المقدمة

أود أن أسأل قبل أن نخطو خطوة أخرى على هذا الطريق: هل خطر لأحد منكم، يومًا ما، أن هذا كله لا يزيد عن سوء تفاهم عظيم وحسب؟ فما دمتم لم تحضروا هنا لتتعلموا أي شيء، بل لنعلِّمكم حتى تنجحوا في هذه الاختبارات، فينبغي تنظيم المعرفة حتى يمكن تعليمها، وينبغي اختزالها في معلومات حتى يمكن تنظيمها، فهل تفهمون ذلك؟ وأقول بعبارة أخرى إن هذا يدفعكم إلى افتراض أن التنظيم خَصِيصة راسخة في المعرفة نفسها، وأن الفوضى والعَماء ليسا سوى قوًى تهددها من الخارج، ولكن العكس على وجه الدقة هو الصحيح؛ فما النظام غير شيء رقيق خطِر نحاول أن نفرضه على الواقع الأساسي للعَماء …

(جاديس ١٩٧٦م: ٢٠)
موضوع هذا الكتاب: كيف ننظِّم المعرفة في مباحث علمية، ثم نعيد تنظيمها في تشكيلات وتحالفات جديدة، أو بعض أشكال «بينية»، عندما تبدو لنا طرائق التفكير القديمة بالية، أو منفصلة عن الواقع، أو مفتقرة إلى المرونة، أو إقصائية؛ فلقد غدت «البينية» كلمة طنَّانة غامضة في عدد كبير من الموضوعات الأكاديمية المختلفة في السنوات الأخيرة، وإن نَدَر النظر فيها نظرة تفصيلية. فالدراسة البينية، كما يقول ألان ليو (Liu)، «مفهوم نقدي وتعليمي ومؤسسي يعاني أشد المعاناة من نقص النظر فيه نقصًا خطيرًا في الجامعات الحديثة» (ليو ١٩٨٩م: ٧٤٣). ويهدف هذا الكتاب إلى فحص الطرائق المختلفة لتعريف المنهج البيني، والمناظرات التي دارت حول معناه، والغرض منه، وتطبيقاته العملية. وللكتاب مَرمًى محدَّد داخل هذا الموضوع الكبير، ألا وهو تعريف الطلاب العاملين في مجال الدراسات الأدبية بالمنظورات البينية من المجالات الأخرى، مثل الدراسات الثقافية، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والفلسفة، والتحليل النفسي، والتاريخ، والجغرافيا، والعلوم الطبيعية.
وتقول حُجتي الرئيسية إننا لا نستطيع أن نفهم المنهج البيني إلا إذا فحصنا المباحث العلمية القائمة أولًا، ما دامت المداخل البينية دائمًا ما تمثِّل اشتباكًا معها، إلى جانب فحص الطرائق المعرفية التي تستبعدها بسبب انفصال بعضها عن بعض. ولفظ discipline الإنجليزي يُستعمل بدلالتين حديثتين رئيسيتين؛ فهو يشير إلى فرع معيَّن من التعلم (learning) أو مجموعة من المعارف، كما يشير إلى الحفاظ على النظام والسيطرة [الضبط والربط] بين مجموعات خاضعة، مثل الجنود، أو نزلاء السجن، أو التلاميذ، وكثيرًا ما يكون ذلك من خلال التهديد بالعقاب البدني أو غيره من صور العقاب. ومن الطريف أن هذين الاستعمالين كانا يلتقيان في بعض حالات الاستعمال الأولى للمصطلح، اعتبارًا من النصف الأول من القرن الخامس عشر؛ إذ كان «التأديب» (discipline)١ في هذا السياق يوحي بنوع خاص من التربية الخلقية الهادفة إلى تعليم السلوك الحسن، والنظام والسيطرة على النفس. والواقع أن فكرة المصطلح نفسها، باعتباره لونًا من التعلم المعترَف به، توحي بإنشاء مَراتبيَّة واستعمال السلطة؛ فاللفظ مشتقٌّ من الكلمة اللاتينية disciplina، التي تشير إلى تعليم التلاميذ على أيدي من يكبرهم سنًّا، وتشير بالضرورة إلى معرفة متخصصة ذات قيمة يتمتع بها بعض الأشخاص ولا يتمتع بها البعض الآخر. وعلى نحو ما يعرِّف اللفظَ معجمُ أوكسفورد الكبير للغة الإنجليزية، كان من أوائل استعمالات اللفظ باللغة الإنجليزية الدلالةُ على «نهج دراسي خاص للتلاميذ»،٢ وذلك فيما يتعلق بما يُسمى «أدب الأسرار»، وهي عبارة وُضعت بعد الإصلاح الديني البروتستانتي في القرن السادس عشر للإشارة إلى الممارسات «التقييدية» في الكنيسة المسيحية المبكِّرة، والتي كانت تعلِّم عناصر العقيدة لمن اعتنقها، مع الفصل بينهم وبين الكفار وغير المطَّلعين على «أسرارها». وهكذا نرى أن مصطلح «التأديب» كان منذ البداية مرتبطًا بقضايا تدور حول العلاقة بين المعرفة والسلطة.
أي إننا حين نستعمل كلمة «البينية» فإننا نوحي بصفة عامة بنوع من الوعي النقدي بهذه العلاقة، فكما تقول روبرتا فرانك:
في المنهج البيني ما يُرضي الجميع؛ فالاسم المجرد disciplines [أي: المباحث العلمية] ذو دلالة باردة فظَّة، والسابقة «ما بينها» (inter) دافئة ودودة. ويختلف اللفظ اللاتيني الأصل discipline عن الحقول بِطينها وأبقارها وحِنطَتها في أنه يأتينا في صناديق فولاذية، أي إنه يوحي بشيء شديد البأس، صُلب المَكسِر، من الخطرِ السيطرةُ عليه، والبادئة «ما بينها» تلمح إلى أن المعارف دافئة، تتطور فيما بينها، وتعتمد على التشاور.
(فرانك ١٩٨٨م: ١٠٠)

وطبقًا لهذه الدلالة للمصطلح، يمكن للمنهج البيني أن يقدم بديلًا ديمقراطيًّا ديناميًّا تعاونيًّا عن الطراز القديم للمباحث العلمية المنغلقة على ذاتها وعلى ممارسيها، وإن كان هذا التفسير اليسير يثير عددًا من الأسئلة: كيف يمكن للبحث العلمي البيني أن يطمح إلى أن يغدو على وجه الدقة معارف «دافئة تتطور فيما بينها وتعتمد على التشاور»؟ هل يمكن بسهولة تقسيم المباحث العلمية أو تجاوزها؟ أليس من المحتوم أن توجد وسائل من نوع ما لتنظيم المعارف وهيكلتها؟ قد يكون من المفيد لنا إذا أردنا الشروع في استِكْناه طبيعة هذه الأسئلة أن نبدأ بالنظر إلى التطور التاريخي للمباحث العلمية.

نشأة المباحث العلمية

فكرةُ تشكيل المعرفة في تخصصات أو مباحث علمية فكرةٌ قديمة يمكن أن نردَّها إلى الفلسفة اليونانية، فإن أرسطو، على سبيل المثال، يضع تنظيمًا للموضوعات المختلفة في مراتب هرمية، وفق طابعها النظري أو العملي أو الإنتاجي؛ فالموضوعات النظرية عنده أسمى شكل من أشكال المعرفة، وهي تتضمن اللاهوت والرياضيات والفيزياء، وأهميتها مُرتَّبة ترتيبًا تنازليًّا، وأما الموضوعات العملية عنده فهي الأخلاق والسياسة، وأما الموضوعات الإنتاجية، وهي أخفضُ الجميع مَرتبةً، فتتضمن الفنون الجميلة، والشعر، والهندسة (أرسطو ١٩٤٧م: I. ٣–١٣، ٢٩٣–٢٩٩؛ II. ٨٥–٨٩). ويسترشد أرسطو في بناء هذا المخطَّط بمبدأين أصبحا من المبادئ الأساسية للتطور اللاحق للمباحث العلمية؛ إذ إنه حاول أولًا وضع مراتب واضحة لمختلف الموضوعات العلمية. والملاحَظ بصفة عامة أن تطور المباحث العلمية لم يؤدِّ ببساطة إلى خلق كيانات معرفية مستقلة، هانئة بعزلتها، بل كانت تصحبه محاولات كثيرة لتوكيد تفوُّق بعض المجالات العلمية على غيرها، وتشير بوجه خاص إلى شبوب مناظرة امتدت قرونًا طويلة حول المزايا النسبية لمجالات المعرفة «المفيدة»، التي وضعت لنفسها أهدافًا محدودة، لكنها حققتْها بوضوح وجلاء، وحول المجالات المعرفية غير المحددة بدقة، والتي تتَّسم بقدر أكبر من الطموح واتساع النطاق، وإن لم تكن «مفيدة» بالوضوح نفسه. ومن الجليِّ أن أرسطو كان يفضل المعرفة التأملية لذاتها؛ إذ كان يعتقد «بوجود نوع من التعليم ينبغي للآباء أن يُنشِئوا عليه أبناءهم؛ لا لأنه ضروري أو مفيد، بل لمجرد أنه نظري، وحسَن في ذاته» (أرسطو ١٩٦١م: ٣٣٧). وأما المبدأ الثاني فهو إدراك أرسطو أن تنظيم المعرفة في مباحث علمية ضروري وإن يكن يدعو للأسف؛ ومن ثَم اعتبر الفلسفة مجالًا عامًّا عالميًّا للبحث، قائلًا إنه المجال الذي يجمع شتى فروع العلم المختلفة، وهي فكرة الوحدة بين الدراسات المختلفة التي أثَّرت في تشكيل المباحث العلمية داخل الجامعات الحديثة. وهكذا فإن بواعثَ القلق — على نحو ما يقوله أرسطو بوضوح حول التخصص الضارِّ للمعارف — بواعثُ قلقٍ قديمةٌ قِدَم المباحث العلمية نفسها.
ولقد أثبتت التقسيمات الكلاسيكية للمعرفة متانتها ومرونتها بصورة باهرة على مدى القرون التالية، ولكن قُوى السوق والتغييرات المؤسسية أدت إلى تعديلها في آخر المطاف، فكان تطور المباحث العلمية وتدعيمها في العصر الحديث يرتبط ارتباطًا أساسيًّا بنمو الجامعات من ناحية، والتعقيد المتزايد للمجتمعات الأوروبية من ناحية أخرى؛ ففي أواخر القرون الوسطي، حلَّت بعض الجامعات في مدن أوروبية معينة — مثل ساليرنو، وبولونيا، وباريس، وكيمبريدج — محلَّ المدارس القروسطية (studia generalia)، فأصبح مصطلح «المبحث العلمي» يُطلَق على مهن معينة، مثل الطب والقانون واللاهوت، بسبب إدراك العلماء للحاجة إلى إقامة رابطة بين التعليم وبعض الغايات الاقتصادية والسياسية والكنسية (كلاين ١٩٩٠م: ٢٠). ولكن فكرة وطيدة كانت لا تزال قائمة، ومفادها أن التطور الذي أدى إلى نشأة المباحث العلمية [المستقلة] لم يكن تطورًا إيجابيًّا من جميع جوانبه؛ إذ إن الطلاب الجامعيين كان عليهم، حتى نهاية القرن الثامن عشر على الأقل، أن يدرسوا منهجًا أساسيًّا من المواد النظرية، المنقسِم إلى ثلاثية (trivium) (تضم المنطق والنحو والبلاغة)، ورباعية (quadrivium) (تضم الحساب والهندسة والفلك والموسيقى). وبعد ذلك كان عليهم أن يتخصصوا في كليات الطب أو الحقوق أو اللاهوت، وهو ما يشبه النظام الأمريكي الحالي الذي يتيح للطلاب أن يتخصصوا في موضوع معين. وكان المقصود بتطوير المباحث العلمية أن يشمل الإطار العام للجامعة باعتبارها جماعةً من الباحثين المتفقين فكريًّا بصفة أساسية، والواقع أن كلمة الجامعة university مشتقَّة من اللاتينية universitas، التي تعني «العام الشامل» أو «الكليَّ الجامع».
وتعرَّض معنى «العمومية الجامعة» للتهديد من جانب قيم التنوير، وهو حركة فكرية نشأت وانتشرت في طول أوروبا وعرضها في أواخر القرن السابع عشر وفي القرن الثامن عشر، وكانت راعية للتغيرات الثورية في الفن والعلوم الطبيعية والسياسة والفلسفة. وعلى الرغم من أن الفكر التنويري كان متعدد الجوانب، ومُركَّبًا من عدة عناصر؛ فمن الصحيح أن نقول بصفة عامة إن الفلاسفة في تلك الآونة كانوا يركِّزون تركيزًا شديدًا على تقدم المعرفة الإنسانية من طريق طاقات العقل والعقلانية، وكان هذا المسعى في طلب «العقل» يعتمد على وضع إجراءات ومنهجيات أشد وضوحًا داخل كل مبحث علمي، وزيادة التخصص في كل فرع معرفي، وهي تغييرات تجلَّت بأوضح صورة في العلوم الطبيعية وفي الرياضيات، وبهذه الدلالة كان الفكر التنويري يتداخل بل ويستند إلى «الثورة العلمية» التي حدثت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وكان يقودها علماء مثل كوبرنيق (Copernicus) وكبلر (Kepler) وجاليليو (Galileo) ونيوتن (Newton)، وهي التي قلَبتْ صورة النظام الطبيعي الذي أنشأه اليونان القدماء. وكانت الثورة العلمية قائمة على فكرتين جديدتين مهمتين؛ تقول الأولى إن الطبيعة آلة جيدة التنظيم، يمكن اختزالها في عدد صغير نسبيًّا من القواعد العامة العالمية التي وضعها البشر، وتقول الثانية بوضع منهج تجريبي يهدف إلى التعامل مع المشكلات في حدود معايير نوعية، قائمة على مناهج جديدة في الاستقراء والاستنباط، ابتغاءَ اختبار الفرضيات والأجهزة التجريبية الجديدة، مثل الترمومتر (مقياس الحرارة)، والميكروسكوب، والتليسكوب.
وهكذا أصبح هدف المبحث العلمي ضيقًا بالضرورة، ألا وهو وضع القوانين التي تشرح الظواهر الطبيعية في مجالاتها الخاصة، أي التي تقتصر مهمتها على تفسير جانب صغير من الواقع. وكانت ألوان التقدم المعرفي الهائل الذي أحرزتْه العلوم الطبيعية الجديدة بفضل تحديد شواغلها بهذه الصورة تمثِّل حُجة قوية في صالح استقلال المباحث العلمية. وأصبح نموذج العلم الطبيعي بالغ التأثير في التطور اللاحق لجميع المباحث العلمية. ولنا أن نعتبر هذه التنظيمات الفكرية جزءًا من المشروع التنويري الشامل لتنظيم المعلومات وتصنيفها، وهو مشروع يستند إلى أعمال سابقة حاولتْ وضع تصنيفاتٍ طَموحٍ للمعرفة، مثل كتاب الفكر المنهجي الذي وضعه ماتياس مارتيني (١٦٠٦م)، وكتاب إعادة البناء العُظمى للعلم (Instauratio magna scientarum)، الذي بدأه فرانسيس بيكون ولم يَنتهِ منه، ويقع في عدة مجلدات تهدف إلى «الشروع في إعادة بناء كاملة للعلوم والفنون والمعرفة الإنسانية كلها، يقوم على أُسس صحيحة» (بيكون [١٦٢٠م] ١٩٨٠م: ٢). وكان بيكون يرغب في أن يعيد تنظيم المباحث العلمية ودعمها، انطلاقًا من اعتقاده أن العلم ينبغي أن يكون مشروعًا جماعيًّا قائمًا على التبادل المنظَّم للمعارف فيما بين الباحثين الدارسين لموضوعات مماثلة، بحيث نتجنب تكرار النظريات والمكتشَفات تكرارًا يهدر الوقت.
وربما يكون أوضح ما يتجلى فيه المشروع التنويري لتقنين المعارف وتبويبها وضْع الموسوعات الحديثة باللغات المحلية (أي غير اللاتينية) في أوروبا في القرن الثامن عشر. وهكذا نرى أن هذه الموسوعات قد استندت إلى الإطار الذي وضعه مفكرون مثل مارتيني وبيكون — مثل الموسوعة التي وضعها إفراييم تشيمبرز بعنوان الموسوعة (Cyclopaedia) (١٧٢٨م)، ومثل الطبعة الأولى من دائرة المعارف البريطانية (Encyclopaedia Britannica) (١٧٦٨–١٧٧١م)، ومثل الموسوعة الفرنسية الشهيرة (L’Encyclopédie) (١٧٥١–١٧٨٠م)، التي حررها دنيس ديديرو (Diderot) — محاوِلةً أن تستنبط دلالات متَّسقة من التنوع المحيِّر في المباحث العلمية الجديدة. وتُعتبر الموسوعات، من عدة زوايا، نتاجًا مميزًا للفكر التنويري؛ إذ كانت تهدف إلى الجمع في مجلدات قليلة بين وحدة المعارف وتكاملها من ناحية، وبين تصنيفها ومنهجَتِها من ناحية أخرى. فعلى سبيل المثال، حاول عالم الرياضيات جان دالمبير (d’Alembert) في مقدمته أو تمهيده (Discours préliminaire) للمجلد الأول للموسوعة الفرنسية، الصادر عام ١٧٥١م؛ أن يقدم استقصاءً بالغ الطموح لشتَّى فروع العلم، هادفًا في الوقت نفسه إلى أن يبيِّن كيف أن هذه الفروع تشكِّل جزءًا من بناء شامل مترابط المعنى.
ولكن إعادة تشكيل المباحث العلمية، وخصوصًا النمو السريع للعلوم الطبيعية ونجاحها؛ لم يَعدَم الطاعنين فيه؛ إذ زعم المفكر الإيطالي جامباتستا فيكو (Vico) أن صعود نجم العلوم الطبيعية والرياضيات أدى إلى تجاهل التعليم الواسع النطاق لصالح المعرفة المتخصصة؛ إذ قال إن الطلاب إذا تعلموا «الإطار الجامع للعلوم والفنون، فلن يشعروا بالدافع إلى الدخول المتهور في مناقشات وهم لا يزالون يتعلمون، بل ولن يرفضوا — بروح العبيد الطائعين — قبول أي رأي ما لم يوافق عليه أحد المعلمين» (فيكو [١٧٠٩م] ١٩٦٥م: ١٩). ويزعم فيكو في كتابه العلم الجديد أن المعارف يبنيها البشر ولا تُكتشف في الطبيعة، وينتهي من ذلك إلى أن «العلوم الإنسانية»، مثل التاريخ والفلسفة والقانون، وهي التي تتناول البشر والمجتمع، وتستطيع تحقيق المعرفة والفهم «من الداخل»؛ أرقى من «العلوم الطبيعية» التي لا تستطيع إلا وصف الظواهر الخارجية في الطبيعة. وترتبط دعوة فيكو إلى الدراسة البينية بأشكال كثيرة أخرى من المنهج البيني الذي يناقشه هذا الكتاب؛ لأنَّها تمثل جزءًا من نقده لمَراتبيَّة المعرفة الجديدة التي كانت تزعم تفوُّق العلوم الطبيعية على مباحث العلوم الإنسانية. ولقد ظل سبب نجاح العلوم الطبيعية ثابتًا إلى حد كبير في القرون القليلة الماضية، ألا وهو قدرتها على تحديد نطاقها في مجالات معينة دقيقة التعريف وحالات منضبطة؛ ومن ثَم استطاعت تقديم نماذج ﻟ «المعرفة المفيدة» التي تتميز في الظاهر بوضوح أكبر، ودقة أعلى، وفعالية أشد. وكثيرًا ما تُعتبر الدراسة البينية داخل العلوم الإنسانية محاوَلةً للطعن في تفوق العلوم الطبيعية باعتبارها نموذجًا لتطور المباحث العلمية، وهو الذي يستند إلى الاعتقاد بأنها تستطيع الحصول على أشكال معرفية محايدة وموضوعية داخل مجالات بحوثها الخاصة.
ولكن معظم الجهود البحثية التي بُذلت حتى القرن التاسع عشر ابتغاءَ البتِّ في العلاقة فيما بين المباحث العلمية؛ كانت تلتزم بالرأي الأرسطي الذي يقول إن الفلسفة تتضمن وتتجاوز الأشكال المعرفية المتخصصة. فالواقع أن الفلسفة، في تطورها على امتداد آلاف السنين القليلة الماضية، كانت تضم مباحث علمية كثيرة ومختلفة، كُتِب لها منذ ذلك العهد أن تستقل، مثل علم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم الطبيعية، والرياضيات. ولا تزال هذه الصورة الفكرية غير محددة وذات نطاق بالغ الاتساع؛ إذ تجمع ما بين أفكار وأنشطة مختلفة، وليس لها موضوع محدد خاص بها، بل تَنحو نحوَ تقديم نوع من «الميتاتعليق»، أو قل تقديم شرح للنتائج التي يقدمها الباحثون لشتَّى الموضوعات، ولا تزال هذه الفكرة عن الفلسفة قائمة إلى اليوم في اسم الدرجة العلمية العالية، وهي دكتوراه الفلسفة، التي يظفر بها الباحث عند إكمال رسالة بحثية في أي موضوع. وعلى الرغم من أن الكثير من المفكرين قد بذلوا — ابتداء من القرن السابع عشر — محاولات بعيدة المدى لإعادة تنظيم المعارف؛ فإنهم كانوا يميلون إلى إقامة هذه التصنيفات على أساس اعتبار الفلسفة العلم العام العالمي الذي يوحد المباحث العلمية بعضها بالبعض. وكان أحد مؤسسي المنهج العلمي الجديد، وهو رينيه ديكارت (Descartes)، على سبيل المثال، يقول في كتابه مبادئ الفلسفة (١٦٤٤م) إن «الفلسفة عمومًا تشبه شجرةً جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزياء، وأغصانها المتفرعة من الجذع جميع العلوم الأخرى» (ديكارت ١٩٥٥م: ٢١١). وجاء أوغسط كونت (Comte) بعد ٢٠٠ عام، فأصدر كتابه بحث في الفلسفة الوضعية (١٨٣٠–١٨٤٢م)، وهو المفكر الذي نهض بدور مهم في نقل مناهج العلوم الطبيعية إلى العلوم الاجتماعية؛ إذ زعم في ذلك الكتاب أن الفلسفة لا تزال «الحكمة الإنسانية (Sapientia humana) التي تهدف إلى تحقيقها آخرَ الأمر جميعُ الأشكال المنفصلة للمعرفة» (كاسيرر ١٩٥٠م: ٩).
ويمثِّل عملُ المفكر الألماني عمانويل كانط (Kant) أهم تبرير متَّسق للحُجة القائلة بالمكانة المركزية للفلسفة؛ إذ بذل في نحو نهاية القرن الثامن عشر جهدًا دَءوبًا لوضع مراتب هرمية للمباحث العلمية الجامعية ليبيِّن كيف أن هذه المراتبية تتجلى فيها الأقسام الفطرية للمعرفة، والنُّظم الطبيعية للذهن الإنساني، ومن ثَم فهو يقول بضرورة التعامل مع المباحث العلمية باعتبارها منفصلة ومستقلة، قائلًا:

كل علم نظام قائم برأسه … وعلينا … أن نشرع في العمل فيه معماريًّا باعتباره مبنًى مستقلًّا منفصلًا، وينبغي أن نتعامل معه بصفته كلًّا ذا حياة ذاتية، لا باعتباره جناحًا أو قِسمًا من مبنًى آخر، وإن كنا نستطيع أن نقيم ممرًّا للذهاب والإياب ما بين الأجزاء بعضها والبعض.

(كانط [١٧٩٠م] ١٩٢٨م: ٣١)

ومع ذلك فهو يقول في دراسة له بعنوان «تصارُع المَلَكات الذهنية» (١٧٩٨م) إن «العقل» يعمل باعتباره القيمة النهائية التي تتجاوز تقسيمات المباحث العلمية، وإن منزله الطبيعي داخل الجامعة يقع في المَلَكة الذهنية «الدنيا» للفلسفة؛ إذ تختلف عن المَلَكات «العليا» للاهوت والقانون والطب في أن الفلسفة تفتقر إلى مضمون محدد، ولا تعتمد في وجودها على سلطة عليا، كالكتاب المقدس، أو اللوائح القانونية، أو البحوث الطبية. وهكذا فلها أن «تستخدم حكمها الخاص فيما تُعلِّمه … وبناءً على هذا فإن الحكومة تحتفظ لنفسها بالحق في إقرار تعاليم المَلَكات العليا، وأما المَلَكة الدنيا فتتركها لعقل الدارس». وكان كانط يرى أن وجود مثل هذه الملكة أمر جوهري، فهي «لا تملك أي أوامر تصدرها، وهي تتمتع بحرية التقييم، وتشغل نفسها بما هو في صالح العلوم، أي بالحقيقة» ([١٧٩٨م] ١٩٩٢م: ٢٧–٢٩). وقد سمح هذا التنظيم للعمل الجامعي، وتقسيم الملكات إلى ملكات «عليا» وملكات «دنيا»، وإضفاء الامتياز على الفلسفة باعتبارها نشاطًا لا مضمون له ولا قيود عليه؛ للفيلسوف كانط بالحفاظ على المثَل الأعلى للمعرفة الموحَّدة داخل واقع التخصصات الجامعية التي ما انفكَّت تزداد تخصصًا.

وأثَّرت أفكار كانط عن التعليم الجامعي في جيل لاحق من الفلاسفة الألمان، كان من بينهم فريدريش شيلر (Schiller)، وفيلهلم فون همبولت (Humboldt)، ويوهان فيخته (Fichte). وكانت هذه المجموعة من الباحثين من وراء تشكيل التعليم الجامعي العلماني الخاضع لسيطرة الدولة، والموجَّه نحو البحوث في بروسيا في أوائل القرن التاسع عشر، وهو الذي أصبح النموذج الأوَّلي للتعليم الجامعي في أوروبا وأمريكا الشمالية؛ إذ قام شيلر في محاضرته الافتتاحية بجامعة يينا (Jena) عام ١٧٨٩م بوضع أساس فكرة التربية والتعليم (Bildung) — وهي القاعدة التربوية والتعليمية العريضة التي تسهم في التنمية الشاملة للذهن — في مقابل الدراسة المهنية (Ausbildung) التي تؤهل الدارس لمزاولة مهنة معينة. وأما همبولت وفيخته وغيرهما فقد استندوا إلى هذه الأفكار، وأقاموا رابطة بينها وبين مفهوم العلم (Wissenschaft)، والمصطلح الألماني تصعب ترجمته؛ لأنه يشير أساسًا إلى نمط شامل من التربية والتعليم الذي يغرس في الطالب المبادئ الإنسانية، وينمِّي الشخصية كلها للفرد لا ذهنه فقط. وهكذا يقول همبولت إن وظيفة الجامعات أن «تفتح كيان العلم كله، وتنشر مبادئه، وتضع أسس المعارف كلها» (ليوتار ١٩٨٤م: ٣٣).
ولكن هذا المثل الأعلى لنمط التربية والتعليم غير المتخصص لم يلبث أن واجه تهديدًا من جانب فصل العلوم الطبيعية عن مجالات المعرفة الأخرى داخل النظام الجامعي الذي تزداد جودة تنظيمه ويزداد طابعه المهني؛ فقد كانت كلمة العلم (science) حتى العقود الأولى من القرن التاسع عشر تُستخدَم بالتبادل مع كلمة «الفلسفة»، بحيث تعني جميع أشكال المعرفة لا فروعًا معينة منها. ومنذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أصبحت كلمة العلم تعني العلوم الطبيعية تحديدًا (the natural sciences)، وغدت تتميز بوضوح عن الفلسفة في الاستعمالَين الأكاديمي والعام. واتضح نجاح العلوم الطبيعية باعتبارها كيانات معرفية مستقلة داخل الجامعات عندما كثرت الأصوات التي تطالب العلوم الاجتماعية، بل وبعض مباحث العلوم الإنسانية، بأن تشكِّل ذواتها وفق نماذج صُلبة ودقيقة من العلوم الطبيعية. وكان كونت، واضع مصطلح «علم الاجتماع» في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، يقول بضرورة «استكمال العملية الفكرية الشاسعة الأبعاد التي بدأها بيكون وديكارت وجاليليو» من خلال تطبيق المنهج العلمي على مجالات المعرفة الأخرى ([١٨٣٠–١٨٤٢م] ١٩٧٤م: ٣٩)، مشيرًا إلى المشكلات الناشئة من «الفصل بين مجالات العمل الذهني»، وملمحًا إلى إمكان وضع فلسفة عامة «بهدف اختزال المعارف المكتسَبة كلها في كيان واحد متجانس من المبادئ» (كونت [١٨٣٠–١٨٤٢م] ١٩٧٤م: ٣٩، ٥١-٥٢). ولكنه كان يزعم أيضًا أن العلوم الطبيعية المستقلة تتطور وفق المنطق الخاص بها، وأن التقسيمات الفكرية «يمكن التوسع فيها بلا أية أضرار وفق ما يقتضيه تطوير المراتب المتنوعة للمعرفة» (كونت [١٨٣٠–١٨٤٢م] ١٩٧٤م: ٣٠). وكان هذا الاعتقاد، أي الإيمان بالحاجة إلى استخدام مناهج العلم الطبيعي وإجراءاته المحددة بوضوح في غير العلوم الطبيعية؛ عاملًا قويًّا في تطور العلوم الاجتماعية الجديدة، والمباحث العلمية في الإنسانيات، مثل العلوم السياسية والاقتصادية، وعلم الاجتماع، واللغة الإنجليزية واللغات الحديثة وآدابها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

وأدى انتشار هذه المباحث الأكاديمية في هذه الفترة إلى إثارة بواعث قلق بشأن زيادة التخصص، خصوصًا بين الفلاسفة من ذوي الميول التأملية الواسعة التأثير، فكان المفكر الألماني فريدريش نيتشه ذا وعي شديد بالصور التي ترتبط بها هذه التشكيلات الجديدة للمعارف بقضايا السلطة والمصالح الذاتية؛ إذ هاجم في مقال له بعنوان «نحن الباحثين» سطوع نجم المباحث العلمية، قائلًا إنها نتاج خاص للنشاط البحثي الجامعي الذي كان خاضعًا للتأثير الألماني، والذي أدى إلى إحلال الباحث العلمي محل الفيلسوف، مؤكدًا أن «إعلان استقلال رجل العلم، وتحرره من الفلسفة، يُعتبر من الآثار الدقيقة للحياة الديموقراطية وافتقارها إلى شكل مميز، فالباحث العلمي اليوم يمجِّد ذاته، ويَدَّعي ما ليس له، وهي ظاهرة تفتحت براعم زهرها، وازدهت في بهجة ربيعها» (نيتشه [١٨٨٦م] ١٩٩٠م: ١٢٩).

وكان نيتشه يُبدي شكوكه الكبرى فيما يُزعَم من أن المباحث العلمية قد حققت معارف موضوعية من خلال تحديد نطاق عملياتها؛ إذ كان يرى أن الباحث المتخصص لا يهتم بالمعرفة لذاتها بقدر ما يهتم بالصعود على درجات سُلَّم الحياة العملية في مجتمع يزداد طابعه البيروقراطي والمهني، ناشدًا «سطوع شمس اللقب الرنَّان، والتوكيد الدائم لقيمته ونفعه، وهما العاملان اللذان يحاول بهما أن يتغلب مرارًا وتكرارًا على انعدام الثقة الباطنة، وهي الثمالة الراسبة في قلب كل تابع لغيره وجميع قطعان الحيوان» ([١٨٨٦م] ١٩٩٠م: ١٣٣). وكان نيتشه ينعى بصفة خاصة تدهور الفلسفة باعتبارها نشاطًا لا يرتبط بمبحث معين، قائلًا إنه على الرغم من أن المهمة الحقيقية للفيلسوف تتمثل في «تقصِّي النطاق الكامل للقيم الإنسانية ومشاعره المرتبطة بها» فإنه يتحول الآن إلى مجرد عالم آخر، وهو الذي «سوف يسمح لمساره بالتوقف في مكان ما حتى «يتخصص»؛ ومن ثَم لن يتمكن في يوم من الأيام من تحقيق الطول الجدير بقامته، وهو ارتفاع الهامة الذي يمكِّنه من الاستشراف، ورؤية ما حوله، وإدراك ما يقع من تحته» (نيتشه [١٨٨٦م] ١٩٩٠م: ١٣١، ١٤٢).

وقد كتب الفيلسوف الإسباني خوزيه أورتيجا إي جاسيت (José Ortega y Gasset) في عام ١٩٣٠م كتابًا يحكي فيه حكاية مماثلة عن تدهور المعرفة الشاملة بانحصارها في تخصصات ضيقة، قائلًا إننا كنا نستطيع في الماضي التمييز بسهولة بين المتعلمين والجهال، لكننا نشهد اليوم فئة جديدة تضم «المتعلم الجهول … وهو شخص لا يتَّسم بصفات الجاهل، بل بالنَّزَق الكامل للمتعلم في تخصص من التخصصات» (أورتيجا [١٩٣٢م] ١٩٥٧م: ١١٢)، مضيفًا أن هذا النوع الجديد من المتعلمين، وهو الذي رسخت أقدامه رسوخًا كاملًا بحلول عام ١٨٩٠م؛ شخص يقتصر علمه على موضوع واحد، ويرفض أية محاولة للنظر فيما وراء مجال تخصصه باعتباره من الهوايات (أورتيجا [١٩٣٢م] ١٩٥٧م: ١١٠). وكان يرى، مثل نيتشه، أن تواضع المستوى، والالتزام بالأعراف السائدة، اللذين تكرِّسهما المباحث العلمية الجديدة؛ من أعراض ظاهرةٍ أعمَّ وأشمل، ألا وهي انتصار الجماهير في المجتمعات الرأسمالية الغربية التي يزداد فيها سطوع نجم النُّخب المتميزة (meritocratic).٣ ومزيَّة الفلسفة باعتبارها نشاطًا لا ينتمي لمبحث متخصص، كانت في نظر أورتيجا ترجع إلى استحالة إدراجها في أية نُظم بيروقراطية جديدة، وإلى أنها «لا تحتاج إلى الحماية أو الاهتمام أو التعاطف من جانب الجماهير، فهي تحافظ على طبيعتها التي تنفي أي نفع عملي لها؛ ومن ثَم تحرر نفسها من أي خضوع للشخص «المتوسط»» (أورتيجا [١٩٣٢م] ١٩٥٧م: ٨٦).

ومهما يظهر من انتماء نيتشه وأورتيجا اليوم إلى المذهب النخبوي، فإن حُجتيهما تمسَّان قضايا بالغة الأهمية حول تطور المباحث العلمية، فعلى نحو ما يقولان لم يكن ذلك التطور نتيجة موضوعية لضروب التقدم في المعرفة وحسب، بل كان أيضًا ناجمًا من عوامل مؤسسية ومجتمعية، وخصوصًا ظهور الحاجة إلى المتخصصين في مجتمع معقد يتسم بتكنولوجيا معقدة. والمعروف أن أحد العناصر الأساسية في هذا المجتمع تقسيم العمل في إطار جهاز بيروقراطي يزداد طابعه المهني، وكان نجاح المباحث العلمية يعتمد في جانب منه على اعتراف الحكومات والأعمال التجارية بها، باعتبارها شكلًا من أشكال التأهل للحياة العملية للمتخصص في أحدها، وكانت وظيفتان من وظائفها الرئيسية (١) إعداد الأشخاص لمزاولة مهن تتطلب نوعًا معيَّنًا من الخبرة، و(٢) إضفاء المشروعية والمكانة اللائقة على هذه المهن، من خلال توفير المؤهلات الأكاديمية لممارسيها.

وإلى جانب هذه المؤثرات الخارجية، كانت طبيعة الجامعة باعتبارها مؤسسة مغلقة نسبيًّا عاملًا أسهمَ في تدعيم المباحث العلمية [المستقلة]. وكان ظهور موضوع أكاديمي جديد دائمًا ما يعتمد في جانب منه على عوامل داخلية، أي على اعتراف صفوة الجامعات به من خلال إنشاء أقسام علمية مستقلة، ووجود عدد كافٍ من الطلاب والمحاضرين المعيَّنين لدراسة الموضوع الجديد وتدريسه، ونشأة جمعيات ومجلات علمية حوله، ووضع أبنية للحياة العلمية في إطاره، وهو ما كان يستند عادة إلى الحصول على درجة دكتوراه في الفلسفة خاصة بالموضوع الجديد. أضف إلى ذلك أنه لما كانت أمثال هذه المباحث العلمية متأثرة بأمثال هذه العوامل المؤسسية، فإنها كانت ولا تزال تميل، مثل الكثير من المؤسسات، إلى أن تكفل البقاء لذاتها. وبحلول أوائل الستينيات، قرأنا وصفًا وضعه ب. ر. كلارك يصف فيه المباحث العلمية وصفًا أنثروبولوجيًّا، قائلًا إنها قبائل منفصلة لها ثقافات ولغات مختلفة:

نادرًا ما يزور أفراد قبيلة علم الاجتماع أرض الفيزيائيين، ولا يكادون يعرفون ما يفعله الفيزيائيون فيها. فإذا خطا علماء الاجتماع في المبنى الذي يشغله قسم اللغة الإنجليزية وآدابها، فسوف يواجهون حملقة العيون الباردة إن لم يتعرضوا أيضًا لسهام أبناء البلد المعادين لهم … فالمباحث العلمية قائمة مثل الدول المنفصلة، ولها ثقافاتها الفرعية المميزة لها.

(بيتشر ١٩٨٩م: ٢٣)

ولا تزال شكوى كلارك من الشكاوى الشائعة؛ إذ تقول إنه ما إن تُرسِّخ المباحث العلمية أقدامها حتى تصبح لديها حقوق مكتسبة، وتدافع عن أرضها، وتدعم طابعها الحصري بأنماط معينة من الخطاب. ومصطلح «الخطاب» مصطلح مركَّب يُستخدَم بطرائق منوعة داخل العلوم الإنسانية والاجتماعية، وسوف يرد كثيرًا في هذا الكتاب، ولا بُد من تعريفه تعريفًا تمهيديًّا. نشأ المصطلح في علم اللغة [اللغويات] للدلالة على القول بأن اللغة عملية جماعية، تبنيها وتضع قيودها أنساقٌ وأعراف اجتماعية، ويُستعمَل بصفةٍ أعمَّ وأشمل للإشارة إلى نهج فكري، أو ممارسة ثقافية، أو إطار مؤسسي يفسر العالم ويبنيه، وكثيرًا ما يكون ذلك من خلال منظور متحيز لجماعة معينة ذات مصلحة. وهكذا نرى أن حُجة كلارك تقول إن المباحث العلمية تمثل أبنية «خِطابية» [أي فكرية] واضحة، ما دامت ترتيباتها السلطوية تسمح بطرائق معينة في التفكير والعمل، وتستبعد غيرها.

تعريف المباحث العلمية البينية

يُعتبر نقد المباحث العلمية الأكاديمية القائل — كما ذكرت آنفًا — بأنها محدودة، وتفرض حدودًا معينة؛ نقدًا قديمًا قِدم المباحث العلمية نفسها. وكثيرًا ما كان هذا النقد يتخذ من الزاوية التاريخية شكل الإحالة إلى صورة قديمة موحدة للمعرفة، عادة في إطار موضوع غير متخصص، مثل الفلسفة. ونشأ مصطلح «المنهج البيني» [البينية] داخل إطار بواعث القلق المذكورة حول تدهور الأشكال العامة للتربية والتعليم. وقد استُعمل للمرة الأولى في العلوم الاجتماعية في منتصف العشرينيات من القرن العشرين، ثم شاع استعماله في العلوم الاجتماعية والإنسانيات في الفترة التالية مباشرة للحرب العالمية الثانية (فرانك ١٩٨٨م: ٩١، ٩٥). ومع ذلك فإن إحدى الحجج التي يقدمها هذا الكتاب تقول بوجود دافعَين متضاربين متنافسين من وراء هذا المصطلح؛ فمن ناحية معينة، كان المصطلح يشكل جانبًا من هذا البحث التقليدي عن المعرفة الشاملة الواسعة النطاق، ومن ناحية أخرى يمثل تساؤلًا جذريًّا عن طبيعة المعرفة نفسها، وعن محاولاتنا لتنظيمها وتوصيلها. وبهذا المعنى يرتبط المنهج البيني بشواغل نظرية المعرفة — أي دراسة المعرفة — ويميل إلى أن يتركز في المشكلات والقضايا التي يستعصي التصدي لها أو حلها داخل أُطر المباحث العلمية القائمة، لا في السعي لوضع تركيب عام شامل لها.

وكما يقول جيفري بننجتون (Benington)، نرى أن البادئة الإنجليزية inter [بين] بادئة غامضة لها دلالتان، أولاهما الدلالة على الاتصال بين أشياء معينة أو الربط بينها، كما في الصفة international [الدولي، أي ما بين الدول بعضها والبعض] أو الاسم intercourse [أي التفاعل أو الجماع بين شيئين أو أشياء]. وثانيهما الدلالة على الانفصال والفصل بين الأشياء، كما في الاسم interval [أي الفاصلة]، أو في الفعل intercalate [أي: يُدرِج أو يُدخِل] (بننجتون ١٩٩٩م: ١٠٤). وهذا الغموض يتجلى إلى حد ما في الطابع المراوغ لمصطلح «البينية»؛ إذ يمكن أن يعني وضع روابط ما بين المباحث العلمية المختلفة، ويمكن أن يعني إقامة مسافة لا تنتمي لمبحث علمي بعينه — مسافة من نوع ما — في الفراغات البينية (interstices)، أي فيما بين هذه المباحث، بل وقد يعني محاولة تجاوز حدود المباحث العلمية تمامًا. ويُعتبر غموض المصطلح السبب الذي حدا ببعض النقاد، إلى حد ما، إلى اقتراح مصطلحات أخرى، مثل «ما بعد المبحث العلمي»، و«ضد المبحث العلمي»، و«عبر المبحث العلمي». وعلى الرغم من أن هذه المصطلحات كثيرًا ما تفتقر إلى التعريف الدقيق، وأحيانًا ما تُستخدم باعتبارها مترادفات، فإنها جميعًا تدل على أن الطابع البيني ليس كافيًا تمامًا، وعلى وجود مرحلة فكرية أخرى دائمة يمكن فيها التغلب الجذري على تقسيم المباحث العلمية أو حتى إزالتها. وهكذا فلن أواصل الانتقال في هذا الكتاب بين هذه المصطلحات المختلفة، بل أقول إن قيمة مصطلح «البينية» تكمن في مرونته وعدم تحديد معناه، وإن لدينا عددًا من أنواع البينية وأشكالها يقارب عدد المباحث العلمية نفسها. وقد يعني هذا أن القول بغير هذا يضفي «الانضباط» عليها، أي يَقصُرها على مجموعة من السبل النظرية والمنهجية «الصحيحة». وهكذا ففي إطارِ أوسعِ معنًى ممكن للمصطلح أقول إنني أعني بالبينية أيَّ شكل من أشكال الحوار أو التفاعل بين مبحثين علميين أو أكثر، فأما مستوى هذا التفاعل ونوعه والغرض منه وتأثيره، فهو ما لا بد من فحصه.
بَيد أنه من المفيد أن نبدأ بالتمييز بين مصطلحَي «المنهج البيني» و«منهج تعدد المباحث»، وهما المصطلحان اللذان أحيانًا ما يُعتبران مترادفين، مما يتسبب في بعض التشويش. أما المنهج الأخير فيشير إلى تجاور مبحثين علميين أو أكثر وحسب، على نحو ما يحدث في بعض درجات الشرف الجامعية المشتركة، أو الدرجات الجامعية المشتركة في الآداب، أو مثل ما يحدث عندما يقوم بتدريس مادة علمية معينة عددٌ من الأساتذة المتخصصين في مباحث علمية مختلفة، فالعلاقة بين المباحث هنا علاقة مقصورة على التقارب؛ إذ لا يوجد تكامل حقيقي بينها (كلاين ١٩٩٠م: ٥٦). وعلى العكس من ذلك، أقول — مع رولان بارت — إن المنهج البيني منهج تحويلي دائمًا على نحو ما؛ إذ ينتج أشكالًا معرفية جديدة من خلال اشتباكه مع المباحث العلمية المنفصلة:

ليست البينية هدوء أمن ميسور؛ فهي تبدأ فعليًّا (على عكس مجرد التعبير عن أمنية صادقة) عندما ينهار تضامن المباحث العلمية القديمة … لصالح هدف جديد ولغة جديدة لا يوجد أي منهما في مجال العلوم التي كان ينبغي الجمع بينها جمعًا سلميًّا، وهذه الصعوبة في التصنيف هي على وجه الدقة نقطة الانطلاق التي يمكن أن تتيح تحولًا معينًا في الشكل.

(بارت ١٩٧٧م: ١٥٥)

يقول بارت إن لدى البينيةِ القدرةُ على أن تفعل ما يزيد على مجرد الجمع بين المباحث العلمية المختلفة؛ إذ يمكنها أن تشكِّل جزءًا من نقد عام للتخصص الأكاديمي بصفة عامة، ولطبيعة الجامعة باعتبارها مؤسَّسة تقطع وشائجَها بالعالَم الخارجي، وتقتصر على جُزر صغيرة من الخبرات. وكثيرًا ما تثير المداخلُ البينية الانتباه، إما صراحةً وإما ضمنًا، إلى الحقيقة القائلة بأنَّ ما يُدرَس ويُدرَّس داخل الجامعات مسألةٌ سياسية في جميع الأحوال.

وعلى نحو ما توحي به الطبيعة المُركَّبة لمصطلح البينية نفسه، نجد أنه يتمتع بوجود المباحث العلمية نفسها ومرونتها ومتانتها باعتبارها نماذج فكرية وممارسات مؤسسية؛ ومن ثَم فسوف يضرب هذا الكتاب بجذوره في الوعي بتاريخ مباحث علمية معينة، ونظرياتها، ومنهجيتها، وموضوعاتها؛ وسوف يهدف إلى أن يستكشف الأسلوب الدقيق للجمع بين هذه المباحث العلمية، وتحول أشكالها أو تجاوزها بصور مختلفة من البينية، والكشف عن الأشكال الجديدة من المعارف التي تخلقها هذه التفاعلات. وأنا أفحص في الفصل الأول تاريخ دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها باعتبارها مبحثًا علميًّا، حتى أبين أنها كانت دراسة يدفعها على الدوام دافعان متنافسان، يهدف الأول إلى أن يجعلها مبحثًا علميًّا «صُلبًا» بتحديد مجال اهتمامها، وقصْره على ظاهرة معترَف بها، وهو «الأدب»، ويهدف الثاني إلى أن يجعلها مركزًا بينيًّا للإنسانيات، حتى يحل محل الموضوعات الإنسانية القديمة، مثل المواد الكلاسيكية [اليونانية واللاتينية] والفلسفة. ويناقش الفصل الثاني دور النموذج الجديد للدراسات الثقافية في إعادة تعريف فكرة «الثقافة»، وتوسيعها باعتبارها موضوع الدراسة الأكاديمية، وتأثيرها النقدي في طبيعة المعرفة المتخصصة والبينية. ويفحص الفصل الثالث «النظرية» باعتبارها معرفة لا تنتمي لمبحث علمي متخصص، والاشتباك المثمر بين الأدب والفلسفة والتحليل النفسي، وهو الذي أدَّى إلى انفتاح مسائل بينية حول اللغة، والذاتية، والعلاقة بين الجنسين، والحياة الجنسية، والجسد. ويحلل الفصل الرابع التطورات الأخيرة في نقاط التلاقي بين الدراسات الأدبية والتاريخ باعتبارها جزءًا من القصة الطويلة للعلاقة الإشكالية بين المبحثين العلميين. ويلقي الفصل الخامس الضوء على محاولات إقامة علاقات بين العلوم الطبيعية والجغرافيا والنقد الثقافي فيما يتعلق بقضايا الجسد والتكنولوجيا، والفضاء، ورسم الخرائط، وعلم الوراثة، والبيئة. وأخيرًا تناقش الخاتمة بعض مشكلات المنهج البيني وأوجُه قصوره، وتضع خطوطًا عريضة لأحدث التطورات في الدراسات البينية للإنسانيات.

وليس القصد من تناول هذه الموضوعات في فصول فردية أن ينفصل بعضها عن بعض؛ فطبيعة الامتزاج الفكري والتداخل الموضوعي للمنهج البيني يعني أنه من المحال فصلها فصلًا نهائيًّا وحجْرها عن غيرها، ولكن الكتاب بتنظيمه المناقشةَ على هذا النحو يهدف إلى تقديم تمهيد لشتى المداخل التي تُلقي الضوء على نطاق الدراسة البينية وإمكاناتها. فإذا اختار أحد الطلاب الجامعيين اليوم أن يطَّلع على المدى الواسع للمواد الدراسية المتاحة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، فربما أدهشه مدى التداخل فيما بينها، ومدى التكرار في النظريات وفي الأُطر الفكرية، وفي المصطلحات وفي النصوص؛ إذ إننا، كما يقول عالم الأنثروبولوجيا كليفورد جيرتز (Geertz)، نعيش اليوم في عصر «أنواع مُشوَّشة»، و«اختلاط ضروب مُنوَّعة من الخطاب»، ويزداد في داخلها صعوبة التمييز بين المباحث العلمية (١٩٨٣م: ٢٠). ويمثل هذا الكتاب محاولة لشق طريق داخل بعض الخلط المحتوم، الناشئ من التشويش المذكور للأنواع من دون المساس بقيمة التنوع والتركيب اللذين تتَّسم البينية بهما بالضرورة.
١  لم أجد خيرًا من هذا اللفظ العربي للدلالة على تلاقي الدلالتين بالعربية؛ فالأدب كان يعني العلم يومًا ما، ومؤدِّب الصِّبْية: معلِّمهم، كما أن التأديب معناه التربية الأخلاقية السامية («أدَّبني ربي فأحسنَ تأديبي»)، وديوان الأدب للفارابي كتاب في علم اللغة، والتأديب يعني أيضًا فرض الانضباط ومعاقبة المخطئ، والتاريخ حافل بحملات التأديب للعصاة، و«مجالس التأديب» المعاصرة تحمل هذه الدلالة أيضًا.
٢  كلمة disciple المشتقَّة من اللاتينية تعني التلميذ، وجمعها التلاميذ في السياق الديني (تلاميذ المسيح)، وهم «الحواريون» في القرآن.
٣  meritocracy: مصطلح وضعه عالم الاجتماع البريطاني م. يَنْجْ عام ١٩٥٧م (١٩١٥–٢٠٠٢م)، ويعني إما النخبة الفكرية القائمة على الإنجاز الأكاديمي، وإما النظام القائم على تمتع هذه النخبة بمكانة خاصة، مثل احتلال مواقع القيادة. وعنوان الكتاب «صعود النخبة الفكرية الحاكمة» (The Rise of the Meritocracy)، والترجمة في المتن تقدم المعنى المقصود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤