لغزٌ جديد

ما هي إلا ثوانٍ حتى هُرع التلاميذ من كل فجٍّ وصوبٍ إلى مصدر الاستغاثة، فحمَلوا محمدًا إلى غرفة المرضى؛ حيث احتشَد جمعٌ كبير حول سريره، وسرعان ما أقبل الناظر، فلما وقف على الأمر، غضِب وثار، ثم التفَت إلى التلاميذ وقال: «لماذا احتشادُكُم هنا جميعًا حول السرير، أيها الصبيان؟ انصرِفوا، ولا يَبقَ هنا غير عليٍّ ومارك.»

مضى التلاميذ خارجين. وبعد انصرافهم انحنَى الناظر ليفحص محمدًا، ثم قال: «يا له من وغد! أعتقد أنه ضرب محمدًا بهِراوة على رأسه ضربةً قوية. ومع ذلك فلم تنكسر أية عظام بالجمجمة. أتستطيع إخباري بمَن فعل بك هذا، يا محمد؟»

فتح محمد عينَيه السوداوَين الواسعتَين، ونظر إلى الأستاذ بون في صمت، ولكن نظرته كانت أفصح من الجواب. لقد عبَّرَت للناظر عما يُقاسيه من آلام، كما عبَّرَت له عن شُكره، فقال الأستاذ بون في نبراتٍ مليئة بالعطف والحنان: «حسَن! إذن، فماذا حدث يا بُني؟»

تردَّد محمد لحظة، ثم استجمع قواه وقال بصوتٍ يكاد يكون غير مسموع: «لقد هُوجمتُ وقُيِّدتُ، يا سيدي؟»

قال: «أعرف هذا، يا محمد. ولكن من الذي هاجمَك وقيَّدك؟ هل رأيتَه؟»

سكت محمد ولم يُحِر جوابًا، فقال الناظر: «لا بُد أن تخبرني، يا محمد. مهما كانت شخصية الذي اعتدى عليك فهو شخصٌ خَطِر. هيَّا، أخبرني يا محمد.» ثم أقبل عليه وأمسك بيده، وجعل يُربِّت عليها ويُلاطِفه.

مضت لحظاتٌ خُيِّل إلى الناظر فيها أن محمدًا لن يُجيب عن سؤاله، ثم ما لبِث أن قال في هدوء ووضوح: «إنه نلسون، يا سيدي!»

دهِش الناظر، وقال: «نلسون! أمتأكدٌ مما تقول، يا محمد؟ يبدو أن هناك خطأ، هذا غير معقول!»

فأجاب محمد: «ليس هناك من خطأ، يا سيدي. إنه نلسون الذي ضَربَني وقيَّدَني.»

فقال الناظر: «ولكن، ما الذي حدا به أن يفعل بك هذا؟» ثم استدار نحو علي، وقال: «أين نلسون الآن؟»

فأجاب علي: «لستُ أدري، يا سيدي. لم يكن حاضرًا وقت نداء الأسماء.»

صمَت الأستاذ بون بُرهة، ثم أخرج عُلبة لفائف التبغ، وأشعل منها واحدة، ثم قال: «وهل بحثتَ عنه؟»

قال: «لم أبحث عنه بعدُ، يا سيدي!»

التفَت الناظر إلى محمد، وسأله: «هل تعرف أين ذهب نلسون بعد أن ضربك، يا محمد؟»

– «كلا، يا سيدي!»

فقال الأستاذ بون: «اسمع يا علي، أرسِل عددًا من الأولاد يبحثون عنه في كل مكان حول المدرسة. اجتهِدوا في أن تأتوني به على عَجل.»

خرج عليٌّ ومارك، وجلس الناظر إلى جانب محمد، وهو يدخِّن لفافته وينفُث الدخان في عصبية، وقد دارت في مخيِّلته شتى الاحتمالات، ثم قال: «ها نحن وحدنا الآن، يا صغيري محمد. أخبرني بقصتك كلها. أظنُّك تشاجرتَ مع نلسون، أليس كذلك؟ فعَلامَ تشاجرتما؟»

رقَد محمد صامتًا في السرير وأمسك عن الإجابة، غير أن الأستاذ بون نظر إليه بعَطف، ثم انتقل وجلس على حافة السرير، وقال: «أعرفُ أنك لا تريد أن تبوح لي بما بينك وبين نلسون من أسرار، ولكن هذا ليس شجارًا عاديًّا. لقد تطوَّر الأمر إلى شروع في قتل؛ إذ ضربك بعنف، وقيَّدك، ثم فرَّ واختفى. لا أريد أن تحدُث مثل هذه الأمور في مدرستي. إنني ناظرك، ولا بد أن تُفضي إليَّ بسِر هذا الأمر. انظُر إليَّ يا محمد: إنني أقرأ في عينَيك أنك تُخفي أشياءَ كثيرة، وتحتفظ في دخيلة نفسك بسِر لا تريد البوح به.»

اتجه محمد بناظرَيه نحو الأستاذ بون، والدموع تترقرق في مقلتَيه. وسرعان ما أغمَض جفنَيه، فقال الناظر في هدوء: «نعم، يا محمد. إنني أصغي إليك، تكلَّم.»

فقال محمد بصوتٍ منخفض: «لا يُمكِنني إخبارُك، يا سيدي، لا أجرؤ على هذا.» ثم شَرَع ينتحب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤