لوحة بحياة وأعمال أنجاريتي

بعد الفراغ من الصفحاتِ السابقة، حملني جناحَا الحظِّ والصدفة الطيبة إلى مكتبة المعهد الثقافي الإيطالي بالزمالك؛ حيث اطَّلعتُ على كتابين عن أنجاريتي، واستطعت أن أدوِّنَ هذه اللوحة التي أرجو أن أستدرك فيها بعض ما فاتني بيانه في مقدمةِ هذا الكتاب.١
١٨٨٨م مولد جوسيبي أنجاريتي في الإسكندرية في الثامن من شهر فبراير، وإن تأخر قيد اسمه بالسجل المدني، حتى اليوم العاشر الذي تثبته كل القواميس والموسوعات، حيث قضى فيها طفولتَه وصِباه وشبابه الباكر، ولم يغادِرْها إلا بعد بلوغِه الثالثة والعشرين من عمره (أي حوالي: سنة ١٩١٢م) إلى روما، ومنها إلى باريس؛ لاستكمال دراسته.
ينحدر أبوه وأمه اللذان هاجرا إلى مصر من «لوكا» بمنطقة توسكانيا، من سلالة عريقةٍ من الفلَّاحين الذين يشتغلون بالزراعة في مساحات صغيرة تقع حول مدينة «لوكا». وقد حضر الأب إلى مصر للعمل في قناة السويس في الحفر وأعمال البناء، ولكن المرض الذي ألمَّ به لم يلبث أن أدَّى به إلى الموت في سنة ١٨٨٩م. وتحمَّلت الأم العنيدة الصلبة أعباء الأسرة، ففتحت «فرنًا» في أطراف الإسكندرية على حُدود الصحراء، وتولت بنَفسها إدارته …
١٨٩٧م يبدأ أنجاريتي دراسته في معهد «دون بوسكو» الدِّيني — الذي ما يزال موجودًا بالإسكندرية والقاهرة إلى يومِنا الحاضر — وهو المعهد الذي سبق أن درس به «مارينيتي» (١٨٦٦–١٩٤٤م) زعيم «المستقبلية» الذي وُلد كذلك بالإسكندرية، وقد استمرتْ دراستُه فيه من التاسعة إلى السادسةَ عشرةَ.
١٩٠٤م يواصل دراستَه العاليةَ في مدرسة «جاكو» السويسرية التي كانت أرقى المدارس الثانوية في الإسكندرية في ذلك الحِين، كما يتابع دراسته للحقوق استجابةً لرغبةِ أمِّه وإلحاحها عليه. في هذه المدرسة حدَّثه بعض أساتذته المستنيرين لأولِ مرة في حياتِه عن الأدباء الجدد في فرنسا، فراحَ يتابع المجلة الثقافية الشهيرة «المركير دي فرانس»، ويقبل على قراءة أقرب الكتاب والشعراء والمفكِّرين إلى قلبِه في تلك السن المبكرة، وهم: بودلير، ومالارميه، ونيشته، وليوباردي الشاعر الإيطالي المعروف بتشاؤمه الشديد في أشعاره و«أغانيه» الشهيرة. في هذه السنة أيضًا ارتبطَ بزميله محمد شعيب بصداقةٍ وطيدة، تجلت في القصيدة المؤثرة التي كتبها عن ظروف انتحاره المحزنة في باريس. (راجع قصيدة: «في ذكراه»، ضمن هذه المجموعة المختارة.)
١٩٠٨م يبدأ في التردُّد على «المعسكر الأحمر»، وهو فرع «التجمع الدولي للفوضويين» في الإسكندرية، الذي كان يُديره وينظمه صديقه الأكبر منه سنًّا، والأشد منه عنفًا وحماسًا وهو «إنريكو بيا»،* وعندما نظَّم أعضاء هذا التجمع حركة جريئة لتحرير البحارة المتمردين على ظهر العبارة، أو المدرعة الشهيرة بوتيو مكين (تذكر الفيلم التاريخي الرائع للمخرج آيزنشتين)، التي كانت ترسو آنذاك في ميناء الإسكندرية حاملةً المعونات لأسر ضحايا الزلزال المدمر الذي ضرب مسِّينا بجزيرة صقلية. شارك أنجاريتي في حركةِ التمرُّد لفكِّ أسر أولئك البحارة، وقُدِّم للمحاكمة أمامَ القنصلية الإيطالية بالإسكندرية (في ظل الامتيازات التي كان الأجانب يتمتعون بها)، قبل أن يُفرج عنه مع صدور العفو العام عن المتهمين. في هذه الفترة من حياته أخذ أنجاريتي يروِّج للإلحاد والفوضوية، ويحرر المقالات السياسية والأدبية وينشرها في الصحف المحلية مع بعض الأقاصيص القصيرة والترجمات الأولى، لا سيِّما لبعض القصص الغربية للكاتب والشاعر الأمريكي إدجار ألن بو (وقد ترجمها عن ترجمة شاعره الفرنسي المفضل مالارميه). والجديرُ بالذكر أنه لم ينشر حتى ذلك الحين (ولم يكتب أيضًا) بيتًا واحدًا من الشعر، ولكن هذه المرحلة تميزت بكثرة معارفه وأصدقائه الكثيرين؛ ومن أهمهم: الشاعر السكندري كفافيس، والأخوان جان وهنري تويل، اللذان كانت لديهما مكتبة غنية بالمراجع الأدبية والتاريخية، ومنهما سمع عن «الميناء المدفون» من العصر الفرعوني الذي كشَف عنه جونديه، وفسَّره أنجاريتي كرمز للروح الإنسانية التي لا تكشف عن شِفرتها، كما جعله عنوانَ أول دواوينه.
١٩١٢م يغادرُ الإسكندرية إلى باريس عن طريق إيطاليا، وفي نيَّتِه — كما كان الحال مع كاتبنا الرائد الأصيل: توفيق الحكيم! — أن يدرس الحقوقَ استجابةً لإلحاح أمه، كما سبَق القولُ قبل الرجوعِ إلى مصرَ مرة أخرى.
وترسو به الباخرة في ميناء برينديزي، ويقيم فترةً قصيرة في روما، ثم يستقر إلى حينٍ في فلورنسة، بالقُرب من أصدقائه الذين كان يُراسلهم من مصر وكانوا يصدرون مجلة الصوت، ونخص منهم بالذكر: صديقيه جاييه وبريتزوليني. هنا يرى الجبَل لأول مرة، ويتذوقُ فن العمارة عن كثب بعد أن تعود على «فتاته» القليل أثناءَ حياته بالإسكندرية أمام البحر وعلى حافة الصحراء الشاسعة المحيرة بأسرارها وألغازها. ويصل في الخريف إلى باريس حيث يقيم في فندق متواضع الحال مع رفيقه وصديقِه الذي عرَفه في مصر، وهو محمد شعيب، في شارع «دي كارم» كما ذكر ذلك في قصيدته السابقة الذكر عنه. وكان أصدقاؤه في فلورنسة قد حمَّلوه توصياتٍ يقدم بها نفسه لبعض الأدباء المشهورين في باريس، ومنهم: الشاعر الكاثوليكي تشارل بيجي، وعالم الاجتماع جورج سوريل. غير أنه، كما سنرى بعد قليل، صادق أدباء ومصوِّرين آخرين، واختلط بالدوائر الطليعية في الشِّعر والفن، وتابعَ الجدلَ الحادَّ بين التقليديين والمستقبليِّين، والأهمُّ من ذلك كلِّه أنه بدأَ يكتبُ أولَى قصائدِه …
١٩١٣م بدأ في التردُّد على المقاهِي الأدبيَّةِ في باريسَ، وانعقدت أواصر المودة بينه وبين الشاعرين الكبيرين سان-جون-بيرس، وجيوم أبو للينير الذي أصبح صديقَه الحميم. وتعرَّف إلى بيكاسو، وموديلياني، ودي كيريكو، وبرانكوزي، وسافنيو، والشاعر ماكس جاكوب، واتَّصَل بالجماعة الفلورنسية التي انشقَّتْ عن جماعة الصوت، وأسست مجلة أخرى تدعو للأَفكار المستقبلية، وهي مجلة «لاتشيربا» التي بدأ ينشر فيها أشعاره وترجماته الأولى. وتوافد على باريس بعضُ أعلام الأدب والنقد في إيطاليا، مثل بابيني وسوفيتشي وبالاتسسكي، وبعض الرسَّامين المستقبليين مثل بوتشوني وكارَّا ومانيلي. وفي الصيف انتحر صديقُه محمد شعيب، في نفس الفندق الذي كانا ينزلان به معًا في شارع «دي كارم»، وأخذَ يتردد على محاضرات الأدَب في السوربون، بعد أن ودع إلى الأبد دراسة الحقوق، ويستمع إلى أساتذة كبار، مثل مؤرخ الأدب الشهير لانسون وغيره، كما يواظبُ على الاستماع للمحاضرات التي كان يلقيها برجسون في الكوليچ دي فرانس، عن الزمان والديمومة والشعور المباشر، وأثرت تأثيرًا عميقًا على مجموعة قصائدِه «عاطِفة الزمن» …
١٩١٤م يرجع إلى إيطاليا للحُصول على شهادة تؤهِّله لتعليم الفرنسية، ويستقر في ميلانو حيثُ يؤدِّي الامتحان بنجاح ويعمل بالتدريس. وفي انتظار استدعائه للتجنيد يجمع قصائدَه الأولى التي ستشكل القسم الأول من ديوانِه الشهير (الفرح)، ويُستدعَى للاشتراك في الحرب ويرسل إلى الجبهة النمسوية، ثم إلى الجبهة الفرنسية في منطقة شامبني. وفي أثناء ذلك يواصل نشر أشعاره في مجلة «لاتشيربا» كما يكتب أولى قصائده من «الخندق»، وهي قصيدة «الميناء المدفون» في الثاني والعشرين من شهر ديسمبر سنة ١٩١٥م. ثم يضم إليها قصائد أخرى، وتنشر تحت العنوان نفسه في مدينة «أودينة» بفضل صديقه إتوري سيَّرا في ثمانين نسخة يهديها إلى أصدقائه في نابولي وفلورنسة. وهذه القصائد الأولى التي كتَبها أثناءَ الحرب هي يومياتٌ روحية، وشهادات شعرية وإنسانية على اكتشاف الإيقاع والنغمة والكلمة «المحفورة كالهوة» — على حد تعبيره — في لحمه وروحه. كل هذا يؤكد التحامَ حياته وتجاربه الشخصية منذ البداية مع حياة العالم والهموم العامة، سياسية واجتماعية كانت أو ميتافيزيقية وصوفية وفلسفية؛ لذلك لم يكُنْ عجيبًا أن يُصرَّ على وضع أعماله الشعرية والنثرية الكاملة — التي أصدرها الناشر الشهير موندا دوري في ميلانو كما سنرى بعد قليل — تحتَ هذا العنوان الدال: «قصة حياة إنسان».
١٩١٨م يصل إلى باريس مع إعلانِ الهدنة، ويغتنمُ الفرصةَ لزيارة أصدقائه، وبخاصة أبو للينير، فيسارع إلى بيته حاملًا معه هدية السجائر التوسكانية التي كان يحبها. وإذا به يفاجأ باحتضار صديقه الذي كان يلفظُ أنفاسه الأخيرة.
١٩١٩م يبقى في باريس — التي انعقد فيها مؤتمرُ السلام في نفس العام — ويشتغل بالصحافة، ويشاركُ بالكتابة في صحيفة الشعب الإيطالي (بوبولو ديتاليا). تصدر مجموعة قصائده «فرحة السفن الغريقة» لدى الناشر فالليكي، وتحتوي بين دفتيها على قصائد من مجموعته الأولى «الميناء المدفون». يتزوج الفرنسية «جان دوبوا»، ويكتب أولى مقالات عن بتراركا، ويعقد صداقة حميمة مع بعض الداديين، ومع أندريه بريتون زعيم السيريالية وصاحب بيانها الشهير، كما يشيِّع في نفس العام جنازة صديقِه الرسام البائس: موديلياني.
١٩٢٠م يرجع إلى إيطاليا ويستقر في روما مع زوجته التي التحقت بوظيفة معلمة للغة الفرنسية، بينما كلفه قسم النشر والمطبوعات بوزارة الخارجية الإيطالية بتحرير نشرة يومية باللغة الفرنسية، يستمر في الإشراف عليها عشر سنوات كاملة. تدفعه ضرورات العيش للكتابة في بعض الصحف والمجلات، ويتعرف على أندريه جيد، وجيمس جويس، والفيلسوف كروتشه، ويلتقي بهم عدة مرات.
١٩٢٣م تظهر طبعة جديدة ﻟ «الميناء المدفون» مع مقدمة بقلم موسوليني. ويجمع قصائد «فرحة السفن الغريقة» والقصائد الأولى من ديوان «عاطفة الزمن» الذي سيصدر في صورته النهائية بعد ذلك بعشر سنوات. والجدير بالذكر أن مقدمة موسوليني حُذفت من الطبعات التالية، وأن الدوتشي تعرَّف إليه خلال تردده على صحيفة الشعب السالفة الذكر، وأن موسوليني قد أكد — بحق — في مقدمته أن شعرَ أنجاريتي يتميز بالعاطفة والألم والبحث عن الحقيقة وراء المظهر وبطابع السر والهمس والكتمان. ومع أنني لا أدري شيئًا عن حقيقة العلاقة بينهما، إلا أنَّ كلَّ شيءٍ في حياة الشاعر يؤكِّدُ أنه كان أبعدَ الناس عن الفاشية والعنصرية والاستبداد.
١٩٢٥م مولد ابنته الأولى «آن ماريا»، والإشراف على تحرير مجلة «التجارة» التي سرعان ما توقفت لتحل محلها مجلة «معايير» التي تعاون معها، وكان منبرًا لكبار مجدِّدي العصر من أمثال: جويس، وكافكا، وإليوت، وموزيل، وباسترناك.
١٩٢٨م عام «الرحمة» (نسبة إلى القصيدة التي تحمل هذا العنوان، وتجدها مع هذه المختارات) يعلن فيه أنجاريتي تحوُّلَه إلى الكاثوليكية بعد أعوام من التيه بين الحركات الفوضوية والمستقبلية والدادية، التي بلغت ذروتها في العشرينيات؛ لقد بلغ سن النضج — وهو الأربعون — كما حدده قدامى الإغريق. يلتقي في روما بأمِّه التي غاب عنها، وغابت عنه في مصر سنوات طويلة، وتلهمه أبياتًا مشهورة من قصيدته «الأم»، التي يتمثل فيها الموت في صورة مسيحيَّة خالصة.
١٩٣٠م يطوف بالجنوب الإيطالي وبعض البلاد الأوروبية على نفَقة صحيفة الشعب (جاتزيتا دال بوبولو) التي يرسل إليها مقالاتٍ متفرقة في السياسة والأدب، كما يشارك في تحرير بعض المجلات الأدبية وفي بعض المؤتمرات الثقافية. مولد ابنه أنطونيو، وبلوغه نبأ وفاة أمه في الإسكندرية. تضطره ظروفه البائسة للحياة فوق «تلال روما» بالقرب من أحياءِ الفقراء ومن الطبيعة — التي كانت لا تزال عذراء! — في «مارينو»، دون أن يمنع هذا من توافد أصدقائه وتلاميذه والمعجبين به من الأدباء والرسامين لزيارته في مسكنه. والمهم أنه رجع إلى مصر سنة ١٩٣١م خلال أسفاره المتصلة مراسلًا لجريدةِ الشعب وبعد وفاة أمه، وأنه كتب بعد ذلك حوالي مائة صفحة عن تاريخ حياتِه في مصر، وذلك في «كراسةٍ مصرية» لم أستطع للأسف أن أهتدي إليها حتى الآن. يدخل أيضًا في هذا الفترةِ في جدَلٍ حادٍّ مع الشاعر والقصاص ما سيمو بونتمبللي، قبل أن يتصالحا ويُتَّهما مع غيرهما بالغموض والإلغاز.
١٩٣٢م حصوله لأولِ مرة على جائزة «الجند وليير»، من مدينة البندقية، وبداية الاعتراف «الرسمي» بشعره وأدبه.
١٩٣٣م صدور مجموعته الشعرية الجديدة «عاطفة الزمن» لدى الناشر فالليكي، وفي الوقت نفسه لدى الناشر نوفيسيما في روما، قبل نشرِ طبعتها الثانية المكتملة في سنة ١٩٣٦م، لدى هذا الناشر نفسه. (وتضم قصائدَه التي كتبها بين عامَي ١٩١٩، و١٩٣٥م)
١٩٣٤م يصدر في «براغ» المجلدُ الأول من ترجَماته الشِّعرية.
١٩٣٦م يعيد نشر ترجماتِه الشعرية السابقة لدى الناشر نوفيسيما، في مجلد يضم نصوصًا لسان-جون-بيرس (قصيدته الشهيرة أناباز)، وبعض قصائد وليم بليك والشاعر الروسي ييسينين، والشاعر بولان وجونجورا (١٥٦١–١٦٢٧م)، الذي يُعدُّ أحد مؤسِّسي الشعر والنقد الإسباني الحديث، إلى جانب قصيدتين من الأدب الشعبي الإفريقي، بذلك تبدأُ مرحلة جديدة من التأمل الفكري والترجمة الشعرية في حياة أنجاريتي. وتصله دعوة لشغل كرسي الأدب الإيطالي بجامعة سان باولو بالبرازيل، وذلك أثناء حضوره مؤتمر نادي القلم الدولي بالأرجنتين، يقبل الدعوة بسبب ظروفه العائلية وأحواله الاقتصادية التعسة. ويركز محاضراته في البرازيل على دراسة دانتي، وبتراركا، وبوكاتشيو، وجاكوبونه، ومانسوني، وليوباردي حبيبه، وشاعره الأثير. وسوف يكرر هذه المحاضرات ويزيدُها عمقًا بعد قبوله شغلَ كرسي الأدب الإيطالي الحديث والمعاصر في جامعة روما؛ حرصًا منه على تأسيس فن شعري مجدد وكلاسيكي في نفس الوقت.
١٩٣٩م موت ابنه أنطونيو ذي التسعِ سنوات؛ نتيجة التهاب شديد في الزائدة الدودية أدَّى إلى انفجارها؛ وربما كان سوء العلاج هو السبب في الوفاة. لا يبدأ في كتابة مرثياته لابنه ولأعزَّائه (راجع قصيدته يومًا بيوم ضمن هذه المجموعة) إلا بعد رجوع إلى إيطاليا في سنة ١٩٤٢م؛ إذ لم يستطعْ أن يكتب بيتًا واحدًا من الشعر خلال السنوات الست التي قضَاها في غربته بالبرازيل. غنيٌّ عن الذكر أنه رجع إلى وطنه ونيرانُ الحرب مضطرمة، وربما كان أحد أسباب رجوعه هو دخول البرازيل الحرب ضد دول المحور. والجدير بالذكر أنه تمَّ اعتقاله خلال إحدى زياراته الخاطفة لوطنه، وأثناء فترة عمله بالبرازيل بحجَّة معارضته الشديدة للحرب، وللنزاعات العرقية والعنصرية، ولم يفرج عنه إلا بتدخُّلِ موسوليني نفسه.
١٩٤٢م يُعيَّن عضوًا بالأكاديمية الإيطالية، وتدعوه جامعة روما لشغل كرسي «المشاهير» للأدب الإيطالي المعاصر، ويفتتح سلسلة محاضراته — التي استمرت ١٥ عامًا — بمحاضرة عن ليو باردي، يحاول المضيَّ في ترجمتِه لسوناتات شكسبير، ويبدأ الناشرُ موندا دوري بميلانو في طبعِ أعماله الكاملة تحتَ هذا العنوان الموحد: «حياة إنسان».
١٩٤٣م تصدر ترجمته لاثنين وعشرين سوناتة لشكسبير، لدى الناشر «دوكيمونتو»، (وقد بلغت الأربعين سوناتة في سنة ١٩٤٦م.)
١٩٤٥م الناقد دي روبرتيس يجمعُ أشعارَ أنجاريتي المتفرقة كما ينشر الصياغات المختلفة لبعضِ قصائدِه التي سبق نشرها في مجموعتيه «الفرح»، و«عاطفة الزمن».
١٩٤٧م يُقدَّم — مع غيره — لمحكمة «التطهير» التي أقامها اتحاد الكتاب الإيطاليين دون أن توجه إليه أي تهمة يمكن أن تدينه. تتم إجراءات وتدور صراعات؛ لإلغاء «كرسي المشاهير» من الجامعة بين وزير التعليم والمجلس الأعلى للجامعة، فتنتهي بتثبيت الكرسي ومواصلة دروسه ومحاضراته، لكنه يخرج من هذه الاستفزازات، وقد دمرت صحته وأوهنت قواه، وبددت أعصابه فترة من الوقت قبل أن يخرج من أزْمَتها عن طريق الانغماس في الحياة والاستغراق في أعماله ومحاضراته ولقاءته وحواراته وأسفاره المتجددة. تصدر مجموعته الشعرية «الألم» في هذه المرحلة، وهي المجموعةُ التي قال عنها: إنها «أحب كتبي إليَّ»، وفيها مرثياته لابنه أنطونيو ولأعزائه مع بعض قصائده المستوحاة من تجارب الحرب الأليمة. ويذكر أنه كتب بعد وفاة ابنه قصيدة من كلمتين اثنتين هما: «تصرخين/أختنق»، ولكنه أخفَاها — عن زوجته الحزينة بوجه خاص — ولم ينشُرْهما إلا بعد وفاتها في سنة ١٩٥٨م. وقد برر ذلك التصرف بعد ذلك — في ملاحظة مُلحَقة بمجموعته الشعرية «صرخة ومشاهد ريفية» — بأن المرء لا يُمكنه أن يحتفظ لنفسه بكلِّ جوانب تجربته، إلا أن يكون امرأً شديد الاعتداد بنفسه.
١٩٤٨م صدور مجلدٍ يضمُّ بعض ترجماته الشعرية، بعنوان «من جو نجورا وملارميه».
١٩٤٩-١٩٥٠م يحصل على جائزة روما للشعر، ويصدر الناشر موندادوري ترجمته لمسرحية «فيدر» لراسين، وكتابه النثري عن رحلاته: «فقير في المدينة» وشذَرات من مجموعته «الأرض الموعودة». كما تظهر له مقالة في النقد الذاتي لأشعاره بعنوان «مبررات شعر». ويلاحظ أن الأرض الموعودة التي يقصدها هي إيطاليا نفسها التي وعدت بها الآلهة بطل الإنيادة. أضِف إلى هذا أن إيطاليا كانت تمثِّلُ له منذ طفولته الأرض الموعودة بالحياة والنضارة، في مقابل الموت والعدم اللذين ملأتْ نفسه بهما الصحراء المجدبة الممتدة في ذلك الحينِ على حدودِ الإسكندرية.
١٩٥٢م تصدر لدى الناشر «شقارتس» مجموعتُه الشعرية «صرخة ومناظر ريفية».
١٩٥٦م يحصل على «جائزة كنوك-لي-زوت» للشعر.
١٩٥٨م يكمل السبعين من عمره وتمنَحُه «لوكا»، التي تنحدر منها أسرته لقبَ «مواطن شرفٍ للمدينة»، كما تخصص مجلة «الأدب» أحدَ أعدادها لتكريمه. وفاة زوجته «جان دوبوا» في شهر سبتمبر نتيجة فشل كبديٍّ قديم. يقول عنها في تعقيب متأخر على مجموعتِه الشعرية «الفرح» (ضمنَ المجلد الأول من أعماله، حياة إنسان، ص ٥٢٧): «كانت زوجتي هي رفيقة عمري التي بلغت الغاية في التفاني والتسامح والصبر، حيثما جاءني الإلهام الشعري كانت دائمًا بجانبي، لم تتشكك فيَّ أبدًا، قاست معي ومن أجلي؛ كانت منبع شجاعتي …»
١٩٦٠م يحصل على جائزة «مونتفلترو» الأدَبية، وتصدرُ مجموعتُه الشعرية «مفكرة العجوز» مع شهادات لكتابٍ وشعراء من مختلف أنحاء العالم، يوضحون فيها تأثرهم به وانطباعاتهم عنه.
ويقوم برحلات بالطائرة مع عددٍ من أصدقائه يطوفون فيها بمعظم بلاد العالم، مع الإقامة لفترة مطولة في اليابان وهونج كونج. وكان قد سبق له — ضمنَ هذه الرحلات، وفي شهر مايو ١٩٥٩م — أن زار مصر زيارةً خاطفة مع صديقه سانسجاللي، وقد كتب تقريرًا عن هذه الزيارة في نفس الشهر ونشره في صحيفة «الموندو» (العالم). ولا شكَّ أن هذه الرحلاتِ كان الهدف منها هو محاولة التعزي عن غياب زوجته التي ظلَّت حاضرةً معه على مستوى ميتافيزيقي وصوفي، وراء حدود الزمن النسبي.
١٩٦١م تصدر مذكرات رحلاتِه في كتاب «الصحراء وما بعدها»، الذي يستكمل فيه ما بدأه في كتابه «فقير في المدينة»، ويضيف إليه كذلك ترجماتِه عن الشعر البرازيلي.
١٩٦٢م ينتخب رئيسًا للجمعية الأوروبية للكتاب.
١٩٦٣م يرأس مؤتمر الجمعية الأوروبية للكتَّاب في ليننجراد (سان-بطرسبورج حاليًا)، ويلتقي بخروشوف ويشهد الصراع الدائر بين الستالينيين، وعلى رأسهم أهرنبورج، وبين المجددين والثائرين الأحرار. ويدافع بشجاعة عن حرية الإنسان وكرامته في حضور عدد كبير من الأدباء، منهم: شولوخوف وسارتر وسيمون دو بوفوار.
١٩٦٤م يسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ لإلقاء عدد من المحاضرات في جامعة كولومبيا بنيويورك، وهناك يتعرف إلى الشاعر الأمريكي «چنسبرج» ويتصادق — كالعادة — معه!
١٩٦٥م تصدر ترجمته ﻟ «رؤى» وليم بليك الصوفية، لدى الناشر «دوري».
١٩٦٨م تكرمه الدولة في قصر «كيجي» بمناسبة بلوغه الثمانين من عُمره، مع الشاعرين أويجينيو مونتاله، وكوازيمودو، وذلك بحضور رئيس الوزراء. ويصدر له كتاب «حوار» — أجراه مع البرازيلية برونا بيانكوه — مع أشعارٍ متفرقة من مجموعاته السابقة، كالأرض الموعودة ومفكرة العجوز.
١٩٦٩م تصدر مجلة «هيرن» عددًا لتكريمِه، كما يصدرُ الناشر الفرنسي الشهير «جاليمار» مجموعةَ مقالات له تحت عنوان: «براءة وذاكرة»، من ترجمة فيليب جاكوتيت. يقوم برحلات إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وسويسرا، وألمانيا، ويظهر المجلد الأول من أعماله، الذي يضم أشعاره الكاملة، لدي الناشر موندادوري، مع شروحٍ ودراساتٍ لتلميذه الناقد: ليوني بيتشوني.
١٩٧٠م يكتب آخر قصائده في الليلة التي تختم سنة ١٩٦٩م، ويفتتح فجرَها أول يوم من أيام السنة الجديدة، تحت عنوان: «المتحجر والمخملي»، ويسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ لتسلم جائزة من جامعة أوكلاهوما، لكن المرض يفاجئه في نيويورك، ويعالج في إحدى المستشفيات قبل رجوعه إلى بلاده للاستشفاء في سالزو ما جوري، غير أنَّ الموتَ يُباغته في ميلانو في الليلة الفاصلة بين الأول والثاني من شهر يونيو. تقام جنازته في روما في كنيسة سان لورنزو في الرابع من الشهر، دون أن يكلِّف أيُّ مسئول من السلطة نفسه بحضورها.
يبدو أن «بيا» كان شعلة نشاط أدبيٍّ وتجاري وثَوري. كان له محلٌّ لبيع الرُّخام والأثاث والخمور، كما كان حلقة الوصل بين شداة الأدب الأجانب من أبناء الإسكندرية، والمسئول إلى حد كبير عن الصداقات التي عقَدها أنجاريتي معهم وأثَّرت تأثيرًا كبيرًا على تكوينه؛ ومن أهمها: صداقتُه الحَميمة ومناقشاته الطويلة مع الشاعر السكندري العظيم قنسطنطين كفافيس، وجماعة الأدباء اليونانيين الذين كانوا يشاركون في تحرير مجلتهم «لاغراماتا» أي الأدب، والتي كانت تصدر بالإسكندرية (قرأت هذا في أحد المراجع، ولم أتوصل، للأسف، لتفصيلاتٍ أوفى).
†  راجع قصيدته «إلى الأبد»، لاسيما الأبيات الأخيرة.
١  أقدم شكري القَلبي للسيدة: شهيرة، أمينة المكتبة التي ساعدتني على تصوير ما يزيد على المائتي صفحة، من كتب مختلفة عن حياة أنجاريتي وشعره …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤