الخاتمة

المنهج البيني اليوم
كان هذا الكتاب يهدف، حتى هذه اللحظة، إلى توكيد بعض المزايا والفرص المتاحة في المداخل البينية؛ إذ تستطيع الطعن في نُظم الفكر المتحجِّرة التي عفَا عليها الزمن، ووضْع نظريات ومنهجيات جديدة وتجديدية، تسمح للمباحث العلمية القائمة بالانفتاح على منظورات جديدة، كما يمكنها مساعدة الناس على التفكير بأسلوب إبداعي أصدق في العلاقة بين الموضوع الذي تخصصوا فيه، وبين أساليب العمل الأخرى داخل الجامعات وخارجها. ولكن الكتاب يعترف أيضًا باحتمال وجود مشكلة تتعلق بافتراض أن النهج البيني لديه جميع الإجابات، وأنه يستطيع بسهولة تجاوز حالات الإقصاء وأوجُه القصور في المباحث العلمية التقليدية. وكان مدخلي حتى الآن تاريخيًّا، إلى حد كبير؛ إذ عكفتُ على النظر في أسلوب تطور هذه الأفكار عن البينية في الإنسانيات في العقود القليلة الماضية. أما في هذه الخاتمة فأود أن أناقش بعض المنظورات البينية الأقرب عهدًا، مع التركيز بصفة خاصة على الدراسات الأدبية. لا مِراء إطلاقًا في أن البينية — إذا اقتبسنا ألفاظ الناقد المتخصص في دراسات «ما بعد الاستعمار»، وهو جراهام هجان، (Huggan) — «مصطلح تحفُّه المخاطر بقدر ما أصبح موضة» (٢٠٠٢م: ٢٥٥). ولكننا يمكن أن نستشفَّ في السنوات الأخيرة رِدَّة صغيرة في الإنسانيات ضد النهج «البيني»، أو على الأقل رغبة في فحص مزاعمه بدقة أكبر حتى يصبح أعلى إبداعًا من الزاوية الفكرية، وأشد «تعدِّيًا» من العمل التقليدي في المباحث العلمية المتخصصة. ويشكو أحد أساتذة الدراسات الدينية، وهو روبرت سيجال (Segal)، مثلًا، قائلًا إن «الكلمة [أي البينية] أصبحت تتردد كأنها شعار أو تعويذة … وأصبح المفهوم من حقوق الإنسان … ويجري عرض البينية … وترويجها باعتبارها المعادل الفكري للبنسلين» (٢٠٠٩م: ٢٤).

نقد المنهج البيني

كان بِل ريدنجز (Readings) في كتابه أطلال الجامعة (١٩٩٦م) من بين أوائل الذين طعنوا في المزاعم الطَّموح المرتبطة بالمنهج البيني، وقبول عدد كبير لها من العاملين في المباحث العلمية للإنسانيات. ويرتبط انتقاد ريدنجز للبينية بحجته الشاملة التي تقول إن الجامعة المعاصرة في الغرب أصبحت «شركة بيروقراطية متعددة الجنسيات»، ينظِّمها غرض الربح وفكرة خاوية خواءً كاملًا عن «الامتياز» (ريدنجز ١٩٩٦م: ٣). ويقول إن الطابع الضبابي للمصطلح — «البينية» — وقبوله لاتخاذ أشكال مختلفة، يعني أنه يمكن الاستيلاء عليه بسهولة تحقيقًا لأهداف الجامعة الموجَّهة إلى السوق، قائلًا «يمكننا أن نكون بينيِّين باسم الامتياز؛ لأن الامتياز لا يحفظ إلا الحدود القائمة سلفًا بين المباحث العلمية، بشرط ألا تقدم طلبًا أكبر يتمثل في تمثيل النظام كله، ولا تقيم أية عراقيل في طريق نموه وتكامله» (ريدنجز ١٩٩٦م: ٣٩).
أي إن ريدنجز يقول، بعبارة أخرى، إن البينية ترتبط بميزانيات إدارة الجامعات ومرونتها في الاستجابة لطلبات الأسواق، مثلما ترتبط بالأهداف الرائعة للحوار والتعاون الفكري، ما دام ضم الأقسام العلمية بعضها إلى بعض في برامج بينية يمكن أن يُعتبر شكلًا من أشكال تقليل الحجم وخفض التكاليف (ريدنجز ١٩٩٦م: ١٩١). كان ريدنجز يقوم بالتدريس في جامعة مونتريال، وكان يكتب ما كتب في سياق تقليص أقسام الإنسانيات في جامعات أمريكا الشمالية. وكان هال فوستر (Foster)، الذي كتب ما كتب في وقت ما كتبه ريدنجز، ولكن من منظور الولايات المتحدة؛ يشير مثله إلى الطرائق التي تتيح لبعض رجال الإدارة في الجامعات «السعي لتقديم مشروعات بينية باعتبارها برامج لتحقيق فعالية التكاليف» (١٩٩٦م: ٢٨٠). وتقول حجته إننا نحتاج إلى أن نقبل حتمية المعارف التي تقدمها المباحث المتخصصة قبل أن نحاول أن نتخطاها، وإلا كان من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى مشاجرة فكرية عامة، لا إلى أشكال بحثية تفتح أمامنا طرقًا جديدة:

كانت لدينا، قبل عقدين فقط، تقاليد مباحث علمية بالغة الصرامة، لم نكن نرى غير رجال شرطة علمية! لم يعد الحال اليوم كما كان؛ إذ إن جانبًا كبيرًا من العمل الذي يُزعَم اليوم أنه من المباحث العلمية البينية لا ينتمي في نظري إلى المباحث العلمية على الإطلاق، فتحقيق المبحث العلمي البيني يتطلب تحقيق خصائص المبحث العلمي أولًا، أي التركيز على أسس مبحث علمي واحد، وحبذا لو كانت أسس مبحثين، كي يحيط المرء بالطابع التاريخي للخطاب الخاص بكلٍّ منهما قبل أن يختبر أحدهما بمقياس الآخر. ولكن عددًا كبيرًا من الشباب يُقبِل اليوم على المبحث البيني قبل ممارسة أي مبحث علمي. وكثيرًا ما يقعون بسبب ذلك في فخ الانتقائية، أي عدم القيام بعمل يُذكَر في أي مبحث علمي واحد، وذلك أَدعَى إلى إهدار طاقة مجال معين، لا تمكينها من تجاوزه.

(فوستر ١٩٩٨م: ١٦٢)

أي إن ريدنجز وفوستر لا يهاجمان المنهج البيني في ذاته، بقدر ما يهاجمان الزعم بأنه راديكالي أو تجديدي في ذاته، وقادر على تجاوز طبيعة الجامعة باعتبارها مؤسسة اقتصادية وسياسية. ووَفْق الحجة التي أسعى إلى تقديمها في هذا الكتاب، لا يوجد ما يُسمى المعرفة غير المنضبطة أو التي لا هيكل لها، ولا شك في فائدة إشارة ريدنجز وفوستر إلى الاستثمارات المؤسسية للمنهج البيني، أي كيف يشارك في بناء المراتبيات الأكاديمية التي يهدف إلى نقدها.

يقول ريدنجز وفوستر إن الدراسة البينية تمثل مستقبل الجامعة. ويقول ريدنجز إن البينية قد انتصرت فعلًا في معاركها الفكرية والمؤسسية نصرًا حاسمًا، وإن «هيكل المباحث العلمية المستقلة قد بدأ يتشقق تحت ضغط مقتضيات الأسواق»، وإن المستقبل المباشر للجامعة سيتمثل في «إنشاء قسم عام للإنسانيات يزداد طابعه البيني، وسط عنقود من المدارس المهنية الفرعية» (ريدنجز ١٩٩٦م: ١٧٤). ويُعتبر هذا أيضًا جزءًا من حجة ريدنجز الشاملة عن الدور الذي يلعبه السوق في الجامعة المعاصرة من حيث هدم الأبنية المؤسسية والحكومية القائمة.

وأما حجج ريدنجز بشأن ما يسميه انهيار الجامعة «القومية» في عصر الرأسمالية الاحتكارية العالمية، فقد تنطبق بدقة أكبر على النظام الجامعي الأمريكي منها على نُظم الجامعات القومية في بعض البلدان مثل بريطانيا وأستراليا، حيث لا تزال الروابط بالشركات التجارية أقل أهمية من التمويل الحكومي. ويشير كل من ريدنجز وفوستر إلى عامل مهم كان هذا الكتاب يدور حوله وحسب إلى الآن، ألا وهو وجود طابع سياسي للمنهج البيني لا يقتصر على الجانب الفكري؛ فالتدريس والبحث الأكاديمي لا يحدثان في فراغ سياسي، والجامعات مؤسسات إقليمية، والأكاديميون العاملون فيها كثيرًا ما يشتبكون في «صراعات حول مناطق النفوذ» مع زملائهم في الأقسام الأخرى. كما تندلع المعارك في أحيان كثيرة بين الأكاديميين المنتمين لأقسام معينة والمؤمنين بمباحث علمية متخصصة، وبين أهل الإدارة الذين يشرفون على المؤسسات، والذين يقوم عملهم على ضرورة ضبط الميزانيات، وتوليد دخل للجامعة كلها.

وفي هذا السياق، نسمع الآن خارج الولايات المتحدة أصواتًا تعبِّر عن القلق الذي يُبديه ريدنجز وفوستر إزاء مَيل مديري الجامعة إلى تعزيز المنهج البيني؛ لأنهم يرَونه أسلوبًا ناجعًا لزلزلة المراتبية الراسخة في المباحث العلمية، واجتذاب «المستهلكين» من الطلاب، إذ يعبِّر جراهام هجان مثلًا عن القلق إزاء «الدعوات المتكررة بانتظام للعمل بالمنهج البيني، والترابط ما بين الأقسام العلمية باعتبارها الألحان المهلكة التي تعزفها إدارة الجامعة لإغواء الأقسام والوحدات الإدارية الكبرى بالاشتراك في مشروعاتها الميكيافيلية لتخفيض النفقات» (٢٠٠٢م: ٢٤٥). وهذا ما يعنيه أيضًا توماس دوكرتي (Docherty) البريطاني صاحب النظريات النقدية، إذ يشير ضمنًا إلى الثقافة ذات التوجُّه السوقي عندما يقول: «البينية مصطلح … متكلف القيمة، مثل «التحديث»، فلا معنى له، وإن كان ذلك لا يقلل من سطوته.» ويقول دوكرتي إن الدعوة الدائمة لزيادة الطابع البيني يمكن ردها إلى الثقافة المضادة في الستينيات، وهي التي كانت تؤمن بأن النُّظم المنضبطة، التي غدَونا نطلقها على المباحث العلمية، توحي بمعنى اللفظ الشائع في المعاجم [الأدب والتأديب]؛ فهي إما ذات قيود، وإما تفرض عقوبات [تأديبية]، وإما تمارس إقصاء ما عداها. ففي تلك الآونة كان يتردد كلام راديكالي كثير عن إزالة الحواجز بين المباحث العلمية التي كانت تعيق الفكر الإبداعي والتجديدي. ويقول دوكرتي: «مثلما كانت الستينيات قد علَّقت كل شيء، فإننا تركنا الآن مباحثنا العلمية يموج بعضها في بعض مثل مصابيح الحِمَم التي لا شكل لها»، مؤكدًا أن هذه الفكرة قد أمست، مهما تبلغ احتجاجات المعارضين، «متواطئة مع المدخل السوقي الذي يقول إن موضوع البحث إنتاج أفكار جديدة يمكن تسليعها، جِدةً لا نهاية لها، وتشكيلات قَشيبة من الحِمَم البركانية» (دوكرتي ٢٠٠٩م: ٣٥). ويرى دوكرتي أن واجب تطبيق المنهج البيني بات يتعلق الآن في الواقع برغبة الحكومات في السيطرة على الأفكار والبحوث التي يقوم بها الأكاديميون بحيث تجعلها قابلة للتسويق، ميسَّرة للجميع، لا عويصة أو مقصورة على زُمرة ما من الباحثين.

وهكذا فإن المرامي الرئيسية لسهام غضب دوكرتي مجالسُ البحوث التي تموِّلها حكومة المملكة المتحدة، وهي التي تحدد مخصصات الإنفاق على مشروعات البحوث الأكاديمية، وتعلي بانتظام من مزايا «البينية». فعلى سبيل المثال، يخصص مجلس البحوث في الفنون والإنسانيات منح البحوث الواسعة النطاق من خلال المناقصات لإجراء سلسلة من الموضوعات البينية، مثل «الدين والمجتمع»، و«العلم والتراث»، و«صور الشتات والهجرة والهوية»، و«المناظر الطبيعية والبيئة»، ويغلب أن تُفهَم قيمة التعاون والإخصاب المتبادل بين المباحث العلمية فهمًا حرفيًّا داخل إطار هذه الموضوعات الواسعة النطاق.

ويقدم دوكرتي حجة صحيحة تقول إن الرغبة في إزالة الحدود الأكاديمية ليست بالضرورة رغبة تحريرية في ذاتها، كما أنه لا ينفرد بالقول بأن جانبًا كبيرًا من الكلام الثوري في الستينيات قد أُدرجَ في الأفكار الحديثة الخاصة بالسوق؛ إذ يشترك لوق بولتانسكي (Boltanski) وإيف كيابيلو (Chiapello) في القول، على غرار ذلك، بأن ما يسميانه «الروح الجديدة للرأسمالية» تتضمن بعض عناصر «النقد الفني» للرأسمالية التي كانت قد ظهرت في الثقافات المدنية البوهيمية في القرن التاسع عشر، ووصلت إلى ذروتها في الثقافة المضادة إبَّان الستينيات، ويؤدي استقصاؤهما للدراسات الخاصة بالإدارة في التسعينيات إلى القول بأن هذه الرأسمالية الجديدة «القائمة على الترابط»، والتي تؤكد الممارسات المَرِنة والتقريب ما بين المراتب؛ لها ما يوازيها من العناصر المهمة في الفلسفة التحررية اليسارية في أواخر الستينيات، التي كانت تعلي أيضًا من قيمة التعبير الذاتي والإدارة الذاتية بالقياس إلى الالتزام البيروقراطي بالأعراف السائدة (بولتانسكي وكيابيلو ٢٠٠٥م). ولنا أن نقول إن نموذج المنهج البيني الذي يلاقي الترحاب من جانب المسئولين عن الإدارة الجامعية يُرجِع أصداء هذه الفكرة الحديثة من أفكار الليبرالية الجديدة، التي تقول إن الأسواق غير الخاضعة لأي نُظم أسواقٌ تقوم أساسًا على المساواة والديموقراطية، وتساعد على استبعاد المراتبية التي عفَّى عليها الزمن والبيروقراطية الكليلة. ولا شك أن هذا النموذج البيني مناسب لما نسمعه من كلام حول الأعمال التجارية الحديثة، وخصوصًا النظرية الأمريكية القائمة على الإدارة من خلال العلاقات الإنسانية، وهي التي تؤكد التوسل بفرق العمل والتعاون، وتفضِّلهما على القواعد الجامدة والمراتب الهرمية. وهكذا ففي إطار الجامعة الحديثة، كما هو الحال في الأعمال التجارية الحديثة، يُعتبر إنشاء الشبكات والتعاون و«الشراكات الخلاقة» عناصر صالحة في ذاتها، بل غايات في ذاتها. ومن «الموضات» الشائعة في مجالس البحوث البريطانية ما يُسمى أسلوب «حفرة الرمال»، ومعناه الجمع بين فِرق صغيرة من الباحثين في مجالات مختلفة، حيث يقضون عدة أيام في مناقشة موضوع معين، وحيث يَلقَون التشجيع على تكوين شراكات بينية لها أن تتقدم فيما بعد بطلب للتمويل. ومصطلح «حفرة الرمال» [الذي يشير في المدارس عادة إلى مكان لهو التلاميذ] يعتبره بعض الأكاديميين ذا طابع طفولي سافر، يوحي بأن المنهج البيني يمكن أن ينشأ من التفاعل اللاهي الخلاق.

وفي هذا السياق الجديد يتضح أن دوكرتي محقٌّ في تذكيرنا بأن فكرةَ وجود مباحث علمية متخصصة لا تشوبها في ذاتها أية شائبة — سواء بمعناها المذكور أو بمعنى الانضباط العام للكلمة — فكرةٌ صائبة، فلا شك أن الانضباط أمر أساسي في كل ما يتسم بالجودة من كتابة أو بحث أو فكر، وأما الخطر فهو أن العمل البيني الذي يفتقر إلى وضوح التبرير أو سبب القيام به، لن يؤدي إلا إلى نتائج غامضة تقوم على انتقائية لا طعم لها، كما ينبغي أن ندرك أيضًا وجود حدود بشرية فكرية للمنهج البيني، ما دامت معظم البحوث في الإنسانيات (حتى البحوث القائمة على التعاون، مثل كتب المنتخبات التي يحررها محرر) لا يزال يضطلع بها باحثون يعمل كل منهم في مجاله الخاص، وقد يتعذر على هؤلاء الأشخاص الإلمامُ بالنظريات والمناهج والمواد الخاصة بمبحثين أو أكثر من المباحث العلمية، من دون ظهور فجوات مهمة في معارفهم. وقد تكون بعض المباحث العلمية أبنية مصطنَعة، ولكن الاصطناع له سبب، ما دام من المحال أن يحيط المرء بكل شيء.

وقد تعرَّضت لهذه الشواغل مارجوري جاربر (Garber) في خطبة تولِّيها الرئاسة عام ٢٠٠٦م لجمعية اللغات الحديثة (MLA) أُولى الهيئات التخصصية في مبحث الدراسات الأدبية في الولايات المتحدة وسائر بلدان العالم. وبدأت حديثها بسؤال يقول: «لماذا أصبح اليوم ما يحمل الطابعَ الأدبي وحسب مَثار شك وارتياب؟» (جاربر ٢٠٠٧م: ٦٥٥). وتقول جاربر إن الوظائف الأكاديمية في الدراسات الأدبية لا يُحتمل أن يظفر بها المرشحون الذين كتبوا رسائل دكتوراه تقليدية عن مؤلف واحد، مشيرة إلى ما حل محلها من رسائل يرى الباحث فيها «أن الروايات أو المسرحيات أو القصائد قيد البحث تُعتبر وسيلة لغاية معينة، أي إنها تُعتبر نوافذ نطلُّ منها على العالم القائم خلف النص، أو باعتبارها أعراضًا لظواهر ثقافية من الرغبات أو الدوافع أو ضروب القلق أو ألوان التحيُّز» (٢٠٠٧م: ٦٥٤). وتقول جاربر إنه مهما يكن الطابع البيني للدراسات الأدبية في هذه الأيام، فإن «مبحثًا علميًّا واحدًا يبرز غيابه بوضوح، وهو الذي كان اليونانيون يسمونه «البويتيقا» (poetike) أي المبحث العلمي في «الشعرية».١ وتقول جاربر إن الباحثين في الأدب كثيرًا ما يُبدون عزوفًا غريبًا عن التصدي للطبيعة الأدبية لنطاق واسع من النصوص التي يفحصونها، ومن ثم فمن الأدقِّ أن نطلق على النشاط السائد لدارسي الأدب المعاصرين صفة تناول غير المبحث الأدبي، لا صفة الجمع بينه وبين مبحث آخر وفق المنهج البيني» (٢٠٠٧م: ٦٥٥).
ومع ذلك فقد اختتمتْ جاربر حديثها بملاحظة متفائلة تقول «إن شبحًا يسكن الحياة الجامعية اليوم، وهو شبح الأدب» (٢٠٠٧م: ٦٥٨)؛ إذ تؤكد أنه من المحال استبعاد لُب الدراسات الأدبية وجوهرها بهذه السهولة، ولا بد أن يعود الباحثون في الأدب آخر الأمر إلى مبحثهم العلمي الأصلي، وهو الشعرية:

ربما يتبيَّن مَن يقومون مِن بيننا بتدريس الأدب أننا نتمتع بخبرة أكبر كثيرًا مما نتصور أنه لدينا، ولقد آن الوقت للثقة في الغريزة الأدبية التي أتت بنا إلى هذا الميدان أصلًا، وإدراك أننا يجب ألا نشتهي المباحث العلمية الأخرى التي تبدو بالغة الطرافة والغرابة لأننا، أساسًا، لا نمارسها في الواقع، بل أن ندرك أن ما نحتاجه هو التبحُّر في الدراسة النظرية والتاريخية والنقدية لمبحثنا العلمي الخاص.

(جاربر ٢٠٠٧م: ٦٦٢)
وتُعتبر هذه الأصوات المتشككة، من عدة زوايا، إعادة صوغ للحجج التي قدمها ستانلي فيش (والتي نوقشت في آخر الفصل الثالث وآخر الفصل الرابع)، وهو يكرر في كتاب حديث دعوته نقاد الأدب إلى تدريس المهارات التحليلية والمعرفة المتخصصة، بدلًا من أن يقفوا موقف «دعاة الأخلاق، وممارسي العلاج، والمستشارين السياسيين، والعاملين على تغيير العالم» (٢٠٠٨م: ١٤). ويكمن الاختلاف الآن في أن هذه الحجة يقدمها النقاد الذين لا يمكن وصفهم، مثل فيش، بأنهم محافظون سياسيون، والذين كان عملهم السابق بينيًّا بلا مراء. فإن جاربر أستاذة للدراسات البصرية والبيئية إلى جانب الأدب الإنجليزي، وهي كثيرًا ما تخرج من تخصصها في شيكسبير لتكتب في موضوعات مختلفة، مثل ارتداء ملابس الجنس الآخر، وثنائية الميول الجنسية، والعقارات. كما أن الناقد الأدبي الماركسي تيري إيجيلتون (Eagleton)، الذي لا يمكن أن يُتهَم أيضًا إنتاجه المنوع على نطاق واسع بأنه في أعماقه أدبي؛ يخطو خطوة شبيهة بخطوة جاربر في مُستهَل كتابه كيف تقرأ قصيدة (والعنوان نفسه يوحي بأنه مدخل العودة إلى الأسس). يقول إيجيلتون في البداية: «خطر لي أن أكتب هذا الكتاب أول الأمر عندما تبيَّنتُ أنني لا أكاد أجد أي طالب يدرس الأدب مِن بين مَن صادفتهم هذه الأيام، يمارس ما تعلمت أن أعتبره نقدًا أدبيًّا. ويبدو أن النقد الأدبي قد أصبح، مثل الرقص بالقباقيب أو بناء أسقف من القش، نوعًا من الفنون المُحتضَرة» (إيجيلتون ٢٠٠٧م: ١)، فالغالب في هذه الأيام، كما يقول إيجيلتون، أن يقتصر الطلاب على «تحليل المضمون» في النصوص:

إنهم يقدمون صورًا للأعمال الأدبية تصف ما يجري داخل هذه الأعمال، وقد يضيفون بعض التعليقات التي تمثل تقييمًا من نوع ما. فإذا استعرت من علم اللغة مصطلحًا تقنيًّا للتمييز بين ما يفعلونه وبين غيره، قلت إنهم يتعاملون مع القصيدة باعتبارها لغة لا باعتبارها خطابًا … ومن العسير أن يدرك المرء من قراءة معظم هذه التحليلات للمضمون إن كانت تدور حول قصائد أو روايات لا حول أحداث في الحياة الواقعية. وأما الذي يتجاهلونه فهو الطابع الأدبي للعمل … إنهم يعالجون القصيدة كأنما اختار مؤلفها، لسبب غريب عجيب، أن يسجل آراءه في الحرب أو الحياة الجنسية في سطور لا تصل إلى نهاية الصفحة، ربما تعطل الحاسوب!

(إيجيلتون ٢٠٠٧م: ٢-٣)

وينبغي أن نقول إن إيجيلتون لا يعتبر المنهج البيني مسئولًا عن هذه الحال، فهو مثل أي ماركسي صالح، يلوم الرأسمالية؛ إذ تقول حجته «المذنب هنا أسلوب حياة معين، لا مجموعة من الأفكار المجردة، فالذي يهدد بطمس الحساسية اللفظية هو عالم الرأسمالية المتقدمة السطحي المُسلَّع اليسير القراءة، بأسلوبه المنفلت في استخدام العلامات، والاتصال بالحاسوب، وتغليف «الخبرة» في عُلَب برَّاقة» (إيجيلتون ٢٠٠٧م: ١٧). ولكن إذا كان إيجيلتون لا يذكر «المنهج البيني» هنا، فإن لموقفه روابط بحجة دوكرتي، فهما يقولان إن ضرورات السوق الحديثة تشجِّع على خَلق خليط مشوَّش من المعارف التي لا ضابط لها ولا رابط، وإذا كانت الرأسمالية السِّلعية عالمًا «ينصهر فيه كل شيء صلب ويغدو هواءً»، وفق العبارة المشهورة عند كارل ماركس وفريدريش إنجلز (ماركس وإنجلز [١٨٤٨م] ٢٠٠٢م: ٢٢٣)، فربما أمسينا نحتاج الآن، أكثر من حاجتنا في أي وقت مضى، إلى بعض الصلابة في التفكير، وبعض الصرامة، وبعض الانضباط.

بقاء المباحث العلمية [المستقلة]

ولكن إذا كانت هذه النظرات النقدية المنوعة في المناهج البينية تتضمن بعض الآراء الصحيحة، فإنها تتسم في نظري بالمغالاة، وهي لا تقدِّر التقدير اللازم نجاح المباحث العلمية المستقلة في البقاء داخل الجامعات المعاصرة؛ فلا يزال من بالغ الصعوبة، على سبيل المثال، أن يحصل المرء على وظيفة التدريس في جامعة ما إلا إذا كان ذا أقدام راسخة في مبحث علمي ما، بل ويتمتع بتخصص معترَف به فيه. ويغلب أن يُعلَن عن وظائف أكاديمية في مجالات مثل «أدب القرن الثامن عشر»، أو «الدراسات الفكتورية»، وإن كان من المفيد أيضًا أن يضيف المرء قدرته على تدريس مواد أخرى. ويبدو بقاء المباحث العلمية بوضوح وجلاء في المملكة المتحدة، حيث تخضع الميزانيات للتمويل المركزي، فالهيئات القومية، مثل هيئة ضمان الجودة في التعليم العالي، ومثل مجلس تمويل التعليم العالي في إنجلترا، وهي التي تقيِّم أداء الجامعات، وتقدم لها التمويل وفق ذلك التقييم؛ تفرض قيودًا مؤسسية على المنهج البيني. والمطالب الناجمة عن إجراءات تقييم البحوث، ومراجعات جودة التدريس، تساهم في تدعيم حدود المباحث العلمية من خلال مراقبة المعايير داخل الوحدات التي يمكن قياسها، وكثيرًا ما يُستعان في ذلك بخبراء متخصصين في التقييم، أو بلجان من الخبراء في موضوعات معينة. وهذه الجهود تؤدي إلى وضع جداول مجمَّعة وغيرها من «مؤشرات الأداء»، وهي التي يُسترشَد بها في اتخاذ قرارات التمويل، كما تنشر في الصحف وغيرها من أجهزة الإعلام، فتساهم في تسويق الدرجات والأقسام العلمية في علاقتها بالمباحث العلمية المعترَف بها. أضف إلى هذا بوجه خاص أن «هيئة تقييم البحوث» التي أنشأتها الحكومة، والهيئة التي خَلَفتْها، وهي إطار التميز البحثي؛ لا تزالان تخضعان لإدارة مباحث علمية مُفرَدة وسيطرتها. وعلى الرغم من الجهود الجهيدة التي تبذلها الحكومة لإضافة عنصر الربح الاقتصادي وغير ذلك من أشكال «نقل المعرفة» إلى عناصر التقييم، فإن أهم عامل من عوامل التقييم «مراجعة الأقران»، أي التقييم الذي تصدره هيئة تُسمى «الكلية الخفية» الخاصة بمبحث علمي معين، وهي في الحقيقة شبكة قومية ودولية من الباحثين العاملين في مجال محدد، وتتجاوز في اتساعها أية جامعة أو مؤسسة.

ومما يساعد على تدعيم المباحث العلمية المستقلة أيضًا وجودُ حاجة إلى بيع الدرجات العلمية للطلاب في سوق الدرجات الجامعية الأولى المتَّسمة بالمنافسة الشديدة، والحاجة إلى بيع الدرجات إلى أصحاب العمل في سوق الدراسات العليا المتَّسمة بمنافسة مماثلة. والتركيز الحالي على «التخرج»، أي على المهارات والمعارف التي يجب أن يكتسبها الفرد، ويثبت تمتعه بها عند التخرج، كثيرًا ما يرتبط بموضوعات خاصة. ويزداد توكيد أهمية التعليم المتخصص والمهني، وما يقدمه من خبرة، وهو ما يتولى تدعيم المراتبية الفكرية التقليدية ما دام يستوجب تحديد المهارات المناسبة لكل مبحث علمي. والطلاب الذين يتحملون نفقات التعليم (وآباؤهم الذين قد يدعمونهم ماديًّا) يريدون، كما هو مفهوم، أن يعرفوا قيمة درجتهم العلمية في السوق خارج الجامعة. وهكذا فإن بعض المباحث العلمية، مثل اللغة الإنجليزية وآدابها، تضع لنفسها «اسمًا تصنيفيًّا» مودَعًا في مَصرِف معترَف به للرأسمال الثقافي، بحيث يستطيع أن يجتذب الطلاب وأصحاب العمل في المستقبل في آن واحد. ولأضربْ مثلًا واحدًا من القسم الذي أنتمي إليه، إذ اضطُر إلى تغيير اسمه من الأدب والحياة والفكر (وهو، كما ذكرت في الفصل الثاني، كان أيضًا اسم أول درجة جامعية تمنحها جامعة كيمبريدج في اللغة الإنجليزية وآدابها) إلى الأدب والتاريخ الثقافي، ثم أخيرًا، وربما لأسباب براجماطية، إلى اللغة الإنجليزية وآدابها فقط. وعلى من يحتاج من طلاب المستقبل أن يعرف مقررات مناهجنا البينية أن يطلع عليها في دليل عنوانه شروط الالتحاق بالجامعات والكليات، إلى جانب جميع الدرجات الأخرى في اللغة الإنجليزية وآدابها.

وإزاء جميع هذه العوامل الاقتصادية والمؤسسية، فمن المحتمل فيما يبدو أن المباحث العلمية المستقلة سوف تظل قوة جبارة داخل الجامعات المعاصرة، وإذا استعرت إحدى عبارات مارك توين (Twain) قلت إن شائعات وفاة المباحث العلمية مبالغ فيها. فالبحوث التي تُجرَى داخل أقسام اللغة الإنجليزية وآدابها الآن تتراوح ما بين الأدب، والتاريخ الثقافي، والدراسات الثقافية، والفلسفة، والتحليل النفسي، والسياسة، وعلم الاجتماع، وتاريخ الفن، وعلم اللغة، وفلسفة العلم، ومجالات كثيرة أخرى. وقد نصادف بعض العاملين في مثل تلك الأقسام ممن يَندُر أن يدرسوا الأدب، أو لا يدرسونه على الإطلاق، بمعناه المفهوم. ولكن اللغة الإنجليزية وآدابها باعتبارها مبحثًا علميًّا لا تزال قائمة؛ فلها وحداتها التنظيمية المنفصلة، ومجلاتها العلمية المتخصصة، وجمعياتها وهيئاتها التخصصية، وإمكانيات تسويقها باعتبارها «اسمًا»، وأهم من ذلك كله لا يزال يوجد مِن الطلاب مَن يريد دراستها. ويرجع السبب في هذا، في جانب منه، إلى أن المباحث العلمية ثمرة من ثمار البراجماطية المؤسسية والاقتصادية بقدر ما هي مبرَّرة فكريًّا، ومعنى ذلك أنها سوف تواصل البقاء في حالات كثيرة على الرغم من الطعن في فرضياتها المنهجية والنظرية. ولكن السبب يرجع أيضًا إلى أن المداخل البينية قائمة إلى جوار المنظورات التقليدية، فإن بعض العمل الجاري حاليًا في أقسام اللغة الإنجليزية وآدابها، لا يكاد يختلف عما دأب الباحثون في الأدب على أدائه منذ مولد المبحث العلمي، أي دراسة المصادر، والسير الأدبية، والتاريخ الأدبي، والتحليل النصي الدقيق، وتحقيق نصوص نقدية معتمدة ونشرها على سبيل المثال.
وإذا نظرنا إلى موضوع اللغة الإنجليزية وآدابها اليوم وجدنا أنه يضم مزيجًا مركَّبًا من المنظورات الخاصة بالمباحث العلمية المفردة والمناهج البينية، وهو ما يتجلى في اتساع نطاق المواد الدراسية الجامعية وتنوعها في إطار الموضوع المذكور. وعلى الرغم من هذا التنوع، فلا يزال من الممكن رصد تحولات عامة في طرائق تدريس الكثير من مواد هذا الموضوع على امتداد العقود القليلة الماضية، وهي التي نشأت استجابةً لبعض التطورات البينية التي ألقيتُ الضوء عليها في هذا الكتاب، فعلى سبيل المثال، من المحتمل أن يقل اليوم التركيز على التغطية الزمنية للأدب من بيوولف (Beowulf) حتى فيرجينيا وولف وما بعدها؛ إذ إن مثل هذا التوجُّه العَرْضي في المبحث العلمي لم يعد يُعتبر في حالات كثيرة ذا أهمية تُضارِع تعريف الطلاب بالقضايا والمناظرات ذات الدلالة الكبرى، ومشكلات البحث في تخصصات الإنسانيات. فإلى جانب النماذج القائمة بصورة تقليدية على الفترات أو الأنواع الأدبية (مثل الأدب الإنجليزي من ١٩٠٠–١٩٥٠م، أو الشعر الرومانسي) قد نجد نماذج تستند إلى مداخل نظرية معينة (نسوية أو ماركسية أو خاصة بالتحليل النفسي على سبيل المثال)، أو مواد ذوات موضوعات تستكشف الميدان الواسع للتمثيل حول فكرة أو صورة رئيسية، مثل المدينة أو الرِّق أو الطفولة أو الحرب وهَلُم جرًّا.

وربما يتمثل أهم تطور في استمرار مراجعة الأدب المعتمد والتوسع فيه، وهو ما يرجع في جانب منه إلى ما يُسمى «الحروب الثقافية» في الولايات المتحدة الأمريكية، والمقصود بها اندلاع معارك تنم على ضيق الصدر أحيانًا حول إدراج المزيد من التنوع في القضايا العرقية والنسوية في المقررات التي تُدرس للحصول على درجة جامعية في اللغة الإنجليزية وآدابها. وأما التوسع في الأدب المعتمد في إطار البحوث الأكاديمية فمن المحتمل أن يكون من ورائه دافع لا يقل أهميةً، ويتمثل في النوازع البينية، خصوصًا نازع استكمال الكتابة الإبداعية الممثِّلة للثقافة الرفيعة التي تمثِّل المادة التقليدية للدراسات الأدبية، بأنواع أخرى من النصوص، مثل القصص الجماهيرية، وأدب الرحلات، وأدب الأطفال، والسير الذاتية، بل والنصوص العلمية والطبية. وكثيرًا ما يكون الابتعاد عن النصوص الأدبية المعتمدة إلى النصوص الهامشية أو غير الأدبية قائمًا على الظن بأن النصوص المعتمدة قد حَظِيت بقدر أكثر مما ينبغي من البحوث فيها والكتابة عنها، بحيث لم تعد تتيح تقديم القدر نفسه من النظرات النقدية الجديدة.

ومن العوامل المساعدة على النمو المذكور في استخدام الأنواع الهامشية من النصوص اتساعُ رقعة الإنسانيات الرقمية والهدم الإلكتروني للأفكار التقليدية عن «النص». فالأرشيف الرقمي لا يحترم المراتبية الثقافية، فالبحث الحاسوبي البسيط في كلمة ما قد يأتي لنا بنماذج استعمالها في نطاق واسع من النصوص. فكما يقول ويليام ب. وورنر (Warner) وكليفورد سيسكين (Siskin) نجد أن «قواعد بياناتنا الإلكترونية قد ساعدت على إزالة سحر «الأدب» باستعادة النطاق «الحقيقي» للكلمة بمعناها الشامل الأول [أي كل ما يكتب]» (٢٠٠٨م: ١٠٥). ويَصدُق هذا بصفة خاصة على البحث في أدب القرن التاسع عشر، وربما يكون السبب أن تلك الفترة شهدت توسعًا هائلًا في المطبوعات التي لم تعُدْ، إلى حد بعيد، خاضعةً لقانون حقوق التأليف والنشر. ولقد بُذلت عدة محاولات كبرى، على سبيل المثال، لرقمنة المجلات العلمية في العصر الفكتوري، كما قامت المكتبة البريطانية برقمنة عدد كبير من صحف القرن التاسع عشر، بعناوينها الإقليمية والقومية. وهكذا أصبح الأدب في العصر الرقمي يتمثل في المطبوعات بمعناها الواسع.

ولقد شهدت ساحة الدراسات الأدبية البينية أيضًا تحولًا يبتعد بها عن الفلسفة، ويعيدها إلى الشريك التقليدي للغة الإنجليزية وآدابها، ألا وهو التاريخ، وكما رأينا، بصفة خاصة، حدث الابتعاد عن «النظرية الكبرى» التي ناقشتها في الفصل الثالث. فالنقاد المنتمون إلى ما بعد البنيوية، مثل دريدا، ولاكان، وفوكوه، وبارت، الذين كان عملهم يقوم بدور أساسي في فهم المنهج البيني في الدراسات الأدبية في نهاية القرن الماضي، لم يعد الدارسون يستشهدون بهم على نطاق بالغ الاتساع اليوم، كما قلَّ شيوع اعتماد دراسات اللغة الإنجليزية وآدابها على نماذج «نظرية» نوعية أو محددة. ويرجع سبب هذا، في جانب منه، إلى أن هذه النظريات قد أُدرِجت وأُدمِجت إدماجًا تامًّا في الموضوع المدروس إلى الحد الذي لم تعد تحتاج فيه إلى رفع راياتها بصورة مباشرة، كما يرجع في جانب آخر منه إلى أن «الموضات» الفكرية تغيرت، وإلى ظهور الرغبة في العودة إلى [الأدب] «الحقيقي»، مهما يتِّسمْ تعريفه بالتعقيد، بعد سنوات من التعامل مع النظريات التجريدية. وأكثر ما يشيع اليوم في الدراسات الأدبية الناطقة باللغة الإنجليزية هو تجاوز النظرية الرفيعة، والاستعاضة عنها بما يُسمى أحيانًا «التاريخية الجديدة»، التي تُعتبر إدماجًا للأدب في التاريخ الثقافي، والتي نشهد تطبيقات متعددة لها. وأود أن أختتم كلامى بإلقاء نظرة موجزة على الطريقة التي برز بها هذا النمط الجديد من المنهج البيني في مجالين؛ الأول هو الدراسات الفكتورية، والثاني هو الدراسات الثقافية المعاصرة.

دراسات العصر الفكتوري – الدراسات الثقافية

ظهرت دراسات العصر الفكتوري في الخمسينيات قبل مَقدَم النظرية أو نمو الدراسات الثقافية، وهو الذي بدأ زعزعة المبحث العلمي في اللغة الإنجليزية وآدابها؛ إذ ظهرت مجلة دراسات فكتورية، المجلة العلمية الكبرى للدراسات البينية، والتي أصبحت أعظم المجلات تأثيرًا في ميدان الإنسانيات، عام ١٩٥٧م عندما لم يكن بين الباحثين إلا طليعة محدودة تدعو لمزايا المنهج البيني، وسرعان ما أصبحت الدراسات الفكتورية موضوعًا رئيسيًّا في الجهود المبذولة لإقرار البينية داخل الأدب والتاريخ معًا؛ إذ كان مجال التاريخ الاجتماعي والمدني النامي باطراد — والذي كان من بين رواده الممارسين رافائيل صمويل (Samuel)، وإيزا بريجز (Briggs)، وأ. ب. طومسون (Thompson) — كثيرًا ما يركِّز على هذه الفترة. واستفادت الدراسات الفكتورية في الثمانينيات والتسعينيات من الإقبال على المداخل التاريخية في أمريكا في الدراسات الأدبية، ومن التحول إلى اللغة أو إلى الثقافة في التاريخ (انظر مناقشتي في الفصل الرابع). وأصبحت الدراسات الفكتورية في الآونة الأخيرة أرضًا خصبة للنفوذ المتزايد «للتاريخ الثقافي». ونرى بصفة عامة أن التاريخ الثقافي يجمع بين النقد النصي، والبحث التاريخي، والأنثروبولوجيا الاجتماعية، بقصد استكشاف التحولات في الذاتية الإنسانية التي تتجلى، على مر الزمن، في الممارسات الثقافية والمادية، أي بعبارة أخرى الاستكشاف الكامل لصوغ الإنسان لمعناه، وهو الذي يتداخل إلى حد ما مع ما يسميه المؤرخون الفرنسيون «تاريخ الحركة الذهنية»، ومعناه دراسة الطرائق التي تتغير بها الأفكار والمشاعر والمواقف الخاصة بثقافات كلية على مر التاريخ.
ومع ذلك فإن المؤرخ مارتن هيوويت (Hewitt) يرى أن الدراسات الفكتورية لم تحقق الدرجة الكافية من المنهج البيني، قائلًا إن معظم المجلات الخاصة بالدراسات الفكتورية يسيطر عليها الباحثون في الأدب أساسًا، على الرغم من التوجه التاريخي للبعض، أو غَلَبة المنهج البيني على عملهم، ومن ثم فهو يدعو إلى زيادة الحوار الصادق والتعاون الحقيقي بين نقاد الأدب والمؤرخين:

إذا أرادت الدراسات الفكتورية أن تتجاوز أوجُه قصورها الحالية، وأن تزدهر باعتبارها مجالًا بينيًّا حقيقيًّا يستند إلى التآلف لا العدوان، فينبغي أن تنشئ لنفسها تكاملًا بحثيًّا جديدًا، أي الإحساس بوجود كتابات مشتركة، وبؤرة بحثية مشتركة، ومجموعة مقبولة على نطاق واسع من طرائق البحث والفرضيات النظرية، والإقرار أخيرًا بجدوى صفة «الفكتورية» باعتبارها إطارًا للتحليل. لن تنهار الجدران المحيطة بالمباحث العلمية التخصصية وحدها وحسب، بل لا بد من تقويضها عمدًا وبصورة منهجية؛ فالإحساس بالتواصل البيني لا ينشأ ويرتقي وحده، بل لا بد أن تبنيه الأيادي.

(هيوويت ٢٠٠١م: ١٥٢)

قد تبدو دعوة هيوويت إلى المنهج البيني من خلال «بؤرة بحثية مشتركة» قائمة على مفارقة؛ إذ تشبه الدعوة إلى خلق مبحث علمي جديد، لكنني أتفق مع هيوويت في أن العمل البيني كثيرًا ما يحتاج إلى الأمن النابع من كونه يجري في إطار مبحث متخصص معترَف به، ويرجع جانب من السبب في ذلك إلى أن جميع الأنشطة الفكرية التجديدية تتضمن مخاطرة شخصية، بمعنى أنها يمكن أن تكون ذات نهاية مفتوحة تفوق انفتاح العمل البيني، وأن تكون «نواتجها» المنشورة (الاسم الذي يحب رجال الإدارة في الجامعة إطلاقه عليها) غير مؤكَّدة بالدرجة نفسها. ومن طرائق مواجهة هذه المخاطرة حصول الأنشطة المذكورة على نوع من القواعد المؤسسية، بمعنى الحصول على منافذ النشر المحتملة لعملك، وشبكة من المؤتمرات والجمعيات التخصصية حيث تستطيع اللقاء بباحثين يشاركونك آراءك. وهكذا بدت الدراسات الفكرية، على امتداد العقد المنصرم تقريبًا، كأنما هي مبحث علمي مستقل يمثل التلاقي بين الأدب والتاريخ والثقافة البصرية، وذلك بإنشاء مجلات مكرَّسة لها، مثل مجلة الثقافة الفكتورية، وتشكيل منظمات، مثل الجمعية البريطانية للدراسات الفكتورية، التي تأسست عام ٢٠٠٠م، ومثل جمعية الدراسات الفكتورية في أمريكا الشمالية، التي أُنشئت عام ٢٠٠٢م. وعندما يحدث مثل هذا التشكيل المؤسسي المحتوم، في مجال نامٍ مزدهر، يبرز دائمًا خطر مَيل البحوث إلى أن تتصف بقدر أكبر من الحذر، وبروح تقليدية أشد مما ينبغي، وتشابُه زائد عن الحد، ولكن ذلك يتيح الفرصة أيضًا للعمل البيني حتى يزداد طابعه الابتكاري، ما دام المرفأ الفكري الآمن نسبيًّا للمجال الفرعي يخلق الساحة اللازمة لاستكشاف الآراء الجديدة.

وأما في الدراسات الأدبية والثقافية البريطانية المعاصرة فالموقف أقل وضوحًا؛ إذ لا يوجد مثل المجال الفرعي المذكور القادر على الجمع بين الباحثين العاملين في مجالات الأدب والتاريخ والسياسة والثقافة، بحيث يستطيعون خلق ما يشبه «تاريخ الحركة الذهنية» الذي نشأ بعد الحرب. ويرجع السبب في جانب منه إلى عدم وجود نشاط حواري مماثل بين النقاد النصيين والمؤرخين في هذه الساحة. فالمؤرخون المعاصرون، وفي فترة ما بعد الحرب، لا يزالون مقيَّدين إلى الأنماط التقليدية للتاريخ السياسي والاقتصادي والدبلوماسي، ويقول المؤرخ ستيفن بروك (Brooke): «لا بد من تحرير فهمنا لبريطانيا في أعقاب عام ١٩٤٥م تحريرًا كاملًا من ارتباطه بقواعده في هوايتهول وكيو»، وهو يعني بذلك أن فهمنا لا تزال جذوره ضاربة في مؤسسات الحكومة المركزية، وفي دار المحفوظات القومية (٢٠٠٣م: ١٣٦). أي إن التاريخ البريطاني المعاصر لا يزال منفصلًا نسبيًّا عن التاريخ الثقافي الجديد، كما نلاحظ تفاوتًا واضحًا بين العمل البيني الطَّموح في دراسات القرون السابقة — في الدراسات الفكتورية مثلًا، أو دراسات حقبتَي عصر النهضة الأوروبية والحركة الرومانسية — وبين غَلَبة التركيز في أواخر القرن العشرين على تاريخ الأحوال الاقتصادية والسياسية بمفهومها الضيق.

ويكمن جانب آخر من المشكلة، حسبما يقول ريتشارد جونسون، في الإحساس بانقطاع الحوار بين التاريخ والدراسات الثقافية؛ ففي الفترة من منتصف السبعينيات إلى آخرها، كان العمل الذي يقوم به مركز الدراسات الثقافية المعاصرة في بيرمنجهام قد بدأ في وضع وصف للتحول في نظام الهيمنة الثقافية والسياسية بعد الحرب، وبدايات تحدي نظام ثاتشر له [رئيسة الوزراء آنذاك]، وكذلك جوانب الانتفاع السياسي بالتاريخ فيما يُسمى صناعة التراث وغيرها من الطرائق المعاصرة لتصوير الماضي (جونسون ٢٠٠١م: ٢٦٦-٢٦٧). ولكن إذا كان التاريخ المعاصر قد تجاهل في الآونة الأخيرة الانتباه إلى الثقافة انتباهًا كافيًا، فإن الدراسات الثقافية قد ابتعدت عن المعالجة التاريخية للماضي القريب، وأدى تدعيمها باعتبارها مبحثًا علميًّا إلى مداخل إثنوغرافية بحتة، أو مداخل نصية ترتكز حول الاستهلاك الجماهيري، وأسلوب الحياة في إطار الثقافة الفرعية، ووسائط الاتصال والتكنولوجيات التجديدية أو الناشئة. لقد أصبحت الدراسات الثقافية إلى حد كبير دراسة للثقافة الشعبية.

إذا كانت الدراسات الثقافية قد بدأت تظهر خارجة مما يسميه توني بينيت «استحياء المبحث العلمي» (انظر الفصل الثاني) — وقد يقول بينيت إن ذلك ليس بالضرورة شيئًا يُؤسَف له — فإن روابطها قد وهنتْ حتمًا بقسمَي اللغة الإنجليزية وآدابها والتاريخ. ومن نتائج ذلك عدم وجود كيان يُعتبر في الحقيقة «دراسات معاصرة»، بحيث يستطيع الجمع بين الباحثين في الأدب والتاريخ والمباحث المتصلة بهما بطريقة مماثلة للدراسات الفكتورية. ولكن الافتقار المذكور إلى قاعدة مؤسسية يمكن أن يكون مصدر قوة مثلما يُعتبر مصدر ضعف للقائمين بأبحاث بينية في هذا المجال، ويجدر بنا أن نتذكر أن جانبًا كبيرًا من العمل البيني الذي شق طرقًا جديدة، وسبقت لي مناقشته في هذا الكتاب، قام به باحثون مثل رولان بارت، وريموند ويليامز، وستيوارت هول، وريتشارد هوجار، وهم الذين كانوا يعملون بصورة ما على هامش الحياة الأكاديمية أو المباحث العلمية المعترَف بها، فالوجود على الهامش المذكور به مشكلات، ولكن به أيضًا فرص سانحة.

كلمة ختامية

ربما يكون لنا أن نقول إن الجِدَّة النسبية لطرائق التفكير البينية، وطابعها الاستكشافي يجعلانها تميل إلى عدم التنظيم والتشتُّت بدرجة تفوق أشكال المعرفة الراسخة. ولكن إذا كانت الأرض البينية تتسم ببعض الفوضى، فإن ذلك أيضًا يجعل تلك الأرض جديرة بالاحتلال. ولنا أن ننظر إلى المنهج البيني نظرة كاثي ن. ديفيدسون وثيو جولدبرج إليه، أي باعتباره «دالة على استحالة احتواء ما يُعتبر «حقيقيًّا» في تاريخ الأفكار»؛ فالبينية تنبع من الإحساس بأن الأشياء (والموضوعات) في الحياة الاجتماعية والثقافية (الحياة الواقعية، والظروف الفعلية، والعلاقات الحقيقية) تتمتع بوجود يتجاوز قيود التفرد التحليلي، والقواعد المنهجية» (ديفيدسون وجولدبرج ٢٠٠٤م: ٥٠). فالبينية تستطيع، في بحثها الدائم عن «الحقيقة» التي يستحيل احتواؤها، أن تكسر السلاسة والانسيابية الخادعتين للمباحث العلمية، وأن تطعن في منزلتها باعتبارها قنوات لتوصيل المعرفة الموضوعية، بتِبيان الطبيعة الإشكالية لجميع مزاعم الموضوعية والحياد العلميَّين. وإذا كان من الصحيح، على نحو ما حاولتُ إثباته في هذا الكتاب، أن البينية قد أثمرت عددًا من أهم التطورات الفكرية في الإنسانيات على مدى العقود القليلة الماضية، فقد يكون السبب في ذلك على وجه الدقة أن مشكلاتها وأوجُه قصورها لم تحجبها الأبنية أو التقاليد الراسخة.

ويقول ريدنجز في كتابه أطلال الجامعة: لما كانت محاولات التعاون البيني دائمًا ما تتعرض للإخفاق بسبب سياقاتها المؤسسية، فينبغي لنا أن نحاول خلق شكل انعكاسي من المنهج البيني، يدرك حدوده وطابعه المصطنع، «لا ساحة بينية عامة، بل إيقاع معين من الارتباط والانفصال، هدفها عدم السماح لمسألة التخصص في المباحث العلمية بالاختفاء، أو بالهبوط في دَرْك المسالك الروتينية». وعلى المباحث العلمية المنوعة في داخل هذا الإطار أن «تنصاع لما يفرضه الفكر، أي أن تتصور أنواع التفكير التي تجعلها ممكنة، وأنواع التفكير التي تستبعدها» (ريدنجز ١٩٩٦م: ١٧٦). وأعتقد أن ريدنجز على حق؛ إذ إن علينا أن نقوم بتحويل المباحث العلمية، وتشجيع التواصل بينها، أو استخدامها في خلق تشكيلات أو أحلاف فكرية جديدة، ولكننا من المحال أن نستغني عنها بصورة كاملة باعتبارها وسيلة لتنظيم المعرفة. ويمكننا من ثم أن ننظر إلى البينية باعتبارها أسلوبًا للتعايش مع المباحث العلمية تعايشًا يتسم بالمزيد من النظرة النقدية والوعي الذاتي، مدركين أن أهم فرضياتها الأساسية تقبل الطعن فيها، أو إعادة بث الحيوية فيها من خلال طرائق تفكير جديدة من خارجها. وتمثل الدراسة البينية، أولًا وقبل كل شيء، تخليص المعرفة من الإيحاء بأنها تمثل الحال الطبيعية، بمعنى أن العاملين في داخل طرائق فكرية راسخة عليهم ألا يغفلوا في أية لحظة عن القيود الفكرية والمؤسسية التي يعملون داخلها، وأن ينفتحوا على طرائق أخرى لبناء فهمهم للعالم، وتمثيلهم لهذا الفهم.

١  هذا هو المصطلح العربي الذي شاع ترجمةً لمصطلح poetics، والذي يَرِد في اللغات الأجنبية بمعنى الصفات الفنية الخاصة بالشعر، استنادًا إلى أن الشعر كان مصطلحًا يعني الأدب أو فنون الكتابة والقول عمومًا؛ فمعظم آثار القدماء كانت شعرًا، ومن هنا جاء التعميم حتى عند المُحدَثين الذين يوازي بعضهم بين العمل الفني والعمل الشعري. والمصطلح العربي الشائع مفيد حتى وإن لم يقتصر على الشعر بمعناه المفهوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤