في الأعماق السحيقة

وقف الملازم أمام الكرة الفولاذية وهو يقضم قِطعةً صغيرةً من خشب الصَّنَوبر، وقال: «ما رأيك، يا ستيفنز؟»

قال ستيفنز بنبرة متحفظة: «إنها فكرة.»

قال الملازم: «أعتقد أنها ستتحطم تمامًا.»

رد ستيفنز وهو ما زال يحتفظ بالنبرة الموضوعية: «يبدو أنه حَسَبها جيدًا.»

قال الملازم: «لكن فكِّر في الضغط. إنه يكون أربعة عشر رطلًا للبوصة عند سطح الماء، ويصبح ضِعف ذلك عند عمق ثلاثين قدمًا، وعند عمق ستين قدمًا يزيد ثلاثة أضعاف، وعند عمق تسعين قدمًا يزيد أربعة أضعاف، وعند عمق تسعمائة قدم يزيد أربعين ضعفًا، وعند عمق خمسة آلاف وثلاثمائة قدم؛ أي الميل، يزيد مائتين وأربعين ضعفًا؛ أي ما يعادل — دعني أرَ — ثلاثين سنتالًا؛ أي طنًّا ونصف الطن يا ستيفنز، «طنًّا ونصف الطن» في البوصة المربعة. والعمق في المحيط حيث سيذهب يصل إلى خمسة أميال. وهكذا يصبح سبعة أطنان ونصف الطن …»

فقال ستيفنز: «يبدو هذا كثيرًا، لكنه فولاذ سميك جدًّا.»

لم يُجِب الملازم، وعاد إلى قضْم قِطعة الصَّنَوبر. لقد كان موضوع محادثتهما هو كرة فولاذية ضخمة يبلغ قُطرها الخارجي تسع أقدام تقريبًا. لقد بدت كما لو كانت قذيفة إحدى قطع المدفعية العملاقة. وقد وُضعت بحرص على سِقَالة ضخمة مبنية في هيكل السفينة؛ أما الروافد الضخمة التي كانت ستلقيها في الماء، فأعطت مؤخَّرَ السفينةِ شكلًا أثارَ فضولَ كلِّ بحَّار متمرس رآها، من حوض السفن في لندن شمالًا حتى خط عرض مدار الجدي جنوبًا. وفي مكانين أحدهما فوق الآخر، كان يوجد في هذه الكرة الفولاذية نافذتان دائريتان لهما زجاجٌ شديدُ السُّمك، وكانت إحداهما موضوعةً في إطار فولاذي عالي الصلابة ومفتوحةً جزئيًّا الآن. وفي ذلك الصباح كانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها كلا الرجلين داخل الكرة الفولاذية. لقد كان داخلُ الكرة مبطنًا بالوسائد الهوائية بعناية، وكانت توجد دعامات صغيرة بين الوسائد المنتفخة لتسهيل التشغيل. كل شيء كان مبطنًا بعناية، حتى جهاز مايرز الذي سيمتص حمض الكربونيك، ويجدد الأكسجين الذي يستنشقه راكب الكرة عندما يدخل إليها من الفتحة الزجاجية الكبيرة بما يكفي لعبور شخص والاستقرار داخلها. وكان داخلُ الكرة مبطنًا بعناية بالغة لدرجة إمكانية إطلاق الرصاص على الشخص داخلها دون أن يحدث أذًى. وكان لا بدَّ أن يكون الأمر على هذا النحو؛ لأن أحد الأشخاص سيدخل إلى الكرة من الفتحة الزجاجية ثم يُغلق عليه بإحكام، ويُلقى من السفينة ليغطس لأسفل شيئًا فشيئًا، لمسافة خمسة أميال، حسبما قال الملازم. لقد استحوذ هذا الأمر على خيال الملازم بقوة، وجعله ضجرًا في قاعة الطعام، وكان ستيفنز الذي وصل حديثًا إلى السفينة هديةً من السماء بالنسبة إليه؛ إذ وجد شخصًا يتحدث معه حول الأمر مرارًا وتَكرارًا.

قال الملازم: «أعتقد أن هذا الزجاج سوف ينثني وينبعج ويتحطم تحت هذا الضغط. لقد جعل دوبريه الصخورَ تجري مثل الماء تحت الضغط الكبير؛ وتذكَّر ما أقوله لك …»

فقال ستيفنز: «وماذا لو انكسر الزجاج بالفعل؟»

«سيندفع الماء للداخل كدَفْق من الحديد. هل سبق أن جرَّبت مواجهةَ اندفاع دَفْق مباشر من ماء عالي الضغط؟ إنه يضرب بقوة مثل الرصاصة؛ ومن ثمَّ يحطِّم ببساطة الشخصَ الموجودَ بداخل الكرة ويسحقه، ويمزِّق حلْقَه ويحطِّم رئتيه، ثم يفجِّر أذنيه …»

قاطعه ستيفنز معترضًا، وقد تخيَّل الأمرَ بوضوح: «يا له من خيال يهتم بالتفاصيل الدقيقة!»

فقال الملازم: «أنا أعبِّر ببساطة عن واقع الأمور.»

«وماذا عن الكرة؟»

«سوف تُصدِر بضع فقاعات صغيرة، وتستقر في الأسفل حتى قيام الساعة، بين الرواسب الطينية والوحل في قاع المحيط — بينما سيكون المسكين إليستيد ممددًا على الوسائد المحطمة مثل الزُّبْد المفرود على الخبز.»

وكرَّر جملته كما لو كان معجبًا بها أيما إعجاب، فقال: «مثل الزُّبد المفرود على الخبز.»

«أكنتما تُلقيان نظرةً على الصاري الخلفي؟» كان هذا هو ما قاله إليستيد الذي وقف خلفهما في ثيابه البيضاء المهندمة وهو يعَض على سيجارة بين أسنانه، وكانت عيناه تبتسمان خلف ظل حافَة قبعته العريضة. واستطرد سائلًا: «ما أمر الخبز والزبد، يا وايبريدج؟ أما زلت تتذمَّر كعادتك بشأن رواتب ضباط البحرية غير الكافية؟ لم يتبقَّ سوى يوم على انطلاقي، ولا بدَّ من تجهيز الروافع اليومَ؛ فهذه السماء الصافية والأمواج الهادئة مناسبتان لإلقاء أطنان عديدة من الرصاص والحديد في الماء، أليس كذلك؟»

قال وايبريدج: «هذا لن يؤثِّر عليك كثيرًا.»

«كلا، سأكون خلال عدة ثوانٍ على عمق سبعين أو ثمانين قدمًا؛ حيث لا تتحرَّك المياه مثقال ذرة، حتى لو كانت الرياح العاتية تجتاح السطح وحتى لو ارتفعت الأمواج حتى تكاد تطاول عَنان السماء. كلا، بالأسفل هناك …» وذهب إلى جانب السفينة وتبعه الشخصان الآخَران. ومال ثلاثتُهم على مرافقهم وحدقوا لأسفل في المياه الخضراء المصفرة.

وقال إليستيد مختتمًا فكرته بصوت عالٍ: «السلام.»

سأله وايبريدج على الفور: «هل أنت متأكد من أن هذه التروس سوف تعمل؟»

أجابه إليستيد: «لقد عملت خمسًا وثلاثين مرةً من قبلُ؛ فلا بدَّ أنها ستعمل هذه المرة.»

«لكن ماذا إن لم تعمل؟»

«ولماذا قد يحدث ذلك؟»

فقال وايبريدج: «أنا لن أنزل في هذا الشيء اللعين ولو مقابل عشرين ألف جنيه.»

قال إليستيد: «يا لك من شابٍّ متفائل!» وتَفَل مازحًا على فقاعة بالأسفل.

قال ستيفنز: «أنا لم أفهم بعدُ كيف تنوي تشغيل هذا الشيء.»

قال إليستيد: «في البداية سوف أدخل الكرة، وعندما أطفئ الضوء الكهربائي ثلاث مرات لأوضح أنني بخير، سوف ترفعني تلك الرافعة فوق مؤخَّر السفينة مع كل هذه الأثقال الكبيرة المصنوعة من الرصاص المعلقة أسفل مني. وثقل الرصاص العلوي مزود ببكرة تحمل مائة قامة من الحبال القوية الملفوفة، وهذا كل ما يربط الأثقال بالكرة، باستثناء الحبال الرافعة التي سوف تُقطع عند إسقاط الكرة. لقد استخدمنا الحبال بدلًا من الأسلاك؛ لأنها أسهل في القطع وأكثر قدرة على الطفو، وهما أمران مهمان، كما سترى.

ولاحظ أن كل ثقل من هذه الأثقال المصنوعة من الرصاص يحتوي على فتحة، وسوف يدخل في هذه الفتحة قضيب حديدي، ويتدلى لمسافة ست أقدام من الطَّرَف السفلي. وإذا ارتطم هذا القضيب من الأسفل، فسوف يضرب الرافعة لأعلى، ويجعل التروس تتحرك في جانب الأسطوانة التي يدور عليها الحبل.

حسنًا، ثم سوف تنزل الكرة بأكملها إلى الماء برفق، وتُقطع الحبال الرافعة؛ ومن ثمَّ تطفو الكرة — فهي أخف من الماء بسبب الهواء الموجود بداخلها — بينما ستهبط الأثقال المصنوعة من الرَّصاص ومعها الحبل. وعند تدلية الحبل بالكامل، تكون الكرة قد نزلت لأسفل بالكامل في المكان المحدد.»

سأل ستيفنز: «لكن لماذا الحبل؟ لماذا لا تُربط الأثقال بالكرة مباشرةً؟»

«بسبب الارتطام في الأسفل؛ فالكرة كلها سوف تندفع لأسفل، ميلًا تلو الآخر، بسرعة هائلة في نهاية الأمر. ولولا هذا الحبل لَتحوَّلت إلى شظايا بفعل الارتطام. بَيْد أن الأثقال سوف تصطدم بالقاع، وسيحدث ذلك مباشرةً، وهنا سوف تبدأ الكرة في الطفو، ثم تغطس رويدًا رويدًا وتتوقف في النهاية، ثم تبدأ في الطفو لأعلى مرةً أخرى.

هنا يأتي عمل تروس التشغيل؛ فالأثقال سوف تصطدم بقاع المحيط مباشرةً، وينطلق القضيب ويدفع التروس للعمل، فيلتف الحبل مجددًا على البكرة. وسوف أُسحب للأسفل إلى قاع المحيط، وأمكث هناك لنصف ساعة، وسيكون الضوء الكهربائي مضاءً لأرى ما يحدث حولي. ثم ستُخرِج تروس التشغيل سكينًا ويُقطع الحبل، فأندفع لأعلى مرةً أخرى مثل فقاعة المياه الغازية. وسوف يساعد الحبل نفسه في الطفو.»

فقال وايبريدج: «وماذا إن اصطدمْتَ قدَرًا بإحدى السفن؟»

فأجابه إليستيد: «سوف أصعد على الفور، متفاديًا إياها بسرعة هائلة؛ فلا داعيَ للقلق بشأن ذلك.»

«وماذا لو انحشرَتْ بعضُ القشريات الذكية في التروس …»

فقال إليستيد وهو يدير ظهره للماء ويحدق في الكرة: «ستكون هذه دعوة عاجلة للتوقف.»

ألقَوا إليستيد من على متن السفينة في الساعة الحادية عشرة. وكان اليوم مشرقًا وهادئًا على نحوٍ باعث على السكينة، وغاب الأفق وراء الضباب. وأضاء الضوء الكهربائي في القمرة العلوية الصغيرة ثلاث مرات بابتهاج. ثم أنزلوه ببطء على سطح الماء، وكان هناك بحَّار في مؤخَّر السفينة متأهب لقطع حبل الرفع الذي يمسك الأثقال المصنوعة من الرصاص والكرة معًا. وأصبحت الكرة، التي كانت تبدو هائلة الحجم جدًّا على متن السفينة، أصغرَ شيء يمكن إدراكه تحت مؤخَّر السفينة. دارت قليلًا، وبدت نافذتاها الداكنتان، اللتان كانتا تطفوان بالأعلى، مثل العينَين اللتين تنظران في حيرة إلى الجمع المحتشد عند سور السفينة. وتساءل شخص عن شعور إليستيد تجاه هذا الدوران الذي حدث للكرة. ثم صاح المقدم: «هل أنت مستعد؟» فقال له: «نعم، نعم، يا سيدي!» فقال: «إذًا دعوها تنزل!»

كان حبل الرفع مشدودًا أمام الشفرة فقطعوه، ودارت الكرة بطريقة بيَّنَت قلةَ حيلتها على نحو صادم. ولوَّح أحدهم بمِنديل، بينما حاول آخر إطلاق صيحة تشجيع، وكان أحد ضباط الصف يَعُد ببطء: «ثمانية، تسعة، عشرة!» ودارت الكرة مرة أخرى، ثم تحرَّكت حركةً سريعةً، ثم سقطت فتناثر الماء حولها، ثم اعتدلت.

بدت ثابتةً لبرهة، وسرعان ما بدت أصغرَ فأصغر ثم غشاها الماءُ، وأصبحت مرئيةً وأكبرَ حجمًا بفعل انكسار الضوء، وأكثرَ عتامة تحت سطح الماء. وفي غضون ثلاث عدات اختفت. وبعيدًا في أسفل الماء كان يوجد وميض من الضوء الأبيض، وتضاءل حتى أصبح نقطةً واختفى. ولم يتبقَّ شيء سوى الأعماق حالكة الظلام التي تسبح فيها إحدى أسماك القرش.

وفجأةً بدأت مِروحةُ دفعِ السفينةِ تدور، واضطرب الماء، واختفت سمكة القرش في ارتباك، واندفع وابلٌ من الزَّبَد عبر الصفاء الكريستالي الذي ابتلع إليستيد؛ فقال أحد البحَّارةِ لزميله: «ما الخَطبُ؟»

فأجابه زميله: «سوف نبتعد بضعة أميال خوفًا من اصطدامه بنا عندما يصعد.»

سارت السفينة ببطء إلى مكانها الجديد. وتقريبًا ظلَّ كلُّ شخصٍ غيرِ مكلَّفٍ بعمل على متنها يراقب أمواجَ المحيطِ الصاعدةَ الهابطةَ التي غاصت فيها الكرة. ولا شكَّ أن كل الكلام الذي دار في النصف ساعة التالي كان متعلقًا بإليستيد، سواء على نحو مباشر أو غير مباشر. وكانت شمس ديسمبر وقتئذٍ مرتفعةً في السماء، والحرارةُ شديدةً للغاية.

قال وايبريدج: «سيكون الجو باردًا بما فيه الكفاية بالأسفل. إنهم يقولون إنه تحت عمقٍ معيَّنٍ في قاع الماء تكاد تكون المياهُ متجمدةً.»

سأله ستيفنز: «من أين سيصعد؟ لقد فقدتُ اتجاهاتي.»

قال المقدم الذي كان يعتز بمعرفته كلَّ شيء: «هذه هي البقعة التي سيصعد منها.» ومدَّ إصبعه الدقيق نحو الجنوب الشرقي، وقال: «وأعتقد أن تلك هي اللحظة تقريبًا؛ فلقد مضى عليه خمس وثلاثون دقيقة.»

تساءل ستيفنز: «كم من الوقت يستغرق الوصول إلى قاع المحيط؟»

«بالنسبة إلى عُمقٍ قدْره خمسةُ أميال، وبافتراض معدَّلِ تسارُعٍ قدْره قدمان في الثانية — كما فعلنا — فسوف يستغرق الطريق في الهبوط والصعود ثلاثة أرباع دقيقة تقريبًا.»

فقال وايبريدج: «إذًا لقد تأخر.»

فأجاب المقدم: «تقريبًا. أظن أن لفَّ الحبلِ يستغرق بضعَ دقائق.»

فقال وايبريدج وقد بدا عليه الارتياح بوضوح: «لقد نسيتُ ذلك.»

ثم بدأ التشويق. مرت دقيقة ببطء ولم تخرج أيُّ كرة من الماء. وتبعتها دقيقة أخرى، ولم يشُقَّ عُبابَ البحرِ الخفيض المضطرب أيُّ شيء. وأخذ البحَّارة يشرح بعضُهم لبعضٍ تلك المسألةَ البسيطةَ المتمثلةَ في لفِّ الحبلِ الذي يستغرق وقتًا. وكان سور السفينة يعِجُّ بالوجوه المترقِّبة. وأخذ بحَّارٌ كبيرُ السنِّ كثيف شعر يصيح في نفاد صبر قائلًا: «هيا يا إليستيد!» وتبعه آخرون، وأخذوا يَصيحون كما لو كانوا في انتظار رفع سِتار المسرح.

رمقَهم المقدمُ في ضيق، وقال: «بالطبع إذا كان التسارع أقلَّ من قدمين، فسوف يستغرق وقتًا أطولَ. نحن غير متأكدين على نحو قاطع من أن ذلك هو الرقْم الصحيح. وأنا لا أومن بالحسابات إيمانًا أعمى.»

وافقه ستيفنز باقتضاب. ولم ينبِس أيُّ شخصٍ من الواقفين على ظهر مؤخَّر السفينة ببنت شفةٍ لعدة دقائق. ثم دقَّت ساعة ستيفنز.

ولما مرت إحدى وعشرون دقيقة على بلوغ الشمس ذروةَ ارتفاعها، كان الجميع في انتظار ظهور الكرة مرة أخرى، ولم يجرؤ أحد على متن السفينة على أن يهمس بأن الأمل أصبح معدومًا. كان وايبريدج أوَّل مَن عبَّر عن ذلك الإدراك؛ إذ تحدَّث وأصوات الأجراس الثمانية المعلِنة عن الساعة ما زالت ترِنُّ في الأُفُق؛ فقال فجأةً لستيفنز: «لطالما كنت غير واثقٍ في تلك النافذة.»

فقال ستيفنز: «يا إلهي! هل تعتقد أنه …؟»

قال وايبريدج: «حسنًا!» وترك بقية الأمر لخياله.

قال المقدم في تشكك: «أنا لست مؤمنًا بقوة بالحسابات؛ لذا لم أفقد الأملَ بعدُ.» وعند منتصف الليل كانت السفينة الحربية تبحِر ببطء في صورة لولبية حول المنطقة التي غاصت فيها الكرة، وكان شعاع الضوء الكهربائي الأبيض يندفع ويتوقف، ثم يندفع للأمام مرة أخرى في سخط عبْر المياهِ الواسعةِ الفسفوريةِ الممتدةِ أسفلَ النجوم الصغيرة.

قال وايبريدج: «إذا لم تكن النافذة قد انفجرت وحطَّمته، فالوضع أكثر سوءًا؛ فعندها ستكون التروس قد تعطلت، وهو ما زال حيًّا على عمق خمسة أميال تحت أقدامنا؛ حيث البرودة والظلمة، محبوسًا في تلك الفقاعة الصغيرة؛ حيث لم يسطَع شعاع ضوء ولم يعِش إنسانٌ منذ خُلقت هذه المياه. إنه هناك بلا طعام، يشعر بالجوع والعطش والخوف، ويتساءل إن كان سيموت جوعًا أم مختنقًا. أيهما سيكون مصيره؟ أظن أن الأكسجين بدأ ينفد من جهاز مايرز؛ فما مدة استمرار هذا الجهاز في العمل؟»

واستطرد متعجبًا: «يا للهول! كم نحن مخلوقات ضئيلة! يا لنا من شياطينَ ضئيلةٍ مغامِرةٍ! بالأسفل حيث أميالٌ وأميالٌ من الماء — لا شيء سوى الماء، وكل هذه المياه من حولنا وهذه السماء. يا لها من هوَّات تفتح فاها!» ورفع يديه معربًا عن عجزه. وبينما هو كذلك ارتفع إلى السماء ضوءٌ أبيضُ دون أن يحدث صوت، وتحرَّك بمزيد من البطء، وتوقَّف، وأصبح نقطةً ثابتةً كما لو كان نجمًا جديدًا سقط في السماء، ثم أخذ ينزلق عائدًا مرةً أخرى، واختفى وسط انعكاسات النجوم والضباب الأبيض الصادر عن وميض البحر الفسفوري.

وعند رؤية ذلك المشهدِ وقفَ مادًّا ذراعيه فاتحًا فاه، ثم أغلق فمه وفتحه ثانيةً ولوَّح في نفاد صبر، ثم التفت وصاح في أحد أفراد الحراسة الليلية قائلًا: «ها هو إليستيد!» ثم ذهب على عَجَل إلى ليندلي ليُحضر الكشاف، وقال: «لقد رأيته، إنه هناك جهة اليمين من مقدمة السفينة! إن ضوءه ساطع، وقد خرج لتوِّه من الماء. لُفُّوا هذا الكشاف؛ يجب أن نراه وهو يتحرك عندما يرتفع على الأمواج.»

إلا أنهم لم يلتقطوا المستكشف حتى الفجر. وعندها استطاعوا تحديد موقعه. وأُنزلت الرافعة، وربطَ طاقمُ زورقٍ أُنزل السلسلةَ بالكرةِ. وعندما رفعوا الكرة إلى السفينة، فتحوا فتحة الدخول، ونظروا في داخلها المظلم (حيث كان الهدفُ من غرفة الضوء الكهربائي إنارةَ الماء المحيط بالكرة، وكانت الغرفة مظلمة تمامًا).

كان الهواء ساخنًا للغاية في داخل الفتحة، وكان مطاط غطائها طريًّا بسبب الحرارة. ولم يكن ثمة جوابٌ لأسئلتهم المتلهفة، ولا صوت حركة بالداخل. وبدا أن إليستيد كان راقدًا بلا حَراك متكومًا في قاع الكرة. وزحف طبيب السفينة للداخل وأخرجه إلى الرجال في الخارج. ولبرهة ظلوا في حَيرة لا يعلمون إن كان إليستيد حيًّا أم ميتًا؛ فقد كان وجهه، في ضوء مصابيح السفينة ذات الضوء الأصفر، يلمع من العرق، فحملوه إلى قمرته.

واكتشفوا أنه ليس ميتًا، بل في حالة انهيار عصبي تام، بالإضافة إلى إصابته البدنية الشديدة. ظل راقدًا بلا حَراك تمامًا بضعةَ أيام، ولم يستطع رواية ما مر به من تجاربَ إلا بعد أسبوع.

تقريبًا كانت أولى كلماته أنه سينزل للأسفل مرةً أخرى. وقال إنه لا بدَّ من تعديل الكرة كي تسمح له بالتحرر من الحبل عند الحاجة، وكان هذا هو كل شيء؛ فلقد خاض بحقٍّ أروعَ تجرِبة في حياته. وقال: «اعتقدتم أنني لن أجد سوى الرواسب الطينية. لقد سخرتم من استكشافاتي، لكنني اكتشفت عالَمًا جديدًا!» وروى قصته في أجزاءٍ غير متصلة، وبترتيب خاطئ في الأساس؛ ومن ثمَّ فمن المستحيل إعادة رواية القصة كما قالها. إلا أن ما يلي هو سرد لتجرِبته.

قال إليستيد إن الأمر بدأ بدايةً بشعة؛ فقبل أن يُرخى الحبلُ بالكامل، أخذت الكرة تلف؛ وشعر كأنه ضفدع في كرة قدم. ولم يستطِع رؤية شيء إلا الرافعة والسماء من فوقها مع بعض لمحات من وجوه الناس على سور السفينة. وفي بعض الأحيان، لم يستطِع تحديدَ الاتجاه الذي ستتحرك فيه الكرة بعد ذلك. فجأة يجد قدميه ترتفعان لأعلى ويحاول المشي، ويتقلب لأعلى رأسًا على عقب على البطانة عشوائيًّا. وعلى الرغم من أن اتخاذ أيِّ وضعٍ آخَر كان سيوفر قدْرًا أكبر من الراحة، فإنه لم يكن من الممكن الاعتماد على أيِّ وضع آخَر في ظل الضغط الشديد لهذا العمق السحيق.

وفجأة توقف التأرجح واعتدلت الكرة، وعندما اعتدل، رأى الماء من حوله بلون أزرق مخضر، مع ضوء خفيف كان يتسلل لأسفل قادمًا من أعلى، واندفعت بجواره مجموعةُ أشياءَ صغيرةٍ طافيةٍ بدا له أنها كانت متجهةً صوب الضوء. وكلما نظر زاد الظلام أكثر فأكثر حتى بدا الماءُ من فوقه في ظلمة سماء منتصف الليل، وإن كانت أكثر اخضرارًا، وكان الماءُ من أسفلَ أسودَ اللون. واكتسبت الأشياء الشفافة الصغيرة الموجودة في الماء بريقًا لامعًا خافتًا، وسارت أمامه في صورة خيوط خضراء باهتة.

أما عن شعور السقوط، فكان أشبه ببداية هبوط المصعد، ولكنها بداية مستمرة لا تتوقف. لا بدَّ للمرء من تخيُّل معنى هذه الاستمرارية. لقد كانت تلك هي أوَّل مرة يندم فيها إليستيد على قيامه بهذه المغامرة. كان يرى كل الاحتمالات المناهضة له بطريقة جديدة كليًّا؛ فأخذ يفكِّر أنه ربما يصادف سمك الحبار الكبير الذي يقول الناس إنه يعيش في المياه الوسطى، والذي يكون من ضمن الأشياء شبه المهضومة التي يُعثر عليها في أمعاء الحيتان في بعض الأحيان، أو يكون جثة طافية ومتعفنة ونصف مأكول من قِبل السمك. وماذا لو وقعت الكرة في قبضته ولم تكن هناك وسيلة للإفلات؟ وهل هذه التروس خضعت حقًّا للاختبار على نحو كافٍ بحيث تواجه هذا الأمر؟ إلا أن الرغبة في الاستمرار أو العودة لم تكن مهمة على الإطلاق في ذلك الوقت.

وفي غضون خمسين ثانية اتشح كل شيء بالسواد الذي يكتنف الليل خارج الكرة فيما عدا بقعة الماء الساقط عليها ضوءُه، وكان يلمح بين الحين والآخر بعضَ الأسماك أو الفضلات العائمة. وكانت تلك الأشياء تمرُّ بجواره بسرعة تُعجِزه عن رؤية ماهيتها. واعتقد في إحدى المرات أن قرشًا مرَّ بجانبه. ثم أخذت الكرة في السخونة بسبب احتكاكها بالماء؛ ويبدو أنهم استخفُّوا بهذا الأمر.

وكان التعرق هو أوَّل ما لاحظه، ثم سمع صوت هسهسة يزداد ارتفاعًا تحت قدميه، ورأى الكثيرَ من الفقاعات الصغيرة — لقد كانت بالغةَ الصغر حقًّا — تندفع لأعلى مثل المِروحة عبْر الماء بالخارج.

وتحسَّس النافذة قائلًا: بخار! وقد كانت النافذة ساخنة. أشعل الضوء المتوهج الصغير الذي يضيء قمرته، ونظر إلى الساعة المبطَّنة بالدعامات، ووجد أنه مرت دقيقتان على رحلته. وخطر على باله أن النافذة من الممكن أن تتحطم بسبب اختلاف درجات الحرارة؛ لأنه علِم أن درجة حرارة ماء القاع تقترب من درجة التجمد.

وفجأةً بدا أن أرضية الكرة تضغط على قدميه، وأصبح اندفاع الفقاعات بالخارج أكثر بطئًا، وتضاءل صوت الهسهسة. ودارت الكرة قليلًا، ولم تتحطم النافذة ولم يحدث شيء، وعلِم أن خطر الغرق قد زال على أيِّ حال.

وبعد حوالي دقيقة أخرى كان ممددًا على أرضية المحيط، وقال إنه اعتقد أن ستيفنز ووايبريدج وبقية الرجال الذين كانوا على ارتفاع خمسة أميال فوقه، كانوا أبعدَ مِن أبعدِ سحابةٍ سبحت فوق رءوسنا على الأرض، وإنهم كانوا يبحرون ببطء ويحدقون لأسفل، ويتساءلون عما قد حدث له.

ونظر من النافذة، وكانت الفقاعات قد اختفت وتوقف صوت الهسهسة. وفي الخارج كان هناك سوادٌ حالك — يحاكي سواد القطيفة السوداء — فيما عدا البقعة التي شقَّها الضوء الكهربائي في هذه المياه الخالية وكشف عن لونها — اللون الأخضر المصفر. ثم ظهرت ثلاثة أشياءَ تشبه أشكال النار يتبع بعضُها بعضًا عبْر الماء. ولم يستطِع معرفة إن كانت صغيرةً وقريبةً أم كبيرةً وبعيدةً.

كان كلٌّ منها محددًا بضوءٍ ضاربٍ إلى الزرقة براقٍ مثل أضواء مراكب الصيد، وبدا أن الضوء كان يتوهَّج بشدة، وعلى جانبَيْ كلٍّ منها كانت توجد نقاطٌ من هذا الضوء مثل نوافذ السفينة الأفتح لونًا. وبدا أن فسفوريتها تخبو مع اقترابها من إشعاع ضوئه، وعندئذٍ رأى أنها أسماك صغيرة من نوع غريب، برءوس ضخمة، وعيون واسعة، وأجسام وذيول متضائلة. وكانت عيونها متوجهة صوبه، واعتقد أنها كانت تتبعه، وظنَّ أنها كانت تنجذب إليه بسبب توهُّج ضوئه.

وعلى الفور انضمت إليها أسماك أخرى من النوع نفسه. وكلما نزل لأسفل، لاحظ تحوُّل الماء إلى لون باهت، وأن النقاط الصغيرة تتلألأ في شعاع ضوئه مثل ذرات الغبار في شعاع الشمس. وكان هذا على الأرجح بسبب سحب الرواسب والطين التي أثارتها الأثقال المصنوعة من الرصاص.

وعندما سحبَتْه أثقال الرصاص لأسفل، وجد نفسه في ضبابٍ أبيضَ كثيفٍ لم يخترق ضوءُه الكهربائيُّ إلا بضع ياردات منه، ومرت دقائقُ كثيرةٌ قبل أن تنحسر طبقات الرواسب المعلقة ولو قليلًا. وبعد ذلك، على ضوئه وعلى الضوء الفسفوري العابر المنبعث من سرب سمك بعيد، تمكَّن من أن يرى أسفلَ الظلمةِ الهائلةِ لهذا الماء الراقدِ الهائلِ مساحةً كبيرةً غيرَ مستوية من الرواسب البيضاء المائلة للرَّمادي، تتخللها هنا وهناك تجمعات متشابكة من زنابق البحر التي أخذت تلوِّح بلوامسها الجائعة في الهواء.

وعلى مسافةٍ أبعدَ كانت توجد هياكلُ رشيقةٌ شبهُ شفافةٍ لمجموعة من الإسفنجيات العملاقة. وتناثر على هذه الأرضية مجموعةٌ من الأعشاب المسطحة ذات الأشواك وذات اللونَين الأرجواني الزاهي والأسود، والتي اعتقد أنها نوعٌ من قنفذ البحر، بالإضافة إلى أشياءَ صغيرةٍ ذات عيون كبيرة أو عمياء، بعضها يشبه على نحو غريب قمل الخشب وبعضها الآخر يشبه الكركدن، وكانت تزحف ببطء على طريق الضوء واختفت في غموض، تاركة وراءها آثارًا متعرجةً.

وفجأةً غيَّر سربُ الأسماك الصغيرة السابحة اتجاهه وتوجَّه نحوه، كما قد يفعل سرب طيور الزرزور. ومرَّ فوقه مثل الثلج الوامض، ثم رأى خلفه مخلوقًا أكبرَ يتقدم نحو الكرة.

لم يستطِع أن يراه بوضوح في البداية؛ فقد كان شيئًا يتحرَّك ببطء على نحو يشبه إنسانًا يسير، ثم جاء إلى دائرة الشعاع المنبعث من الضوء الكهربائي. وكلما أصابه الوهج، أغلق عينيه بسبب عدم القدرة على النظر بسبب الضوء. وأخذ إليستيد يحدِّق فيه في ذهول شديد.

لقد كان حيوانًا فقاريًّا غريبًا. وكان رأسه الأرجواني الداكن يوحي بأنه يشبه قليلًا الحِرباء، إلا أن جبهته المرتفعة وجُمجمته لا تجعله يندرج تحت الزواحف على الإطلاق؛ إن الانحدار الرأسي لوجهه أعطاه شبهًا كبيرًا بالإنسان.

كانت عيناه الكبيرتان الناتئتان بارزتَين من جيوب كما هي الحال في الحِرباء، وكان له فمٌ كبيرٌ يشبه فمَ الزواحف، وكانت شفتاه الخشنتان موجودتَين أسفل فتحتَي الأنف الصغيرتَين. ومكان الأذنَين، كان يوجد غطاءان كبيران للخياشيم، وكان يخرج منهما شجرةٌ متفرعةٌ من الشعيرات الْمَرجانية، تشبه الخياشيم الشجرية الموجودة لدى صغار أسماك الشفنين وأسماك القرش.

إلا أن وجهه الذي يشبه وجه الإنسان لم يكن هو الشيء الأكثر غرابة في هذا المخلوق؛ فقد كانت له قدمان، وكان جسمه شبه الكروي يرتكز على ثلاث قوائم مكوَّنة من قدمين تشبهان قدمَي الضفدع، وذيل سميك طويل، وكان طرفاه الأماميان اللذان يشبهان يدَي الضفدع في محاكاتهما الغريبة لليدين البشريتين، تحمل كلٌّ منهما قائمةً عظميةً طويلةً مغطًّى طرفُها بالنُّحاس. وكان لون هذا المخلوق متنوعًا؛ فالرأس واليدان والرجلان كانت باللون الأرجواني؛ أما الجلد الذي كان يتدلى منه في ترهل مثل الملابس، فكان رَماديًّا فسفوريًّا. ووقف ذلك المخلوق هناك وقد أعماه الضوء.

وفي النهاية فتحَ مخلوقُ الأعماق السحيقة الغريبُ هذا عينيه، وظللهما بيده الطليقة، وفتح فمه، وأصدر صيحة عالية واضحة تشبه الكلام البشري، وقد اخترقت هذه الضوضاء الهيكل الفولاذي والغطاء المبطِّن للكرة. ولا يزعم إليستيد أن لديه تفسيرًا لإمكانية صياح المخلوق دون امتلاكه رئتَين. ثم تحرَّك المخلوق إلى الجانب بعيدًا عن الوهج ليدخل في الظل الغامض الذي اكتنفه عن كلا الجانبَين، وشعر إليستيد دون أن يرى أن المخلوق كان قادمًا نحوه. ولأنه تخيَّل أن المخلوق ينجذب إلى الضوء، أغلق الْمِفتاح الذي يغلق التيار الكهربائي. وفي لحظة أخرى ضرب شيء طري الفولاذَ، وتأرجحت الكرة.

ثم تكررت الصيحة، وبدا له أن صدًى بعيدًا يجيبها. ثم تكررت الضربة، وتأرجحت الكرة بأكملها، وضغطت على البكرة الملفوفِ عليها السلك. ووقف في الظلام، ونظر للخارج إلى ليل الأعماق السحيقة السرمدي، ورأى على الفور أشكالًا أخرى باهتةً وبعيدة جدًّا شبه بشرية فسفورية تسرع نحوه.

ودون أن يدري ماذا يفعل، تحسَّس سِجْنه المتأرجح ليصل لزر الضوء الكهربائي الخارجي، ووجد مصادفةً مصباحه المتوهج الصغير في التجويف المبطن. وتأرجحت الكرة ثم طرحته أرضًا، وسمع صيحات تشبه صيحات الدهشة، وعندما نهض واقفًا رأى زوجَين من العيون يحدِّقان في النافذة السفلية وتعكسان ضوءَه.

وفي لحظة أخرى ضربت أيدٍ بقوةٍ الهيكلَ الفولاذيَّ لكرتِه، وعلا صوتٌ فظيع جدًّا في مكانه، وكان هذا صوت الطرق العنيف للغطاء المعدِني الذي يحمي التروس. وفي واقع الأمر ألقى هذا في قلبه الرعب؛ لأنه إذا نجحت تلك المخلوقات الغريبة في إيقاف التروس، فلن يتمكَّن مطلقًا من الخروج من الكرة. ولم يكد يسترسل في التفكير حتى شعر بأن الكرة تتأرجح بعنف، وأن أرضيتها تضغط بقوة على قدميه؛ فأطفأ الضوء المتوهج الصغير الذي يضيء داخل الكرة، وحوَّل شعاع الضوء الكبير الموجود في القمرة المنفصلة إلى الماء في الخارج؛ فوجد أن قاع المحيط والمخلوقات شبه البشرية قد اختفيا، وسقطت فجأة سمكتان كانت تلاحق إحداهما الأخرى بجوار النافذة.

اعتقدَ على الفور أن هذه المخلوقات الغريبة التي تسكن قاعَ المحيط قد قطعت الحبل، وأنه قد أفلت؛ فاندفع لأعلى أسرع فأسرع، ثم توقَّف بحركة سريعة جعلته يطير صوبَ سقف سجنه المبطَّن. ولما يقرب من نصف دقيقة، عقدت الدهشةُ عقلَه عن التفكير.

ثم شعر أن الكرة تدور ببطء وتتأرجح، وبدا له أيضًا أن الماء يسحبها؛ فجثم بالقرب من النافذة، ونجح في استغلال وزنه وتدوير ذلك الجزء من الكرة لأسفل، لكنه لم يرَ شيئًا إلا شعاع ضوئه الباهت المُسلط لأسفل في الظلام بلا فائدة. وخطر له أنه قد يرى المزيد إذا أطفأ الضوء، وجعل عينيه تعتادان العتمةَ الشديدةَ.

لقد أصاب في ذلك؛ فبعد عدة دقائق أصبحت تلك الظلمة المُخْمَلية سوادًا شبه شفاف، ثم رأى عن بُعد أشكالًا تتحرك لأسفل، باهتةً مثل الضوء البروجي في مساء الصيف البريطاني. واعتقد أن هذه المخلوقات قطعت الحبل، وكانت تجُرُّه عبْر قاع المحيط.

ثم أبصر شيئًا باهتًا وبعيدًا عبْر تموجات قاع المحيط؛ حيث رأى أُفُقًا واسعًا من الإضاءة الباهتة الممتدة هنا وهناك على مدى النطاق الذي استطاع رؤيته من نافذته الصغيرة. وكانت تلك المخلوقات تجُره إلى هناك مثلما يجُر الرجالُ المُنطادَ من أرضٍ مكشوفةٍ إلى بلدة. واقترب من البريق رويدًا رويدًا، وببطء شديد تجمَّع ذلك الإشعاع الباهت مكوِّنًا أشكالًا أكثر تحديدًا.

كانت الساعة الخامسة تقريبًا قبل أن يصل إلى هذه المنطقة المنيرة، وعند ذلك الوقت استطاع تمييز ترتيبات تشبه الشوارع والمساكن المتجمعة حول بناء هائل بلا سقف، يشبه على نحو عجيبٍ دَيرًا مدمرًا. لقد كانت ممتدة أسفله مثل الخريطة. كانت كل المنازل حوائطَ بلا أسقف، أما المادة المصنوعة منها التي رأى فيما بعد أنها عظام ذات وميض فسفوري، فقد جعلت المكان يبدو وكأنما بُني من ضوء القمر الغارق في الماء.

وبين التجويفات الداخلية لهذا المكان مدَّت مجموعاتُ زنابقِ البحرِ الملوِّحةُ كأنها أشجارٌ لوامسَها، وبرزت الإسفنجيات الطويلة الرفيعة الشفافة مثل المنارات اللامعة والزنابق المنبعث منها ضوء رقيق مقارنةً بالتوهج العام للمدينة. وفي المساحات المفتوحة في هذا المكان، تمكَّن من رؤية حركة مضطربة كما لو كانت لحشود من الناس، لكنه كان يعلوها بقامات عديدة جعلته غيرَ قادرٍ على تمييز الأفراد في هذه الحشود.

ثم سحبوه لأسفل ببطء، وفي هذه الأثناء بدأ يستوعب تفاصيل المكان ببطء؛ فوجد المباني الضبابية صفوفًا من الأشكال الدائرية الشبيهة بالخرز، ثم أدرك أنه في عدة أماكن بالأسفل في المساحات المفتوحة الواسعة توجد أشكالٌ تشبه هيئة السفن المغطاة بالقشريات.

لقد كان يسُحب للأسفل ببطء وثبات، وأصبحت الأجسام الموجودة أسفله أكثر بريقًا ووضوحًا وتحديدًا. وأدرك أنه يُجر للأسفل نحو المبنى الكبير الموجود في وسط البلدة، وبين الحين والآخر استطاع أن يلمح الأجسامَ العديدةَ التي كانت تجُر الحبل. واندهش عندما رأى أن حبال إحدى السفن التي كانت سِمةً بارزةً في هذا المكان، تتجمع حولها مجموعةٌ متنوعةٌ من الكائنات التي أخذت تنظر إليه وتُلوح له، ثم ارتفعت جدران المبنى الكبير واقفةً أمامه في صمت، وحجبت المدينةَ عن عينيه.

وكانت تلك الجدران مصنوعةً من خشب مشبع بالماء وحبل من السلك الملفوف وقضبان حديدية ونُحاس وعظام وجماجم موتى. كانت الجماجم مرصوصةً في خطوط متعرجة ولولبية ومنحنيات رائعة على امتداد المبنى؛ وكانت أعداد ضخمة من الأسماك الصغيرة الفضية اللون تتسلل وتلعب داخل محاجر عيون الجماجم وخارجها، وعلى سطح المكان كله.

وفجأة ملأ أذنيه صياحٌ خفيضٌ وضوضاءُ تشبه نفخَ البوقِ بعنف، ثم حَلَّ محلَّ ذلك غناءٌ جميلٌ. وهبطت الكرة لأسفل أمام النوافذ الضخمة المدببة التي رأى منها على نحو غامض عددًا هائلًا من الأشخاص الغريبة التي تشبه الأشباحَ ينظر إليها، وفي النهاية استقر، كما يبدو، على شيء يشبه المذبح كان منصوبًا في وسط المكان.

والآن أصبح في مستوًى أتاح له رؤية أناسِ الأعماق السحيقة الغرباء هؤلاء بوضوح مرة أخرى. وأدهشه أنه أدرك أنهم ساجدون أمامه، ما عدا شخصًا واحدًا يرتدي على ما يبدو مِعطفًا من الحراشف الصفائحية، وقد تُوِّج بتاج لامع، ووقف يفتح ويغلق فمه الذي يشبه فم الزواحف، وبدا كأنه يقود غناء هؤلاء المتعبدين.

ودفع إليستيد حدسٌ غريبٌ جعله يوقد ضوءَه المتوهِّجَ الصغيرَ مرةً أخرى كي يصبحَ مرئيًّا لمخلوقات الأعماق السحيقة، إلا أن الوهج جعلهم يختفون على الفور في الظلام. وعند رؤيته على الفور تحوَّل الغناء إلى جلبة من الصياح الفرِح، فأطفأ إليستيد الضوء مرة أخرى لأنه كان متلهفًا لرؤيتهم، واختفى من أمام عيونهم. وظل لفترة غير قادر على تمييز ما كانوا يفعلونه، وعندما استطاع أخيرًا تمييزهم، وجدهم ساجدين مرة أخرى. واستمروا في عبادته على هذا النحو دون راحة أو فاصل مدة ثلاث ساعات.

كانت التفاصيل الشديدة أهمَّ ما يميز وصف إليستيد لهذه المدينة المدهشة وسكانها، سكان الليل السرمدي الذين لم يرَوْا قَطُّ شمسًا أو قمرًا أو نجومًا أو نباتاتٍ خضراءَ أو أيَّ مخلوقاتٍ حيةٍ تتنفس الهواء، تلك المخلوقات التي لا تعرف شيئًا عن النار ولا عن الضوء، باستثناء الضوء الفسفوري المنبعث من الأشياء الحية.

وعلى الرغم من غرابة قصة إليستيد، فإن الأمر الأكثر غرابة هو أن علماءَ بارزِين أمثال آدمز وجينكنز لا يجدون فيها شيئًا غير قابل للتصديق. لقد أخبراني بأنهما لا يريان سببًا يمنع المخلوقات الفقاريةَ الذكيةَ، التي تتنفس الأكسجينَ الذائبَ في الماء، والمعتادةَ الحرارةَ المنخفضةَ والضغطَ الهائلَ، والتي تتسم بالهيكل الثقيل الذي لا يسمح لها بالطفو حيةً أو ميتةً، من العيش في قاع المحيط دون أن نشعر بوجودها مطلقًا، نحن حَفدةُ وحوشِ عصرِ الحجرِ الرمليِّ الأحمرِ الجديدِ العظماءُ.

ورغم ذلك، لا بدَّ أنهم يعرفوننا مخلوقاتٍ جويةً غريبةً معتادةً أن تسقط ميتةً على نحوٍ كارثي من سواد سمائهم المائية الذي يكتنفه الغموض. ولا تقتصر معرفتهم علينا فحسب، بل لا بدَّ أنهم يعرفون سفننا ومعادننا وأجهزتنا التي تنهمر عليهم من الظلمة؛ ففي بعض الأحيان من الممكن أن تسقط الأشياء وتسحقهم كما لو كانت قضاءَ قوةٍ عُليا غير مرئية، وأحيانًا من الممكن أن تسقط أشياءُ غايةً في الندرة أو الفائدة، أو أشكالٌ تكون مصدرَ إلهامٍ لهم. وربما يمكننا فهْمُ بعضٍ من سلوك تلك المخلوقات عند هبوط إنسان حي عندها، لو فكرنا فيما قد تفعله قبيلةٌ بربريةٌ تجاه مخلوقٍ برَّاقٍ محاطٍ بهالة هبطَ فجأةً عليها من السماء.

ربما أخبر إليستيد ضباطَ سفينةِ تارميجن بكل تفاصيل هذه الساعات الاثنتي عشرة الغريبة التي قضاها في الأعماق السحيقة. ومن المؤكد أنه كان ينوي كتابة تلك التفاصيل، لكنه لم يفعل ذلك مطلقًا، وللأسف علينا أن نجمع شتات قصاصات حكايته المتضاربة من ذكريات المقدم سيمنز، ووايبريدج، وستيفنز، وليندلي، والآخرين.

سنحاول تجميعَ بقية القصة في لمحات متفرقة؛ فهناك المبنى الضخم المريع، والأشخاص الساجدون المنشِدون الذين تشبه رءوسهم الداكنة رأسَ الحرباء، والذين كانت ملابسهم يشِعُّ منها ضوءٌ خافتٌ، وها هو إليستيد قد أوقد ضوءه مرةً أخرى في محاولة بائسة لإفهامهم أن الحبل الذي يُمسك الكرة يجب أن يُقطع. وانسلت الدقائق واحدة تلو الأخرى، وأخذ إليستيد ينظر في ساعته، وأصابه الذعر عندما علم أن الأكسجين سينفد بعد أربع ساعات أخرى. إلا أن الإنشاد المقام على شرفه استمرَّ بلا هوادة، كما لو كان موسيقى عسكرية جنائزية لموته الوشيك.

لم يفهم إليستيد الطريقة التي تحرَّر بها، إلا أنه بالحكم على الأمر من طرف الحبل الذي تدلت منه الكرة، يمكن الجزمُ بأنه انقطع بسبب الاحتكاك بحافَةِ المذبح؛ فالكرة لفَّت فجأةً، واندفع لأعلى بعيدًا عن عالَمهم مثلما سيخرج مخلوقٌ روحاني متشِحٌ بالفراغ من غِلافنا الجوي عائدًا إلى عالَمه الروحاني الأصلي. لا بدَّ أنه انطلق مختفيًا بسرعة عن عيونهم مثلما ترتفع في الهواء فقاعةُ الهيدروجين في عَجَل. لا بدَّ أنهم وجدوه صعودًا غريبًا.

واندفعت الكرة لأعلى بسرعة أكبر من سرعة اندفاعها لأسفل عندما كانت مثبتة بالأثقال الرصاص. وازدادت درجة حرارتها بشدة. وارتفعت الكرة وكانت نافذتاها لأعلى، وتذكَّر وابلَ الفقاعات الذي غطَّى الزجاج. وفي كل لحظة، كان ينتظر أن يختفي هذا الوابل. ثم شعر فجأةً بشيء مثل العجلة الكبيرة ينطلق في رأسه، وبدأت القمرة المبطَّنة تدور من حوله وسقط مغشيًّا عليه. وعندما استفاق، وجد نفسه في قمرته على السفينة والطبيب يتحدث معه.

إلا أن هذا كان جوهر القصة الغريبة التي رواها إليستيد على نحو متقطع لضباط سفينة تارميجن. ووعد أن يكتبها كلَّها في وقت لاحق. وكان عقلُه مشغولًا في الأساس بتحسين كرته، وهذا ما نفَّذه في ريو.

ويبقى أن نذكر أنه في الثاني من فبراير عام ١٨٩٦ هبط إليستيد للمرة الثانية في أعماق المحيط السحيقة، بعد إجراء التحسينات التي استوحاها من تجرِبته الأولى. وعلى الأرجح لن نعرف مطلقًا ما الذي حدث؛ حيث إنه لم يَعُد. وبحثت سفينة تارميجن بحثًا حثيثًا في المنطقة التي غطس فيها مدة ثلاثة عشر يومًا ولكن دون جدوى. ثم عادت إلى ريو، وأرسلت الأخبار إلى أصدقائه في برقية. وما زال هذا هو الوضع حتى وقتنا الراهن. إلا أنه من غير المحتمل ألا تحدث محاولاتٌ كشفيةٌ أخرى للتأكد من صحة قصته الغريبة حول مدن قاع المحيط غير المعروفة لنا حتى الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤