدم العرب في فارس، فإن العرب لمَّا فتحوا بلاد فارس في صدر الإسلام، حملوا معهم الخط الكوفي الذي كان شائعًا بينهم، فأخذه الفُرس عنهم كما أخذه كل مَن دخل في سلطانهم، ثم أُبدل الخط الكوفي بتوالي الأعوام بالخطوط المشهورة (انظر تاريخ الخط الفارسي).

ويزيد الفُرس على أحرف الهجاء العربي أربعة أحرف تُعرَف بذوات النقط الثلاث، وهي: «پ» الباء الفارسية التي تُشبه حرف «P» الإفرنجي، وحرف «چ» ويُنطَق: «تش»، وهي الجيم الفارسية، وحرف «ژ» ويُنطَق مثل الجيم المستعملة في لسان السوريين والمغاربة أو كحرف «J» الإفرنجي، و«ڭ» جاف وهي الكاف الفارسية وتُنطَق مثل «G» الإفرنجية، أو كجيم أهل البحرين المستعملة في القاهرة، فحروف الهجاء الفارسي تتركب الآن من ٣٢ حرفًا مع زيادة الأحرف الخاصة بالعربية السالف ذكرها (راجع: فذلكة في تاريخ الخط العربي، الأحرف الخاصة بالعربية واللغات الأخرى).

تاريخ الخط الفارسي وفروعه

الخط الفارسي «التعليق» هو من أنواع الخطوط العربية الهامة، وقد أخذ في النمو والانتشار في أواخر القرن السادس للهجرة (الثاني عشر للميلاد تقريبًا)، إلَّا أن ابتداء ظهوره كان بلا شك قبل ذلك العصر، وميزة هذا الخط هو ميله إلى الاتجاه من اليمين إلى اليسار ومن أعلى إلى أسفل، ذلك الميل الذي لم يعمل فقط على تطويل بعض حروفه نهائية فيه مثل «ﺒا وﺐ وﺖ وﺚ وﻒ وﻖ وﻚ»، بل أوجب أيضًا تغيير حرفي «ﺳ وﺷ» إلى خط طويل منحنٍ، وجعل لارتباط الحروف الأُخَر ببعضها خط يشبهه، وهذا الشكل الخاص أخذه الخط العربي طبعًا على أيدي الفُرس تحت تأثير خطهم الوطني القديم (البهلوي)، ويقول صاحب «الفهرست» في كلامه على أنواع الخطوط: إن الفُرس اشتقوا خطهم من خط القرآن المسمَّى «بالقيراموز»، إلا أننا لا نعرف اليوم شكل هذا النوع من الخط، ولا معنى لفظه، وأقدم أثر للخط الفارسي هو عَقْد بيعٍ تاريخه سنة ٤٠١ﻫ/١٠١٠-١٠١١، نشره الأستاذ مرجليوث في المجلة الآسيوية الملوكية سنة ١٩١٠ (صفحة ٧٦١ وما يتبعها)، ويتبيَّن منه جليًّا أول علامات خط التعليق، ويأتي بعده في القِدَم كتابٌ للبيهقي بخط يده وُجد في نيشابور، ويقرب تاريخه من سنة ٤٣٠ﻫ، وبه الميل الذي يميِّز خط التعليق المتأخِّر، ثم يتلوهما في القِدَم أيضًا كتاب «الأبنية» للموفَّق الهروي الذي تاريخه سنة ٤٤٧ﻫ /١٠٥٥-١٠٥٦م، وهو مكتوب بالخط الكوفي الفارسي، أما الطريقة الفارسية في تنقيط الأربعة الأحرف السالفة الذكر التي يزيدها الفُرس على أحرف الهجاء العربي، فإنه زاد انتشارها، وإن لم يكن استعمالها منتظمًا دائمًا، فقد كانوا أحيانًا يُهمِلون النقط الثلاث التي على كل حرف منها، وينطقونها كنطقها الأصلي، أي إنهم يُسقِطونها في الكتابة ولا يهملونها في النطق، وفي أواخِر القرن السابع (الثالث عشر للميلاد) ظهر الخط الفارسي في الكتب، ولا سيَّما في كتب الدواوين والأشعار، أمَّا الكتب العلمية والدينية على الأخص كالقرآن وكتب الحديث وغيره فكانت تُكتَب كما في السابق بشكل خاصٍّ من الخط النسخي المستطيل، إلَّا أنه مما يدعو إلى العجب أن التراجم والشروح المتأخِّرة العهد التي بين سطور القرآن وهوامشه كانت تُكتَب في الغالب بخط التعليق الذي كان يُعتبر خطًّا عامِّيًّا.

وقد وصل الفُرس بالخط إلى درجة عالية من الإتقان والجودة، لاستعدادهم الطبيعي للفنون، إلَّا أن آثارهم الكتابية في العصور القديمة قليلة العدد للأسف؛ ولذلك فيصعب الإلمام بفكرة تامَّة على أعمال الخطاطين الفارسيين، ومِن أشهرهم في ذلك العهد نجم الدِّين أبو بكر محمد الراوندي الذي وصل في فن الخط إلى درجة أنه كان يعرف الكتابة على ٧٠ نوعًا مختلفًا،٢١ أمَّا الباقي الآن من المخطوطات الفارسية فأكثره متخلِّف عن العصر المتأخِّر الذي ظهر في حدوده بلا شك «خط النستعليق»، وقد عرَّفناه فيما سبق بالخط الفارسي المنسوخ؛ لأنه يتركب منهما كما يتكوَّن منه اسمه من إدغام كلمة «نسخي» بكلمة «تعليق»، وهذا الخط هو نوع من التعليق، وليس بينهما فرق جوهري، وقد انتشر بعده للاستعمال في المعيشة العادية خط الشكستيه Shikesteh أي المكسَّر، وهو خط صغير رفيع وعُقَده المرتبطة ببعضها تجعله بمعزل عن كل قواعد علم الخط، كما أن خلوَّه من الإعجام يجعله صعب القراءة جدًّا، ويلاحَظ أنه في الأزمان الحديثة أخذ في تهذيب هذا النوع من الخط، حتى تذلَّل صعوبة قراءته.

والفُرس الحديثون يسمون «نستعليق» الخط الذي يسمِّيه الأوروبيون «تعليق»، والتعليق عند الفُرس الآن هو نوع من خط التوقيع القديم المخصَّص للأعمال الرسمية، ومن أنواع الخط النستعليق القديم نوعٌ يقال له: «التحريري»، وهو يُستعمل في المراسلات الآن عند الفُرس.

هذا، ومن بلاد فارس انتشر الخط العربي في شرق آسيا وشرقها الجنوبي حتى الصين، ونشر الفُرس خطهم أيضًا بين مسلمي الهند الذين يعنون باللغة الفارسية كعنايتهم باللغة العربية، والخط السائد عندهم الآن هو التعليق، أما النسخي فهو غير مستعمل عندهم إلَّا في الكتب الدينية والشرعية، كما هو عند الفرس والأتراك، ومثل الهند أرخبيل الملايو فإنَّه لم يدخله الإسلام إلَّا على أيدي الفُرس، ثم حلَّ محلَّهم بعد ذلك عرب الجنوب الذين أتَوْا إليه بصفة تُجَّار وملَّاحين في ابتداء القرون الوسطى، ثم كثُرت مهاجرتهم إليه من جنوب جزيرة العرب، فأقاموا في عدة أماكن من الساحل الشمالي لجزيرة جاوه مما ساعَدَ على سرعة انتشار الإسلام في هذه البلاد، ويظهر أنه لا يوجد هناك آثار قديمة للخط العربي، إلَّا أنه يتبيَّن جليًّا من الخط الحديث أنَّه آتٍ من جنوب جزيرة العرب وليس من بلاد فارس، فسكان جنوب بلاد العرب وشرقيها (عُمان) هم الذين حملوا الخط إلى بلاد الملايو، كما حملوه أيضًا إلى شواطئ أفريقيا الشرقية.٢٢

(ب) اللغة الأفغانية أو البنبتوية٢٣ (البشتوية)

تُدعى أيضًا بالبختوية، وهي شائعة في مملكة أفغانستان، وتُكتَب بالحرف النسخي، وحروفها أكثر من حروف اللغة الفارسية وغيرها من اللغات التي تُكتَب بالخط العربي، وقد دخلها كثير من الكلمات الفارسية والعربية، وهي في غاية الخشونة، وأحسن مَن يتكلم بها أهل مدينة قندهار، وتوجد مؤلَّفات كثيرة بهذه اللغة نظمًا ونثرًا، وقبل القرن الخامس عشر للميلاد لم يكن في اللغة الأفغانية شيء من الآداب، ولكن بعد ذلك الوقت نبغ من أهلها شعراء اتَّبعوا في شعرهم شعراء الفُرس، فتاريخ اللغة الأفغانية قبل ذلك الوقت مُظلِم؛ ولذلك يصعب معرفة الوقت الذي ابتدأت فيه كتابتها بالخط العربي، وهي على كل حال تُكتَب به بعد فتوح العرب لبلادها وانتشار الإسلام بين أهلها، وذلك من قرون عديدة.

ويزيد الأفغان على حروف الهجاء العربي ١٢ حرفًا، وهي: «ټ» التاء الموصولة بدائرة من أسفلها، وتُنطَق عندهم مثل التاء المضعَّفة «tt»، و«ڂ» الحاء بنقطتين فوقها، وتُنطَق مثل «تز tz، أو تس ts»، و«څ» بثلاث نقط وتُنطَق مثل «دز dz» أو «دس ds». و«ډ» الدال الموصولة بدائرة من أسفلها وتُنطَق مثل الدال المضعَّفة «dd». و«ړ» الراء الموصولة بدائرة من أسفلها وتُنطَق مثل الراء المضعَّفة «rr»، و«ږ» بنقطتين واحدة من فوقها والأخرى من تحتها وتُنطَق مثل «شز jz». والحرف المشروح في الهامش، و«ڼ» النون الموصولة بدائرة من أسفلها وتُنطَق مثل الراء المضعَّفة والنون «rrn»، ثم الأربعة الأحرف الفارسية، فتكون حروف الهجاء الأفغانية أربعين حرفًا، ويُقدَّر عدد المتكلِّمين باللغة الأفغانية بخمسة ملايين نسمة من المسلمين.

ويستعمل أهل «اللهجات البميرية» اللغة الأفغانية في الكتابة بالخط العربي، أمَّا لهجاتهم فلا يكتبون بها مطلقًا، واللغة الأفغانية تُستعمل في الهند أيضًا، ويُقدَّر المتكلِّمون بها بنحو ١٠٨١٠٠٠، بخلاف اللغة الفارسية فإنها لا تُستعمل هناك إلَّا بشكل لغة أدبية أو علمية عند المسلمين.

(ﺟ) اللغة الكردية

هي لغة الكرد أو الأكراد التي نبغ من أبنائها أمثال صلاح الدِّين الأيوبي صاحب الفتح القُدسي، وهي منتشرة في بلاد كردستان في أرمينيا وبلاد الجزيرة، ومركزها مدينة كرمنشاه Kirmanshah، وأهم لهجاتها هي اللهجة الكردية الفارسية المستعملة في بلاد فارس، واللغة الكردية تختلف باختلاف أماكن أهلها، فكم من كلمات وألفاظ تُستعمل عند طائفة ولا تُستعمل عند الأخرى، أو تُستعمل لكن مع تغيير في اللفظ أو في المعنى وهكذا، وقد دخل في اللغة الكردية كلمات وتراكيب كثيرة من العربية والفارسية والتركية، غير أنَّ الكلمات العربية فيها أعم من الفارسية، أما التركية فهي أقل منهما، ويندر أن يكون قد دخلت فيها كلمات من غير هذه اللغات الثلاث.
ويكتب الأكراد بالخط العربي من زمان بعيد، قال ضياء الدِّين باشا الخالدي «ولم نجد للأكراد خطًّا مستقلًّا، بل يكتبون بالخط العربي ما أرادوا منذ قرون عديدة»، ويزيد الأكراد على حروف الهجاء العربي خمسة أحرف وهي: «ڤ» الفاء بثلاث نقط، وهي تُشبه حرف «V» الإفرنجي، ثم الأربعة الأحرف الفارسية السالفة الذكر، قال ضياء الدِّين باشا: «ويوجد في العربية ما ليس في الكردية، وذلك ثلاثة أحرف: الثاء والذال والضاد المعجمات، وأمَّا باقي الحروف فيوجد في الكردية إلَّا أن حرف الظاء المعجمة لا يتلفَّظون به كالعرب، بل كتلفُّظ العامة؛ نعني من غير إخراج اللسان بين الأسنان.»

ويُقدَّر عدد المتكلِّمين بالكردية بنحو مليون ونصف مليون. وقد دَوَّن نحو هذه اللغة وألفاظها على حروف المعجم مع ترجمتها إلى العربية المرحوم يوسف ضياء الدِّين باشا الخالدي بكتاب سمَّاه «الهدية الحميدية في نحو اللغة الكردية» سنة ١٣١٠، بعد سفره لبلاد الأكراد واشتغاله السنين الطوال بترتيب هذا القاموس.

(د) اللغة البلوشية (البلوخستانية)

منتشرة في بلاد بلوخستان ومكران (إقليم في جنوب بلاد العجم)، وهي قريبة جدًّا من الفارسية الحديثة، ومن بعض لهجات اللغة الكردية، وقد دخلها من اللغات الأخرى ألفاظٌ كثيرة، فالمختص منها بالديانة مأخوذ من اللغة العربية، والمختص بالتجارة وبالحِرَف وغيرها مأخوذ من اللغات الهندية.

ويزيد البلوخستانيون على أحرف الهجاء العربي سبعة حروف، وهي: الأربعة الأحرف الفارسية ثم الثلاثة الأحرف الهندية المتقدِّم ذكرها.

(٣-٤) اللغات الأفريقية

وهي منتشرة في أفريقيا، ومن فروعها اللغات اللوبية، ومنها لغات البربر في المغرب الأقصى واللغات النوبية في بلاد النوبة والسودان المصري، ومنها الفولحية في غرب أفريقيا، واللغات الزنجية في أواسط أفريقيا وغربيها في السودان الفرنسي وغانه، واللغات البانتيه (البانتو) في شرق أفريقيا وجنوبيها وغيرها، ومن لغاتها التي تُكتَب بالخط العربي هاك أشهرها:

(أ) اللغة البربرية الشلحية Shilha

من اللغات الحامية، وهي لغة البربر سكان مَرَّاكُش الأصليين، وهي مستقلة بألفاظها وتراكيبها مع ما دخلها من الألفاظ العربية، وهي على قسمين: الشلحية الشمالية، وتُسمَّى بالريفية Rifi٢٤ وتُستعمل عند بربر الشمال، والشلحية الجنوبية وتسمى بالسوسية Susi، وتُستعمل عند بربر الجنوب، وكلتا اللهجتين تختلفان عن بعضهما حتى في قاعدة الخط ورسم الحروف، ويُسمِّي شُلُوح (بربر) مَرَّاكُش لهجتهم باسم تمازغت،٢٥ وهي أخت لهجة توارك الصحراء٢٦ المسمَّاة تماشك، وفي لغة المراكشيين العربية كثير من الألفاظ البربرية، وهي عند العامة هناك فاسدة، فتغيَّرت المعاني عن حقيقة وضعها، ودخلها الانتحال والنطق بالساكن والإشمام والجزم والترخيم، وألحقوا نقطة «شي» على آخِر الأفعال، وأدخلوا كافًا على صيغة المضارع مثل كنكتب وهو دلالة على الاستمرار، وأبدلوا هاء الغائب واوًا مثل كتابو أي كتابه، وذالهم دالًا وثاءهم تاءً، ومع ذلك فإن العربية الفصحى تُدرس ويتكلَّم بها العلماء، ويتكلَّم بالبربرية أقل من ثلثي السكان.

(ب) اللغة البربرية أو القبائلية Kabyli

من اللغات الحامية، وهي لغة القبائل أو البربر سكان الجزائر الأصليين، والمراد «بالقبائل» في العُرف القبائل التي ليست عربية، وهي النازلة بالجبال القريبة من الساحل غربي مدينة الجزائر وشرقيها.

fig16
شكل ٢-٤: الكتابة المغربية الحسنة. وتُقرأ هكذا: «قَالَ أبُقْرَاطُ رَحِمَهُ اللهُ الْعُمْرُ قَصِيرٌ وَالصِّنَاعَةُ طَوِيلةٌ وَالْوَقْتُ ضَيِّقٌ وَالتَّجْرِبَةُ خَطِرٌ وَالْقَضَاءُ عَسِرٌ».

والكلمات العربية كثيرة في اللغة القبائلية، واللغة العربية منتشرة في بلاد الجزائر أكثر من البربرية؛ لأن كثيرًا من القبائل وأفخاذها الذين هم من أصل بربري قد استعملوا العربية لغة لهم دون البربرية، بخلاف القبائل العربية فإنَّ القليل منها قد استعمل البربرية لغة له مع العربية.

ومن الجدير بالذكر أنه لا يُعرَف من تآليف هذا اللسان (أي اللسان البربري) إلَّا حكايات وأمثال جمعها العلماء المستشرقون، وقد تَرْجَمَ بعضُ البربر القرآنَ الشريف إلى لغتهم، وأُخرِجت كذلك كتب الحديث والفقه من العربي إلى البربري مكتوبةً بالخط العربي في أيام الموحِّدين المتسلِّطين على المغرب والأندلس من سنة ٥٢٤ﻫ إلى سنة ٦٦٧ﻫ، وكره ذلك منهم القانِطون في العلم ذو الغَيْرة على الدِّين، فأفنَوْا كتبَهم هذه وأبادوها ولم يُحلِّلوا لهم درس الحديث والفقه بغير اللغة العربية.

fig17
شكل ٢-٥: الكتابة المغربية العالية. تُقرأ هكذا: «إِنَّ أَبُقْرَاطَ لَمْ يَأْذَنْ لِمَنْ دَعَتْهُ شَهْوَتُهُ إِلَى الشُّرْبِ أَنْ يَشْرَبَ أَوْ لَا يَشْرَبَ، لَكِنَّهُ إِنْ شَرِبَ وَنَامَ بَعْدَ شُرْبِهِ فَإِنَّهُ أَجْوَدُ مِنْ أَنْ لَا يَنَامَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّوْمَ يَتَدَارَكُ ضَرَرَ الشُّرْبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِالشُّرْبِ بِاللَّيْلِ، فَإِذَا شَرِبَ فِيهِ فَلَا مَحَالَةَ أَنَّ ذَلِكَ الشُّرْبَ يُحْدِثُ فِي الْهَضْمِ فَجَاجَةً وَفَسَادًا، كَحَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ إِذَا صُبَّ فِي قِدْرٍ فِيهَا طَعَامٌ وَهُوَ يَغْلِي عَلَى النَّارِ».

ويكتب أهل المغرب من البربر وغيرهم بالخط العربي منذ أواخِر القرن الأول للهجرة؛ أي من الوقت الذي اعتنقوا فيه الإسلام آخِر مرة، بعد أن دوَّخوا أهله؛ وذلك لأن البربر قومٌ أشِدَّاء، وهم قبائلُ شتَّى مثل قبائل العرب الرُّحَّل، وقد قاسَى المسلمون في إخضاعِهم عذابًا شديدًا؛ لأنهم ارتدُّوا عن الإسلام اثنتَيْ عشرةَ مرةً، وثبتوا فيها كلها على عداوة المسلمين، ولم يثبت إسلامُهُم إلَّا في أيام موسى بن نُصَيْر في أوَاخِر القرن الأول للهجرة، وللبربر فضلٌ كبير في نشْر الإسلام بأواسط أفريقيا، مثل فضل الأتراك في نشره بأواسط آسيا إلى الهند والصين؛ لأن البربر لمَّا ثبت الإسلامُ فيهم نهضوا لفتح ما وراء بلادهم في أفريقيا الغربية، فنشروا الإسلام هناك.

وأهل المغرب يكتبون القاف بصورة الفاء، والفاء بصورتها، ولكنهم يضعون نقطتها من تحت هكذا «ڢ»، ويصوِّرون الدال والذال هكذا «» (انظر شكل ٢-٥)، ويزيدون على أحرف الهجاء العربي: «ڭ» فوقها ثلاث نقط، و«ڮ» تحتها ثلاث نقط، و«» جيم فوقها ثلاث نقط، و«ڤ» فاء فوقها ثلاث نقط، وكلها تُلفَظ كالكاف الفارسية، وتُسمَّى هذه الأحرف «بالجاف البربرية»، وخطهم يُسمَّى بالخط المغربي، وسنأتي على تاريخه هنا، وهم يميلون كالترك بالضاد في النطق نحو الظاء، وترتيب حروف الهجاء عندهم مخالفٌ لترتيبها عندنا (انظر: [فَذْلَكة في تاريخ الخط العربي: (٤) الأحرف الخاصة بالعربية واللغات الأخرى]).

تاريخ الخط المغربي وفروعه

الخط المغربي هو من أهم أنواع الخطوط العربية وأقدمها عهدًا وأكثرها انتشارًا، فهو منتشر الآن في جميع أنحاء أفريقيا الشمالية (غير مصر) وبعض جهاتها الوسطى والغربية، وقد كان مستعملًا في إسبانيا في القرون الوسطى (شكل ٢-٦)، ولم يزل كذلك حتى أوائل العصر الحديث، كما سيأتي في الكلام على «انتشار الخط العربي قديمًا بأوروبا».
fig20
شكل ٢-٦: الخط المغربي الأثري. هذه الكتابة مأخوذة من قصر الحمراء بالأندلس (A Dictionary of Islam, by T.P. Hughes P.688, London 1885)، وهاك تفسيرها: «يا وارث الأنصار لا عن كلالة تراث جلال تستخف الرواسيا.»

والخط المغربي مشتقٌّ من الخط الكوفي القديم، وأقدم ما وُجد منه لا يرجع إلى ما قبل سنة ثلاثمائة للهجرة (٩١٢م)، وقد كان يُسمَّى هذا الخط «بخط القيروان» نسبة إلى القيروان عاصمة المغرب بعد الفتح الإسلامي المؤسسة سنة ٥٠ﻫ/٦٧٠م، فقد اكتسبتْ هذه المدينة أهميةً سياسية كبرى عندما انفصل المغرب عن الخلافة العباسية، وصارت عاصمة الدولة الأغلبية ومركز المغرب العلمي لإنشاء جامعتها الكبرى، فتحسَّن بها الخط المغربي تحسينًا عظيمًا وعُرِف بها.

ولمَّا انتقلت عاصمة المغرب من القيروان إلى الأندلس ظهر فيه خط جديد سُمِّي «بالخط الأندلسي أو القرطبي»، وهو مستدير الشكل بعكس خط القيروان الذي كان مستطيله أبدًا، وقد ذكر ابن خلدون في المقدمة أنَّ الخط الأندلسي انتشر بشمال أفريقيا فتغلَّب على الخط الأفريقي، وعفا عليه ونُسِي خط المهدية، حتى إذا تقلَّص ظلُّ الدولة الموحِّدية بعض الشيء نقص حال هذا الخط، وفسدتْ رسومه، وزاد أيضًا أنه في دولة بني مَرِين «صارت الخطوط بإفريقية والمغربين مائلة إلى الرداءة بعيدة عن الجودة، وصارت الكتب إذا انتُسخت فلا فائدة تحصيل لمتصفِّحها منها إلَّا بالعناء والمشقَّة؛ لكثرة ما يقع فيها من الفساد والتصحيف وتغيير الأشكال الخطية عن الجودة، حتى لا تكاد تُقرأ إلا بعد عُسْر»، ويقصد ابن خلدون طبعًا بهذا الخط المتأخِّر تاريخًا هو خط مَرَّاكُش المسمَّى «بالخط الفاسي» نسبة إلى فاس ثالثة عواصم المغرب العلمية، مع أنَّه لو قُورِن بالخط الإسبانيولي لظهر حقيقةً أنه أردأ منه، إلَّا أنَّ هذا لا يمنع من أن يكون حكم ابن خلدون قاسيًا جدًّا؛ فإنَّ الخط الفاسي المستعمل في الكتب ليس فقط يمكن قراءته، بل هو جميل غالبًا.

وقد تولَّد من الخط المغربي هذا خط جديد انتشر في جميع أنحاء السودان؛ وذلك لانتشار الإسلام في تلك الأصقاع على يد أهل المغرب كما سلف، فإنَّه منذ القرن السابع للهجرة (الثالث عشر للميلاد) تمكَّن الإسلام من أن يُوجِد في أواسط أفريقيا عدةَ حكومات مهمة نوعًا، مركزها مدينة تمبكتو المؤسسة سنة ٦١٠ﻫ/١٢١٣–١٢١٤م، فصارت هذه المدينة هي المركز العلمي الرابع للمغرب لإنشاء مدرسة عظيمة بها، وقد حفظت أهميتها هذه حتى القرن العاشر للهجرة على الأقل، فنشأ هناك نوعٌ جديد من الخط سُمِّي «بالخط التمبكتي أو السوداني»، وهو يمتاز عن غيره بكِبَره وغِلَظه، (وتُوجَد نماذج من هذا الخط ومن خط فاس أيضًا في كتاب هوداس المُسمَّى «بحث على الخط المغربي في المتفرقات الجديدة الشرقية»،٢٧ لوحة ٣ شكل ١و٢، وأيضًا في كتاب برسنيه المسمى «دروس اللغة العربية» ص١٤٨ وما يليها).
فيوجد الآن في أفريقيا أربعة أنواع مختلفة من الخط المغربي وهي:
  • (١)

    الخط التونسي: الذي يُشابِه كثيرًا الخط المشرقي، غير أنه يتبع الطريقة المغربية في تنقيط الفاء والقاف، وقد مرَّ ذكرها.

  • (٢)
    الخط الجزائري Algérienne: وهو على العموم حادٌّ ذو زوايا، وصعب القراءة غالبًا.
  • (٣)
    الخط الفاسي Fezzane: الذي يمتاز صريحًا عن غيره باستدارته.
  • (٤)
    الخط السوداني Soudanaise: وهو على العموم غليظٌ وثقيلٌ، وغالبًا ذو زوايا أكثر مما هو مستدير، وقد انتشر هذا الخط انتشارًا عظيمًا في النصف الثاني من القرن الثاني عشر بانتشار الإسلام وتقدُّمه بين الشعوب الزنجية في وَسَط أفريقيا، وخصوصًا الحوسة Haoussas الآتي ذكرهم، فوصل في الجهة الغربية إلى المحيط، حيث صارت مدينة لاغوس Lagos مركزًا جديدًا للإسلام، ومن الجهة الشرقية إلى مدينة واداي حيث الْتَقَى بالخط النسخي الآتي من مصر.٢٨

ويستخدم الجزائريون والمَرَّاكُشيون الآن الأرقام الإفرنجية بدلًا من الأرقام الهندية التي يستعملها العرب، وذلك على أثر اختلاطهم بالبرتقاليين بسبب الفتوح، وقد كانوا يستخدمون الأرقام العربية قبل ذلك، ولا يُعلَم متى استخدموا الأرقام الإفرنجية، ولكنهم استخدموها من عدة قرون.

(ﺟ) اللغة النوبية Nubian

من اللغات الليبية الإسلامية، وهي لغة البرابرة سكان وادي النيل بين الشلال الأول والرابع، والنوبة (أو البرابرة) ربما بلغ عددهم الآن أكثر من نصف مليون، وهم خليطٌ من ثلاثة أجناس: النوبة الأصليين والعرب والأتراك، وكلُّهم يتشابَهون خِلْقةً ولونًا، أمَّا النوبة الأصليون فهم الآن نفرٌ قليلٌ اعتَنَقوا الإسلام بعد أن تغلَّب عليهم المسلمون سنة ٧١٧ﻫ/١٣١٨م، لكنهم بقُوا محافِظين على لغتهم، واتخذ العرب الفاتحون لغة النوبة، وكذلك فعل الأتراك، على أن العرب والأتراك منهم يتكلَّمون العربية أو التركية، ولكنهم يتكلَّفون في نطقها كما يتكلَّف غريب اللغة، أما العرب الذين يتكلَّمون لغة النوبة فاستوطنوا البلاد بعد الفتح الإسلامي لها، وهم القسم الأكبر، وأمَّا الأتراك فهم الذين استوطنوا البلاد بعد أن فتحها السلطان سليم الفاتح سنة ١٥٢٠م، وهم أقلُّ من العرب وأكثر من النوبة، وقد بقيت البلاد في حوزتهم إلى أيام محمد علي باشا، وكان للنوبة لغتان من أيام المقريزي، كما ذكر في «تاريخه» ولا يزال لهم لغتان إلى الآن، فالأولى «لغة سكوت٢٩ والمحس»، وهي لغة النوبة في هذين البلدين بين الشلال الثالث والسبوع، والثانية «لغة أهل دنقله»، المسمَّاة لغة فديدجا Fadidja في جنوبيهم، «والكنوز» المستعملة ببلدة الدر في شماليهم، فلغة أهل القسم الشمالي وهي لغة الكنوز مثل لغة القسم الجنوبي لغة دنقله، وكلتاهما تخالف لغة القسم المتوسِّط بينهما وهي لغة سكوت والمحس، والفرق بين هاتين اللغتين لفظًا ومعنًى كالفرق بين الفرنسية والإيطالية، وذلك الفرق آتٍ — من غير شكٍّ — من امتزاجهم واختلاطهم على نوع ما بالعنصر العربي، فإن من مخالطة النوبة للعرب ترى أكثرهم يتكلَّمون العربية كما يتكلَّمها الأعاجم.
وثلث كلمات اللغة النوبية تقريبًا عربي، وهم في الغالب يزيدون لفظة «كا» على كل كلمة عربية فيقولون في باب: «بابكا»، وفي حصير: «حصيركا»، وهكذا،٣٠ ولا يُعرَف الزمن الذي ابتدءوا فيه بكتابة لغتهم بالخط العربي، والأرجح أنَّه كان ذلك بعد أن اختلطوا بالعرب وشاع الإسلام بينهم، إلَّا أنَّ المؤلَّفات في لغتهم قليلة جدًّا، بل نادرة.

وقد اطَّلعتُ على إنجيل مرقس مترجم إلى لغة فديدجا البربرية الدنقلية ومكتوب بالخط العربي، وقد طَبعتْ هذه الترجمة جمعية الكتب المقدَّسة الإنجليزية في المطبعة الإنجليزية بمصر سنة ١٩٠٦م، وهاك عنوانها أمثولة لهذه اللغة: «مرقسن إنجيلن، إنجيل يسوع المسيحن لن مرقسن قايسين نقتا، مصر لي طبعكن إنجليزن كدن مطبعة لا، كتب مقدَّس إنجليزن جمعيتن صرف لق سنة ١٩٠٦م»، وقد زادوا في هذه الترجمة على حروف الخط العربي أربع علامات أشاروا إليها في أول الترجمة.

(د) اللغة الحوسية Hausa

من اللغات الزنجية، وهي شائعة في مملكة حوس (أو حوسة) من السودان الغربي بين نهر النيجر وبحيرة تشاد، وكانت عاصمة هذه المملكة الإسلامية قبل دخولها في نفوذ بريطانيا من مستعمرة النيجر هي مدينة سكُت «سقطو Sokoto» الشهيرة؛ ولذا تُسمَّى هذه اللغة أيضًا «بلغة سقطو»، وهي مزيج من أصلين زنجي وحامي أو سامي، يتكلَّمها عدة ملايين غير الحوسة التي هي أكبر أُمَم أفريقيا اليوم وعددها نحو ١٥٠٠٠٠٠٠ (مليون) نسمة.

وتُعرف أُمَّة حوسة بأنَّها الساعد القوي لأمة الفلاته (الفلبوسيين)، القائمة برفع راية الإسلام ونشره في تلك البقاع، والحواسة عمومًا قديمو عهد بالإسلام، ولهم حرصٌ على نشره وتعليم لغته وخطه.

قال الكونت هنري دي كاستري في كتابه «الإسلام» (الذي ترجمه إلى العربية المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا): «الفلبوس وهو رجل الحرب والفتوح، ولا يستقر به القرار إلَّا إذا آمَن وتمكَّن، والخواصة (الحواسة) هم أهل المعارف والعلوم في السودان، حتى كأنهم احتكروها، إلَّا أنَّ علمهم قاصرٌ على شيءٍ يسير كالقراءة والكتابة في اللغة العربية، وهو كافٍ لنفوذهم في الوثنيين؛ لأنَّ هؤلاء يعظِّمون الكاتب والقارئ إلى درجة العبادة تقريبًا.

فالفلبوس هم أنصار الإسلام في الحقيقة، والحواسة منهم بمنزلة الوُعَّاظ والفقهاء.»

وقال العلَّامة روبنصن في مقالةٍ كتبها في مجلة القرن التاسع عشر: «ولغة حوسة مُكتَتَبة، وهي اللغة الوحيدة المكتتبة من لغات أفريقيا شمال خط الاستواء عدا العربية والحبشية، وحروفها هي الحروف العربية، وقد كتبوا بها تواريخ وقصصًا ودواوين، وقد أخذت الحكومة الإنجليزية تهتمُّ بأمر هذه اللغة؛ لأن المتكلِّمين بها في البلاد التي في منطقة النفوذ البريطاني يبلغون خمسة عشر مليونًا، ولا بدَّ من أن تتوحَّد لغات أفريقيا يومًا ما؛ أي يموت الضعيف منها ويخلُفه القوي، فيَبقَى أربع لغات فقط، وهن العربية في الشمال والإنجليزية في الجنوب والسواحلية في الشرق والحوسية في الغرب، والآن إذا عَرَف واحدٌ لغة حوسة أمكنه أن يخترق أفريقيا من الغرب إلى الشرق، فيجد حيثما حلَّ أناسًا يتكلَّم معهم من تُجَّار حوسة وحُجَّاجهم.»

واللغة الحوسية تُستعمل للمراسلات التجارية والإدارية في مملكة حوسة والبلاد المجاورة، فهي قد أصبحت عندهم لغة المخابرات السياسية كالفرنسية في أوروبا والفارسية في الشرق الأقصى، وهم يكتبونها بالنوع المعروف بالخط «السوداني أو التمبكتي» المتفرِّع عن الخط المغربي، وقد تقدَّم ذكره عند الكلام على الخط المغربي وفروعه (راجع: فذلكة في تاريخ الخط العربي، تاريخ الخط المغربي وفروعه).

(ﻫ) اللغة السواحلية Swahili٣١

أو الجزراتية من اللغات البانتية، وهي أبعد لغة شمالًا من الفرع الشرقي للبانتو، وهي شائعة في مملكة زنجبار٣٢ وما والاها من شرقي أفريقيا وجزائرها كجزائر القمر وغيرها، وكانت نتيجة انتشار الإسلام في هذا الجزء من أفريقيا أنْ صارتْ هذه اللغة عامة الاستعمال في العلاقات بين القبائل وبعضها في جميع أفريقيا الشرقية، وبصفتها لغة تجارية تُفهَم على بُعْد ألفِ فرسخ من مهدها، فإنها تُفهَم في المواني والثغور الكائنة على شواطئ الصومال وعدن ومسقط إلى بومباي وناتال ومدغسكر، ثم في داخل أفريقيا فتُستعمل عند شواطئ بحيرة تنجانيكا (تنجنيقا) وبحيرة نيسا وفيكتوريا نيانزا والكنغو الأسفل، فصارتْ لغةً إلزاميةً لكل مَن أراد الدخول في علاقات مع القبائل الكائنة في تلك الجهة من أفريقيا، فهي على العموم اللغة السائدة في شرقي أفريقيا الوسطى.

والسواحليون لا يزيد عددهم عن مليون نفس، لكنهم اشتُهِروا بالتقدُّم على سائر أمم البانتو بسبب إسلامهم، وقد دخل إليهم على يد حمزة أخي الخليفة عبد الملك سنة ٨٦ﻫ، ونظرًا لاحتكاكهم المتواصل بالعرب تعرَّبوا بعاداتهم وديانتهم وآدابهم، وقد دخل في اللغة السواحلية كثيرٌ من الألفاظ العربية والفارسية وبعض الألفاظ الإفرنجية في العهد الأخير.

(و) اللغة الملجاشية

وهي لغة التجارة والسياسة في جزيرة مدغسكر، ولا تُستعمل خارج هذه الجزيرة، وهي لغة بعض القبائل فيها فقط، غير أنَّ سائر القبائل المدغسكرية لا يستعملون لهجاتهم إلَّا في المحادثة فقط، فإنْ أرادوا الكتابة لجئوا إلى الملجاشية بالخط العربي.

والملجاشية واحدة في الجزيرة كلها، وحقيقتها — كما جاء في دائرة المعارف الفرنسية — أنها فرعٌ من لغة الملايو، وقد دخل فيها عدد عظيم من الكلمات والتراكيب المأخوذة عن اللغة السواحلية والعربية وعن اللهجات الأفريقية، ويُقدَّر عدد الذين يستخدمون هذه اللغة بنحو مليوني نسمة.

والخط العربي هو أهم أثر حفظه الملجاش عن الإسلام، فإنَّ الإسلام لمَّا دخل إلى مدغسكر على أيدي العرب ترك فيها آثارًا مهمة تدل على احتكاك دام مدة طويلة، فقد أثَّر في لغتهم تأثيرًا ظاهرًا، وخصوصًا في لهجات الأقاليم الساحلية التي اغتَنَتْ بالألفاظ العربية العديدة،٣٣ ثم صارتْ تُكتَب هذه اللغة بالخط العربي، وتُعرف لذلك «بالملجاشية العربية Arabico-Malgaches» أي الملجاشية المكتوبة بالخط العربي، وقد عم استعمال الخط العربي أولًا عند قبائل السواحل الجنوبية الشرقية والشمالية الغربية، ثم انتشر في كل الجزيرة، وبالإجمال فإن القبائل الإسلامية الملجاشية تلقَّفتْ حروف القرآن من العرب وحافظتْ عليها؛ وذلك لأنَّ الملجاش كانوا قبل دخول الإسلام إلى بلادهم لا يستعملون الكتابة، فكانت آدابهم غير مدوَّنة، ولم تبتدئ الكتابة عندهم إلا بعد رحلات العرب إلى بلادهم.
وننقل هنا الحروف التي يزيدها الملجاشيون على حروف الهجاء العربية أو التي تختلف عنها نطقًا أو كتابة عن كتابات الأستاذ جبرائيل فراند Gabriel Ferrand عن الإسلام في مدغسكر.
وهذه الحروف قسمناها إلى ثلاثة أقسام:
  • القسم الأول: الحروف التي يزيدونها على الهجاء العربي، وهي: «رً» أو«رّ، » الراء بفتحتين أو بشدة عمودية أو رأسية فوقها، وهي تُنطَق عندهم: «تر» أو «در»، و«» الطاء بنقطة تحتها، وتُنطَق عندهم كالتاء.
  • القسم الثاني: الحروف التي يُغيِّرون نطقها ولا يُغيِّرون رسمها، وهي:
    • يكتبون «ت» التاء وينطقونها: «تس ts».
    • يكتبون «ج» الجيم وينطقونها: «دز dz»
    • يكتبون «ض» الضاد المعجمة وينطقونها: «ڨ v».
    • يكتبون «ع» العين المهملة وينطقونها: «ن» أو «نجا» كنطق الغين بثلاث نقط «ڠ» عند الملايو.
    • يكتبون «ف» الفاء وينطقونها: «پ p».
    • يكتبون «و» الواو وينطقونها: «و» أو «ڨ v».
    • يكتبون «ي» ياء وينطقونها: «ي» أو «ز z» أو «دز dz».
  • القسم الثالث: الحروف التي يُغيِّرون رسمها ولا يُغيِّرون نطقها، وهي:
    • الدال المهملة ويكتبونها هكذا: «» وتنطق: دال.
    • الصاد المهملة ويكتبونها هكذا: «» وتُنطَق: صاد.
وهناك مخطوطات كثيرة ملجاشية مكتوبة بالخط العربي بعضها في مكتبة باريس الأهلية.٣٤

(ز) اللغات الحبشية وغيرها

وقد انتشر الخط العربي أيضًا في بلاد الحبشة وما جاورها بانتشار الإسلام فيها، وذلك أنَّ بعض أمراء المسلمين نزلوا الحبشة في القرون الأولى للإسلام، وأنشَئُوا فيها إماراتٍ إسلامية في هرر وحماسن وجيما وأواسة وغيرها، لكنها لم يَطُل استقلالها، فذهبتْ، ولكن الإسلام ظلَّ منتشرًا بين أهلها يزداد فيها كل يوم، ويُقدِّرون عدد المسلمين هناك بثمانية ملايين نسمة.

قال صادق باشا المؤيد في كتابه «رحلة الحبش» الذي وضعه بعد عودته من سفارته ببلاد الحبشة سنة ١٩٠٨م: «ويُسمَّى مسلمو الحبش هنا «جبرتي» أي الحبشي المسلم، والجبرتيون متديِّنون متمسِّكون بعاداتهم القومية والدِّينية، أصحاب غَيْرة وشجاعة، ويشتغلون بالتجارة والصناعة.»

والمسلمون في الحبشة وإن كانوا تحت سلطة المسيحيين إلَّا أنَّهم أرقى منهم عقلًا وأدبًا، فقد كتب روبل في سياحته إلى الحبشة سنة ١٨٣٨ أنَّ الأحباش المسلمين أقدر على العمل، وأسمى مدارك، وأكثر تهذيبًا وعلمًا من الأحباش المسيحيين، وقال نحو ذلك أيضًا فون هوغلين سنة ١٨٦٨ وغيره، فالمسلمون إلى الآن في بلاد الحبشة يكتبون لغاتهم أو لهجاتهم الحبشية بالخط العربي دون الخط الحبشي، كما في بلاد الشوا Shoa، وهي المملكة الجنوبية للحبشة، فإنَّ المسلمين فيها يستعملون الخط العربي لكتابة اللغة الأمحرية Amharic الشائعة في بلاد الحبشة الآن، وكذلك الهرريون Hurari أهل مدينة هرر في شرق الحبشة، فإنَّهم يكتبون به لغتهم أيضًا، كما قال الدكتور كوست في كتابه «لغات أفريقيا الحديثة»:٣٥ «ويكتب مسلمو الشوا اللغة الأمحرية بالخط العربي، ويستعمل الهرريون هذا الخط أيضًا لكتابة لغاتهم»، وأشار إلى كتابة هذه اللغة الأخيرة بالخط العربي أستاذنا الدكتور لتمن Enno Littmann في محاضراته قال: «وقد قرأتُ غناءً هرريًّا٣٦ مكتوبًا بالخط العربي».

ومن الأمم الحبشية التي تستعمل الخط العربي أيضًا أمة آغو والغالا، وسيأتي ذكرها بعدُ.

ومما يدل عي انتشاره في أفريقيا استعماله عند الأمم الكوشية، وهي: أمة البجة في جنوب النوبة، وأمة سوهو في جنوب مصوع على البحر الأحمر، وأمة دنقلى على ساحل البحر الأحمر إلى باب المندب، وأمة آغو في بلاد الحبش، وهم من أقدم قاطنيها، وأمة الغالا٣٧ في جنوب بلاد الحبش، وأمة الصومال٣٨ وسكناها من باب المندب وخليج عدن إلى الجنوب، فهذه الأمم الكوشية تستعمل كلها الخط العربي في الكتابة، قال الأستاذ جويدي في محاضراته: «ولا نكاد نرى من الأمم الكوشية مَن يميل إلى التأدُّب، ويجنح إلى التعلُّم، وليستْ لهم حروف هجاء، فلا يقرءون ولا يكتبون، ومَن احتاج منهم إلى تحرير مكتوب حرَّره بالعربية وبأحرف عربية (نعوذ بالله من عربيَّتهم ومِن قلمهم)»، ومثل الأمم الكوشية أهل مندينجو Mandingo بجنوب نهر غامبيا، فإنهم يستعملون الخط العربي أيضًا في الكتابة.
وهناك لغات أخرى تُكتَب بالخط العربي في أفريقيا، كلغات القبائل السودانية المجاورة لبلاد الإسلام ولم تدون لغاتها، فهذه إذا كتبت فإنما تكتب بالخط العربي، قال الدكتور كوست «والخط العربي هو الواسطة الوحيدة للدِّيانة والتجارة والمعاملات الاجتماعية للمسلمين من أول الأقاليم الوسطى الأفريقية إلى آخِرها، كما أنَّه في أقصى الجنوب يستعمله مهاجرو الملايو»، ويُسمَّى الخط العربي في بورنو Bornu بالوَرش EL Warash، كما تُسمَّى لهجتها العربية «بالشايقية».
جدول الأحرف التي تزيدها الأمم الإسلامية على أحرف الهجاء العربي.*
الحرف نطقه أسماء الأمم التي تستعمله الحرف نطقه أسماء الأمم التي تستعمله
پ كالباء الإفرنجية P تُستعمل هذه الأحرف الفارسية عند الفُرس والتُّرك والتتر والأكراد والبلوخستانيين والهنود والأفغانيين. چ تشا تُستعمل هذه الأحرف عند الملايو فقط.
چ كحرفي تش tch ڠ نجا
ژ مثل je ڨ پا
گ كالجيم g ڬ جا
لم نستقصِ البحث في هذا الجدول عن سائر الأحرف التي تَزِيدها جميع الأمم الإسلامية على حروف الهجاء العربي، وإنما اكتفينا فيه بذكر أهمها، وهو ما ورد في هذا الكتاب.

(٣-٥) اللغة العربية

وناهيك بانتشار الخط العربي في الأقطار التي يتفاهم سكانها باللغة العربية، وهم يُقدَّرون بنحو ٦٠ مليون نفس أو يزيدون من الآسيويين والأفريقيين، وهم محصورون بين خليج العجم ودجلة٣٩ في الشرق والمحيط الأطلانطيقي في الغرب، وبين البحر الأبيض المتوسط وآسيا الصُّغرى شمالًا وخط الاستواء جنوبًا، ويدخل في ذلك: جزيرة العرب ومصر والشام والعراق والجزيرة وبلاد المغرب في طرابلس الغرب وبُرْقة وتونس والجزائر ومَرَّاكُش وفي كل الجهات الغربية من الصحراء حتى بلاد السنغال (شكل ٢-٧).

ثم في بلاد النوبة والسودان المصري وشواطئ البحر الأحمر والنيجر والسودان الغربي في واداي وبرنو وغيرها، ثم في زنجبار وفي جهات كثيرة من الصحراء وبعض شواطئ أفريقيا وجزرها وغير ذلك من البلدان التي يتكلَّم سكانها باللغة العربية.

fig21
شكل ٢-٧: خط السنغال.

وعلى كل حال فإن مَن يتكلَّم العربية فيما بين نهرَي الفرات والنيجر يكتبها بالخط العربي.

هذا، وقد انتشر الآن في أمريكا الشمالية والجنوبية بانتشار اللغة العربية في البلدان التي استوطنتها الجالية السورية هناك، وقد أصدروا بها الجرائد العربية العديدة في الولايات المتحدة وكندا والمكسيك والبرازيل والأرجنتين وغيرها، هذا إذا ضربنا صَفْحًا عمَّن يتعلَّمون اللغة العربية ويكتبونها بالخط العربي من المستشرقين والمشتغلين بالعلوم الشرقية ولغاتها من علماء أوروبا، ولا سيَّما علماء فرنسا وألمانيا وإنجلترا وسويسرا وإيطاليا، وطلبة العلم في الجامعات والكليات الأوروبية الكبرى، وفضلًا عن ذلك كله فإنه منتشرٌ بين جميع أهل الدِّين، وطلبة العلم الذين يتكلَّمون العربية، ويتعلَّمونها للمعاملات الدِّينية في سائر أقطار الهند والصين وإيران وما والاها من بلاد خراسان وأفغانستان وما وراء النهر بتركستان وبلاد التتار في آسيا وشرقي أوروبا وجزائر الهند الشرقية وسائر البلاد التي دخلها الإسلام في القارات الخمس، ولا يقِلُّ عدد هؤلاء الأعلام الذين تَقْتَدِي بهم الأمة الإسلامية عن مليون من النفوس هم خاصة الناس، ونقول بالإجمال: إن الكتابة بالخط العربي عامة بين سائر المسلمين الذين يقرءون كتاب الله.

(٤) أهمية اللغة العربية وتأثيرها في لغات العالم الإسلامي

يحسن بنا بعد أن فرغنا من بيان اللغات الإسلامية التي تُكتَب بالخط العربي أن نأتي على فصلٍ نُجمِل فيه ذكر أهمية اللغة العربية وتأثيرها في لغات العالم الإسلامي؛ وذلك لمناسبة الارتباط بين اللغة وخَطِّها، ولنُبيِّن أن الإسلام قد أثَّر في هذه الأمم الإسلامية تأثيرًا شديدًا، ففضلًا عن اتخاذها الخطَّ العربي لكتابة لغاتها به، فإن هذه اللغات قد صُبغتْ أيضًا بصِبغةٍ عربية، كما سيظهر فيما يأتي فنقول: كانت اللغة العربية محصورة قبل الإسلام في شبه جزيرة العرب، ولم يتَّسِع نطاقها إلا منذ ظهوره، فلمَّا انتشر الإسلام انتشرتْ معه؛ لأنها لغة الرسول وأصحابِه، لغة القرآن الشريف الذي كان لها قاموسًا إلهيًّا لا تُبدَّل كلماتُه ولا تُنسَخ آياته، لغة الحديث وسائر كتب الدِّين، فهي على العموم لغة الإسلام يجب إحياؤها لإحيائه، فجعلها المسلمون الأوَّلون لغة الدِّين والدولة، فانتشرتْ في البلاد التي ساد فيها العرب أو دخلها الإسلام، وأخذتْ في الانتشار إلى أنْ ملأت الخافقين، فتغلَّبتْ على ألْسُن تلك البلاد الأصلية، وأخذتْ تُغالِب لغاتِها حتى أماتَتْها وقامتْ على أرْماسِها، فتعرَّبتْ بلاد العالم العربي جميعها كما بيَّنَّاه، وصارتْ تستعمل في المعاملات الدِّينية عند المسلمين في كل العالم الإسلامي، فصاروا لا يستخدمون في الإنشاء والتآليف غيرَها، وأقبل العلماء من غير العرب عليها أيَّما إقبال، فبَرَعوا فيها حتى فاقَ كثيرٌ منهم العربَ أنفسَهم، ولا غَرْوَ فقد ابتدَأَتْ وحدة الدِّين تستدعي وحدةَ اللسان؛ فلذلك أصبحت العربية هي لغة المسلمين، لغة العلم عندهم والدِّين، فلا يُبَرَّز في علومه مَن لم يتعلَّمْها، ولا يفهم الكتابَ والسُّنَّة مَن لم يُحكِم بيانَها، فكانوا على اختلاف لغاتِهم يتفاهَمون جميع العلوم الإسلامية والآداب الدِّينية بها؛ ولذلك كثُرَت الألفاظ والتراكيب العربية في لغاتهم جميعًا، وخصوصًا الفارسية والتركية والهندية منها، فقد اقتبستْ هذه اللغات مِن آدابها شيئًا كثيرًا ينم على ما لآداب اللغة العربية عند هذه الأمم من الشأن والمنزلة الرفيعة، فالفارسية أثَّرتْ فيها العربية بعد الإسلام أيَّما تأثير، فقد ظل شعراء الفُرس لا يقولون الشعر نحو قرنين إلَّا بالعربية، ثم هي قد رقَّت الفارسية مِن السذاجة التي كانت عليها البهلوية والفارسية إلى نحو أواخر القرن الرابع، أمَّا التركية فقد بيَّنَّا تأثير العربية فيها عند الكلام عليها، فليُراجَع هناك، ونَزيد الآن أن العربية تؤلِّف القسم الأكبر من الأقسام الثلاثة التي تتألَّف منها اللغة التركية العثمانية، بل إنَّ قواعد صرفها ونحوها هي من الأصول المتحصلة من القواعد التي اقتبسها العجم عن العرب، فلغات الأمم الإسلامية على العموم قد تأثَّرتْ تأثيرًا محسوسًا بذلك اللسان العربي المبين فيما استعارتْه من الألفاظ والكلمات العربية الكثيرة، حتى لَتَجِد هذه الكلمات شائعةً ومتفشِّيةً في لغة الأوردو الهندية ولغة السواحل وغيرهم من بربر أفريقيا، بل إنه في هذه اللغات كلغة الملايو مثلًا حروف عربية لا تُستعمل إلَّا لكتابة الكلمات العربية فقط.

فتأثير اللغة العربية في اللغات الإسلامية يُشبه كثيرًا تأثير اللغة اللاتينية في لغات أوروبا، إلَّا أنَّ اللغة اللاتينية اندمجتْ ودخلتْ في لغات أوروبا، بل كانت العربية لهذه الشعوب الشرقية الإسلامية بمثابة اللغة اللاتينية واليونانية معًا للأمم الأوروبية المسيحية، وخصوصًا لأنَّ المسلمين كافَّةً يقرءون القرآن الشريف باللغة العربية، فهي لغة كتابة عند الخاصة في كل بلد اجتمع فيها المسلمون ليتلوا القرآن العظيم.

(٤-١) الإحصاء

وهذا إحصاء تقريبي عن المتكلِّمين باللغات التي تكتب بالخط العربي الآن في أنحاء العالم:
  • (١)

    اللغات التركية: ويُقدَّر المتكلِّمون بها بنحو ٤٠ مليون نسمة، منهم في مملكة الروسيا والصين أكثر من ٣٠ مليونًا، وفي بلاد الدولة العثمانية نحو عشرة ملايين نسمة تقريبًا.

  • (٢)

    اللغات الهندية: ويُقدَّر المتكلِّمون بها بنحو ٩٦ مليون نسمة، منهم في الهند نحو ٦٦ مليونًا، وفي الملايو نحو ٣٠ مليونًا.

  • (٣)

    اللغات الفارسية: ويُقدَّر المتكلِّمون بها بنحو ١٧ مليون نسمة، منهم في فارس نحو تسعة ملايين ونصف، وفي أفغانستان خمسة ملايين، وفي كردستان مليون ونصف، وفي بلوخستان مليون فقط.

  • (٤)

    اللغات الأفريقية: ويتراوح المتكلِّمون باللغات التي تكتب به فيها غير العربية بين ٣٠ و٤٠ مليونًا.

  • (٥)

    اللغة العربية: ويُقدَّر المتكلِّمون بها بنحو ٦٠ مليون نسمة تقريبًا، فيكون المجموع نحو ٢٤٣ مليونًا من الأنفس.

أمَّا بحسب القارات فالمتكلِّمون باللغات التي تكتب به الآن في:

«أوروبا» نحو عشرة ملايين نسمة من التُّرك والتتر ونحوهم.

وفي «آسيا» نحو ١٦٣ مليونًا من العرب والهنود والفُرس والتُّرك ونحوهم.

وفي «أفريقيا» نحو ٧٠ مليونًا من العرب والبربر والسودانيين والسواحليين والزنوج، وغيرهم كثير ممَّا لم يُحصَ لهم عددٌ فيها، فيكون مجموع المتكلِّمين باللغات التي تكتب به في القارات الثلاث نحو ٢٤٣ مليونًا، فهو بالجملة غالبٌ في أفريقيا، وشائعٌ في آسيا، ومستعملٌ في أوروبا، ومعروفٌ في أمريكا وأستراليا.

(٥) انتشار الخط العربي قديمًا في أوروبا

هذا، وقد كان الخط العربي منتشرًا في الأندلس (إسبانيا والبرتقال) وقت أنْ كانتْ تحت حكم العرب مدة طويلة تقرب من ثمانية قرون، وكان فيها زاهيًا زاهرًا شأن العربية هناك وقتئذٍ، فبلغ حدَّ الإتقان والجودة.

fig22
شكل ٢-٨: كتابة كوفية أثرية مأخوذة من بناء أندلس، وهاك قراءتها: «بسم الله بركة من الله لعبد الله عبد الرحمن أمير المؤمنين أطال الله (بقاءه)».

ولمَّا تلاشَى مُلْك العرب بها، وافترقوا في الأقطار، فانتشروا في بلاد المغرب، وشاركوا أهل العمران بما لديهم من الصنائع، فغلب خطُّهم على الخط الأفريقي وعفاه، فصارتْ خطوط أهل المغرب كلها على الرسم الأندلسي مدة طويلة لم تزلْ آثاره ظاهرة فيها هناك للآن، أمَّا مَن بقي منهم بالأندلس فظلَّ يكتب اللغة الإسبانيولية القديمة بالخط العربي، وسمَّوْها باللغة «الخميادو»، كما سيأتي تفصيله بعدُ.

والعرب لم يفتتحوا الأندلس فقط، بل دخلوا أرض فرنسا أيضًا، ودخل معهم الخط العربي فيها، فتوطَّنوا جنوبها، وافتتحوا نربونة، وكانوا يسمونها: «أربونة»، وطولوز (طلوشة)، وقرقسون وسمَّوْها: «قرقشونة»، ونيم وسمَّوْها: «نيمة»، ومون بيليه، فتجاوزوا بذلك أرض سبتمانية وهي اليوم ولاية البيرينة الشرقية وولاية أود وما جاورها، ودخلوا مملكة برغونية، ثم افتتحوا مدينة أفينون وغيرها، حتى بلغوا نهر غارون وافتتحوا بردو وكانوا يسمونها: «برغشت»، وأصبح ما بين مَصَبِّ غارون في المحيط وما بين مَصَبِّ الرون في البحر الأبيض المتوسط دارًا للإسلام تُلَقَّن فيه الشهادة ويُعلَّم القرآن، ثم تجاوزوا هذا القسم العظيم من فرنسا ودخلوا مدينة إنكوليم وكونياك وبوانيه حتى وصلوا مدينة تور، وهي على نهر لوار المنصب في المحيط، وألحقوا أكثر من نصف فرانسا بممالك الدولة الأموية.

فمنتهى الحدود التي وصل إليها العرب في أوروبا هي نهر لوار ومدينة تور، وفي شرقيها مدينة ديجون ثم مدينة بزانسون، فالخط المار بهذه النقطة يقسم فرنسا إلى قسمين شمالي وجنوبي، والجنوبي بأجمعه دخل في ملك المسلمين، وأقاموا في بعضه قليلًا، وفي بعضه كثيرًا، واستسلموا كثيرًا من أهله، وتزوَّجوا ببناتهم، وأعقبوا منهم، ولم يزل لأهل الجنوب من الفرنساويين شَبَهٌ بالعرب في سِيماء الوجوه.

قال المؤرِّخ الإنجليزي جيبون في ذكر حوادث سنة ٧٤٢م: «تقدَّم العرب في أوروبا أكثر من ثلاثمائة مرحلة lieues من صخرة جبل طارق إلى مَصَبِّ نهر لوار كلها مظفريات، ولو تقدَّموا ثلاثمائة مرحلة أخرى لوَصَلوا حدود بولونيا في شرق أوروبا أو جبال إيقوس من إنكلترا، ولسَهُل عليهم عبور نهر الرين بألمانيا، كما سَهُل عليهم عبور الفرات والنيل، ولكان الأسطول العربي من جهة أخرى دخل نهر التيمس بلا محاربة بحرية؛ لعدم وجود أسطول إنجليزي في ذاك الوقت يُضاهِي أسطول مصر وسورية أو أسطول تونس، ولرأينا اليوم العلماء يفسِّرون القرآن على كراسي الوعظ معجزات النبي العربي، فالذي خلَّص العالَم المسيحي من ذاك هو ابن الزانية شارل مرتل ناظر سراي الملوك الفرنساويين من سلالة ميروفينجبيان» اﻫ.
fig23
شكل ٢-٩: شارل مارتل يحارب العرب.
وذلك أنَّ شارل المذكور لمَّا رأى المسلمين لم يَبْقَ بينَهم وبين باريس إلا ٢٣٤ كيلومترًا، حشد إليه العساكر، وانتشب القتال بين الفريقين (شكل ٢-٩) في سهول بواتيه سنة ١١٤ﻫ/٧٣٢م، وكان النصر أولًا للمسلمين، إلَّا أنهم هُزِموا بعد ذلك، ورجعوا إلى نربون عن طريق طولوز وقرقسون؛ لرسوخ قدمهم في تلك الجهات، وعلى الخصوص في نربون التي لم يستطيع شارل إخراجهم منها، واستمرَّ العرب في جنوب فرنسا حقبةً من الزمان يستعملون الخط العربي، لا سيَّما في أطراف مارسيليه، ولم يزل يشاهد في متحف نربون كثيرًا من آثارهم وأوانيهم الخزفية، وإليهم تُنسَب «جبال المور» كما نُسبتْ إليهم «قسطل سارازين»، وهي مدينة بين بوردو وطولوز، والقسطل هو الحصن أو القلعة، ولم يزل في ضواحي القدس قرية يُقال لها: القسطل، فقسطل سارازين معناها حصن العرب، ثم عادوا بعد ذلك وأغاروا على سواحل مرسيليا مرارًا وأسَّسوا سنة ٢٧٦ﻫ/٨٩٩م مستعمرة فراقسينه فيما بين وينيس وطولون، ومكث المسلمون في فراقسينه طول القرن العاشر، وتزوَّج بعضهم بنساء تلك الإيالة الفرنساوية، واشتغلوا بفلاحة أرضها، حتى أصبحتْ زاهية بحضارتهم، ثم جالوا سنة ٣٢٤ﻫ/٩٣٥م في إقليمَيْ تارنتيزه ووالس، ثم في بلاد السويس (سويسرا)، ومدُّوا نفوذَهم سنة ٣٣١ﻫ/٩٤٢م على فريجوي وطولون وجميع سواحل البحر الأبيض المتوسط في فرنسا، فضبطوا بذلك إيالة دوفينه، وهي في شمال بروفانس على ضفة الرون اليسرى، وضبطوا في شمالها أيضًا إيالة برغونية وسمَّوْها: «أرض برغونة»، وإيالة فرانش كونته وإيالة فينا، وفينا هذه إيالة في وسط فرنسا الغربي بخلاف سَمِيَّتها عاصمة النمسا والمجر، وكان حاصَرَها الأتراك كما سيأتي، وضبطوا في فرنسا جميع ضفاف الرون، وغزَوا القرى والمدن التي في تلك الإيالات.٤٠
فكانت الأفكار تُتَبادَل بين الفريقين، وحيث كان المسلمون في ذاك العصر أرقى حضارةً وأدبًا من جيرانهم المسيحيين، كانت الإفرنج تقتبس من معارف المسلمين، وتحصِّل العلم في مدارسهم وجوامعهم، كما فعل البابا سيلفستر الثاني، وقيل: إنه أول مَن أدخل لبلاد الإفرنج ما يسمُّونه الأرقام العربية ونسمِّيه الأرقام الهندية، وكانوا لذلك العهد يستعملون الأحرف اللاتينية التي هي بمثابة الحروف الأبجدية، واقتفى طلاب العلم أثَرَ هذا البابا الحكيم، وكذا المُنتَحِلون منهم للشِّعر والأدب كانوا يقلِّدون شعراء العرب وأدباءهم، وكان المجاورون للعرب من أهالي فرنسا وشمال إسبانيا يَحِيدون عن تعلُّم أشعار اللاتين، ويكبُّون على تعلُّم أشعار العرب وأزجالهم، وكان فقراؤهم في القرن الحادي عشر ينشدون الأناشيد والمدائح العربية، وهم يستعطفون على الأبواب وفي الطرقات، فيستمع الناس لهم ويتصدَّقون عليهم، لا لفهمهم ما يقولون وإنما شوقًا منهم وحنانًا للألحان والأنغام والقوافي الرَّنَّانة.٤١
وكذلك كان الخط العربي منتشرًا في صقلية (سيسليا) وما جاورها من جنوب إيطاليا نحوًا من قرنين ونصف أي من سنة ٨٣٢ﻫ إلى سنة ١٠٩١ﻫ، فإنَّ العرب مدُّوا نفوذهم عليها وحاولوا دخول أوروبا من الجنوب بطريق إيطاليا، ففتحوا صقلية وجميع القسم الجنوبي من إيطاليا وكثير من مدنها، حتى حاصروا رومية، وكادوا يفتحونها واستَوْلَوْا على مينائها أوستيه، وهي بقرب مَصَبِّ نهر التبر، وعلى بيزا Pisa ذات البرج المائل، وكانوا يُسمُّونها: «بيش»، وعلى جين (جنوة) التي في شمالها، واحتلُّوا سينيوم عند أسوار نابلي، واستقروا في دالماتيا وأنشَئُوا مستعمرة كاريليانوا لمقاومة مملكة البابا، ورسختْ للعرب قدَمٌ في جميع هذه البلاد، واستبحر فيها عمرانهم، فنقلوا إليها عوامل تمدُّنهم من المدارس والمساجد والمعامل وغيرها.

والناظر في أرجاء صقلية اليوم يجد كل شيء فيها ذا صلة وارتباط بالعرب، فاللغة الصقلية ما هي إلا خليط من الإيطالية والعربية، والقسم الأكبر من مدائن تلك الجزيرة إنما أسماؤه عربية في الحقيقة، وإنْ يكن قد طرأ عليها مِن فساد التداول ما ذهب بمسحتها العربية الأصلية، وإنَّا لنذكر منها الأسماء الآتية:

Calatafimi محرَّفة عن «قلعة فيمي»، Calatanisetta محرَّفة عن «قلعة النساء» Calatabellota، «قلعة البلوط»، Miselmeri «منزل الأمير»، Mezzojuzo، Mezzoioso «منزل يوسف»، Rasicablo (Rasigebli) «رأس الكلب»، Mersala «مرسى علي»، وغيرها كثير.٤٢
ولم يزل في إيطاليا كثير من آثار العرب المكتوبة بالخط العربي أثرٌ لذلك الفتح، وخصوصًا في صقلية، فإنَّ آثار المساجد العديدة والقصور الجليلة والأبنية الفاخِرة التي ابتناها المسلمون هناك وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في هندسة المتأخِّرين، وما في خزائنها من السيوف والنقود وسائر الآلات العربية٤٣ التي امتلأتْ بها متاحف إيطاليا، وما بقِيَ من أحجار القبور أي «الشواهد» العديدة المكتوبة بالقلم الكوفي أو بالقلم النسخي تشهد بانتشار الخط العربي هناك وقت حكم العرب، وغلبة الصبغة العربية الإسلامية على هذه البلاد حتى بعد الفتح النورماني الذي لم يغيِّر شيئًا من صبغة ذلك التمدُّن، بل ظلَّ الإفرنج بعد استرداد صقلية يكتبون بالعربية «والخط العربي» على المباني العمومية والعمارات الملوكية، فكانت هي اللسان الرسمي في صقلية على عهد رجار ومَن خلفه من الملوك بعد انقراض الحكومة الإسلامية منها.٤٤
وأكبر شاهد على استعمال الخط العربي عند الإفرنج في النقوش والكتابة به على مبانيهم الملوكية في ذلك العهد كتابة عربية على قبر الإمبراطور فريدريك الثاني في بالرم بصقلية (انظر الشكل ٢-١٠).
fig24
شكل ٢-١٠: كتابة عربية على قبر فريدريك الثاني.
وهكذا كان تأثير العرب وفتوحاتهم في أوروبا، فكان لتجارتهم فيها حركة شديدة، ولتُجَّارهم بها تأثير عظيم، أعرب عنه استعمال الخط العربي في أشياء رسمية في غير حكومة من حكوماتهم، وأَوْضَحه أنَّ نقود كثير من الحكومات الأوروبية نُقِشتْ عليها كتابات باللغة العربية «والخط العربي»، وآية ذلك أنهم وجدوا نقودًا بلغارية وألمانية ونورماندية وإنجليزية سكسونية مُوَشَّاة بخطوط كوفية جميلة،٤٥ وفضلًا عن ذلك فإنه وُجدتْ كنوز عديدة من النقود الإسلامية في كثير من الأقطار الأوروبية الشمالية، وخاصة في روسيا وألمانيا والسويد، وقد أحصى الأستاذ «تورنبرج» سنة ١٨٥٧ المحلات التي أخرجت النقود العربية (المكتوبة بالخط العربي) في بلاد السويد وحدَها فبلغ عددُها «١٦٩» محلًّا، وأحصى الدكتور «هانس هيلد براند» سنة ١٨٧٣ قِطَع النقود الفضية العربية التي عثروا عليها في جزيرة جوتلاند وحدها على صِغَرها، فأَرْبى ما أحصاه على «١٣ ألف» قطعة.٤٦

ولم يكن الأمر قاصرًا في انتشار الخط العربي على الأندلس وفرنسا وصقلية فقط، بل كان يعمُّ أيضًا جميع جزر البحر الأبيض المتوسط تقريبًا، مثل: جزائر الباليار وهي ماجوركة ومينورقة وإيفيزه وما يتبعها، وكانوا يسمُّونها: «مايرقة ومنرقة ويابسة»، واستمروا فيها من سنة ٨٢٠م/٢٠٥ﻫ إلى سنة ١٢٣٢م، وقورسيقة، وقد بقيتْ مستقلة عن غيرها بالحكم إلى سنة ٢٣٦ﻫ/٨٥٠م، ومالطة وغيرها وقت حكم العرب.

fig25
شكل ٢-١١: السلطان محمد الفاتح وقت دخول القسطنطينية.

أمَّا انتشار الخط العربي في أوروبا من جهة الشرق فكان ذلك في عهد الدولة العثمانية لمَّا استولتْ على القسطنطينية، وهي مفتاح أوروبا، وكان العرب حاولوا مرارًا دخول أوروبا من جهة الشرق بطريقها، فامتنعتْ عليهم، حتى فتحها الأتراك في القرن الخامس عشر، وأَوْغَلوا في القسم الشرقي من أوروبا، فانتشروا في تلك البقاع، وانتشر معهم الخط العربي فيها لكتابة لغتيهم الرسمية والدِّينية (أي التركية والعربية)، وسار مع فتوحاتهم حتى وصلوا مدينة فينا عاصمة النمسا وحاصَروها، وأقاموا عساكرهم المظفَّرة على أبوابها، وأخذوا الجزية من الأرشيدوق فردينان، ثم عادوا واقتنعوا بجزيرة البلقان وما جاورها، فبقي الخط العربي مستعملًا في أملاكهم في أوروبا، وهو الخط الرسمي للحكومة مدة كبيرة تقرب من أربعة قرون ونصف.

وقد بلغت المملكة العثمانية معظم اتساعها في أواسط القرن السابع عشر للميلاد، فكانتْ حدودها الشمالية آخِر حدود المجر في أوروبا، وكانتْ أملاكها في تلك القارة تشمل بلاد اليونان وجميع جزر بحر إيجه والروملي والبوسنة والهرسك والصرب والجبل الأسود وبلغاريا والمجر ورومانيا (الفلاخ والبغدان) وما يلي بلاد المجر شرقًا من ملدافيا وما بعدها من شواطئ البحر الأسود إلى بلاد القوقاس، ففي كل هذه الولايات استعمل الخط العربي، وبقي في بعضها كثيرًا وفي بعضها قليلًا، وكانت تُكتَب به لغات الوطنيين ممَّن أسلموا، ولم يزل مستعملًا هناك حتى ضَعُف شأنُها، وطمع جيرانها بها، فخرج بعضُها بالاستقلال، ودخل البعض الآخَر في حوزة بعض الدول أو تحت سيطرتها بالاحتلال، إلى أن انحصر في أملاكها الآن فيما بين الآستانة وولاية أدرنة وما جاورهما، وترك العثمانيون فيما انسلخ عنهم من هذه الولايات آثارًا عديدة، فقد استسلموا كثيرًا من أهلها يُعَدُّون الآن بأكثر من ٤ ملايين نسمة في بلاد اليونان ومكدونيا وألبانيا وبلغاريا والصرب والجبل الأسود ورومانيا والبوسنة والهرسك.

وذلك أن العثمانيين لما افتتحوا هذه البلاد، نزلها كثير من العرب والأكراد وبعض العشائر المغولية التي سقطتْ إلى هذه الأرجاء وتوطَّنتْ فيها، كما توطَّنها أيضًا كثيرٌ من أولاد الفاتحين وغيرهم من المجاهدين أتباع بكوات الروملي، فانتشروا في تلك الديار، وامتزجوا بأهالي البلاد الأصليين أي بالبلغاريين والصربيين والأرناءود والبوشناق، فأخذ هؤلاء يدينون بالإسلام حتى أصبح نحو نصف سكان الأقطار الواسعة من المسلمين، واضطر أولئك المسلمون إلى تعلُّم أمور دِينهم، وبهذه الواسطة انتشر اللسان العثماني، وتغلَّب الفكر الدِّيني على الجنسي، وأنشأ أولئك الشعوب يعتقدون بأن السلطنة العثمانية حاميةُ الدِّين وسلامتها سلامةٌ لهم في الدارَيْن، وبفضل هذا الاعتقاد غدا أهالي البوسنة المسلمون خاضعين للحكومة النمسوية وهم لا يقِلُّون عن ٦١٢٠٠٠ نسمة ينظرون إلى النمسويين نظر الأعداء مع أنهم من دمٍ واحدٍ.

ومثل ذلك قُلْ في البوماقيين والجتاقيين، وغيرهم من سكان بلغاريا ممَّن يَرَوْن السلافيين أعداءهم على حين هم وإياهم من أصل واحد، وهؤلاء يستعملون الخط العربي إلى الآن، وقد اشتُهر منهم كثيرٌ من الخطاطين البارعين يُعَدُّون في العُرف أتراكًا؛ لأنَّ بعضَهم تَتَرَّك، ولا عجب إذا قلَّدوا الأتراك في جودة الخط، فقد أخذوه عنهم، وهم أصحاب الفضل في نشره في تلك الأصقاع، وإليهم انتهت الرئاسة فيه على أنواعه إلى عهدنا هذا (انظر [فَذْلَكة في تاريخ الخط العربي: (٢) تاريخ الخط العربي بعد الإسلام: (٢-١) أصناف الأقلام العربية في الإسلام]).

(٦) النتيجة

فمِن كل ما تقدَّم نستنتج أنَّ الخط العربي انتشر بانتشار الحضارة الإسلامية في طوائف اللغات المرتقية البشرية الثلاث، وهي: السامية والطورانية والآرية، أمَّا «الطائفة الأولى»: وهي اللغات السامية،٤٧ فأهمهما اللغة العربية، ومعلوم أنَّ انتشارها وتغلُّبها على أخواتها أَمَاتَ بعضَها وأضعفَ الآخَر، و«الطائفة الثانية»: وهي اللغات الطورانية أهمها التركية، وجميعها تُكتَب بالخط العربي كما سبق، و«الطائفة الثالثة»: وهي اللغات الآرية وهي جنوبية وشمالية، فالجنوبية في الهند وفارس، وهي تُكتَب بالخط العربي إلَّا اللغة السنسكريتية٤٨ اللغة المقدَّسة عند البراهمة وبعض لغات الهند وجزائرها.

وأمَّا الشمالية فهي المعروفة بالهندأوروبية، وتشتمل على لغات أوروبا وقسم عظيم من أمريكا، فإنها تُكتَب بالخط الإفرنجي المعروف.

fig26
شكل ٢-١٢: الخميادو (الإسبانيولي). صفحة من فاتحة الكتاب بالعربية وترجمتها بالأعجمية (الخميادو). (من مجموعة نشرها بصورتها الخطية المسيو بابلوجيل Pablo gil في سرقوسه ۱۸۸۸ تحت عنوان Collection de Textos Aljamidos، وقد صدَّرها بمقدمة بالإسبانيولية، ثم أردفها باصطلاحات الخميادو في الكتابة.)

(٦-١) الخط العربي واللغات الأوروبية

«اللغة الإسبانيولية»: وقد دخل الخط العربي في هذا القسم الأخير أيضًا في اللغة الإسبانيولية قديمًا، فقد كان بعض العرب حينما دالت دولتهم بالأندلس يكتب علومه ومعارفه، ومنها الفقه والحديث والتصوف وقصص الصالحين، بل وترجمة القرآن بحروف عربية (شكل ٢-١٢)، والكلام كله إسبانيولي قديم (قشتالي)، وهؤلاء العرب كانوا يفعلون ذلك؛ لأنهم — كما يقول بعض المستشرقين — دانوا بالنصرانية مُكرَهين بعد زوال دولتهم في الأندلس، فلم يكونوا يستطيعون إبداء أَسَفهم إلَّا سِرًّا، وفي هذه الكتب العربية المكتوبة بالعجمية دليل على تعلُّق أولئك المتنصِّرة بقدمهم، ولا تزال بقايا هذه الكتب محفوظة في مكاتب إسبانيا، وقد طبع القوم منها أشياء كثيرة، وتُسمَّى هذه اللغة الخميادو Aljamiado تحريفًا للكلمة «الأعجمية»، ووجه هذه التسمية أنَّ العرب يسمون كل ما ليس بعربي أعجميًّا، وجرى على منوالهم الأندلسيون، فكانوا يُسمُّون اللغة القشتالية أي الإسبانية باسم الأعجمية، ثم انتقلت هذه اللفظة إلى اللغة الإسبانية بغير حرف العين؛ لأنَّ العين ليست في لغات الإفرنج، وكذلك الهمزة المتوسطة، فاضطروا أن ينطقوها «ألجمي» ثم تداولوها فقالوا: «ألجمي» بسكون اللام والإسبانيون ينطقون الجيم خاءً في أحايين كثيرة، فقالوا: «ألخمي»، ثم أضافوا إليها علامة النسبة عندهم do فقالوا Aljamiado أي «الأعجمي»، وكُتبت اللغة البرتقالية بالخط العربي، وسُمِّيت أيضًا بالخميادوا البرتقالي Aljamia Portuguesa.٤٩

«اللغة الهولندية»: وقد دخل كذلك في اللغة الهولندية الآن، فإنَّ المسلمين في مستعمرة الكاب بجنوب أفريقيا يكتبون الهولندية بالخط العربي، وقد طبعوا به كتبًا دينية كثيرة.

وهؤلاء المسلمون هم من مهاجري الملايو (انظر [الخط العربي وانتشاره في العالم الشرقي والعالم الغربي: (٣) اللغات التي تُكتَب الآن بالخط العربي: (٣-٤) اللغات الأفريقية: (ز) اللغات الحبشية وغيرها]).

«اللغة السلافية»: وقد دخل أيضًا اللغة السلافية، فإنَّ مسلمي البوسنة والهرسك، وهم لا يقِلُّون — كما أسلفنا — عن ٦١٢٠٠٠ نسمة يكتبون به الآن لغتهم الوطنية «السلافية»، وقد كانوا قبل الاحتلال النمسوي لبلادهم يكتبون بالعربية أو التركية لاختلاطهم بالأتراك وبالحياة العقلية التركية، ولكنهم بعد ذلك صاروا يستعملون لغتهم الوطنية في الأعمال العلمية والأدبية.

وقد نشأتْ حركة في السنوات الأخيرة، وخصوصًا بين وسط «الخوجات» غرضها جعل الأبحاث الأدبية في المواضيع الدينية تُكتَب على الأقل باللغة السلافية والحروف العربية، وقد جعلوا حروف الهجاء العربية تُناسِب حاجيات اللغة السلافية، وجريدة «معلم» لسان حال جمعية اتحاد علماء وأئمة ساراييفو تظهر بهذا الخط.

fig27
شكل ٢-١٣: لغة مجندناو بالخط العربي. الصفحة الأولى من كتاب اللواران أو قوانين مجندناو.

(٦-٢) الخط العربي ولغة الفيليبين

وكذلك المورو Moros أي المغاربة، وهم مسلمو الفيليبين،٥٠ فإنهم يستعملون الخط العربي في كتابة لغة مجندناو Magindanao وصولو Sulu حتى الآن، (ومعنى مجندناو البلاد المروية؛ لأنَّ فيها نهرًا يفيض عليها ويرويها، فأُطلِق هذا الاسم على البلاد وعلى سكانها)، ومِن أهم ما كُتب عندهم بلغة مجندناو وبأحرف عربية هي التراسيل، وهي عندهم كشجرة الأنساب عندنا، ولم توضع التراسيل عندهم إلَّا بعد دخول الإسلام إلى بلادهم؛ لأنَّ الإسلام لمَّا جاء إلى هذه الجزائر جاء معه العلم والعمران، فانتظمت الأحوال، ودُوِّنت التواريخ، ووُضعت التراسيل، وأخذوا حروف الهجاء العربية، أمَّا قبل الإسلام فكان تاريخهم خُرافيًّا بالمرة، وكان بدء دخول الإسلام إلى بلادهم نحو سنة ١٤٧٥ ميلادية.
fig28
شكل ٢-١٤: صورة صفحتين من كتاب دعوات المسلمين. مطبوع في كانتون بالصين.
fig29
شكل ٢-١٥: مسجد في الصين يصلي فيه جماعة من المسلمين الصينيين بأزيائهم الوطنية، وعلى أعمدته كتابات عربية وآيات قرآنية بالخط العربي.
fig30
شكل ٢-١٦: صفحة بالعربية والصينية مطبوعة في كانتون بالصين على طريقة الطباعة على الخشب المصقول، ويظهر منها الشكل الذي أخذه الخط العربي على أيديهم تحت تأثير خطهم الصيني، حتى أصبح (بألفاته ولاماته) أشبه شيء بالخط المسماري الذي كانت تكتب به اللغة البابلية والآشورية في العراق وأكثر الممالك القديمة.
وقد كتب المورو بلغتهم وبالخط العربي (فضلًا عن التراسيل) كلَّ كتبهم الدِّينية والشرعية الإسلامية التي أخذوها عن العرب والملايو، ومن ذلك القرآن وتفسيره والحديث وكتب الشرع، والقوانين التي يُسمُّونها: «اللواران Luwaran» (شكل ٢-١٣) أي المختارة، وكتب القوانين بلهجة الصولو، وخطب الأعياد والجُمَع الدِّينية إلى غير ذلك، مما يدل على انتشار الخط العربي في هذه الأنحاء.
وقد فصَّل ذلك الدكتور نجيب صليبي في كتبه التي كتبها عن جزائر الفيليبين، وعلى الأخص في كتابه «أبحاث في تاريخ المورو وشريعتهم وديانتهم».٥١
«الخط العربي في الصين»: والمسلمون في الصين يستعملون الخط العربي من زمان بعيد في كتابة النصوص الدينية العربية وغير العربية كالقرآن وترجماته وكتب الحديث والفقه (شكل ٢-١٤)، كما يستعملونه أيضًا في كتابة ما يؤلِّفونه منها بلغاتهم، فقد اقتنى الأستاذ هرتمن Hartmann سنة ١٩٠٢ نسخة خطية من كتاب اسمه «مختصر الأحكام الإسلامية»، وجدها في مدينة كشغار بتركستان الصينية، ولغة هذه النسخة هي لهجة من لهجات الصين الشمالية تقرب من لهجة بكين مع إدراج بعض العبارات العربية والفارسية في المتن مكتوبة بالخط العربي وزيادة الأربعة الأحرف الفارسية وحرفين جديدين، وهما «ڞ وصْ»، وقد نشر الأستاذ فركه هذا الكتاب بالحروف الإفرنجية! وبالحروف الصينية وذيَّله بترجمة ألمانية.
ورغمًا عن قِدَم الإسلام والخط العربي في الصين، وكثرة عدد المسلمين الصينيين فإنه لا توجد آثار قديمة كثيرة للخط العربي هناك، وأقدم ما وُجد من آثاره هي الكتابة العربية المنقوشة على مسجد مدينة كنتون القديم سنة ٧٥١ﻫ/١٣٥٠م، وهي تنصُّ على أنَّ البناء الأصلي شُيِّد في أيام تسون كوان من العائلة الطانية Tsӧn-Kwan des Than، أمَّا الكتابات العربية التي تُوجَد على آنية الصين البرنزية القديمة فيصعب تعيين تاريخها بالضبط، وهي على العموم لا ترجع إلى ما قبل القرن التاسع للهجرة، ولم يبتدئ مسلمو الصين في «الكتابة» والطبع إلَّا حديثًا، وهم يستعملون للطباعة لويحات خشبية مصقولة تبعًا للطريقة القديمة التي كانت مستعملة في أول عهد المطابع، (شكل ٢-١٤و ٢-١٦) وقد يُغيِّر النقش في هذه الطريقة شكل الخط قليلًا.
١  يُطلِق العرب اسم الجزيرة على بلادهم التي هي في الحقيقة عبارة عن شبه جزيرة، ولكنهم كانوا يسمون الاثنين جزيرة بلا فارق سوى العهد الذهني، وقولهم: جزيرة العرب، وجزيرة الأندلس، أخف من قولنا: شبه جزيرة العرب، وشبه جزيرة الأندلس.
٢  وإن يكن هؤلاء يكتبون بالخط العربي نصوص الدِّين كما سترى بعدُ، هذا، وفي الصين الآن ما يُنِيف على الخمسين مليون نسمة من المسلمين، وهم منتشرون في كل أنحاء المملكة، وخصوصًا في مقاطعات كاشغار وزنقاريا (شكل ٢-١) في الشمال الغربي، ومقاطعات يونان بأقصى الجنوب الغربي، وفي بلاد منشوريا وغيرها، وهم يتفاهمون باللغة الصينية، وأهم فروعها الكنتونية والشاوشوية والهاكية والفوشوية وغيرها.
والإسلام قديم في مملكة الصين، والمشهور أنَّ أصل مسلميها من الجُنْد الإسلامي الذي جَلَبه ملك الصين سنة ١٣٨ﻫ/٧٥٥م في عهد أبي جعفر المنصور لكبح جماح الثائرين عليه، ولما تمكَّن بمساعدتهم من توطيد عرشه جازاهم عن ذلك بجواز الإقامة في مملكته مع امتيازات كثيرة، فظلوا فيها معتصمين بالهدوء والسكينة حتى اختلَّ نظام عائلة المنشوريين، وفسدت الأحكام في جميع بلاد الصين، فنشأ من ذلك ثورة المسلمين في مقاطعة يونان وفي مقاطعتي زنقاريا وكشغار، فأخضع الصينيون مسلمي يونان بعد قتال طويل، وأمَّا زنقاريا وكشغار فاستقلَّتا بقيادة يعقوب خان القائد الشهير، وقضى الصينيون ١٢ سنة يحاولون استرجاع كشغار فلم يستطيعوا ذلك إلَّا بعد وفاة أميرها يعقوب خان عام ١٨٧٧، وهكذا كان لمسلمي الصين — ولم يزل لهم — شأن كبير، فمنهم رجال الفضل والجند الذي عليه المعوَّل، خصوصًا في إقليم يونان، ومنهم رجال التجارة، وهم مشهورون بين الصينيين بصدق المعاملة وقوة البأس.
٣  نسبة إلى طوران Touran، وهي بلاد تركستان، واسم طوران في الأصل أطلقه الأتراك على بلادهم قديمًا وقت أن كان الفُرس في إبَّان تمدُّنهم، والترك — وكانوا يُعرَفون بالتركمان — بدْوٌ كانتْ غايتهم أن يسطوا على قوافل الفُرس وبلادِهم للنَّهْب أو الغزو؛ ولذلك كانوا يسمون بلاد إيران «أرض النور» وبلادهم طوران أو تركستان «أرض الظلمة».
٤  اللغة المالطية خليطٌ من اللغة العربية بنسبة التسعة أعشار من ألفاظها ومن الإيطالية، وعلى الأخص اللهجة الصِّقِلِّية، وغيرها بنسبة العشر الباقي، وهي مشتقةٌ من لهجة عوام المغرب العربية، ويُتَكَلَّم بها في جزيرة مالطة وغودش، ويتبعهما جزيرتَيْ كومينو وكومينوتو، وتاريخ دخول العربية يبتدئ بفتوح العرب لها سنة ١٥٢ﻫ، ولأن العرب مكثوا هناك مدةً طويلة تقرب من قرنين وربع قرن صارتْ لغتُهم هي اللغة العامة فيها، حتى إنَّهم لما أُخْرِجوا منها كان أهلها قد اقتبسوا اللغة العربية منهم، فظلَّتْ شائعةً بينهم، واختلطتْ بلغات الفاتحين والمستوطنين، ولا قرآن يرجعون بها إليه، ولا قاموس يصحِّحون ألفاظها عليه، فأصبحتْ مشوَّهة بما دخل عليها من التحريف والتبديل، هذا، وإن يكن قد أصبح لها صحافة وآداب منذ عهد ليس ببعيد، فهي لم تَعُدْ تُحسَب لهجةً عربية تكون صلة بين لغة مصر والمغرب، أمَّا كتابتهم فبالحرف اللاتيني! مع اصطلاحات مخصوصة في تصوير بعض المقاطع التي توجد في اللاتينية، إلا أنَّ هجاءهم يختلف كثيرًا عن الهجاء العربي، فربما ضمُّوا كلمتين في هجاء واحد، وربما قسَّموا الكلمة إلى هجاءين تبعًا لما يقتضيه اللفظ دون التركيب، مما يدل على أنَّ أصل الكلمات قد ضاع عندهم بالمرة، وهي — كما تراها — من اللغات المضحكة، ولكنك مع ذلك ترى أصحابها على أشد المغالاة بها، والتعصُّب لها، فلا يسمحون بإهمالها، ولا يرضَوْن باستبدالها، وقد قامتْ قيامتُهم لأجلها من عهدٍ غير بعيدٍ حتى كادت تجرُّ إلى ما لا خير فيه.
٥  أشهر طوائف هذا الشعب تتر «قازان»، وهم أكثر التتر تمدُّنًا وأفصحهم لغة، وتتر «القرم»، وتتر «كبتشاق» الذين كان الروس تحت حكمهم قبل القرن العاشر للميلاد، فقد حكم التتار المسلمون الروسيا ٢٥٠ سنة، والسعيد من الروس في ذلك العهد مَن كان يزوِّج بنتَه إلى أمير من أمراء التتار، وتتر «أورنبورغ»، وتتر «أستراخان»، وتتر «سيبريا»، وجميع التتر دينهم الإسلام إلا القليل منهم، وهم الياقوتية وكلهم تحت سلطة الروس الآن.
٦  هي الطريقة التي استنبطها الأستاذ المنسكي الروسي من مشاهير المستشرقين في أواسط القرن الماضي لجعْل التتر روسيين كرهًا، ومآلها استبدال حروف الهجاء العربية التي يستعملها التتر بحروف الهجاء الروسية ظنًّا منه أن ذلك يسهل التعليم الابتدائي في مدارس التتر ويُدخِلهم أخيرًا في مذهب الأرثوذكس، فقاوَمه التتر مقاومةً عنيفة، فأُسْقِط في يده، وخصوصًا لمَّا صدر المنشور القيصري، ومنحت فيه حقوقًا دستورية لجميع الروس على اختلاف نِحَلهم، فثاروا على هذه الطريقة ومؤيِّديها من الروس، ويذكِّرنا هذا المطلب بما طلَبَه بعض الأوروبيين في مصر حين اقترحوا استبدال اللغة العربية الفصيحة باللغة العامِّية، وكتابتها بالحروف اللاتينية! بدعوى توحيد الكتابة في جميع أنحاء العالم! فلم يصادِفوا إلَّا الإعراض والخَيْبة في مَسْعاهم، ولا عجب! فإن مثل هذا المشروع غير طبيعي؛ إذا لا يُعقَل أنَّ أمةً تتكلَّم لغةً شهيرة، ذات حروف منتشرة، اقتبسها عنهم عشرات من الأمم العظمى (كما ترى هنا)، تترك حروفَها هذه وتَكتُب بحروف غريبة، والمتأمِّل في كتابنا هذا لا يَسَعه إلَّا أن يسْخَر ممَّا يحاوله هؤلاء (انظر أيضًا فصل: الأديان ومحافظة الأمم على الخطوط، في آخِر هذا الكتاب).
٧  النسبة إلى آذربيجان «آذري»، كما وقع في كلام سيدنا أبي بكر — رضي الله عنه — لآذربيجاني.
٨  تنقسم قوقاسيا إلى قسمين: (١) شمالي شرقي يعدُّونه من قارة أوروبا واسمه سيقوقاسيا Cis-caucasia، (٢) جنوبي غربي ويعدُّونه من قارة آسيا واسمه ترانسقوقاسيا Transcaucasia، والأول منهما يشتمل على حكومات سبتاورو بول وكوبان وتيرك، والثاني يحتوي على حكومات تفليس وباكو وباطوم وأريغان وغيرها.
٩  انظر مقالتنا عن الروايات التاريخية، وروايات تاريخ الإسلام في تأبين منشئ «الهلال».
١٠  الخط الأويغوري خط اصطلحوا على تسميته بهذا الاسم، وهو مشتق من الخط السرياني النسطورى، أدْخَله المبشِّرون النساطرة في القرن السابع للميلاد، ويتركَّب من ١٤ حرفًا، وحروفه متواصلة تُكتَب في أعمدة تُصَفُّ قائمةً من الشمال إلى اليمين، فتأتي الأحرف مقلوبة، وبهذا الخط كُتب في القرن الخامس للهجرة أول كتاب أُلِّف باللغة الأويغورية أي كتاب «قودتغوبيلك» معناه علم السياسة، ثم كُتبت به تأليفات أخرى، وللآن تُكتَب بهذا الخط لغة المنشو قياصرة الصين المخلوعين بالأمس.
١١  السلطان بابر (نمر) فاتح مغولي من سلالة تيمورلنك، وُلد في فرغانة سنة ١٤٨٢م/٨٨٧ﻫ وتوفِّي سنة ١٥٣٠م/٩٣٧ﻫ، بعد أن فتح أفغانستان والهند وأسَّس دولة مغولية توالَى حكمها في الهند إلى سنة ١٨٥٧، وكان — فضلًا عن بسالته ومهارته في الحرب — كاتبًا حسن الإنشاء في لغته الجغتائية، مع ذكاء ودهاء، فكان يدوِّن وقائعه في كتاب خاصٍّ، كما يفعل أرقى ملوك أوروبا سمَّاه «بابرنامه» أي كتاب بابر، وكان لهذا الكتاب شأنٌ عند علماء التاريخ فنقلوه إلى الإنجليزية ولخَّصوه ونشروه، أما الأصل الجغتائية فقد نشرتْه منذ سنوات قليلة لجنة تذكار جيب الإنجليزية طبقًا للأصل الخطي (العربي) شكلًا ووضعًا أي إنَّهم نشروا الأصل الخطي بصورته الخطية.
١٢  Encyclopedia Britannica, vol. XXIII, From page 661.
١٣  اللغات الآرية أو اللغات الهندية الأوربية، وتُدعى أيضًا: «اليافثية» نسبة إلى يافث بن نوح، وتنقسم إلى جنوبية، وهي لغات جنوب آسيا، منها السنسكريتية وفروعها الهندية والفارسية والأفغانية والكردية والأرمنية وغيرها، وشمالية ومنها لغات أوروبا.
١٤  الهندستانية نسبة إلى هندستان، وهو الاسم الإنجليزي للغة، والوطنيون عمومًا يدعونها بالأوردو أو الأردوزبان Urduzaban أي لغة المحلة أو المعسكر؛ لأنَّ معنى كلمة «أردو» في لسان المغول هو اسم للقبيلة ومنها «الأردي» التي يستعملها الأتراك إلى الآن للدلالة على «الفيلق» المعسكر أو المحلة، وعنهم عرَّب المصريون لفظة: «العرضي» بالمعنى المذكور.
١٥  Geography of India, Burma and Ceylon; by Henry F. Blandford F.R.S. page 38, London 1894.
١٦  Palmer, Simplified grammar of Hindustani, Persian and Arabic Hindustani.
١٧  أصل لفظة: دكن «دكشين»، ومعناه — في لغتهم — بلاد الجنوب، فالدكهنية أي الجنوبية.
١٨  «نزهة الألباب» لمحمد أفندي حسني العامري.
١٩  الفُرس يُسمُّون أنفسهم إيرانيين، والناس يُسمُّونهم فُرسًا، ويعنون بلفظ «الفُرس» عادة أكثر كثيرًا من مدلوله الأصلي؛ لأنَّه في الأصل اسم جزء صغير من بلاد فارس الحالية واقع بين خوزستان وكرمان، فأطلَقَه العرب على بلاد إيران كلها، كما أطلَقَ الفُرس قبل ذلك اسم «العرب» على أهل جزيرة العرب كافة، وهو في الأصل اسم سكان جزئها الشمالي فقط.
٢٠  La position économique de L’ Islam, par M. A. Le chatelier.
٢١  Schefer; Tableau du règne du Sultan Sindjar Dans les nouveaux Mélanges orientaux. P. 5.
٢٢  Encyclopedie de l’ Islam, P. 397.
٢٣  ښ: حرف يُلفَظ كالشين في القسم الجنوبي الغربي من أفغانستان ومركزه مدينة قندهار، ويُلفَظ كالخاء في القسم الشمالي الغربي ومركزه بيشاور؛ فلذلك تُسمَّى اللغة الأفغانية في قندهار «بشتوية» وفي بيشاور «بختوية».
٢٤  نسبة إلى بلاد الريف، وهي جميع سواحل البحر الأبيض المتوسط المَرَّاكُشية تقريبًا من ملوية إلى تطوان.
٢٥  يقول مؤرِّخو البربر: إنَّ أب هذه القبائل جميعها (أي قبائل البربر) اسمه أمازيغ أو مازيغ، ومعنى ذلك: الرجل الحُرُّ، وهذا اللفظ قد ذكره مؤلِّفو الإغريق والرومان، وهو لم يَعُدْ يُعرَف إلَّا لدى التوارك، ومع ذلك فإنَّهم نسوا أصلَه إلا شُلُوح أو بربر مَرَّاكُش، فإنهم قد حفظوا أثره في كلمة تمازغت التي لا يزالون يطلقونها على لهجتهم.
٢٦  قد استمر التوارك دون بقية قبائل البربر على استعمال حروف هجائية يسمونها: «تفيناغ» أو «تفيناج»، وهي الكتابة البربرية التي يرجع تاريخها على الأقل إلى زمن تأسيس قرطاجة، ويقول العلماء: إنَّ هذه الحروف شكل قديم للحروف الأبجدية القرطاجية أو الفينيقية، وهي قريبة الشبه من الأبجدية المستعملة في الكتابات الحِمْيَرية التي في الجنوب من جزيرة العرب، ولم تُكتَشَف هذه الكتابة إلَّا في سنة ١٨٢٢م فقط، وهي ناقصةٌ الآن عندهم لخلوِّها من الحركات بالمرة، (راجع كتاب «التبيان في تخطيط البلدان» للأستاذ إسماعيل رأفت بك).
٢٧  Houdas, Essai sur l’ écriture Maghrébine Dans les Nouveaux Mélanges orientaux.
Bresnier, cours langue arabe.
٢٨  Encyclopedie de l’ Islam P.395.
٢٩  أهل سكوت وبلادهم بين جبل دوشه والشلال الثاني عند حلفا، والمحس وبلادهم بين الشلال الثالث وجبل دوشه.
٣٠  «المقتطف»: مجلَّد٢٥، ص٢٦٦.
٣١  نسبة إلى السواحل، وهي البلاد الخاضعة لسلطان زنجار، وذلك بالنسبة إلى موقعها، ويُعرَف أهلها باسم الساحليون أو السواحليون.
٣٢  زنجبار: كلمة عربية الأصل، مركبة من زنج وبار أي بر الزنج أو ساحل الزنج، وبهذا الاسم كانت تُعرَف عند العرب، فإنها ذُكرتْ في كتبهم، ورُسمت في خرائطهم باسم بر الزنج أو ساحل الزنج، أمَّا اسم زنجبار فلم يأتِ في مؤلَّفاتهم، ويظهر أنَّ هذا الاسم جديد منقول عن كتب الإفرنج، وأنَّهم حرَّفوه عن «بر الزنج» بأن قدَّموا لفظة زنج على لفظة بر، كما هي عادتهم حتى في أسماء الأشخاص، فصار زنجبر، ثم أُضيف الألف في العربية لتخفيف النطق فصار زنجبار، وذلك ما حصل أيضًا في «ملابار» ببلاد الهند وغيرها.
٣٣  وقد أسهَبَ في بيان هذه الألفاظ الأستاذ فراند في الجزء الثالث من كتابه «الإسلام في مدغسكر».
٣٤  La légende de raminia d’après un manuscrit Arabo-Malgache, el Notes sur la transcription Arabo-Malagache, par M. G. Ferrand.
٣٥  The Modern Languages of Africa by Robert Neeldham Cust, London 1883.
٣٦  نسبة إلى اللهجة الحبشية التي يتكلَّم بها العامَّة في مدينة هرر، وهذه اللهجة لا تُستعمل إلَّا في هذه المدينة فقط، وليست لها حروف هجاء، فهي تُكتَب بالخط العربي، وأول مَن عَرَفها وأظهَرَها للعالم هو الكابتن بورتون Burton سنة ١٨٥٦، فقد تمكَّن أثناء إقامته القصيرة في هرر من جمع معجم بلغتهم، وهو يقول: إن الهررية أخت الجلَّاوية والصومالية والدناقلية (لسان بلاد الدناقيل أو عفار على ساحل البحر الأحمر) أي إنَّها من أصل سامي، وكلماتها وأشكال كلماتها من أصل عربي قد أتتْ — من غير شك — مع الدِّين الإسلامي.
٣٧  الغالا هم أوسع الكوشيين عددًا، وكانوا يقطنون جنوب بلاد الحبش، ثم خرجوا من بلادهم ودخلوا بلاد الحبش في أوائل القرن العاشر للهجرة، وهم يدينون بعبادة الأوثان، وقد أسلم بعضُهم فنشروا الإسلام بين إخوانهم، ولم يتنصَّر منهم إلَّا القليل.
٣٨  وقد ذكرنا فيما تقدَّم نقلًا عن كتاب الدكتور بشارة زلزل أن الصومال يكتبون الخط العربي من أعلى إلى أسفل، ويقرءونه من اليمين إلى اليسار (انظر [فَذْلَكة في تاريخ الخط العربي: (٥) النُّقَط والحركات في الخط العرب: (٥-٣) الكتابة واتجاه السطور فيها]).
٣٩  لا يُقال: «الدجلة» بأداة التعريف «أل»، كما لا يُقال: «فرات» بدونها، بل «الفرات»، وأغلب كُتَّاب العرب يؤنِّثون «دجلة» باعتبار اللفظ، ويُذكِّرونه باعتبار النهر، ويُسمَّى عند الآشوريين: «إيديجات»، وعند الماديين «دجل» أي السهم، وعند العبرانيين: «الداجل» أي السريع و«أدجل» و«دجلة»، وسمَّاه الرومان: «دجليتوس»، وحرَّفه اليونان إلى: «تجرس»، وتابَعَهم الإفرنج في تسميته: «تيجر Tigre»، والأرجح أنَّ اسمه العربي مشتقٌّ من الاسم المادي أو العبري، ويُعرَف اليوم عند الأتراك وفي خرائطهم باسم: «الشط».
٤٠  «تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب» للمرحوم روحي بك الخالدي بتصرف.
٤١  «تاريخ علم الأدب».
٤٢  «عجالة عن بعض المدائن في صقلية» بقلم الأستاذ أحمد زكي باشا، نُشرتْ في المؤيَّد، عدد ٦٥٩٥، الصادر في ١٧ صفر سنة ١٣٣٠.
٤٣  من تلك الآلات العربية النفيسة المصونة في خزائن إيطاليا «الإصطرلاب»، وهو آلة فلكية لقياس ارتفاع الكوكب (انظر محاضرات الأستاذ جويدي).
٤٤  «تاريخ علم الأدب» لروحي بك.
٤٥  «السُّيَّاح المسلمون»، وهي الخطبة التي ألقاها في الجمعية الجغرافية الخديوية الأستاذ محمود بك سالم.
٤٦  «السُّيَّاح المسلمون»، وهي الخطبة التي ألْقاها في الجمعية الجغرافية الخديوية الأستاذ محمود بك سالم.
٤٧  السامية نسبة إلى سام بن نوح، وهي اللغات التي يتكلَّم بها نسله، وأول مَن أطلق عليها هذا الاسم في أوروبا هو عالِمٌ من العلماء المستشرقين الألمانيين في القرن الثامن عشر للميلاد، حيث سَمَّى كل اللغات القريبة من اللغة العبرية «باللغات السامية»، وقد بقيتْ هذه التسمية مَرْعِيةً إلى الآن، واللغات السامية تنقسم إلى قسمين شرقي وغربي، فالقسم الشرقي يشمل البابلية والآشورية، والقسم الغربي على قسمين شمالي وجنوبي، فالشمالي يشمل العبرية والفينيقية والآرامية، والجنوبي يشمل العربية والحِمْيَرية والحبشية، ولكل لغةٍ من هذه اللغات فروع ولهجات تراها في هذا الجدول:
٤٨  اللغة السنسكريتية: هي لغة الهنود القديمة، وهذه اللغة لا يتكلَّمون بها الآن، ولكن كتب علومهم الرُّوحية مكتوبةٌ بها، وفيها مُشابَهةٌ غريبة لبعض لغات أوروبا دالة على اشتقاق اللغات من أصل واحد، وهي أصل لغات الهند، ومعنى سنسكريت اللغة التامَّة أو المُهذَّبة.
٤٩  انظر تاريخ البرتقال في ملبار المسمَّى: «تحفة المجاهدين في بعض أحوال البرتكاليين»، تأليف الفقيه الشيخ زين الدِّين المطبوع في لسبونه ١٨٩٨، فإن به كلامًا طويلًا على الخميادو البرتقالي والإسباني وتاريخه، وقطع منه كل ذلك باللغة البرتقالية والعربية.
٥٠  الفيليبين اسم لجزائر كبيرة شمال أرخبيل الملايو، وقد كانت تُسمَّى قبلًا: «جزائر ماجلانى» نسبةً إلى مكتشفها ماجلان الرحَّالة الشهير وتذكارًا لوفاته فيها، ولكن لمَّا زارها الأميرال فيلالوبوس سمَّاها الفيليبين باسم فيليب الثاني ملك إسبانيا.
٥١  Studies in Moro history, law, and religion, By Najeeb M. Saleeby. Manila 1905.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤